في كتاب عن التتار... عبدالناصر مسؤول عن تقاعس بني أمية ويسأل عن كل أخطاء التاريخ!
«جمال عبدالناصر حين كشرت انكلترا عن انيابها راح يعتلي منبر الجامع الازهر زاعقا بأعلى صوته: الله اكبر.. الله اكبر..!! وحين وضعت الحرب اوزارها عادت الاحوال كما كانت لم يعد للدين موضع قدم في قصر السلطان!!».
«وها هو التاريخ مرة اخرى يتكرر كأنه صورة كربونية، فحين انتظر عبدالناصر الضربة الاولى من اسرائيل تمكنت منه واحتلت سيناء واجهضت قواته وبسطت نفوذها حتى قناة السويس، وحين قرر السادات مباغتة اسرائيل وتلقينها درسا لا ينسى دون ان ينتظر ضربتها ارغم اليهود على الانسحاب قهرا من سيناء وابرم معاهدة سلام انصاعت لها اسرائيل رغم انفها».
المؤلف «هشام محمد»، ومعه الناشر «دار مشارق»، يستبقان الاحداث، ويخلطان الاوراق خلطا متعسفا يؤدي بهما الى نتائج ابسط ما يمكن ان توصف به انها نتائج مختلة وغير منطقية بالمرة، والفقرتان الاوليان اخذتا بالنص ودون اضافة او حذف او بتر او اخلال بسياق، فقد اوردهما مؤلف كتاب «دولة التتار.. الشروق والغروب» في الفصل الذي اعطاه عنوان «حلب المحتلة»، وفيه يتحدث عن الموقف المتخاذل الذي اتخذه امير حلب الناصر يوسف - حفيد صلاح الدين - كما يتحدث عن جبنه وكراهيته للحرب «لكن الامير يوسف الذي اشتهر بكراهيته للحرب وجبنه الشديد راح يعلن الجهاد وعزمه لمحاربة التتار»، ومن هذا ومن دون مناسبة - في ما نرى - يعرج ناحية عبدالناصر، ويسوق الفقرة الاولى - ص 182 - وفي فصل بعنوان «معركة عين جالوت» ص 191، بعد مقدمة قصيرة يخلص بنتيجة «اذاً لم يكن قطز من هؤلاء الذين يؤمنون بحتمية تلقي الضربة الاولى»، ومباشرة يورد الفقرة الثانية من مقالنا.
هلا شققت عن قلبه..
ونحن بدورنا نقول ان المؤلف والناشر - متضامنان - يقدمان جهداً مكرساً لاشياء كثيرة غير محاولة البحث عن حقيقة من خلال رصد وتحليل دقيقين لما تقدمه صفحات التاريخ من حوادث، هذا الجهد وتلك النتائج التي توصل الباحث - المؤلف - اليها فيها الكثير من التسرع الذي ادى الى افساد الغرض من الكتابة حول حوادث التاريخ وخصوصاً العظمى منها، ونظن ان التتار كانوا من العقبات الصعبة التي واجهت مسيرة الدولة الاسلامية في المنطقة العربية وفي العالم بوجه عام، لذلك فإن التسرع او لنقل الجلوس للكتابة وقد وضعت نصب عينيك لي ذراع الحوادث لتدين شخصا او جهة، فانك واقع لا محالة في اخطاء كثيرة سيغيبها عن عينيك غرضك الضيق، فانت لست محتاجاً للتار لكي تتوارى خلف تاريخ دولتهم من الشروق حتى الغروب لتقول ان فلانا اخطأ، او ان عبدالناصر تحديداً كان - في ما ترى - ليس اكثر من جعجاع يتكلم كثيرا دون ان يكون عازما على تنفيذ ما يقول، او انه يذهب الى الله رياء، واليك نسوق ما حدث من الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، عند علمه بقتل اسامة بن زيد لرجل نطق الشهادة، ودفاع اسامة بان الرجل نطق باللسان ليفتدي نفسه من الموت، واحالة الرسول لاسامة الى الشهادة يوم الحشر «ماذا تفعل بلا اله الا الله حين تحاجك امام الله يوم القيامة»، نقول لك - وعفوا للاخذ عن الرسول - هلا شققت عن قلبه..
تبييت النية، وشحذ الهمة للهجوم على عبدالناصر، توقع في التسرع الذي يوقع بدوره في ما يمكن ان يسمى «كروتة» كما يقول العامة فنلحظ من الباحث الاخذالمباشر من المرجع دون ان يتكلف ـ في احيان كثيرة ـ مراجعة ما اخذ حتى ان عبارته تأتي على المنوال نفسه للغة المستخدمة في المرجع الذي في يده ولنأخذ «وكان السلطان محمد عاهل دولة خوارزم او البادي شاه ابن السلطان الراحل طقش والسلطانة طرخان خاتون يدير شؤون مملكته الواسعة الفخمة من خلال احد القصور التاريخية والمنيفة في العاصمة اورجندة ـ احدى مدن تركمانستان ـ وبالتحديد في قاعة السجادة، وهي حجرة كبيرة. «موضوع طويل عريض، لا هدف له سوى اضافة اسطر تزيد من حجم البحث ولا يؤثر حذفها في سياق الامر، وهي مأخوذة عن كتاب لمؤلف صيني حول جنكيز خان سفاح الشعوب، وفي موضع آخر «حلب المحتلة» نرى المؤلف يأخذ من مرجعه دون ان يعمل قلمه ليتلافى الوقوع في الركاكة واسر السجع، يقول بعد هزيمة امير حلب «هكذا دارت الدوائر على الامير يوسف الذي باع نفسه وولده وجيشه بابخس الاثمان نظير ارضاء قائد جيش الخاقان، ولا يتعظ بسيرة جده العظيم الذي لا يزال امل الامة المفقود وحلمها الموعود وبطلها المنشود..»، حتى يصل الى نص خطاب هولاكو الذي صاغه «احد رجال هولاكو من العرب الخائنين» ـ قول المؤلف.
جمال الدين آقوش.. لا ينسى
والى جانب هذا نراه وقد استلب احد قواد قطز حقه في ذكر مأثرته، ربما لانتسابه الى آل ايوب، فالرجل «جمال الدين آقوش» كان احد مماليك الناصر يوسف صاحب حلب ودمشق، وخرج عليه لما لمسه من تقاعس وميل الى التسليم من اجل النجاة بنفسه، وذهب آقوش فانضم لجيش قطز، وهو من انجز قتل «كتبغا» الامر الذي فت في عضد جيش التتار فكسره، مما دفع جنوده الى الفرار، وجند قطز يتعقبونهم حتى تم القضاء عليهم في مدينة «بيسان».
لو اننا قلنا ان فلانا يأخذ من كل بستان زهرة، لكان قولنا قريب من تشخيص حالة الباحث في كتابه، وكان القرب الى حد معقول، فنراه يلبس لباس المحلل والناقد فيهاجم عبدالناصر، ونقول ربما يكون واحدا ممن اصابهم الضرر بسبب عبدالناصر في مرحلة ما، ربما ينتمي الى جماعة الاخوان، لكنه يفاجئنا بهجوم على صدام حسين، ثم يفاجئنا بتعاطف مع صدام حسين، يقول حول موقف صدام عن غزوه واحتلاله للكويت صـ149 «.. بيد انه اصر على عناده وتحجره وصلابته فجرى ما جرى..»، وفي صفحة 166 «تعرضت بغداد لحريق هائل ومذابح ومجازر بشرية راح ضحيتها نحو مليون شهيد امام صدام حسين رحمه الله، فقد انتهى هو ايضا نهاية مأساوية بشعة لا تليق به»، ويعود في نفس الصفحة ذات السياق ليتشفى فيه «اما مأساة صدام حسين التي كانت نموذجا مكررا من مأساة المستعصم بالله، فقد تمثلت في تشتيت الاسرة الصدامية، حيث لاذت زوجته وبناته بالفرار الى حيث لا يدري ولا يعرف الى اين وبصحبة من؟ واما ولداه عدي وقصي فقد لقيا حتفهما قبل ان يلقى صدام حسين حتفه مشنوقا مرفوسا ركلا باقدام الحمير الوحشيين»، قد يفهم البعض ان المؤلف يسوق ما تقدم ليقول ان صدام حسين قد لقي جزاءه الذي يستحقه، وقد يقول البعض الآخر انه ـ المؤلف ـ انما يسب الاميركان ويصفهم بالحمر الوحشية، لكن ايراد التفاصيل الخاصة بالزوجة والولد يصعب الامر على القارئ فيميل ناحية قصد التشفي وليس اقرار وحشية غازي.
وعلى هذا المنوال يوافقنا المؤلف امام اكثر من مأزق بخصوص المادة التاريخية التي يسوقها الينا عبر حكايات طويلة مليئة بتفاصيل مملة لا لزوم للكثير منها، ولا تخدم سوى الاستطراد الذي يفتقر الى لغة تسند ما اعوج منه.
واللغة تجرنا مباشرة الى التدقيق، الذي يضعنا امام حالة من غياب المراجعة، فمنذ الصفحة الاولى، التي تقع فيها مقدمة المؤلف ـ ص3 ـ نرصد اربعة اخطاء جمع (التزبب بدلا من التعذيب، تطل بدلا من تطيل، غرفتهم بدلا من غرتهم، كبنت بدلا عن كنبت)، وخطأ خامس (فساد وافساد) بدلا من،فسادا وافسادا، حيث ان حديثه يبدأ «ان التتار هؤلاء الهمج عاثوا في الارض فسادا وافسادا»، اي انها تتميز.
وفي صفحات 7، 8، 9 يأتي رسم الاسم الاول لجنكيز خان «تيموشين» على اربعة اشكال، فرسمه الجمع مرتين يتومشين، ومرة واحدة يموشين، وواحدة اخرى يتمرشين، واخيرا يجمع لثلاث مرات تيموشين، والاخطاء في الرسم كثيرة يكاد معدلها يصل الى ثلاثة في الصفحة الواحدة.
ابن السماء.. قاهر العالم
«تيموشين» اذا هو الاسم الذي أطلقه المقاتل التتاري بسوكاى علي مولده الذي بدأ حياته كمقاتل وهو صغير، مما عرضه للأسر علي يد مقاتلي قبيلة أخرى، لم يكتفوا بالأسر بل باعوه عبداً نكاية في والده أمير القبيلة، وفي الاسر عمل الصبي المحارب المفتول العضلات في الحدادة، الأمر الذي ساعده، فقد كان محتاجا للمزيد من القوة العضلية كي تنجح خطته للهرب من الأسر، تلك الخطة التي أثمرت ونجح فعلا في التخلص من العبودية ونفض ذل الأسر.
عاد تيموشين ليعمل على لم شمل القبائل وتجييش قوة ضاربة، واصبح زعيما فرض زعامته بقوة ارادته وتفكيره الذي نحا نحو التخطيط العلمي، آخذاً في اعتباره كل الأساليب المطروقة والحديثة وقتها، وبعد ذلك توجه إلى صياغة عقيدة تدين بها جماعات المغول والتتار، وقبلها اتخذ لنفسه لقباً جديداً هو جنكيز خان، وهو الاسم الذي تعرف العالم به على الرجل، وحفظه له التاريخ، والاسم يعني عند المغول (قاهر العالم)، وعند الصينيين «ابن السماء»، ومعروف ان اتخاذ أسماء على هذه الشاكلة شائع في ثقافات هذه المنطقة، وهو نوع المكافأة السامية التي تمنح لمن قدم عملاً بطوليا، أو تلصق بالمدعين لإضفاء المهابة وفرض الاحترام وإحكام السيطرة، وفيه الكثير من التفاخر ، فعندما تبدأ المعارك- بين الأشخاص أو الجماعات- تتم المناداة بالأسماء والرد عليها بتعقيبات تقلل من شأنها وتحقيرها، وهو ما يمكن أن يكون «جر الشكل» كما يقول العامة.
التتار يغيرون على خريطة العالم
النظر في حكاية التتار- المغول- مع العالم يحتاج إلى شمول في الرواية حتى يمكن الإلمام بتفاصيل الصورة لأنها شديدة التعقيد، حيث إن سطحية التناول ستخرج الأمر من سياقه، ليعطي مردوداً مشوهاً، وهو ما يحول الأمر إلى مجرد عبث لا طائل من ورائه، فالذي حدث أن التتار ظهروا كقوة، أوائل القرن السابع الهجري، وكانت القوى المرصودة في ذلك الوقت البعيد تتمثل في قوتين عظميين أساسيتين متحاربتين، أو دائمتا الاشتباك، هما: الدولة الإسلامية، وتجمع القوى المسيحية الغربية.
كانت الدولة الإسلامية، أو لنقل الدول الإسلامية، تحتل مساحة كبيرة من الدنيا والاستدراك يحيلها إلى حالة الفرقة التي عانى منها مسلمو هذه الفترة، ففي مصر والشام وأرض الجزيرة العربية نرى بني أيوب، وفي المغرب والأندلس ووسط أفريقيا نرى أمراء وملوك الموحدين، أما منطقة آسيا حتى الصين وأجزاء من إيران، يسيطر الخوارزميون، بينما اكتفى الغوريون بالهند وإن اشتبكوا في حرب مع خوارزم، وبقيت الأجزاء الغربية من إيران في قبضة الاسماعيليين، واستقر حكم الاناضول في يد السلاجقة الروم.
وفي الجانب الآخر من الصورة، تحديداً في غرب أوروبا كان التجمع الصليبي الأول الذي يضم: انجلترا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وهؤلاء هم من قادوا الحملات المتتالية على المنطقة العربية باسم الصليب، أما تجمع الجنوب الغربي الذي شمل: أسبانيا، البرتغال، فرنسا، فقد ركزوا جهودهم على حرب الدولة الإسلامية- أو بقاياها- في الأندلس.
وفي هذه الفترة تعاظم دور المماليك حيث أصبح اعتماد الحكام المسلمين عليهم هو الأساس، الأمر الذي مكن لهم حتى أنشأوا دولتهم التي اسهمت أكبر إسهام في المعركة ضد التتار، حيث انتصر جيش قطز عليهم في عين جالوت في رمضان عام 658 هجرية الموافق صيف 1260، وتأتي نهايتهم بعد هذا التاريخ بقرابة قرن ونصف القرن من الزمان على يد سلطان مملوكي آخر.
الكتاب «دولة التتار.. الشروق والغروب» مكرس تقريبا للحرب بين التتار والخوارزميين، فبعد المقدمة، التي لا تتجاوز صفحتين، ثم تأسيس الدولة والنظر في خريطة العالم، يدخل بنا المؤلف إلى تاريخ حروب التتار ودولة خوارزم، وأخيرا، وفي أقل من تسع صفحات يلخص لنا معركتهم ضد قطز، وهذا هو مصدر الدهشة، فالمفترض أن قطز بدولته وجيشه ومماليكه أهم المظاهر الدالة على غروب دولة التتار، وانحسار هجمتهم البربرية التي روعت العالم بأسره، مشرقه ومغربه على السواء، لكن هذا ما رآه المؤلف.
محمد الزرقاني
الكتاب: دولة التتار - الشروق والغروب.
تأليف: هشام محمد.
الناشر: دار مشارق.
قطع متوسط 204 صفحات.
عبقري الإسلام.. لم يكن اشتراكياً! هل وأد عمر بن الخطاب ابنته؟! كتب منى الشافعي :
لا تخلو الكتابة عن س.يَر الصحابة والسلف الصالح (رضي الله عنهم) من صعوبة، فهي تحتاج إلى منهجية علمية واضحة تلتزم الدقة والحيادية، والبحث المتواصل والاطلاع المستمر والتأنّي، والأهم يجب أن تتميز بالصدق والموضوعية والبعد عن العواطف والأهواء. أطل علينا د. أحمد الرفاعي بإصداره الخامس في موضوع سيرة عظماء المسلمين الذي يحمل عنوان «سفير قريش وعبقري الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من إسلامه إلى استشهاده».
ربما يتساءل القارئ: ما الذي دفع د. أحمد الرفاعي إلى الاهتمام والتعلق بكتابة سير الصحابة وآل البيت (رضي الله عنهم).. وهو الحاصل على شهادات علمية متخصصة بعلوم الإدارة؟.. ليعرف القارئ أن د. الرفاعي نشأ في بيئة إسلامية وأسرة مؤمنة محبة للخير والصلاح وهبت نفسها لخدمة الإسلام والمسلمين، تنحدر من سلالة آل البيت (رضي الله عنهم)، فكان تأثيرها الديني واضحاً ومثمراً في حياة د. أحمد الرفاعي.
في مقدمة الكتاب يخبرنا د. الرفاعي بأنه لم يلتزم الترتيب الزمني في كتابة سيرة الخلفاء الراشدين. وقد تعمد أن تكون سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الأخيرة في سلسلة إصداراته عن الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم جميعا).. وذلك لأن فترة حكم الفاروق عمر (رضي الله عنه) من أطول الفترات وأكثرها أحداثا، وتسترعي الوقوف أمامها والاسترسال في بعض أحداثها.
المحتويات
يحتوي الكتاب على ثمانية فصول تضمنت دراسة وافية كافية ومستفيضة لسيرة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).. تثري الكتابَ آراء د. أحمد الرفاعي وآراء بعض المؤرخين الآخرين الذين استشهد د. أحمد بآرائهم السديدة في بعض الموضوعات المطروحة في الكتاب. يهمني أن يطلع القارئ على نماذج من تلك الآراء الغنية بالعلم والمعرفة.. وبالتالي سأقتطف من أهم ثمراتها.. وسأنتقي بعض الفقرات المعبرة عن الموضوعات ذات العلاقة.
مقتطفات
من ألقابه (رضي الله عنه) لقب سفير قريش، فيقول د. الرفاعي: «.. عرفت قريش فيه كل ما يشرّف القرشي ويجعله في الصدارة من إخوانه، فأحلّته المكانة التي شرفت باعتقاده إياها. فإلى عمر كانت سفارة قريش في الجاهلية... وأكرم بالسفارة مكانة في ذاك المقام، وهو دون الثلاثين من عمره».
ومن ألقابه أيضا لقب «عمر العبقري»، فيقول د. الرفاعي: «الألقاب التي تشرف بها أمير المؤمنين عمر (رضي الله عنه) لقب العبقري، وهو ما كنّاه به الحبيب المصطفى محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: «أرى ابن أبي قحافة ينزع ذَّنوبا أو ذَّنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم نزع ابن الخطاب فلم أرَ عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بطعني»، ويضيف د.الرفاعي «بهذا الحديث الشريف اود ان ابدي ما قيل عن عبقرية امير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).. انها عبقرية لا مثيل لها على مدى تاريخ البشرية اجمع..».
اما رأي الاستاذ عباس محمود العقاد، رحمه الله تعالى، فيقول تأكيدا لرأي د.الرفاعي عن عبقرية عمر الفريدة من نوعها: «كان طويلا بائن الطول يُرى ماشيا كأنه راكب، جسيما صلبا يصرع الاقوياء ويروض الفرس بغير ر.كاب، ويتكلم فيسمع السمع منه وفاق ما رأى من نفاذ قول وفصل خطاب».
كما استشهد د.الرفاعي بآراء اخرى حول شخصية عمر (رضي الله عنه)، منها رأي الاستاد حسن العلوي وغيره.
هل وأد عمر ابنته؟
من احدى التهم التي حاول اعداء المسلمين تلفيقها لامير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) انه قد وأد احدى بناته في الجاهلية، ولقد جمع لنا د.الرفاعي عدة آراء لاساتذة مفكرين ومؤرخين عرب تشكك في صحة هذه التهمة المنسوبة الى سيدنا عمر (رضي الله عنه).
والرواية المنسوبة تقول «ان عمر اخذ ابنته التي اراد وأدها، فحفر لها حفرة فصارت تنفض التراب عن لحيته فدفنها حية».
من رأي الاستاذ العقاد نقتطف: «فالوأد لم يكن بالعادة الشائعة بين جميع القبائل العربية، ولم يشتهر بني عدي خاصة بهذه العادة، ولا اشتهرت بها اسرة الخطاب التي عاشت منها فيما نعلم فاطمة اخت عمر وحفصة اكبر اولاده، وهي التي كني ابا حفص باسمها، وقد ولدت حفصة قبل البعثة بخمس سنوات فلم يئدها، فلماذا وأد الصغرى المزعومة وهي في السن التي تفهم فيها كيف تنفض التراب عن لحية ابيها؟ لماذا انقطعت اخبار هذه الصغرى المزعومة فلم يذكرها احد من اخوانها واخواتها ولا احد من عمومتها وخؤولتها؟».
اما رأي الاستاد حسن العلوي حول هذه التهمة فيقول: «لعلها فرية كبرى اراد بها اتباعه ومحبوه ان يبرهنوا على ما احدثه فيه الاسلام من انعطاف وما كان هو عليه في جاهليته من جهل وقسوة، تكون ذروتهما ان يدفن الاب ابنته حية، وكأنها ظاهرة يومية وعرف لاتحيد عنه»..ويضيف أ.العلوي : «ولماذا لم يئد ابنته حفصة التي ولدت قبل البعثة النبوية، وهل عرف عن بني عدي انهم يئدون بناتهم؟ ام ان المعروف والسائد في الروايات ان زعماءهم كانوا على سنة عمرو بن نفيل؟».
اما رأي الشيخ عبدالرحمن السحيم حول هذه التهمة فهو قوله: «لم يثبت هذا عن عمر (رضي الله عنه)، والاصل انه لا يثبت مثل ذلك الا باسناد ثابت، وليس لدينا اسناد ثابت بان عمر (رضي الله عنه) فعل ذلك فعلاً!..».
اما رأي د.الرفاعي في ذلك يقول: «قبل البدء في شرح وتحليل هذا الطعن على ابنته، وجب علينا ن نذكر بعض الحقائق التي لا يمكننا اغفالها، ومنها: لم نجد تلك الرواية في اي من كتب التاريخ والسير سواء في كتب اهل السنة او كتب اهل الشيعة، ولم يؤكد تلك الرواية احد، حتى ان العقاد، رحمه الله تعالى، ذكرها وهو مشكك في صحتها»، ويضيف د.الرفاعي: «من المعروف ان قبيلة قريش، وهي القبيلة المهيمنة على الحرم المكي تتكون من فروع كثيرة، من اهمها بنو هاشم وبنو امية وبنو مخزوم
وبني عدي وبني تيم وغيرهم. وهؤلاء يعيشون عيشة أهل الحضر، فهم ليسوا كالبدو الرحل، ولم نسمع بأن أحدا من قريش كان قد وأد ابنته خوفا عليها من عملية السبي أو الفقر...»، ويضيف: «وهناك ملاحظة مهمة يجب ان لا نغفلها، وهي كثرة القصاصين في ذلك الزمان، والذين كانوا يبالغون في رواية الأخبار، وما أكثر الكذابين منهم حتى أن عمر (رضي الله عنه) ومن بعده الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، كانا يعاقبان أولئك القصاصين، بل إنهما منعاهم من ذلك في عهديهما... وإن صحت تلك الرواية فهي ليست بطعن في عمر (رضي الله عنه) وحده، بل إنها طعن بمعظم أهل مكة المكرمة ومن يعيش في حدودها في ذلك الزمن وفعل ما فعل... وأخيراً فأنا أتفق مع العقاد وغيره من الذين أنكروا هذه الرواية جملة وتفصيلا».
الاشتراكية الإسلامية
يقول د. الرفاعي في الفصل الخامس الذي يتحدث فيه عن انجازات عبقري الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).. حول عمر والاقتصاد: «... ولقد كان الفاروق يعظ الأغنياء بقوله: «إذا أعطيتم فأغنوا».. وقوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين»... وقد اعتقد البعض بأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، كان يحب أن يطبق الاشتراكية المعروفة في يومنا الحالي، من حيث تطبيق مبدأ التأميم وتوزيع الثروات بين الناس ليعدل بينهم، كما يظن أصحاب هذه المدرسة، وقد سماها البعض «الاشتراكية الإسلامية»، ولكن هذا بعيد كل البعد عما كان يريده عمر (رضي الله عنه) ولو كان هذا صحيحا لطبقه بدلا من القول به.
أما رأي د. الرفاعي في هذا الخصوص... فيقول: «من الواضح بأن نية الفاروق وعبقري الإسلام عمر (رضي الله عنه) هي محاولته تعديل سبل المعيشة فقط، وتوفير الضروريات بين الشعب عامة إن أمكن، خصوصا وقد لاحظ ظهور بوادر الغنى الفاحش ما بين الصحابة (رضوان الله عليهم أجمعين)، وباقي المسلمين. ولكن نلاحظ أن عمر (رضي الله عنه) لم يطبقه او يسعى إليه، بل كان يتمنى ذلك من حيث توزيع فضول أو ما زاد عند الأغنياء على الفقراء، خصوصا أن العطاء الذي كان يصل للخليفة من خلال الفتوحات العربية الإسلامية، كان يوزع بتفاوت بين الناس، كل بحسب عطائه للدولة وحاجته.. بالإضافة الى ذلك، فإن أمير المؤمنين عمر (رضي الله عنه) كان يدرك ويعرف معنى الإسلام ومبادئه فمن المستحيل ان يساوي بين الناس بالعطاء، ويناقض والعياذ بالله قول الله تعالى في اكثر من آية في القرآن الكريم ومنها: «وفي السماء رزقكم وما توعدون».
وهناك الكثير من انجازات سيدنا عمر (رضي الله عنه)، واهتماماته في تنظيم حياة المسلمين اجتماعيا واقتصاديا وعلميا ودينيا، تطرق لها د. الرفاعي في كتابه.
رأي
نتمنى أن نكون قد وفقنا بتلك الفلاشات البسيطة والومضات المختصرة عن محتويات هذا الكتاب القيم الغني بمعلوماته والثري بدقة آرائه.. بحيث لا يمكن ان نوفيه حقه بهذه الوريقات القليلة.. لكننا حاولنا أن نبرز بعض الأمور المهمة الواردة بين دفتيه والتي تشكل أهميته وخصوصيته.
يتميز الكتاب بمنهجية علمية وحيادية وموضوعية، تؤكد على نزاهة الكاتب وصدقه في طرح الحقائق التي توصل إليها في بحثه الدؤوب، كما أبدى رأيه حولها بكل أمانة ومصداقية.. وبالتالي توفر للقارئ والباحث والمتابع نتائج علمية وتاريخية صحيحة ومنطقية.. موثقة ومحققة.. وهذا ما يميز جميع كتابات د.أحمد الرفاعي السابقة.
لقد أجاد الكاتب، في البعد الموضوعي لمحتويات الكتاب، كما أجاد في البعد الشكلي للكتاب فجاء متسلسلا بأحداثه التاريخية، واضحا ومنتظما ومفهوما، مزودا بالمراجع والمصادر والهوامش التوضيحية، كما أنه ملحق بخرائط وأشكال توضيحية ملونة تثري الكتاب وتدعمه.
فالكتاب دراسة وافية كافية جدية تتميز بخاصية الشمولية.. وهو جهد طيب ومبارك أثرى المكتبتين العربية والكويتية في هذا الجانب المطلوب تحقيقه وإثباته والاكثار من الكتابة حوله.. ويعتبر مرجعا مهما جديراً بالقراءة والاقتناء، لأنه يستحق الصدارة مع قائمة الكتب الإسلامية.
منى الشافعي
كيف تعيـش حيـاة ذات مغزى؟ طريق الدالاي لاما للسلام بعث الروح والايمان بقدر العقل الجوهري
«كيف تعيش حياة ذات مغزى» هو العنوان الذي حمله كتاب الدالاي لاما الرابع عشر تيزن غياستو، الحاصل علىجائزة نوبل للسلام عام 1989 والمقيم في شمال الهند منذ اجتياح الصين للتبت عام 1954 هذا الكتاب الذي جمعه وحرره الكاتب والباحث الاميركي جيفري هوبكنز وترجمه الى العربية الكاتب والمترجم محمد عبد النبي، صدر مؤخرا عن دار «هفن» للنشر.
والكتاب ليس سوى عدد من المحاضرات التي القاها الدالاي لاما في الولايات المتحدة وسط جمهور غفير من ابناء التيبت والراغبين في التعرف على الثقافة البوذية، وقد حملت المحاضرات مفهوما عاما حول التمرس لاكتساب قلب طيب وعقل طيب، وهو يعد بمثابة خطة عمل نحو الاستنارة عبر التمرن ويذهب فيه الدالاي لاما الى ان مجرد فهم خطة العمل جزء من الطريق، مما يقودنا جميعا باتجاه المقصد الانساني العام وهو السلام.
ويحتوي الكتاب على اثنتي عشرة مقالة حملت عناوين «المبادئ الاساسية، التزام الخلق القويم، كيف تبدأ المشكلات وكيف تنتهي؟ الامتناع عن الاذى، مد يد العون، السعي للاستنارة، ممارسة التأمل وتركيز العقل، ممارسة الحكمة، الطريقة الاوسط، الطبيعة العملية للعقل، اليوغا الربانية او الطريق نحو الاستنارة» وهذه الفصول بمثابة مقومات الديانة البوذية وفيها يقدم الدالاي لاما تدريبا عمليا. ولكي نتعرف على العقل والطبيعة العملية يجب الالتزام بثلاثة تدريبات هي: التعرف على الطبيعة النورانية والمعرفية للعقل، وسبر غور الطبيعة العميقة للعقل مرارا للكشف عن افتقاره للوجود الجوهري، ومحاولة ادراك التناغم والانسجام بين مظهر العقل وخوائه، ويمكننا القول ان هذه المحاضرات في مجملها اقرب الى الفكر التبشيري لجذب العديد من المريدين، لكنها في هذه المرة من رئيس جماعة البوذيين في التيبت، وهو رجل ذو صبغة عامة تدعو الى فكرة السلام الروحي والانساني بالاتكاء على المبادئ البوذية والمنهج الذي اعتادته الجماعة في العمل، لكنه يكشف من جانبه الاجرائي كيفية نشر الدعوة وربطها بالقضايا المعاصرة مستغلا الخواء الروحي الذي يعانيه الانسان الحديث جراء طغيان الميكنة والتكنولوجيا والسعي خلف شظف العيش.
يمكننا القول ان الدالاي لاما الآن بعد تاريخ هجرته او لجوئه الطويل في الهند منذ اجتياح الصين لبلاده، وحصوله على جائزة نوبل للسلام، وتجواله في العديد من اقطار العالم لاستنهاض العقل وبعث الروح الداخلية للبشر الى الحياة، يمكننا القول انه اشهر داعية ديني، واكثرهم قدرة على ربط الخطاب المتوارث لدى جماعته بالانسان المعاصر، وهي دعوة عملية ليست بسيطة بقدر ما انه يقدمها بطريقة بسيطة، مبتعدا عن الدخول في الاسرار العليا والافكار العميقة للديانة، فالكتاب في مجمله مجموعة متسلسلة من الخطوات المحددة نحو الاستنارة والتقدم الروحي وكيفية التغلب على عقبات الحياة اليومية وما يموج بها من غضب وفقدان للامل، لكن كل هذا يجيء في اطار خفيف وسلس لا يخلو من روح الدعابة اللازمة لمخاطبة العامة، كما ان الدالاي لاما يجرد نفسه من ان يدعو لديانة بعينها، بقدر ما يقدم طريقة للتخلص من الضغوط اليومية واحياء الروح بالاعتماد على عدد من التدريبات البدنية والذهنية.
صبحي موسى
الكتاب: كيف تعيش حياة ذات مغزى؟
تأليف: الدالاي لاما
ترجمة: محمد عبد النبي
الناشر؛ هفن للترجمة والنشر والبرمجيات
قطع صغير 186 صفحة
عاملة في متجر تروي تجربتها مع الزبائن
إمتحنوني في مادة الخط.. سألوا عن حسابي.. وأُخضعت لاختبار نفسي متاعب بائعة (1)
تاليف: أنّا سام
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
نتردد بشكل مستمر على الجمعيات التعاونية ومراكز التسوق، ونتعامل بصفة دورية كذلك مع الباعة، ولكن من المؤكد أن لا أحد فينا تنبه إلى معاناة من يقفون وراء الكاشير، سواء مع الزبائن وسلوكياتهم أو مع الوظيفة وما تتطلبه من جهد.
لكم أن تتصوروا ما يمكن أن تواجه البائعة في اليوم الواحد، وما يمكن أن تسمع وما هي مجبرة على فعله وقوله كل مرة، إنها تواجه عالما متشعب الاهتمامات ومتنوع الأفكار، عالما يجمع بين أطيافه الفقير والغني، الطيب والشرير، الإنساني وغير الإنساني.
اسمها أَنّا شابة فرنسية يبلغ عمرها 28 سنة، حاصلة على شهادة جامعية في الأدب الفرنسي، غير أنها بدأت حياتها كبائعة في أحد المتاجر في فرنسا، لم تسمه.
تدعونا أنا من خلال مذكراتها التي تنشرها «القبس» على حلقات، الى التعرف عن كثب على معاناة البائعة وبعض تفاصيل التسوق وما يحصل بين الزبائن وهم ينتظرون دفع ثمن مقتنياتهم، وما يدور بينهم وبين البائعة من أحاديث ممتعة وشائقة وغريبة أيضا تكشفها أنّا، التي يحز في نفسها أن تعاملها بعض الزبونات كفزاعة تُخوّ.فن بها بناتهن، حينما يتوجهن إليهن بقولهن «إن لم تجتهدن في المدرسة، ستصبحن بائعات مثل هذه السيدة، تزنَّ وتغلّ.فن ووووو».
يمكن أن تقولوا إنه لا شيء يحصل في حياة البائعة ويومياتها، ويمكن ألا تصدقوا بأنها تتعرض للكثير من المضايقات والشتائم أحيانا.
أمسكوا عربتكم، سنتابع أنّا إلى غاية الكاشير، فهذه الإنسانة التي نسيتم أن تروها أو تلحظوا تواجدها، رأتكم جيدا ولاحظت تصرفاتكم منذ دخولكم المتجر.
بعضهم يتغزل بالبائعة.. وبعضهم يشتمها
اسمي آنا، أبلغ من العمر 28 سنة، احمل شهادة جامعية في الأدب الفرنسي، تجربتي في الحياة بسيطة لكنها خاصة جدا، لقد عملت ثماني سنوات في متجر، وكان هدفي في البداية تمويل دراساتي لنيل شهادتي الجامعية والاستقلال ماديا عن عائلتي، غير أنني بقيت في المنصب ذاته رغم تخرجي، بسبب عدم تمكني من إيجاد وظيفة تتناسب ومؤهلي العلمي.
أتصور نفسي «روبوتاً» وأنا أمام « الكاشير»، حيث لا اسمع سوى رنة الآلة عندما تقوم بنسخ لصيقات السلع بانتظام .
لم يكن الزبائن يبعثون الطمأنينة في قلبي، غير أن علاقتي بزملائي في المهنة، كانت تذكرني بأننا بشر ولسنا روبوتات .
قررت يوما أن أدوّن كل ما يواجهني من متاعب أثناء العمل وكذلك مختلف الحوادث التي أتعرض لها يوميا كبائعة.
وجهت نظري صوب الأفراد، الذين اصطفوا في طابور طويل ينتظرون دفع فواتير مشترياتهم، فأحسست بأنهم مختلفون ومتمايزون تماما، انه عالم آخر امامي.
هناك زبائن يسهل التعامل معم، وهناك من يتطلب التعامل معهم جهدا، وهناك الفقراء والأغنياء، المعقدون والثرثارون، من يعاملونك وكأنك غير موجود أو من يلقون التحية عليك، من ينتظرون بشغف افتتاح المتجر، ومن يبقون فيه طوال النهار حتى موعد إغلاق أبوابه، هناك من يتغزلون بك وهناك من يشتمونك.
من يقول ان لا شيء يحصل في حياة بائعة؟
كان علي أن أتقاسم معكم بعضا مما واجهت وشاهدت، لم اعد استطيع رغما عني تجاوز بعض الأحداث التي رسخت ليس في ذهني فقط، وإنما أيضا في ذاكرتي...الوقت مناسب الآن كي تحملوا عربتكم وتدخلوا المركز التجاري .. جولة ممتعة.
مرحبا بكم في المركز التجاري
هنيئا لك، لقد تمكنت من الفوز بمقابلة للتوظيف، وعليه سيكون بمقدورك أن تلتحقي بالعائلة الكبيرة للمركز التجاري... لتصبحي بائعة.
لم تستغرق المقابلة سوى بضع دقائق، أعدت على المسؤول سرد بيانات سيرتي الذاتية بعد ان طلب مني كشف الهوية البنكية .
اجتزت اختبارا نفسيا، تطلّب مني بعض الحسابات، ولكني تساءلت كثيرا لماذا اختبرتُ في مادة الخط، مع أنني سأصبح بائعة وليس موثقة؟!
انه اليوم الأول، وينبغي أن يكون ذا مردودية كبيرة، وعليه فلا وقت أمامي لأضيعه، لم اقلق كثيرا، فقد خصصت لي إحدى البائعات الأكثر تجربة ربع ساعة من وقتها في صبيحة ذلك اليوم.
بدأت بجولة داخل المركزي التجاري، كانت سريعة للغاية، اكتشفت خلالها مكان الحمام وقاعة مخصصة للراحة والقمامة، حيث توضع كل السلع التي لم تعد صالحة للبيع. شعرت باضطراب وأنا أتخطى للمرة الاولى الحيز الذي يوجد فيه « الكاشير»، وكنت مرتدية الزي الموحد للمحل، وكان يحمل علامة ديور، ويختلف شكله ولونه بحسب الزبائن المستهدفين.
تنفست طويلا وانطلقت الى العمل......
أول الدروس التي تعلمتها، هي انه عليَّ أن أنسخ أسعار السلع على جهاز الـ «سكانر» ثم القيام بعملية الجمع، ومن ثم اطلاع الزبون على المبلغ، وسؤاله عن بطاقة اشتراكه في المركز التجاري، ومعرفة الطريقة التي يفضلها للدفع، ثم إعطاؤه الباقي والفاتورة والحصول على نسخة من بطاقة هويته، إن دفع عن طريق شيك بنكي، كل هذه التعليمات عليَّ تنفيذها وبالطبع مرفقة بابتسامة نابعة من القلب، كما لا يجب أن أنسى أن علي أن أحيّي الزبون لدى خروجه والتفت إلى الزبون التالي لأكرر العملية.
لقد صارت حركاتي آلية مع مرور الوقت، حتى أنني لم اعد أدرك تماما ما افعل، خصوصا إذا ما صادف مرور الكثير من الزبائن.
الأهم في هذه الوظيفة هي أن يعرف صاحبها الحركات التي ينبغي أن يقوم بها أما الباقي فيأتي لوحده.
ليس للبائعة اتصال فقط مع رنة جهاز السكانر إذا ما لامس سلعة ما، وإنما اتصال إنساني مع الزبائن ولكن صبرا، سيكون الموضوع اهم مع ما سأسرده في الحلقات المقبلة.
نسيت هنا أن أقول لكم انه من الصعب جدا أن يحفظ أي كان وعن ظهر قلب دليل كل سلعة تباع بالحبة، كالليمون والسلطة والنعناع والأرضي شوكي ...الخ، بالإضافة إلى ذلك هناك العديد من الموظفين والباعة الذين كنت مجبرة على حفظ أسمائهم، وتصوروا معي كيف ستكون الحال عندما يكون للواحد منا 100 زميل.
انتهى اليوم الأول، غادر آخر الزبائن وأغلق المركز التجاري أبوابه، فماهي انطباعاتك؟
في الحقيقة إنها مهنة صعبة، نقوم بتمرير المئات من السلع، نواجه العديد من البشر، نلتقي الزملاء ونستمع إلى الموسيقى طوال النهار.
ثلاثة أسئلة يطرحها الزبائن
يطرح الزبائن في العادة ثلاثة أسئلة عند وصولهم إلى « الكاشير» وهي :
- أين يقع الحمام؟
- ألا يوجد كيس؟
- هل «الكاشير» مفتوح؟
إنها أسئلة تظهر عادية جدا، لكن تصوروا أنفسكم وراء « الكاشير»، ستكون بالتأكيد أسئلة قاتلة أو تدفعكم إلى الصراخ بشدة.
إن كنتم أكثر صبرا، عليكم أن تحكموا بأنفسكم الآن.
السؤال الأكثر استعجالا
يصل الزبون إليك في غالبية الأحيان غاضبا فيطرح عليك السؤال قائلا «أين يقع الحمام»؟ تجيب البائعة وهي تحاول أن تنسى للحظة انها أمام زبون آخر، بقولها «طاب يومك»، يحدق الزبون في عينيها لفترة فتجيبه وقد تنهدت إلى الداخل تنهيدة طويلة «من هنا» وبالطبع يتوجه الزبون إلى الحمام، من دون أن يكلف نفسه عناء شكر البائعة أو حتى القول «مع السلامة» أو «تبا لك»!!
السؤال الأكثر عدوانية
واحدة من كبرى ثورات بداية هذا القرن، غياب الأكياس البلاستيكية التي كانت المحلات الكبرى توفرها للزبائن، الجميع يعتقدون ان المركز التجاري يهدف إلى ربح المزيد من الأموال إذا ما باع الأكياس البلاستيكية، لكنني أقول «فكروا في الغد وفي مناظر طبيعية خلابة من دون بلاستيك متناثر هنا وهناك، وفي بحر لا تطفو الأكياس البلاستيكية على سطحه..»
الأكياس البلاستيكية في طريقها اليوم إلى الزوال، غير أن الكثيرين من الزبائن يطلبونها، وأنا متأكدة من أنكم واجهتم مثل هذه الحادثة:
البائعة : 26 يورو (بعد أن قامت بحساب مجموع ثلاث سلع طلبها الزبون).
دفع الزبون المبلغ عن طريق شيك، غير أنني لاحظت انه يبحث في طرف « الكاشير» عن أكياس بلاستيكية يرتب فيها الطماطم المغلفة أصلا والسلطة المغلفة أيضا، والتفاح المغلف هو الآخر، قائلا: أتوفرون على انفسكم شراء أكياس بلاستيكية؟
تجيب البائعة للمرة الثالثة على الأقل منذ ساعتين: «مثلما تعلم، أوقفت المتاجر الكبرى توزيع الأكياس البلاستيكية، فنحن نقدم إما علبا كرتونية أو أكياسا قابلة للاسترجاع يبلغ عرضها 15سنتيمترا، ويتم استبدالها بسهولة في حال تلفها».
يرد الزبون بغضب وقد أوشكت عيناه أن تقفزا من رأسه: «كان عليك أن تخبريني قبل أن أدفع!»
ترد البائعة وبعد أن تنهدت تنهيدة طويلة ــ ودائما الى الداخل ــ : «آسفة، ولكننا منذ أشهر، لا نوزع الأكياس البلاستيكية، لماذا لا تحمل أغراضك في يدك، فهي مغلفة أصلا في أكياس بلاستيكية.»
غادر الزبون غاضبا، حاملا تفاحه وسلطته وناسيا الطماطم من دون شك، لأنه لا يملك سوى يدين اثنتين فقط.
السؤال الأكثر إزعاجا
هل تريدين أن تكوني بائعة مؤدبة وخلوقة؟ انه حقك وهو أمر مطلوب ومرغوب جدا، لكن عليك ألا تسمحي لأحد بأن يخلط بينك وبين الكاشير، أنت بشر ولست رنة الـ «سكانر».
لا يتمتع الزبائن بالحقوق نفسها وهذه بعض المواقف:
الزبون :هل أنت مفتوحة؟
البائعة المؤدبة :أنا لا أما الكاشير فنعم.
البائعة (بتهكم) :بييييييييب
وبمقدوركم أن تلحظوا ان عددا من الزبائن يطلقون أسئلة مختلفة:
-هل أنت مغلقة؟
-هل أنت مفتوحة؟
-هل أنت الكاشير؟
هل بإمكاني أن آتي عليك؟
واترك لكم فرصة التعليق على هذه الأسئلة.
عرض للأزياء الراقية
أنت دلوعة، وتمقتين الزي الموحد؟
للأسف علي أن أذكركم بأن على الزبون أن يعرف البائعة مباشرة من النظرة الأولى،عليها أن تكون مميزة، وببساطة عليها أن تكون البائعة، لذلك فإن الزي الموحد اجباري لتفادي حدوث أي لبس، ولكن كيف بإمكاني الشعور بالانتماء الى عائلة المتجر الكبيرة من دون الزي الموحد؟
اكتشفوا تشكيلة الشتاء والصيف والربيع والخريف التي تنتظركم.
زي جذاب
يتألف هذا الزي من تايير ارزق داكن في غالب الأحيان، بالاضافة الى ايشارب يحتوي على ورود، يوضع على الرقبة.
أما الموكاسان فلونه ابيض يوافق لون القميص،غير أن البائعة تشتريه من مالها الخاص.
ولكن على البائعة أن تحذر وألا تقوم بحركة خاطفة ومفاجئة، ذلك أن كل الألبسة مصنوعة في الصين وحساسة وقابلة للتمزق في أية لحظة وفي غمرة الشغل المتواصل.
زي مزارعة
ويتكون من بلوزة زرقاء أو وردية بأقفال مضغوطة مقاس اكس اكس أل، وتظهر البائعة في هذا الزي وكأنها حامل في الشهر الثامن، أما البائع فيبدو ثخينا لا يقوى على الحركة، هذا الزي يمنع نفوذ الماء لذا فهو مناسب لأجواء المطر.
زي المهرج
ويتكون من جاكيت احمر وسترة خضراء بالاضافة الى سروال عريض،لا يستطيع الشخص أن يميّز لونه، عندما تلبس البائعة هذا الزي لا ينقصها سوى الأنف الأحمر حتى تبدو وكأنها مهرج وسط الباعة، الذين لا يستطيعون أبدا أن يخطئوا شخصها.
الزي الرخيص
هو عبارة عن تي شيرت «بولو» مصنوع في تايوان، أما لونه فيخضع لنظام السلسلة التي تشتغل البائعة لحسابها.
هو زي اقتصادي بالنسبة للمتاجر الكبرى، وحين ترتدي البائعة هذه الأزياء الرخيصة تبدو أقل غرابة.
للانتهاء من عرض هذه التشكيلة،علي أن أذكركم بأن البائعة مضطرة أحيانا وفي بعض أيام السنة للخلط بين أنواع عدة، حيث يمكن أن تراها بزي جذاب وقريب من لباس المهرج أو زي المهرج والمزارعة.
لكن على البائعة أن تتجنب في كل الحالات النظر في زجاج المحل حتى لا تصاب بانهيار من ثوبها، او حتى لا يتملكها الضحك عند مرور كل زبون.
الحسابات: رحلة البحث عن القطع الناقصة
انها الساعة التاسعة وخمس دقائق ليلا، والبائعة في صدد حساب مجموع آخر زبون يحمل رقم 289 بعد ثماني ساعات من العمل خلف الكاشير وفترتين من الراحة تستغرق كل واحدة منهما 15 دقيقة.
في هذا الوقت من كل يوم، لا تحلم البائعة سوى بالاستلقاء على سريرها والنوم حتى السادسة صباحا من صبيحة الغد.
لكن اليوم لم ينته بعد، فعليها أن تنظف مكان عملها قبل المغادرة بحيث لا تعتمد في ذلك على عاملة النظافة، ثم عليها أن تعدّ ما في الكاشير وتهرع برفقة باقي البائعات الىالصندوق المركزي والكاشير بين يديها.
بالاضافة الى ذلك، عليها أن تحمل قلما وورقة وتبدأ بحساب القطع والأوراق النقدية مع الانتباه الشديد تجنبا لإعادة العملية من البداية.
بعد 15 دقيقة تنهي البائعة عدّ القطع النقدية من فئة 1و2 و5 و10 و20 و50 سنتيما، ثم القطع من فئة 1 و 2 يورو، لتنتقل الى الأوراق النقدية من فئة 5 و10 و20 و50 و 100 و 200 يورو.
تجمع البائعة كل النقود وتنقص منها المبلغ الذي كان موجودا في الكاشير عند بداية فترة عملها.
ـ اذن كم عندك رقم 173؟ 173 أنت هنا؟ أنت؟
ـ لي اسم
ـ اجل، نعلم، ولكن هذا أسرع، اذن أنت هنا رقم 173؟
ـ عندي 3678.65 يورو
ـ أعيدي 173 هناك خطأ، لقد أبلغتك سابقا، لست مركزة معي اطلاقا، غلطة كبيرة او صغيرة؟ اقل أو أكثر،لا يهم، المهم هو أنني اطلب منك اعادة الحساب فقط.
بعد 10 دقائق
ـ 3678.15 يورو
ـ عليكم أن تتحققوا من أن شيكاتكم ووصولات التخفيض مرتبة جيدا.
عند الساعة التاسعة و35 دقيقة ليلا تخلع البائعة مئزرها في الحمام، حيث لم تعد تفصلها عن موعد الحافلة التي تقلها الى بيتها سوى خمس دقائق فقط، ليلة سعيدة وأحلام جميلة مليئة بـ «بييييييييب وصباح الخير ومع السلام- ويوم سعيد».
الحلقة المقبلة: مواقف غريبة وزبائن ماكرون
•الكتاب ترجم إلى عدة لغات
متاعب بائعة(2)
عاملة في متجر تروي تجربتها مع الزبائن زبائن ماكرون ومواقف غريبة في طابور الكاشير.. والبائعة ضحية
الزبائن أنواع وأمزجة مختلفة
تاليف: أنّا سام
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
نتردد بشكل مستمر على الجمعيات التعاونية ومراكز التسوق، ونتعامل بصفة دورية كذلك مع الباعة، ولكن من المؤكد أن لا أحد فينا تنبه إلى معاناة من يقفون وراء الكاشير، سواء مع الزبائن وسلوكياتهم أو مع الوظيفة وما تتطلبه من جهد.
لكم أن تتصوروا ما يمكن أن تواجه البائعة في اليوم الواحد، وما يمكن أن تسمع وما هي مجبرة على فعله وقوله كل مرة، إنها تواجه عالما متشعب الاهتمامات ومتنوع الأفكار، عالما يجمع بين أطيافه الفقير والغني، الطيب والشرير، الإنساني وغير الإنساني.
اسمها أَنّا شابة فرنسية يبلغ عمرها 28 سنة، حاصلة على شهادة جامعية في الأدب الفرنسي، غير أنها بدأت حياتها كبائعة في أحد المتاجر في فرنسا، لم تسمه.
تدعونا أنا من خلال مذكراتها التي تنشرها «القبس» على حلقات، الى التعرف عن كثب على معاناة البائعة وبعض تفاصيل التسوق وما يحصل بين الزبائن وهم ينتظرون دفع ثمن مقتنياتهم، وما يدور بينهم وبين البائعة من أحاديث ممتعة وشائقة وغريبة أيضا تكشفها أنّا، التي يحز في نفسها أن تعاملها بعض الزبونات كفزاعة تُخوّ.فن بها بناتهن، حينما يتوجهن إليهن بقولهن «إن لم تجتهدن في المدرسة، ستصبحن بائعات مثل هذه السيدة، تزنَّ وتغلّ.فن ووووو».
يمكن أن تقولوا إنه لا شيء يحصل في حياة البائعة ويومياتها، ويمكن ألا تصدقوا بأنها تتعرض للكثير من المضايقات والشتائم أحيانا.
أمسكوا عربتكم، سنتابع أنّا إلى غاية الكاشير، فهذه الإنسانة التي نسيتم أن تروها أو تلحظوا تواجدها، رأتكم جيدا ولاحظت تصرفاتكم منذ دخولكم المتجر.
قد يبدو لكم الامر كارثيا اذا ما ارتكبت خطأ خلال مقابلة التوظيف، لكن اسمحوا لي ان اصحح لكم غلطتي في الحال.
ليس مهما ابدا ان تكوني قد اشتغلت سابقا، وان تجيدي الحساب، المهم هو ان تكوني متفرغة وجاهزة للعمل من الآن وان تقبلي المرتب المقترح، وان تستطيعي الاجابة عن السؤال التالي: لماذا تودين العمل في مركزنا التجاري؟
بالطبع، حتى بالنسبة لبائعة ينبغي ان تكون هناك اسباب قوية تدفعها لشغل هذه الوظيفة.
هذه بعض الاجابات التي تعودت المتقدمات للوظيفة على تكرارها:
ــ لأنني حلمت دوما بالعمل في مركز تجاري.
واذا ما اردت ان يصدقوك، فعليك ان تجيبي وكلك ثقة بنفسك:
ــ لأن والدتي كانت بائعة في وقت سابق.
ــ لأني مثل علامتكم البطل، او العملاق، اود ان اصبح بطلة أو عملاقة.
هذا امر كبير حقيقة، ولكن هذا الشعور بالنجاح والفوز يعجب كثيرا من يقوم باجراء مقابلة التوظيف، لكن عليك ان تنتبهي لأن هذا النوع من الاجابات، الذي لا يصلح مع كل العلامات وتصوري ردة الفعل مثلا حينما تقولين «اريد ان اصبح كارفور (سلسلة متاجر كبرى) وكارفور باللغة الفرنسية تعني مفترق الطرق».
ــ انا طالبة وبحاجة الى عمل نصف دوام لتسديد مصاريف دراستي الجامعية، انه جواب تقليدي وكلاسيكي، والمديرون يحبون الطلبة، ذلك ان مردوديتهم مرتفعة مقارنة بغيرهم، اذا هذه هي الاجابة المناسبة، واما اذا لم تكونوا طلابا، فعليكم ان تلعبوا دور الطالب جيدا، وان تظهروا اكثر شبابا، الا ان تجاوزكم عمر الثلاثين سيوقعكم في مشاكل جمة، اذا ما اخترتم هذه الاجابة:
ــ بودي ان اجد عملا لاعيش واقتات منه، انه رد لا ينصح به اطلاقا، وان كانت هي الحقيقة، ذلك ان المدير لن يجد فيكم البائعة والبائع الاكثر نشاطا، فروح الفريق تنقصكم، لعدم تعودكم على الحركة التجارية التي يتميز بها كل مركز تجاري.
هذه الاجوبة بإمكانها ان تدفع بترشيحكم باتجاه سلة المهملات، فاحذروها.
البائعات بالأرقام
ــ يبلغ عدد البائعات في فرنسا حاليا حوالي 170 ألف بائعة.
ــ تقوم البائعة بتسجيل ما بين 15 و20 سلعة في الدقيقة ويمكن ان يصل المعدل الى 45 سلعة، في حال اعلان المتجر عن تنزيلات كبيرة.
ــ تسجل البائعة من 700 الى 800 سلعة في الساعة، مما يعني انها تسجل من 21 الفا الى 24 الف سلعة في الاسبوع، وبصيغة اخرى يمكن ان نقول ان البائعة ترفع 800 كيلوغرام من السلع في الساعة، اي ما يقارب من 96 الى 120 طنا في الاسبوع.
واذا ما اردتم معرفة ما تحمله البائعة طيلة ايام السنة، فما عليكم سوى الاستعانة بخدمات آلتكم الحاسبة، حتى تتوصلوا الى الرقم الصحيح.
ويمكن ان تكتشف البائعة مردوديتها كل اسبوع، ذلك ان الترتيب يعلق على احد جدران المتجر دوريا، وهناك تعرف الواحدة ما اذا كانت أرنبا او سلحفاة!
غير ان المتجر لا يهدي اي شيء لمتصدرة الترتيب حتى ولو كان علبة طماطم.
وهنا أود أن أطلعكم على شيء، تصوروا كم مرة تحيي البائعة الزبائن وكم مرة تجيب على مكان الحمام وأسئلة كثيرة أخرى...
تردد البائعة يوميا ما معدله:
- 250 مرة «صباح الخير»
- 250 مرة «مع السلامة ويومك سعيد»
- 500 مرة «شكرا»
- 200 مرة «هل لديكم بطاقة زبون وفي»
- 70 مرة «بإمكانكم أن تشكلوا رقمكم السري»
- 70 مرة «بإمكانكم سحب بطاقتكم»
- 30 مرة «الحمام من هنا»
لكن هل البائعة «روبوت» آلي؟ بالطبع لا فالروبوت لا يبتسم، والبائعة كائن بشري يتلقى راتبا يبلغ 850 يورو نهاية كل شهر مقابل 30 ساعة عمل في الأسبوع.
أؤكد لكم أن البائعة لا يمكنها أن تبحث عن وظيفة أخرى وقد وقعت عقدا للعمل نصف دوام، ذلك ان إدارة المتجر تعمل على تغيير توقيت الدوام أسبوعيا، ومع ذلك فبإمكان البائعة ان تقوم بأشغال البيت وكي الملابس من الساعة الخامسة إلى الساعة الثامنة صباحا.
قصص مع الزبائن وهواتفهم
الهاتف الخلوي، هو اكبر اختراع شهده العالم، فما يمكننا أن نقوم به بواسطته فظيع جدا، نحن نستعمله لسماع الموسيقى ولمشاهدة التلفزيون ولإرسال الرسائل الالكترونية ومتابعة البورصة، وأيضا في الاتصال بمن نريد وقتما أردنا وحيثما وجدنا.
وهناك ايضا من الهواتف الخلوية، ما يحول الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل، والهواتف هذه ليست غالية تماما، ولكن ان تحكموا بأنفسكم: الزبون «وهو يستعمل هاتفه الخلوي، وقد ظن بأنه الوحيد في العالم»، ولكن هل انا في الكاشير، ألم يتسنى لك أن تقولي قبيل هذا بأنك تودين الموز؟!
البائعة: (تحاول أن تذكره بأنه أمام الكاشير وليس في منزله) صباح الخير سيدي.
الزبون: تخرجين هذا المساء؟ ولكنك مصابة بالزكام، هل شفيت؟
البائعة: (وقد سارعت إلى تسجيل كل مشترياته) من فضلك سيدي المجموع هو 13.50 يورو.
الزبون: (وهو يجمع أغراضه بكل هدوء غير مبال بالمحيطين به) أنا أدرك تماما بأن الأمر يتعلق بمشكلة في الجهاز الهضمي، لا أود أن اقضي الليلة كلها في الحمام.
البائعة: (وقد نهضت من مكانها وغيرت من لهجتها): من فضلك سيدي، 13.50 يورو.
الزبون (يتابع جمع أغراضه بهدوء، بعد أن رمق البائعة): ولكنك أنت من لا يسمع نصائحي، عليك ان تغسلي يديك كلما خرجت.
البائعة (وقد شبكت أصابع يديها بقوة): سيدي بطاقة الزبون الوفي
الزبون: (وضع بطاقته الزرقاء في الجهاز، من دون أن يوجه نظره نحو البائعة)... لقد فهمت لست أصما، أنت مملة جدا، عندما تمرضين.
أخذ الزبون الفاتورة بقوة من يد البائعة، وابتعد وما يزال يمسك هاتفه الخلوي ويتحدث... الحمد لله أن الزبائن ليسوا كلهم مثله.
قررت البائعة ان تقتصد هذه المرة، مرة واحدة «مع السلامة يومك سعيد» بسبب سخافة هذا الزبون الذي لم يشأ قطع مكالمته لاستكمال شراء اغراضه.
وهذه تجربة ثانية لا تنسى ابدا..
يمر الزبون امام الكثير وهو يثرثر في هاتفه الخليوي، فتحييه البائعة قائلة «صباح الخير سيدي».
الزبون (محدقا في عين البائعة «صباح الخير»: انا اؤكد لك، دون ان اقول انه بإمكانك ان تعثري على عينة نادرة.
الزبون (دائما في الهاتف) اذكرك بأني في الكاشير.
اغلق الزبون هاتفه ووضعه في جيبه.
البائعة (مبتسمة) صباح الخير
الزبون (مبتسما) صباح الخير
الحياة ليست جميلة
ولكن لا تخلطوا الامور، فهذا النوع من الزبائن نادر جدا، لكن علينا ان نكون واضحين، تبقى البائعة بائعة حتى في الحلم، والبائعة ليس لها الحق ابدا في استعمال الهاتف النقال اثناء العمل. وعلى كل يبقى الامر هكذا الى ان يعوض الكمبيوتر البائعة نهائيا، على الرغم من ان البعض يظنون بان الامر قضي واصبح معمولا به.
باعث النشاطات
مهنة اخرى جذابة بإمكانها ان تنافس مهنة البائعة الا وهي باعث النشاطات في المتاجر الكبرى، وبإمكانكم ان تلحظوا تواجد هذه العينة الغريبة في المناسبات الخاصة كعيد الامهات والجدات وعيد النباتات الخضراء واعياد الربيع والصيف والشتاء واعياد الخمر والجمبري.
يوم واحد يكفي بالنسبة لاي واحد منكم، ليكتشف بأنه ليس بمقدور اي كان ان يصبح باعث نشاط في متجر، ذلك ان هذه المهنة تتطلب صوتا واداء جيدين والكثير الكثير من الانسيابية.
فباعث النشاط في اي متجر باستطاعته ان يتكلم عن طريق مكبر صوت طوال اليوم ودون توقف، وهو ما سيدفعكم بالتأكيد الى كره هذه الوظيفة.
وعلى باعث النشاط ايضا ان يكون قادرا على اقناع الزبائن.
يقول باعث النشاط مستعملا مكبر صوت:
رائع، ممتاز، انها تنزيلات مغرية جدا، بإمكانكم ان تشتروا قطعتين من النقانق، لتحصلوا على الثالثة مجانا، انها فرصة لتنعموا رفقة افراد عائلتكم بباربيكيو رائع.
وعليه ايضا ان يملك مواهب شعرية
باعث النشاط: آه كم هو رائع ان تتمتع بالباربيكيو رفقة عائلتك، هل يوجد افضل من هذا، لا تنسوا غدا عيد الامهات، اهدوا الفرح لامهاتكم، وكل هذا ب2.45 يورو فقط.
وعليه ان يتمتع بروح السفر والترحال
باعث النشاط: انا انا في جناح الخبز، تعالوا الحقوا بي لتتذوقوا اشهى الكعكات الفرنسية، المصنوعة بحب من قبل فنانينا، تعالوا تذوقوا حلويات السابلي، وكل ما يصنعونه من اجلكم.
باعث النشاط لاحدى الزبونات: اذن سيدتي، ما هي عاصمة بريطانيا؟ أهي لندن أم برلين أم مدريد؟ اذا ما اعطيتني الاجابة الصحيحة، ستربحين هدية رائعة، ستفوزين معي بهذا البارومتر المميز.
الزبونة: أوف، لا اعرف.
باعث النشاط: وقد اعتلت الابتسامة وجهه، يمكنك ان تستعيني باحد الاصدقاء.
الزبونة: اريد ذلك.
باعث النشاط: هيا، انا هو صديقك واعطيك مؤشرا الآن، اسم العاصمة يبدأ بحرف اللام.
الزبونة: لندن.
باعث النشاط وقد ظهرت على وجهه ملامح المفاجأة: اوه، لا سيدتي، انها لندن، ولكن ليس الامر سيئا، غدا عيد الامهات، وقد ربحت معنا شيئا رائعا، نحن نهديك باقة الزهور هذه.
مكان محجوز
تواجه البائعة الكثير من المواقف، تفرض عليها ان تتعامل وفق استراتيجيات فعالة ومهذبة في الوقت نفسه، غير انها تواجه احيانا مواقف لا تستطيع ان تفعل شيئا امامها.
الموقف الأول:
الزبون الماكر: وقد وصل الى الكاشير، حاملا بين يديه اربعة اغراض: هل انت مفتوحة؟
البائعة: انا، لا واما الكاشير فنعم، طاب صباحك.
الزبون الماكر: رائع.
البائعة، بعد ان قامت بنسخ اسعار السلع: 5.45 يورو من فضلك.
الزبون الماكر: انتظري، صديقتي نسيت ابتياع غرض ما، ستصل حالا.
مضت خمس دقائق ولم تصل صديقة الزبون، واما طابور الزبائن الذين ينتظرون دفع الفاتورة ففي ازدياد.
البائعة: يمكن ان تترك المكان لغيرك وتنتظرك صديقتك سيدي.
الزبون الماكر ولم يشعر باي ضغط بسبب طابور الزبائن: اه، انها قادمة، بامكانك ان تنتظري لحظة اذن.
وبالفعل في هذه الاثناء قدمت الصديقة، غير انها تحمل بين يديها سلتين مملوءتين بالاغراض.
الزبون الذي يقف خلف الزبون الماكر: الست منزعجا؟
الزبون الماكر: سيدي حتى انا وقفت في الطابور مثل الجميع.
الموقف الثاني:
وصلت الزبونة الماكرة برفقة ابنها وبدأت في افراغ مشترياتها على السير المتحرك.
البائعة: صباح الخير.
فجأة تركت الزبونة الماكرة الاغراض وولدها، ما دفع البائعة الى ان تقول في قرارة نفسها «ستعود في ظرف لحظات وبمجرد ان تبدأ في نسخ اسعار مقتنياتها على جهاز السكانير»، لكن زبونا آخر وصل فجأة.
البائعة: صباح الخير ستعود الزبونة التي تسبقك حالا.
مرت دقيقتان ولم تعد السيدة.
انزعج الزبون وقال: ليس علي فعل هذا فقط.
البائعة (منزعجة) ستعود حالا، أعدك سيدي.
مضت دقيقتان ولم تعد الزبونة.
الزبون بعنف: أتهزئين مني أم ماذا؟
البائعة: منزعجة جدا، أنا آسفة.
الزبون متعجبا: آسفة، سأغير الكاشير أيتها الغبية.
غيّر الزبون الكاشير، فيما عادت الزبونة الماكرة بهدوء، وهي محملة بالكثير من الاغراض.
الزبونة الماكرة: لو كنت اعرف ان لا احد ينتظر خلفي، لما أسرعت
الموقف الثالث:
اشارت البائعة الى زبونة متقدمة في السن، كانت تقف في مؤخرة طابور كاشير ثان، حتى تأتي وتدفع الفاتورة عندها دون اضطرار للانتظار.
أسرعت السيدة، وقد بدا وكأن رجليها تسبقان جسدها، غير ان احد الرجال سبقها الى الكاشير ولم يكن قد يفصلها عنه سوى متر واحد، لقد تعمد الرجل رفقة ولده الى اخذ مكانها وزادا من سرعتهما ووضعا اغراضهما على السير المتحرك.
البائعة: صباح الخير سيدي، هذه السيدة كانت قبلك.
الزبون الماكر: ودون ان يوجه بصره نحو السيدة: أتمزحين؟ اسرعي ليس امامي فعل هذا فقط.
أشارت السيدة المتقدمة في العمر الى البائعة بأن تتركه ولا تصر عليه.
انصح الزبائن الماكرين بالتسوق عبر الانترنت، لأنهم بذلك لن يتعبوا في التعامل مع اناس يعتبرونهم...؟
متاعب بائعة
(3)عاملة في متجر تروي تجربتها مع الزبائن المتـاجـر الكـبـرى تتحول إلى ملاجئ للعشاق
البائعة والشارية
تاليف: أنّا سام
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
نتردد بشكل مستمر على الجمعيات التعاونية ومراكز التسوق، ونتعامل بصفة دورية كذلك مع الباعة، ولكن من المؤكد أن لا أحد فينا تنبه إلى معاناة من يقفون وراء الكاشير، سواء مع الزبائن وسلوكياتهم أو مع الوظيفة وما تتطلبه من جهد.
لكم أن تتصوروا ما يمكن أن تواجه البائعة في اليوم الواحد، وما يمكن أن تسمع وما هي مجبرة على فعله وقوله كل مرة، إنها تواجه عالما متشعب الاهتمامات ومتنوع الأفكار، عالما يجمع بين أطيافه الفقير والغني، الطيب والشرير، الإنساني وغير الإنساني.
اسمها أَنّا شابة فرنسية يبلغ عمرها 28 سنة، حاصلة على شهادة جامعية في الأدب الفرنسي، غير أنها بدأت حياتها كبائعة في أحد المتاجر في فرنسا، لم تسمه.
تدعونا أنا من خلال مذكراتها التي تنشرها «القبس» على حلقات، الى التعرف عن كثب على معاناة البائعة وبعض تفاصيل التسوق وما يحصل بين الزبائن وهم ينتظرون دفع ثمن مقتنياتهم، وما يدور بينهم وبين البائعة من أحاديث ممتعة وشائقة وغريبة أيضا تكشفها أنّا، التي يحز في نفسها أن تعاملها بعض الزبونات كفزاعة تُخوّ.فن بها بناتهن، حينما يتوجهن إليهن بقولهن «إن لم تجتهدن في المدرسة، ستصبحن بائعات مثل هذه السيدة، تزنَّ وتغلّ.فن ووووو».
يمكن أن تقولوا إنه لا شيء يحصل في حياة البائعة ويومياتها، ويمكن ألا تصدقوا بأنها تتعرض للكثير من المضايقات والشتائم أحيانا.
أمسكوا عربتكم، سنتابع أنّا إلى غاية الكاشير، فهذه الإنسانة التي نسيتم أن تروها أو تلحظوا تواجدها، رأتكم جيدا ولاحظت تصرفاتكم منذ دخولكم المتجر.
من الخطأ أن تظنوا ان المتاجر الكبرى لا تنتمي إلى قائمة الأماكن الأكثر إباحية وخلاعة، تأكدوا انها أكثر الأماكن إباحية وأكثر مما يمكن أن تتصوروا.
ستصابون بدهشة كبيرة من رقم القبلات المسروقة في الأجنحة،بما فيها جناح ورق الحمام، أما في جناح السمك المجمد ووراء الثلاجات فلا شيء تراه سوى الأيادي الممدودة، وفي جناح الملابس الداخلية تسمع الكثير من الأحاديث الرومانسية.
لقد حالفني الحظ مرات كثيرة في مشاهدة لقطات ساخنة داخل المتجر الذي كنت اعمل فيه.
ذات مرة، وقبيل أن ينتهي دوامي، كان عدد الزبائن قليلا، ولم يكن احد امام الكاشير، فقررت أن أجول ببصري بين الأجنحة، فلمحت زوجين برفقة أولادهما الأربعة، لقد تأثرت كثيرا بالطريقة التي كان يعامل بها الزوج زوجته، حتى أني تساءلت :هل يبقى الحب مع أربعة أطفال؟
تملكتني الكثير من الأحلام دفعة واحدة وأنا وحيدة أمام الكاشير، لقد رأيت الكثير من المشاهد الرومانسية، إلى أن استفقت وأنا أرى الزوجين يتبادلان القبلات و يتوجهان نحوي، من دون أدنى إدراك منهما لما يجري حولهما.
هنا أيقنت ان الحب بلا أذنين، وصل الزوجان أمامي وهما مستمران في العناق وتبادل القبلات من دون أن يشعرا بأي انزعاج، لقد كانا في عالم آخر، حتى أنني لمحت الملابس الداخلية للزوجة وكان لونها ورديا بينما كسا شعر كثيف مؤخرة الزوج، وأما أولادهما فلم يكونوا أبدا متفاجئين، بل انشغلوا بأشياء أخرى تاركين الأبوين ينعمان بالحب. اعترف لكم بأن وجنتيّ احمرتا، ذلك أن موقفا مثل هذا لا يتكرر كل يوم.
لكن البائعة ليست فقط معرضة لرؤية مواقف كهذه فقط، وإنما هي معرضة أيضا لسماع الكثير من الجمل الإباحية المباشرة.
البائعة: من فضلك المجموع هو 65.78 يورو، هل تملك بطاقة زبون وفي؟
الزبون: هل تودين قضاء الليلة معي؟
وأما آخرون فيفضلون الطريقة غير المباشرة في إيصال ما يودون إيصاله، ذلك أنهم أكثر حياء من الفئة السابقة، وقد يصل عدد هذه العروض إلى 19 عرضا أسبوعيا، وفي غالبية الأحيان يكون في يد الزبون المعني غرض واحد فقط.
الزبون وعيناه صوب الأرض: هل.. هل.. هل استطيع أن ادعوك لتناول شراب معي؟
إذا ما قالت البائعة «لا» فإنها تحطم قلبه وفي غالبية الأمر يفر من دون أن يطالبها بالباقي.
ولكن ماذا عن الحب من النظرة الاولى بين الزبون والبائعة؟
ممكن...من يعرف؟غير أنني أؤكد لكم ان البائعة بائعة ولا تعيش في فيلم أميركي.
الأغراض «المزعجة»
ما المشتريات التي تزعج الزبائن وتجعلهم يشعرون بالحياء لدى اقتنائها ودفع ثمنها؟
بفضل هذه الأغراض تستطيع البائعة أن تكتشف جزءا بسيطا من شخصيات الزبائن، وفي كثير من الأحيان تدفعها تصرفاتهم إلى الضحك، وبطبيعة الحال من دون أن يبدو ذلك على ملامحها.
ورق الحمام
يستعمل الجميع ورق الحمام، غير أن الفرنسيين هم أكثر الأوروبيين استعمالا لهذا النوع من الورق.
يسارع بعض الزبائن إلى إخفاء ورق الحمام ودفنه تحت الأغراض حلما يدفعون الفاتورة، وكأن رائحة كريهة تنبعث منه، ولا يستعيد هؤلاء أنفاسهم إلا بعد اجتياز الكاشير ووضع الورق داخل أكياس.
وكثيرا ما يجدون صعوبة في وضع علبة الورق الكبيرة داخل الكيس الذي لا يتسع لها، فتراهم يفعلون المستحيل لتغطية الورق بسرعة وكأن النيران تحيط بهم من كل صوب.
الفوط الصحية
تعتبر الكثير من الفتيات العادة الشهرية مرضا مخزيا، ومن حظهن أن علب الفوط الصحية وغيرها من الفوط مغلفة بشكل غير لافت للانتباه عكس ورق الحمام، غير أن ذلك لا يمنع البائعة من ملاحظة بعض الاحمرار على وجوه عدد من الزبونات، اللواتي يقمن بالرد على تحيتها وأعينهن على أرجلهن.
الواقي
إنها أكثر المقتنيات التي تزعجني وهناك من الزبائن من يخبئون الواقي الذكري فلا تنتبه البائعة، إنهم يحاولون إغراق العلبة بين المشتريات وتراهم يقتنون علبا مشابهة حتى لا يبدو انهم اشتروا الواقي الذكري.
وهناك من الزبائن من يتباهون بشراء الواقي فترى كأن هرمون «التستسترون» يكاد يخرج من عيونهم، وعندما يصلون إلى السير المتحرك، يضعون الواقي مقاس «اكس اكس لارج»، لكن الغريب أنهم لا يشترون غيره ويحملون العلبة بين أيديهم ويستعجلون الزبائن المنتظرين على طول الطابور.
أحيانا تجد البائعة نفسها مضطرة الى طلب سعر الواقي الذكري، إذا لم يكن مسجلا على العلبة، مستعملة في ذلك مكبر الصوت، الأمر يسبب حرجا كبيرا لها، لكنه يثير فرحة ونشوة كبيرتين لدى الزبائن خصوصا إذا ما حددت البائعة مقاس الواقي وقالت «اكس اكس لارج».
الأقراص المضغوطة
كثيرا ما يقتني الزبائن الواقي الذكري مع الأقراص المضغوطة التي تحتوي على أفلام إباحية، ويحمّل الزبون البائعة المسؤولية اذا لم يجد ما يريد في المتجر، لقد فهمت غالبية المتاجر الكبرى اليوم أهمية هذا السوق، فصاروا يخصصون لهذا النوع من المشتريات جناحا خاصا لما يدر من مداخيل.
غير أن آخرين يقتنون الأفلام الإباحية مع أفلام كوميدية أو أخرى عائلية كفيلم والت ديزني حتى لا ينتبه احد لهم ويطلبون من البائعة كيس هدية، ومن دون شك حتى يقدموه هدية لنسائهم عوض الورود.
وتلاحظ البائعة ان بعض الأزواج لا يقتنون الأفلام الإباحية إلا وهم فرادى ويدفعون نقدا، من دون استعمال بطاقة بنكية.
مع التنزيلات فقط
أنا معجبة جدا بفئة من الزبونات، اللواتي لا يشترين من المتجر سوى السلعة المناسبة وبالسعر المناسب أيضا، ربما هي طريقة للانتقام من قدراتهن الشرائية التي تتناقص يوما بعد يوم.
هذا النوع من الزبونات يملك إرادة حديدية، ذلك أن قائمة مشترياتهن مضبوطة بأدق التفاصيل ولا يقدمن على شراء أي شيء من دون تنزيلات.
في جناح الاجبان رأيت سيدة برفقة زوجها وبدا لي انها تحب جبنة «الكاممبير»، غير أنها فضلت شراء أربع قطع من جبنة «روكفور» لان عليها تخفيضات، الأمر نفسه بالنسبة للمربى، فقد اشترت السيدة مربى الفراولة على الرغم من صراخ ابنها، لان عليه تخفيضات وشراء علبة يوفر لها الثانية مجانا.
بطاقة الزبون الوفي
ما الفائدة من بطاقة الزبون الوفي؟
لن يصبح الزبون مليارديرا بواسطة هذه البطاقة، ولكنها طريقة تعتمدها المتاجر لحث الزبائن على العودة مرة أخرى، بدل التسوق من أماكن وجهات أخرى.
وتمنح المتاجر نقطة واحدة عن كل يورو، فثلاثة آلاف نقطة تمنحك لعبة أطفال، وأما 10 آلاف نقطة فتمنحك فرصة المشاركة في القرعة للفوز برحلة إلى «يورو ديزني» وقارئ دي في دي، يؤكد جميع الفائزين بأنه أصيب بالعطب في ظرف أسبوع واحد.
وأما 90 الف نقطة فتمنحك 25 يورو بالاضافة الى كوبون بقيمة 5 يورو، يسمح لك بواسطته اقتناء سلعة من السلع التي طبقت عليها التنزيلات فقط.
هذه العروض لا تدفعك إلى الركض وراء بطاقة زبون وفي، لكن هناك عروضاً جيدة، فبعض المحلات تمنحك 50 سنتيماً عند شراء علبة صابون غسيل بـ10 يورو، او تخفيضا على غرض اشتريته إن أخذت عددا يفوق 5.
وعليّ هنا أن أشير إلى أن الزبائن الذين يملكون بطاقة زبون وفي يصرفون أكثر خلال أيام التنزيلات، لكن ما ينبغي عليهم هو عدم نسيان مدة صلاحية نقاطهم أو كوبونات الشراء التي تمنح لهم.
دقائق قبل غلق المحل
«زبائننا الكرام، نخبركم بان المركز التجاري يغلق أبوابه بعد خمس عشرة دقيقة، شكرا على توجهكم إلى الكاشير، ونتمنى لكم سهرة ممتعة» يتوافد الزبائن عند الساعة التاسعة إلا الربع على الكاشير فتراهم يسابقون الزمن لتسديد الفاتورة قبيل غلق المركز التجاري وعند الساعة التاسعة إلا خمس دقائق تتوقف الموسيقى في مكبرات الصوت، غير أن عدد الزبائن لا يزال كبيرا، ويصطفون في ثلاثة طوابير.
من المفترض أن يغلق المحل أبوابه عند الساعة التاسعة، بعد أن تكون كل بائعة قد أنهت عملها على مستوى كل كاشير، ولكن هذا لا يتم دوما، فعادة ما يصل عدد من الزبائن إلى الكاشير بعد انطفاء معظم المصابيح، مما يضطر البائعة إلى تمديد فترة عملها الى التاسعة وخمس وعشرين دقيقة.
إلى حد الساعة لم أعطكم صورة مستفيضة عن الزبائن الذين تتعامل معهم البائعة،ولكني سأخصص هذا الجزء للحديث عن الزبائن الذين تثير تصرفاتهم الضحك.
تواجه البائعة في ظرف يوم واحد الكثير من التصرفات:
يشير حوالي 18 زبونا يوميا إلى البائعة بقولهم «سأشغلك» فتجيب «لا داعي لذلك، أفضل أن أبقى من دون عمل»
وتسمع البائعة 17 مرة يوميا انتظريني، فتجيب «بالطبع، حتى أني بدأت اقلق».
وتسمع 15 مرة «إذا ما كنت لطيفا، تجازينني بسعر جيد» فتجيب «أتفضل السعر أغلى مرتين او ثلاث مرات»
وتسمع 10 مرات: السعر غير واضح، إذن هو مجاني «فتجيب بالطبع، ومع العربة»
وتسمع ثماني مرات «الآن أيمكنني بعد أن رتبت أغراضي أن اذهب دون أن ادفع؟» فتجيب ثماني مرات «إذا ما كنت تركض بسرعة».
روح سليمة في جسم سليم
سيدتي، سيدي، تريدين أو تريد أن يكون لكما جسد رائع وان تتخلصا من بعض الكيلوغرامات الزائدة في بعض المناطق، تحلمان بجسد انسيابي وبحل نهائي، لا تقلقا، فالعمل أمام الكاشير هو الحل المعجزة، الذي سيغير مسرى حياتكم كلها.
سيقودكما مختبر «البائعة والجسد» إلى الهدف، ما عليكم سوى اتباع النصائح والتمارين.
خفضوا الوزن
ما عليكم سوى أن تتنازلوا عن وجبة الإفطار يوميا، وستلاحظون بعد أيام انعكاس ذلك على أوزانكم، لا تترددوا فمختبر «البائعة والجسد» اثبت ذلك. وأما الأمر الوحيد الذي سيزعجكم في هذه الطريقة فهو أصوات المعدة، التي ستبدو لكم وأنها تنافس تلك الأصوات التي يصدرها جهاز السكانير الذي تستعمله البائعة.
قوّوا عضلاتكم
يمكنك سيدي وسيدتي أن ترسما عضلات الذراع بسهولة عن طريق رفع كراتين الماء من العربات بهدف نسخ سعرها، فالعملية تكسب عضلاتكما قوة وشدة، غير أن مخبر «البائعة والجسد» ينصحكما بعدم رفع أوزان ثقيلة خوفا من التمزق العضلي.
أتحلمون بمؤخرة جميلة
تعمل وضعية الجلوس والوقوف التي تجد البائعة نفسها مجبرة عليها، على تقوية عضلات الفخذين والمؤخرة، واما تكرار الوضعيات بصفة دورية، فيفقد هاتين المنطقتين الكثير من الوزن الزائد.
لا تنسوا أن تنهضوا وتجلسوا على الأقل من 30 إلى 40 مرة في الساعة، ومن المؤكد أنكم ستحصلون على مؤخرة جميلة، فمختبر «البائعة والجسد» اثبت ذلك.
ضرر بسيط يمكن أن ينتابكم من هذه التمارين ألا وهو آلام في الظهر، غير أن مختبر «البائعة والجسد» لم يثبت ذلك لحد الساعة. فغالبية البائعات اللواتي قبلن فحص المختبر قلن بأنهن يعانين من عرق النسا، لكن الأمر يبقى مجرد إشاعات تحتاج إلى فحص وتشخيص مدقق.
شدوا نهودكن
عمل البائعة فظيع جدا، وله الكثير من المحاسن بالنسبة للمرأة على الخصوص، فالبائعة تحمل الكثير من الأغراض الثقيلة وتدور مع الأغراض في أي اتجاه مما يشد العضلات بصفة يمكن أن ينتبه إليها أيا كان في غضون أسابيع فقط.
وما عليكم سوى مقارنة صدر البائعة بصدر أي زبونة، لتلاحظوا الفرق الكبير بين الاثنتين ومع مهنة البائعة، عليك سيدتي أن تودعي نهائيا مرحلة الصدر المرتخي. لقد اثبت مختبر «البائعة والجسد» ذلك،
طوروا نظامكم المناعي
انتم عرضة للزكام والتهاب اللوزتين المزمن؟لا تجزعوا فمهنة البائعة تجعلكم أكثر مناعة، فمخالطتكم يوميا لعشرات الزبائن الذين يحمل غالبيتهم فيروسات لأمراض وبائية ومزمنة، يمنحكم مناعة ويقوي أجهزتكم المناعية ويجعل منكم أناسا أكثر مقاومة للأمراض.
وأما الضرر الوحيد لهذا، فيظهر أن بعض الموظفين أصيبوا بعدوى عدد من الأمراض بسبب اتصالهم الدائم بالميكروبات.
وأما مختبر «البائعة والجسد» فيشك في أن بعض المستخدمين أطلقوا مثل هذه الإشاعات، حتى يتمكنوا من تغيير الوظيفة وعدم الجلوس في الكاشير.
تعلمي كيفية وضع الماكياج
تفقد البائعة نضارة وجهها من شدة جلوسها طول النهار تحت ضوء النيون، هذا الوضع يدفعها إلى البحث عن أفضل الطرق للحفاظ على بشرتها، لتجد نفسها في غضون أسابيع خبيرة في مساحيق الزينة وكريمات حماية البشرة، وبالطبع هي وسائل تجميل تشتريها البائعة ولا يوفرها المتجر
إذن أعزائي الزبائن، لاحظوا جيدا البائعة، حينما تتسوقون المرة المقبلة واكتشفوا حركاتها السرية التي تقوم بها يوميا لتحافظ على جسدها، الجسد الذي تحلمون به.
فالعمل أمام الكاشير أفضل بكثير من الانتماء إلى ناد رياضي.
• متاعب بائعة (4)
عاملة في متجر تروي تجربتها مع الزبائن يختلف الزوجان ويتشاجران.. ليهربا سلة بضائع مسروقة
سلوكيات الزبائن.. مشبوهة
تاليف: أنّا سام
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
نتردد بشكل مستمر على الجمعيات التعاونية ومراكز التسوق، ونتعامل بصفة دورية كذلك مع الباعة، ولكن من المؤكد أن لا أحد فينا تنبه إلى معاناة من يقفون وراء الكاشير، سواء مع الزبائن وسلوكياتهم أو مع الوظيفة وما تتطلبه من جهد.
لكم أن تتصوروا ما يمكن أن تواجه البائعة في اليوم الواحد، وما يمكن أن تسمع وما هي مجبرة على فعله وقوله كل مرة، إنها تواجه عالما متشعب الاهتمامات ومتنوع الأفكار، عالما يجمع بين أطيافه الفقير والغني، الطيب والشرير، الإنساني وغير الإنساني.
اسمها أَنّا شابة فرنسية يبلغ عمرها 28 سنة، حاصلة على شهادة جامعية في الأدب الفرنسي، غير أنها بدأت حياتها كبائعة في أحد المتاجر في فرنسا، لم تسمه.
تدعونا أنا من خلال مذكراتها التي تنشرها «القبس» على حلقات، الى التعرف عن كثب على معاناة البائعة وبعض تفاصيل التسوق وما يحصل بين الزبائن وهم ينتظرون دفع ثمن مقتنياتهم، وما يدور بينهم وبين البائعة من أحاديث ممتعة وشائقة وغريبة أيضا تكشفها أنّا، التي يحز في نفسها أن تعاملها بعض الزبونات كفزاعة تُخوّ.فن بها بناتهن، حينما يتوجهن إليهن بقولهن «إن لم تجتهدن في المدرسة، ستصبحن بائعات مثل هذه السيدة، تزنَّ وتغلّ.فن ووووو».
يمكن أن تقولوا إنه لا شيء يحصل في حياة البائعة ويومياتها، ويمكن ألا تصدقوا بأنها تتعرض للكثير من المضايقات والشتائم أحيانا.
أمسكوا عربتكم، سنتابع أنّا إلى غاية الكاشير، فهذه الإنسانة التي نسيتم أن تروها أو تلحظوا تواجدها، رأتكم جيدا ولاحظت تصرفاتكم منذ دخولكم المتجر.
تظهر المتاجر الكبرى كمغارات علي بابا، لكن للاسف كل شيء فيها بثمن. ولكن، كيف لكم ان تقاوموا السرقة اذا ما أردتم اقتناء شيء ما، ولم يكن لديكم اي فلس؟!
الامر طبيعة انسانية وانسانية جداً، ولكن اذا ما أردتم الا تكشفكم البائعة، فتفادوا عددا من السلوكيات التي باتت معروفة.
المتحدث البارع
هذا النوع من الناس، يحكي كل حياته وتراه يكثر من رواية النكت، انه مهرج حقيقي، ولكنه ساحر حقيقي ايضا، همه تنويم البائعة ولفت انتباهها حتى لا تلاحظ ما يود سرقته. بامكان اي كان ان يجرب حظه، لكن تأكدوا من مواهبكم قبل الخوض في غمار تجربة قد تنتهي بكم الى احضان أعوان الامن.
الزوجان المتخاصمان
بينما انشغلت البائعة بنسخ أسعار الاغراض التي اشتراها الزوجان، حتى اندلع بينهما شجار كبير، فالرجل والمرأة تخاصما بسبب عدد الاغراض التي اشترياها، او بسبب لون ورق الحمام.
طأطأت البائعة رأسها من شدة الحياء وشدة الشجار بين الزوجين، اللذين انتهزا الفرصة لتمرير حقيبة مملوءة بمختلف الاغراض التي اقتنياها من المتجر.
على هذا النوع من البشر ان ينسوا مثل هذه الطريقة، لانها تلفت الانتباه أكثر فأكثر.
التستر
أحد الزبائن وضع قرصا مضغوطا في علبة جبنة الكاممبير، وبطاريات بين قارورات كوكاكولا، في محاولة منه لعدم دفع ثمنها، غير ان ما يغيب عن الزبائن هو ان البائعة تعرف كل المغلفات والسلع. واذا ما اكتشفت الامر، يجيب الزبون: «آه لم أر ذلك!».
الصراخ
وأما هذا النوع من الزبائن (اللصوص)، فيؤلف فيلما طويلا وعريضا عندما ترن الآلة التي تكشف السرقة، وتراه يقول «انها فضيحة، غير مقبولة، أتعاملونني كلصٍّ، لن تطأ قدماي متجركم هذا ابداً!».
يحاول الزبون (اللص) بهذه الفوضى ان يوهم البائعة ورجال الامن بصدقه، دافعا اياهم الى عدم تفتيشه وتركه يمر، بعد ان علا صوته ودوَّى في المكان كله.
الركض
هذا النوع من الزبائن يركض بسرعة، حاملا بين يديه غرضا كبيرا، وقد عبأ داخل علبته الكثير من الاغراض التي يحاول تمريرها، غير ان هذه الطريقة تتطلب قوة جسدية وبدنية وايضا مواهب كبيرة حتى يتفادى صاحب العملية اي كمين ينصبه رجال الامن.
تغيير الرقم
هناك من الزبائن من يعمدون الى تبديل الرقم التسجيلي للسلعة التي يودون شراءها بأخرى أرخص، غير ان السلع اليوم تحتوي على لصيقات يصعب تغييرها، كما يسهل تمزيقها ايضا.
لكن يستحيل ايضا ألا تنتبه البائعة إلى ان سعر قدر كهربائي لا يساوي سعر كيس الملح إذا ما حاول أحدهم مثلا أن يقلب لصيقتي السلعتين، ليست البائعة غبية الى هذه الدرجة.
يقف في الطابور مثل باقي الزبائن، وتعامله البائعة كغيره من الزبائن، لكن فجأة يتغير كل شيء، حيث يحمل هذا الرجل أغراضه ويهم بالخروج مستغلا في ذلك الكم الهائل من الزبائن من جهة، ومن جهة ثانية تعب البائعة التي لا تستطيع اللحاق به ولا رجال الأمن، ذلك انه خرج نهائيا من المتجر.
هذا النوع من الزبائن بإمكانه ان يفعل ما يريد، كما انه حريص على اختيار الساعة المناسبة وفي أي وقت.
الرئيس هو أنا
أن تعمل وراء كاشير يعطيك انطباعا بأنك أنت من يتحكم في كل شيء، غير أن الأمر ليس كذلك، فهناك رئيس عينه اليمين تحرسك وعينه الشمال تراقبك. ولكن من هو وماذا يعمل وكيف يعيش؟ وكيف بإمكانك أن تدبر بصفة جيدة هذا التعايش بينكما؟
مديرو المتاجر مثلهم مثل الباعة، فمنهم من يعمر لسنوات، ومنهم من يغادر بعد بضعة أيام فقط من استلام وظيفته، كل واحد يفرض طريقته وأهدافه ومبادئه أيضا.
هناك المدير الفعال
يحدد المدير الفعال، أهدافه الواحد تلو الآخر ووفق برنامج زمني مضبوط، هو شخص يستحق منصبه، يعرف كل الموظفين ويعالج كل المشاكل وحاضر في كل وقت وان تعلق الامر بمشكل بسيط وتافه.
أحيانا تتعطل ماكينة الكاشير، فترن البائعة للمدير. هذا النوع من المديرين يكون في مكان الخلل فورا وفي ظرف ثلاث ثوان يحل الاشكال، وتراه يحمل الهاتف في يد ومفك البراغي في اليد الأخرى.. وما ان تنفرج الأمور حتى يتنفس الزبون الصعداء وترتسم ابتسامة عريضة على وجهه.
يوجد مسؤولون يتميزون باللباقة أؤكد لكم ذلك، لقد التقيتهم وعملت معهم.
المدير الذي لا يعجبه شيء
تأكدوا أن هناك مديرين لا يطاقون لدرجة أنهم لا يلقون التحية لا على الموظفين ولا غيرهم، وتتعرف البائعة أكثر فأكثر على سلوكياتهم بعد انتهاء الدوام وبدء عملية الحساب أو عند تعطل ماكينة الكاشير، حيث تفاجأ بقول المدير: لا استطيع ان افعل لك شيئا «أو هذه الآلات تثير أعصابي وأما البائعات فلسن قادرات على المحافظة عليها».
مدير ينسى حقوق العاملين
هذا المدير لا يفكر إلا في مساره المهني وفي تحقيق اهدافه الشخصية، وينسى أن لهؤلاء الموظفين الذين يعملون تحت مسؤوليته، حقوقا، وأما سلاحه، فطريقة اتصاله التي تعتمد على الأوامر التي تعلق في كل مكان من المتجر.
وإذا ما لمح هذا المدير البائعة وهي تحدث مندوب المستخدمين، فيسألها عن الموضوع، ثوان فقط فيما بعد، مستفسرا، عما إذا كان لديها مشكل مع الإدارة.
وإذا ما أرادت البائعة تغيير دوامها من أجل موعد شخصي، فإنها مجبرة على العمل لساعات إضافية ومن دون مقابل.
واذا سمع هذا المدير احدهم وهو يتذمر من قرار اتخذه، يسارع إلى تحذيره قائلاً «الرئيس هنا، هو أنا».
هل حفظتم الدرس، وان لم تحفظوه، فحذار من العقاب، ذلك ان المفاجأة لن تتأخر، كما لن يتأخر برنامجكم الشهري الذي يتضمن اسبوعا مميز التوقيت هو العقاب الذي فضله المدير والذي يمكن ان يقرر تغيير وظيفتكم.
مدير «هدفه الابتسامة»
يعتمد هذا المدير في قراراته على الأحكام التي يطلقها الزبائن، واما أهدافه فتتلخص في واحد هو ارضاء الزبون، لكنه يحاول تجسيد هذا الهدف بفرض الابتسامة العريضة على البائعات، انه الرئيس، ولا مفر من قراراته ولكنه نوع نادر من المديرين، ذلك انه لا يتوانى عن دعم الموظفين، فاذا ما عملتم مع هذا النوع فشدوا عليه بالنواجذ.
السير المتحرك: صديق أم عدو؟
السير المتحرك هو عنصر من العناصر التي يحتويها الكاشير، وأكثر من ذلك فهو أول عنصر يتصل بالزبون، وللكثيرين قصص طريفة معه، تختلف بالطبع بحسب نوع الزبون:
يهتز السير المتحرك فيقع الكثير من الكوارث، كأن تنقلب علبة البيض فيتكسر بعضها أو تنكسر زجاجة العصير فيتلطخ سروال الزبون، الذي يفرغ عربته وكأنه يفرغ سلة مهملات.
يتطلب هذا الموقف حضور فريق التنظيف، ولكن على البائعة ان تلتزم الصمت أمام هذا النوع من الزبائن وألا تبتسم على الخصوص.
هناك نوع من الزبائن، يمر أمام الكاشير وتفكيره منشغل بمكالمته الهاتفية، غير عابئ بالمحيطين به وعلى الخصوص البائعة، التي تراها تحاول مساعدته في جمع الباقي الذي تناثرت قطعه النقدية هنا وهناك.
غير ان هذا النوع من الزبائن يسقط ضحية السير المتحرك، فالسير المتحرك هذه المرة ابتلع بطاقة الزبون، بعد ان نسيها فوقه، وكان مهتما بمكالمته الهاتفية، وهو ما يجبره على الانتظار لمدة عشرين دقيقة على الأقل لاستعادة بطاقته.
وللأطفال أيضاً قصص مع السير المتحرك، ذلك انهم يظنونه لعبة، لكنه يتحول إلى وحش لادغ بسبب الآلام التي يسببها اذا ما تم لمسه بطريقة خاطئة.
واما مع الزبون الهادئ، الذي يجد الوقت الكافي للتعليق على كل شيء، فلكم ان تتصوروا الموقف؟
هذا الزبون يضع الغرض تلو الغرض وبهدوء تام، غير انه يفاجأ بسرعة السير المتحرك وهي تتزايد، محدثا صوتا مزعجا جدا، لا ينساه لساعات من شدة قوته.
وفي أحايين أخرى يتوقف السير المتحرك ليضع البائعة في حرج كبير مع الزبائن.
كيف يخبئون ثرواتهم؟
تثير أجساد بعض الزبائن البائعة جنسيا، لدرجة انها تتصور أصحابها عراة فتحلم بأنها تدلك أرجل هذا أو تلاعب ذاك، وهناك أجساد لا تعني لها شيئا فتمر امامها من دون ان تحرك فيها شيئا.
لكن كل هذه الأجساد تتقاطع في نقطة مشتركة واحدة، هي أن جميع أصحابها يتخوفون من ان تسرق منهم المبالغ المالية التي يحملونها معهم.
عند الدفع، تلاحظ البائعة العديد من الأمور عن قرب ومنها:
صدر السيدة ريمون، الذي لا يبدو له شكل واضح وحمالة صدرها الرمادية - وكانت بيضاء في وقت سابق ـ وقد خبأت فيها السيدة اوراقها النقدية وقارورة عطر.
- الأرجل الرقيقة للسيد بيزو والجوارب المثقوبة التي ما ان اخرج منها ورقة من فئة 50 يورو، حتى عطرت المكان برائحة رجلية النتنة.
- البطن المنتفخة للسيد فانسونتي وذراعيه القصيرتين وفانيلته الصوفية، التي ما ان يمد يده تحتها ليأخذ اوراقه النقدية من جيب قميصه، حتى تكتشف البائعة ومن حولها بان الرجل لم يستحم امس وامس الأول ايضا وربما منذ مدة.
- في هذا الموقف لا ترى البائعة شيئا وانما تستمع الى السيدة جوردن، التي تقول «انتظري لا املك الكثير من المال، سأذهب الى الحمام»، بعد دقائق تأتي السيدة وبيدها مجموعة من الاوراق النقدية، لن اقول لكم شيئا آخر، لكن لكم ان تتصورا اين كانت السيدة تخبئ نقودها؟
تكتفي البائعة بأن تأخذ الاوراق بأطراف اصابعها فهي تعلم بالتأكيد ان لا رائحة للاوراق النقدية.
أنا من يدفع
دفع فاتورة المشتريات واجب على الزبون، غير ان هناك نوعا من الزبائن يتشاجرون من اجل الدفع وهذا موقف رصدته على سبيل المثال.
وصلت صديقتان الى الكاشير واحداهما تحمل قرصا مضغوطا.
البائعة: 19،99 يورو من فضلك.
اخرجت كل واحدة بطاقتها البنكية.
الصديقة الأولى: اتركيني ادفع.
الصديقة الثانية: لا، أنا من يدفع.
الأولى: أمس، دعوتني الى المطعم.
الثانية: نعم، لكن الاسبوع الاخير، انت من دفع.
الاولى: نعم، ولكن دفعت تذكرتي لما ذهبنا للمسرح.
الثانية: كان ذلك بمناسبة عيد ميلادك، وهذا لا يحسب
الأولى: لقد اهديتني قرصا مضغوطا.
الثانية: نعم، ولكني وعدتك به منذ مدة.
الأولى: ليس حقيقيا، أنا من وعدتك بهذه الهدية.
الثانية: ليس مهما، لكنك دعوتني السنة الماضية كثيرا لتناول الغذاء في بيتك.
بدأت البائعة تعبر عن تذمرها، لكن لم ينته الامر عنه هذا الحد، لقد استغلت الصديقة الاولى عدم انتباه صديقتها ووضعت بطاقتها البنكية على الجهاز، غير ان الصديقة الثانية وما ان لمحت الامر حتى اخذت البطاقة، لتسقط منها، فتتناولها دون ان تجد الوقت الكافي لوضع بطاقتها على الجهاز.
مسكت الصديقة الثانية البطاقة ووضعتها ما اثار الصديقة الاولى التي حاولت اطفاء الجهاز، الذي سقط ارضا، وعلى الرغم من ذلك لم ينته الامر بعد.
اغتنمت الصديقة الثانية فرصة ما يحصل وسلمت البائعة ورقة نقدية من فئة 20 يورو، لقد كانت الصديقة الاولى مستعدة لان تخطف الورقة وتسترجعها من البائعة.
البائعة: اذا ما اردتما تسوية حساباتكما، اشكركما جزيل الشكر ان قمتما بالعملية بعيدا عن هنا.
انفجرت الفتاتان ضحكا، بعد ان تركت الصديقة الاولى الصديقة الثانية، تدفع.
هذه القصة القصيرة تكشف عن واحدة من متاعب البائعة التي تواجهها كلما جلست امام الكاشير.
كلمات الأطفال
نظرة الاطفال للعالم الخارجي مليئة بالكثير من الاستفسارات والكثير من المشاعر، التي تشدكم اليهم كلما استمعتم اليهم، ولي العديد من القصص ومنها:
فوجئت ذات مرة بالصغير ريتشارد وعمره سبع سنوات، يسألني بعد ان لاحظ بإمعان الكاشير، لقد سألني عن مكان سريري؟
واما الصغير نيكولا (9 سنوات)، فقال لي لما اعطيت امه الباقي: اتعطيني قليلا من القطع النقدية؟
وأما جوليين (6 سنوات) فقالت لي: انت في سجن؟ لان الكاشير يشبه قفص ارانب اكثر من كاشير في متجر.
واما الصغيرة روز (5 سنوات): لا تملك امي المال الكافي لدفع فاتورة كل الاغراض، ولن تستطيع سوى ان تمنحك شيكا، وذلك لان الزبون السابق دفع نقدا والوالدة شرحت لابنتها بأنها لا تملك السيولة.
كل هذه المواقف بريئة وكثيرا ما ترسم الابتسامة على وجه البائعة، لكن في المقابل يستغل بعض الاباء الوضع ليخيفوا اولادهم بالبائعة، وهذه مواقف تؤكد ذلك.
في احدى المرات، سمعت سيدة تحذر ابنتها وهي تشير بإصبعها نحوي «أترين عزيزتي، ان لم تجتهدي في المدرسة، ستصبحين بائعة مثل هذه السيدة» ولا مجال بالطبع لاشرح بأني فضلت هذه المهنة حتى لا ابقى بطالة وكنت طالبة لامعة واجتزت الثانوية العامة ودخلت الجامعة لمدة خمس سنوات.
وعليه، فلا تتفاجأوا اذا ما رأيتم اطفالا يستهزئون بالبائعات، لكني اقول: شكر لكم ايها الاولياء، لانكم تستعملوننا كفزاعات لتربية اولادكم.
الحلقة المقبلة: آخر يوم.. كبائعة
أنّا سام
تاعب بائعة (5)
آخر يوم في حياة أناّ كبائعة النساء قادرات على أن يكن متسلطات وعنيفات أكثر
تاليف: أنّا سام
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
نتردد بشكل مستمر على الجمعيات التعاونية ومراكز التسوق، ونتعامل بصفة دورية كذلك مع الباعة، ولكن من المؤكد أن لا أحد فينا تنبه إلى معاناة من يقفون وراء الكاشير، سواء مع الزبائن وسلوكياتهم أو مع الوظيفة وما تتطلبه من جهد.
لكم أن تتصوروا ما يمكن أن تواجه البائعة في اليوم الواحد، وما يمكن أن تسمع وما هي مجبرة على فعله وقوله كل مرة، إنها تواجه عالما متشعب الاهتمامات ومتنوع الأفكار، عالما يجمع بين أطيافه الفقير والغني، الطيب والشرير، الإنساني وغير الإنساني.
اسمها أَنّا شابة فرنسية يبلغ عمرها 28 سنة، حاصلة على شهادة جامعية في الأدب الفرنسي، غير أنها بدأت حياتها كبائعة في أحد المتاجر في فرنسا، لم تسمه.
تدعونا أنا من خلال مذكراتها التي تنشرها «القبس» على حلقات، الى التعرف عن كثب على معاناة البائعة وبعض تفاصيل التسوق وما يحصل بين الزبائن وهم ينتظرون دفع ثمن مقتنياتهم، وما يدور بينهم وبين البائعة من أحاديث ممتعة وشائقة وغريبة أيضا تكشفها أنّا، التي يحز في نفسها أن تعاملها بعض الزبونات كفزاعة تُخوّ.فن بها بناتهن، حينما يتوجهن إليهن بقولهن «إن لم تجتهدن في المدرسة، ستصبحن بائعات مثل هذه السيدة، تزنَّ وتغلّ.فن ووووو».
يمكن أن تقولوا إنه لا شيء يحصل في حياة البائعة ويومياتها، ويمكن ألا تصدقوا بأنها تتعرض للكثير من المضايقات والشتائم أحيانا.
أمسكوا عربتكم، سنتابع أنّا إلى غاية الكاشير، فهذه الإنسانة التي نسيتم أن تروها أو تلحظوا تواجدها، رأتكم جيدا ولاحظت تصرفاتكم منذ دخولكم المتجر.
الاولاد ثرثارون أكثر من البنات
لا نتوقف عن تكرار العديد من الجمل يوميا كـ:
- الفتيات الصغيرات أذكى من الذكور الصغار وأحسن منهم على مستوى الدراسة.
- الأرقام القياسية التي تحققها البطلات الرياضيات تدعو إلى الانبهار أكثر من الأرقام التي يحرزها الرجال.
- النساء قادرات على أن يكن متسلطات وعصبيات وعنيفات أكثر من الرجال.
- الأولاد جميلون أيضا وحساسون ولبقون وثرثارون أكثر من البنات.
ولكن لم نستمر في السماح بـ:
- رؤية العديد من البائعات أمام الكاشير كل صباح؟
- توجيه الرجال بطريقة آلية بدل البنات، إلى العمل في الأجنحة لترتيب السلع؟
- طغيان مسمى البائعة في حياة الناس بدل البائع؟
الأمر حقيقي، لكني احلم بيوم يمد فيه الرؤساء والزبائن أيديهم إلى البائعة، من حقي أن احلم، أليس كذلك؟!
أقل من 10 سلع
تشعر البائعة بغبطة كبيرة، إذا ما وجهت إلى الكاشير المخصص للزبائن الذين يقتنون اقل من عشرة أغراض، لكن لاحظوا ما يحصل على مستوى هذا الكاشير، الذي تصبح فيه العشرة مساوية للعشرين في منطق الزبائن.
البائعة: صباح الخير سيدي، عندك اقل من 10 أغراض ؟
الزبون: بالطبع.
عدد الأغراض الموضوعة على السير المتحرك هو 20.
البائعة: أشكرك إن تفضلت إلى الكاشير المحاذي.
الزبون :كسولة
10=11
البائعة: صباح الخير، عندك اقل من عشرة أغراض ؟
الزبون: أوه 1 او 2 او 11، الأمر سيان
البائعة: 11 ليست هي 10
الزبون: لن تعملي لي قصة طويلة وعريضة من اجل غرض إضافي.
البائعة: 10 هي عشرة، وان أردت ادفع على مرحلتين أو تخلى عن الغرض رقم 11.
الزبون: أنت جرذ
10 =5 و10
البائعة: صباح الخير، عندك اقل من عشرة أغراض ؟
الزبون: عندي أربعون غرضا لكني سأدفع على أربع مرات.
البائعة: فكرة جيدة، لم تخطر على بالي من قبل.
10=10*10
البائعة: صباح الخير، ألديك أقل من عشرة أغراض؟
الزبون: لا، 100، ولكن عندي عشرة أصناف، وأخذت من كل صنف عشرة.
البائعة: اوكي اذن.
في الكاشير العادي تتعرض البائعة للشتائم أو التحرش كما تواجه زبائن من مختلف الأنواع والأشكال، غير أنها ترتاح كثيرا إذا ما اشتغلت في الكاشير المخصص للزبائن الذي يقتنون اقل من عشرة اصناف.
الأولوية.. لقد قلت أولوية
تُخصص المتاجر كاشيرا خاصا لذوي الاحتياجات الخاصة والنساء الحوامل والمتقدمين في السن، بالإضافة إلى الأطفال الصغار. تذكر هذه القائمة ضروري، لان عليكم أن تحضروا أنفسكم للتعرف على قائمة أخرى من الزبائن الذين يجب أن تمنح لهم الأولوية في الكاشير وهم:
ـ الزبون الذي يود الذهاب بسرعة قصوى إلى الحمام.
ـ الزبون الذي استمر واقفا منذ الساعة الخامسة صباحا.
ـ الزبونة الحامل وحملها لم يمض عليه سوى ثلاثة اشهر.
ـ الزوجان اللذان يبدآ برنامجهما المفضل بعد خمس دقائق.
ـ الزبون الذي يعاني الانفلونزا.
ـ الزبونة التي ينتظرها تحضير مائدة العشاء لثمانية أفراد دعتهم.
ـ الأب الذي يتوجب عليه الذهاب إلى الروضة، لإعادة ابنه إلى البيت.
ـ الآنسة المتأخرة عن دروسها.
ـ الزبون الذي لا يطيق الطابور.
وعلى البائعة أن تقنع هؤلاء الزبائن بضرورة ترك المكان، إذا ما كان هناك زبون يستحق فعلا أن تمنح له الأولوية، وهناك من يقبل بصدر رحب، وآخرون يبتعدون والتذمر بادٍ على وجوههم.
وعلى البائعة أن تنتظر الكثير من المواقف المحرجة في هذا النوع من الكاشير، وإليكم واحداً منها:
يصل رجلان متقدمان في السن إلى الكاشير في وقت واحد وكلاهما حالته سيئة للغاية، تُرى من يمر أولا؟ وكيف تتعامل معهما البائعة؟ وكيف تتعامل مع بقية الزبائن الذين يودون أن تمنح لهم الأولوية؟
من المؤكد أنها ستحاول الاهتمام بالوضع مع توجيه الزبائن الآخرين إلى الأماكن المخصصة لهم.
19.99 يورو.. شكراً
«بييييييب»
البائعة: من فضلك، 9.99 يورو.
يمنح الزبون البائعة ورقة نقدية من فئة 10 يورو، فترجع له الباقي ممثلا في 1سنتيم، وتصفق طويلا لمن اخترعوا هذه الأسعار الذكية والماكرة.
9.99 يورو عوض 10 يورو.
19.99 يورو عوض 20 يورو.
99.99 يورو عوض 100يورو.
وتستغل المتاجر هذه الأسعار للترويج لسلعها، وعادة ما يسمع المستهلكون هذه العبارة:
«إنها صفقة رائعة، لا تترددوا لحظة واحدة في الشراء، ليست الحياة غالية».
وتجيب البائعة حوالي 50 مرة في اليوم عن الكثير من استفسارات وأسئلة الزبائن بخصوص هذه الأسعار!
فهذا زبون يقول: 19.99 يورو؟ بإمكانك أن تقولي 20!
البائعة: أوه، لا، وظيفتي هي أن أقول لك المبلغ الذي يتوجب عليك دفعه بالضبط.
الزبون: أليس بإمكانك أن تعطيني أسعارا كاملة من دون أرقام عشرية؟!
البائعة: لست أنا المسؤولة، عليك الاتصال بإدارتي.
الزبون: احتفظي بالباقي.
البائعة: سنتيم واحد، شكراً، لكن ليس من حقنا قبول الإكراميات أكانت قيمتها كبيرة أو بسيطة جداً.
الزبون: سئمت من القطع النقدية الصغيرة
البائعة: ضعها إلى جنب.
الزبون: ينقص سنتيم واحد ،هل يمكنك إهدائي أي شيء؟
البائعة: آسفة أود ذلك، لكنني لا استطيع... نعم انه تناقض.
تقول آخر الأخبار ان بنك فرنسا سينهي التعامل بالقطع النقدية الصغيرة، لا تقلقوا إذن، قريبا ستعمد المتاجر إلى جبر الأسعار وعدم استعمال أرقام عشرية.
عندما يسيل الدم
تظن البائعة على الرغم من الشتائم التي تتعرض لها بسبب وظيفتها، أنها تشتغل في مكان متحضر، لكن ستكتشفون ان هذا المركز التجاري ليس سوى صورة طبق الأصل عن المجتمع بكل فئاته وسلوكياته، ويمكن أن تندلع فيه شجارات واشتباكات بالأيدي ،تثير الكثير من الفضوليين، الذين يتلذذ بعضهم بإشعال فتيل الشجار ثانية بتعليقاتهم، خصوصا اذا ما نزف احد المتشاجرين.
لا احد يستطيع أن يعرف من الضحية ومن المذنب في شجارات كثيرا ما تندلع بين مجموعات وسط العديد من التابعين الذين لا يتدخل احد منهم، تاركين حلبة الصراع للمتصارعين، في صورة تشبه ما يحصل أثناء حوادث السيارات على الطرق السريعة، حيث لا يجرؤ احد على لمس المصابين إلا بعد حضور الإسعاف والشرطة.
أيها المستهلكون...جاء يوم التنزيلات
يعد يوم التنزيلات يوما مهما بالنسبة للمستهلكين الذي يتم إخطارهم قبل ايام، فيتوافدون إلى المتاجر وكأنهم ذاهبون إلى حرب شعواء، ذلك أن اجنحة المتجر تنقلب كلها رأسا على عقب بعد أن قضى العمال ساعات وساعات في ترتيبها وتنسيقها لتظهر في أبهى حلة.
وتدركون ذلك في جناح الألبسة، الذي يظهر وكأن الغزاة قد عاثوا فيه فسادا.
على البائعة أن تحضر نفسها جيدا لمواقف يوم التنزيلات ،ذلك أنها خاصة وخاصة جدا.
الزبونة: لا يوجد السعر عليه، لكنه 1 يورو.
البائعة: سأستدعي أحدهم للتأكد من السعر.
الزبونة: لكن لماذا تضيعين لي وقتي؟أقول لك إن سعره هو 1 يورو.
يصل موظف الجناح حاملا السعر الحقيقي: 15 يورو.
ليس هذا الموقف الوحيد الذي تعرضت له، هناك الكثير والكثير، ففي اليوم الأول من التنزيلات تكتشف البائعة الطبيعة الحقيقية لمستهلكي القرن الواحد والعشرين، هو يوم استثنائي ،تعيشه البائعة ولو مرة واحدة في حياتها.
أعياد الميلاد
تبدأ التنزيلات في هذه الفترة في الرابع والعشرين من ديسمبر، حيث تكثر المبيعات ويرتفع عدد الزبائن ،فتزيد المشتريات وتفرغ أجنحة المحلات.
تبدأ المعركة في الصبيحة، حيث ينتظر العديد من الزبائن أن تفتح المحلات أبوابها في حدود الساعة الثامنة والنصف، لكن الغريب أنهم ينهشون المحل نهشا، فتراهم يأخذون على سبيل المثال 36 لعبة من نوع واحد ومنهم من يختارون الالعاب الكبيرة الحجم التي لايقل سعرها عن 5 يورو، فيما يتوجه آخرون لشراء الديك الرومي والسلمون والمحار وحلوى عيد الميلاد.
وهناك من الزبائن من يصلون قبل ثلاث دقائق فقط من موعد إغلاق المتجر، وتراهم لم يقرروا بعد إلى أي جناح يذهبون للتسوق مع ان الاضواء بدأت تخفت معلنة نهاية الدوام.
أما على مستوى الكاشير فالطابور طويل وعريض وعلى البائعة أن تحتفظ بابتسامتها العريضة مهما رأت أو سمعت من الزبائن.
لقد ارتفعت الأسعار كثيرا هذه الأيام،ومن المؤكد أن السبب يعود إلى الزبائن الذين تثير لهفتهم شهية أصحاب المتاجر فيعمدون إلى رفع الأسعار خلال المناسبات والأعياد.
على البائعة خلال أعياد الميلاد ألا تنسى أن تقول للزبائن «نويل سعيد» وقد تكرر الجملة أكثر من 500 مرة في اليوم.
تقفل المحلات ليلة رأس السنة على الساعة السابعة مساء بينما تقفل أيام التنزيلات على الساعة العاشرة ليلا،وهو ما يرهق البائعة التي لا تسلم من الزبائن،حتى مع نهاية دوامها وهذا موقف آخر.
حاولت إحدىالنساء من الزبائن أن تدخل المتجر وهي تصرخ بشدة «اتركوني ادخل لشراء هدية».
أجابها احد رجال الأمن «المتجر مغلق سيدتي.
ماذا؟ هذا غير ممكن، لا استطيع أن اذهب إلى الحفلة هذا المساء،بيدين فارغتين.
يسمح للبائعة في مثل هذه الظروف بالضحك لكن من وراء قناع وبعيدا عن الأنظار،ولكن عند الحاجة وفي ظروف أخرى قد يتملك البائعة ضحك عصبي،يصعب توقيفه إلا بعد مرور بضع دقائق.
قصص بلجيكية
سئمتم من المحلات الفرنسية وتودون تغيير الجو والتسوق في محلات بلجيكية؟
الأمر مفهوم، وقد حاولت أن أقوم بالتجربة،لكني اكتشفت أن مدير المتجر الفرنسي هو نفسه مدير المتجر البلجيكي، والبائعة الفرنسية هي البائعة البلجيكية نفسها، واما الزبون البلجيكي فهو الزبون الفرنسي كذلك، واما الاختلاف فهو بسيط جدا ويتعلق بوجود أصناف عديدة من الحلويات.
إذا ما ذهبتم إلى بلجيكا،عليكم ان تحضروا انفسكم لمثل هذا الموقف:
البائعة الفرنسية: 9،99 يورو من فضلك سيدي.
الزبونة البلجيكية :بلكنة بلجيكية : جكو..غون با كاس فو... دي...
البائعة الفرنسية: آسفة؟ اسمحي لي لم افهم شيئا،أيمكن ان تعيدي؟
الزبونة البلجيكية: أي،كاس فو أكون ا، لين.
البائعة الفرنسية :آسفة،لم افهم شيئا مما تقولين،من فضلك 9.99 يورو.
قرر احد الزبائن التدخل
الزبون البلجيكي للزبونة البلجيكية بلكنة بلجيكية: فو دي از انت،انت نوف..روز.
الزبونة البلجيكية :اه،جيكو بري.
الزبون البلجيكي للبائعة الفرنسية، وبطلاقة :لقد فهمت،لقد ترجمت لها ما تقولين.
البائعة الفرنسية :شكرا، لها لكنة خاصة جدا.
الزبونة البلجيكية للزبون البلجيكي: ال أي اس ايسي، ال ا اكري سانت.
الزبون البلجيكي للبائعة الفرنسية :تقول لي انك لست من هنا وان لكنتك خاصة جدا.
وهذا موقف آخر، ذلك أن المواقف لا تنتهي هنا.
البائعة الفرنسية وبلكنة السكان الأصليين في بلجيكا : سابتونت يورو، نونانت سانك.
الزبون الفرنسي ألا تستطيعين التحدث باللغة الفرنسية؟
وتصاب البائعة بخيبة أمل لأنها لم تصب الهدف هذه المرة،خصوصا بعد أن أتقنت اللهجة.
آخر الدقائق
انه يوم السبت 3 يناير، لا استطيع أن اصدق بأنه آخر يوم لي هنا، كل هذه الحركات والكلمات التي كنت ارددها آلاف المرات يوميا، سأرددها اليوم لآخر مرة، لن أعود الى هذه الوظيفة، أود أن اجلس هنيهة للتفكير، لكن علي أن اذهب لأعمل، انه آخر يوم لي في الشغل.
وصلت الى الكاشير المركزي، وحييت الجميع «يومك سعيد»، لقد فوجئت بتحيتهم هذه الصبيحة، على غير عادتهم. انها آخر مرة سأرى فيها جدول توزيع البائعات، لأعرف مكاني، سأشتغل اليوم في الكاشير رقم 12 حتى الساعة الثالثة وفي الكاشير رقم 13 الى غاية الساعة التاسعة ليلا.
كالعادة، تفقدت ما هو موجود في الكاشير وأخذت علبة مناديل ورقية، حتى يستعملها الزبائن عند الحاجة، ثم غادرت الكاشير المركزي.
لم تبق لي سوى ساعات قليلة في هذه المؤسسة، حتى الزبائن الذين تعودت عليهم منذ مدة، لن ألتقيهم أبدا.
هل هو الندم؟
لا، يجب علي الا اكبر الموضوع، ليس الندم أبدا.
انها الساعة الحادية عشرة، توقيت يكثر فيه تردد الزبائن على المتجر، أخذت كامل استعداداتي وانطلقت في عملي.
ما ان بدأت حتى فاجأني احد الزبائن بسؤاله :هل أنت مفتوحة؟
لم أرد لأول مرة في حياتي، لقد كان هذا الزبون واحدا من بين آخر 300 زبون مروا علي لآخر مرة في حياتي، وكان بعضهم غريبي الأطوار ومنهم من يحمل هاتفا محمولا ومنهم السيد بيزو صاحب الرجل الرقيقة والجوارب المثقوبة، والزبونة التي تبحث فقط عن أفضل فرص للشراء، والزبون المنزعج من ورق الحمام، والزبون الذي يسألني عن وجهة الحمام.
في حدود الساعة التاسعة الا الربع، تم اخطار الزبائن باقتراب موعد اغلاق المتجر.
عندما سمعت مكبر الصوت، لم اصدق بان اليوم انتهى بسرعة كبيرة جدا، وما ان دقت الساعة التاسعة الا خمس دقائق، حتى كنت أمام آخر زبون.
انتهى اليوم، نظفت بحذر شديد السير المتحرك وقلت له «سأشتاق اليك كثيرا، شكرا جزيلا لأنك غالبا ما ساعدتني».
عددت المبلغ الموجود في الكاشير ورحت أفكر فيمن سيخلفني، ألقيت آخر نظرة على الكاشير واتجهت نحو الكاشير المركزي.
كان من الصعب علي أن أتصور باني اذا ما رجعت المرة المقبلة الى هذا المكان، سأعود كزبونة فقط مثل غيري من الزبائن.
انتهى كل شيء. سلمت بطاقتي المعدنية والكاشير، وجمعت أغراضي للمغادرة، لكنهم لم يهدوني شيئا اثناء وداعي، لا قارورة شامبانيا ولا عصير برتقال ولا حتى كيس شيبس.
يجب ألا تحلمي، لست موثقة وانما بائعة فقط.
سلمت علي صديقاتي، حينها شعرت بحاجتي الى وجودهن في مثل هذا الموقف.
انتهى كل شيء بالنسبة لي كبائعة هنا، لا أتصور أني أمضيت ثماني سنوات في العمل في هذه المهنة.
سألت نفسي هل تودين العمل مجددا كبائعة،وهل هي الوظيفة التي تريدين البقاء فيها طول حياتك؟لا لا اشك في ذلك.
ولكن ليس هناك خيار بالنسبة لأخريات، حظا سعيدا.. لكن ولكن أنصحكم بأن تكتبوا مذكراتكم مثلي.
(انتهى)
لعالم في نظرك. كوشنير: أن تكون نصف يهودي يعني أنك يهودي مرتين
تأليف بيار بيون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يعود الصحافي الفرنسي بيار بيون في كتابه الجديد «العالم بنظر ك.» إلى العديد من القضايا المثيرة في حياة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي، والرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا بحسب استطلاعات الرأي.
فوزير الخارجية الفرنسي يواجه اليوم تحديات كبيرة، لعل أهمها إنقاذ صورة «الفارس الأبيض»، التي صنعت نجاحاته الإعلامية، ومكنته من الحفاظ على موقعه السياسي فترة طويلة.
يهدف كتاب بيار بيون، الذي وُصف في فرنسا بـ «الكتاب الصدمة»، إلى إسقاط الصورة التي رسمها الفرنسيون لكوشنير في مخيلاتهم، وربما إسقاطه من الحكومة الفرنسية خلال التعديل الوزاري المقبل، حيث يصفه الكاتب بالفرنسي السيئ، المتأثر بالنموذج الانغلوسكسوني، ذلك الذي يقف عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة»، بينما لا يفعل الشيء نفسه عند عزف النشيد الوطني الفرنسي لامارسييز. كما يشير إلى أن يهودية كوشنير المزدوجة هي المحرك الرئيسي لكل أفعاله ومواقفه.
يرى بيار بيون ان كوشنير شارك في مؤامرة أميركية استهدفت رواندا والبوسنة وفلسطين وكوسوفو، مؤامرة كان هدفها الرئيسي تقسيم وتفتيت الأقاليم والدول. كما يورد في مؤلفه الكثير من الحقائق المثيرة، بطلها كوشنير، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. فكوشنير متهم باستغلال منصبه كوزير للخارجية، للضغط على حكومات افريقية مقابل الحصول على التقارير المتأخرة التي أنجزها حول الأنظمة الصحية لهذه البلدان.
كما يعود بيار بيون في الكتاب الذي ترجمته «القبس» لقرائها، إلى قضية تعيين زوجة وزير الخارجية الفرنسية، في منصب مديرة الإعلام الخارجي- المسموع والمرئي- في خضم صراع المصالح، والتي يقول بيون انها سرحت العديد من الصحافيين الذين انتقدوا زوجها سواء في تلفزيون فرنسا 24 أو إذاعة فرنسا الدولية.
تقول بعض وسائل الإعلام الفرنسية ان مقربين من قصر الاليزيه ومستشارين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من زود بيير بيون بالوثائق والفواتير التي استند إليها في اتهاماته، إلا أن ذلك لم يحل دون دعم الرئيس الفرنسي له.
فساركوزي، وخلال آخر ظهور تلفزيوني له، جدد ثقته في وزير خارجيته الاشتراكي، الذي وقف إلى جانب سيغولين روايال خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أكد ساركوزي انه لن يتخلى عن الرجل لمجرد كتابات صحفية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: هل يصمد وزير الخارجية؟ وهل يكفي هذا الكتاب لإسقاطه؟
لقد نفى كوشنير كل الاتهامات التي كالها له الكتاب. وصرح في حوار مع مجلة لونوفيل اوبزرفاتور بأن العديد من الفرضيات تقف وراء هذه الحملة التي تستهدفه، أهمها غيرة بعض الدوائر من نجاحاته، سواء من داخل الحكومة أو خارجها، من اليمين أو اليسار. إلا أن وسائل إعلام أخرى أكدت أن الشبكات الفرنسية المؤثرة في إفريقيا هي التي تريد سحب البساط من تحت كوشنير، مهما كانت النهاية التي سيؤول إليها وزير الخارجية.
لا احد بإمكانه أن يسيء لأيقونة، وبرنار كوشنير أصبح أيقونة منذ مدة طويلة، ذلك أن الفرنسيين واستطلاعات الرأي العام يعتبرونه الشخصية الأكثر شعبية. ولا أراه كسياسي عادي وإنما كطبيب فرنسي بارع، على الرغم من انه خلع مئزره الأبيض منذ سنوات طويلة.
انه بطل العصر، الذي لا يتوانى ولا يتأخر عن مد يد العون للضحايا في كل بقعة من بقاع العالم. إنها الصورة التي يرسمها الجمهور عن برنار كوشنير: الرجل السياسي الفرنسي الوحيد، الذي يستطيع أن يسوّق سيرته الذاتية، وكاتب سيرته الذاتية ميشال انطوان بورنيي، على بلاتوهات التلفزيون من دون أن يثير موجة من ردود الفعل المستنكرة من قبل وسائل الإعلام والطبقة السياسية.
لكوشنير جاذبية رهيبة تجاه الكاميرات والصحافيين، على الأقل أولئك الذين يحبونه ويصفقون له. باختصار انه إنسان نرجسي، على عكسي أنا تماما. فكوشنير لا يستطيع أن يتوافق مع القيم التي زرعتها بي أمي عندما كنت صغيرا. كانت أمي تطلب مني باستمرار ألا أثير الانتباه وأن أبقى في مكاني.
إنها من دون شك الذكريات التي احتفظ بها عن تربيتي، هذه الذكريات هي ما جعلني اشعر بالانزعاج عندما قرر كوشنير (أواخر عام 1992) مساعدة عمال في مقديشو الصومالية كانوا ينقلون أكياس الأرز. وقتئذ بادر كوشنير إلى حمل ثلاثة أكياس على كتفيه، غير أنني كنت أجهل انه أعاد اللقطة أمام الكاميرات ثلاث مرات حتى يبدو في أبهى صوره على شاشات القنوات التلفزيونية. كما أنني صدمت كثيرا من دعمه لحربي العراق في عامي 1991 و2003.
غير أن الذين شرفوني بقراءة كتبي- ومنها كتاب "مجهول الاليزيه" الذي الفته عن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (ترجمته القبس ونشرته)- يعرفون أنني لا أدافع عن احد وان ما أحسن معرفته هو البحث وأحيانا العثور على وثائق أو شهادات بإمكانها أن تدحض حقائق رسمية.
الحقيقة الرسمية المعروفة عن كوشنير هو انه رجل سلام ومحامي الضعفاء ومدافع عن حقوق الإنسان والديموقراطية، غير أن سلوكياته في أفريقيا حطمته، وما قام به هناك يحتاج إلى تقارير وتعليقات وتحاليل كثيرة.
سياسة جديدة تجاه رواندا
أصبحت القارة السمراء «حديقة سرية» بالنسبة لكوشنير منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها العمل هناك والتعامل مع اكبر الصراعات التي انفجرت في العالم آنذاك. وفي افريقيا كان كوشنير يحمل دوما كيسا، لكن هذا الكيس لم يكن يحوي دوما الأرز، وإذا ما كان به أرز فأمام الكاميرات فقط، لكن علينا ألا نستبق الأمور..
لقد اهتممت بموضوع كوشنير منذ وصوله إلى الكيدورسيه– الخارجية الفرنسية–وإطلاقه سياسة جديدة تجاه رواندا، التي خصصت لها كتابا، رجعت فيه إلى حقيقة رسمية أخرى، وهي إن الهوتو هم الجلادون والتوتسي هم الضحايا، وإن فرنسا ساعدت الهوتو على القضاء على التوتسي.
قرر كو شنير في مايو 2007، ولأول مرة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية، مد يده لرئيس دولة لم يكن فقط مسؤولا عن التضليل الإعلامي حول التراجيديا الرواندية، وإنما شخص يعتبره القضاء الفرنسي مجرم حرب، بينما يعتبره القضاء الاسباني مسؤولا عن الإبادة العرقية في رواندا.
لقد صدمت في 26 يوليو 2007، عندما علمت ان وزير الخارجية اتصل هاتفيا بالرئيس الرواندي، بول كاغام، ليبحث معه سبل إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا ورواندا. لقد صدمت لأن كوشنير بادر بطلب زيارة كاغام في كيغالي. وأنا مصدوم أكثر لان الاليزيه لم يعارض على الرغم من التحفظات التي أبدتها وزارة الدفاع. ومصدوم أيضا لان رئيس الدبلوماسية الفرنسية يأمل أن تتصالح فرنسا مع دولة بادرت إلى قطع علاقاتها معها بعد مذكرات التوقيف التي أصدرها القاضي بروكيير ضد عدد من الأشخاص الذين كانوا ينتمون إلى محيط الرئيس الرواندي.
يفترض أن يمثل الوزير الجمهورية، وان يعمل بكل طاقته على استمرارية الدولة، غير أن نضال كوشنير من اجل المصالحة مع دكتاتور كيغالي همّش وقمع كل رجال السياسة والعسكريين والقضاة، الذين وصفهم بول كاغام منذ سنوات بالمسؤولين عن الإبادة، كما وصف القاضي بروكيير بالإنسان الفارغ.
خطأ كوشنير
كتبت مقالا في صحيفة ليبيراسيون تحت عنوان «خطأ كوشنير»، غير أن استمرار الأخير في التعامل مع النظام الرواندي، الذي لم يتوان عن وصف فرنسا بأسوأ الأوصاف، جعلني أفكر في أن كتابة مقال ثان لن تشفي غليلي ولن تمنحني فرصة إفراغ كل ما في جعبتي. منذ ذلك الحين اهتممت كثيرا بشخصه، ولكن هذه المرة قررت أن أتجاوز إطار إدارته للملف الرواندي.
كوشنير الذي كافح من اجل مسمى «الفرانش دكتور»، لم يتردد في وضع الدول بثقلها على المحك لإرضاء صديقه الدكتاتور، وهو الذي قضى حياته كلها في رسم صورة الفارس الأبيض.
لقد دفعتني العديد من المواقف والسلوكيات إلى البحث في ما وراء هذه الصورة التي يسهر كوشنير على إيصالها للفرنسيين: ماذا يعني استعداده حين يعزف النشيد الوطني البريطاني ولامبالاته حين يعزف النشيد الوطني الفرنسي؟ هل هو تهريج؟ أم استفزاز؟ هل برنار فعلا رجل إنساني وكريم؟ هذه هي الصورة التي يراه فيها غالبية الفرنسيين.
قررت أن اعرف المزيد عن هذا الرجل الذي يشغل مكتب وزير الخارجية، لكنني لا املك أبدا نوايا التفصيل في مساراته السبعة، مثلما فصل فيها كاتب سيرته الذاتية أنطوان بورنيي.
لم تتطلب مني عملية جمع ملف حول الاختلافات الكائنة بين صورته، كمحبوب للفرنسيين، وحقيقته الكثير من الوقت.
الخطر الحقيقي
يمثل كوشنير بالنسبة الى فرنسا خطرا حقيقيا، ففي السابق لم يكن هذا الخطر موجودا عندما كان صاحب المئزر الأبيض سكرتيرا للدولة أو وزيرا للصحة، لكن الأمر تغير كثيرا بعد أن أصبح وزيرا للخارجية، وبالتالي على الفرنسيين أن يقلقوا كثيرا.
انه بلا شك رجل القطيعة الأول في فترة ساركوزي. فبرنار كوشنير يحلم في الحقيقة بإلغاء خمسين سنة من السياسة الخارجية الفرنسية المستقلة، فهو لم يتردد في عام 2003 في إرسال عسكريين فرنسيين إلى العراق، فكيف هي إذن نفسية هذا الطبيب الذي يدافع عن الحرب؟ مثلما تساءل ايمانويل تود في مجلة ماريان الصادرة في 18 سبتمبر 2007، حين قال: «نحن نمر بسرعة من أطباء العالم إلى عسكريين بلا حدود».
علينا أن نفهم ونتذكر جيدا كلمة «محاربين» أكثر من كلمة «السلم»، وهما الكلمتان اللتان تضمنهما عنوان كتابه «محاربو السلم»، ف»الفرانش دكتور» طالب في أول مهمة له إلى بيافرا النيجيرية، أواخر الستينات من القرن الماضي، بإرسال طائرات فورا. ورأيناه كثيرا فيما بعد يطالب بإرسال جنود فرنسيين ليحاربوا هنا وهناك، مثلما حصل في عام 1987 عندما طلب مع أندري غلوكسمان وايف مونتاند بالبدء في هجوم تدريجي على الزعيم الليبي معمر القذافي، انطلاقا من تشاد.
وأما في نوفمبر 1989، فقد فكر في إرسال فرق دولية ضد «الخمير الحمر» الذين عادوا إلى السلطة، ووافق على الهجوم على صربيا ثم دعا إلى إدارة كوسوفو مؤقتا. ومثلما نرى، لم يعمل شيئا ضد التصفية الاثنية التي استهدفت الأقلية الصربية.
وعندما اعتلى أعلى منصب في وزارة الخارجية، لم تكن المهمة العاجلة بالنسبة إليه هي التقرب من الرجل الذي اتهم الرئيس فرانسوا ميتيران بالتواطؤ في الإبادة فقط، ولكن حلمه الرئيسي كان قطع العلاقات مع عدد من الدول التي صنفها ضمن قائمة الدول الشريرة.
وعن إيران، توجه كوشنير إلى الفرنسيين بقوله «عليكم أن تنتظروا الأسوأ» وان الحرب قادمة. فكوشنير يحب الحرب ويرى نفسه جيدا في زي قائد جيش.
كوشنير وتشاد
لقد فوجئ الموظفون خلال نهاية الأسبوع الأول من شهر فبراير 2008، بعد الإعلان عن استيلاء المتمردين على نجامينا ومحاصرة الرئيس إدريس ديبي في قصر الرئاسة، بكوشنير يدير خلية أزمة في الكيدورسيه ويهاتف كلا من وزارة الدفاع والمديرية العامة للأمن الخارجي والعسكريين في تشاد ويتابع تقدم المتمردين دقيقة بدقيقة ويطرح السؤال التالي «أليس بالإمكان تفجيرهم؟».
«لنذهب إلى الحرب» أيضا في دارفور. فكوشنير مثل كثير من أصدقائه يستعمل بتعسف مصطلح «إبادة» لصبغ التدخل العسكري بصبغة الشرعية. لقد استعمل هذا المصطلح في بيافرا النيجيرية وكردستان ولبنان واريتريا والصومال وكوسوفو. وأما فيما يخص رواندا فقد وصف قرار فرانسوا ميتران بالتدخل لإيقاف الإبادة بالسياسة الخاطئة وأحيانا بالخطأ الإجرامي.
هذا التطوعي الذي يطير هنا وهناك في العالم لتخفيف آلام الناس ومعاناتهم، يتميز بصفة أخرى لا نراها. فقد يحصل أن يفقد «الفارس الأبيض» لونه الأصلي عند القادة الأفارقة.
حتى نطلع عن كثب على حجم الكوارث التي يمكن أن يقحم فيها برنار كوشنير فرنسا والفرنسيين علينا أن نعود إلى الوراء، إلى زمن «الفرانش دكتور».
تصريحات مغلوطة
فكوشنير يعود دوما إلى هذه الفترة من حياته حتى يمنح شرعية اكبر لأفعاله، ويشعر الآخر دوما، بأنه ما يزال رئيسا لمنظمة «أطباء بلا حدود» و»أطباء العالم»، مثلما صرح في القدس في 5 أكتوبر 2008 بأن المنظمات الدولية غير الحكومية الفرنسية تعلمه بكل ما يحصل في قطاع غزة.
لقد اضطرت منظمة أطباء بلا حدود إلى نشر بيان يخص تصريحات كوشنير، أكدت فيه أن المعلومات مغلوطة، وان كوشنير لا علاقة له بنشاطاتها في غزة مع المدنيين الفلسطينيين. وذكرت المنظمة بأن كوشنير غادر المنظمة عام 1979.
وأما منظمة أطباء العالم، وبعد أن وصفت تصريحات كوشنير بالخاطئة والخطيرة، قررت إرجاع هبة تقدر قيمتها بـ120 ألف يورو كانت وزارة الخارجية الفرنسية منحتها إياها لدعم وتمويل العمليات الجراحية في قطاع غزة.
لم يخطر ببالي أن أفتش في طفولة برنار كوشنير ومراهقته، غير أنني اكتفي بمنح القارئ بعضا من المعلومات عن فترة شباب هذا الرجل. فبعد توجه والتزام شيوعي لم يسبق له مثيل انتقل برنار كوشنير خلال عشرين سنة الى مرحلة تكوين أدوات ضد السلطة قبل أن يندمج في منطق الدولة التي حاربها خلال العشرين سنة التالية، حيث تمكن من بناء مساره السياسي.
سلط كوشنير الضوء على حياته في حوار طويل، خص به عام 1988 الصحافي جون فرانسوا دوفال، حيث أكد يهوديته المزدوجة، عندما أشار إلى أن كونه نصف يهودي معناه انه يهودي مرتين، وكأنه يبحث عن محرك رئيسي لأفعاله.
الم يقل كوشنير لجون فرانسوا دوفال ان أسباب رضوخ اليهود تشغل باله، وأضاف «لما كنت مراهقا، انشغلت باليهود وبموت اليهود، كيف استطاعوا أن يرضخوا هكذا؟ وكنت أقول انه لا ينبغي أبدا الرضوخ أو الإذعان».
الهرمون الذكوري
يمكننا هذا التفكير والموقف من فهم التزام كوشنير ونضاله من اجل الأقليات والضحايا.
يقول كوشنير في الحوار ذاته تفسيري الكبير للعالم هو الهرمون الذكوري. فكل واحد يتصور فوزه بتحطيم الآخر وقتله، وتتعدد الأشكال من التعذيب إلى المجازر إلى ضرب زوجته أو الصراخ في وجه جاره أو إيذاء الآخرين. وكل هذا من اجل أن ننسى أننا سنموت، وكلما تفاعلنا، تصورنا أننا مهمون وخالدون».
يحب كوشنير الخطر، فهو موجود بنظره، ويزيد حينما يعدد ذكرياته في بيافرا وفي تشاد أو أفغانستان. ويقول إن الفعل هو الأهم والأكثر جدوى عند الخطر أو الشعور به.
وبعد برافيا، كان هناك الأكراد والمسيحيون اللبنانيون والاريتريون وأفراد التوتسي الرواندية ومتمردو الجنوب السوداني ثم سكان دارفور وأيضا الكوسوفيون. لقد أصبح كوشنير الناطق الرسمي باسم بعض الحروب السياسية العسكرية وأصبح يقوم بممارسات شنيعة وانتقائية لا تستند إلى تحليل منطقي وواقعي للأوضاع.
الإعلام في خدمة كوشنير
كان كوشنير دوما طرفا في عدد من القضايا الدولية وعلينا أن نعترف بان القضايا والحروب التي خاضها منذ فترة طويلة هي قضايا وحروب واشنطن. والقضايا نفسها التي يدافع عنها بعض المفكرين المتعاطفين مع الولايات المتحدة.
وتظهر جملة مصالح كوشنير جلية، حين ساند عزت بيغوفيتش في البوسنة والكوسوفيين ضد الصرب والمتمردين التوتسي في رواندا وجون غارانغ في جنوب السودان وسكان دارفور، وأيضا دعمه للتدخل الأميركي في العراق.
هذه هي نظرة كوشنير إلى العالم، إنها نظرة خطيرة، لكنها تحمل بين ثناياها قطيعة مع القواعد الأساسية للأخلاق. فعشية تعيين زوجته، كريستين اوكرانت، مديرة عامة للإعلام الخارجي- المرئي والمسموع- لفرنسا، حتى صارت تعرف باسم «صوت فرنسا»، اعترف كوشنير صراحة وبطريقة صدمت الكثيرين، بأنه مع «صراع المصالح»، وذلك عندما صرح لفرانس انتر قائلا: «سأكون أول من يعترف بصراع المصالح، لن أتدخل أبدا في الإعلام المسموع والمرئي الخارجي، أقسم بذلك».
الحلقة المقبلة : رائحة النفظ في بيافرا أسالت لعاب الفرنسيين
العالم في نظر ك. (2) رائحة النفط في بيافرا أسالت لعاب فرنسا
تأليف بيار بيون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يعود الصحافي الفرنسي بيار بيون في كتابه الجديد «العالم بنظر ك.» إلى العديد من القضايا المثيرة في حياة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي، والرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا بحسب استطلاعات الرأي.
فوزير الخارجية الفرنسي يواجه اليوم تحديات كبيرة، لعل أهمها إنقاذ صورة «الفارس الأبيض»، التي صنعت نجاحاته الإعلامية، ومكنته من الحفاظ على موقعه السياسي فترة طويلة.
يهدف كتاب بيار بيون، الذي وُصف في فرنسا بـ «الكتاب الصدمة»، إلى إسقاط الصورة التي رسمها الفرنسيون لكوشنير في مخيلاتهم، وربما إسقاطه من الحكومة الفرنسية خلال التعديل الوزاري المقبل، حيث يصفه الكاتب بالفرنسي السيئ، المتأثر بالنموذج الانغلوسكسوني، ذلك الذي يقف عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة»، بينما لا يفعل الشيء نفسه عند عزف النشيد الوطني الفرنسي لامارسييز. كما يشير إلى أن يهودية كوشنير المزدوجة هي المحرك الرئيسي لكل أفعاله ومواقفه.
يرى بيار بيون ان كوشنير شارك في مؤامرة أميركية استهدفت رواندا والبوسنة وفلسطين وكوسوفو، مؤامرة كان هدفها الرئيسي تقسيم وتفتيت الأقاليم والدول. كما يورد في مؤلفه الكثير من الحقائق المثيرة، بطلها كوشنير، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. فكوشنير متهم باستغلال منصبه كوزير للخارجية، للضغط على حكومات افريقية مقابل الحصول على التقارير المتأخرة التي أنجزها حول الأنظمة الصحية لهذه البلدان.
كما يعود بيار بيون في الكتاب الذي ترجمته «القبس» لقرائها، إلى قضية تعيين زوجة وزير الخارجية الفرنسية، في منصب مديرة الإعلام الخارجي- المسموع والمرئي- في خضم صراع المصالح، والتي يقول بيون انها سرحت العديد من الصحافيين الذين انتقدوا زوجها سواء في تلفزيون فرنسا 24 أو إذاعة فرنسا الدولية.
تقول بعض وسائل الإعلام الفرنسية ان مقربين من قصر الاليزيه ومستشارين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من زود بيير بيون بالوثائق والفواتير التي استند إليها في اتهاماته، إلا أن ذلك لم يحل دون دعم الرئيس الفرنسي له.
فساركوزي، وخلال آخر ظهور تلفزيوني له، جدد ثقته في وزير خارجيته الاشتراكي، الذي وقف إلى جانب سيغولين روايال خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أكد ساركوزي انه لن يتخلى عن الرجل لمجرد كتابات صحفية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: هل يصمد وزير الخارجية؟ وهل يكفي هذا الكتاب لإسقاطه؟
لقد نفى كوشنير كل الاتهامات التي كالها له الكتاب. وصرح في حوار مع مجلة لونوفيل اوبزرفاتور بأن العديد من الفرضيات تقف وراء هذه الحملة التي تستهدفه، أهمها غيرة بعض الدوائر من نجاحاته، سواء من داخل الحكومة أو خارجها، من اليمين أو اليسار. إلا أن وسائل إعلام أخرى أكدت أن الشبكات الفرنسية المؤثرة في إفريقيا هي التي تريد سحب البساط من تحت كوشنير.
قبل أربعين عاما، توجهت مجموعة من الأطباء الشباب، بينهم برنار كوشنير، إلى المقاطعة النيجيرية بيافرا في مهمة إنسانية، تحت لواء اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
يتحدث كوشنير عن هذه المجموعة كواحد من مؤسسيها، وهي المجموعة التي تحولت فيما بعد إلى منظمة «أطباء بلا حدود»، وكانت فكرة إنشائها ولدت في بيافرا في أكتوبر 1968.
ولكن الحقيقة غير تلك التي كتبها كوشنير، وهو ما يجعل من معرفة السياق الذي ذهب فيه وزير الخارجية الفرنسي إلى بيافرا مهما جدا، ذلك أن ما حصل سيمكننا من فهم كل ما وقع وأيضا من فهم النموذج البيافري، الذي نستطيع أن نرسمه كالأتي:
لأسباب أو أخرى تساند قوة غريبة أقلية تعاني من قمع السلطة الحاكمة، مما يدفع باتجاه الدعوة إلى القيام بعمل إنساني لفائدة الضحايا، ترافقها خطة إعلامية شاملة هدفها العلني هو «توضيح الصورة أكثر فأكثر» عن الموضوع. وأما أهدافها الرئيسية والخفية فهي «التأثير» على الرأي العام عن طريق تسويق معلومات مغلوطة حول الصراعات التي يكون فيها بالتأكيد الضحايا هم الخيرون.
وكثيرا ما يستعمل في هذه الصراعات مصطلح «إبادة»، وحتى نفهم أكثر الآلية، فمن الأفضل أن نعود إلى المصادر والفاعلين الحقيقيين.
تتحدث آن فالاييز في كتابها الضخم «أطباء بلا حدود، السيرة الذاتية» عن الكثير من النقاط في التراجيديا التي وقعت في بيافرا، حيث سلطت الضوء على القضية.
اندلاع الحرب الأهلية
نالت نيجيريا استقلالها في الأول من أكتوبر عام 1960، وهي دولة تقع في خليج غينيا، كما انها عضو في منظمة الكومنولث. في البداية انقسمت البلاد الى ثلاث مناطق، غير أن استمرار التوتر السياسي وتنامي موجة اللا استقرار دفع إلى تقسيمها إلى 12 ولاية.
سقطت نيجيريا في الأزمة تلو الأخرى بسبب الانقلابات والاغتيالات، حيث أعلن حاكم مقاطعة بيافرا، اوديمغو ايميكا اوجوكو، في 30 مايو 1967 استقلال ولايته الغنية بالبترول والتي تسكنها غالبية تنتمي إلى قبيلة ايبو. وأطلق على محافظته اسم «جمهورية بيافرا» وعاصمتها اينيغو.
لم تنتظر الحكومة المركزية في لاغوس طويلا بعد أن حرمت من ثروات المقاطعة، حيث أمرت بالهجوم على بيافرا. وبينما كانت تحتفل سان فرانسيسكو في يوليو 1967 بما سمي «صيف الحب» اندلعت حرب أهلية في هذا البلد الإفريقي.
ولم يكن إعلان اوجوكو استقلال بيافرا قضية داخلية نيجيرية، ذلك أنها لاقت دعما من الدكتاتور الاسباني فرانسيسكو فرانكو والدكتاتور البرتغالي سالازار والجنرال الفرنسي ديغول.
فالقوى الاستعمارية القديمة الثلاث، لم تتقبل الدور النيجيري على الساحة الإفريقية. فالجنرال شارل ديغول لم يكن يطيق أبدا مواقف لاغوس من التجارب النووية الفرنسية في الصحراء ابتداء من 1960.
ذهبت نيجيريا إلى حد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع باريس، مما برر تورط فرنسا في زعزعة استقرار الفدرالية النيجيرية، كما كان الاليزيه يعتبر ان العملاق الإفريقي يهدد توازن إفريقيا الغربية وعلى الخصوص المحميات الفرنسية.
الى جانب ذلك كان رئيس كوديفوار فيليكس هوفويي بوانيي يتقاسم مع الاليزيه هذه النظرة وكان يرى بان نيجيريا تحولت إلى كابوس، مما دفعه إلى التحالف مع جاك فوكار، الرجل القوي الذي يدعوه الديغوليون «السيد إفريقيا».
وبين هذين الرجلين، كانت تتخذ أهم القرارات الخاصة بإرسال مساعدات سرية إلى المنشقين في بيافرا.
رائحة النفط
لم تغب رائحة النفط أبدا عن وقوف فرنسا إلى جانب اوجوكو. فبيافرا تكتنز الذهب الأسود، ومساعدة اوجوكو تعني عرقلة شركة شال الهولندية على المدى البعيد، وتعزيز مكانة الشركة الوطنية الفرنسية ELF غير ان لاغوس مدعومة من دول أخرى مثل بريطانيا والاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة. ففي تلك الفترة من الحرب الباردة كان السوفيت والبريطانيون يحاولون السيطرة على إفريقيا بعد بعض الخطوات الخاطئة في المنطقة. فالسوفيت يوفرون السلاح والرشاشات وطائرات الميغ (خصوصا)، بينما يسهر البريطانيون على أمن ثروات بلد، هم ابرز من يستغلها وعلى الخصوص بواسطة شركتي بريتش بتروليوم ويونيليفر.
كان لفرنسا في تلك المرحلة مكانة كبيرة في مستعمراتها السابقة، كما أن شبكات التأثير الفرنسية في إفريقيا حقيقة لا يجب نكرانها.
كان جاك فوكار وراء الانشقاق في بيافرا. فهو من نظم عمليات التموين بالأسلحة وجند الأجهزة السرية، وأيضا كان هو من دفع منظمة الصليب الأحمر للذهاب إلى بيافرا. فمن دون هذا الرجل، لم تكن هناك أي فرصة لذهاب كوشنير وزملائه إلى هذه المنطقة؟
ولكن هل كان الطبيب الشاب يدرك قبل ذهابه بأنه جندي صغير في شبكات التأثير الفرنسية في إفريقيا؟
حرب بترول
قال كوشنير في حوار خص به عام 2003 آن فالييز، إنه لم يكن يعرف شيئا عن بيافرا، ما عدا أن الحرب هناك كانت «حرب بترول»، مثلما كان يردد الأغبياء الذين لم يكونوا يعرفون شيئا.
لقد بدا جليا تورط فرنسا في الأسابيع التي تلت إعلان اوجوكو الاستقلال. فصحيفة لوموند الصادرة بتاريخ 17 يوليو 1967 نشرت بيانا للسفارة الأميركية في لاغوس جاء فيه أن الجيش الفرنسي زود المتمردين بطائرة مقاتلة من نوع «بي 26»، وأنها وصلت بطريقة غير شرعية بواسطة طاقم فرنسي إلى ولاية اينوغو.
وأوضح الأميركيون أن الطائرة توقفت في لشبونة ودكار وابيجان. غير أن السلطات الفرنسية نفت كل ذلك في روايتها الرسمية وأنكرت أي تورط لباريس في بيافرا.
ومع ذلك أكدت صحيفة لوكانار اونشيني أن الأمر لا يتعلق بتزويد المتمردين بطائرة فقط مثلما جاء في بيان السفارة الأميركية، وإنما بارتباط المجموعات التي قامت بالثورة بجاك فوكار، السكرتير العام للجالية في الاليزيه.
أنهى كوشنير عام 1968 دراساته التخصصية في مجال الأمراض الباطنية في مستشفى كوشين، ولم يشارك أبدا في «حركة مايو»، التي أنشئت في السنة ذاتها، لانشغاله في الدراسة.
كان برنار كوشنير ضمن أول فريق سافر جوا إلى بيافرا يوم 3 سبتمبر. وكان الفريق يضم بالإضافة إلى كوشنير كلا من الطالبين في كلية الطب (سنة رابعة) اوليفيي دولاك وجون فرانسوا بارنودان، وآخر يعمل في التمريض هو فرانسيس دوشارتير.
أول من استجاب للنداء
جاءت تركيبة الفريق على حسب ما طلب الدكتور ماكس ريكاميي المتخصص في أمراض الأنف والحنجرة والمعروف بنشاطاته الخيرية والإنسانية.
يقول ماركس ريكاميي: كان برنار كوشنير أول واحد استجاب لندائي. لم أكن اعرفه، ولم التق به سوى مرة واحدة فقط. كان ذلك في أحد أروقة مستشفى كوشين. كان شابا يافعا، ولم يكن قد ناقش بعد أطروحته.
وبالفعل، لم يناقش برنار كوشنير أطروحته إلا بعد عودته من بيافرا، وأما موضوعها فكان «نتائج التدخل الانساني في بيافرا».
لقد شارك منذ سبتمبر 1968 إلى يناير 1970 حوالي خمسين متطوعا من الصليب الأحمر الفرنسي في حملة بيافرا، بالإضافة إلى 170 متطوعا أوروبيا منهم70 سويديا و100 سويسري، وجميعهم كانوا ينشطون تحت لواء اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وأما كوشنير فقد ذهب ثلاث مرات (من سبتمبر إلى أكتوبر 1968) ثم عاد في ديسمبر من السنة نفسها وأخيرا من أكتوبر إلى نوفمبر 1969.
جدير بالذكر أن سياسة عمل منظمة الصليب الأحمر الدولي تقوم على تقديم المساعدات والخدمات الإنسانية للمحتاجين في أوقات الحروب وفي مناطق الأزمات والنزاعات، وعلينا أن نعرف ان المهمات الإنسانية في فرنسا لا يسمح بها إلا بعد موافقة الحكومة. كما أن تعيين رئيس الصليب الأحمر الفرنسي من صلاحيات رئيس الجمهورية، ذلك انه منصب حساس وله علاقة بسيادة الدولة.
تهديدات لاغوس وأوامر ديغول
تكللت كل محاولات اللجنة الدولية للصليب الأحمر لدى حكومة لاغوس للتدخل إنسانيا بالفشل. فالنيجيريون لم يرفضوا المساعدات الطبية للصليب الأحمر وإنما كانوا يهددون بضرب أي طائرة تخترق الأجواء التي تدور فيها الحرب.
مع تدهور الأوضاع في المنطقة، قررت اللجنة الدولية للصليب الأحمر التدخل بأطبائها وصيدلييها وممرضيها، بالإضافة الى سائقي الشاحنات والميكانيكيين. أما الصليب الأحمر الفرنسي فكان في وضعية غير مريحة بسبب عدم توافر التجهيزات الطبية والمعدات اللازمة.
انه الجنرال شارك ديغول من قرر إقحام الصليب الأحمر الفرنسي في سياسته تجاه بيافرا. لقد استدعى جاك فوكار في تاريخ 17 يوليو 1968 وابلغه ما يلي: «علينا أن نرسل مساعدات مباشرة إلى بيافرا عن طريق الصليب الأحمر».
وصل فريق الأطباء الفرنسي بقيادة ماكس ريكاميي إلى بيافرا، وهناك فوجىء الأعضاء بما شاهدوه، فلا شيء كان يدل على أن البلاد تعيش حربا أهلية.
يقول ماكس ريكاميي: ذهبنا وحقائبنا على ظهورنا محملة بمختلف أنواع الأدوية، ظنا منا أننا سنعالج أشخاصا يعانون تحت النخيل، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما.
فاجأ شعب ايبو الفريق الطبي الفرنسي. فهو شعب مثقف، ومنظم، وبعيد عما هو معروف عن إفريقيا. لقد تعود هذا الشعب آنذاك على ظروف الحياة الصعبة التي فرضت عليه.
لم يتأخر الفرنسيون في التمركز، حيث أقاموا في المكان المسمى «اوو اوماما» وتعني بلغة شعب ايبو «الشجرة المقدسة» ولم يكن هذا المركز يبعد إلا 15 كلم عن جبهة المواجهة.
كان المركز قد أنشىء خصيصا لاستقبال 100 مريض، غير انه استقبل أكثر من 400 مريض. وأما شروط النظافة وظروف التدخل فكانت مقبولة بالنظر إلى الوضع العام.
كان الجرحى يصلون في العادة مساء في شاحنات أو على الدراجات الهوائية، وأحيانا على ظهور الرجال.
الوصول الى بيافرا
عندما وصل برنار كوشنير إلى بيافرا، كان البير برنار بونغو قد عين لتوه رئيسا للغابون، وقد أعلن الأخير التزامه بقضية سكان بيافرا منذ شهرين.
عين فوكار فيليب ليترون مستشارا له في ليبروفيل وعهد إليه مهمة تنسيق العمليات السرية. فقد أضحت عاصمة الغابون خلال صيف 1968 القاعدة الخلفية للمساعدات الموجهة إلى اوجوكو. وبحسب الجندي رولف ستينر فان أول طائرة فرنسية محملة بالمؤونة جاءت من الغابون وحطت في «يولي» في بيافرا، وكانت الطائرات تحلق كل ليلة من مطار ليبروفيل، غير أن برقية نشرتها وكالة الاسوشيتد برس بداية أكتوبر تفيد بان الأسلحة كانت تنطلق كل ليلة من العاصمة الغابونية باتجاه بيافرا على الرغم من أن المعلومات الرسمية كانت تشير فقط إلى تنقل بعثات إنسانية تنشط تحت لواء الصليب الأحمر من الغابون باتجاه بيافرا.
غير أن الصليب الأحمر، الذي كان ينسق عملية إرسال الأدوية إلى بيافرا، لم يكن يرى عن قرب العلب الضخمة التي لم تكن معبأة بحليب البودرة. وحتى يتم خلط الأمور أصبح الكولونيل مارل، المستشار العسكري للسفارة الفرنسية في الغابون، مسؤولا على الصليب الأحمر الفرنسي.
لقد تنقل برنار كوشنير ورفاقه الآخرون في طائرات كانت تقل أسلحة. ويتطرق اليوم لهذا الدور المزدوج لأطباء الصليب الأحمر، بالقول: «لم يكن الأمر جيدا جدا بالنسبة لنا ولم نكن فرحين، وكنا نكره هذه الممارسات».
الم يكن برنار كوشنير صراحة في صف سكان بيافرا؟ الم يطلب هو نفسه الأسلحة؟
يؤكد كوشنير اليوم انه تصور في تلك المرحلة أن الطريقة الوحيدة الكفيلة بالحفاظ على أرواح الجرحى والبقاء هناك كانت اللجوء إلى إحداث ضجة إعلامية، هذا النوع من السلوك أصبح علامة تجارية عرف بها كوشنير فيما بعد.
كان عليه أن يثير جلبة وان يصرح بملء شفتيه بان النيجيريين يقتلون الأطفال الأبرياء وبأنهم يهاجمون المدنيين في بيافرا، ويضيف كوشنير «كان علي أن انتقل إلى جنيف واعقد مؤتمرا صحفيا. أخذت الطائرة إلى سانتا إيزابيل حيث القاعدة اللوجستية للصليب الأحمر السويدي، غير أنهم منعوني هناك من التدخل أمام الرأي العام، فرجعت الى بيافرا».
تمرد للصليب الأحمر
تمت مهاجمة مستشفى اوكيغوي على الرغم من أعلام الصليب الأحمر المرفوعة أعلى المبنى، مما أدى إلى مقتل أربعة (طبيبين ومبشرين) بالإضافة إلى إصابة اثنين آخرين بجروح بليغة.
تراجع مستوى حماية المنظمات الإنسانية بشكل رهيب جدا في بيافرا، مما أدى إلى ظهور موجة غضب كبيرة لدى المتطوعين هناك، بسبب مطالبتهم بضمانات أمنية، وفي مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر زادت حدة التوتر والضغوطات، فهذه هي المرة الأولى، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، يجد فيها الصليب الأحمر نفسه في مواجهة غضب وتمرد فرقه العاملة في الميدان.
يقول كوشنير: «نأسف على الذين سقطوا. كنا على حق وكان علينا أن نتكلم وان نخاطب الرأي العام الدولي. عملية القتل هذه أقنعتنا بضرورة عدم الاستجابة للإجراءات البيروقراطية التي يفرضها الصليب الأحمر، هذه المنظمة التي التزمت الصمت بخصوص الحشود النازية».
العالم في نظرك. كوشنير: أن تكون نصف يهودي يعني أنك يهودي مرتين
تأليف بيار بيون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يعود الصحافي الفرنسي بيار بيون في كتابه الجديد «العالم بنظر ك.» إلى العديد من القضايا المثيرة في حياة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي، والرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا بحسب استطلاعات الرأي.
فوزير الخارجية الفرنسي يواجه اليوم تحديات كبيرة، لعل أهمها إنقاذ صورة «الفارس الأبيض»، التي صنعت نجاحاته الإعلامية، ومكنته من الحفاظ على موقعه السياسي فترة طويلة.
يهدف كتاب بيار بيون، الذي وُصف في فرنسا بـ «الكتاب الصدمة»، إلى إسقاط الصورة التي رسمها الفرنسيون لكوشنير في مخيلاتهم، وربما إسقاطه من الحكومة الفرنسية خلال التعديل الوزاري المقبل، حيث يصفه الكاتب بالفرنسي السيئ، المتأثر بالنموذج الانغلوسكسوني، ذلك الذي يقف عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة»، بينما لا يفعل الشيء نفسه عند عزف النشيد الوطني الفرنسي لامارسييز. كما يشير إلى أن يهودية كوشنير المزدوجة هي المحرك الرئيسي لكل أفعاله ومواقفه.
يرى بيار بيون ان كوشنير شارك في مؤامرة أميركية استهدفت رواندا والبوسنة وفلسطين وكوسوفو، مؤامرة كان هدفها الرئيسي تقسيم وتفتيت الأقاليم والدول. كما يورد في مؤلفه الكثير من الحقائق المثيرة، بطلها كوشنير، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. فكوشنير متهم باستغلال منصبه كوزير للخارجية، للضغط على حكومات افريقية مقابل الحصول على التقارير المتأخرة التي أنجزها حول الأنظمة الصحية لهذه البلدان.
كما يعود بيار بيون في الكتاب الذي ترجمته «القبس» لقرائها، إلى قضية تعيين زوجة وزير الخارجية الفرنسية، في منصب مديرة الإعلام الخارجي- المسموع والمرئي- في خضم صراع المصالح، والتي يقول بيون انها سرحت العديد من الصحافيين الذين انتقدوا زوجها سواء في تلفزيون فرنسا 24 أو إذاعة فرنسا الدولية.
تقول بعض وسائل الإعلام الفرنسية ان مقربين من قصر الاليزيه ومستشارين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من زود بيير بيون بالوثائق والفواتير التي استند إليها في اتهاماته، إلا أن ذلك لم يحل دون دعم الرئيس الفرنسي له.
فساركوزي، وخلال آخر ظهور تلفزيوني له، جدد ثقته في وزير خارجيته الاشتراكي، الذي وقف إلى جانب سيغولين روايال خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أكد ساركوزي انه لن يتخلى عن الرجل لمجرد كتابات صحفية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: هل يصمد وزير الخارجية؟ وهل يكفي هذا الكتاب لإسقاطه؟
لقد نفى كوشنير كل الاتهامات التي كالها له الكتاب. وصرح في حوار مع مجلة لونوفيل اوبزرفاتور بأن العديد من الفرضيات تقف وراء هذه الحملة التي تستهدفه، أهمها غيرة بعض الدوائر من نجاحاته، سواء من داخل الحكومة أو خارجها، من اليمين أو اليسار. إلا أن وسائل إعلام أخرى أكدت أن الشبكات الفرنسية المؤثرة في إفريقيا هي التي تريد سحب البساط من تحت كوشنير، مهما كانت النهاية التي سيؤول إليها وزير الخارجية.
لا احد بإمكانه أن يسيء لأيقونة، وبرنار كوشنير أصبح أيقونة منذ مدة طويلة، ذلك أن الفرنسيين واستطلاعات الرأي العام يعتبرونه الشخصية الأكثر شعبية. ولا أراه كسياسي عادي وإنما كطبيب فرنسي بارع، على الرغم من انه خلع مئزره الأبيض منذ سنوات طويلة.
انه بطل العصر، الذي لا يتوانى ولا يتأخر عن مد يد العون للضحايا في كل بقعة من بقاع العالم. إنها الصورة التي يرسمها الجمهور عن برنار كوشنير: الرجل السياسي الفرنسي الوحيد، الذي يستطيع أن يسوّق سيرته الذاتية، وكاتب سيرته الذاتية ميشال انطوان بورنيي، على بلاتوهات التلفزيون من دون أن يثير موجة من ردود الفعل المستنكرة من قبل وسائل الإعلام والطبقة السياسية.
لكوشنير جاذبية رهيبة تجاه الكاميرات والصحافيين، على الأقل أولئك الذين يحبونه ويصفقون له. باختصار انه إنسان نرجسي، على عكسي أنا تماما. فكوشنير لا يستطيع أن يتوافق مع القيم التي زرعتها بي أمي عندما كنت صغيرا. كانت أمي تطلب مني باستمرار ألا أثير الانتباه وأن أبقى في مكاني.
إنها من دون شك الذكريات التي احتفظ بها عن تربيتي، هذه الذكريات هي ما جعلني اشعر بالانزعاج عندما قرر كوشنير (أواخر عام 1992) مساعدة عمال في مقديشو الصومالية كانوا ينقلون أكياس الأرز. وقتئذ بادر كوشنير إلى حمل ثلاثة أكياس على كتفيه، غير أنني كنت أجهل انه أعاد اللقطة أمام الكاميرات ثلاث مرات حتى يبدو في أبهى صوره على شاشات القنوات التلفزيونية. كما أنني صدمت كثيرا من دعمه لحربي العراق في عامي 1991 و2003.
غير أن الذين شرفوني بقراءة كتبي- ومنها كتاب "مجهول الاليزيه" الذي الفته عن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (ترجمته القبس ونشرته)- يعرفون أنني لا أدافع عن احد وان ما أحسن معرفته هو البحث وأحيانا العثور على وثائق أو شهادات بإمكانها أن تدحض حقائق رسمية.
الحقيقة الرسمية المعروفة عن كوشنير هو انه رجل سلام ومحامي الضعفاء ومدافع عن حقوق الإنسان والديموقراطية، غير أن سلوكياته في أفريقيا حطمته، وما قام به هناك يحتاج إلى تقارير وتعليقات وتحاليل كثيرة.
سياسة جديدة تجاه رواندا
أصبحت القارة السمراء «حديقة سرية» بالنسبة لكوشنير منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها العمل هناك والتعامل مع اكبر الصراعات التي انفجرت في العالم آنذاك. وفي افريقيا كان كوشنير يحمل دوما كيسا، لكن هذا الكيس لم يكن يحوي دوما الأرز، وإذا ما كان به أرز فأمام الكاميرات فقط، لكن علينا ألا نستبق الأمور..
لقد اهتممت بموضوع كوشنير منذ وصوله إلى الكيدورسيه– الخارجية الفرنسية–وإطلاقه سياسة جديدة تجاه رواندا، التي خصصت لها كتابا، رجعت فيه إلى حقيقة رسمية أخرى، وهي إن الهوتو هم الجلادون والتوتسي هم الضحايا، وإن فرنسا ساعدت الهوتو على القضاء على التوتسي.
قرر كو شنير في مايو 2007، ولأول مرة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية، مد يده لرئيس دولة لم يكن فقط مسؤولا عن التضليل الإعلامي حول التراجيديا الرواندية، وإنما شخص يعتبره القضاء الفرنسي مجرم حرب، بينما يعتبره القضاء الاسباني مسؤولا عن الإبادة العرقية في رواندا.
لقد صدمت في 26 يوليو 2007، عندما علمت ان وزير الخارجية اتصل هاتفيا بالرئيس الرواندي، بول كاغام، ليبحث معه سبل إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا ورواندا. لقد صدمت لأن كوشنير بادر بطلب زيارة كاغام في كيغالي. وأنا مصدوم أكثر لان الاليزيه لم يعارض على الرغم من التحفظات التي أبدتها وزارة الدفاع. ومصدوم أيضا لان رئيس الدبلوماسية الفرنسية يأمل أن تتصالح فرنسا مع دولة بادرت إلى قطع علاقاتها معها بعد مذكرات التوقيف التي أصدرها القاضي بروكيير ضد عدد من الأشخاص الذين كانوا ينتمون إلى محيط الرئيس الرواندي.
يفترض أن يمثل الوزير الجمهورية، وان يعمل بكل طاقته على استمرارية الدولة، غير أن نضال كوشنير من اجل المصالحة مع دكتاتور كيغالي همّش وقمع كل رجال السياسة والعسكريين والقضاة، الذين وصفهم بول كاغام منذ سنوات بالمسؤولين عن الإبادة، كما وصف القاضي بروكيير بالإنسان الفارغ.
خطأ كوشنير
كتبت مقالا في صحيفة ليبيراسيون تحت عنوان «خطأ كوشنير»، غير أن استمرار الأخير في التعامل مع النظام الرواندي، الذي لم يتوان عن وصف فرنسا بأسوأ الأوصاف، جعلني أفكر في أن كتابة مقال ثان لن تشفي غليلي ولن تمنحني فرصة إفراغ كل ما في جعبتي. منذ ذلك الحين اهتممت كثيرا بشخصه، ولكن هذه المرة قررت أن أتجاوز إطار إدارته للملف الرواندي.
كوشنير الذي كافح من اجل مسمى «الفرانش دكتور»، لم يتردد في وضع الدول بثقلها على المحك لإرضاء صديقه الدكتاتور، وهو الذي قضى حياته كلها في رسم صورة الفارس الأبيض.
لقد دفعتني العديد من المواقف والسلوكيات إلى البحث في ما وراء هذه الصورة التي يسهر كوشنير على إيصالها للفرنسيين: ماذا يعني استعداده حين يعزف النشيد الوطني البريطاني ولامبالاته حين يعزف النشيد الوطني الفرنسي؟ هل هو تهريج؟ أم استفزاز؟ هل برنار فعلا رجل إنساني وكريم؟ هذه هي الصورة التي يراه فيها غالبية الفرنسيين.
قررت أن اعرف المزيد عن هذا الرجل الذي يشغل مكتب وزير الخارجية، لكنني لا املك أبدا نوايا التفصيل في مساراته السبعة، مثلما فصل فيها كاتب سيرته الذاتية أنطوان بورنيي.
لم تتطلب مني عملية جمع ملف حول الاختلافات الكائنة بين صورته، كمحبوب للفرنسيين، وحقيقته الكثير من الوقت.
الخطر الحقيقي
يمثل كوشنير بالنسبة الى فرنسا خطرا حقيقيا، ففي السابق لم يكن هذا الخطر موجودا عندما كان صاحب المئزر الأبيض سكرتيرا للدولة أو وزيرا للصحة، لكن الأمر تغير كثيرا بعد أن أصبح وزيرا للخارجية، وبالتالي على الفرنسيين أن يقلقوا كثيرا.
انه بلا شك رجل القطيعة الأول في فترة ساركوزي. فبرنار كوشنير يحلم في الحقيقة بإلغاء خمسين سنة من السياسة الخارجية الفرنسية المستقلة، فهو لم يتردد في عام 2003 في إرسال عسكريين فرنسيين إلى العراق، فكيف هي إذن نفسية هذا الطبيب الذي يدافع عن الحرب؟ مثلما تساءل ايمانويل تود في مجلة ماريان الصادرة في 18 سبتمبر 2007، حين قال: «نحن نمر بسرعة من أطباء العالم إلى عسكريين بلا حدود».
علينا أن نفهم ونتذكر جيدا كلمة «محاربين» أكثر من كلمة «السلم»، وهما الكلمتان اللتان تضمنهما عنوان كتابه «محاربو السلم»، ف»الفرانش دكتور» طالب في أول مهمة له إلى بيافرا النيجيرية، أواخر الستينات من القرن الماضي، بإرسال طائرات فورا. ورأيناه كثيرا فيما بعد يطالب بإرسال جنود فرنسيين ليحاربوا هنا وهناك، مثلما حصل في عام 1987 عندما طلب مع أندري غلوكسمان وايف مونتاند بالبدء في هجوم تدريجي على الزعيم الليبي معمر القذافي، انطلاقا من تشاد.
وأما في نوفمبر 1989، فقد فكر في إرسال فرق دولية ضد «الخمير الحمر» الذين عادوا إلى السلطة، ووافق على الهجوم على صربيا ثم دعا إلى إدارة كوسوفو مؤقتا. ومثلما نرى، لم يعمل شيئا ضد التصفية الاثنية التي استهدفت الأقلية الصربية.
وعندما اعتلى أعلى منصب في وزارة الخارجية، لم تكن المهمة العاجلة بالنسبة إليه هي التقرب من الرجل الذي اتهم الرئيس فرانسوا ميتيران بالتواطؤ في الإبادة فقط، ولكن حلمه الرئيسي كان قطع العلاقات مع عدد من الدول التي صنفها ضمن قائمة الدول الشريرة.
وعن إيران، توجه كوشنير إلى الفرنسيين بقوله «عليكم أن تنتظروا الأسوأ» وان الحرب قادمة. فكوشنير يحب الحرب ويرى نفسه جيدا في زي قائد جيش.
كوشنير وتشاد
لقد فوجئ الموظفون خلال نهاية الأسبوع الأول من شهر فبراير 2008، بعد الإعلان عن استيلاء المتمردين على نجامينا ومحاصرة الرئيس إدريس ديبي في قصر الرئاسة، بكوشنير يدير خلية أزمة في الكيدورسيه ويهاتف كلا من وزارة الدفاع والمديرية العامة للأمن الخارجي والعسكريين في تشاد ويتابع تقدم المتمردين دقيقة بدقيقة ويطرح السؤال التالي «أليس بالإمكان تفجيرهم؟».
«لنذهب إلى الحرب» أيضا في دارفور. فكوشنير مثل كثير من أصدقائه يستعمل بتعسف مصطلح «إبادة» لصبغ التدخل العسكري بصبغة الشرعية. لقد استعمل هذا المصطلح في بيافرا النيجيرية وكردستان ولبنان واريتريا والصومال وكوسوفو. وأما فيما يخص رواندا فقد وصف قرار فرانسوا ميتران بالتدخل لإيقاف الإبادة بالسياسة الخاطئة وأحيانا بالخطأ الإجرامي.
هذا التطوعي الذي يطير هنا وهناك في العالم لتخفيف آلام الناس ومعاناتهم، يتميز بصفة أخرى لا نراها. فقد يحصل أن يفقد «الفارس الأبيض» لونه الأصلي عند القادة الأفارقة.
حتى نطلع عن كثب على حجم الكوارث التي يمكن أن يقحم فيها برنار كوشنير فرنسا والفرنسيين علينا أن نعود إلى الوراء، إلى زمن «الفرانش دكتور».
تصريحات مغلوطة
فكوشنير يعود دوما إلى هذه الفترة من حياته حتى يمنح شرعية اكبر لأفعاله، ويشعر الآخر دوما، بأنه ما يزال رئيسا لمنظمة «أطباء بلا حدود» و»أطباء العالم»، مثلما صرح في القدس في 5 أكتوبر 2008 بأن المنظمات الدولية غير الحكومية الفرنسية تعلمه بكل ما يحصل في قطاع غزة.
لقد اضطرت منظمة أطباء بلا حدود إلى نشر بيان يخص تصريحات كوشنير، أكدت فيه أن المعلومات مغلوطة، وان كوشنير لا علاقة له بنشاطاتها في غزة مع المدنيين الفلسطينيين. وذكرت المنظمة بأن كوشنير غادر المنظمة عام 1979.
وأما منظمة أطباء العالم، وبعد أن وصفت تصريحات كوشنير بالخاطئة والخطيرة، قررت إرجاع هبة تقدر قيمتها بـ120 ألف يورو كانت وزارة الخارجية الفرنسية منحتها إياها لدعم وتمويل العمليات الجراحية في قطاع غزة.
لم يخطر ببالي أن أفتش في طفولة برنار كوشنير ومراهقته، غير أنني اكتفي بمنح القارئ بعضا من المعلومات عن فترة شباب هذا الرجل. فبعد توجه والتزام شيوعي لم يسبق له مثيل انتقل برنار كوشنير خلال عشرين سنة الى مرحلة تكوين أدوات ضد السلطة قبل أن يندمج في منطق الدولة التي حاربها خلال العشرين سنة التالية، حيث تمكن من بناء مساره السياسي.
سلط كوشنير الضوء على حياته في حوار طويل، خص به عام 1988 الصحافي جون فرانسوا دوفال، حيث أكد يهوديته المزدوجة، عندما أشار إلى أن كونه نصف يهودي معناه انه يهودي مرتين، وكأنه يبحث عن محرك رئيسي لأفعاله.
الم يقل كوشنير لجون فرانسوا دوفال ان أسباب رضوخ اليهود تشغل باله، وأضاف «لما كنت مراهقا، انشغلت باليهود وبموت اليهود، كيف استطاعوا أن يرضخوا هكذا؟ وكنت أقول انه لا ينبغي أبدا الرضوخ أو الإذعان».
الهرمون الذكوري
يمكننا هذا التفكير والموقف من فهم التزام كوشنير ونضاله من اجل الأقليات والضحايا.
يقول كوشنير في الحوار ذاته تفسيري الكبير للعالم هو الهرمون الذكوري. فكل واحد يتصور فوزه بتحطيم الآخر وقتله، وتتعدد الأشكال من التعذيب إلى المجازر إلى ضرب زوجته أو الصراخ في وجه جاره أو إيذاء الآخرين. وكل هذا من اجل أن ننسى أننا سنموت، وكلما تفاعلنا، تصورنا أننا مهمون وخالدون».
يحب كوشنير الخطر، فهو موجود بنظره، ويزيد حينما يعدد ذكرياته في بيافرا وفي تشاد أو أفغانستان. ويقول إن الفعل هو الأهم والأكثر جدوى عند الخطر أو الشعور به.
وبعد برافيا، كان هناك الأكراد والمسيحيون اللبنانيون والاريتريون وأفراد التوتسي الرواندية ومتمردو الجنوب السوداني ثم سكان دارفور وأيضا الكوسوفيون. لقد أصبح كوشنير الناطق الرسمي باسم بعض الحروب السياسية العسكرية وأصبح يقوم بممارسات شنيعة وانتقائية لا تستند إلى تحليل منطقي وواقعي للأوضاع.
الإعلام في خدمة كوشنير
كان كوشنير دوما طرفا في عدد من القضايا الدولية وعلينا أن نعترف بان القضايا والحروب التي خاضها منذ فترة طويلة هي قضايا وحروب واشنطن. والقضايا نفسها التي يدافع عنها بعض المفكرين المتعاطفين مع الولايات المتحدة.
وتظهر جملة مصالح كوشنير جلية، حين ساند عزت بيغوفيتش في البوسنة والكوسوفيين ضد الصرب والمتمردين التوتسي في رواندا وجون غارانغ في جنوب السودان وسكان دارفور، وأيضا دعمه للتدخل الأميركي في العراق.
هذه هي نظرة كوشنير إلى العالم، إنها نظرة خطيرة، لكنها تحمل بين ثناياها قطيعة مع القواعد الأساسية للأخلاق. فعشية تعيين زوجته، كريستين اوكرانت، مديرة عامة للإعلام الخارجي- المرئي والمسموع- لفرنسا، حتى صارت تعرف باسم «صوت فرنسا»، اعترف كوشنير صراحة وبطريقة صدمت الكثيرين، بأنه مع «صراع المصالح»، وذلك عندما صرح لفرانس انتر قائلا: «سأكون أول من يعترف بصراع المصالح، لن أتدخل أبدا في الإعلام المسموع والمرئي الخارجي، أقسم بذلك».
الحلقة المقبلة : رائحة النفظ في بيافرا أسالت لعاب الفرنسيين
بيار بيون
مع زوجته كريستين
.. وعندما كان طبيبا متطوعا في نجييريا
العالم في نظر ك (3) استغل الإعلام للترويج لمصطلح الإبادة
تأليف بيار بيون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يعود الصحافي الفرنسي بيار بيون في كتابه الجديد «العالم بنظر ك.» إلى العديد من القضايا المثيرة في حياة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي، والرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا بحسب استطلاعات الرأي.
فوزير الخارجية الفرنسي يواجه اليوم تحديات كبيرة، لعل أهمها إنقاذ صورة «الفارس الأبيض»، التي صنعت نجاحاته الإعلامية، ومكنته من الحفاظ على موقعه السياسي فترة طويلة.
يهدف كتاب بيار بيون، الذي وُصف في فرنسا بـ «الكتاب الصدمة»، إلى إسقاط الصورة التي رسمها الفرنسيون لكوشنير في مخيلاتهم، وربما إسقاطه من الحكومة الفرنسية خلال التعديل الوزاري المقبل، حيث يصفه الكاتب بالفرنسي السيئ، المتأثر بالنموذج الانغلوسكسوني، ذلك الذي يقف عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة»، بينما لا يفعل الشيء نفسه عند عزف النشيد الوطني الفرنسي لامارسييز. كما يشير إلى أن يهودية كوشنير المزدوجة هي المحرك الرئيسي لكل أفعاله ومواقفه.
يرى بيار بيون ان كوشنير شارك في مؤامرة أميركية استهدفت رواندا والبوسنة وفلسطين وكوسوفو، مؤامرة كان هدفها الرئيسي تقسيم وتفتيت الأقاليم والدول. كما يورد في مؤلفه الكثير من الحقائق المثيرة، بطلها كوشنير، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. فكوشنير متهم باستغلال منصبه كوزير للخارجية، للضغط على حكومات افريقية مقابل الحصول على التقارير المتأخرة التي أنجزها حول الأنظمة الصحية لهذه البلدان.
كما يعود بيار بيون في الكتاب الذي ترجمته «القبس» لقرائها، إلى قضية تعيين زوجة وزير الخارجية الفرنسية، في منصب مديرة الإعلام الخارجي- المسموع والمرئي- في خضم صراع المصالح، والتي يقول بيون انها سرحت العديد من الصحافيين الذين انتقدوا زوجها سواء في تلفزيون فرنسا 24 أو إذاعة فرنسا الدولية.
تقول بعض وسائل الإعلام الفرنسية ان مقربين من قصر الاليزيه ومستشارين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من زود بيير بيون بالوثائق والفواتير التي استند إليها في اتهاماته، إلا أن ذلك لم يحل دون دعم الرئيس الفرنسي له.
فساركوزي، وخلال آخر ظهور تلفزيوني له، جدد ثقته في وزير خارجيته الاشتراكي، الذي وقف إلى جانب سيغولين روايال خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أكد ساركوزي انه لن يتخلى عن الرجل لمجرد كتابات صحفية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: هل يصمد وزير الخارجية؟ وهل يكفي هذا الكتاب لإسقاطه؟ لقد نفى كوشنير كل الاتهامات التي كالها له الكتاب. وصرح في حوار مع مجلة لونوفيل اوبزرفاتور بأن العديد من الفرضيات تقف وراء هذه الحملة التي تستهدفه، أهمها غيرة بعض الدوائر من نجاحاته، سواء من داخل الحكومة أو خارجها، من اليمين أو اليسار. إلا أن وسائل إعلام أخرى أكدت أن الشبكات الفرنسية المؤثرة في إفريقيا هي التي تريد سحب البساط من تحت كوشنير، مهما كانت النهاية التي سيؤول إليها وزير الخارجية.
كوشنير من "أطباء بلا حدود" إلى "أطباء العالم" .. فالوزارة
قرر الدكتوران كوشنير وريكاميي الخروج على واجب التحفظ الذي يمليه عليهما انتماؤهما للصليب الأحمر، ونشرا شهادتيهما بعد 15 يوما، على أعمدة صحيفة لوموند بتاريخ 28 أكتوبر 1968.
غير أن الصليب الأحمر الفرنسي كرم في جمعيته السنوية، المنعقدة بتاريخ 24 نوفمبر 1969، أعضاء الفرق التي شاركت في بيافرا، ماعدا برنار كوشنير، الذي بدا عليه جلياً الغضب، وبرز ذلك في صورة أوضح في مقال نشر في يومية تصدر في العاصمة الغابونية ليبروفيل تدعى «فراتارنيتي ماتان»، أجاب فيه عن أسئلة الصحافي من دون أن يظهر بهويته الحقيقية، حيث اكتفى بالتعريف عن نفسه بأنه «الدكتور (ك).. طبيب شاب في السنة الخامسة طب».
حياد غير مناسب
لقد فضل كوشنير عدم نشر اسمه ليتمكن من إفراغ ما في جعبته، ولا يجد نفسه معارضا لمبدأ الحياد الذي تقوم عليه لجنة الصليب الأحمر الفرنسي، حيث قال «يتوجب علينا في يوم ما مراجعة طريقة تطبيق مبدأ حياد الصليب الأحمر الدولي، انه لا يتناسب مع الأوضاع في إفريقيا، ويمكن ألا يتناسب أيضا مع العالم الحالي».
ويضيف كوشنير «لو كان سكان بيافرا يملكون السلاح لتمت حماية المستشفيات ولتمكن الجرحى من حماية أنفسهم. انظروا. لم يحترم النيجيريون اتفاقية جنيف للصليب الأحمر الخاصة بالجرحى ومستخدمي المستشفيات، يجب مراجعة اتفاقية جنيف، إنها في الحقيقة دعوة للالتزام إنسانيا وعسكريا مع سكان بيافرا».
ويقول الدكتور باسكال غريلتي بوسفيال، الذي كان يدير الفريق الثاني من الأطباء الفرنسيين الذين ينتمون إلى قائمة الاثني عشر طبيبا الذين أسسوا منظمة أطباء بلا حدود «كنا متعاطفين مع بيافرا في العمق. وكنت أول المتعاطفين. كانت هناك فرق أخرى في الجانب النيجيري، كما كان هناك أصدقاء سويديون يقومون بالمهمة ذاتها، كان ضميري مرتاحا. لم يكن احد منا حياديا، مثلما كانت حكومتنا متورطة جدا في تلك القصة، كنا ننتظر المساعدات التي تأتي من ليبروفيل الغابونية ليلا، وكنا نتساءل لم لا يفعلون أكثر من ذلك؟ اعذروني إن لم أبد لكم طبيبا الآن، ذلك أنني كنت أقول لم لا ترسلون مساعدات أكثر، كما كنا نقول لهم أعطوهم السلاح، حتى يدافعوا عن أنفسهم».
حملة إعلامية لصالح بيافرا
ملأت تصريحات سكان بيافرا الصحف الفرنسية طوال عام 1969. وكانت حملة واضحة المعالم لفائدة بيافرا. وبرنار كوشنير بدوره أنشأ في أواخر عام 1968، لجنة لمكافحة الإبادة في بيافرا للتنديد بالعمليات التي حصلت هناك .
وبتنديده بـ«الإبادة البيافارية»، يكون كوشنير قد دخل في الاستراتيجية الإعلامية التي حدد جاك فوكار معالمها.
بالنسبة لنظام اوجوكو كانت الساعة حاسمة، ذلك أن الصراع أصبح دينيا أيضا. فالفدراليون مسلمون، وإذاعاتهم تعلن النية في إخضاع بيافرا للدين الإسلامي، فيما بيافرا ولاية مسيحية تستفيد من دعم الكنائس الغربية الكبرى، غير أن الكنائس لا توزع أسلحة والاحتياجات ضخمة جدا.
على هذا النحو يشرح المسؤول البيافاري بادي دافيس الوضع، ويضيف «هكذا اخترعنا مصطلح الإبادة، حتى يشعر المجتمع الدولي بمعاناتنا».
المجاعة تتحول إلى سلاح
لقد لعبت المصالح الاستخباراتية الفرنسية دورا كبيرا في ترويج هذه المعلومة عبر وسائل الإعلام، مثلما يروي دافيس ببرود، حيث يقول: «لأول مرة في تاريخ الحرب تستعمل المجاعة سلاحا. في الميدان كانت ماركبراس بيافران اوفرسيا براس ديفيجن من يتكفل بالصحافيين. وكانت تبرز لهم مقاومة المحاربين وسقوط المدنيين وموتهم على الخصوص. وحتى تختصر السلطات الوقت على الصحافيين أنشأت لهم حظيرة حشدت فيها أشخاصا، وكانت هناك المئات من الذين ينتظرون حتفهم جوعا يترقبون كاميرات التلفزيونات أن تأتي لتلتقط لهم صورا.
كانت وسائل الإعلام، في تلك الفترة منشغلة جدا بقضايا محاكمة المجرمين النازيين، منها قضية ايشمان (عام 1961) وقضية فرانكفورت (عام 1965)، كما كانت تقوم دوما بتشبيه ما حصل مع اليهود بما يحصل في بيافرا: فالايبو أصبحوا بنظر وسائل الإعلام آنذاك «يهود إفريقيا».
هناك العديد من التصريحات التي تؤكد ما نحن بصدد الحديث عنه، ومنها الشريط الوثائقي الذي أنجزه جويل كالمات، والذي جاء فيه أن مصطلح «إبادة» استعمل بطلب من المصالح الاستخباراتية الفرنسية. لقد طلبوا من أصدقائهم الصحافيين الفرنسيين استعمال كلمة «إبادة» في تقاريرهم الصحافية، ومن ثمة ترددت الكلمة ووجدت لها صدى في العالم بأسره.
كما كانت لاستعمال هذه الكلمة انعكاسات كبرى، فبيافرا تصدرت صحف العالم، وأصبحت الخبر الرئيسي في كل نشرات الأخبار.
مصطلح «الإبادة»
في سبتمبر 1969، اندمجت لجنة برنار كوشنير مع جمعية فرنسا- بيافرا، التي كان يرأسها الوزير السابق روبرت بورون. وعلى الرغم من الدعم الخارجي انتهى التمرد في بيافرا في 10 يناير 1970، حيث دخلت قوات لاغوس مدينة «يولي».
تحدث كوشنير عبر أعمدة مجلة لونوفيل اوبسارفاتير، التي صدرت بتاريخ 19 يناير عن بيافرا، حيث وصف ما جرى بالمحرقة. ثم تساءل: «كيف بإمكاننا أن نسمح بقتل مليونين من البشر؟ لا تنسوا بان مجزرة بيافرا هي اكبر مجازر التاريخ الحديث بعد محرقة اليهود».
هذه التصريحات تمكننا من فهم العديد من الالتزامات التي قطعها كوشنير على نفسه لاحقا، مثل وقوفه، على سبيل المثال، اليوم إلى جانب الجبهة الوطنية الرواندية التابعة لبول كاغام، الدكتاتور الرواندي. لقد كتبت آن فاليس، قائلة: «بيافرا هي تقريبا فيتنام كوشنير».
تحمل المغامرة البيافارية العديد من الدلالات، أولها اللجوء إلى استعمال مصطلح «إبادة» لحشد الدعم الشعبي والخلط ما بين الإنساني والعسكري، مما أدى إلى نشوء فكرة «حق التدخل». فهم كوشنير، رجل عصره، بسرعة الوزن والدور اللذين تلعبهما وسائل الإعلام. كما كان واعيا لما يمكن أن ينتج عن ضجة إعلامية.
من هنا فصاعدا، سيستعمل كوشنير المعلومات والنشاطات الإنسانية في عمله السياسي الذي مكنه من حمل حقيبة وزير. ومن الآن فصاعدا أيضا سيكون هدف كوشنير الرئيسي الكاميرات، سواء تحت لواء «أطباء بلا حدود» أو «أطباء العالم»، حيث أصبحنا نراه في وسائل الإعلام، وهو يتحدث عن الكوارث، ولا يتردد في دعوة أجهزة الدولة إلى التدخل.
ميلاد «أطباء بلا حدود»
نشرت الجريدة الطبية تونوس في 23 نوفمبر 1971 دعوة وجهها الصحافي فيليب بارنيي إلى جميع الأطباء. كانت الدعوة غامضة، لكنها غيرت مسار الأحداث، وجاء فيها: «دعوة إلى الأطباء الفرنسيين لإنشاء منظمة من أطباء الطوارئ المتطوعين».
يتذكر جاك بيريس، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود، الدعوة، قائلا: «كانت غامضة لكنها كانت تحمل شعورا خاصا. لقد قلنا لنجمع نواة الأطباء الذين عملوا في بيافرا، وهكذا بدأت الأمور».
كان لريموند بورال، رئيس مجلة تونوس، وفيليب بارنيي فكرة إنشاء جمعية تضم فريقا من أطباء الطوارئ، أطلقوا عليها اسم «النجدة الطبية الفرنسية». يقول بورال انه يتذكر جيدا اليوم الذي التقى فيه كوشنير، الذي طلب منه الانخراط في صفوف جمعية النجدة الطبية الفرنسية، حيث أكد له انه عمل في بيافرا سابقا، وبإمكانه إقناع الكثير من زملائه بالانخراط في صفوف هذا الفريق.
في 22 ديسمبر 1971 التقى الأطباء الذين عملوا في بيافرا بمجموعة أطباء المجلة في مقر الأخيرة. وفجأة ظهر للجميع بان التسمية غير مناسبة، وانه على العكس تماما، لم يكن برنار كوشنير (كما قيل) هو من أطلق تسمية أطباء بلا حدود على المنظمة، وإنما فيليب بارنيي، بعد أن بعث الأخير رسائل في هذا الشأن في كل الاتجاهات. كما أن كوشنير ليس هو من حرّر ميثاق منظمة أطباء بلا حدود وإنما بارنيي نفسه، الذي يقول بشأنها «أنا من حرّرتها.. فعلت ذلك في عشر دقائق، فالمبادئ التي تقوم عليها المنظمة كانت واضحة وبديهية بالنسبة لي». غير أن كوشنير صرح لآن فاليز، بان مجموعة الأطباء هي من حرّرت الميثاق.
نشر بارنيي، في 3 يناير 1972، وثيقة ميلاد منظمة أطباء بلا حدود، حيث شهدت سنواتها الأولى تباينا في وجهات النظر حول توجهات المنظمة بين الأطباء الذين عملوا في بيافرا، وأولئك الذين يعملون في مجلة تونوس.
تباين وجهات النظر
وبينما كان الفريق الأول يحلم بتكوين مجموعة من أطباء الطوارئ من دون بيروقراطية أو الاعتماد على تنظيم معين مع تنفيذ مهمات قصيرة، كان الفريق الثاني يسعى إلى تسطير أهداف طويلة المدى وتنفيذ مهمات تمتد لفترات أطول، مثلما هي الحال بالنسبة للجنة الدولية للصليب الأحمر.
وأما بالنسبة لكوشنير، فكان المطلوب تشكيل فريق من الأطباء تقع على عاتقه مهمة الدخول، حيث لا يستطيع الصحافيون التواجد، فريق يحمل أعضاؤه حقيبة خاصة بطب الطوارئ، فريق يكون أفراده قادرين على الرجوع في أي لحظة إلى باريس، من اجل نقل شهاداتهم الحية عن الأوضاع التي يعيشونها في المناطق الساخنة.
بمرور السنوات، تواجهت العديد من التيارات داخل منظمة أطباء بلا حدود بما فيها تيار برنار كوشنير.
وخلال الجمعية العامة السابعة لمنظمة أطباء بلا حدود، في 7 مايو 1979، وجد كوشنير نفسه وسط أقلية لا تفي بالغرض، مما دفعه إلى الاستقالة. وأسس في يناير 1980 منظمة أطباء العالم، التي سطر لها ثلاثة أهداف رئيسية: «الذهاب إلى حيث لا يستطيع الآخرون، العمل تطوعي، نشر الشهادات المؤلمة والحية».
بين الصرب والهوتو
كان التعامل مع الصرب خلال حرب البلقان شبيها بما عومل به الهوتو في رواندا. وفي الحالتين لعب كوشنير دورا مهما في وصم الشعبين بالعار ومقارنتهما بالنازيين. وأما تورطه في صراعات يوغسلافيا سابقا فقد لعب أيضا دورا مهما في مساره السياسي لاحقا.
في الواقع، لقد كسب كوشنير ثقة فرانسوا ميتران الكاملة عندما كان في سراييفو خلال الأشهر الثمانية لحكومة بيريغوفوي، التي نال فيها مناصب مرموقة حتى انه أضحى ثاني وزير خارجية بإمكانه التدخل في العديد من الملفات.
كما نجح كوشنير في إقحام فرنسا في الملف الصومالي، بالتدخل عسكريا وإنسانيا، بعد أن أصبح مدلل رئيس الجمهورية، على الرغم من المعارضة الكبيرة التي أبداها وزير الدفاع آنذاك بيير جوكس.
وحتى افهم التزامه في إفريقيا وطريقة عمله هناك، بدا لي انه من الضروري الخروج من الإطار الإفريقي الذي بدأت بالتفصيل فيه، لأروي لكم عمل كوشنير في البلقان.
في عام 1988 تمت مكافأة رئيس منظمة أطباء العالم بتعيينه في منصب سكرتير دولة مكلف بالعمل الإنساني، وذلك قبل أيام فقط من موعد الانتخابات الرئاسية ودعمه العلني للرئيس فرانسوا ميتران.
وحتى يتمكن من لفت الانتباه إلى دائرته الوزارية، احكم كوشنير قبضته على جميع النشاطات والحركات التي تعمل في النشاط الإنساني، وكأنه لا يزال رئيس منظمة أطباء العالم وأطباء بلا حدود.
اتهام بالسيطرة على العمل الإنساني
في يوليو 1990 اتهم روني برومان، رئيس منظمة أطباء بلا حدود، برنار كوشنير بمحاولة السيطرة والاستحواذ على العمل الإنساني. لقد علق برومان للقناة الطبية الخاصة «كانال سونتي» على رحلة كوشنير إلى إيران اثر الزلزال الذي ألمّ بهذا البلد، قائلا: «عندما نرى وزيرا في الميدان من اجل تنسيق عمل رجال الإنقاذ الفرنسيين أقول إن هذا يكفي. لقد تجاوزنا الحدود. نحن مستقلون تماما، والتزاماتنا تتم بعيدا عن السياسة. وبالتالي من غير المعقول أن نعطي انطباعا بأن منظمتنا تعمل وفق أوامر الحكومة».
هذا السلوك أثار عددا كبيرا من الناشطين في مجال العمل الانساني والتطوعي، خصوصا خلال حرب الخليج، حيث دعا سكرتير الدولة إلى الحرب في مقال نشرته صحيفة لوموند بتاريخ 16 يناير 1991، بعد انتهاء المهلة التي حددتها قوات التحالف.
لقد حاول برنار كوشنير أن يفرض من خلال مقاله إطارا جديدا للسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت واقعية في عهد رولان دوما.
لننتقل الآن من المجال النظري إلى المجال التطبيقي. فسكرتير الدولة، بدأ في تطبيق معايير جديدة للسياسة الخارجية في كردستان. لقد حاول فرض فكرة حق التدخل الإنساني بدعم من دانيال ميتران، رئيسة مؤسسة «فرنسا –حريات»، حيث شارك على الحدود العراقية- التركية في مهمة فرنسية- أميركية، تهدف إلى إلقاء المواد الغذائية على القرية الحدودية التركية داستاني وأيضا داخل الأراضي العراقية. أنجزت العملية طائرات من نوع «ترانسال سي- 160»، التي كانت محملة ب11 طنا من المواد الغذائية موجهة الى مخيم للاجئين يضم 60 ألف لاجئ من تركيا و250 ألف لاجئ آخرين من العراق. وتمت العمليات في الأيام التي تلت هذه العملية انطلاقا من القاعدة التركية الأميركية في اينسيرليك.
هذه التصرفات أثارت غزافيي ايمانويلي، الذي أصبح فيما بعد سكرتيرا للدولة مكلفا بالعمل الإنساني الطارئ، وكان آنذاك «رئيس شرف» لمنظمة أطباء بلا حدود.
عمال تابعون لمنظمة أطباء بلا حدود ينقلون مساعدات عبر نهر الليطاني في لبنان خلال حرب يوليو 2006 (رويترز)
العالم في نظر ك (3) استغل الإعلام للترويج لمصطلح الإبادة
تأليف بيار بيون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يعود الصحافي الفرنسي بيار بيون في كتابه الجديد «العالم بنظر ك.» إلى العديد من القضايا المثيرة في حياة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي، والرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا بحسب استطلاعات الرأي.
فوزير الخارجية الفرنسي يواجه اليوم تحديات كبيرة، لعل أهمها إنقاذ صورة «الفارس الأبيض»، التي صنعت نجاحاته الإعلامية، ومكنته من الحفاظ على موقعه السياسي فترة طويلة.
يهدف كتاب بيار بيون، الذي وُصف في فرنسا بـ «الكتاب الصدمة»، إلى إسقاط الصورة التي رسمها الفرنسيون لكوشنير في مخيلاتهم، وربما إسقاطه من الحكومة الفرنسية خلال التعديل الوزاري المقبل، حيث يصفه الكاتب بالفرنسي السيئ، المتأثر بالنموذج الانغلوسكسوني، ذلك الذي يقف عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة»، بينما لا يفعل الشيء نفسه عند عزف النشيد الوطني الفرنسي لامارسييز. كما يشير إلى أن يهودية كوشنير المزدوجة هي المحرك الرئيسي لكل أفعاله ومواقفه.
يرى بيار بيون ان كوشنير شارك في مؤامرة أميركية استهدفت رواندا والبوسنة وفلسطين وكوسوفو، مؤامرة كان هدفها الرئيسي تقسيم وتفتيت الأقاليم والدول. كما يورد في مؤلفه الكثير من الحقائق المثيرة، بطلها كوشنير، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. فكوشنير متهم باستغلال منصبه كوزير للخارجية، للضغط على حكومات افريقية مقابل الحصول على التقارير المتأخرة التي أنجزها حول الأنظمة الصحية لهذه البلدان.
كما يعود بيار بيون في الكتاب الذي ترجمته «القبس» لقرائها، إلى قضية تعيين زوجة وزير الخارجية الفرنسية، في منصب مديرة الإعلام الخارجي- المسموع والمرئي- في خضم صراع المصالح، والتي يقول بيون انها سرحت العديد من الصحافيين الذين انتقدوا زوجها سواء في تلفزيون فرنسا 24 أو إذاعة فرنسا الدولية.
تقول بعض وسائل الإعلام الفرنسية ان مقربين من قصر الاليزيه ومستشارين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من زود بيير بيون بالوثائق والفواتير التي استند إليها في اتهاماته، إلا أن ذلك لم يحل دون دعم الرئيس الفرنسي له.
فساركوزي، وخلال آخر ظهور تلفزيوني له، جدد ثقته في وزير خارجيته الاشتراكي، الذي وقف إلى جانب سيغولين روايال خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أكد ساركوزي انه لن يتخلى عن الرجل لمجرد كتابات صحفية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: هل يصمد وزير الخارجية؟ وهل يكفي هذا الكتاب لإسقاطه؟ لقد نفى كوشنير كل الاتهامات التي كالها له الكتاب. وصرح في حوار مع مجلة لونوفيل اوبزرفاتور بأن العديد من الفرضيات تقف وراء هذه الحملة التي تستهدفه، أهمها غيرة بعض الدوائر من نجاحاته، سواء من داخل الحكومة أو خارجها، من اليمين أو اليسار. إلا أن وسائل إعلام أخرى أكدت أن الشبكات الفرنسية المؤثرة في إفريقيا هي التي تريد سحب البساط من تحت كوشنير، مهما كانت النهاية التي سيؤول إليها وزير الخارجية.
كوشنير من "أطباء بلا حدود" إلى "أطباء العالم" .. فالوزارة
قرر الدكتوران كوشنير وريكاميي الخروج على واجب التحفظ الذي يمليه عليهما انتماؤهما للصليب الأحمر، ونشرا شهادتيهما بعد 15 يوما، على أعمدة صحيفة لوموند بتاريخ 28 أكتوبر 1968.
غير أن الصليب الأحمر الفرنسي كرم في جمعيته السنوية، المنعقدة بتاريخ 24 نوفمبر 1969، أعضاء الفرق التي شاركت في بيافرا، ماعدا برنار كوشنير، الذي بدا عليه جلياً الغضب، وبرز ذلك في صورة أوضح في مقال نشر في يومية تصدر في العاصمة الغابونية ليبروفيل تدعى «فراتارنيتي ماتان»، أجاب فيه عن أسئلة الصحافي من دون أن يظهر بهويته الحقيقية، حيث اكتفى بالتعريف عن نفسه بأنه «الدكتور (ك).. طبيب شاب في السنة الخامسة طب».
حياد غير مناسب
لقد فضل كوشنير عدم نشر اسمه ليتمكن من إفراغ ما في جعبته، ولا يجد نفسه معارضا لمبدأ الحياد الذي تقوم عليه لجنة الصليب الأحمر الفرنسي، حيث قال «يتوجب علينا في يوم ما مراجعة طريقة تطبيق مبدأ حياد الصليب الأحمر الدولي، انه لا يتناسب مع الأوضاع في إفريقيا، ويمكن ألا يتناسب أيضا مع العالم الحالي».
ويضيف كوشنير «لو كان سكان بيافرا يملكون السلاح لتمت حماية المستشفيات ولتمكن الجرحى من حماية أنفسهم. انظروا. لم يحترم النيجيريون اتفاقية جنيف للصليب الأحمر الخاصة بالجرحى ومستخدمي المستشفيات، يجب مراجعة اتفاقية جنيف، إنها في الحقيقة دعوة للالتزام إنسانيا وعسكريا مع سكان بيافرا».
ويقول الدكتور باسكال غريلتي بوسفيال، الذي كان يدير الفريق الثاني من الأطباء الفرنسيين الذين ينتمون إلى قائمة الاثني عشر طبيبا الذين أسسوا منظمة أطباء بلا حدود «كنا متعاطفين مع بيافرا في العمق. وكنت أول المتعاطفين. كانت هناك فرق أخرى في الجانب النيجيري، كما كان هناك أصدقاء سويديون يقومون بالمهمة ذاتها، كان ضميري مرتاحا. لم يكن احد منا حياديا، مثلما كانت حكومتنا متورطة جدا في تلك القصة، كنا ننتظر المساعدات التي تأتي من ليبروفيل الغابونية ليلا، وكنا نتساءل لم لا يفعلون أكثر من ذلك؟ اعذروني إن لم أبد لكم طبيبا الآن، ذلك أنني كنت أقول لم لا ترسلون مساعدات أكثر، كما كنا نقول لهم أعطوهم السلاح، حتى يدافعوا عن أنفسهم».
حملة إعلامية لصالح بيافرا
ملأت تصريحات سكان بيافرا الصحف الفرنسية طوال عام 1969. وكانت حملة واضحة المعالم لفائدة بيافرا. وبرنار كوشنير بدوره أنشأ في أواخر عام 1968، لجنة لمكافحة الإبادة في بيافرا للتنديد بالعمليات التي حصلت هناك .
وبتنديده بـ«الإبادة البيافارية»، يكون كوشنير قد دخل في الاستراتيجية الإعلامية التي حدد جاك فوكار معالمها.
بالنسبة لنظام اوجوكو كانت الساعة حاسمة، ذلك أن الصراع أصبح دينيا أيضا. فالفدراليون مسلمون، وإذاعاتهم تعلن النية في إخضاع بيافرا للدين الإسلامي، فيما بيافرا ولاية مسيحية تستفيد من دعم الكنائس الغربية الكبرى، غير أن الكنائس لا توزع أسلحة والاحتياجات ضخمة جدا.
على هذا النحو يشرح المسؤول البيافاري بادي دافيس الوضع، ويضيف «هكذا اخترعنا مصطلح الإبادة، حتى يشعر المجتمع الدولي بمعاناتنا».
المجاعة تتحول إلى سلاح
لقد لعبت المصالح الاستخباراتية الفرنسية دورا كبيرا في ترويج هذه المعلومة عبر وسائل الإعلام، مثلما يروي دافيس ببرود، حيث يقول: «لأول مرة في تاريخ الحرب تستعمل المجاعة سلاحا. في الميدان كانت ماركبراس بيافران اوفرسيا براس ديفيجن من يتكفل بالصحافيين. وكانت تبرز لهم مقاومة المحاربين وسقوط المدنيين وموتهم على الخصوص. وحتى تختصر السلطات الوقت على الصحافيين أنشأت لهم حظيرة حشدت فيها أشخاصا، وكانت هناك المئات من الذين ينتظرون حتفهم جوعا يترقبون كاميرات التلفزيونات أن تأتي لتلتقط لهم صورا.
كانت وسائل الإعلام، في تلك الفترة منشغلة جدا بقضايا محاكمة المجرمين النازيين، منها قضية ايشمان (عام 1961) وقضية فرانكفورت (عام 1965)، كما كانت تقوم دوما بتشبيه ما حصل مع اليهود بما يحصل في بيافرا: فالايبو أصبحوا بنظر وسائل الإعلام آنذاك «يهود إفريقيا».
هناك العديد من التصريحات التي تؤكد ما نحن بصدد الحديث عنه، ومنها الشريط الوثائقي الذي أنجزه جويل كالمات، والذي جاء فيه أن مصطلح «إبادة» استعمل بطلب من المصالح الاستخباراتية الفرنسية. لقد طلبوا من أصدقائهم الصحافيين الفرنسيين استعمال كلمة «إبادة» في تقاريرهم الصحافية، ومن ثمة ترددت الكلمة ووجدت لها صدى في العالم بأسره.
كما كانت لاستعمال هذه الكلمة انعكاسات كبرى، فبيافرا تصدرت صحف العالم، وأصبحت الخبر الرئيسي في كل نشرات الأخبار.
مصطلح «الإبادة»
في سبتمبر 1969، اندمجت لجنة برنار كوشنير مع جمعية فرنسا- بيافرا، التي كان يرأسها الوزير السابق روبرت بورون. وعلى الرغم من الدعم الخارجي انتهى التمرد في بيافرا في 10 يناير 1970، حيث دخلت قوات لاغوس مدينة «يولي».
تحدث كوشنير عبر أعمدة مجلة لونوفيل اوبسارفاتير، التي صدرت بتاريخ 19 يناير عن بيافرا، حيث وصف ما جرى بالمحرقة. ثم تساءل: «كيف بإمكاننا أن نسمح بقتل مليونين من البشر؟ لا تنسوا بان مجزرة بيافرا هي اكبر مجازر التاريخ الحديث بعد محرقة اليهود».
هذه التصريحات تمكننا من فهم العديد من الالتزامات التي قطعها كوشنير على نفسه لاحقا، مثل وقوفه، على سبيل المثال، اليوم إلى جانب الجبهة الوطنية الرواندية التابعة لبول كاغام، الدكتاتور الرواندي. لقد كتبت آن فاليس، قائلة: «بيافرا هي تقريبا فيتنام كوشنير».
تحمل المغامرة البيافارية العديد من الدلالات، أولها اللجوء إلى استعمال مصطلح «إبادة» لحشد الدعم الشعبي والخلط ما بين الإنساني والعسكري، مما أدى إلى نشوء فكرة «حق التدخل». فهم كوشنير، رجل عصره، بسرعة الوزن والدور اللذين تلعبهما وسائل الإعلام. كما كان واعيا لما يمكن أن ينتج عن ضجة إعلامية.
من هنا فصاعدا، سيستعمل كوشنير المعلومات والنشاطات الإنسانية في عمله السياسي الذي مكنه من حمل حقيبة وزير. ومن الآن فصاعدا أيضا سيكون هدف كوشنير الرئيسي الكاميرات، سواء تحت لواء «أطباء بلا حدود» أو «أطباء العالم»، حيث أصبحنا نراه في وسائل الإعلام، وهو يتحدث عن الكوارث، ولا يتردد في دعوة أجهزة الدولة إلى التدخل.
ميلاد «أطباء بلا حدود»
نشرت الجريدة الطبية تونوس في 23 نوفمبر 1971 دعوة وجهها الصحافي فيليب بارنيي إلى جميع الأطباء. كانت الدعوة غامضة، لكنها غيرت مسار الأحداث، وجاء فيها: «دعوة إلى الأطباء الفرنسيين لإنشاء منظمة من أطباء الطوارئ المتطوعين».
يتذكر جاك بيريس، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود، الدعوة، قائلا: «كانت غامضة لكنها كانت تحمل شعورا خاصا. لقد قلنا لنجمع نواة الأطباء الذين عملوا في بيافرا، وهكذا بدأت الأمور».
كان لريموند بورال، رئيس مجلة تونوس، وفيليب بارنيي فكرة إنشاء جمعية تضم فريقا من أطباء الطوارئ، أطلقوا عليها اسم «النجدة الطبية الفرنسية». يقول بورال انه يتذكر جيدا اليوم الذي التقى فيه كوشنير، الذي طلب منه الانخراط في صفوف جمعية النجدة الطبية الفرنسية، حيث أكد له انه عمل في بيافرا سابقا، وبإمكانه إقناع الكثير من زملائه بالانخراط في صفوف هذا الفريق.
في 22 ديسمبر 1971 التقى الأطباء الذين عملوا في بيافرا بمجموعة أطباء المجلة في مقر الأخيرة. وفجأة ظهر للجميع بان التسمية غير مناسبة، وانه على العكس تماما، لم يكن برنار كوشنير (كما قيل) هو من أطلق تسمية أطباء بلا حدود على المنظمة، وإنما فيليب بارنيي، بعد أن بعث الأخير رسائل في هذا الشأن في كل الاتجاهات. كما أن كوشنير ليس هو من حرّر ميثاق منظمة أطباء بلا حدود وإنما بارنيي نفسه، الذي يقول بشأنها «أنا من حرّرتها.. فعلت ذلك في عشر دقائق، فالمبادئ التي تقوم عليها المنظمة كانت واضحة وبديهية بالنسبة لي». غير أن كوشنير صرح لآن فاليز، بان مجموعة الأطباء هي من حرّرت الميثاق.
نشر بارنيي، في 3 يناير 1972، وثيقة ميلاد منظمة أطباء بلا حدود، حيث شهدت سنواتها الأولى تباينا في وجهات النظر حول توجهات المنظمة بين الأطباء الذين عملوا في بيافرا، وأولئك الذين يعملون في مجلة تونوس.
تباين وجهات النظر
وبينما كان الفريق الأول يحلم بتكوين مجموعة من أطباء الطوارئ من دون بيروقراطية أو الاعتماد على تنظيم معين مع تنفيذ مهمات قصيرة، كان الفريق الثاني يسعى إلى تسطير أهداف طويلة المدى وتنفيذ مهمات تمتد لفترات أطول، مثلما هي الحال بالنسبة للجنة الدولية للصليب الأحمر.
وأما بالنسبة لكوشنير، فكان المطلوب تشكيل فريق من الأطباء تقع على عاتقه مهمة الدخول، حيث لا يستطيع الصحافيون التواجد، فريق يحمل أعضاؤه حقيبة خاصة بطب الطوارئ، فريق يكون أفراده قادرين على الرجوع في أي لحظة إلى باريس، من اجل نقل شهاداتهم الحية عن الأوضاع التي يعيشونها في المناطق الساخنة.
بمرور السنوات، تواجهت العديد من التيارات داخل منظمة أطباء بلا حدود بما فيها تيار برنار كوشنير.
وخلال الجمعية العامة السابعة لمنظمة أطباء بلا حدود، في 7 مايو 1979، وجد كوشنير نفسه وسط أقلية لا تفي بالغرض، مما دفعه إلى الاستقالة. وأسس في يناير 1980 منظمة أطباء العالم، التي سطر لها ثلاثة أهداف رئيسية: «الذهاب إلى حيث لا يستطيع الآخرون، العمل تطوعي، نشر الشهادات المؤلمة والحية».
بين الصرب والهوتو
كان التعامل مع الصرب خلال حرب البلقان شبيها بما عومل به الهوتو في رواندا. وفي الحالتين لعب كوشنير دورا مهما في وصم الشعبين بالعار ومقارنتهما بالنازيين. وأما تورطه في صراعات يوغسلافيا سابقا فقد لعب أيضا دورا مهما في مساره السياسي لاحقا.
في الواقع، لقد كسب كوشنير ثقة فرانسوا ميتران الكاملة عندما كان في سراييفو خلال الأشهر الثمانية لحكومة بيريغوفوي، التي نال فيها مناصب مرموقة حتى انه أضحى ثاني وزير خارجية بإمكانه التدخل في العديد من الملفات.
كما نجح كوشنير في إقحام فرنسا في الملف الصومالي، بالتدخل عسكريا وإنسانيا، بعد أن أصبح مدلل رئيس الجمهورية، على الرغم من المعارضة الكبيرة التي أبداها وزير الدفاع آنذاك بيير جوكس.
وحتى افهم التزامه في إفريقيا وطريقة عمله هناك، بدا لي انه من الضروري الخروج من الإطار الإفريقي الذي بدأت بالتفصيل فيه، لأروي لكم عمل كوشنير في البلقان.
في عام 1988 تمت مكافأة رئيس منظمة أطباء العالم بتعيينه في منصب سكرتير دولة مكلف بالعمل الإنساني، وذلك قبل أيام فقط من موعد الانتخابات الرئاسية ودعمه العلني للرئيس فرانسوا ميتران.
وحتى يتمكن من لفت الانتباه إلى دائرته الوزارية، احكم كوشنير قبضته على جميع النشاطات والحركات التي تعمل في النشاط الإنساني، وكأنه لا يزال رئيس منظمة أطباء العالم وأطباء بلا حدود.
اتهام بالسيطرة على العمل الإنساني
في يوليو 1990 اتهم روني برومان، رئيس منظمة أطباء بلا حدود، برنار كوشنير بمحاولة السيطرة والاستحواذ على العمل الإنساني. لقد علق برومان للقناة الطبية الخاصة «كانال سونتي» على رحلة كوشنير إلى إيران اثر الزلزال الذي ألمّ بهذا البلد، قائلا: «عندما نرى وزيرا في الميدان من اجل تنسيق عمل رجال الإنقاذ الفرنسيين أقول إن هذا يكفي. لقد تجاوزنا الحدود. نحن مستقلون تماما، والتزاماتنا تتم بعيدا عن السياسة. وبالتالي من غير المعقول أن نعطي انطباعا بأن منظمتنا تعمل وفق أوامر الحكومة».
هذا السلوك أثار عددا كبيرا من الناشطين في مجال العمل الانساني والتطوعي، خصوصا خلال حرب الخليج، حيث دعا سكرتير الدولة إلى الحرب في مقال نشرته صحيفة لوموند بتاريخ 16 يناير 1991، بعد انتهاء المهلة التي حددتها قوات التحالف.
لقد حاول برنار كوشنير أن يفرض من خلال مقاله إطارا جديدا للسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت واقعية في عهد رولان دوما.
لننتقل الآن من المجال النظري إلى المجال التطبيقي. فسكرتير الدولة، بدأ في تطبيق معايير جديدة للسياسة الخارجية في كردستان. لقد حاول فرض فكرة حق التدخل الإنساني بدعم من دانيال ميتران، رئيسة مؤسسة «فرنسا –حريات»، حيث شارك على الحدود العراقية- التركية في مهمة فرنسية- أميركية، تهدف إلى إلقاء المواد الغذائية على القرية الحدودية التركية داستاني وأيضا داخل الأراضي العراقية. أنجزت العملية طائرات من نوع «ترانسال سي- 160»، التي كانت محملة ب11 طنا من المواد الغذائية موجهة الى مخيم للاجئين يضم 60 ألف لاجئ من تركيا و250 ألف لاجئ آخرين من العراق. وتمت العمليات في الأيام التي تلت هذه العملية انطلاقا من القاعدة التركية الأميركية في اينسيرليك.
هذه التصرفات أثارت غزافيي ايمانويلي، الذي أصبح فيما بعد سكرتيرا للدولة مكلفا بالعمل الإنساني الطارئ، وكان آنذاك «رئيس شرف» لمنظمة أطباء بلا حدود.
عمال تابعون لمنظمة أطباء بلا حدود ينقلون مساعدات عبر نهر الليطاني في لبنان خلال حرب يوليو 2006 (رويترز)
العالم في نظر ك (4) ميتيران قرّب كوشنير ليستغله إعلاميا عند الحاجة
سكان سراييفو يختبئون من قناص خلف مدرعة لقوة الحماية التابعة للأمم المتحدة 1993
تأليف بيار بيون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يعود الصحافي الفرنسي بيار بيون في كتابه الجديد «العالم بنظر ك.» إلى العديد من القضايا المثيرة في حياة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي، والرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا بحسب استطلاعات الرأي.
فوزير الخارجية الفرنسي يواجه اليوم تحديات كبيرة، لعل أهمها إنقاذ صورة «الفارس الأبيض»، التي صنعت نجاحاته الإعلامية، ومكنته من الحفاظ على موقعه السياسي فترة طويلة.
يهدف كتاب بيار بيون، الذي وُصف في فرنسا بـ «الكتاب الصدمة»، إلى إسقاط الصورة التي رسمها الفرنسيون لكوشنير في مخيلاتهم، وربما إسقاطه من الحكومة الفرنسية خلال التعديل الوزاري المقبل، حيث يصفه الكاتب بالفرنسي السيئ، المتأثر بالنموذج الانغلوسكسوني، ذلك الذي يقف عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة»، بينما لا يفعل الشيء نفسه عند عزف النشيد الوطني الفرنسي لامارسييز. كما يشير إلى أن يهودية كوشنير المزدوجة هي المحرك الرئيسي لكل أفعاله ومواقفه.
يرى بيار بيون ان كوشنير شارك في مؤامرة أميركية استهدفت رواندا والبوسنة وفلسطين وكوسوفو، مؤامرة كان هدفها الرئيسي تقسيم وتفتيت الأقاليم والدول. كما يورد في مؤلفه الكثير من الحقائق المثيرة، بطلها كوشنير، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. فكوشنير متهم باستغلال منصبه كوزير للخارجية، للضغط على حكومات افريقية مقابل الحصول على التقارير المتأخرة التي أنجزها حول الأنظمة الصحية لهذه البلدان.
كما يعود بيار بيون في الكتاب الذي ترجمته «القبس» لقرائها، إلى قضية تعيين زوجة وزير الخارجية الفرنسية، في منصب مديرة الإعلام الخارجي- المسموع والمرئي- في خضم صراع المصالح، والتي يقول بيون انها سرحت العديد من الصحافيين الذين انتقدوا زوجها سواء في تلفزيون فرنسا 24 أو إذاعة فرنسا الدولية.
تقول بعض وسائل الإعلام الفرنسية ان مقربين من قصر الاليزيه ومستشارين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من زود بيير بيون بالوثائق والفواتير التي استند إليها في اتهاماته، إلا أن ذلك لم يحل دون دعم الرئيس الفرنسي له.
فساركوزي، وخلال آخر ظهور تلفزيوني له، جدد ثقته في وزير خارجيته الاشتراكي، الذي وقف إلى جانب سيغولين روايال خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أكد ساركوزي انه لن يتخلى عن الرجل لمجرد كتابات صحفية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: هل يصمد وزير الخارجية؟ وهل يكفي هذا الكتاب لإسقاطه؟ لقد نفى كوشنير كل الاتهامات التي كالها له الكتاب. وصرح في حوار مع مجلة لونوفيل اوبزرفاتور بأن العديد من الفرضيات تقف وراء هذه الحملة التي تستهدفه، أهمها غيرة بعض الدوائر من نجاحاته، سواء من داخل الحكومة أو خارجها، من اليمين أو اليسار. إلا أن وسائل إعلام أخرى أكدت أن الشبكات الفرنسية المؤثرة في إفريقيا هي التي تريد سحب البساط من تحت كوشنير، مهما كانت النهاية التي سيؤول إليها وزير الخارجية.
السياسيون لا يمارسون سوى السياسة.. وإذا ما قالوا غير ذلك فهم يكذبون
كتب ايمانويليي مقالة رأي في جريدة لوموند بتاريخ 10 مايو 1991 تحدث فيها عما سماه «نهاية العالم» بالقرب من قرية كوكوركا، التي شاهدها ملايين المتفرجين عبر شاشات التلفزة بعد أن احتضنت رغم الكارثة، عرضا لألعاب سيرك اختير له عنوان «غرق شعب».
لقد خُص المهرجان بتغطية إعلامية كبيرة، وان ساعد هذا من بث شهادات حية من المكان ذاته، إلا أن زميل برنارد كوشنير السابق أضاف، وهو يصف المنظومة الإعلامية التي جندت لتغطية عملية إلقاء المساعدات الغذائية بحضور الصحافيين وتلفزيونات العالم بأسره، «كانت السلطات التركية كريمة. فعلى الرغم من سوء حال الطرق في هذه المنطقة فقد زودت المنطقة بهوائي مقعر كبير ليحول في ظرف 24 ساعة هذا المكان الذي يسكنه 4500 نسمة إلى مركز دولي للصحافة يبث إلى مختلف نقاط العالم أخبارا وصورا، سواء عن طريق البث التلفزيوني المباشر وغير المباشر أو عن طريق الهاتف والفاكس والتيليفاكس. لقد كانت نوعية الصور جيدة، والصوت أيضا. وكانت عملية الميكساج والمونتاج تتم في تجهيزات تابعة لشبكة سي. إن. إن. التي كانت تبعث بدورها التقارير إلى قاعات التحرير، شاهدة على الكارثة بشكل مباشر. كان الصحافيون يصورون معاناة الأكراد في كوكوركا. وكان الساتل يربط هذا المكان بالحضارة والعالم الآخر في الجهة المقابلة».
مساعدات قاتلة
لكن ما الذي كانت تظهره صور التلفزيونات؟ كانت مظاهر التضامن تبث مرتين إلى ثلاث مرات في اليوم، سواء في المخيمات أو داخل الخيام أو السيارات والشاحنات أو على الطرق الجبلية الضيقة التي كانت تشهد توالي عبور قوافل المساعدات الإنسانية،والطائرات المقاتلة التي كانت تؤمن عبور طائرات الاركول، التي كانت تلقي بالمساعدات.
كانت علب المساعدات مزودة أحيانا بمظلات للهبوط وأحيانا من دونها. وكانت هذه المظلات تفتح أثناء الهبوط وأحيانا أخرى لا تفتح. وكانت أحيانا تسقط في تركيا وسط الجنود وأحيانا أخرى في العراق وسط المخيم، حيث كان الرجال والمراهقون يتسابقون من اجل الظفر بشيء. كما كانت تسقط أحيانا في مناطق ملغمة.
وأحيانا أخرى، كانت بعض المساعدات تسقط على خيمة فتحطمها وتتسبب بمقتل احد فيها من غير المحظوظين. وعلى الرغم من ذلك ظلت تستمر في السقوط على هذا المخيم رغم انه كان يمكن للشاحنات الوصول إليه، مثلما تمكن الصحافيون من بلوغه بواسطة الحافلات.
ويصف ايمانويليي الوضع، قائلا: «لا يجب علينا أن نتحدث عن الجانب الإنساني وعن مساعدات إنسانية في تلك الجبال ما دمنا نلقي لهم بالمواد الغذائية وكأننا نلقيها إلى حيوانات. ولا يمكن أن نتحدث عن مساعدات إنسانية ما دمنا ندفع الناس إلى التقاتل والتشاجر من اجل الحصول عليها. عملية الإنقاذ ليست خطابا عاطفيا. إنها مهمة براغماتية محددة وواضحة. إنها فرق الأطباء والممرضين والمسؤولين عن الإمداد أولئك الذين يحملون المياه ويحفرون دورات المياه، هم أولئك الذين يتخلصون من الفضلات.. لا تستطيع أي حكومة القيام بهذا لأنها بحاجة إلى إطار للتدخل، ولهذا السبب يطالب البعض باستعمال «مبدأ وحشي» لم يسبق أن عرفه العالم في الماضي ألا وهو «حق التدخل».
السياسي لا يمارس غير السياسة
علينا أن نتوقف من السخرية من كلمة «إنساني». فالجنود لا يمكنهم أن يقوموا بعمل إنساني مثلما هي الحال بالنسبة للسياسيين. للجنود مهمة وهم يطيعون الأوامر بشجاعة وحب، غير أنهم يطيعون. أما السياسيون فلا يمارسون سوى السياسة، وإذا ما قالوا إن بإمكانهم فعل غير ذلك فهم يكذبون.
إنها المنظمات غير الحكومية، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة التي تستطيع التدخل ويفرض عليها ذلك. لا يجب أن يقدم الإنسان نفسه على الساحة على حساب حياة الآخرين. انه أمر مرتبط بشرف الإنسان واحترامه، هذه الكارثة ليست مهرجانا على الإطلاق.
بعيدا عن هذا الموقف العلني الذي نشر في «لوموند» قبل 17 سنة، كانت هناك في كواليس الدواوين الوزارية، معركة عنيفة بين كوشنير ومناوئيه في الكيدورسيه ووزارة الدفاع. وإذا ما كان ايمانويلي يتطرق بتكتم إلى الأشخاص الذين لاقوا حتفهم بعد أن سقطت عليهم الطرود التي كانت تلقيها الطائرات المحملة بالمساعدات الغذائية، فان العسكريين وأعوان المصالح الاستخباراتية واضحون جدا في هذا الشأن، حيث يقولون ان عمليات إلقاء الطرود هذه خلفت العشرات من القتلى.
هذه الحجج، وتلك التي ساقها ايمانويلي، أدت إلى توقف العمليات في كردستان وانتقال كوشنير من وصاية وزارة الداخلية إلى وصاية وزارة الخارجية.
كتب ماري بيير سابتيل في جريدة لوموند الصادرة بتاريخ 25 مايو 1991 يقول: كان سكرتير الدولة كوشنير حانقا على المواقف الفرنسية تجاه العديد من القضايا الدولية عندما كان تحت وصاية وزارة الداخلية. غير أن القدر أراد أن يحدث التعديل الوزاري بعد أسابيع فقط من تدخل قوات التحالف في كردستان تحت مسمى حق التدخل الإنساني، لازمة كوشنير القديمة، التي أصبحت حصان طروادة الذي تعتمد عليه السياسة الخارجية الفرنسية.
وعلينا أن نوضح هنا ان كوشنير، وخلال التزامه في العراق، قام بعملية انتقائية في صفوف ضحايا نظام صدام حسين. فهو لم يقف إلا إلى جانب الأكراد ولم ينبس بكلمة واحدة لمصلحة الشيعة على الرغم من المجازر التي استهدفت آلافا منهم.
مهمة أخرى في يوغسلافيا سابقا
توفي الماريشال تيتو في 4 مايو 1980 بعد 35 سنة قضاها على رأس فدرالية يوغوسلافيا، التي ساهم في قيامها بعد الحرب العالمية الثانية. بوفاة تيتو تمكنت مختلف مكونات الجمهورية الاشتراكية اليوغسلافية من المتوقع تدريجيا وعلى الخصوص الصرب وسلوبودان ميلوزوفيتش الذي أصبح فيما بعد رئيس صربيا من مايو 1989 إلى أكتوبر 2000.
لقد صبّ الزعيم الوطني الصربي ميلان بابيك الزيت على النار حين طالب في 28 فبراير باستقلال جمهورية صرب كرايينا التي تمتد أراضيها إلى كرواتيا. فقد بدأت المواجهات منذ ربيع هذه السنة لينتهي الأمر بإعلان كل من سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما عن الفدرالية اليوغسلافية بعد الاستفتاء الذي نظم وفقا لدستوريهما بتاريخ 25 يونيو 1991. واعترفت ألمانيا والنمسا والفاتيكان، وبعدها الولايات المتحدة بدولة كرواتيا الجديدة.
حاول الجيش الفدرالي، الذي يشكل الصرب ومواطنو الجبل الأسود غالبية سكانه، الحفاظ بالقوة على وحدة الفدرالية، وذلك بعد 24 ساعة من إعلان استقلال سلوفينيا وكرواتيا اللتين شهدتا معارك دامية بين القوات الشعبية الاستقلالية والقوات الفدرالية.
نصب الاتحاد الأوروبي في 27 أغسطس 1991 لجنة كلفها بمعالجة الملف برئاسة روبير بادانتر. وبعد دراسة معمقة للملف، رأت اللجنة ان فدرالية يوغسلافيا في طريقها إلى التقسيم حيث أوصت بالاعتراف بالدولتين المنشقتين.
اعترف الاتحاد الأوروبي أخيرا بشرعية الدولتين الجديدتين. وكان هذا القرار بالنسبة للدبلوماسية الأوروبية شهادة وفاة فدرالية يوغسلافيا.
حصار سراييفو
في الوقت ذاته، بدأ الصرب في كل جمهوريات الفدرالية بالتجمع وبناء إطار لهم بزعامة الوطني رودوفان كارازديتش، مما دفع الرئيس الكرواتي فرانغو توجمان إلى دعوة الجميع إلى التجنيد والوقوف ضد مشروع صربيا الكبرى، الذي كان الصرب يدعون إلى إقامته.
في 29 فبراير 1992جاء دور البوسنة والهرسك لتطالب هي الأخرى بالاستقلال، حيث صوّت 63% من البوسنيين لفائدة الاستقلال، وغالبيتهم من المسلمين (43% من السكان ) والكروات (17% من السكان )، بينما صوت الصرب ضد الاستقلال.
اعترف المجتمع الدولي بسرعة بالدولة الجديدة، لتنضم الدول الثلاث بعد ذلك الى منظمة الأمم المتحدة.
تعرضت البوسنة والهرسك، مثلها مثل كرواتيا وسلوفينيا، لهجوم منظم من قبل الجيش الفدرالي بقيادة الصرب، ليحاصر صرب البوسنة سراييفو من 5 ابريل 1992 إلى غاية 29 فبراير 1996 ويصبح هذا الحصار أطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة.
لقد احتضنت لشبونة ما بين 26و27 يونيو 1992 قمة الاتحاد الأوروبي التي خصصت لوضع أجندة للتوقيع على اتفاقية ماستريخت والتأكيد على الأهمية الكبيرة لمستقبل الاتحاد الأوروبي.
وخلال هذه القمة، وتحديدا في صبيحة يوم السبت 27 يونيو، تناول الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران والمستشار الألماني هيلموت كول الإفطار على طاولة واحدة، حيث عبر الرجلان عن قلقهما من الأوضاع المتأزمة في سراييفو. وفي تلك الليلة أيضا اجتمع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، ونجحوا في الاتفاق على نص يسمح باستعمال الوسائل العسكرية للوصول إلى أهداف إنسانية فقط.
غضب كوشنير
تملكت كوشنير حالة من الغضب الشديد، داخل غرفته في الفندق بعد أن أوتي به من باريس، خاصة بعد أن انتهت إلى مسامعه أخبار مفادها انه لن يطير إلى سراييفو برفقة الوفد الأوروبي. فقد قالت الاشاعات آنذاك ان المهمة سيرأسها رولان دوما.
كان كوشنير، الذي عيّن لتوه وزيرا للصحة والعمل الإنساني، يرغب في أن يكون على رأس هذه اللجنة بأي ثمن. وهو الذي حاول لأسابيع إقناع الرئيس الفرنسي بأهمية القيام بعمل في البوسنة. لم يقرر ميتيران الذهاب إلى سراييفو بنفسه فقط، وإنما أيضا أخذ معه كوشنير الذي يحبه ويستمع اليه أكثر فأكثر.
وبعيدا عن القضية البوسنية، كان ميتيران يرى ان كوشنير، وهو الرجل السياسي الأكثر شعبية بحسب استطلاعات الرأي، يمكن أن يكون مفيدا جدا كأداة للاتصال تعمل لفائدته عند الحاجة، ذلك أن صحته لم تعد على ما يرام من جهة، ولأنه يتعرض لهجوم من قبل سرج كلارسفيلد وأصدقائه وأيضا لهجوم القاضي جون بيير.
ميتيران وكوشنير الى سراييفو
ذهب ميتيران ومعه كوشنير وصحافيان اثنان، هما فيرونيك ديكودو (عن وكالة الأنباء الفرنسية) وكلود ازولاي (عن باري ماتش).
وهكذا قضى الرئيس ووزيره الأمسية في سليبت مع وزير خارجية كرواتيا وسفير فرنسا القادم من زغرب. وهناك أوضح ميتيران ان الهدف الرئيسي لزيارته «إنساني فقط»، حيث استقبل هذا النبأ في سراييفو بارتياح كبير.
قال كوشنير للصحافة، وبمجرد أن حطت مروحية الرئيس في مطار سراييفو بتاريخ 28 يونيو، «لقد انتهت المهمة. والمطار فتح من جديد».
استمرت مهمة الرئيس الفرنسي ومن معه 6 ساعات، زار خلالها القبعات الزرق لقوات الحماية التابعة للأمم المتحدة والمسؤولة عن مرافقة قوافل المساعدات الإنسانية. كما زار المستشفيات التي قرأنا في الصحف أنها تحتاج إلى كل شيء، لكن ظهر فيما بعد أن المعلومة خاطئة، لان المستشفيات هناك لم تعان من نقص في الأدوية والتجهيزات الطبية إلا بعد مرور ثلاثة أشهر على زيارة ميتيران .
تناول ميتيران الغداء في القصر الرئاسي، الذي سقطت بمحاذاته ثلاثة قنابل. وحول المائدة تطرق الرئيس عزت بيغوفيتش إلى وجود معسكرات إبادة في البوسنة قبل أن يكرر ذلك أمام الصحافة.
كان ميتيران يحب السلوكيات الرمزية، لذلك قرر وضع وردة أمام مخبزة استهدفت قبل أيام بقنبلة، مما أدى إلى مقتل عشرة أشخاص. ثم ذهب إلى المقر الذي يحتضن المؤتمر الصحفي، حيث أكد أمام الصحافيين انه جاء إلى هنا «ليرى ويشهد ويلاحظ ويسمع».
إلى جانب ذلك، قال ميتيران «إن زج المنطقة في حرب علاوة على الحرب التي تعيشها لن يحل القضية».
هذا الموقف علق عليه روني برومان بالقول «إن ميتران حط في مطار سراييفو كرئيس للجمهورية الفرنسية، غير انه غادره كرئيس للصليب الأحمر».
لقد انتهت زيارة الرئيس الفرنسي بتكليف القوات الأممية بمراقبة مطار سراييفو، فيما تم السماح بفتح جسر إنساني لإمداد المنطقة بالمساعدات الغذائية، ليصبح هذا الجسر الرابط الوحيد بين سراييفو والعالم الخارجي، إلى غاية سقوطها في 29 فبراير 1996.
نتائج رحلة سراييفو
كان لرحلة كوشنير إلى سراييفو الكثير من النتائج المباشرة عليه، ومنها أن موقعه أصبح قويا جدا. وما إن حطت الطائرة التي أقلته إلى باريس، حتى انزعج من وجود بيير جوكس ورولان دوما على أرضية المطار، مما دفع الرئيس ميتران إلى القول له «البطل اليوم هو أنت. إذا لا تخف، بالعكس عليك أن تبدو أكثر قوة».
شعر كوشنير بالغبطة. وقال «وأخيرا أصبح من حق العمل الإنساني أن يُذكر في خضم السياسة»، ها هو ذا يُقبل في الدائرة الأولى لمحيط الرئيس فرانسوا ميتران.
لقد اطلع الفرنسيون على الوضع الجديد الذي آل اليه كوشنير، عندما قرأوا في شهر سبتمبر في الصحف، بان الرئيس دعاه وزوجته كريستين اوكرانت لقضاء أيام في بال ايل اون مار.
جريدة نيويورك نيوزداي، الجريدة النيويوركية المتواضعة، نشرت في تاريخ 2 أغسطس 1992 مقالا للكاتب روي غاتمان بعنوان «معسكر الموت»، وصف فيه معسكرات المساجين المحتجزين من قبل الصرب، وعلى الخصوص معسكر اومارسكا. واستخدم غاتمان مصطلح «محتشد» مع اعترافه بأنه لم يزر أبدا تلك المعسكرات، وإنما حصل على المعلومات من مصدرين: الأول ـ ولم يكن متأكدا منه ـ يتعلق بشهادة من المكان ذاته، وضعها تحت تصرفه احدهم ويدعى اليغا لوجينوفيك، الذي أكد له مقتل 3500 شخص في باركو ما بين منتصف مايو ومنتصف يونيو.
وأما المصدر الثاني فيدعى ميهو الذي وصف تفاصيل الاغتيالات التي شهدها معسكر الاعتقال في اومارسكا.
أعادت العديد من وسائل الإعلام الأميركية وأخرى من باقي العالم، نشر هذا المقال مثلما يؤكده ميشال فلوكت وبرتراند كوك في كتابهما «متاعب برنار كوشنير في يوغسلافيا».
غير أن الوصف الذي قدمته الجريدة في المقال،كان عن معسكر اعتقال، وسواء كان من يديره صربا أو كرواتا أو مسلمين بوسنة، فهذا لا يجعل منه أبدا معسكر موت شبيه بمعسكرات الموت التي انشأها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية.
العالم في نظرك. (5) كوشنير يثور على صحافي «فرانس 24» وزوجته تطرده
تأليف بيار بيون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يعود الصحافي الفرنسي بيار بيون في كتابه الجديد «العالم بنظر ك.» إلى العديد من القضايا المثيرة في حياة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي، والرجل السياسي الأكثر شعبية في فرنسا بحسب استطلاعات الرأي.
فوزير الخارجية الفرنسي يواجه اليوم تحديات كبيرة، لعل أهمها إنقاذ صورة «الفارس الأبيض»، التي صنعت نجاحاته الإعلامية، ومكنته من الحفاظ على موقعه السياسي فترة طويلة.
يهدف كتاب بيار بيون، الذي وُصف في فرنسا بـ «الكتاب الصدمة»، إلى إسقاط الصورة التي رسمها الفرنسيون لكوشنير في مخيلاتهم، وربما إسقاطه من الحكومة الفرنسية خلال التعديل الوزاري المقبل، حيث يصفه الكاتب بالفرنسي السيئ، المتأثر بالنموذج الانغلوسكسوني، ذلك الذي يقف عند عزف النشيد الوطني البريطاني «فليحفظ الله الملكة»، بينما لا يفعل الشيء نفسه عند عزف النشيد الوطني الفرنسي لامارسييز. كما يشير إلى أن يهودية كوشنير المزدوجة هي المحرك الرئيسي لكل أفعاله ومواقفه.
يرى بيار بيون ان كوشنير شارك في مؤامرة أميركية استهدفت رواندا والبوسنة وفلسطين وكوسوفو، مؤامرة كان هدفها الرئيسي تقسيم وتفتيت الأقاليم والدول. كما يورد في مؤلفه الكثير من الحقائق المثيرة، بطلها كوشنير، احد مؤسسي منظمة أطباء بلا حدود. فكوشنير متهم باستغلال منصبه كوزير للخارجية، للضغط على حكومات افريقية مقابل الحصول على التقارير المتأخرة التي أنجزها حول الأنظمة الصحية لهذه البلدان.
كما يعود بيار بيون في الكتاب الذي تقدمه «القبس» لقرائها، إلى قضية تعيين زوجة وزير الخارجية الفرنسية، في منصب مديرة الإعلام الخارجي- المسموع والمرئي- في خضم صراع المصالح، والتي يقول بيون انها سرحت العديد من الصحافيين الذين انتقدوا زوجها سواء في تلفزيون فرنسا 24 أو إذاعة فرنسا الدولية.
تقول بعض وسائل الإعلام الفرنسية ان مقربين من قصر الاليزيه ومستشارين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من زود بيير بيون بالوثائق والفواتير التي استند إليها في اتهاماته، إلا أن ذلك لم يحل دون دعم الرئيس الفرنسي له.
فساركوزي، وخلال آخر ظهور تلفزيوني له، جدد ثقته في وزير خارجيته الاشتراكي، الذي وقف إلى جانب سيغولين روايال خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أكد ساركوزي انه لن يتخلى عن الرجل لمجرد كتابات صحفية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: هل يصمد وزير الخارجية؟ وهل يكفي هذا الكتاب لإسقاطه؟
لقد نفى كوشنير كل الاتهامات التي كالها له الكتاب. وصرح في حوار مع مجلة لونوفيل اوبزرفاتور بأن العديد من الفرضيات تقف وراء هذه الحملة التي تستهدفه، أهمها غيرة بعض الدوائر من نجاحاته، سواء من داخل الحكومة أو خارجها، من اليمين أو اليسار. إلا أن وسائل إعلام أخرى أكدت أن الشبكات الفرنسية المؤثرة في إفريقيا هي التي تريد سحب البساط من تحت كوشنير، مهما كانت النهاية التي سيؤول إليها وزير الخارجية.
استعمال وسائل الإعلام والرأي العام لمصطلحي «معسكر الموت» و «المعتقل»، أعاد إلى الواجهة الحديث عن الإبادة، لكن هذه المرة في الصراع الدائر رحاه في يوغسلافيا سابقا.
وهكذا وجد كوشنير احد أهم المواضيع التي يحبّ أن ينشغل فيها. زادت حماسته وطاقته التي يُعرف بها، وبرفقة مجموعة من المثقفين من أمثال باسكال بروكنار والآن فينكيلكروت واندري غلوكسمان وأيضا برنار هنري ليفي، بدأ الجميع في التنسيق لإنجاح حملة إعلامية تهدف إلى الاحتجاج على الأوضاع هناك، وكان كل واحد يحتج من موقعه وبحسب الظروف المتاحة له.
فتح الصرب معسكر اومارسكا أمام فريق من التلفزيون البريطاني للوقوف في وجه الحملة الإعلامية التي يقودها كوشنير، حيث كانت سلطات بلغراد، التي تراقب عمل الصرب في البوسنة، تسعى إلى اطلاع المجتمع الدولي على ان السجناء ليسوا ضحايا مجازر جماعية، وأن التعامل معهم ليس بالسيئ، وان معسكر اومارسكا لا علاقة له إطلاقا بمعسكري الاعتقال النازيين بيركينو واوشفتيز.
غير أن ما حصل كان غير ذلك تماما. في تلك الليلة بثت تلفزيونات العالم مجموعة من الصور تبرز رجالا نحيلين جدا ومحتجزين وراء الأسلاك الشائكة.
أدى بث هذه الصور إلى تصاعد حدة ردود فعل معاكسة تماما لبلغراد، ما غيّر رأي المشاهدين في الغرب وادخل الصراع في مرحلة جديدة.
صوّت مجلس الأمن في الليلة من 11 إلى 12 أغسطس على القرارين 770 و771، اللذين يشترطان دخول اللجنة الدولية للصليب الأحمر وكل المنظمات الإنسانية بكل حرية إلى المعسكرات التي تم جردها، وهي ستة معسكرات كرواتية ومعسكران صربيان وآخر بوسني.
طار برنار كوشنير في تلك الأثناء إلى البوسنة برفقة كل من بونوا غيسمبرغ عن «باري ماتش» وإيزابيل ايلسن عن «لوجورنال دو ديمانش» وديديي فرانسوا عن «ليبيراسيون» وناهيدا ناكاد عن «تي اف 1». غير أن طائرته حطت في جنيف قبل البوسنة، ليصطحب معه شارل لامونيير، وهو موظف سام في الأمم المتحدة.
في اليوم التالي، زار كوشنير برفقة السلطات الصربية معسكر اومارسكا، الذي تم إفراغه تقريبا من السجناء. ثم اصطُحب إلى مانجاكا، وهناك كانت الوضعية قريبة من الفكرة التي يود أن تكون هي الحقيقة. لقد كان عدد السجناء اكبر بكثير من طاقة استيعاب المعتقل.
وأخيرا، وفي ختام زيارته، اتجه كوشنير إلى ترنوبولي، حيث لم يكن هناك شيء يستحق المتابعة أو الاهتمام. ثم زار معسكرا بوسنيا وسجنا عسكريا لم ير فيهما شيئا يذكر.
أعاد كوشنير كتابة القصة في «باري ماتش» بعد أسبوع بالضبط، حيث أكد انه اختار المعسكرات في اللحظات الأخيرة.
مغفل سلطات بلغراد
لم يكن كوشنير خلال الثماني والأربعين ساعة، التي استغرقتها زيارته، سوى مغفل السلطات، فالمعسكرات التي ذهب إليها في آخر لحظة، مثلما قال، زارها في الوقت نفسه العديد من الصحافيين، بينما المعسكرات الأخرى بقيت مغلقة ولم يزرها احد.
بالنسبة للوزير وحاشيته من الإعلاميين كان الشر يحمل اسما واحدا: هو «الصرب»، في وقت بدا فيه مبدأ التدخل الإنساني وحرب الخير ضد الشر، يجدان مكانا لهما لدى الرأي العام باسم الأخلاق السياسية والدفاع عن حقوق الإنسان.
اتخذ كوشنير موقف بيير هارميت، الذي دعا سابقا الأوفياء للذهاب إلى الأرض المقدسة في سبيل أول حرب صليبية يريدها الله.
في الوقت ذاته أكدت «نيويورك تايمز» في مقال لها أن أجهزة الاستخبارات الأميركية ضاعفت جهودها، لكنها لم تعثر على دليل واحد على مجازر ترتكب بطريقة آلية ومنظمة في حق مساجين كروات ومسلمين في معسكرات الصرب.
حملة إعلانية
أطلقت منظمة أطباء العالم حملة إعلانية تدين دون حجج، الشعب الصربي في يناير وفبراير 1993، بينما كان مجلس الأمن والمجتمع الدولي والقوات الأممية عاجزين عن ايقاف الحرب.
قدرت قيمة الحملة الإعلانية بمليوني دولار أميركي، حيث تضمنت ومضات إعلانية أيضا، بثت طيلة أسابيع على التلفزيونات الفرنسية، وكان هدفها الرئيسي، هو التأثير على الرأي العام حتى يتخذ موقفا يُشبّه فيه الصرب بالنازيين.
نشرت جريدة لومانيتي الشيوعية في 6 يناير 1993 مقالا جاء فيه: ان منظمة أطباء العالم تلعب لعبة خطيرة جدا. فهذه المنظمة، المنبثقة عن انشقاق في صفوف منظمة أطباء بلا حدود، يمولها بشكل كبير الوزير كوشنير. وأما هدفها الرسمي فهو التدخل على الصعيد الإنساني.
لقد أطلقت منظمة أطباء العالم هذه الحملة انطلاقا من وقائع مغلوطة وغير صحيحة، حيث أكد كوشنير، سنوات فيما بعد، في كتابه «مقاتلو السلم» الزيف والتزوير.
ذهب كوشنير برفقة السفير الأميركي رتشارد هولبروك والرئيس البوسني السابق علي عزت بيغوفيتش إلى مستشفى سراييفو. لقد مات الرجل الآن والساعة ساعة الحقيقة.
سأل كوشنير بيغوفيتش: أتتذكر زيارة الرئيس ميتران؟
يجيب عزت بيغوفيتش: نعم. لا أزال أتذكر.
خلال الحديث، تحدثت عن وجود معسكر إبادة في البوسنة وكررت هذا أمام الصحافة. لقد أدت تصريحاتك إلى ظهور موجة قلق معتبرة في العالم.
أرسلني فرانسوا إلى اومارسكا، وقمنا بفتح سجون أخرى. كانت أماكن فظيعة ومخيفة غير أن الأمر لم يكن يتعلق بإبادة، أتعرف ذلك؟
-نعم، يعترف عزت بيغوفيتش، ظننت بان تصريحاتي بإمكانها أن تسرّع الهجوم. رأيت ردود فعل الفرنسيين والآخرين....لقد أخطأت.
-أجل، حاولت، ولكن تقديراتي كانت خاطئة، لم تكن هناك معسكرات إبادة، لكنها كانت أماكن رهيبة.
لقد رأى «الفرانش دكتور» سابقا، في صراع البلقان فرصة تطبيق مبدأ التدخل الإنساني الذي دعا إليه في بيافرا، هل من المفاجئ أن نلاحظ التوافق الكلي بين تصرفات كوشنير في البلقان ومواقف الأميركيين الذين سعوا إلى تفجير الفيدرالية اليوغسلافية ودعموا دول البلقان الجديدة ضد موسكو القوة الوحيدة في المنطقة، من اجل الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية بواسطة الحلف الأطلسي؟!
أكياس الأرز وثورة كوشنير
كتب ايريك امبتاز في «لوكانار اونشيني» بتاريخ 9 ديسمبر 1992 يقول: «آه، الصورة الرائعة، برنار وكيسه المعبأ بالأرز من نوع أنكل بانز، غارق في غبار شاحنات الأمل».
وزير الخارجية الفرنسي لا يطيق تذكر هذه الحلقة، حيث رأيناه في الحرب وهو يحمل أكياس الأرز، عين على الكاميرات وعين على قدره.
وزير الخارجية الفرنسي أثار أيضا ضجة في تلفزيون فرانس 24 أمام الصحافي يوليس غوسي بتاريخ 28 يوليو 2008 خلال برنامج «توك شو- باريس». ولكن لماذا؟ وما السبب الذي دفع كوشنير إلىالاثارة؟
لقد غضب كوشنير مما سماه «صورا حمقاء» تضمنها البورتيريه الذي سبق الحوار والذي كان سيجريه معه الصحافي خلال البرنامج. لكن تصوروا ما الذي جرى بعد أربعة أشهر من هذا اللقاء.
لقد أجبر الصحافي يوليس غوسي على مغادرة قناة فرانس 24، التي تقع تحت وصاية قطاع الإعلام المرئي والمسموع الذي تديره السيدة كوشنير.
الدعم الأميركي
أصبح كوشنير شخصية دولية في مقديشو، حيث أصبح بحسب جريدة التايم واحدا من أبطال الستين سنة الأخيرة.
ومثل مهمة بيافرا ،كانت مهمة الصومال في عام 1993، مليئة بالدروس والألغاز، ليس فقط لعدم تمكن الجنود الأميركيين من حل المشاكل التي كانت تحول دون وصول المساعدات الإنسانية إلى الصومال، ولكن لان العملية انتهت بفشل ذريع.
لقد انسحب الغرب من الصومال، بعد مقتل 18 جنديا أميركيا في شوارع مقديشو، تاركين البلاد غارقة في الدماء.
كان كوشنير في ذلك الوقت مهتما بصراع البلقان وأيضا بالقرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى، وهما المنطقتان اللتان اهتمت بهما الولايات المتحدة، كذلك باسم الدفاع عن المبادئ الكبرى واحترام حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية.
لقد دعمت الولايات المتحدة خلال العشر سنوات الأخيرة من القرن الماضي الجيل الجديد للقادة الأفارقة حيث وقفت إلى جانب الزعيم الأوغندي يوري موسيفيني، وشاركت في تنصيب بول كاغام رئيسا لرواندا، وايسيياس افيوركي رئيسا لاريتيريا، وميليس زيناوي رئيسا لإثيوبيا، ولوران ديزيري كابيلا رئيسا لجمهورية الكونغو الديموقراطية.
إلى جانب ذلك تخلت واشنطن عن أصدقائها السابقين، الذين كانت تتعهد بحمايتهم من أمثال جونيفال هابياريمانا الرواندي وموبوتو سيس سيكو الزائيري.
كان إسقاط النظام الماركسي في إثيوبيا عام 1991 والذي كان يرأسه مانغيستو هايلي ماريام ضربة قاسية بالنسبة لمتمردي السودان، المنضوين تحت لواء الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي كانت تسعى لقلب نظام الخرطوم انطلاقا من إثيوبيا.
وهنا علينا أن نذكر بان السودان دخل من جديد، منذ عام 1983، في حرب أهلية يقودها الكولونيل جون غارنغ، الذي ينتمي إلى قبيلة دينكا، إحدى اكبر قبائل جنوب السودان.
زيارة غير شرعية
تزامن سقوط نظام مانغيستو مع بداية تفكك الحركة الشعبية لتحرير السودان بسبب المواجهات الاثنية وغياب الدعم الإثيوبي، بالإضافة إلى المواجهات التي تقودها حكومة الخرطوم ،مما اثر سلبا على الحركة وضعّف قدراتها بشكل ملحوظ.
كانت واشنطن في تلك الأثناء تعتبر النظام الحاكم في الخرطوم، اكبر تهديد للمصالح الأميركية في إفريقيا. فالجبهة الإسلامية الشعبية دخلت في صراع مع البيت الأبيض بمجرد وصولها للحكم في 30 يونيو 1989.
كما كان النظام السوداني بمثابة الحاجز المنيع بالنسبة للمشاريع الأميركية في هذه المنطقة من إفريقيا. لذا عمدت واشنطن إلى استغلال بعض جيران السودان للحد من قوة هذا الأخير. في هذا السياق، ذهب «الفرانش دكتور»، نهاية أغسطس 1991، إلى جنوب السودان بعد أن مر بكينيا وبرفقته ثلاثة صحافيين فرنسيين، وهناك التقى جون غارنغ.
ندد النظام السوداني بالطريقة «غير الشرعية» التي دخل بها احد أعضاء الحكومة الفرنسية إلى جنوب السودان، خصوصا ان حكومة باريس كانت قد رفضت دعوتين من حكومة الخرطوم لزيارة جنوب السودان.
عكس توجهات الحكومة
كان كوشنير في تلك الرحلة برفقة الدكتور زيغموت اوستروفسكي، الرجل الذي شغل طويلا الاستخبارات الفرنسية، هو من نسق للقاء سكرتير الدولة بجون غارنغ، ذلك انه ربط علاقات جيدة مع هذا الأخير، الذي أصبح صديقا للأميركيين منذ وصول صديقه يويني موسيفيني إلى الحكم في أوغندا، فالأميركيون كانوا يساعدونه للقيام بعمليات سرية داخل السودان انطلاقا من أوغندا.
أبلغت الاستخبارات الفرنسية كوشنير عدة مرات بالمخاطر السياسية التي يمكن أن تنجم عن علاقته بالدكتور زيغموت.
غير انه التقى في منتصف ديسمبر من عام 1992 بجونغ غارنغ والدكتور اوساروفسكي في باريس، ليجد نفسه في موقف لا يحسد عليه أبدا، ذلك أن العلاقات الفرنسيةـ السودانية جيدة وباريس والخرطوم تتقاسمان وجهة نظر واحدة بخصوص المد والتوسع الانغلوـ ساكسوني في المنطقة.
الأزمة الصومالية
أعلن كوشنير في يونيو 1992 إنشاء قاعدة إنسانية في نيروبي مهمتها الأولى تسهيل نقل المساعدات الإنسانية إلى دول القرن الإفريقي، حيث اهتم على الخصوص بلاجئي الصومال. وقام بإرسال 2000 طن من المواد الغذائية عبر باخرة فرنسية.
طار كوشنير إلى مقديشو، انطلاقا من باريس، ليحضر عملية إنزال المساعدات، غير أن الصوماليين استقبلوه في مطار مقديشو بلافتات كتب عليها «الصومال للصوماليين»
و «المساعدات لا تعني الغزو»، وهذا ما يعطي انطباعا بان مساعدات كوشنير كان يشوبها الكثير من الغموض ويؤكد إصراره كل مرة على تطبيق مبدأ حق التدخل.
لم يكتف كوشنير عند هذا الحد. فقد أقحم فرنسا وأطفال المدارس وأولياءهم في حملة لجمع الأرز لفائدة الأطفال الصوماليين الذين يعانون من المجاعة. وكان عنوان الحملة "الأرز من اجل الصومال".
جمع أطفال فرنسا بتاريخ 20 أكتوبر 1992 حوالي 750 ألف كيس أرز، يزن كل واحد عشرين كيلوغراما، ووضعت كلها في 47 ألف مدرسة، حيث احضر كل طالب كيلوغراما من الأرز من اجل الصوماليين الصغار.
تمت العملية بمشاركة وزارة التربية الفرنسية بدعم من البريد واليونيسيف وتمكنت من جمع 6000 طن من الأرز، كانت كافية لإطعام أطفال الصومال لمدة شهر كامل.
كانت الفكرة جيدة في البداية، ذلك أنها كانت تهدف إلى تحسيس الأطفال الفرنسيين بمشاكل أطفال الجنوب، غير أنها خلفت جدلا واسعا في فرنسا بعد أن تعالت أصوات رافضة لاستغلال المدارس العلمانية في مشاكل ذات أبعاد سياسية، فيما أشار مركز البحث والإعلام من اجل التطوير ،الذي يضم أكثر من 30 منظمة ذات طابع إنساني، إلى أن العملية تكشف عن عجز سياسة المجموعة الدولية في إيقاف الصراع الصومالي، فالمجاعة في الصومال هي نتيجة مباشرة للازمات العديدة التي غرق فيها البلد منذ مدة.
الصوماليون يحصلون على مساعدات برنامج الغذاء العالمي في مقديشيو
القبس
التعاملات السرية بين إسرائيل والولايات المتحدة حلف المصالح المشتركة كتب جمال حسين :
الدار العربية للعلوم بالاشتراك مع مكتبة مدبولي، تقدم عمل الدكتور تريتا بارزي الخبير في السياسة الخارجية الأميركية، الذي أمضى أكثر من عقد في تحريره بعد أن تمكن من الوصول إلى كبار صناع السياسة الأميركيين والإيرانيين والإسرائيليين، محللا العلاقة الثلاثية المعقدة التي تربط بين هذه الدول والطبيعة الحقيقة للتوترات التي يشهدها هذا المثلث المثير، واصفا إياها بأنها تلاعب من قبل جميع الأطراف بغض النظر عن اختلافاتهم الأيدلوجية والدينية، مركزا على أسلوب كل منهم للهيمنة على الشرق الأوسط.
يصف زبيغنيو بريجينيكس مستشار الأمن القومي الأميركي السابق هذا العمل بأنه «دراسة ثاقبة ومثيرة»، وفي الوقت المناسب تماما تفك ألغاز التلاعب بين كل من إيران وإسرائيل وتربطها بالولايات المتحدة، علىالرغم من أن العلاقات بين هذه الأطراف تراوحت بين التواطؤ السري والتصادم العلني.
مثابرة استثنائية
ومن أجل أن يضمن الكاتب إمكانية التعويل على المقابلات والروايات التي استشهد بها، أجرى مقابلات مع عدد كبير من الأشخاص بناء على دورهم الخاص في رسم السياسية الخارجية للبلدان الثلاثة المعنية في الدراسة، ليجري بين هذه الروايات، المقارنة، بحيث من الصعب العثور في هذا الكتاب على اقتباس واحد أو اثنين، فالاحتمالات المزدوجة والكم الكافي من الأشخاص الذين أجرى معهم المقابلات، ضمنا دقة المقارنة وترجيح الصواب فيها.
باقة من الشهود
ومن الرواة الذين استند اليهم بارزي، السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة في عهد الشاه في أواخر السبعينات، فريدون هوفيدا ووزير الاقتصاد الإيراني علي ناغي خاني.
وما بعد الثورة اعتمد المؤلف على شهادات مساعدي وزير الخارجية الإيرانية الدكتور جواد ظريف والدكتور عباس مالكي والدكتور محمد فيزي والدكتور هادي نجاد حسينيان بالإضافة إلى الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية في البرلمان افيراني محسن ميردمادي ومحمد رضا طاجيك المستشار السابق لدى الرئيس خاتمي وغيرهم.
ومن الجانب الإسرائيلي حصل على معلومات قيمة من الرئيس السابق للموساد إفرايم هالفي ووزير الخارجية السابق شلومو بن عامي ووزير الدفاع السابق موشيه ارينز ومدير المخابرات العسكرية عموس جلعاد والعديد من الشخصيات المعروفة كاسحاق رابين وممول صفقات «إيران كونترا» ياكوف نمرودي.
وثمة روايات أميركية خاصة في غاية الإثارة قدمها للمؤلف زبيغنيو بريجينيسكي والمقدم روبرت ماكفرلاين والجنرال برينت سكاوكروفت والدكتور انتوني لايك وسفراء ومستشارون دبلوماسيون وعسكريون.
منذ نشوء إسرائيل
تتناول الدراسة طبيعة العلاقات الإسرائيلية – الإيرانية منذ إنشاء إسرائيل عام 1948 وحتى الوقت الحاضر. وقسمها الى ثلاثة فصول مختلفة، عالج في الأول العلاقة بين المثلث الإيراني - الأميركي - الإسرائيلي في أوقات الحرب الباردة معرجا على اتفاقية الجزائر عام 1975 بين العراق وإيران، بينما تابع في الفصل الثاني الهزة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي وهزيمة العراق في حرب الخليج 1991 وكيف ظهر التصدع الجيوسياسي في الشرق الأوسط الجديد.
وفي القسم الأخير من الكتاب ناقش الخيارات الموضوعة أمام قيادة واشنطن في الوقت الحالي، بما في ذلك المنافسة المحتدمة بين إيران وإسرائيل ومحاولة الإدارة الأميركية التقليل من خطر نشوب حرب كارثية تعم الشرق الأوسط.
خارج نطاق السيطرة
يبدأ الكتاب بالجملة الشهيرة التي أطلقها محمود أحمدي نجاد في أكتوبر 2005 : «يتعين إزالة هذا النظام الذي يحتل القدس من صفحات التاريخ»، معتبرا الرئيس الإيراني أشعل بها حدة المنافسة بين إيران وإسرائيل، التي كانت تغلي على نار هادئة لعقد ونصف العقد، خاصة أن هزيمة العراق بخرت الاعتبارات الاستراتيجية التي وضعتهما على الجانب الجيوسياسي نفسه في القسم الأخير من القرن العشرين.
وبذلك لم يكن أمام قادة إسرائيل غير حشد الدول الغربية الى جانبها، لافتة الانتباه إلى الميول الانتحارية المزعومة لرجال الدين المتعلقين بفكرة تدميرها.
بين الأيدلوجيا والرؤية
يعتقد المؤلف أن تصريحات نجاد (وشخصيات إيرانية أخرى) هي نتاج تأثير وليست سببا للتوجه الأيدلوجي لإيران، وبالمثل لا ينبغي إعطاء قيمة اسمية لتصريحات الإسرائيليين، فتصوير الصراع الدائر بينهما بعبارات أيدلوجية ورؤيوية سيوفر لكل منهما سلاحا يرفعه في وجه الآخر في جهوده لتعريف نظام الشرق الأوسط بما يتفق ومصالحه الخاصة.
غرب حاكم في التاريخ.. ضحية لحملات المؤرخين إعادة الاعتبار للحاكم بأمر الله..
الحاكم بأمر الله الفاطمي (386-411 هجرية) شخصية قلقة مثيرة للجدل في التاريخ الإسلامي، وقد اعتاد الباحثون على تناولها بخفة أحيانا ورسم «الحاكم» على أنه رجل مضطرب اقرب الى الشخص العُصابي منه إلى الشخص السويّ، ولكن كتابا حديثا صدر في بيروت: «الحاكم بأمر الله وحملات المؤرخين الظالمة» يحاول إعادة قراءته. وبالتالي رد الاعتبار إليه، ومؤلف الكتاب فؤاد سليم أبورسلان، وهو من طائفة الموحدين الدروز، ينهج هذا النهج الايجابي في إعادة بسط سيرة الحاكم بأمر الله من جديد، انطلاقا على الإرجح من أن مذهب الموحدين الدروز قد تأسس في عهده بالذات، وانه كان له دور بارز في رعايته وإطلاقه، كما يُفهم عند مطالعة الكتاب.
على ان اهم ما حققه الكتاب ـ كما يُفهم من المقدمة ـ هو إعادة الاعتبار لا للحاكم بأمر الله وحده، بل للعهد الفاطمي الذي كان «الحاكم» احد حكامه، والذي شهد، كما يرى المؤلف، ارقى حضارة عربية، بفضل انتشار الإسلام واستبحار العلوم والمعارف والفلسفة والعمران، «وقد بلغ هذا الرقي أوَجه في عهد الخليفة الحاكم بأمر الله، لكن تلك الحقبة الزاهرة تعرضت للإساءة والافتراء على أيدي غلاة المؤرخين آنذاك، ارضاء للخلفاء العباسيين المناوئين للخلافة الفاطمية من جهة، وتنكراً للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي قام بها «الحاكم» من جهة اخرى، بعد ان استغل التردي الاخلاقي والانغماس في السكر والملذات في المجتمع المصري آنذاك».
ورغم الجهد الكبير الذي بذل المؤلف في إعادة «صياغة» أو «تفسير» الحاكم بامر الله، فانه لم ينجح في إعادته الى «سوية» شخصية وتاريخية مقنعة، فالحاكم بأمر الله، سواء بالنسبة لخصومه أو لمناصريه، شخص موغل في الشر والغموض والغرابة إلى درجة تستدعي المزيد من التحليل والدراسة العلمية المجردة، ولكن الأكيد انه لم يكن حاكما كأي حاكم آخر، فقد كانت له شطحاته الكثيرة لا في موضوع التصوف ـ وقد كان متصوفا كما يروي رواة سيرته ـ بل في موضوع الحكم والسلطة، كما كان غريب الاطوار بالفعل، وغرابة اطواره هي التي تدفع مؤرخيه إلى سلوك مذاهب مختلفة في تناوله وتحليله.
فالمؤرخ النصراني ابن العميد يقول انه كان رديء السيرة، فاسد العقيدة، مضطربا في جميع اموره، يأمر بالشيء ويبالغ فيه، ثم يرجع عنه.
ومما رواه المؤرخون انه قتل وزيره النصراني فهد بن ابراهيم، قالوا انه طلب من وزيره ان يعتنق الاسلام فأبى، فقتله والقى بجثته في النار، فلم تحترق!
لكن الدكتور محمد كامل حسين في كتابه «طائفة الدروز» يرفض هذه الرواية عن سبب قتل الوزير، فيرى استنادا الى روايات اخرى ان الوزير اثرى ثراء فاحشا على حساب الدولة والرعية، وحابى الاقباط وقربهم اليه، واسند اليهم مناصب رئيسية في الدولة، فكان ذلك سبب نقمة «الحاكم» عليه فقتله. ويضيف محمد كامل حسين ان «الحاكم» لم يخش طائفة من الطوائف الدينية ولم يقبل ان تسود في ايامه طائفة على اخرى. بل انه لم يقبل ان يترفع اصحاب مذهبه الفاطمي الشيعي على سواهم من الرعية.
والطريف ان الحاكم بامر الله كان يشتغل بعلوم الاوائل، وينظر في النجوم، وانشأ مرصدا واتخذ بيتا في المقطم، وهو مرتفع صغير في القاهرة ينقطع فيه عن الناس لهذه الدراسة، اما شخصيته فكانت مزيجا من الشجاعة والاقدام والجبن والاحجام، ومحبة العلماء والانتقام منهم عند الضرورة، وكان يميل الى الاصلاح، ولكنه كثيرا ما تخلص من المصلحين بقتلهم. وكان مشهورا بكرمه وسخائه، ولكنه كان احيانا كثيرة بخيلا غاية في البخل.
ومن صفاته، كما ينقل الكتاب، انه قام بلبس الصوف سبع سنين، وامتنع عن دخول الحمام. ثم انه اقام سنين يجلس في الشمع ليلا ونهارا، ثم اقام مرة في الظلمة!
ومن اخباره ان امره ابتدأ في التزيي بزي آبائه، وهي الثياب المذهبة والفاخرة، والعمائم المنظومة بالجواهر النفيسة، وركوب السروج الثقيلة المصوغة، ثم انتقل منه الى المعلم غير المثقل المذهب، ثم الى الساذج، ثم زاد الامر حتى لبس الصوف وركب الحمير، واظهر الزهد بالكلية، وقد اكثر من طلب اخبار رعيته والوقوف على حالها، كان يؤاخذ الناس بيسير الذنب، حادا لا يملك نفسه عند الغضب، فاقام هيبة عظيمة وناموسا!
ويقول مؤرخون آخرون انه جمع في شخصه بين الغيرة على الدين الى حد التعصب وبين النزوع المأثور عن المشارقة الى ا لاستبداد.
وعندما شحت مياه النيل في احدى السنين، وقف وسط شعبه مستجيبا لكل رجاء، دائب السعي لدفع ويلات المجاعة!
ويرسم آخرون مسيرة مختلفة له. فها هو الشاعر والكاتب الحضرمي علي احمد باكثير، يقول عنه انه امعن في التصوّف والتعلّق بالحب الالهي حتى نازعته نفسه الى الانسلاخ من بشريته ليصل الى مرتبة الكمال الالهي حتى يكون - وهو بعد في جسده - روحاً شفافة متصلة بالروح الكبرى السارية في الكون كله، وهو الله. وكان سبيله ان قام برياضة نفسية شاقة، فعمد الى جميع مظاهر الضعف في الانسان من خوف وعجز وكسل وحرص وبخل وشهوة وتكبر ورحمة، فاقتلعها من نفسه بعزيمة جبارة لا تعرف التردد. ومن ثم ظهرت تلك الاعمال الغريبة التي تبدو في ما يظهر للناس متناقضة، وليس فيها تناقض، بل هي في الحقيقة تجري على منطق واحد جديد لا عهد للناس بمثله فأنكروه، ولكنه متّسق مع هذا الهدف الكبير الذي يسعى اليه.
ويدافع الدكتور محمد عمارة عنه، فيرى ان الحاكم بأمر الله شخصية تاريخية اصابها الكثير من الظلم والتعسف. «واذا جاز لمؤرخ متعصب ضد الشيعة الفاطمية ان يزيّف تاريخ مصر في عهده، واذا جاز للذين خدعوا بفكرهم البلاط العباسي ان يسقطوا من حساب الامجاد العربية الاسلامية تاريخ مصر الفاطمية، فغير جائز على الاطلاق ان نسير نحن على هذا المنوال، فنشوّه تاريخنا ونحوّل صفحاته الجديرة بالعبرة والتأمل والافتخار، الى مسخ مشوّه طلباً لدغدغة العواطف»!.
ويعقد المؤلف فصلاً يقول فيه ان الحاكم بأمر الله هو وراء دعوة التوحيد، او دعوة الموحدين الدروز التي اقتبست حسنات كل من الديانات السماوية الثلاث وصاغت منها مذهبا جديدا. وفي هذا الفصل يمجّد الحاكم ايما تمجيد، ويورد رأياً ايجابياً فيه لمحمد عبدالله عنان: «كان الحاكم لغز عصره، وكان ذهنا بعيد الغور، وافر الابتكار، وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل. لقد كان باختصار عبقرية من الظلم الا تتبوأ مكانها الحق في التاريخ»!
على ان الحاكم بأمر الله غاب ذات يوم. لم يمت، بل غاب، على طريقة بعض ائمة الشيعة: «في ليل 27 شوال 411 هجرية، غادر الحاكم قصره وقصد جبل المقطم كعادته لرصد النجوم والكواكب. ولكنه لم يعد الى القصر.. ويعتقد الموحدون الدروز ان غيبة الحاكم كانت امتحانا لهم ولإخلاصهم لدعوة التوحيد»!
في كتاب يراه حاضرا في زماننا: ابن خلدون شهد بأن فساد السلطان من «اشتغال الحاكم بالتجارة»
«عبدالرحمن بن خلدون.. حاضر في زماننا» هكذا يختار الدكتور عبادة كحيلة عنوانا لاحد فصول كتابه «ورقات في الزمان الصعب» الصادر عن دار العين للنشر والتوزيع، ليفتح حوارا بين عصر مضى، وآخر يجيء.
بداية يتحدث د.عبادة عن مكانة عبدالرحمن بن خلدون كمؤرخ، فيستفيض في وصف الفترة التي لاذ فيها بقلعة بني سلامة بالمغرب الاوسط، حيث انصرف الى تأليف كتابه الشهير «العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر» وهو الكتاب الذي يعرف اختصارا بـ«تاريخ ابن خلدون».
ثم ينتقل الى الحديث عن اسباب قيام الدولة وفنائها، والتي لخصها ابن خلدون في عدد من النقاط منها ما اسماه بـ«فساد السلطان» مسقطا ما حدث في عصر ابن خلدون على هذا الزمان الذي نعيشه.
وعلى حد قول ابن خلدون، يلجأ السلطان (الذي يعنيه) الى فرض جبايات غير معتادة على الشعب، ليصرف على ملذاته، وهذه الجبايات بدورها تؤدي الى ان يرفع التجار اسعار سلعهم، بسبب كثرة «المكوس» - الضرائب» المفروضة عليهم، وذلك حتى يستطيعوا التحايل عليها، مما يترك اثره على الحالة الاقتصادية للبلاد.
ومما يراه كحيلة من عصر ابن خلدون مشابها لما يحدث في زماننا تخلي الدولة عن القيام بدورها في دعم السلع الاساسية او الخصخصة، حيث يورد قول ابن خلدون من ان من اسباب فناء الدول توقف السلطان عن الدعم والمساندة واحتجازه للاموال، وعدم صرفها في مصارفها، مما يؤدي الى وقوع الكساد، الذي يترتب على توقف الحركة في الاسواق.
وهنا يذكر د.كحيلة ان ابن خلدون توصل الى قانون اقتصادي مهم، يعتمده الكثير من علماء الاقتصاد - ومنهم «كينز» - وهو ان «الدولة هي السوق الاعظم ام الاسواق كلها، واصلها ومادتها في الدخل والخرج، فان كثرت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الاسواق ان يلحقها مثل ذلك واشد منه».
ويضيف كحيلة - معتمدا على ابن خلدون - ان اشتغال الحاكم بالتجارة يجعل امور التجارة غير متكافئة الاطراف، حيث يتفوق الحكام عن غيرهم بالمنصب، وبأنهم يستطيعون فرض الاسعار على هواهم، مما يؤدي الى تدهور احوال التجار، وما يتبعه من قعود الفلاحين عن الفلاحة.
كتب الثلاثاء مجلة - مؤجلويعلق كحيلة بقوله ان «هذا الكلام له مردود في عصرنا من تزاوج السلطة والمال، وتقليد العديد من رجال الأعمال للمناصب السياسية مما يؤدي لاحتكار بعض السلع- ومنها الأساسية- وارتفاع أسعارها».
ويقارن المؤلف بين ما نراه من تحول المجتمع لمجتمع استهلاكي، وما ذكره ابن خلدون، حيث تكلم عن المجتمع الاستهلاكي الذي يرى أنه نتيجة طبيعية لمثل هذه الأجواء، فتصير القيمة السائدة هي قيمة البحث عن الربح، وأحيانا الربح بدون إنتاج، وهو ما ندعوه في عصرنا بـ«الريع»، وهي قيمة لا يوافق عليها ابن خلدون لان العمل عنده يشكل القيمة او معظمها فهو يقول ما نصه «انما المفادات والمكتسبات كلها او اكثرها هي قيمة الاعمال الانسانية» وهو هنا يقترب من نظرية كارل ماركس، وهذا قولنا وليس قول المؤلف وان اقترب من هذا لكنه لم يوضح.
ونتيجة لما سبق يكون الافراز الطبيعي لهذا المجتمع، الذي يسوده الترف، كما يسوده استقطاب طبقي حاد، هو ان تكون الوسيلة الوحيدة للصعود هي الخضوع والتملق لان الناس لا يستطيعون الوصول الى غاياتهم دونها وبذا يرتفع الكثير من السفلة.
وفطن ابن خلدون لهذه الظاهرة قبل غيره من مفكرينا- والكلام مازال لكحيلة- وهي ظاهرة تصاحب عصور الاضمحلال والانحطاط، ونشاهد بعض تجلياتها في عصرنا هذا، فيقول ابن خلدون «واما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان، من حيث انه ذو فكر، فهي غير مختصة بملة، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلها، ويستوفى في مداركها ومباحثها، وهي موجودة في النوع الانساني منذ كان عمران الخليفة»، وكأنه يدرك بصورة مبكرة مدى الحاجة الى ما يسمونه تحاور او لقاء الحضارات بدلا من مقولة الصدام التي تبناها الكثير من الفلاسفة المحدثين في القرب.
ويستكمل د. كحيلة الأخذ عن ابن خلدون لنقابل مسائل مشابهة لعصرنا مثل «هروب الأغنياء من البلد»، و«استماتة السلطان على كرسيه ومنصبه». و«اللجوء إلى الأبهة الفارغة من المضمون كتعويض عن هرم الدولة».
أما الموضوع الثاني الذي يتناوله د. كحيلة، فهو عن جمال حمدان، عندما تكلم عن عروبة مصر، والدفاع عنه ضد النقد الموجه اليه من أحمد عباس صالح.
ويمضي الكاتب ليقف على الشواهد والدلائل في فكرجمال حمدان بما يؤكد فكرة عروبة مصر، ولخصها في أن مصر لم تشهد هجرات أثرت في تكوينها العرقي أبدا بخلاف الهجرة العربية التي كانت أول إضافة حقيقية الى تكوين الشعب المصري، كما كانت آخرها.
كما ان هذه الهجرة لم تغير التركيبة الأساسية للسكان بشكل كبير، لان العنصر العربي يعود الى أصل قاعدي واحد مشترك مع العرق المصري، اي ان هناك قرابة جنسية.
كما يؤكد حمدان على أهمية البعد الآسيوي لمصر «العربي أساساً»، والذي يعتبره أهم أبعادها الحضارية، فالنيل لا يجري في منتصف الصحراء، إنما هو ينحاز الى الشرق والدلتا مفتوحة على سيناء. كما يتميز هذا البعد بكونه بعد ارسال واستقبال معا سواء على المستويات السياسية او الحضارية او التاريخية، عكس البعد المتوسطي الذي يغلب عليه الاستقبال فقط.
كما أن أعظم أمجاد مصر الوطنية تحققت في إطار القومية الكبير، فتوسع القرن التاسع عشر أكبر من توسع الفراعنة، وأعظم معارك مصر لم تكن معارك تحتمس ورمسيس إنما كانت معارك صلاح الدين وقطز وبيبرس.. ومحمد علي.
وفي معرض الدفاع عن حمدان يتعرض د. كحيلة بالتفنيد لكلام أحمد عباس صالح، الذي يطعن في اساس فكرة كتاب حمدان «شخصية مصر» حيث يتهمه بأن مصر عنده فكرة غيبية هلامية لا علاقة بها بالمصريين. ويرد كحيلة عليه بأنه ليس مطلوبا من الجغرافي أن يكتب عن شخصية شعب ما فهذا من شأن المؤرخين وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا والفولكلور، المطلوب منه فقط أن يكتب عن شخصية وطن ما، وهذا ما نهض به حمدان في مصر ونهض به جغرافيون غيره مثل زيجفريد وماكيندر في أقطار أخرى غير مصر.
ويرد د. كحيلة على مغالاة عباس، في رأيه بالنسبة الى عامل الجغرافيا، بأنه في المراحل المبكرة من الحضارة الإنسانية تكون الجغرافيا هي العامل الأهم في نشأة هذه الحضارة وفي تطورها، ومن خلالها يمكن أن نفسر العديد من وقائع التاريخ، فالامكانات المحدودة للإنسان في تلك المرحلة كانت أدنى من أن يتحكم في البيئة حوله. هذه الامكانات المحدودة كانت تنمو على نحو وئيد، ولم يقدر لها أن يصبح لها شأنها إلا مع مطالع العصر الحديث، أي قبل مئات قليلة من السنين، ورغما عما جرى من تطورات هائلة في العلوم وتطبيقاتها على عصرنا هذا الذي نعيشه، فلا تزال الجغرافيا عنصرا فاعلا بين جملة أخرى من العناصر الفاعلة.
كما فند اتهاما آخر له متعلقا بتوقيت كتابة «شخصية مصر»، حيث اتهمه صالح بأنه كتبه بعد هزيمة 1967، وما احدثته من احباط مفاجئ بلغ حد اليأس وكراهية الذات لدى غالبية المصريين، وانه في مثل هذه الظروف يكون رد الفعل اما بمواجهة كل ما حدث ونقده واكتشاف الاخطاء، واما بتقوية العزيمة بالاعتزاز بالنفس وبتاريخها وبث الحماسة في النفوس، وخطورة الاتجاه الثاني هو ان تنسب الهزيمة للقوى التاريخية ويتولد نوع من المكابرة وتجاهل الاسباب الحقيقية، وعليه جاء كتاب حمدان بالحل الثاني ليعيد الثقة الى المصريين.
هذا الكلام يعتبره د. كحيلة لا محل له من الاعراب ولا علاقة له بالتحليل النفسي ولا اي تحليل آخر غير نفسي، لسبب بسيط هو ان «حمدان» انتهى من تأليف كتابه «في طبعته الاولى» قبيل هزيمة 1967. اي انه ليس ردة فعل لهذه الهزيمة.
شخصية غامضة بصورة إنسان كامل من هو شمس تبريز الذي أسر قلب جلال الدين الرومي؟
بقلم: جهاد فاضل
في كتاب حديث صدر في القاهرة عن مكتبة الأسرة، ينقل الدكتور محمد السيد جمال الدين في ديوانه «شمس تبريز» أحد أشهر الأعمال الشعرية لجلال الدين الرومي مائة قصيدة وقصيدة، مباشرة من الفارسية، واعتماداً على المجموعة التي اختارها من الديوان الأصلي الدكتور محمد رضا شفيعي كدكني، وهو أكاديمي وشاعر إيراني. وهي مجموعة تشتمل على 466 قصيدة، أو غزلية، اختارها كدكني من الديوان الأصلي لجلال الدين الذي يضم 3229 غزلية، مستبعداً من بعضها أبياتاً وجدها لا تنطبق انطباقاً كاملاً في رأيه «مع معايير علم الجمال أو النقد الأدبي أو ذوق عامة القراء»، فجاءت الغزليات الطويلة التي يبلغ عدد أبياتها ثلاثين بيتاً في بضعة عشر بيتاً في مختاراته.
واشترط كدكني في الغزليات التي اختارها أن تتميز من حيث الترابط العاطفي بمزيد من التألق والإبهار، وان تتبلور فيها وحدة الموسيقى والنغمات، وان تحظى من ناحية اللغة والألفاظ السوية بالتناسق، وان تكون معبرة عن الخصائص التي يتميز بها جلال الدين الرومي في ما يتصل بالتجديد في الشكل والقالب، وان تتميز فيها طرائق التصوير بالإبداع والروعة، فما كان من غزليات الديوان قد استوفى هذه الشروط جعلها ضمن مختاراته.
يقول المترجم إلى العربية محمد السعيد جمال الدين إن الهدف الذي سعى إليه ان يقدم للقارئ العربي ترجمة تتسق بالدقة الكاملة التي تلتزم النص ولا تحيد عنه. لذلك عمد إلى ترجمة هذه الأشعار ترجمة نثرية لا تتقيد بقيد من القيود الفنية، لكنه حاول قدر الإمكان الحفاظ على شيء من جمال الشعر وروائه، فاستخدم لغة الشعر وألفاظه، وأبقى في بعض الأحيان على الموسيقى الداخلية للشعر الفارسي، وعلى السجع والقافية، حتى يتأدّى المعنى إلى القارئ بأدوات الشعر ووسائله دون إخلال بالمعنى الذي أراده الشاعر.
ديوان «شمس تبريز» لمولانا جلال الدين الرومي يتبدى لمن يقرأه في القصائد المختارة والمنقولة إلى العربية في صورة الدعوة إلى العشق، وإلى الاندماج في موكب الحب الذي يوجّه الإنسانُ فيه الكونَ كله إلى خالقه، وإلى الإخلاص له وابتغاء وجهه وتحقيق الوصال به، ومن ثم يبدو العشق عند جلال الدين وكأنه قوة محركة للكون كله تسري في أجزاء الوجود بأسره.
الوطن الأصلي للإنسان
من أهم المحاور وأكثرها دورانا في غزليات الديوان موضوع الوطن الأصلي للإنسان. فالإنسان في هذا الديوان ليس ابن هذه الأرض، وإنما هو ينتمي إلى أصل علوي لا بد أن يشعر بالشوق إلى العودة إليه. وإدراك الإنسان لنبل عنصره واستعداده الروحاني الهائل أمر مهم ولازم لأنه يمثل الشرارة الأولى لانطلاق السالك يدفعه الشوق واخلاص القصد إلى السير في طريق الحق. والطريق محفوف بالمخاطر، مليء بالعقبات. لكن هذا الادراك كفيل بتذليل العقبات وتيسير الصعاب، فضلا عن انه يجعل الانسان جديرا بنيل العون من الحق على المضي قدما في الطريق.
والإنسان في شمس تبريز حر مخيّر قد اجتاز المراحل من حد التراب إلى الإنسانية، مرحلة إثر مرحلة، والموت ليس إلا لحظة خاطفة ينتقل بها الإنسان إلى مرحلة اسمى من هذه الحياة.
معان عشقية وروحية كثيرة عرفت طريقها إلى هذا الديوان، وهي تبيّن مدى ما يضطرم به قلب العاشق من شوق وإقدام، بما يعطي الشعر حركة وانفعالا وقدرة لا نظير لها على التأثير والأخذ بمجامع القلوب، وعلى إشاعة روح التفاؤل والاستبشار في النفوس.
تتميز اشعار الديوان بموسيقاها الجميلة التي تعبّر عن حب جلال الدين للموسيقى.
الموسيقى والشعر
وقد انعكس حب جلال الدين للموسيقى في الديوان بشكل خاص، فقد استخدم 55 بحرا مختلفا من بحور الشعر، وهو تنوع في الموسيقى لم يتح لشاعر آخر سواه «بل ان الاوزان المهملة التي كانت في اوزان القدماء ثم أُهملت، استطاع ان ينظم فيها جميعاً حتى اصبحت تنافس الاوزان المألوفة في رقتها وعذوبتها، وجاء هذا التوسع في الاوزان عنده كنتيجة طبيعية لحبه للموسيقى وشغفه بها».
وهو يستخدم الرمز والايحاء ويوظف الطبيعة وما فيها من مظاهر الجمال والجلال في تعميق المعنى واضفاء ابعاد جديدة عليه، واستدراج الذهن لنقله من المادي الى المعنوي، ومن السكون الى الحركة، وهو يتخذ من الزهور رموزا ملفقة: النرجس رمز للعين، والنرجس المخمور رمز لعين الانسان التي ثملت بخمر المعرفة الالهية، فأعرضت عما سوى الحق.
والسوسن رمز للسكون والصمت وان كان ذا لسان فهو من هذه الناحية يشبه الشاعر نفسه، حيث يلتزم السكون والصمت، لانه لا يقدر بأدواته البشرية المتاحة امامه من لغة وبيان ان يعبّر تعبيراً ضمنيا عن التجربة.
والبنفسج رمز لمن يضع رأسه في جيب ردائه حزناً وفرقاً!
شواهد قرآنية
ولما كان الشاعر يخاطب صاحبه وشيخه الجليل شمس الدين، الذي تعلق قلبه به ورأى فيه الإنسان الكامل، ويخاطب أحيانا الحق تعالى، فقد استخدم من الألفاظ والتراكيب والأوزان والقوافي والموسيقى عناصر بالغة العظمة والروعة لبناء صورة وبيان معانيها واخيلتها، وضمّن اشعاره شواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية وقصص الأنبياء والزهاد والصوفية، فبدت كل غزلية من غزلياته وكأنها انشودة واحدة للعشق، وهو عشق يسمو بالإنسان محلقا به خارج اطار الزمان والمكان، عشق مقصده الحق تعالى، ومصدره الكون بأسره، والإنسان بأحاسيسه ومشاعره.
تبقى كلمات حول «شمس تبريز» الذي ألهم جلال الدين الرومي هذا الديوان الخالد.
ارنولد نيكلسون يصف شمس تبريز بانه «شخصية غامضة تتدثر بلبّاد أسود خشن، تضيء لحظة قصيرة على مسرح الحياة ثم تختفي فجأة وبسرعة فائقة». ولكن هذه الشخصية الغامضة تلتقي جلال الدين الرومي فتشعل الحرائق في نفسه وقلبه لدرجة الحيرة في من هو «الشيخ» فيهما ومن هو «المريد»، فكلٌ منهما ينعت صاحبه «بالشيخ»، ولكن العلاقة الروحية التي شبت في قلب كل منهما تجاه الآخر تصاب فجأة بنكسة، اذ يختفي شمس تبريز فجأة ثم يلقى مصرعه على يد قتلة مجهولين، ومن وحي هذه العلاقة الروحية الغامضة التي كثرت التفاسير والتآويل حولها، كتب جلال الدين الرومي هذا الديوان الذي يحيي فيه العشق الإلهي، ويخلّد ذكرى شيخه (أو مريده) الذي سلب لبّه، وملك قلبه، ورأى فيه صورة «الإنسان الكامل»، الذي كثيرا ما ورد له ذكر في أدب الصوفية.
ي كتاب يبحث صورة المسلمين في أوروبا القرن الثامن عشر الفلاسفة استلهموا صورة الحريم في إبداعاتهم
قطيع من النساء البيضاوات يقوم على حراستهن قطيع من العبيد السود، داخل ثلاثة أبواب مغلقة لا يستطيع الدخول منها إلا سيد السراي، عالم مزيج من الشهوة والحرمان، النساء اللاتي تستبد بهن رغبة جنسية جامحة والعبيد الخصيان، هكذا تصور الغرب صورة الحريم في المجتمع الإسلامي، تلك الصورة في المتخيل الأوروبي التي صارت مدعاة لاستلهام أدبي وتوظيف في نقد بعض القيم الاجتماعية في الغرب، ومن بين أهم من وظف هذه الصورة مونتسكيو في الرسائل الفارسية، وشاردان في من تبريز إلى أصفهان.
كتاب الإسلام وعصر التنوير في أوربا في القرن الثامن عشر للدكتور صادق محمد نعيمي يبرز صورا من هذا النوع تلخص في لمحات سريعة كيف كان الغرب يرى الشرق الإسلامي في القرن الثامن عشر. ولأن القرن الذي عمل عليه الباحث ليس ببعيد فيمكن مد الحوار – مع بعض التحفظ – إلى القرن الحالي، وهو ما أكده نعيمي نصا حين تعرض للتصور الغربي عن الحريم.
ويشرح نعيمي في مقدمة كتابه: لماذا اختار تعبير عصر التنوير بدلا من عصر الأنوار رغم أن الأنوار أصوب، مؤكدا أنه انحاز للأكثر شيوعا. أما عصر الأنوار في أوروبا فيرجع إلى محاولة الإجابة عن السؤال: من أين يأتي النور الذي يعرف به المرء الخير من الشر، ويرشده إلى الصواب والأخلاق؟
ويجيب نعيمي بأن الفكر التقليدي المتراكم من العصور الوسطى والمدعوم من الملكيات الحاكمة ومن الطبقتين المميزتين (النبلاء ورجال الدين) يرى أن الوحي هو مصدر النور الذي يهدي الإنسان في هذه الحياة، في حين أن اتجاها فكريا نابعا من أبناء الطبقة البرجوازية الناشئة بدأ في بث آراء ترى أن العقل هو الأساس الذي ينبغي للمرء أن يتبعه لمعرفة الخير من الشر ولتحديد مفهوم الأخلاق.
ويضيف نعيمي: كان التيار الأول هو الغالب بحكم أنه يستمد قوته من السلطتين: الزمنية / الحاكمة, والروحية / الدينية. بسبب توافق مصلحتهما مع هذا الرأي الذي يرى في الدين المصدر الوحيد للأخلاق ولمعرفة الحسن من السيئ، وكان التيار التنويري يبحث عن رؤى جديدة للكون وللعالم وللدين وللأخلاق، ويحاول أن يجد طريقا وسط هذه السلطة الطاغية لعادات وتقاليد أنتجتها الثقافة الموروثة وجعلت من موافقتها أو مخالفتها معيارا للصواب والخطأ.
وينقل نعيمي صورة أخرى على النقيض من مونتسكيو وشاردان لفلاسفة عصر الأنوار(التنوير) في أوروبا، فينقل عن فولتير تصحيحه للصورة المغلوطة عن المسلمين قائلا تحت عنوان حرية الاعتقاد في القاموس الفلسفي: إن صلاح الدين قدم بنفسه إلى ليزينان – وهو أسير – كأس ماء مرطب، إلى غير ذلك من صور التسامح. ويمضي فولتير في القاموس الفلسفي - الذي أعده عام 1765 م ولم يعدل فيه شيئا حتى وفاته - إلى تأكيد أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف كما يدعي الكثيرون ولكن بالإقناع، وأن الكلمة كانت وسيلة الدعوة.
وفي القاموس ذاته يصف فولتير المسيحيين بأنهم غير متسامحين، اعتمادا على وقائع بعينها، بينما يصف حكومة الباب العالي العثماني في اسطنبول بأنها حكومة متسامحة، وقد قارن بين ما حدث بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا خاصة في مذبحة بارتليمي، والصورة التي كان عليها الموقف في الشرق فيما يتعلق بالحرية، قائلا: انظروا إلى السلطان التركي كيف يحكم مجوسا ووثنيين ومسيحيين يونان وأرمن ورومان، وكل أولئك يحيون في كنفه في هدوء.
ويؤكد نعيمي أن فلاسفة عصر الأنوار كانوا يمقتون رجال الدين لما يبثونه في النفوس من روح الفرقة والتعصب.
الكتاب: الإسلام وعصر التنوير
تأليف: د. صادق محمد نعيمي
الناشر: دار شرقيات
قطع متوسط: 180 صفحة
جبران خليل جبران
إذا كان جبران خليل جبران أهم او أشهر اديب لبناني في القرن العشرين، فإن هذا الأديب مازال يحيط بسيرته غموض والتباس حتى الآن. فالباحثون في سيرته يضطربون او يتناقضون أحيانا، وكأن هناك اكثر من جبران واحد يجري تناوله وابحث في أمره، والى مثل ذلك يشير الباحث جان داية في كتابه الجديد «لكم جبرانكم ولي جبراني»، في محاولة منه لتبديد الكثير من المعلومات الخاطئة المتداولة في شأنه، ولإرساء سيرة جبرانية جديدة مختلفة، او لنقل مسيرة جبرانية تؤيدها الوثائق والمستندات. يعود جان داية الىالوثائق المخطوطة في الإدارة والاكاديميات الأميركية عن جبران، وكذلك الى الدوريات العربية التي كانت تصدر في المهجر الشمالي الاميركي زمن جبران، والتي كان يكتب فيها او في اكثرها جبران، ليكتشف من يصحح صورة «جبران الآخرين»، وما يساهم في ارساء هذه الصورة على صراط علمي لا على اشاعات او رغبات. فالمعروف ان جبران خضع على أيدي الكثير من اللبنانيين الى عمليات «جراحية» أفقدته احيانا ملامح أساسية فيه. ولم تكن هذه العمليات بعيدة في اكثر الاحيان عن السياسة او الايديولوجيا، كما لم تكن بعيدة عن التعسف. وقد اساءت هذه العمليات في الواقع الى جبران ولم تحسن اليه. وكيف تحسن اليه وقد شوهت ملامحه وجعلته ينطق بما لم ينطق به، وينحاز الى ما لم ينحز إليه؟
يتناول كتاب جان داية جوانب مختلفة في مسيرة جبران. من كتابات كثيرة لجبران، بعضها منشور وبعضها الآخر مجهول، يستنتج الباحث ان جبران لم يكن حزينا مقطب الوجه، متطرفا في الرصانة، لا يعرف الضحك، بل كان فكها وساخرا في كتاباته، ويتناول الخمر في ساعات صفائه.
كما كان خطيبا يكاد يحترف الخطابة في المنابر، على عكس الشائع عنه. لقد اشترك في معظم الحفلات الخطابية السياسية والاجتماعية التي كانت تقيمها الجالية السورية-اللبنانية في بوسطن ونيويورك. وكان في معظم الاحيان يرتجل خطبه. ويكتشف الباحث ان كاملة اسطفان عبدالقادر رحمة، والدة جبران، تزوجت مرتين قبل زواجها من خليل جبران، والد جبران.
وانها هي الميسورة في لبنان (او من الطبقة الوسطى) عملت خادمة في المنازل في بوسطن لاعالة عائلتها المكونة من جبران وشقيقه وشقيقتيه. ومما يكتشفه الباحث ان جبران كان صحفيا متفرغا للصحافة في «المهاجر»، وشبه متفرغ في «الفنون» و«السائح» و«مرآة الغرب»، وهي صحف عربية كانت تصدر من اميركا، وان مضمون معظم كتب جبران العربية من «دمعة وابتسامة» و«الارواح المتمردة» و«الاجنحة المتكسرة»، الى «العواصف»، و«البدائع والطرائف»، قد نشر في الدوريات قبل ان يعاد نشره في الكتب، ناهيك عن ان «الفنون» والاعداد السنوية الممتازة لجريدة «السائح» وبعض اعداد «المهاجر»، واحد اعداد «الهلال»، استفادت من موهبة جبران الفنية، وبخاصة في الرسوم المصاحبة لمقالاته، او المنشورة على الاغلفة. ويقول الباحث: «يقتصر جبرانكم في كتبكم على الفصول الدراسية من دون الوثائق الجبرانية المجهولة او المنشورة للمرة الاولى. واذا نشرتم بعض الكتابات الجبرانية في كتبكم، فليس قبل ان تقيدوا صياغة بعض العبارات او تحذفوا البعض الآخر، اضافة الى اجراء تغيير، او بالاحرى تزوير في المصطلحات المتداولة في قاموس السياسة وعلم الاجتماع. اما جبراني في هذا الكتاب، فهو شريك في تأليفه بمعنى وجود خمسين نصا مجهولا له كاملة، ومذيلة باسم المصدر المنقولة عنه، مع ذكر تاريخ العدد اذا كان جريدة او مجلة. على ان من اهم كشوف الكتاب، ان الرابطة التعليمية التي ذاع صيتها وشاع، والتي كانت تضم نخبة الادباء والشعراء السوريين واللبنايين في الولايات المتحدة قد تألفت لاول مرة عام 1916، وليس عام 1930، كما يقول ميخائيل نعيمة في كتابه «سبعون»، نعيمة لا يأتي بالمرة على ذكر رابطة قلمية اولى تأسست عام 1912، وكان جبران والريحاني عضوين فيها ويوقعان مقالاتهما في الصحف المهجرية باسم كل منهما، وتحته عبارة عضو في الرابطة القلمية. ولكن عبدالمسيح حداد صاحب «السائح»، وهو ركن من اركانها، وجريدته كانت احد منبري «الرابطة» الرسمي، يذكر انها ولدت في الحرب، ولم تستمر بسبب نجيب دياب صاحب «مرآة الغرب» الذي لا يتفق معهم في الفكر والشعور، كما ذكر. كلام حداد يؤكد ان الرابطة الثانية هي نفسها الرابطة الاولى. ولكن نعيمة في «سبعون» تجاهل الاولى واعتبر الثانية لغرض في نفسه، هي الرابطة القلمية الاولى والاخيرة.. نعيمة، كما هو
معروف كان السكرتير العام للرابطة عام 1920، وهو الذي وضع لها بيانها، في حين كان جبران هو عميدها.
الجدير بالذكر، ان «منظّر» الرابطة القلمية الأولى كان أمين مشرق في حين كان نعيمة «منظر» الرابطة القلمية الأولى. ولكن التنظير عند الاثنين كان واحدا تقريبا، هو الثورة على اللغة البائدة المنحطة والأدب القديم والدعوة الى لغة عربية متجددة والى أدب حديث.
يقول أمين مشرق: «ليست اللغة العربية إلها ولا شيطانا ولا جنّا، هي لغة كباقي اللغات، تنحط الى أدنى الدركات، وتسمو الى أعلى الدرجات، وتموت بموت شعبها، وتحيا بحياة المتكلمين بها». ويضيف: «ان اعضاء الرابطة شرعوا بتهيئة اللغة العربية لطورها الجديد الآتي»، وفي الشعر والأدب قال مشرق: «ان غاية الرابطة هي المحافظة على الجرثومة الباقية من آداب اللغة وتغذيتها بالجديد المفيد، وتنقيتها من العقيم البليد.
نعيمة في البيان الذي وضعه لـ «الرابطة» التي أسست عام 1920 قال ان الرابطة عامدة الى احياء الأدب واللغة معا. لماذا؟ «لأن ليس كل من حرر مقالا أو نظم قصيدة موزونة بالأديب». وفي الوقت الذي أكد ان الروح التي تحاول بكل قواها حصر الآداب واللغة العربية ضمن دائرة تقليد القدماء في المعنى والمبني هي في عرفنا سوس ينخر جسم آدابنا فلا نقصد بذلك قطع كل علاقة مع الاقدمين. فبينهم من فطاحل الشعراء والمفكرين من ستبقى اشعارهم وأفكارهم مصدر الهام الكثيرين غدا وبعد غد.
اما لماذا أسست الرابطة القلمية عام 1916 وتوقفت بعد اشهر، فالباحث جان داية يعزو السبب الى انشغال اعضائها «بلجنة تحرير سوريا وجبل لبنان» السياسية، وكان في طليعة مؤسسيها جبران وأمين الريحاني وأمين مشرق الذي كتب بيانها الأول. نعيمة لم ينتسب الى الرابطة عند تأسيسها عام 1916، ولكنه انتسب اليها عند استئناف نشاطها عام 1920 وكتب بيانها الثاني. اما الريحاني الذي كان عضوا في الأولى فقد غاب عنها بسبب انشغاله في مشاريع كتابيه باللغة الانكليزية واعداده العدة لمغادرة نيويورك والعودة الى الوطن، وسياحاته في الجزيرة العربية.
هذا الى جانب الكثير من المعلومات والتصويبات التي يتضمنها الكتاب.
جهاد فاضل
جمهورية الخوف.. أو عصر صدام حسين ستينات العراق أعطت الشرعية لحكم العنف
القبس
يصف كنعان مكية في كتاب صدر حديثا عن «منشورات الجمل» عراق صدام حسين ب «جمهورية الخوف» و«غرفة الرعب»، ويقدم في 424 صفحة من القطع الكبير، صورة واقعية للنظام البعثي السابق وجذوره التكريتية.
يعرض لعشيرة صدام، التي اشتهرت ابان حكم العثمانين بالطريقة التي من خلالها «يكسرون عين» اي حاكم لا يستلطفونه: اذ يصار الى استضافة هذا الحاكم مع زوجته واطفاله على وليمة ترحيب في بيت شخصية محلية معروفة من شخصيات العشيرة، ثم تكمن مجموعة مسلحة من الرجال المقنعين لزمرة الحاكم اثناء عودتهم من الوليمة. وعندئذ يهان الحاكم من خلال اغتصاب حريمه، وبعدها ينزع الرجال اقنعتهم لاظهار وجوههم قبل ان ينسلّوا تحت جنح الظلام من دون ان يقتلوا احدا.
كنعان مكية يقول في كتابه انه في السبعينات من القرن الماضي جرت «عصرنة» هذه الممارسات العشائرية لتتحول الى ادوات بيد الحكم البعثي، عائلات ارستقراطية بغدادية لها علاقة بالنظام الملكي البائد تمت عملية «كسر عينها» على يد ابن صدام حسين وبطانته، على الرغم من انه كان قد مضى وقت طويل منذ كان لهذه العائلات تأثير سياسي او اقتصادي. فبنات هذه العائلات كن يختطفن من الشوارع وهن في طريقهن من والى بعض منتديات بغداد، ثم يختفين لعدة اسابيع قبل ان يظهرن من جديد. ومع ان الجميع يعتقدون انهن قد اغتصبن، لكن احدا لا ينبس ببنت شفة بخصوص ذلك الامر، حتى الفتيات الضحايا انفسهن،والعار الذي يلحق بعائلات هؤلاء النسوة، فضلا ان منهن بالذات، كان مرتبطا بافتراض ان الشعب يعرف ما الذي جرى بالفعل، وفهمت هذه المعرفة على انها اعظم اهانة من الانتهاكات نفسها التي ارتكبت بحق النسوة. كما وسع البتر والكي بوصمة العار المنطق نفسه ليشمل الذكور، مع اختلاف هو ان آثام ما بعد حرب الخليج مثل الهروب من الخدمة العسكرية والسرقة قد مثلت تحديا فعليا وجديا لاستقرار النظام، وهو ما لا ينطبق ابدا على النساء المختطفات في شوارع بغداد لتلبية النوازع المنحلة لأولاد صدام حسين.
ويروي الكتاب وقائع كثيرة تعيد الى الذاكرة تآمر اسرة بورجيا الشهيرة، منها حكاية عدي نجل صدام الاكبر الذي قام امام نظر الجميع بركل كامل حنا جوجو وضربه بالهراوات حتى توفي، كان كامل حنا هو المتذوق الرسمي الخاص لطعام صدام حسين. غضب «الرئيس» غضبا شديدا مما فعله نجله، اذ رأى وراء ما فعله يد زوجته، لأنه في فترات راحة جوجو من مهام تذوقه للطعام كان عليه ان يدقق في اختيار النساء العديدات اللاتي كن يكتبن طالبات رؤية الرئيس كجزء من برنامجه «لقاء الشعب». واشيع انه تزوج واحدة منهن سرا، ووصلت هذه القصة الى الذروة حين قتل حسين خيرالله طلفاح في «حادث» هليكوبتر.. وخيرالله كان احد اعمدة النظام.
كان عالم صدام حسين، كما يقول الكتاب، عالما ليس بامكان ابشع مخيلة ان تتخيله، يصف الكتاب كيف ظهر الى الوجود عالم كافكاوي جديد حكم وشدد قبضته من خلال الخوف. في هذا العالم اصبح المواطن النموذجي مخبرا. وشغلت الاكاذيب و«التقصي» الخطاب الشعبي الى حد الاستغناء عن اي شيء آخر، ان الخوف لم يكن امرا ثانويا او عرضيا مثلما في اغلب الدول، بل اصبح جزءا تكوينيا من مكونات العراق، وقد طور البعثيون سياسة الخوف الى ما يشبه الصيغة المخادعة بحيث تخدم في النهاية الغاية المنشودة لشرعنة حكمهم من خلال جعل اعداد كبيرة من الناس مشاركين في عنف النظام.
وتبدأ المشكلة الرئيسية للعنف البعثي من ادارك ان مئات الآلاف من الناس العاديين تماما كانوا متورطين فيه باستمرار، وفي اغلب الحالات لم يكن لهؤلاء خيار مع هذا الامر.. ومع ذلك ينبغي ان يكون ما يقومون به مبررا، وينتهي الى شرعنة نظام ليس بالامكان ان نضع اللوم في ظهوره علي اي من الغرباء على البلد.
ولكن ليس هناك ما هو غير مفهوم بشأن هذه الغرائبية، اذ تتغذى القسوة على نفسها وتنمو باطراد. فلها شكل وحياه، وتحتذي النماذج، وتطيع قوانينها الخاصة، ولها تاريخها الخاص بها.
اما كيف تتطور القسوة في الدولة، او لماذا تكون ردة فعل اولئك الخاضعين للقسوة المقننة رسميا على نحو مختلف في مراحل مختلفة من حياتهم، فهما السؤالان الاكثر ارتباطا بالقضايا الاكثر جوهرية في عالم السياسة، اذ ان انتهاج سياسة التشويه الجسدي، على سبيل المثال، قد نجم عن التراث البعثي الذي ترسخ منذ فترة طويلة قبل ان يعلن صدام حسين عن قوانينه العقابية عام 1994، ويسرد كتاب «جمهورية الخوف» كيف تطور هذا التقليد من المحاكمات الوحشية علنا الى التعذيب في ظل ظروف تامة السرية.
عشية اندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية في ايلول 1980، هيمن صدام حسين على نظام غيّر كل المعايير المؤثرة على العنف المنظم من قبل المجتمع والدولة، خضع التوسع في وسائل العنف، من جيش وشرطة واجهزة امنية، وشبكات من المخبرين، والميليشيا الحزبية، وبيروقراطيات الدولة والحزب، الى انقلاب نموذجي: فتحولت الوسائل الى غايات، واصبح استئصال المعارضين وممارسة القوة الغاشمة غايات مريعة في حد ذاتها، متخطية بغباء الحدود التي كانت تقف عندها فيما مضى.
كان العراق بلدا غنيا على الدوام، ولكنه زمن صدام كان بلدا لا يحيا فيه سوى مليون نسمة لا اكثر، حياة طبيعية، انهم اولئك الذين دعموا حكم صدام واولئك الذين حموه، لقد توفر لهم الطعام والمال. اما البقية فقد انجرفت الى نوع سوريالي من الفقر المدقع حيث باع اساتذة الجامعات ممتلكاتهم العائلية لتوفير لقمة العيش. لقد تمزق نسيج المجتمع، واحيانا عندما كنت اسمع تأكيدات الاذاعات الاجنبية ان الطريق الوحيد للخلاص انما هو بالتخلص من صدام، كنت اقول لنفسي «هل يحسبون اننا في لعبة من العاب الفيديو ام ماذا؟». اذا امعنا النظر رأينا اناسا نضبت طاقتهم الحيوية في السعي حتى لتأمين وجبة الغداء المقبلة!
ويرى الباحث انه لا يمكن لأي بيروقراطية حكومية ان تقتلع عيون اطفال شعبها من دون ان توفر لنفسها الاسباب، ولكن كما تقضم الحية ذيلها، يصنع التبرير من خلال الخوف من العنف، وليس عن طريق الموافقة او حتى الخداع، كان النظام يعمل مثل معسكر اعتقال: فالسجناء يضربون بعضهم ببعض، حيث يخترع الاعداء ويعذب الاطفال في سبيل هدف سام، ويدور كل شيء بهوجاء وبلا سيطرة في عالم مغلق من صنع النظام نفسه. تلك كانت خصوصية العنف في العراق وسبب كافكاويته البادية.. والنظام الذي انجز كل هذا ظاهرة، متوطنة تماما لم تفرض من اي قوة خارجية، وهي كلها نتاج للثقافة التي تغذيها، لأن ايام الملكية التي فرضها الغرب ولى امرها منذ زمن بعيد.
يفحص كتاب «جمهورية الخوف» جيل صدام حسين والستينات في العراق. يناقش الجذور التاريخية لتلك الافكار، ويجادل بانها هي التي اعطت الشرعية لحكم العنف.
لاقة خصبة يرصدها كتاب جديد مأساة الحلاّج بين ماسينيون والباحثين البغداديين
في كتابه «مأساة الحلاج بين ماسينيون والباحثين البغداديين» يعيد الدكتور علي حسين الجابري شخصية المتصوف الكبير الحسين بن منصور الحلاج الى دائرة الضوء من جديد. وهي شخصية خلافية بين الباحثين كما هي قضية تتجدد في كل عصر وحولها يدور جدل واسع بين بريء لساحة الحلاج وبين مكفّر له. والباحث يعرض لتلك العلاقة الخصبة التي ربطت المستعرب الفرنسي لويس ماسينيون ببغداد وبعلمائها الكبار وعلى رأسهم الألوسيان محمود شكري الألوسي وعلي علاء الدين الألوسي والأب لنستاس ماري الكرملي، صاحب مجلة «لغة العرب». والواقع أن بغداد والحلاج والتاريخ معادلة مترابطة ترابطا عضويا ونفسيا وجغرافيا عند ماسينيون منذ وقت مبكر في حياته فاذا كان قد ولد في عام 1883، فقد زار بغداد لأول مرة في عام 1907 وهو أمر يكشف مدى تعلقه بالتصوف وبالحلاّج وبالاسلام من جانب، وببغداد والتراث، وبالبغداديين، من جانب ثان، وبمجمل الظروف التي وصلت بالحلاج الى مأساته، وما تركته من اصداء تاريخية واجتماعية وعقائدية بالأمس واليوم من جانب ثالث.
ويقول الباحث ان المعادلة الكبرى التي نتجت عن تفاعلات بغداد والحضارة، والتصوف والحلاج، وماسينيون والمأساة بالأمس، فإنها حاضرة في عيون الباحثين العراقيين في القرن العشرين من خلال توسط بغداد بين الحلاج وماسينيون، لتتفاعل داخل هذا الكتاب الذي يتوزع على محورين الأول عام يتناول فيه ماسينيون وبغداد والحلاج بالأمس بشكل عام. وقد استعان الباحث ببحوث وآراء باحثين عرب كتبوا وأرّخوا لماسينيون، والثاني خاص هو اللبّ والجوهر والصلب وقف فيه عند موقف المفكرين العراقيين من ماسينيون وبغداد والحلاج شيوخ (علي علاء الدين الألوسي ومحمود شكري الألوسي وأصدقاء الأب انستاس ماري الكرملي وجميل صدقي الزهاوي وعباس العزاوي) وتلامذة عارضين لنصوص شيوخهم (ابراهيم السامرائي وأكرم فاضل وهشام الشواف) ودارسون باحثون ونقدة (عرفان عبدالحميد وحسام الألوسي وعزيز عارف) ومصوّبون لمجمل الجهد الحلاجي (كامل مصطفى الشيبي) وموثقون لمراسلات ماسينيون مع شيوخه البغداديين (ظمياء محمد عباس السامرائي)؟
ومع أن الباحث يعرض لجهد الباحثين العراقيين الذين خدموا تراث الحلاج، وتوقفوا مليا عند كتابات ماسينيون، إلا أنه يخصص بحثا مستقلا عن «مكانة ماسينيون}.
في دراسات الشيبي، وذلك للحضور الكبير الذي حققه هذا المستشرق مع الشيبي في ميدان التصوف اولاً، وعن الحلاج ثانيا، وفي البحث عن حقيقة المأساة اولا واخيراً.
كان الشيبي هو الاوفر حظا في الوقوف على مؤلفات ماسينيون طوال خمسة عقود. وقد حقق هل عددا من الاخطاء منها قول ماسينيون ان البكتاشية هم من اهل السنة، في حين انهم «امامية اثنا عشرية» وله شواهد على ذلك موثوقة.
ولما كانت مأساة الحلاج هي محور اهتمام ماسينيون والشيبي فقد جاء الحديث عن العلاقة بين البيئة والظروف الاجتماعية والتصوف، «فما دام للزهد في منظور ماسينيون وجود طبيعي في كل زمان ومكان، فان الاستعداد للتصوف هو الآخر ينشأ في العادة من ثورة باطنية تخامر النفوس، فيثور صاحبها على المظالم الاجتماعية، ولا يقف عند مقاومة غيره بل يبدأ بجهاد نفسه واصلاح خطيئاته».
وقد لاحظ الشيبي ربط ماسينيون الصلة بين «المدن» وعمقها الحضاري في حديثه عن الكوفة وعراقتها الحضارية السابقة على الاسلام (البابلية) قياساً الى ماضي البصرة وثقافتها التي لا تمتلك حسب ظن ماسينيون مثل تلك الاصالة، وهو ظن غير صحيح، فبفضل الاصالة الكوفية تطور الخط الكوفي الى «فن» متميز وهندسة معمارية، وتطور الزهد الى تصوف، ومثل ذلك يقال عن الحضارة المزدهرة.
وماسينيون ما فتىء يذكرنا بقول رفيق الحلاج (أبوبكر الشبلي) «كنت انا والحسين بن منصور شيئاً واحداً الا انه اظهر وكتمت»، فالاعلان والاباحة كانا وراء كشف الحقيقة الحلاجية التي صنعت مأساة الحلاج.
والشيبي وهو يقدم على اعادة تحقيق واخراج ديوان الحلاج يعترف لماسينيون بفضل احياء ذكر الحلاج في تاريخنا المعاصر، ولفت الانظار الى مأساته فيقول: «في مطلع القرن العشرين احيا ماسينيون ذكر الحلاج حين زار بغداد سنة 1907 ضمن بعثة اثرية، فصور قبر الحلاج وغيره ثم كتب عبارته «أنا الحق» بحثاً القاه في مؤتمر المستشرقين في اثينا سنة 1912، ونشر ديوانه وكتابه (الطواسني) واخباره والنصوص التي دارت حوله، وتوج ذلك كله برسالة للدكتوراه عنوانها عذاب الحلاج، فنبه الادباء والشعراء والباحثين في الشرق والغرب الى اهميته الادبية والتاريخية والفكرية.
ثم ان عودة الشيبي الى مطلع القرن العشرين، وتتبع سعي ماسينيون للاحاطة بالحلاج فكرا ومنهجا، دفع به الى الاستئناس بآراء تلامذته من العراقيين (السامرائي والشواف وفاضل) للكشف عن عقيدة ماسينيون وتوجهاته الفكرية، وبخاصة ما رواه عن الاب القس العراقي دهان الموصلي المقيم في باريس.
فقد كلفه ماسينيون في ربيع عام 1953 باقامة قداس خاص على
روح الحسين بن منصور الحلاج في البيعة التي يشرف عليها في العاصمة الفرنسية يوم ذكرى وفاته في 24 ذي القعدة هجرية المصادف 26 اذار 1922. وذكر القس دهان انه دهش للطلب وذكر ماسينيون بأن الحلاج كان مسلماً! فكان جواب ماسينيون ان الحلاج رجل متصوف روحاني، وان فوارق الأديان لا يحسب لها حساب في حالته!
مثل ذلك رواه السامرائي كما روى هشام الشواف قصة سورة الفاتحة التي كان يقرأها ماسينيون في الجامع الكبير بمدينة باريس على أرواح العمال الجزائريين الذين سقطوا صرعى رصاص الشرطة الفرنسية عند خروجهم في تظاهرة وطنية انتصارا للقضية الجزائرية. والرأي عند الشواف والشيبي ناشئ من محبة ماسينيون للحلاج والإعجاب به. وبسببه غدا هذا المستشرق الكبير محبا للعرب والمسلمين ومؤيدا للقضايا التي كانوا ينادون بها. وكل ذلك يعزز ما سجله الكرملي عن ماسينيون وتعلقه ببغداد والتراث والتاريخ باستشهاد الشيبي نفسه.
كان الحلاج، كما يقول الشيبي، قد بشر في بغداد بدولة الروح عشر سنوات كاملات انفقها جميعا في العمل السري حين استقر في بغداد استقرار رجل له غايات بعيدة. وفي ذلك يتفق الشيبي مع ماسينيون، لكنه يختلف معه في الحديث عن «مسيحية الحلاج».
بنص اورده الشيبي على لسان أبي العباس المريسي «يصرف هذا المعنى عن غاية ماسينيون ومن قال بمسيحية التصوف الإسلامي والحلاج». وفي جميع ذلك يحتفظ كل من ماسينيون والشيبي بموقعه في دائرة الابداع والإجادة والاحتفاء بالحلاج.
وقد سجل كامل مصطفى الشيبي في عام 1999 في دراسة تقويمية نقدية لاعمال ماسينيون حول الحلاج اكثر آرائه في البحث عن الحقيقة الصوفية والحقيقة الحلاجية التي عانى في سبيلها الكثير يستحثه نداء «انا الحق» ودوافعه الوجودية والعقائدية التي بسببها مات الحلاج من غير ان يصرح بالكثير من منطويات هذه المقالة الرمزية، لكنه ترك اثرا بالغا في اطار حوار الحضارات والأديان والأمم والشرق والغرب. وما زالت أقلام الباحثين تتناوله بشوق واعجاب، ولا سيما ومضا ته الأدبية الواردة شعرا ونثرا. فليس هناك اعمق ولا اجمل من الشعر الصوفي او القطع النثرية الرمزية التي حفظت للأجيال واحدا من ابدع الاشكال الأدبية للغة العربية (دار نينوى للنشر - دمشق - 2008).
تفسير الجابري للقرآن الكريم: منطق يطابق تسلسل السّوَر
يقدم المفكر العربي د. محمد عابد الجابري في القسم الثاني من كتابه «فهم القرآن الكريم - التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» الصادر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، اجتهاده في تفسير القرآن الكريم. وهو مشروع من ثلاثة اقسام يعكس في مجمله النتيجة العامة والعملية التي خرج بها الجابري من مصاحبة التفاسير الموجودة، وهي ان المكتبة العربية الاسلامية تفتقر الى تفسير يستفيد في عملية «الفهم» من جميع التفاسير السابقة.
والمؤلف في سبيل ذلك يقوم ببناء التفسير القرآني على اساس ترتيب النزول، ليس فقط على مستوى «الكون والتكوين»، وما يمكن ان نعبّر عنه بـ«مسار التنزيل»، بل ايضا على مستوى مسيرة الدعوة المحمدية والسيرة النبوية.
يرى الجابري في القسم الجديد من كتابه ان القرآن الكريم نزل منجّماً، وخلال ازيد من عشرين سنة، وان تسلسل سورة، حسب ترتيب النزول، بباطنه تسلسل منطقي. وبالتالي فان الرجوع الى وقائع السيرة جعلته يكتشف ان ذلك المنطق الذي يباطن تسلسل السور، داخل كل مجموعة، يتطابق في مضمونه مع تسلسل هذه الوقائع، الامر الذي يتبين منه بوضوح ان مسار التنزيل مساوق فعلاً لمسيرة الدعوة.
ويسلك الجابري طريقه في «الإفهام» ألصق بالطريقة التي تُعتمد اليوم في الكتابة، اذ شكّل استعمال «علامات الافهام» جزءا اساسياً في بسط الوضوح لهذا المشروع في التفسير.
يضم هذا القسم الثاني من الكتاب ثماني وثلاثين سورة «من سورة الحجر الى سورة الحج (حسب ترتيب الجابري)، وفيه يسلّط الضوء على ثلاث مراحل: 1ــ الصدع بالامر والاتصال بالقبائل. 2ــ حصار النبي (ص) واهله في شعب ابي طالب، وهجرة المسلمين الى الحبشة. 3ــ ما بعد الحصار: مواصلة الاتصال بالقبائل، والاستعداد للهجرة الى المدينة.
يكرر الجابري في هذا القسم من كتابه ما كان قاله في القسم الاول من ان العقيدة والاخلاق في القرآن كلّ واحد لا يتجزأ. ولكنه ذهب الى ابعد من هذا، حين اكد ان الاخلاق في القرآن المكّي هي التي تؤسس العقيدة الاسلامية، وهو ما يميّزها عن غيرها من الديانات. ويضيف: «ان المحاور التي يدور حولها خطاب العقيدة في القرآن ثلاثة: النبوة والتوحيد والمعاد. وما يتميز به القرآن من التوراة والانجيل هو تركيزه على المحور الثالث: البعث والجزاء. اما اثبات النبوة والدفاع عنها وتأكيد «التوحيد» (اقرار وحدة الالوهية وشجب الشرك وعبادة الاصنام) فهما حاضران في التوراة والانجيل حضورهما في القرآن»، وقد ابرز الجابري ذلك بالنصوص. ولكن موقف كل من التوراة والانجيل من «المعاد» (البعث والحساب والجزاء) اضعف كثيرا من موقف القرآن، بل هو غامض وضبابي، كما يقول الجابري.
وينبّه الجابري الى ان خطاب الجنة والنار الذي تكرر كثيرا في الخطاب المكي كان في آن واحد سلاحا واخلاقا. اما كونه سلاحاً، فلتخويف المشركين من النار وحملهم على الطمع في الجنة. واما كونه اخلاقاً، فلإشعار المؤمنين بأن الايمان وحده لا يكفي، بل لا بد من خصال معينة بيّنها القرآن وفي مقدمها التقوى والعمل الصالح. اما التقوى فتعني تجنّب الرذائل، واما العمل الصالح فيعني اتيان الفضائل.
من هنا يجب ان نتساءل، يضيف الجابري: هل يصحّ القول، باسم القرآن: «الدنيا من اجل الآخرة»، من اجل الدخول الى الجنة او المصير الى النار، كما درج على القول بذلك كثير من الناس، علماء وعامة، في جميع العصور التي تلت عصر النبوة والخلفاء الراشدين، ام ان
الأمر بالعكس من ذلك تماما، وهو ان الآخرة، اي الجنة والنار، هما من اجل الدنيا، من اجل ان يسود فيها العدل والتسامح والسلام والتواصي بالصبر والرحمة والدفع بالتي هي احسن؟
لقد جادل الملأ من قريش جدالا مريرا، حادا ومتواصلا، في موضوع امكان البعث، لأن البعث يعني الجزاء، يعني المسؤولية. واذن فالايمان بالبعث والتسليم به كانا يعنيان تغيير سلوكهم بالتخلي عن كل ما هو غير مشروع في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. ان الجنة في القرآن ميدان للثواب على ترك الرذائل واتيان الفضائل في الدنيا. اما النار فهي بالعكس ميدان للعقاب على اتيان الرذائل وترك الفضائل في الدنيا. فلولا عمل الانسان في الدنيا، لما كانت هناك جنة ولا نار. وعلى العموم: لولا الدنيا لما كانت هناك آخرة. واذن فالآخرة من اجل الدنيا، وليس العكس!
ذلك، في ما يرى الجابري، هو موقف القرآن المكي كما حاول فهمه وتفهّمه وتفهيمه. وهو يخصّ بالذكر، هنا، القرآن المكي وحده لسبب اساسي، وهو ان الخطاب فيه موجّه الى جهتين فقط: الوعد للنبي (ص) وصحبه من جهة، والوعيد للمشركين من جهة اخرى، وليس فيه تخصيص على عقوبة في الدنيا يطبقها النبي او سواه، لا على اصحابه المؤمنين بالدعوة، ولا على خصومه المحاربين لها. اما في المدينة فالأمر يختلف. هناك تعدد: مشركو مكة قبل فتحها، اليهود قبل جلائهم، المنافقون، القاعدون من المؤمنين والمجاهدون، اصحاب الصفة واصحاب المغانم، المستضعفون والمترفون. فهل ستختلف العلاقة بين الاخرة والدنيا بسبب هذا التعدد؟
سؤال يقول الجابري انه لن يتأتى له الجواب عنه الا بعد الفراغ من القسم الثالث من هذا الكتاب.القبس
اشكاليات فكرية تعترض مسيرة الثقافة الفكر والحجر.. تأملات ذاتية في مدارات الهوية كتب خولة القزويني :
«فهد الهندال» عقلية ناقدة انفجرت كالنبع من بين أحجار صلدة فأفاض النبع عذب ماء، لعلّ الحجارة تتفتت فيمضي النهر في مجراه.
وتحجر الفكر يعيق حراك الشعوب بل يقوض إبداعها ويجفف منابع العقل منها، والحجارة ركام سنين القهر وتراكم الخيبات نتيجة هزائم متلاحقة، أرخت إرادة المثقف العربي في استرداد أصالة هويته وشموخ كينونته، ناهيك عن الواقع الثقافي المتشنج الذي نعيشه كان اختزال مذاهب فكرية متصارعة، ونظم سياسية متسلطة وموقف المثقف الهش، والذي كان إما رد فعل مؤقت كفورة عاطفية طارئة أو انكفاء على الذات داخل شرنقة صلبة شكلت نسيج شخصيته، فكان باهت الملامح، هزيل الأثر، ترك خلفه إرثاً ثقافياً متردياً دفع المتلقي فيه يتخبط في كل اتجاه، يبحث عن ذاته المتلاشية في غول العولمة.
جاء الكاتب الشاب (فهد الهندال) بـ (عصاه السحرية) - عفواً قلمه- ليحول الأحجار إلى شذرات نور تضيء الأمل في ليل اليائسين، ويمس ذلك الوتر الهامد كي يحرك الحياة فيه. فهو لم يطرح حلاً سحرياً لأزماتنا على اختلاف أنواعها، وإنما كشف النقاب عن وجه الفارس العربي المحبط بعد انكسارات وهزائم سياسية متلاحقة وإخفاقات ثقافية متعاقبة، تركت رواسبها في تكوينه النفسي والفكري فكان قعيد زمانه قد تخلف عن ركب التقدم والتطوير واستسلم لواقعه المتناقض، حتى تعذر عليه أن يحتفظ بهويته وسمات الأصالة والقوة فيها. ففي هذا الكتاب له وقفات ناقدة، إذ شخّص حال الركود الثقافي وشلل العقل العربي وعجز المثقف عن استقراء تاريخه قراءة واعية ونقد ذاته نقداً متأنياً لاستنباط مواطن الخلل والضعف في ثقافته، فعندما تدخل المشكلة حيز الشعور، يعني هذا أنك في طور الوعي وثمة تغيير في كيميائية دمك الراكد الذي تجمّد في عروقك لقرون واستحكم منافذ عقلك، فما عدت تدرك أن واقعك يتراجع إلى الخلف عن قصور واستسلام، أن تفكر يعني دخولك في مدارات جديدة، تحرضك أن تتمرد على قدرك فتقرر الانسلاخ عن جلدك المتغضن وزمنك الهرم. يدفعك وهج اليقظة في تيار معاكس للتيار الجمعي الذي يعوم فيه أغلب المثقفين الأموات منهم والأحياء، فالمثقف التقدمي كائن حي يحاول أن يقتلع ذاته المدفونة، من بين تلك الأحجار المرصوصة كالأطلال، لأن عقله ناقد وفكره يقظ وقلمه ثائر، وقد قرر الكاتب الناقد (فهد) أن يمتطي قلمه المستنير ويدور في كواكبنا المعتمة ليضيئها بشهب أفكاره، ويسرج في كلماته نبراس هداية، ففي الومضة الأولى صور لنا، ملامح المثقف الذي ينبغي أن يستعيد دوره النهضوي وينفض عن ثقافته القتيلة تراب سنين منهكة، ونقد مظاهر التخلف والخلل والروح المسؤولة النابضة في ضمير الكاتب، والذي يحتم عليه أن يحدث أثر سامياً ومعنى هادفاً في حياة الناس، متعدياً العراقيل والعقبات، ماضياً بعزم وقدرة على تحقيق رسالته التنويرية الخالدة.
الزمن والانسان
وفي «الزمن والإنسان» يستثير الجدلية التي يتعلل بأذنابها الإنسان المهزوم، فيتعمد الإبطاء عن الحركة الفاعلة ويختلق أسباب التقاعس ويتهم غول الزمن وكأنه مسلوب الإرادة، في حين أن الزمن ظرف وقتي، فنحن من نقوده ونحركه ونرشح على ضفافه قيمنا وأفكارنا، تاريخنا، ولهذا يمكن تلوينه وتحريكه وتوظيفه بمقتضى ظروفنا وإرادتنا، ثم يدخل الكاتب في بوابة العقل والتوصيفات الوظيفية من خلال رؤى علمية ونقدية لعلماء ومنظرين.
وفي «العالي والتالي»يتناول الإشكاليات الفكرية التي تعترض مسيرة الثقافة العربية ومحاولة استكشاف مواطن القصور والضعف التي أوهنت العقل العربي وجمدته في وقت نحن في أمس الحاجة فيه إلى النقد والتحليل لمعالجة الظواهر السلبية المتفشية في مجتمعاتنا.
وفي إجابته الرصينة عن جدوى كتابة مقالاته الناقدة للمتلقي، يضع نفسه موضع التكليف والمسؤولية قائلاً «إن قلم المثقف وسيلة إنقاذ لمجتمع غارق في الصراعات والإشكاليات وإشعال فتيل الوعي من خلال الكلمة التي تبني قاعدة فكرية وقيمية أخلاقية لفئة الشباب خصوصاً لأنهم متعطشون إلى رؤية واضحة ونهج سليم يقوّم تطلعاتهم نحو المستقبل».وفي سياق نهجه ككاتب يلقي على الكلمة درع محارب كي تخوض معركة مصير وأن تنتصر للقيم الإنسانية فتناضل من أجل الحق، العدل، السلام، الرخاء، ذلك هو أثر الكلمة البناءة التي تبني القيم والمبادئ، لن تغرق كغيرها من الكلمات الرخيصة في وحل آسن، بل تنتشل نفسها من بين الركام الفاسد والهزيل وتنهض بالناس، الكلمة البناءة لن تموت ولن تضيع أو تتلاشى، فهي قوة الشعوب وعزتها وفتيلها المحرض على الحراك التقدمي.
أما ما كتبه في «الجيل الجديد وقناع الحديد»، فقد فنّد فلسفة الأحزاب والمنظمات ومنهجية كل حزب وأيديولوجية كل منظمة والمذاهب الفكرية التي ترفد تلك التنظيمات طاقتها الحركية ومحاولاتها في استقطاب أكبر عدد من الأنصار والمؤيدين وتلميع برامجها المؤطرة بأطر قيمية تجذب الناس، وحالة التطرف التي استفحلت في شعوبنا وكانت سبباً في قفل باب التفكير الناقد والاجتهاد الحر والخيار المسؤول والتداعيات السلبية لذلك التطرف.
كما يحلل الكاتب «فهد» في مقالته «انتهازية جديدة» المشهد الثقافي الآني إذ يقول إن الثقافة لم تعد وسيلة للاستعمار أو للمقاومة بل تعدتها إلى أن تكون أداة طيعة بين المتسلقين على أكتاف المثقفين، فالثقافة أصبحت عنوان الصراع بين المثقفين أنفسهم، يؤججه ذلك الإرث الشخصي بينهم، يسبقهم شبق تحطيم بعضهم بعضاً بما امتلكوا من أدوات الثقافة الظاهرة والباطنة.
تدبر وتحجر
وفي «التدبر والتحجر»، ينقد التيارات المتطرفة التي انكفأت على ذاتها وأوصدت خلفها أبواب الحوار وخاطبت الآخر بعدائية، كما لو أنه خصم طالما عبّر عن رأيه بحرية أو انتقد بحسن نية قاصداً البحث عن الحقيقة أو الاتفاق على قواسم مشتركة.
وفي مقالته الطريفة «الرحى والتفكير» يقارن بين المقالات المطولة والقصيرة المختصرة، ويصف المقالات المطولة بأنها ميزة النخبة من الكتاب وهي في الغالب غير مقروءة لدى عامة الناس نظراً لتعقيد مصطلحاتها، إذ يجد القارئ البسيط عسراً في قراءتها فيتهم كاتب هذه المقالات مجتمعه بالجهل لأنه لا يفهمه، وقد يتخذ جانب العزلة والانطواء لأن العوام يهيمون في وادٍ غير واديه النائي، فثمة مسافة فكرية شاسعة بينه وبين المتلقي الذي يحتاج إلى خطاب سهل الهضم وثقافة تتناغم ونمطه الفكري الذي تشكل عبر تاريخه الطويل.
صعود نحو الهبوط
وقد لمست في قلم الكاتب (فهد الهندال) حساً واعياً ورؤية شفافة وحذاقة في التقاط الخيوط الباهتة، التي قد لا ينتبه إليها النقاد كحال التضخم الذاتي التي يعيشها أكثر المثقفين، إذ تطوي ضمائرهم نهماً إلى الشهرة وعطشاً إلى اللُمعة، المآرب الشخصية والنفعية والنرجسية الذاتية المغلفة بمظاهر براقة وتفشي هذه الظاهرة في مجتمعنا، النموذج البالوني الذي ينتفخ ويرتفع لكنه في الداخل خواء، وفي المضمون غُثاء، هذا ما تقرأه في (صعود نحو الهبوط) ونقائض المثقفين وتضارب النوايا وتباين الأهداف، قضايا كثيرة استحوذت عقل الكاتب المبدع (فهد) كنظرية (المؤامرة) التي تغذي في المثقف العجز والتثبيط والبحث عن مبررات السقوط والفشل، هموم متشابكة اجتهد فيها قلمه الشجاع ليخوض في مضامينها وأسبابها وتداعياتها لاستكشاف منبت الأزمات وجذورها الضاربة في الأعماق، وهذا الدور الحقيقي الذي ينبغي أن يضطلع فيه المثقف المتجرد من أناه وذاتيته، أن يكشف الحقيقة المغيبة في خضم الصراعات السياسية والأيديولوجية، ويعمل على استرجاع الهوية الأصيلة والنمط الثقافي المنسجم مع مجتمعه، ودينه ولغته وذوقه، ليكون خطابه متناغماً، مقبولاً، فعالاً، مؤثراً، محركاً.
حيرة المتلقي
وتطرق أيضاً إلى صورة المسلمين التي تشوهت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والمعركة الطاحنة بين قطبي التطرف الغربي والإسلامي والإشكاليات التي وقع فيها الإنسان العربي المسلم ونظرة الاستنكار والبغض في عالم الغرب، بعدما التبس عليهم الأمر، لم يعرفوا جوهر الإسلام إلا من خلال النموذج الإرهابي الذي أفرزته الأحداث الأخيرة، وهكذا هي حيرة المتلقي وضياعه في هذا الزمن المرعب وجهله وانغلاقه على ذاته واستهلاكه الساذج لكل الرواسب والنفايات المرمية على أرصفة الآخرين، والنتيجة شلل في القوى الفكرية والعلمية والإبداعية، ولهذا لن نجد المخرج من هذه الأزمات إلا باستفزاز العقل عبر التفكير الناقد واستنهاض روح الحوار الثقافي المتعقل والانفتاح الحضاري على العالم، وبناء مقومات القوة والهوية والثقة بالذات ولن يتأتى هذا إلا عندما تتأمل ذاتك وتستقرئ واقعك بعقل ناقد لتستأصل العلة فيه وتنطلق حثيثاً نحو أهدافك العليا.
إن قراءتي لكتاب (الفكر والحجر) كان لسببين:
السبب الأول رغبتي في استكشاف عقلية شابة لم أعرفها عن يقين، والسبب الآخر العنوان المحبك بشكل استثنائي، استحضر في ذاكرتي أقلاماً ثائرة كان لها صهيل في فضاء الفكر، فكاتب متميز بقلمه الدسم كـ (فهد الهندال) لن يمر علينا مروراً عابراً لأن كل كلمة جاءت من جوفه المضطرم سعار يحرق الأوراق المبتذلة التي عبرت عن الخواء والإسفاف، وقلم نهضوي استوعب حجم الهم السياسي والركود الثقافي، فجاء يصفع كل مثقف متخاذل يحلق مع السرب الساذج ويغمض عينيه مستهيناً بالواقع المرير، والذي يحتاج هزة فكرية وجذوة تغيير.. أهنئ الكاتب القدير على كتابه الرائع الذي عبر عن ثقافة رصينة وقلم شامخ وفكر حيوي، حلق في سماء الإبداع بجناحي الوعي والمصداقية، وجدير به أن يتألق رغم الزحام وضيق المعبر.
جمهورية الخوف.. أو عصر صدام حسين ستينات العراق أعطت الشرعية لحكم العنف
يصف كنعان مكية في كتاب صدر حديثا عن «منشورات الجمل» عراق صدام حسين ب «جمهورية الخوف» و«غرفة الرعب»، ويقدم في 424 صفحة من القطع الكبير، صورة واقعية للنظام البعثي السابق وجذوره التكريتية.
يعرض لعشيرة صدام، التي اشتهرت ابان حكم العثمانين بالطريقة التي من خلالها «يكسرون عين» اي حاكم لا يستلطفونه: اذ يصار الى استضافة هذا الحاكم مع زوجته واطفاله على وليمة ترحيب في بيت شخصية محلية معروفة من شخصيات العشيرة، ثم تكمن مجموعة مسلحة من الرجال المقنعين لزمرة الحاكم اثناء عودتهم من الوليمة. وعندئذ يهان الحاكم من خلال اغتصاب حريمه، وبعدها ينزع الرجال اقنعتهم لاظهار وجوههم قبل ان ينسلّوا تحت جنح الظلام من دون ان يقتلوا احدا.
كنعان مكية يقول في كتابه انه في السبعينات من القرن الماضي جرت «عصرنة» هذه الممارسات العشائرية لتتحول الى ادوات بيد الحكم البعثي، عائلات ارستقراطية بغدادية لها علاقة بالنظام الملكي البائد تمت عملية «كسر عينها» على يد ابن صدام حسين وبطانته، على الرغم من انه كان قد مضى وقت طويل منذ كان لهذه العائلات تأثير سياسي او اقتصادي. فبنات هذه العائلات كن يختطفن من الشوارع وهن في طريقهن من والى بعض منتديات بغداد، ثم يختفين لعدة اسابيع قبل ان يظهرن من جديد. ومع ان الجميع يعتقدون انهن قد اغتصبن، لكن احدا لا ينبس ببنت شفة بخصوص ذلك الامر، حتى الفتيات الضحايا انفسهن،والعار الذي يلحق بعائلات هؤلاء النسوة، فضلا ان منهن بالذات، كان مرتبطا بافتراض ان الشعب يعرف ما الذي جرى بالفعل، وفهمت هذه المعرفة على انها اعظم اهانة من الانتهاكات نفسها التي ارتكبت بحق النسوة. كما وسع البتر والكي بوصمة العار المنطق نفسه ليشمل الذكور، مع اختلاف هو ان آثام ما بعد حرب الخليج مثل الهروب من الخدمة العسكرية والسرقة قد مثلت تحديا فعليا وجديا لاستقرار النظام، وهو ما لا ينطبق ابدا على النساء المختطفات في شوارع بغداد لتلبية النوازع المنحلة لأولاد صدام حسين.
ويروي الكتاب وقائع كثيرة تعيد الى الذاكرة تآمر اسرة بورجيا الشهيرة، منها حكاية عدي نجل صدام الاكبر الذي قام امام نظر الجميع بركل كامل حنا جوجو وضربه بالهراوات حتى توفي، كان كامل حنا هو المتذوق الرسمي الخاص لطعام صدام حسين. غضب «الرئيس» غضبا شديدا مما فعله نجله، اذ رأى وراء ما فعله يد زوجته، لأنه في فترات راحة جوجو من مهام تذوقه للطعام كان عليه ان يدقق في اختيار النساء العديدات اللاتي كن يكتبن طالبات رؤية الرئيس كجزء من برنامجه «لقاء الشعب». واشيع انه تزوج واحدة منهن سرا، ووصلت هذه القصة الى الذروة حين قتل حسين خيرالله طلفاح في «حادث» هليكوبتر.. وخيرالله كان احد اعمدة النظام.
كان عالم صدام حسين، كما يقول الكتاب، عالما ليس بامكان ابشع مخيلة ان تتخيله، يصف الكتاب كيف ظهر الى الوجود عالم كافكاوي جديد حكم وشدد قبضته من خلال الخوف. في هذا العالم اصبح المواطن النموذجي مخبرا. وشغلت الاكاذيب و«التقصي» الخطاب الشعبي الى حد الاستغناء عن اي شيء آخر، ان الخوف لم يكن امرا ثانويا او عرضيا مثلما في اغلب الدول، بل اصبح جزءا تكوينيا من مكونات العراق، وقد طور البعثيون سياسة الخوف الى ما يشبه الصيغة المخادعة بحيث تخدم في النهاية الغاية المنشودة لشرعنة حكمهم من خلال جعل اعداد كبيرة من الناس مشاركين في عنف النظام.
وتبدأ المشكلة الرئيسية للعنف البعثي من ادارك ان مئات الآلاف من الناس العاديين تماما كانوا متورطين فيه باستمرار، وفي اغلب الحالات لم يكن لهؤلاء خيار مع هذا الامر.. ومع ذلك ينبغي ان يكون ما يقومون به مبررا، وينتهي الى شرعنة نظام ليس بالامكان ان نضع اللوم في ظهوره علي اي من الغرباء على البلد.
ولكن ليس هناك ما هو غير مفهوم بشأن هذه الغرائبية، اذ تتغذى القسوة على نفسها وتنمو باطراد. فلها شكل وحياه، وتحتذي النماذج، وتطيع قوانينها الخاصة، ولها تاريخها الخاص بها.
اما كيف تتطور القسوة في الدولة، او لماذا تكون ردة فعل اولئك الخاضعين للقسوة المقننة رسميا على نحو مختلف في مراحل مختلفة من حياتهم، فهما السؤالان الاكثر ارتباطا بالقضايا الاكثر جوهرية في عالم السياسة، اذ ان انتهاج سياسة التشويه الجسدي، على سبيل المثال، قد نجم عن التراث البعثي الذي ترسخ منذ فترة طويلة قبل ان يعلن صدام حسين عن قوانينه العقابية عام 1994، ويسرد كتاب «جمهورية الخوف» كيف تطور هذا التقليد من المحاكمات الوحشية علنا الى التعذيب في ظل ظروف تامة السرية.
عشية اندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية في ايلول 1980، هيمن صدام حسين على نظام غيّر كل المعايير المؤثرة على العنف المنظم من قبل المجتمع والدولة، خضع التوسع في وسائل العنف، من جيش وشرطة واجهزة امنية، وشبكات من المخبرين، والميليشيا الحزبية، وبيروقراطيات الدولة والحزب، الى انقلاب نموذجي: فتحولت الوسائل الى غايات، واصبح استئصال المعارضين وممارسة القوة الغاشمة غايات مريعة في حد ذاتها، متخطية بغباء الحدود التي كانت تقف عندها فيما مضى.
كان العراق بلدا غنيا على الدوام، ولكنه زمن صدام كان بلدا لا يحيا فيه سوى مليون نسمة لا اكثر، حياة طبيعية، انهم اولئك الذين دعموا حكم صدام واولئك الذين حموه، لقد توفر لهم الطعام والمال. اما البقية فقد انجرفت الى نوع سوريالي من الفقر المدقع حيث باع اساتذة الجامعات ممتلكاتهم العائلية لتوفير لقمة العيش. لقد تمزق نسيج المجتمع، واحيانا عندما كنت اسمع تأكيدات الاذاعات الاجنبية ان الطريق الوحيد للخلاص انما هو بالتخلص من صدام، كنت اقول لنفسي «هل يحسبون اننا في لعبة من العاب الفيديو ام ماذا؟». اذا امعنا النظر رأينا اناسا نضبت طاقتهم الحيوية في السعي حتى لتأمين وجبة الغداء المقبلة!
ويرى الباحث انه لا يمكن لأي بيروقراطية حكومية ان تقتلع عيون اطفال شعبها من دون ان توفر لنفسها الاسباب، ولكن كما تقضم الحية ذيلها، يصنع التبرير من خلال الخوف من العنف، وليس عن طريق الموافقة او حتى الخداع، كان النظام يعمل مثل معسكر اعتقال: فالسجناء يضربون بعضهم ببعض، حيث يخترع الاعداء ويعذب الاطفال في سبيل هدف سام، ويدور كل شيء بهوجاء وبلا سيطرة في عالم مغلق من صنع النظام نفسه. تلك كانت خصوصية العنف في العراق وسبب كافكاويته البادية.. والنظام الذي انجز كل هذا ظاهرة، متوطنة تماما لم تفرض من اي قوة خارجية، وهي كلها نتاج للثقافة التي تغذيها، لأن ايام الملكية التي فرضها الغرب ولى امرها منذ زمن بعيد.
يفحص كتاب «جمهورية الخوف» جيل صدام حسين والستينات في العراق. يناقش الجذور التاريخية لتلك الافكار، ويجادل بانها هي التي اعطت الشرعية لحكم العنف.