الظاهرة المسرحية هي حالة قرب حميمة ما بين منصة التمثيل وقاعة التلقي، لذلك يستوقفنا عنوان «أحمد إسماعيل» الذي أعطاه لكتابة «المسرح القريب» ويحكي فيه تجربته المسرحية في قريته «شبرا بخوم» – وهو يرى من واقع التجربة – التي خطط لها، وقاد مراحل تنفيذها بدأب يعرفه عنه من اقتربوا من شخصه.. ان مفهوم الاقتراب هو انتظام الجميع في اللعبة المسرحية منذ البداية الأولى، وحتى إسدال ستار النهاية في آخر ليلة عرض، الكل يسهم في درجة أو في أخرى بجميع مراحل الإنتاج المسرحي .
ولأن فصول التجربة تمت في أحضان الهيئة العامة لقصور الثقافة، فقد بدأ المؤلف بإلقاء نظرة سريعة على مسيرة الهيئة منذ إنشائها عام 1945 تحت مسمي «الجامعة الشعبية» وحتى كيانها الجديد الهيئة العامة لقصور الثقافة، وورث هذا الكيان ضمن ما ورث، فرقا مسرحية خاصة، سرعان ما تفككت، وحلت محلها فرق جديدة أنشأها الوافدون الجدد، ومن الفرق القديمة فرقتا «أم زيتون»، و«أم أحمد العدل» في الدقهلية، وفرقة «حمامة» في الإسكندرية، وفرقة «فوزي العمدة» في سوهاج، وباختفاء هذه الفرق سارت الأمور سيرا مخالفا لما كانت عليه باستثناءات قليلة، منها تجربة «مسرح الفلاحين» في المنصورة، وتجربة «هناء عبد الفتاح» حتى قرية دنشواى عامي 1962 و1972 عبد العزيز مخيون ومنحة البطراوي أعوام 74 حتى 1977 وتجربة عادل العليمي في قرية البراجيل 1976، ثم ورشة «عباس أحمد» في قرية قارس عام 1978 .
وطبيعي أن هذه التجارب واكبها وسبقها مجموعة من الاجتهادات النظرية التي سارت في طريق البحث عن تأصيل للمسرح المصري، وهي رغم قلتها فانها شديدة الأهمية .
يقدم المؤلف صورة لقريته، التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها مدينة صغيرة متميزة، وبعد ذلك يقود خطانا إلى المراحل التي مرت فيها التجربة، ففي عام 1973 كانت الخطوة الأولى التي تعاون فيها مع الفئة العمرية 12-18 كأساس لأعضاء الفرقة واستمر هذا الكيان حتى عام 1977، وفي المرحلة من 1980 - 1986 استقطبت التجربة عددا متوازنا من الموظفين والفلاحين والطلاب، خصوصا طلاب الجامعة، وكان الرابط الأكثر أهمية هو عمــل كل هؤلاء بالفلاحة إلى جانب نشاطــهم في المسرح ومثلت الفترة 1999 - 2000 الخطوة الثالثة في التجربة التي استطاعت أن تقنع بعض سيدات القرية بالانضمام إلى صفوفها بجانب الفتيات .
وكان طبيعيا أن تحدث المواجهة، التي تمثل قمة الصراع بين القديم التقليدي الثابت، وبين الجديد الوافد الفتي المسلح بمعارف جديدة، المدرك للفرق بين موالد الأولياء، والسامر الشعبي،وبين الظاهرة المسرحية التي تحكمها قوانين وأسس لها ثقلها، وهذا ما انتج تجربة واعية خرجت من عباءة الثقافة المحلية في القرية وأسلوب حياة أهلها، آخذة في الاعتبار الوضع المتميز الذي حصلت عليه المرأة باعتبارها صاحبة حق في مساواة كاملة بالنظر إلى مدى فاعليتها في المجتمع «الفلاحي». تلك النظرة الشاملة التي تبنتها التجربة كان لها الأثر الحاسم في المواجهة مع بقايا الفرقة القديمة، وكان لإحساس أهالي القرية بالفارق الكبير بين المأمول، والواقع الذي توفره الأجهزة الرسمية الأثر الأكبر في وقع التجربة للأمام .
بعد ذلك يأخذنا المؤلف إلى فاصل من اجتراء الذكريات حول التجربة، مفندا تفاصيل كثيرة احتوتها السهرات التي قدمت ويسوق بعض ما قاله النقاد والباحثون، ومنها قول المنظر المسرحي التونسي عز الدين المدني «وقد اصبح المسرح بذلك جزءا من طبيعة قرية شبرا بخوم، ومكانا للسمر والتواصل والكل مندمج في الأرض الزراعية، بحيث يكون المسرح جزءا لا يتجزأ من الحقول الفلاحية» وأقوال آخرين جاءت تحت عناوين «عندما يحضر المتفرج ليشاهد نفسه، أصحاب القضية كاتبوها وممثلوها،ابحثوا عن المسرح في بلادكم، سهرة ريفية من تأليف المتفرجين، قرية تكتب وتمثل، سهرة ريفية من إبداع قرية شبرا نجوم، هذه الشجرة المستحيلة، الخروج من القاهرة»، ومن هذا إلى الحديث حول عرض «الشاطر حسن» عن أشعار المبدع فؤاد حداد، وهنا يسوق موقفا لعجائز القرية اللائي اصررن على الحضور يوميا، ولما سئلن، كانت الإجابة «إنه دواء لنا» .
النص الذي كتبه فؤاد حداد عن الشاطر حسن، نص سردي والدراما فيه قليلة، وهنا يقول المؤلف «التصور الإخراجي بحاجة إلى خشبة مسرح تصب في قلب المتفرج» وعندما يهمس الراوي بحكايته أو يصمت أو يتنفس، فإنه يهمس لكل واحد بشكل شخصي، ويسمع كل منهما نفس الآخر، لذلك كان تصميم الخشبة متداخلا مع مقاعد المتفرجين، وهذا هو الاقتراب، أو هذه هي حالة «المسرح القريب» التي قصدها المؤلف .
ومما يسوقه المؤلف، نتوقف عند مشهد أقرب للطرفة، حيث حدث نوع من الرهان على ما يمكن أن يكون تفسيرا من الأهالي لعرض «ليالي الحصاد»، وصــــل أمر تكرار المشــــاهـــدة بعضهم إلى الدخول فــــــي حالة المراهـــــنة تلك، حتى انهم حصلوا على استـــثناء خـــاص لمزيد من المشـــاهد للوصــول إلى قـــناعــــة يرتضونها.
وفي محاولته لوضع التجربة على طاولة البحث، يعدد أحمد إسماعيل الروافد التي نهل منها، وينهي كتابه بما كتبه الناقد الأميركي ستيفن هنكن في مجلة «العالم وأنا» الصادر، في ديسمبر 2000، تعليقا على مشاهدته لعرض «ليالي الحصاد» في إطار مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي «بالرغم من أن مكان العرض ريفي على مسرح في قرية، كان اهتمام المخرج الأساسي هو تنقية وجهة نظره الشعرية من خلال منظور ثقافي عالمي» .
محمد الزرقانى
الكتاب : المسرح القريب المؤلف : احمد اسماعيل سلسلة اصدارات خاصة الناشر : الهيئة العامة لقصور الثقافة قطع صغير : 152 صفحة
في كتاب لمثقف «يكره المثقفين» سعدي يوسف يعتبر ملكة بريطانيا أحن عليه من أمه.. وحجازي طاووس جافاه شيطان الشعر!
محطات اشتبك فيها الكاتب محمد بركة مع مثقفين، نجوم غالبا، كانت سبباً في إعلانه الكراهية ضدهم.
ورغم أنه متورط ثقافيا، ومرتبط وجدانيا برموز الثقافة العربية، فإنه لم يستطع ان يتعامل مع نجوم الثقافة بطريقة المريدين، كما هو الشأن عند المتصوفة، لكنه يحتفظ لنفسه بحق الحوار والنقد والاعتراض، وهي مفردات لا تخلو من شعور بالمحبة بالضرورة.
في كتابه الذي صدر مؤخرا عن دار هلا بعنوان «لماذا كرهت المثقفين» يتحدث بركة عن شخصيات وقع في غرامها، لكنها صدمته برد فعلها لأنها أنكرت عليه حق الحوار والنقد.
يقول الكاتب تحت عنوان «أحمد فؤاد نجم»: اقتربت منه على المستوى الانساني، واسرتني تلك العبارة الفاتنة على جدران غرفته «مجلس قيادة الثورة»، كنت انظر إلى اعضاء المجلس فأجدهم أدباء وكتابا للسيناريو وشعراء وتشكيليين وعازفي عود، كما أجد أيضا شخصيات حقيقية من الباعة والخبازين والجيران..
فكرة الذهاب إلى مجاهل المقطم والنزول في حي يحمل اسم «مساكن الزلزال» والصعود على سلم خشبي متهالك والمرور على عنزة ملول، ترفض تناول البرسيم، كل هذا الجو كان يفتنني على نحو خاص، وأنا في طريقي للانضمام لحلقة مريدي «الفاجومي».
ويتحدث بركة عن صدمته في الفاجومي الذي وقع في غرامه وذلك بعد أن نشر عنه موضوعا صحفيا فيه قدر من الحوار والنقد، متسائلا : هل كان الامر يستحق؟
ويورد بركة الموضوع الذي نشره وكان سببا في غضب الفاجومي، ويحمل عنوان «المريدون القدامى انقلبوا على أحمد فؤاد نجم» وهو يبدأ بسؤال استنكاري هل هو نفسه أحمد فؤاد نجم الذي مشينا وراءه في يوم من الايام منومين بسحر شجاعته وجرأة قصائده؟
كيف انقلب من شاعر يحطم اصنام السياسة الى شاعر يغني على ربابة؟
ويمضي المقال عن الفاجومي مناقشا سبب قبول الشاعر الشهير دعوة تكريم من نجيب ساويرس رجل الأعمال الشهير بمناسبة بلوغه سن السبعين وغضب السبعينيين من قبول الفاجومى دعوة التكريم واتهامهم له بـ«الخيانة» و«بيع القضية»
ويورد المقال مجموعة من ردود فعل السبعينيين الغاضبة تجاه الفاجومي، فيقول الروائي يوسف ابو رية: «أول مرة تفتح فيها وعيي على نجم كرمز لحلم أخضر جميل، كان داخل مدرج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، رأيت رجلا عجوزا يحتضن عودا عجوزا مثله، ويغنى «غيفارا مات» ومن يومها صارت أغاني الشيخ إمام التي يؤلفها نجم مسؤولة عن تشكيل وجداننا وأحلامنا، وعندما انخرطت في صفوف الحركة الطلابية اكتشفت أن الشعارات والهتافات التي ترددها في المظاهرات هي أيضا من تأليف نجم.
ويضيف أبو رية، فيما ينقله بركة «بأي حق يسقط نجم هذه المرحلة؟ كيف يسرق أحلامنا؟ من أعطاه الحق في ذلك؟ هل كان هذا التاريخ وهما؟ وهل كانت الأحلام مجرد أضغاث أحلام؟ لماذا يتنكر نجم لتراثه الشعري؟».
وينقل بركة عن الشاعر رفعت سلام اتهامه لنجم بعدم الموهبة الا في الفلتات النادرة، ويمضي بركة متناولا وجوه الحياة الثقافية العربية فيلتقي الراحل الفريد فرج قبل رحيله ويصفه بأنه شديد البخل في البوح، ممسك غاية الامساك فيما يتعلق بالحكي والفضفضة ولا يجيب عن سؤال مختلف ولا يعطيك اجابة حقيقية، والحماس يلون صوته فقط حين يشكر دولة خليجية أهدته جائزة أو حين يشكو من اهمال مسرح الدولة لأعماله.
ويصف الشاعر العراقي سعدي يوسف بأنه مثل معظم «نجوم» الثقافة العربية يحترف لعبة الاعتذارات في تعامله مع الاعلام لكنه يبقي الباب مواربا إذا كان الامر يتعلق بصحبة غير جميلة، لكنها تجيد تلوين نبراتها، ويلتقط بركة مشهدا لسعدي بالقاهرة حين جاء ليوقع كتابا صدر له والتف حوله عدد من الصحافيين ويصف سعدي بانه بدا شديد الضآلة له رأس صغير مثل طفل غريب الاطوار، من عنقه تتدلى سلسلة ذهبية، كان أكثر اهتماما بالحديث عن بريطانيا التي منحته جواز سفر وجنسية واوراقا رسمية للاقامة، كان منتشيا للغاية بحكاية الجنسية هذه، وكان يردد بزهو أن ملكة بريطانيا أحن عليه من أمه.
ويرسم بركة صورة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي على أنه طاووس جافاه شيطان الشعر، لكن قصائده القديمة لا تزال تحمل عطر الدهشة ومقالاته في الصحف تملك قدرا كبيرا من الجرأة والاشتباك والترق، تأسره لمسة ذوق حين تتأخر احتراما له ونظراته لم يخب بريقها بعد خصوصا إذا حلق في الأجواء طائر الأنوثة.
ويتحدث المؤلف عن الشاعر عبد الرحمن الابنودي قائلا : في كواليس النميمة والمقاعد الخلفية للقيل والقال اعتادوا ان يصفوه بأنه أخر من انضم الى «جمعية المنتفعين بنجيب محفوظ» وحين يهاجمه شاعر مخل من شعراء العامية المصرية كان يتساءل في سخرية «يا جماعة عمركم شفتم شاعر وملياردير في نفس الوقت؟».
أما المرحوم محمد مستجاب - أحد أشهر غزاة العاصمة من أدباء الصعيد - فكان يقول: الابنودي لا يتكلم اللهجة الصعيدية إلا أمام كاميرات التلفزيون.
ورغم أن المؤلف يصف الابنودي بأنه راسخ رسوخا لا تهزه رياح النميمة، يؤكد عدم سعادته وهو يراه يتحول إلى ماكينة إعلامية، يكتب في عدد هائل من الصحف والمجلات، ويطل على الجمهور من عشرات الشاشات الفضائية والأرضية.
ويظهر الشاعر فاروق جويدة في كتاب «لماذا كرهت المثقفين» متأنقا كما يليق بنجم سينمائي، والطريقة التي يستقبل بها تحيات وسلامات الآخرين وهو يخطو برشاقة داخل بهو «الأهرام» ثم وهو يقف أمام المصعد تؤكد أنه لا يستحق جائزة نوبل في الآداب، بل جائزة الأوسكار.
ويبرز بركة ملامح التناقض في شخصية جويدة، فبعض قصائده احتفت بها جماعة الإخوان مثل قصيدة «سلمان رشدي» صاحب كتاب «آيات شيطانية» في زمن الكفر والطغيان..
اكتب ما شئت ياسلمان
وفي مقالاته، قد يبدو أحيانا وكأنه تناول أقراص الشجاعة، لكنه في الحوار المباشر وجها لوجه يبدو أكثر حذراً وأكثر دبلوماسية ولا يكف عن محاولة الإمساك بالعصا من المنتصف.
ويمضي بركة كاشفا عورات الوسط الثقافي ومتحدثا عن هؤلاء الذكور الذين يتحدثون عن تحرر المرأة من أجل الإيقاع بالنساء ولا يشغلهم سوى الحديث عن تذكرة سفر خطفها فلان من فلان، أو مشروع ترجمة اصبح فلان يمسك بتوكيله بدلا من علان، وهكذا فإن الجوريون والنادي اليوناني والأتلييه ومقهى الحرية وزهرة البستان لم تعد تجمعات شهيرة للمثقفين في وسط البلد تفرز حركة إبداعية أو مشروعا أدبيا سياسيا ما، بل أكبر منصة لإطلاق الاشاعات وصواريخ النميمة متعددة الاستخدامات. > شادي صلاح الدين
كتب اجنبية حماقة تشرتشل:كيف خلق وينستون تشرتشل دولة العراق الحديث
«إذا كنت تريد معرفة جذور الصراع في العراق هذه الأيام، والتغير الذي طرأ على حياتنا من جراء ذلك، فهذا الكتاب يعطيك البداية الصحيحة».
بصفته وزير المستعمرات البريطانية في العشرينات، ارتكب وينستون تشرشل خطأ كانت له عواقب وخيمة. في «حماقة تشرشل»، يحاول الباحث كريستوفر كاثروود تحليل الطريقة التي أقام بها تشرشل ملكية مصطنعة في العراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومن ثم جمع عنوة بين شعوب غير متحابة تحت سطوة حاكم واحد. ويجادل الكاتب في أن الخريطة التي رسمها تشرشل للشرق الأوسط هي المسؤولة مسؤولية مباشرة عن قيام نظام صدام حسين والصراعات الدموية الكثيرة التي أعقبته، متحدياً الموجة العالمية الجارفة للمشاعر القومية، ورغبة الشعوب في حكم نفسها بنفسها، يحاول الكتاب أن يشرح كيف قام وينستون تشرشل عنوة بلم شتات فتات الامبراطورية العثمانية وخلق منه لغم شرق أوسطي قابلا للانفجار في أي لحظة. فبتحريض العرب في ظل حكم الأتراك العثمانيين على الثورة ضد حكامهم، نجح البريطانيون والفرنسيون أثناء الحرب العالمية الأولى في اقناع العشيرة الهاشمية بأن حكمها سيشمل سوريا، في حين أن بريطانيا كانت في حقيقة الأمر قد وعدت الفرنسيين بهذه الأرض نفسها.
ويتابع الكتاب انه لإصلاح الأمر، قام تشرشل بخلق دولة العراق ونصب الزعيم الهاشمي، الملك فيصل، ملكاً على أرض لم تكن تربطه بها صلة من أي نوع على الإطلاق. وأسفر قرار تشرشل عن انقلاب عسكري في عام 1958 ضد الحكومة الهاشمية العراقية وعن سلسلة من الأنظمة الدموية بشكل متزايد حتى كابوس الخضوع لحكم حزب البعث في نهاية المطاف بزعامة صدام حسين، الذي أدى بدوره الى اشتعال الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينات وحرب الخليج الأولى في عام 1991 وأخيراً الغزو الاميركي للعراق في عام 2003 الذي فرخ بدوره حرب العصابات الدموية التي أعقبته.
هذا المجلد الجامع يتضمن ثماني صفحات من الصور الفوتوغرافية تضاف الى هذا التاريخ الأخاذ حول قرار تشرشل والتركة المرعبة لانهيار الإمبراطورية العثمانية. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى، تنافست كل من بريطانيا وفرنسا على اقتسام غنائم انهيار الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط. فسيطر البريطانيون على فلسطين، وحاولوا تنصيب «أنظمة ملكية دمى» في المملكة العربية السعودية، على حد تعبير الكاتب. وفي عام 1921 أرغما عنوة شعوباً متعادية من الأكراد والسنة والشيعة على الاتحاد في مملكة عراقية مصطنعة وغير مستقرة، تخضع لحكم الملك الهاشمي فيصل المفروض عليهم عنوة أيضاً.
ويزعم المؤرخ كاثروود أن هذا الشكل من أشكال الحكم غير المباشر كان بمنزلة خلق «إمبراطورية نخبوية»، كما صاغها تشرشل بصفته وزيراً للمستعمرات البريطانية آنذاك. كان البريطانيون المستنزفون اقتصادياً بعد الحرب العالمية الأولى نهمين على الغنائم وأرادوا اقتناص ما تبقى من فتات الامبراطورية العثمانية بثمن بخس. وبدا لهم أن العراق المترامي الأطراف يستحيل أن يذعن لحكم حامية محدودة العدد.
ويلفت كاثروود إلى أن الانتدابات المفروضة بالقوة تتصدع حتماً، وأن تشرشل أقر في النهاية بأن بريطانيا تنفق الملايين «من أجل العيش فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي لحظة». في مقالة تاريخية قيمة امتدت الى كتاب قصير، يستعرض كاثروود مرة أخرى قصة نفعية واستغلالية جيل مضى تحولت إلى مأساة جيل حالي.
بسبب ارتفاع نفقات الدراسة الدعارة تتفشى بين طالبات فرنسا
هن آلاف من الفتيات، اللواتي دفعتهن الفاقة والظروف العصيبة إلى التحول لعاهرات. وبينما يكشف تحقيق أُجري في فرنسا عن تطور هذه الظاهرة بشكل لافت للانتباه، يأتي كتاب لورا. د. ليميط اللثام عن الكثير من تفاصيل هذا العالم. شهادة لورا التي ننشر مقتطفات منها، فيها الكثير من المفاجآت.
لورا فتاة تحكي بطريقتها الخاصة كيف عايشت الوضع ولماذا تورطت، وأشياء أخرى عن عالم البغاء في محيط الطلبة. هذا الموضوع الذي يظل بعيدا عن الضوء.
دراستي الثمينة
لورا (19 عاما) طالبة في السنة الثانية تخصص لغات أجنبية، تدرك جيدا ما معنى أن تبيع الواحدة جسدها، تقول: «لقد أجبرت على ذلك حتى ادفع تكاليف دراستي»، وأيضا لتدفع تكاليف الإيجار وتملأ ثلاجتها بمختلف أنواع الأكل. تروي لورا ذكرياتها عن الجنس المدفوع الأجر في كتابها المعنون «دراستي الثمينة»، الصادر منتصف الشهر الجاري عن منشورات «ماكس ميلو»، الذي تنشر «القبس» مقتطفات منه اليوم.
في التاريخ ذاته اصدر الناشر ذاته مؤلفا آخر بعنوان «بغاء الطلبة في ظل تكنولوجيات الاتصال الجديدة»، وهو تحقيق أنجزته ايفا كلوي (23 عاما)، وهي طالبة في قسم علم الاجتماع استفادت من تجارب هذه المجموعة من الطالبات العاهرات.لقد خبأت هذه الرحلة المجهولة لايفا الكثير من المفاجآت، ولعل أهمها تعرفها على فتيات كن يظهرن لها عاديات وبسيطات جدا، غير أنها اكتشفت الكثير من الحقائق المثيرة عنهن.
اليونيفارستيتويي
كم يبلغ عددهن؟ ما بين 15 و20 ألفا، حسب تقديرات الشرطة؟ 40 ألفا حسب تقديرات نقابة الطلبة؟ تقول لورا ان الظاهرة مهمشة، وما على الجميع سوى التحقق من ذلك عن طريق منتديات شبكة الانترنت، «التي أصبحت تنمو كالفطريات»، لتضيف ان الطلب كبير جدا والعرض في ارتفاع بالنظر إلى ارتفاع عدد الفقراء والمعوزين. وبحسب المرصد الفرنسي للحياة الطلابية، فان 225 ألف شابة يتألمن ويعانين من اجل تسديد نفقات دراستهن.
وفرنسا ليست استثناء. لقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة كينغستون في جنوب غرب لندن عام 2006، ان 10% من الطلبة المستجوبين يؤكدون ان لهم زميلات يمارسن التعري أو التدليك أو البغاء من اجل تسديد تكاليف الدراسة. لقد ارتفع العدد بنسبة 50% منذ عام 2000 بسبب الارتفاع المذهل لمصاريف الدراسة. واليابان وأوروبا الشرقية أيضا مناطق معنية بالظاهرة، وحتى البولونيين اخترعوا كلمة موحدة بينهم لهذا النوع من الفتيات فصاروا يدعونهن «يونيفارستيتويي»، وهي كلمة تجمع بين كلمتي الجامعية والعاهرة.
من أجل العيش بهناء
في سبتمبر 2006 كانت لورا سعيدة لأنها ودعت الثانوية وتمكنت من الالتحاق بالجامعة والتسجيل بفرع اللغات الأجنبية - قسم اللغتين الاسبانية والايطالية.
تقول لورا في كتابها: «والدي عامل بسيط ووالدتي تعمل ممرضة، وكلاهما يقبضان الحد الأدنى للأجور في فرنسا ويعيلان عائلة تتكون من طفلين. ليس لدي الحق في المنح المدرسية، لأني لست من فئة الطلبة المعنيين بها».
في تاريخ السابع عشر سبتمبر 2006، حضرت لورا أول محاضرة لها في الجامعة وهناك تقول: «طلب منا الأستاذ ملء استمارة حتى يتعرف علينا أكثر. وتضمنت الاستمارة خانة كُتب عليها مشاريع مهنية.. لقد كتبت كل ما احلم به، وكشفت لهذا المجهول عن كل طموحاتي والآمال التي أعلقها على الجامعة. ولكن ينقص شيء واحد. وجهت عيني إلى السماء وبعد دقائق قليلة، سجلت أسفل جرد أحلامي المستقبلية العيش بهناء».
تمكنت لورا من العثور على وظيفة مسائية، عاملة هاتف. وكانت تتقاسم مع صديقها مانو شقته.
لقد سئم مانو من بخلها، وعدم مشاركتها إياه مصروف البيت. تقول: «كان يطلب مني النقود من اجل دفع الإيجار والمقتنيات والفواتير وهو ما يعادل حوالي 450 يورو شهريا. لم يكن مرتبي يكفي. وكنت أعوض ما ينقص من مصروفي الشهري الذي كانت والدتي تمنحني إياه».
«لم يكن المبلغ الذي كانت تعطيني إياه والدتي كبيرا، ولكنه كان كل ما تقدر عليه. لقد توقفت منذ شهر على دفع فاتورة هاتفي النقال، مفضلة إعطاء الأولوية لتسديد إيجار البيت وتكاليف الأكل. وعلاوة على هذا اشتغل 15 ساعة أسبوعيا في وكالة للتسويق، وعشرين ساعة التي اقضيها في الجامعة، بالإضافة إلى الساعات التي اقضيها في المراجعة». «اضطرب عند رؤية المراقب في المترو ولا أتوقف عن التفكير في كيفية إكمال الشهر. وعن التساؤل، هل أنا الوحيدة التي تعيش هذه الظروف؟ حياتي مخزية وتجعلني أشعر بالعار، لا استطيع أن أتحدث في الموضوع مع زميلاتي في الجامعة، كيف بإمكانهن تفهمي؟».
«ولهذا تجدني ارفض بلباقة كل دعواتهن لتناول الغذاء، فتراني منغلقة على الشيء المجاني الوحيد الذي تبقى لي، ألا وهو الدراسة».
الراحة.. وبسرعة
وتتابع لورا في كتابها: «لم تكن ستواجهني المشاكل أبدا لو أنني وجدت ما اشبع به جوعي. فحالة خزانة الغذاء سيئة للغاية والأغذية التي جلبتها والدتي لم تعد تكفي. آكل يوميا المعجنات. في البداية كنت أضيف لها مرق الطماطم المصبرة، غير أنني مللت مذاقها مع مرور الوقت، فكانت علبة نوتيلا (الشوكولا) تنقذني منها، وكنت لا أتناول منها أكثر من ملعقة واحدة حتى أتمكن من الاحتفاظ بها فترة طويلة». لقد فقدت لورا في ظرف شهرين عشرة كيلوغرامات من وزنها بعد أن غرقت في المشاكل. وفجأة جلست ذات يوم وراء كمبيوتر صديقها مانو بحثا عن عمل، لتدخل صدفة إلى موقع إعلاني كتب عليه: مخصص لمن يتجاوزون سن 18 . دخلت الموقع وفي خانة كلمة السر كتبت اسم باني، طالبة. ثم كتبت اسم مدينتي. كان هناك الكثيرون ممن يبحثون عن فتيات وعن مدلكات، أما الأجور التي يعرضونها فتتحدث عن مئات اليوروات. فهل الأمر ممكن؟ لقد أثارت النقود انتباهي ورأيت أنها يمكن أن تكون حلا لي، الحل الذي أنتظره منذ فترة، الراحة.. وبسرعة.
«أتذكر الرسالة الأولى التي وصلتني، كانت من رجل اسمه جو، هو خمسيني ويبحث عن مدلكة. وكتب مرحبا بالطالبات».
ورقة المائة يورو
كان قلبها يخفق بشدة، لأنها ستتلقى مائة يورو مقابل ساعة واحدة. تقول لورا: «قررت ألا اذهب. وبعدها تساءلت لم لا احترم الالتزام الذي قطعته مع هذا المجهول؟ تراجعت نهائيا عن الذهاب، وبعدها تذكرت خزانتي الفارغة والفواتير التي تنتظر أن أسددها. آلمني رأسي جدا، ما دفعني إلى إغلاق كتاب الترجمة الذي كنت أتصفحه، والتفكير من جديد في الموضوع».
التقت لورا و جو بتاريخ 12 ديسمبر 2006 في غرفة فندق. وعن هذا اللقاء تقول: «التقيته في الغرفة وسألته ماذا يريدني أن افعل؟ فقال: اليوم سنلعب مع بعض فقط. وفي المرحلة الأولى أريدك أن تخلعي ملابسك كلها. لم يمنحني جو المائة يورو التي كنت انتظرها، بل 250 يورو، ورقتان بمائة يورو وورقة بخمسين، لم أر في حياتي قط ورقة مائة يورو. وكان كل تفكيري منشغلا بكيفية صرف هذا المبلغ وكيف يمكن لي أن اخرج المائة يورو من دون أن أثير انتباه احد، ذلك أني كنت مواظبة على إنفاق ورقة خمسة يورو لا غير».
«قال لي في نهاية اللقاء، إننا سنتقابل على الانترنت، وإذا لم تريني على المسنجر فلا تكتبي لي، لان زوجتي هي من تستعمله في العادة».
عالم البغاء
منذ ذلك اللقاء، «أصبحت ألجأ إلى الدعارة لحل أي مشكلة مالية أواجهها. صار هذا العالم يشدني أكثر فأكثر، وكلما زادت مكاسبي زادت مصاريفي أيضا. أعي اني محظوظة إلى غاية اليوم، لا احد اعتدى علي أو دفعني قسرا لفعل أي شيء. غير أنني اضطرب أحيانا، ربما لأنني انتظر أن أُصدم ذات مرة، حتى أضع حدا لحياتي المزدوجة هذه. ولكن، هل املك القوة الكافية لانسحب من هذا العالم؟ اشعر أني مبعثرة الأفكار، فأنا لست عاهرة بما تحمله الكلمة من معنى وأيضا لست طالبة بكل معنى الكلمة!».
إشكاليات رحلة قديمة ونص جديد أربعة آلاف دينار أوقفت إعلان البلغار والغز والترك إسلامهم
يوقفنا كتاب «رحلة ابن فضلان إلى نهر الإتيل» ـ الصادر أخيراً عن سلسلة «آفاق عالمية» بهيئة قصور الثقافة، وبترجمة د. سامية توفيق ـ أمام عدد من الإشكاليات، فهو ليس رواية ولا مذكرات، وربما ليس أدب رحلات، ولكنه أيضاً قد يكون كل هذا في وقت واحد، رغم أنه في الواقع قد لا يزيد على كونه تقريراً قدمه صاحبه ابن فضلان للخليفة المقتدر الذي أرسله في سفارة إلـــى آلموش بن شيلكي الطبر، قيصر بلاد البلغار الواقعة على نهر الفولجا عام 309 هـ/922 ميلادية. ولا تتوقف الإشكالية على تصنيف الكتاب أو مادته بل في المعلومات التي قدمها ابن فضلان والمقالة الكبيرة الملحقة بالعمـل لكافكا ليفسكسي .
ولعل أولى الإشكاليات أن كتب التاريخ لم تذكر شيئاً ذا بال عن ابن فضلان، بل لم تذكر شيئاً عن سفارة بين المقتدر وقيصر البلغار، ربما لأن أحداث هذه السنوات التي تمت فيها السفارة كانت من الالتهاب في بغداد بما لا يجعل أحداً ينتبه إلى شيء سواها، فالمقتدر تولى الخلافة مرتين، الأولى عام 908م، حيث كان صبياً في الثالثة عشرة من عمره، لكن عصر الخلافة العباسية الذهبي كان قد اختفى قبيل وصوله للحكم بما يزيد على خمسين عاماً، وذلك بموت الخليفة المعتصم آخر الخلفاء الأقوياء، الذي اعتمد بشكل واضح على المرتزقة من الأتراك، ومن ثم فقد هيمنوا على مقادير الخلافة في شكل إقطاعيات مملوكة لهم، مما زاد من الضرائب الواقعة على كاهل الفقراء من جانب، واستقلال الكثير من الأمراء بالدول التابعة للخلافة، سواءً في مصر أو إيران غزنوة وبخارى وغيرهما، ورغم جهود المعتضد شديد القسوة، وابنه الأكبر المقتفي غير أن هذه الأقاليم لم يرجع منها سوى الولاء اسمياً للخلافة، الأمر الأكثر خطورة حدث في زمن المقتفي 902 ـ 908 وهو تفجر ثورة الزنج من جانب وثورة القرامطة من جانب آخر، ورغم قيام قائد جيش الخليفة محمد بن سليمان بالقضاء على زعيم القرامطة في سوريا عام 903، واسترداد مصر من الطولونيين عام 905، غير أن ثورة الزنج كانت أصعب من أن تنتهي بين يوم وليلة، مما جعل المقتفي يترك لأخيه الأصغر ذي الثلاثة عشر عاماً دولة لا يعرف خبايا الحكم فيها، خصوصاً أن بلاط الخلافة كان مليئاً بالأحزاب، كما أن المقتفي توفي بعد فقدان عقله، ولولا ظهور شخصية صفي الحلي، الذي خدم ـ عن قرب ـ الخليفة الأسبق وابنه من بعده، ما وصلت الخلافة للمقتدر، فقد أخذ خاتم الخلافة من يد المكتفي وأعطاه للوزير العباسي ابن الحسن، وقام بعدد من الاحتياطات التي انتهت بتنصيب المقتدر خليفة في ضيعة ابن طارق الخاصة بأطفال الخلافة ثم قدومه إلى قصر الخلافة. ولم تمر أشهر من عام التنصيب نفسه حتى قام ابن المعتز ـ الشاعر المشهور ـ بخلع ابن عمته المقتدر وتنصيب نفسه خليفة، لكن هذا لم يستمر إلا ليوم واحد بفضل قائد من الحرس هو مؤنس الطواشي، الذي قضى على ثورة الزنج، وخاض حرباً لاسترجاع الجزء الغربي من إيران إلى حوزة الخلافة، وفي هذا الانقلاب قتل الوزير العباسي ابن الحسن ـ وبعده بعامين مات صفي الحلي ـ وشغل منصب الوزارة الحسن بن الفرات الذي عزل الخليفة الصغير عما يجري مغرقاً إياه في ملذات لا تنتهي، في حين أصبحت موارد الخلافة كاملة في يد الحسن وابنيه، لكن الوزير قبض عليه عام 912 بتهمة التآمر مع قطاع الطرق وأودع السجن، لكنه عاد وزيراً من جديد عام 917، ولم يمض عام واحد حتى أفلست الخزانة، لأنه أقام ما يشبه بنكاً حكومياً في بغداد، وأوكل رئاسته إلى إحدى العائلات اليهودية من الأهواز. فعزل عن الوزارة من جديد ووضع في السجن وصودرت أملاكه لتضخ في الخزانة الفارغة، بينما الخليفة لاه في ترف ولا يعرف خارج حدود غرفته أو قاعة ملكه شيئاً. أما صفي الحلي الذي توفي عام 910 فقد صار مكانه نظير الحرمي، لكنه في عام 916 أبلغ عنه غلامه سوسان الراسي، إذ كان يخفي ابن المعتز في إحدى ضيعاته، ومن ثم قبض عليه ووضع تحت حراسة الوزير وقتئذ علي بن عيسى، لكنه نال العفو ثم أصبح وزيراً بعد السجن الثاني لابن الفرات. بينما أصبح سوسان طواشياً للخليفة ومن أقرب المقربين إليه.
اجواء متوترة
في هذه الأجواء المتوترة جاءت سفارة من قيصر البلغار في الشمال البعيد تحمل خطابات إلى الخليفة والوزير، وتطلب منهما إرسال سفارة دينية لتعليم الناس الإسلام، لأن القيصر يريد الدخول في دين الإسلام كي يواجه قبائل الخزر، التي تحكمها طوائف اليهود، وأن القيصر يريد معونة من الخليفة كي يقيم حصناً يحميه وشعبه من غارات اليهود عليهم. من المؤسف أن هذه السفارة التي استغرقت عامين في الذهاب والعودة انتهت إلى نتائج مؤسفة، فقد وصلت السفارة إلى نصر بن أحمد وخلعت عليه هدايا الخليفة، واستقبلها استقبالاً حافلاً، لكنه رفض أن تتقدم أكثر من ذلك، لأن خلفهم أقواماً غير مؤمنين، كما رفض أن يعطيهم مبلغ الأربعة آلاف دينار، لكنهم حين أصروا أمدهم بكل ما يريدونه من هدايا ومساعدات وتركهم يرحلون إلى بخارى، بالطبع توقف العلماء والشيوخ، وتعدادهم يزيد على الخمسمائة، لأنهم لم ولن يأخذوا أجرهم، ولم يستطع الذهاب سوى ابن فضلان وساسان وتيجين، الذين تحملوا مشقة الثلوج والصقيع والخوف، لكنهم وصلوا إلى خوارزم شاه محمد بن إراك الذي أحسن ضيافتهم ورفض استكمال مسيرتهم، لكنهم حين أصروا تركهم يخرجون إلى بلد تبعد عن خوارزم خمسين فرسخاً في النهر وتسمى الأردن، وحين وصلوا إلى القائد العسكري الأعلى للترك تإريك بن كاتاجان عرضوا عليه خطاباً من نظير الحرمي يعرض عليه الإسلام، فقال لهم انه سيبلغهم بالإجابة في طريق عودتهم، لكن قادة الترك حين اجتمعوا تشاوروا في قتلهم، ظناً منهم أن المقتدر أرسلهم إلى البلغار كي يشنوا الحرب عليهم، لكنهم بعد تدارس طويل تركوهم حتى لا يثيروا عليهم المقتدر من جانب، أو يفسدوا طريق تجارتهم عبر بلغاريا من جانب آخر، ثم عبروا عدة أنهار وعدة صحراوات وغابات وأراض جمدها الثلج، حتى وصلوا إلى بلاد البشكير التابعة للترك ثم عبروا عدة أنهار وغابات حتى صاروا على مقربة يوم من قصر قيصر البلغار، هذا الذي أرسل رسله في استقبالهم وأعد قصوراً لاستضافتهم، وكان ابن فضلان هو السفير الفعلي والرسمي، ومن ثم أخذ يأمر القيصر بتغيير الآذان على الطريقة الحنفية، أو كما يؤذن في بغداد، وكلما يأمره بأمر يستجيب، حتى غير القيصر اسمه وأصبح محمد بن عبد الله، لكنه في اليوم الثالث سأله عن الأربعة آلاف دينار التي ذكرها خطاب الخليفة، والتي طلبها لبناء الحصن، فلم يجد ابن فضلان غير أن قال انهم تركوها في بغداد خوفاً من اللصوص ومشقة الطريق ومرورهم على أقوام غير مؤمنة، فاتهمهم بالسرقة والنصب، وقال انه لا يصدق غير ابن فضلان، لأنه الوحيد العربي، أما الباقون فمشكوك في أصلهم ودينهم، ثم غير الأذان إلى ما كان عليه، ورغم أنه ظل يدعو للخليفة على منبره غير أن المسلمين حين سمعوا بذلك تقووا وقاموا بهدم معبد يهودي، فقام بهدم منبر مسجدهم، وقال انه إن لم يحم معابد اليهود فلن يحمى مسجد المسلمين، ثم ارتحل إلى أحد قصوره النائية وأمر شعبه بالرحيل خلفه، فأطاعوا ما عدا قبيلة منهم، فأرسل لها أن مولاه الخليفة أوكل اليه هذا الأمر، ومن لن يطيعه سيعمل السيف فيه فأطاعه الجميع، وبقيت السفارة عدة أشهر لديه ثم رحلت في طريق عودتها، وسرعان ما تغير قيصر البلغار وتراجع عن قيام دولة إسلامية بين فكي الخزر والروس، إذ انه شعر بأن خليفة المسلمين لن يمده بشيء، لا المال ولا القوة العسكرية، كما أن قائد جيوش الترك تراجع في إظهار إسلامه، إذ شعر بأن قبائل الترك غير مجتمعة بعد على الإسلام، ومن ثم فلم يدخل الغز الإسلام.
رحلة غرائبية
تعود إشكالية «رحلة ابن فضلان» إلى غرائبيتها من شتى الجهات، فلم نسمع من قبل عن سفارة كهذه، كما أننا لأول مرة نجد نصاً إسلامياً يوقفنا على جزء كبير من العالم، بعضه يخص الإسلام، لكن تفاصيله أكثر عمقاً مما نعرف، وبعضه يخص مساحة كبيرة من القبائل التي تحولت إلى الإسلام في ما بعد، وكنا دائماً نراها مسلمة أو غير مسلمة، لكن لحظة التحول لم تكن مرصودة بشكل واف أو كامل، فقد مرت عشر سنوات وشهد قصر الخلافة سفراء من قيصر البلغار يحملون رداً وهدايا على هدايا الخليفة، كما دخلت في ما بعد قبائل الترك إلى الإسلام، بل وكونت واحدة من كبريات الإمبراطوريات الإسلامية التي سيطرت على ثلث العالم لما يقرب من ثمانمائة عام، أما أمر الخلافة فقد أوضحت التفاصيل بجلاء أنه كان لا بد لحكم وصل إلى هذه الدرجة من الفساد والضعف والعزلة والخنوع أن يزول.
روح روائية
المدهش أيضاً أن هذا كله لم يقله ابن فضلان ، فالنص في حد ذاته أقرب إلى روح الرواية، لكن بعض الأجزاء منها في ما يبدو سقطت عن عمد أو غير عمد، ومن ثم فالنص مفكك في بعض الأجزاء، ومن ثم فقد وضعت مترجمة الكتاب على الغلاف الداخلي عبارة «عن رواية لنص قديم لسلطان شمسي»، ولا نعرف من هو سلطان شمسي، وهل كتب روايته هذه باستلهام من نص ابن فضلان الأصلي، أم هذه الرواية نسخة منه؟ المدهش أن بالكتاب مقدمة لشمسي يحلم فيها أن يقيم البلغار تمثالاً لابن فضلان، لأن فضله عليهم لا يقل عن فضل هيرودوت في التاريخ القديم، عدد من الإشكاليات التي قد تؤدي بنا إلى معرفة العرب فن الرواية، وإن لم يذكروا هذا الاسم على أعمالهم، وما كان عمل سلطان شمسي إلا أن نسخ المخطوط فقط، أو أن شمسي مؤلف هذه الرواية، وكل الأمر مجرد خديعة، لكن الغريب أيضاً أن شمسي وضع مقالة مهمة لكافكا ليفسكي شرح فيها النص والظروف التاريخية التي صاحبت وأحاطت الرحلة كاملة، بل وقام شمسي بالرد عليه بأن البلغار أسلموا، كما قال ابن فضلان، ما عدا جزءاً من قبيلة منهم. ولم يوضح لنا الكتاب عن أي لغة تمت ترجمة النص الكتاب، ولم يشر شمسي ولا كافكا إلى مصدر المخطوط أو المكتبة التي يوجد بها. صبحي موسى
آراء غريبة للويس عوض يناقشها النقاش في كتاب جديد أحمد شوقي شاعر قصور وأم كلثوم مليونيرة... وأشياء أخرى
• أحمد شوقي
بيروت – جهاد فاضل
في كتابه الجديد «لويس عوض في الميزان» يتعرض الناقد المصري الكبير رجاء النقاش لبعض ما ورد في كتاب «أوراق العمر» الذي قدم فيه الدكتور لويس عوض كثيرا من تجاربه الانسانية، وجانبا مهما من آرائه وأفكاره. ومن جملة ما يفنده النقاش في كتابه هذا ما ورد في كتاب لويس عوض عن أمير الشعراء شوقي وعن المطربة الكبيرة أم كلثوم.
ترد في «أوراق العمر» ثلاث اشارات عن شوقي هي التالية وبنصها الحرفي:
- مبدأ المساواة بين الطبقات وتوزيع الثروة دعوة لها سوابق في التاريخ الاسلامي، فهي ليست بالضرورة ماركسية لينينية، وانما خميرتها موجودة في بعض تيارات الفكر الاسلامي، مما جعل شاعرا «ارستقراطيا» مثل شوقي، ومغنية «مليونيرة» مثل أم كلثوم يصوران النبي محمدا عدو البولشفية. يقول شوقي: «الاشتراكيون أنت إمامهم».
- وقد بلغت «سخافة» شوقي انه أنشد في تمجيد انتصار مصطفى كمال:
الله أكبر كم في الفتح من عجب.
يا خالد الترك جدّد خالد العرب.
فحاول احياء رموز الفتوحات الاسلامية في وصف قائد معركة وطنية بحت، اشتهر بعلمانيته المتطرفة، وبانه صاحب الدعوة الطورانية الذي صفى ف كرة الجامعة الاسلامية وادار ظهره للعرب الذين قاتلوا تركيا تحت لواء الانكليز في الجزيرة العربية.
- كنت عند وفاة سعد زغلول قد قرأت القصيدتين «السخيفتين» اللتين نشرهما شوقي والعقاد في رثاء سعد، وقد كان مطلع قصيدة شوقي:
شيّعوا الشمس ومالوا بضحاها
وانحنى الأفق عليها فبكاها
كنتُ يومئذ احسن (والكلام لا يزال لعوض) انها قصيدة رائعة مؤثرة، ولكني بعد ان نضجتُ ادركت انها قصيدة ملفقة مفتعلة قالها شوقي، وهو الذي كان له حضور شعري في جميع المناسبات، حتى لا يقال انه لم يشارك الشعب المصري احزانه القومية، وقد شارك سعد في حفل تنصيب شوقي أميرا للشعراء، بل وتصدر الحفل، وبهذا رفع شوقي درجة أو درجات على حافظ ابراهيم، رغم ان شاعر النيل كان وفديا، بينما كان أمير الشعراء «سرايتلي» أو شاعر البلاط، فقد كان من مخلفات الخديوي عباس حلمي والارستقراطية التركية، وكان في وجدانه وعقليته أقرب الى الحزب الوطني، غريبا في عالم الفلاحين ذوي الجلابيب الزرقاء وعالم الافندية الذي كان يتزعمه سعد زغلول. ويرى لويس عوض ان قصيدة شوقي هذه سخيفة، لانها تعتمد على التشبيه والاستعارة، وتغترف من رصيد البلاغة التقليدية بدلاً من التعبير الذي يحس به الشاعر فعلاً..
يرفض رجاء النقاش تعابير عوض واحكامه عن شوقي: «الارستقراطي»، «السرايتلي» (اي تربية السرايات والقصور)، و«القصيدة الملفقة»، و«السخيفة»، الامر الذي يوحي بأن عوض يتحدث عن «رقة» من رمم التاريخ والادب، لا عن شخصية مثل شخصية احمد شوقي الذي كان في عصره (1868-1932) ملء السمع والبصر، ولم ينطفئ عنه البريق والضوء بعد وفاته، بل لا يزال هذا الشاعر العظيم حتى الآن شخصية ساطعة تدور حولها الدراسات الادبية والفكرية والتاريخية في كل الجامعات العربية.. «اما شعره، فلا يكاد يوجد انسان متعلم في الوطن العربي كله إلا ويحفظ له عدة ابيات من شعره».
وبعد ان يفند النقاش كل عبارة وردت في حديث عوض عن شوقي يقول: «ان شوقي كان اكبر من هذا بكثير. فهو شاعر من اكبر شعراء العربية في كل العصور». ولو عددنا بعد القرآن خمسة مصادر اساسية لتكوين «ثقافة عربية اصيلة، فسوف يكون ديوان شوقي ومسرحياته على رأس هذه المصادر».
المغنية المليونيرة
اما «المغنية المليونيرة» ام كلثوم، فيقول النقاش «انني لا استطيع ابدا ان اتصور وصف ام كلثوم بأنها «مغنية مليونيرة» الا بأنه سخرية بالغة الظلم، بعيدة كل البعد عن الانصاف».
ويضيف رجاء: «ان الالفاظ في اللغة العربية وفي كل لغة اخرى لها معناها المباشر الصريح. ولكن هذه الالفاظ لها ظلال اخرى لا تكون في اللفظ نفسه، ولكننا نشعر على الفور بظلال المعنى عندما نستمع الى اللفظ نفسه.
فعندما نقرأ كلمة «مغنية» فاننا نفهم المعنى، ولكننا نشعر بشيء غير مريح عندما نقول «مغنية مثل ام كلثوم». فكلمة «مغنية» تنطبق حتى على مطربات الدرجتين الثانية والثالثة ممن يقدمن الترفيه والتسلية للسكارى في النوادي الليلية. وهنا يشعر المرء المنصف لتاريخ الفن وتاريخ المجتمع وتاريخ النهضة في بلادنا، بأن شيئاً من الظلم قد اصاب ام كلثوم، وعندما لا نجد من الاوصاف لام كلثوم إلا أن نقول عنها انها «مغنية مليونيرة»، نشعر بأن في هذا الوصف شيئاً اكثر من السخرية. فهو وصف ينطوي على النقمة والغضب والشعور الكامن في النفس بالرفض لهذه الفنانة».
طبعا يشرح رجاء النقاش بعد ذلك اي غبن لحق بسيرة ام كلثوم وبتاريخ الفن والغناء العربي المعاصر على يد لويس عوض (الذي اعتاد قراؤه على مثل هذه الشطحات منه) عندما لا يبقى في نفسه عن ام كلثوم سوى انها «مغنية مليونيرة».
يعقوب اللعين
وعلى هذا النحو يفنّد رجاء احكاماً كثيرة للويس عوض في كتابه «أوراق العمر»، لم يحالفها التوفيق مثل انتصار عوض «للمعلم يعقوب»، وهو «فتوة» قبطي التحق بجيش بونابرت في مصر وأنشأ فرقة عسكرية للتعاون مع الفرنسيين في ضرب المصريين.
والجبرتي، وهو مؤرخ ذو نزعة وطنية، ينعت يعقوب بـ «اللعين»، في حين ان لويس عوض يلحقه بأبطال مصر الخالدين في التاريخ مثل محمد علي وجمال عبدالناصر. ويبني عوض قناعته هذه على موقف مشكوك فيه، مفاده ان «يعقوب اللعين» هذا ترك الفرنسيين وامتطى بارجة حربية بريطانية، وقال قبل أن يموت على ظهر هذه البارجة، انه يريد ان يتحالف مع الإنكليز لتحرير مصر من الفرنسيين ومن العثمانيين أيضاً.. في حين ان سيرة حياته كلها كانت سيرة ملوثة على النحو الذي يفصّله رجاء في كتابه، مستشهداً على ذلك بآراء نخبة من المؤرخين المصريين الثقات.
الكتّاب الزنادقة
ويناقش رجاء النقاش بعد ذلك آراء غريبة للويس عوض لا يدري أحد كيف اقتنع عوض بها، من مثل قوله في كتابه «أوراق العمر»:
«وجدت سلامة موسى صريحاً في اشتراكيته، صريحاً في زندقته. بينما وجدت العقاد زنديقاً يغطي زندقته بمقولاته الفلسفية، فيؤلّه الشعراء ويسوي بين وحيهم ووحي الأنبياء، وجاهر بعدائه للاشتراكية وبدعوته للفردية. كان العمالقة الثلاثة، سلامة موسى والعقاد وطه حسين، زنادقة كل على طريقته الخاصة: كانت زندقة العقاد من منطلق مثالي، وزندقة سلامة موسى من منطلق مادي. أما طه حسين فقد كانت آية زندقته كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي قال فيه صراحة «ان قصة إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة ليست لها حقيقة تاريخية بل هي مناقضة للتاريخ»!
ويحلل رجاء النقاش آراء لويس عوض هذه ويدحضها على ضوء كتابات هؤلاء الإعلام ومواقفهم، ما عدا سلامة موسى الذي تأثر عوض بكتابه «تربية سلامة موسى» في المنهج وطريقة العرض. ويرى رجاء ان في كتاب عوض «أوراق العمر» وكذلك في كتاب سلامة موسى «تربية سلامة موسى» قدراً عالياً من الصراحة والصدق، وهو أمر غير مألوف في كتابات السيرة الذاتية في الأدب العربي.
قراءة حديثة لجان بول سارتر: ..وكأنه الاخير في عصره!
• جان بول سارتر
قد يكون كتاب آني كوهين سولال الصادر في باريس عن «المنشورات الجامعية الفرنسية» بعنوان «جان بول سارتر» هو احدث ما صدر عن الفيلسوف الوجودي الفرنسي الذائع الصيت، ومع ان اسم الباحثة المؤلفة يفيد انها من اصول يهودية، فعلينا الا نستغرب ذلك نظرا للروابط الوثيقة التي كانت تربط سارتر باليهود وباسرائيل بوجه عام، لقد ظل سارتر على الدوام صديقا لليهود لكن المفارقة انه كان نصيرا في الوقت نفسه للجزائر ولكل حركات التحرر الوطنية في العالم، العربية وغير العربية، وهذا ما حاولت الباحثة التركيز عليه في كتابها، واعتبار سارتر ظاهرة فكرية وثقافية شديدة الاهمية، طبعت بطابعها مرحلة ذات شأن في تطور الفكر الانساني المعاصر.
يتضمن كتاب آني كوهين سولال ملامح عامة من السيرة السارترية، فسارتر، كما هو معروف، مفكر وفيلسوف وباحث وروائي ومدرس فلسفة ومناضل في صفوف اليسار، وهو يأتي في مقدمة الفلاسفة المعاصرين الذين شغلوا اكثر من حيز، فاليه يعود الفضل في نشر الوجودية في فرنسا ومنها الى انحاء اخرى من العالم، بعد ان تعرف اليها في فترة الاسر في المانيا، وبعد ان نقل خطوطها ومعالمها الى بلده ليجعل منها ليس فلسفة وحسب بل نمط حياة، وفي السياسة سيكون سارتر، مع قلة التزامه الحزبي، انسانا سريع التقلب، لكنه واضح الخط، بل انه بدأ حياته من خط مغاير، بل شخصي، لم يكتب له النجاح الطويل، لكنه اثر فيه طيلة حياته.
خيوط النشأة الاولى
ومع ان واضعة هذا الكتاب قد تعقبت كل المراحل الاولى، فانها لم تنس ان تبرز خيوط النشأة الاولى بسبب ايمانها بتأثير الطفولة المبكرة في شباب وحياة سارتر، لكن ذلك ليس الاهم، حيث بدأت المؤلفة من الاخير في موقف عصرنا الحالي من سارتر بعد غيابه بسنوات، والموقف هذا يتعدى بلده ليصار الى قياسه في اماكن ومطارح اخرى، تشير المؤلفة الى تنقلات سارتر المتعددة في مراحل مراهقته وشبابه، وتشير الى طريقة فهمه للفلسفة وكيفية تعليمها، كما تشير ايضا الى صداقاته ومعارفه، وتجمع لذلك.شهادات نادرة، متعقبة الاقارب والاهل والجيران والاساتذة الذين صادقوه او ناصبوه العداء، كما تجمع شهادة طلابه وتلامذته، حيث حل معلما، وحيث حاول انزال الفلسفة من علياء الكتب الى عقول الطلاب الذين اعجبوا بطريقة تدريسه.
كيف كان سارتر يعطي دروسه كأستاذ في الفلسفة؟ في سن الخامسة والعشرين اصبح سارتر بالنسبة للجيل الاول من الطلاب في مدينة هافر، المربي الذي لم يكن منتظرا ابدا. كان يدخن الغليو ن، وكان ذلك نادرا. ويلبس سترة من دون ربطة عنق، وكان ذلك غريبا. يدخل بخطى سريعة الى غرفة الصف، وكان يبادر للحديث مباشرة من دون الاستعانة بملاحظات، يداه في جيبيه، يجلس الى المكتب او يتمشى في وسط الصف، كان يتعامل مع طلابه من دون أي قلق حول التراتبية، ويتحدث اليهم حديثه للرجال، وليس حديثا الى صبية.
يتحدث عن القديس اونسيلم، وعن الامراض العقلية عن كانط، وعن بورجوازية هافر، يعودهم على السينما، يناقش معهم لعبتي كرة الطاولة والملاكمة، يتابع حديثه بعد انتهاء الصف في المقهى شتاء، وعلى الشاطئ ربيعا، ويحمسهم على قراءة الروايات والقصص البوليسية الاميركية.
فرنسي نخبوي
«لم اكن احب من كانوا الأوائل في صفهم». هذا ما قاله لاحقا. كنت اهتم بشكل خاص بالذين يملكون افكارا، او أتأمل في الذين لم يكونوا قد تكونوا بعد، بالذين بدأوا في تكوين انفسهم. ان ما نلاحظه هنا هو اهتمام سارتر الدائم بالاشخاص، الذين يعملون على تكوين انفسهم، يبحثون عن ذاتهم، والتواطوء مع المراهقين، كل انواع المراهقة، ومساندته غير المشروطة للذين يقفون على الهامش (هامش المؤسسة، هامش الدولة، هامش السلطة..).
وفي احداث مايو (ايار) 1968، وابان تحليله لازمة الجامعة، عاد سارتر مجددا الى هذه النقطة: «على المدرسين ان يتولوا مهمة تعليم جماهير طلابهم، ما لا يبدو لهم جديرا بادماجهم في النخبة، بل عليهم جر الجمهور بأكمله الى الثقافة، يفترض ذلك بوضوح طرق تعليم اخرى. يفترض ذلك الاهتمام بكل الطلاب، وان نحاول ان نكون مفهومين من قبل الجميع، ويجب ان نسمع منهم أكثر مما يصار الى الكلام معهم».
في الثلاثين من عمره، كان سارتر وريث تقليد فرنسي نخبوي. ولد وتربى بين الكتب، وفي مهد معهد المعلمين العالي الناعم. ثم اصبح مدرسا للفلسفة في ليسيه هافر، مستعيضا بالحفلات الموسيقية عن فشله في النشر وضد اختناق الريف الفرنسي المائل الى الفوضى، وراح ينظر بعين لا مبالية الى الاستعراضات الكبرى التي تقوم بها احزاب اليسار، مستمعا بسخرية الى آمالالشيوعيين الفرنسيين الذين فتنتهم التجربة السوفيتية، انطوت هذه المرحلة من انتاجه على اعمال ادبية، فلسفية، درامية، ومقالات في النقد الادبي والتحقيقات. وقد ضمّنها وصفا يائسا للعالم، ومن وجهة نظر رجل غير ملتزم، هامشي. ثم قدّم نفسه بصورة الرائد السابق لعصره والمصلح، مطلقا ضرباته باتجاه الثقافات الغربية، مطورا مفاهيم اساسية مثل نظرية العرض وسوء النية ونظرة الغير الاسرة.
وبعد ان قام بتغطية ايام التحرير، ذهب الى الولايات المتحدة لمدة خمسة اشهر. الولايات المتحدة هي البلد الذي شغل باله منذ مدة طويلة لانه بلد حامل للحداثة، وهذا ما سيضع سارتر في طور جديد مع عصره. والعمل على الارض الذي اتاح له السفر الى نيويورك وهوليوود وتكساس والمكسيك، قدّم له موضوع بحث عريض وحماسي: الولايات المتحدة الاميركية.
وبين عامي 1952 و1956 دخل سارتر، وعلى مدى اربع سنوات، رفقة درب مع الحزب الشيوعي الفرنسي، وخرج منها متجولا. بدءا من عام 1959 كانت مواقفه السياسية ابان حرب الجزائر قد ادخلته في مسار ضيق، اذا هاجم السلطة الديغولية، رافضا التعذيب، داعيا الى العصيان، دافعا الحكم الى الحافة عبر صراع لا هوادة فيه مع الجنرال ديغول.
عبر مختلف مسيرته، استمرت بعض الاهتمامات من بداية حياته حتى نهايتها. فبعد رحلة التعرف الى نمط البحث والمغامرة، وبعد ضرورة الرحلة، وبعد الشغف بالجديد والحديث، وبعد الاهتمام بثقافة الغير وتصفية الحساب مع فرنسا الاستعمارية او اميركا الامبريالية، كانت عودته الى فرنسا فلوببير القرن التاسع عشر، حيث كتب عن فلوبير الروائي الفرنسي كتابا من اجلّ كتبه، متمنياً بعد ذلك ان يعود اليه مرة اخرى ليفتحه ويضيف اليه.
نموذج.. وممارسة
ترى المؤلفة ان سارتر كان نموذجا وممارسة قبل ان يكون عقيدة او اثراً، وانه يجمع بين فولتير وهيغو وزولا وسقراط في آن واحد، بتواضعه وتجرده. وبعقله الثقافي والامّحاء المطرد للمثقف في وظيفته النقدية الاجتماعية والسياسية، وفي سلطته السحرية، بدا سارتر كأنه الاخير في عصره. «لقد عرف كيف يربط معارف متجزئة انطلاقا من علمه الكلي، كما عرف كيف يخلق شروط الامكانية حتى يستطيع كل بعد اجتماعي التفكير في علاقة السلطة بطريقة نقدية. رغم انه حاول، وهنا يكمن مشروعه، ان يعطي الآخر الوسائل التي تشرّع مشروعه الخاص. فلم يطالب انطلاقا من علمه ومعرفته بأي سلطة، ولا اي رفعة، ولا اي تراتبية. لذلك يجب عدم البحث عن حقيقته في سارتر وحيد، ولا في نص واحد من نصوصه، بل في تتابع ابحاثه الطويلة، الشبيهة بما وصفه مالارميه، اي في الابحاث المتشددة وغير المكتملة ايضا والمفتوحة على القراء، والتي قد تزعج البعض، وقد تكون خلاصية لبعضهم الآخر، بل واكثر من اي وقت مضى انها بوصلة اخلاقية».
تلك هي نماذج من قراءة آني كوهين سولال لسارتر، ولا شك ان هناك قراءات اخرى كثيرة، ومختلفة تماماً، وهذا دليل حيويته المتجددة.
جهاد فاضل
الكتاب: جان بول سارتر
المؤلف: آني كوهين سولال
الناشر: المنشورات الفرنسية ــ باريس
كما رآه محمود محمد شاكر.. وطه حسين هل كان المتنبي «علويا»... أم لقيطا؟!
• المتنبي كما تخيله أحد الفنانين
كتب جهاد فاضل :
حمل عدد «المقتطف» الصادر في يناير 1936 جديدا للدراسات المتعلقة بشعر المتنبي وسيرته. فالعدد بكامله كان عبارة عن دراسة واحدة كتبها اديب وباحث ناشئ يومها، اسمه محمود محمد شاكر، واثارت جدلا واسعا في اوساط المثقفين، ولا تزال الى اليوم تثير مثل هذا الجدل. حملت هذه الدراسة جديدا يتصل بالمنهج، فقد انصب هذا المنهج على ما سماه محمود شاكر «تذوق الكلام» شعرا ونثرا واخبارا تروى، كما حمل هذا المنهج رفضا صريحا قاطعا لاكثر المناهج التي كانت سائدة في تلك الفترة، ثم صارت لها السيادة على ساحة الادب الى يومنا هذا.
في ضوء هذا المنهج توصل محمود محمد شاكر الى نتائج مذهلة تتعلق بسيرة ابي الطيب المتنبي، ابرزها ما يتعلق بنسبه، إذ كانت النظرية السائدة قبل هذه الدراسة، عند الباحثين جميعا تقريبا، هي ان المتنبي ابن سقّاء كان يبيع الماء في الكوفة، وانه بالتالي وضيع النسب، سواء اعيد هذا النسب الى قبيلة كندة اليمنية او الى سواها، ولكن هذا الباحث الشاب، واعتمادا قبل كل شيء على نصوص المتنبي، توصل الى نتيجة لا تزال الى اليوم ترجّ الدراسات المتنبئية وتقلبها رأسا على عقب. تقول نظرية محمود محمد شاكر التي بناها على استقرائه الذاتي لشعر المتنبي، ان المتنبي علوي النسب، وليس ابدا ابن ذاك السقاء الذي افترضه دارسوه.
اما وضع القضية عند شاكر فقد كان كما يلي: تزوج رجل من العلويين، وعلى الارجح كان من كبارهم، بنت جدة المتنبي، فحملت منه ووضعت احمد بن الحسين الذي عرف بالمتنبي لاحقا، ولكن لامر ما أُريد لهذا الرجل العلوي أن يطلّق امرأته ويفارقها، وحمله العلويون على ذلك، ففارقها وطلقها، فرجعت الى امها بجنينها او طفلها، وحزنت حزنا اهلكها، فاستلّها الموت وذهب بها، وبقي الطفل فكفلته جدته وتعهدته وقامت بأمره، حتى بلغ مبلغ الفتيان، ودلته على الطريق بعد ان صرحت له بحقيقة امره، وصحيح نسبته. وكان من حزنها ان حذرت الفتى من عواقب التصريح بأمر نسبه، واخذت عليه المواثيق والعهود بحبها له وحبه لها، وانه ان فعل كان في ذلك هلاكها وهلاكه. فبقي على ذلك متململا حتى كان من امره ما كان من ادعائه العلوية في الشام، فقبض عليه، واضطر الى السكينة والتسليم، وحرص على ان يطيع امر جدته، بعد ان علم حزمها وصواب رأيها، واخلاصها له المشورة، ومحضها له النصيحة.
سر تكتمه
هذا الوضع لقضية المتنبي الذي لم يسبق اليه باحث آخر من قبل، والمبني على استنتاجات توصل اليها شاكر في ضوء منهجه القائم على «تذوق الكلام»، هو الذي يفسر، بنظره، طول تكتم المتنبي على نسبه، واخفائه جهده من اصحاب الألسنة المتنقلة بين الرجال، ويفسر ايضا مخرج قصة «ابيه السقاء»، وحرصهم على حبكها، والتقديم لها بلطيف القول وحسن العبارة. كما يأتي بالدليل البين في امر دخوله كتّاب أشراف العلويين في الكوفة، وتعلمه دروس العلوية. ويبين ايضا عن السبب، الذي من اجله سكت المتنبي عن مدح العلويين وعظمائهم واصحاب الجاه والسلطان منهم، وهو بالكوفة، ثم تأبّيه على مدح ابي القاسم العلوي صاحب الامير ابن طفج حين كان بالرملة. ثم ما كان من ارصاد العلويين له عبيدا لقتله بكفر عاقب.
دلائل شاكر
ومما يؤكد، او يدل على الاقل، صحة نظرية شاكر برأيه هو ان المتنبي، وهو صغير، درس في كتّاب كان يختلف اليه اولاد اشراف الكوفة، او لنقل انه كان كتاباً خاصاً بأولاد هؤلاء الاشراف. ولعل هؤلاء الاشراف ارادوا عن طريق السماح للمتنبي بالدراسة في كتّاب خاص باولادهم، وهم بلا شك كانوا على علم بأمر نسبه، هو ان يُرضوا جدة المتنبي العجوز، وان يخففوا عنها ثقل همومها، وان يخففوا من غضبها عليهم، خشية ان تفاجأهم بما لا يحبون من اظهار ما ارادوا كتمانه واخفاءه.
دخل الفتى الكتّاب ليدرس ويتفوق على اقرانه، وليدخل التاريخ فيما بعد.
النصوص الشعرية التي يستند اليها محمود محمد شاكر لاثبات علوية المتنبي كثيرة. يوردها، يشرحها، ينفذ الى اعماقها، ليثبت ما ذهب اليه:
واني لمن قومٍ كأن نفوسهم
بها انف ان تسكن اللحم والعظما
كذا انا يا دنيا اذا شئت فاذهبي
ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
فلا عبرت بي ساعة لا تعزّني
ولا صحبتني بهجة تقبل الظلما
ومن ذلك قوله بعد وفاة جدته، وعودته الى الشام:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
كأنهم من طول ما التثموا مُرْدُ
فقوله (حقي) لا يقع هذا الموقع من شعر الا من احد رجلين: رجل دعيّ طويل الباع واللسان في الادعاء والكذب، او رجل صادق لا يكذب على نفسه ولا على الناس، وليس المتنبي بأولهما.
اذن فقد كان له حق يطلبه بالحرب، وهو الذي سمّاه «حظاً» في رثاء جدته، وانما خفف «الحق» في الرثاء، وجعله «خطأ».
ومثل هذا قوله لكافور:
فارم بي حيث شئت مني فاني
أسدُ القلب آدميُّ الرواء.
وفؤادي من الملوك وان كان
لساني يُرى من الشعراء
فلا عجب بعد ذلك في فخر المتنبي وتعاليه وتعاظمه. فكلٌّ مفسرٌ بّيٌن واضحُ العلّة والمعنى على هذا الاصل. وكان عجبا عند الناس ان تبلغ الحماقة بابن سقّاء، ان يفخر مثل هذا الفخر، ويتعاظم على الملوك مثل هذا التعاظم.
حجج كثيرة تتصل بنسب المتنبي يسوقها محمود محمد شاكر في كتابه عنه، رددها كثيرون فيما بعد منهم عبدالغني الملاّح في كتابه «المتنبي يستردّ اباه»، ومنهم الشاعر البحريني ابراهيم العريض في كتاب له عن المتنبي.
وربما اضاف هؤلاء الباحثون اسبابا جديدة الى ما ذكره محمود شاكر. ولكن الفضل يرجع الى هذا الاخير لانه اول من نحا هذا المنحى في الدراسات العربية الحديثة عن المتنبي، وعنه اخذ معاصروه او من اتى بعده.
علوية الشاعر
على ان هذه النظرية حول علوية المتنبي، وان تبنّاها كثيرون، واضاف اليها آخرون، فقد واجهت صعوبات كثيرة على يد باحثين آخرين في طليعتهم الدكتور طه حسين الذي كان يُلقَّب بعميد الادب العربي. انكر طه هذه النظرية وسفّهها، وخرج في كتابه عن المتنبي بنظرية متطرفة شديدة التطرف موجزها ان المتنبي «لقيط». قال طه حسين انه يشكّ في نسب المتنبي. وقد بنى شكّه على وقائع واسباب كثيرة يوردها في كتابه منها: «ان المتنبي كان لا يعرف اباه: كان ولدا بين رجل وامرأة لا يعرفهما، او لا يعرف احدهما على الاقل، او كان منبوذا لغير رشدة، او كان لقيطا».
ويضيف طه حسين: «ومن حقك ان تسألني لماذا أُطيل الحديث عن نسب المتنبي، واظهر الشك في معرفته لأبيه وأمة، فاعلم يا سيدي انما اثرتها لأنتهي منها الى حقيقة يظهر انها لا تقبل الشك، وهي ان المتنبي لم يكن يستطيع ان يفاخر بأسرته، ولا ان يجهر بذكر أمه وأبيه. التمس لذلك ما شئت من علة، فهذا لا يعنيني، وانما الذي يعنيني، ويجب ان يعنيك، ان شعور المتنبي الصبي بهذه الضعة، او بهذا الضعف من ناحية اسرته واهله الادنين، كان العنصر الاول الذي اثر في شخصية المتنبي.
ويقول طه حسين بعد ذلك: «ان مولد المتنبي كان شاذا، وقد ادرك المتنبي هذا الشذوذ وتأثر به في سيرته كلها».
ويبدو ان محمو شاكر التقى بعد ذلك طه حسين في دار «الجمعية الجغرافية المصرية» وخلال اسبوع اقامته الجمعية المذكورة عن المتنبي، كان محمود شاكر في البداية تلميذا لطه حسين في كليه الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهر الآن) ولكن الأيام باعدت بين الاستاذ وتلميذه الى ان كتب هذا الاخير كتابه عن المتنبي. قرأ طه هذا الكتاب، وفي لقائه مع تلميذه في دار «الجمعية الجغرافية المصرية»، قال له: «أنت تذهب الى ان المتنبي علوي النسب.. انا قرأت ذلك.. واوافقك على الشك في النسب، ولكني لا اوافقك على انه علوي، ماذا يا محمود لو قلنا ان المتنبي لقيط؟
ويعلق محمود شاكر على ذلك في كتابه قائلا: «والله خُيّل لي ان الشيطان فاغر فاه بيني وبين هذا الرجل. فرجفت رجفة وعذت بالله ثم قلت له: ان هذا رأي منقوص من وجوه، وهو على اي حال نتيجة للشك في نسب المتنبي، مع التوقف عند مجرد هذا الشك قبل القول انه علوي او جُعفي، او هذا او ذاك». واردت انه انبه بهذه الكلمة الى ان رأيه مسلوخ من كتابي، وذلك انه اخذ الشك في النسب مني، وعجز عن ان يقول شيئا في نسب جديد يلصقه به.
أبرز المعارك الفكرية
تشكل هذه المعركة الفكرية بين محمود شاكر وطه حسين حول نسب المتنبي احدى ابرز المعارك الفكرية التي دارت في مصر في النصف الاول من القرن العشرين. كانت النظرية التي طلع بها محمود شاكر حول علوية المتنبي نظرية جديدة لم يسبق لباحث قبله ان اقرّها، او حتى ان ارهص بها.
وفي الواقع كانت هذه النظرية نتيجة معاناة شديدة للباحث مع شعر المتنبي بالدرجة الاولى، قبل ان يعود ليؤسسها على أسانيد جديدة في سيرة المتنبي وسيرة عصره، واذا كانت هذه النظرية لا تزال الى اليوم نظرية غير معتمدة عند جميع دارسي المتنبي، فانها نظرية لا يمكن تجاهلها عند مناقشة سيرة المتنبي وشعره، وهنا فضل محمود شاكر واثره الكبير الذي يذكره له الباحثون بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله.
كما رآه محمود محمد شاكر.. وطه حسين هل كان المتنبي «علويا»... أم لقيطا؟!
• المتنبي كما تخيله أحد الفنانين
كتب جهاد فاضل :
حمل عدد «المقتطف» الصادر في يناير 1936 جديدا للدراسات المتعلقة بشعر المتنبي وسيرته. فالعدد بكامله كان عبارة عن دراسة واحدة كتبها اديب وباحث ناشئ يومها، اسمه محمود محمد شاكر، واثارت جدلا واسعا في اوساط المثقفين، ولا تزال الى اليوم تثير مثل هذا الجدل. حملت هذه الدراسة جديدا يتصل بالمنهج، فقد انصب هذا المنهج على ما سماه محمود شاكر «تذوق الكلام» شعرا ونثرا واخبارا تروى، كما حمل هذا المنهج رفضا صريحا قاطعا لاكثر المناهج التي كانت سائدة في تلك الفترة، ثم صارت لها السيادة على ساحة الادب الى يومنا هذا.
في ضوء هذا المنهج توصل محمود محمد شاكر الى نتائج مذهلة تتعلق بسيرة ابي الطيب المتنبي، ابرزها ما يتعلق بنسبه، إذ كانت النظرية السائدة قبل هذه الدراسة، عند الباحثين جميعا تقريبا، هي ان المتنبي ابن سقّاء كان يبيع الماء في الكوفة، وانه بالتالي وضيع النسب، سواء اعيد هذا النسب الى قبيلة كندة اليمنية او الى سواها، ولكن هذا الباحث الشاب، واعتمادا قبل كل شيء على نصوص المتنبي، توصل الى نتيجة لا تزال الى اليوم ترجّ الدراسات المتنبئية وتقلبها رأسا على عقب. تقول نظرية محمود محمد شاكر التي بناها على استقرائه الذاتي لشعر المتنبي، ان المتنبي علوي النسب، وليس ابدا ابن ذاك السقاء الذي افترضه دارسوه.
اما وضع القضية عند شاكر فقد كان كما يلي: تزوج رجل من العلويين، وعلى الارجح كان من كبارهم، بنت جدة المتنبي، فحملت منه ووضعت احمد بن الحسين الذي عرف بالمتنبي لاحقا، ولكن لامر ما أُريد لهذا الرجل العلوي أن يطلّق امرأته ويفارقها، وحمله العلويون على ذلك، ففارقها وطلقها، فرجعت الى امها بجنينها او طفلها، وحزنت حزنا اهلكها، فاستلّها الموت وذهب بها، وبقي الطفل فكفلته جدته وتعهدته وقامت بأمره، حتى بلغ مبلغ الفتيان، ودلته على الطريق بعد ان صرحت له بحقيقة امره، وصحيح نسبته. وكان من حزنها ان حذرت الفتى من عواقب التصريح بأمر نسبه، واخذت عليه المواثيق والعهود بحبها له وحبه لها، وانه ان فعل كان في ذلك هلاكها وهلاكه. فبقي على ذلك متململا حتى كان من امره ما كان من ادعائه العلوية في الشام، فقبض عليه، واضطر الى السكينة والتسليم، وحرص على ان يطيع امر جدته، بعد ان علم حزمها وصواب رأيها، واخلاصها له المشورة، ومحضها له النصيحة.
سر تكتمه
هذا الوضع لقضية المتنبي الذي لم يسبق اليه باحث آخر من قبل، والمبني على استنتاجات توصل اليها شاكر في ضوء منهجه القائم على «تذوق الكلام»، هو الذي يفسر، بنظره، طول تكتم المتنبي على نسبه، واخفائه جهده من اصحاب الألسنة المتنقلة بين الرجال، ويفسر ايضا مخرج قصة «ابيه السقاء»، وحرصهم على حبكها، والتقديم لها بلطيف القول وحسن العبارة. كما يأتي بالدليل البين في امر دخوله كتّاب أشراف العلويين في الكوفة، وتعلمه دروس العلوية. ويبين ايضا عن السبب، الذي من اجله سكت المتنبي عن مدح العلويين وعظمائهم واصحاب الجاه والسلطان منهم، وهو بالكوفة، ثم تأبّيه على مدح ابي القاسم العلوي صاحب الامير ابن طفج حين كان بالرملة. ثم ما كان من ارصاد العلويين له عبيدا لقتله بكفر عاقب.
دلائل شاكر
ومما يؤكد، او يدل على الاقل، صحة نظرية شاكر برأيه هو ان المتنبي، وهو صغير، درس في كتّاب كان يختلف اليه اولاد اشراف الكوفة، او لنقل انه كان كتاباً خاصاً بأولاد هؤلاء الاشراف. ولعل هؤلاء الاشراف ارادوا عن طريق السماح للمتنبي بالدراسة في كتّاب خاص باولادهم، وهم بلا شك كانوا على علم بأمر نسبه، هو ان يُرضوا جدة المتنبي العجوز، وان يخففوا عنها ثقل همومها، وان يخففوا من غضبها عليهم، خشية ان تفاجأهم بما لا يحبون من اظهار ما ارادوا كتمانه واخفاءه.
دخل الفتى الكتّاب ليدرس ويتفوق على اقرانه، وليدخل التاريخ فيما بعد.
النصوص الشعرية التي يستند اليها محمود محمد شاكر لاثبات علوية المتنبي كثيرة. يوردها، يشرحها، ينفذ الى اعماقها، ليثبت ما ذهب اليه:
واني لمن قومٍ كأن نفوسهم
بها انف ان تسكن اللحم والعظما
كذا انا يا دنيا اذا شئت فاذهبي
ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
فلا عبرت بي ساعة لا تعزّني
ولا صحبتني بهجة تقبل الظلما
ومن ذلك قوله بعد وفاة جدته، وعودته الى الشام:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
كأنهم من طول ما التثموا مُرْدُ
فقوله (حقي) لا يقع هذا الموقع من شعر الا من احد رجلين: رجل دعيّ طويل الباع واللسان في الادعاء والكذب، او رجل صادق لا يكذب على نفسه ولا على الناس، وليس المتنبي بأولهما.
اذن فقد كان له حق يطلبه بالحرب، وهو الذي سمّاه «حظاً» في رثاء جدته، وانما خفف «الحق» في الرثاء، وجعله «خطأ».
ومثل هذا قوله لكافور:
فارم بي حيث شئت مني فاني
أسدُ القلب آدميُّ الرواء.
وفؤادي من الملوك وان كان
لساني يُرى من الشعراء
فلا عجب بعد ذلك في فخر المتنبي وتعاليه وتعاظمه. فكلٌّ مفسرٌ بّيٌن واضحُ العلّة والمعنى على هذا الاصل. وكان عجبا عند الناس ان تبلغ الحماقة بابن سقّاء، ان يفخر مثل هذا الفخر، ويتعاظم على الملوك مثل هذا التعاظم.
حجج كثيرة تتصل بنسب المتنبي يسوقها محمود محمد شاكر في كتابه عنه، رددها كثيرون فيما بعد منهم عبدالغني الملاّح في كتابه «المتنبي يستردّ اباه»، ومنهم الشاعر البحريني ابراهيم العريض في كتاب له عن المتنبي.
وربما اضاف هؤلاء الباحثون اسبابا جديدة الى ما ذكره محمود شاكر. ولكن الفضل يرجع الى هذا الاخير لانه اول من نحا هذا المنحى في الدراسات العربية الحديثة عن المتنبي، وعنه اخذ معاصروه او من اتى بعده.
علوية الشاعر
على ان هذه النظرية حول علوية المتنبي، وان تبنّاها كثيرون، واضاف اليها آخرون، فقد واجهت صعوبات كثيرة على يد باحثين آخرين في طليعتهم الدكتور طه حسين الذي كان يُلقَّب بعميد الادب العربي. انكر طه هذه النظرية وسفّهها، وخرج في كتابه عن المتنبي بنظرية متطرفة شديدة التطرف موجزها ان المتنبي «لقيط». قال طه حسين انه يشكّ في نسب المتنبي. وقد بنى شكّه على وقائع واسباب كثيرة يوردها في كتابه منها: «ان المتنبي كان لا يعرف اباه: كان ولدا بين رجل وامرأة لا يعرفهما، او لا يعرف احدهما على الاقل، او كان منبوذا لغير رشدة، او كان لقيطا».
ويضيف طه حسين: «ومن حقك ان تسألني لماذا أُطيل الحديث عن نسب المتنبي، واظهر الشك في معرفته لأبيه وأمة، فاعلم يا سيدي انما اثرتها لأنتهي منها الى حقيقة يظهر انها لا تقبل الشك، وهي ان المتنبي لم يكن يستطيع ان يفاخر بأسرته، ولا ان يجهر بذكر أمه وأبيه. التمس لذلك ما شئت من علة، فهذا لا يعنيني، وانما الذي يعنيني، ويجب ان يعنيك، ان شعور المتنبي الصبي بهذه الضعة، او بهذا الضعف من ناحية اسرته واهله الادنين، كان العنصر الاول الذي اثر في شخصية المتنبي.
ويقول طه حسين بعد ذلك: «ان مولد المتنبي كان شاذا، وقد ادرك المتنبي هذا الشذوذ وتأثر به في سيرته كلها».
ويبدو ان محمو شاكر التقى بعد ذلك طه حسين في دار «الجمعية الجغرافية المصرية» وخلال اسبوع اقامته الجمعية المذكورة عن المتنبي، كان محمود شاكر في البداية تلميذا لطه حسين في كليه الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهر الآن) ولكن الأيام باعدت بين الاستاذ وتلميذه الى ان كتب هذا الاخير كتابه عن المتنبي. قرأ طه هذا الكتاب، وفي لقائه مع تلميذه في دار «الجمعية الجغرافية المصرية»، قال له: «أنت تذهب الى ان المتنبي علوي النسب.. انا قرأت ذلك.. واوافقك على الشك في النسب، ولكني لا اوافقك على انه علوي، ماذا يا محمود لو قلنا ان المتنبي لقيط؟
ويعلق محمود شاكر على ذلك في كتابه قائلا: «والله خُيّل لي ان الشيطان فاغر فاه بيني وبين هذا الرجل. فرجفت رجفة وعذت بالله ثم قلت له: ان هذا رأي منقوص من وجوه، وهو على اي حال نتيجة للشك في نسب المتنبي، مع التوقف عند مجرد هذا الشك قبل القول انه علوي او جُعفي، او هذا او ذاك». واردت انه انبه بهذه الكلمة الى ان رأيه مسلوخ من كتابي، وذلك انه اخذ الشك في النسب مني، وعجز عن ان يقول شيئا في نسب جديد يلصقه به.
أبرز المعارك الفكرية
تشكل هذه المعركة الفكرية بين محمود شاكر وطه حسين حول نسب المتنبي احدى ابرز المعارك الفكرية التي دارت في مصر في النصف الاول من القرن العشرين. كانت النظرية التي طلع بها محمود شاكر حول علوية المتنبي نظرية جديدة لم يسبق لباحث قبله ان اقرّها، او حتى ان ارهص بها.
وفي الواقع كانت هذه النظرية نتيجة معاناة شديدة للباحث مع شعر المتنبي بالدرجة الاولى، قبل ان يعود ليؤسسها على أسانيد جديدة في سيرة المتنبي وسيرة عصره، واذا كانت هذه النظرية لا تزال الى اليوم نظرية غير معتمدة عند جميع دارسي المتنبي، فانها نظرية لا يمكن تجاهلها عند مناقشة سيرة المتنبي وشعره، وهنا فضل محمود شاكر واثره الكبير الذي يذكره له الباحثون بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله.
دراسة عن فن الفكاهة في الأدب العربي الذهنية العربية ظلمت الأعراب لأن القرآن وصمهم بالكفر والنفاق!
عرف الأدب العرب طيلة عصوره فن النوادر والملح، كما عرف العرب كثيرا من الظرفاء وأصحاب اللطائف الساخرين، وربما كان جحا وأشعب وغيرهما من أشهر أبطال هذه القصص والمرويات المتواترة في تاريخ الأدب تحت مسمى النوادر، لكن أن تكون النادرة مفتاحا لدراسة اجتماعية وافية عن جماعة بشرية كاملة، فهذا ما سعى إليه الباحث الأكاديمي د. أحمد عبد التواب في كتابه الصادر أخيراً عن سلسلة التراث في الهيئة المصرية للكتاب تحت عنوان «نوادر الأعراب»، وكما هو واضح من العنوان، فإن الباحث اختار لمادته حكايات ومرويات جماعة من البشر عرفوا على مدى التاريخ بارتباطهم بالبادية أو الصحراء، وما بها من ظروف بيئية أصلت بداخلهم ثقافة إنسانية تتسم بالبخل والطمع حد الشره، والمباشرة والوضوح حد الفظاظة أو الجلافة، لكن هذا لا يمنع من أنهم كأي جماعة بشرية أخرى يتمتعون بالحيل والذكاء والفطنة والعلم ببعض الأمور والجهل التام ببعضها والخلط أحياناً بين هذا وذاك، وهذا ما أبرزته النوادر التي جمعها من بطون كتب التراث وفي مقدمتها الأغاني للأصفهاني والأمالي للقالي وجمع الجواهر للقيرواني، والحيوان للجاحظ، وزهر الآداب للقيرواني والعقد الفريد لابن عبد ربه وعيون الأخبار لابن قتيبه وغيرها.
ويأتي الكتاب في أربعمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير على هيئة ثلاثة أبواب الأول رصد فيه حياة الأعراب ومعنى كلمة عرب في قواميس اللغة والفرق بين العرب والأعراب، وبين الأعراب المقيمين والأعراب شبه المقيمين والأعراب الرحل، والخلط التاريخي في مفهوم الأعراب، وكيف كان يطلق هذا المصطلح قبل الإسلام على كل سكان الجزيرة، ثم حدد بعد الإسلام بأهل الوبر في مقابل أهل المدر قاطني القرى والمدن، ثم استثنى منهم رسول الله القائمين على حواف المدينة أو ما شابهها، إذ أنهم اكتسبوا أخلاق المدر وتعاملاتهم، ومن ثم نشأ التقسيم بين الأعراب المقيمين ذوي الحضارة، ثم شبه المقيمين، وهم رعاة الأغنام على هوامش المدن، ثم رعاة الإبل وهؤلاء مرتحلون طيلة العام حسب وجود المرعى، وأظهر الباحث أن هذا التقسيم لا ينطبق على قبيلة بكاملها، فقد يكون بطن منها مستقرا وآخر مرتحلاً وثالث شبه مرتحل، كما رصد من حيث اللغة كلمة ندر التي جاءت منها النادرة وتعني تغير الحال المفاجئ كالجلوس من القيام أو السير فجأة أو العكس، ومعنى الندرة قلة التكرار، ومن ثم فالأمر يحمل معنى الدهشة والمباغتة التي يستحملها العقل، لكن النادرة ليس شرطاً لها أن تأتي من قول لبق أو إجابة سديدة أو فعل عظيم، لأنها من المفارقة غير المتوقعة التي تكمن في القول الحسن، كما في غير الحسن.
أنواع النوادر
وقدم عبد التواب بابه الثاني عن النوادر التي قسمها إلى خلقية ( الجهل، الجفاء، الاعتبار والتذكر ) وسياسية (مواقف الأعراب بالخلفاء والأمراء والشرفاء ) واجتماعية (الطعام، الزواج، البخل والكرم)، وعقلية (الذكاء،حسن التخلص)، وقام الباب الثالث على دراسة أسلوبية لفن النوادر قدم فيه عبدالتواب رصداً تحليلياً لقالب وشكل النادرة وأنواعها، كما رصد طرائق بناء الصورة في النادرة بدءاً من التشبيه، مروراً بالاستعارة والكناية وانتهاءً بالجناس والطباق.
ورغم أن الباحث قدم من خلال دراسته ما يفيد أن النادرة واحدة من الفنون القولية المهمة لدى العرب، إذ توافر لها شرط الانتشار والتعاقب والتطور والاختصاص بظواهر أسلوبية واضحة، كما قدم تحليلاً اجتماعياً مهما لقطاع واسع من طبقات المجتمع العربي، هذا التحليل الذي يمكننا أن ندخله ضمن إطار الدراسات الاجتماعية عما يسمى بثقافة الفقر، غير أنه على رغم أهمية هاتين الإضافتين أخذ انحيازاً مسبقاً من الطبقة الاجتماعية التي يقوم بدراستها، ربما لأنه اتخذ وجهة نظر الرواة في كتب التراث، هذه التي قد يكون بها بعض المبالغة الفنية في كثير من الأحيان.
أشد كفرا..
ولعل انتشار النوادر عن جهل الأعراب وحماقتهم وعدم معرفتهم بالدين وآداب اللياقة مع الملوك أو احترام الذوق العام يرجع إلى أن القرآن قال عنهم «الأعراب أشد كفراً ونفاقاً»، فقد أصبحت الذهنية العربية مؤهلة لسماع ما هو غريب ونادر عن هؤلاء الذين لا خلاق لهم، ولعبت المفارقة الفنية لدى الرواة دورها في تعميق الفكرة الدينية المسبقة عنهم، كما أن الرواة في أغلبهم كانوا من أهل الحضر لا البداوة، وهؤلاء ليس من عنايتهم البحث في أسباب الظاهرة وانتشارها بقدر عنايتهم بالتأكيد على الفارق الحضاري بين أهل المدن وأهل البادية بما لديهم من سلوك غير متمدن، ومن ثم فقد وقع الباحث في التناقض آن تحليله للعقلية الأعرابية من خلال ما تواتر عنهم من نوادر في كتب الأدب، فوجدناه يفسر النادرة في موضع على أنها حمق وجهل وجفوة وعدم معرفة بالدين ثم يفسرها في موضع آخر على أنها ذكاء وكياسة وحسن خروج من الموقف من ذلك ما قاله الأعرابي حين أصاب الجدب بلاده فأنشأ يقول «رب العباد ما لنا ومالك، قد كنت تسقينا فما بدالك، أنزل علينا الغيث لا أبالك» فحين سمع سليمان ابن عبد الملك ذلك لم يجد سوى أن يخرج الأعرابي من المأزق قائلاً «أشهد أنه لا أبا له، ولا ولد ولا صاحبة، وأشهد أن الخلق جميعاً عباده» ولعل سليمان لم يخرج الرجل من مأزق الجهل أو الاتهام بالزندقة، ولكنه كان أفهم إلى طبيعة الرجل وما به من سذاجة وما لديه من إيمان العوام، ولو كان هذا الأمر منسحب على عامة الأعراب، ما وجدنا النادرة التي تقول إن أعرابياً سطا عليه بعض اللصوص، فذهب شاكياً إلى الخليفة، لكن الحجاب والأعوان رفضوا دخوله عليه، وسألوه من أنت كي ندخلك عليه فقال لهم أنا رجل لي ما ليس لله، وعندي ما ليس عند الله، وأهرب من رحمة الله، وأحب الفتن وأبغض الحق وأشهد بما لا أرى. فدخل الأعوان فأخبروا الخليفة بزندقته، فتعجب وقال ائتوني بهذا الغمر كي أسمع كفره من فمه وأعاقبه، فأتوا به فسأله أأنت القائل ان لك ما ليس لله، ولله ما في السماوات والأرض فكيف تدعي ذلك يا جاهل؟ فقال الأعرابي نعم أنا قائل ذلك، فأنا لي زوجة وبنين، وليس لله شيء مــن ذلك، فقال الخليفة أنت القائل ان عندك ما ليس عند الله؟ فقال نعم عندي الكذب والخديعة وما عند الله شيء من هذا، فقال الخليفة أأنت القائل أنك تهرب من رحمة الله؟ فقال نعم أهرب من المطر وهو من مراحم الله، فقال الخليفة وكيف تحب الفتنة يا شقي؟ قال الأعرابي المال والبنون وهما أشد فتنة، قال الخليفة وأنت تبغض الحق؟ قال نعم أبغض الموت وهو حق على كل حي، فسأله الخليفة وأنت القائل انك تشهد بما لا ترى؟ قال نعم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم أر أحداً منهما. فسر به الخليفة وحصَّل له ما سلبه اللصوص وقربه إليه. فهذه النادرة تبرز فهم الأعراب ولباقتهم وحيلهم وبساطة تعاملهم المادي مع الأشياء، لكن الذائقة العربية أبت أن تتعامل مع الأعراب إلا على أنهم في درجة أقل من السلم الحضاري، وذوي طباع تستحق التندر بها، خاصة في مسألتي الدين والطعام.
نوادر الأعرب
وقد ساق الباحث في كتابه العديد من النوادر عن الأعراب الذين رفضوا طعام الملوك، والأعراب الذين أظهروا كرماً فائقاً حين نزل الملوك عليهم، حتى انه قال ان الأعراب يحبون أن يكرموا الأمراء كما يكرمونهم، ولعل الكرم في الطعام يعود إلى طبائع الحياة في الصحراء والتحايل على قسوتها، ومن ثم فالأعراب يبكرون بالغداء حتى إذا نزلوا على غيرهم لم يتعجلوا الطعام، وإذا أكلوا لا يكبهم الجوع على وجوههم، أما أن يكون هناك استثناء لغير هذه العادات، فذلك من طبائع الأمور، والنادرة لا تهتم إلا بكل ما هو شاذ ومختلف ومفارق، أما عدم التزامهم بالسلوك المعتاد لدى المدنيين، فذلك لأنهم أبناء بيئة ومكان مختلفين، ولعل أبرز هذه الاختلافات مسألة التعلم والارتباط بالدين، وهذه ظهرت بجلاء في نوادر الأعراب، ربما لأن أغلبهم أميون، وأسلموا بالسماع وليس على أيدي فقهاء، ولم يختلفوا إلى حلقات علم أو مجالس علماء، ولكن أخذهم الترحال خلف الرعي من مكان لآخر، ومن ثم كان إيمانهم إيمانا قلبيا لا حرفيا، وكثيراً ما اختلطت لديهم الحكمة بالقرآن والآحاديث النبوية، ربما لأن كلا منهما يحض على الخير ومنفعة الناس، كما أن الإسلام لم يلزم كل مسلم بحفظ القرآن كاملاً، لكن لأن هذا مناط ضعف واضح في حياة الأعراب، فقد كثرت النوادر عن ذلك، حتى ان الكثير منها يمكننا الشك أن يكون من باب الزيادة عليهم، لأن أخبارهم في هذا الشأن يتوقف المدنيون إلى سماعها والأمراء إلى معرفتها، فلا يمكننا أن نصدق أن مسلماً عاقلاً يبتدئ وضوءه بغسل الكفين والوجه ثم يستنجي، وحين يسأل عن ذلك فيقول انه ليس من المعقول أن يبدأ بالخبيثة ثم الكريمة، وسبب آخر يمكننا أن نلحظه في نسبة أغلب هذه النوادر وما بها من حمق إلى الأعراب، وهو السبب نفسه الذي عن طريقه نسب الكثير منها إلى جحا وأشعب وأبي الشمقمق وغيرهم من مشاهير أصحاب النوادر، وهو الاتفاق المسبق أو اليقين المسبق بإمكانية أن يفعل الأعراب أو جحا مثل هذا الفعل، ولدى أغلب الشعوب جماعات بشرية تنسب إلى نوادر الحمق لا لشيء سوى أنها أقل في السلم الحضاري، وعادة ما يكون بينها وبين آخرين نوع من المنافسة أو الصراع، ومن ثم فمتلقي النادرة في حالة نفسية مؤهلة مسبقاً بتلقي الطرفة الساخرة، قد أبرز الباحث جانبا من هذه العوامل المساعدة على وجود النوادر، خاصة في الفصل المعني بنوادر الأعراب مع الخلفاء والأمراء، وأوضح أن بعض النوادر ـ وكان فيها الأعرابي أكثر كياسة وذكاء من الخليفة ـ وضعت في زمن العباسيين للنيل من الأمويين.
دراسة جادة
ويمكننا القول في النهاية ان هذه واحدة من الدراسات الجادة التي جمعت بين الأدب والعلوم الاجتماعية، وأن الباحث يمكنه أن يتعرض لمجتمعاتنا الراهنة، فيدرس ما لديها من طرف ونوادر، وربما يستطيع بمنهجيته البحثية بين الأدب وعلم الاجتماع أن يصل إلى نتائج مهمة تتفهم نفسية وتفكير الجماعة العربية، خاصة أن الأدب الشفاهي أكثر تعبيراً ومعرفة عن الجماعة البشرية من الأدب الرسمي أو المكتوب.
صبحي موسى
بـرزت فــي النصـف الثــاني من القـرن العشريـن انحرافات فنية في القصيدة العربية سببها تحولات الشكل
• لوحة للفنان وليد الآغا
القاهرة – صبحي موسى
لم يتوقف تطور النص الشعري على انزياح الشكل لمصلحة طرح جديد، فقد صاحب هذا الانزياح الشكلي تطورا في الادوات والرؤى والوظائف الشعرية، ومن ثم شهدت القصيدة العربية عددا من التحولات الكبرى في النصف الثاني من القرن العشرين، هذه التحولات التي قام على دراستها وابراز جوانبها الفنية د. صلاح فاروق في كتابه الصادر اخيرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية تحت عنوان «تحولات القصيدة العربية» الذي قسمه الى اربعة فصول وخاتمة. حمل الفصل الاول عنوان «الشكل الشعري وتحولاته»، والفصل الثاني «نماذج الوعي والتشكيل الفني»، والثالث «المركب النحوي»، والرابع «المركب المجازي»، بينما جاء الكتاب ككل في اربعمائة صفحة من القطع المتوسط. وذهب فاروق الى ان القصيدة العربية الحديثة مرت بعدد من التحولات من حيث الشكل، كان اولها مدرسة الاحياء التي اعادت النص الشعري الى ما كان عليه من قوة شعرية في عصور ازدهاره، وصحبت ذلك فنيا العودة الى تقاليد الكتابة الشعرية في العصور الجاهلية والاموية والعباسية، فظهرت وحدة البيت والمعارضات، وسلامة الوزن، وسرعان ما حدثت تطورات فنية داخل النص الاحيائي او ما يسمى بالعمودي، هذه التطورات التي ظهرت في مدرسة الديوان، والمدرسة الرومنسية، ومدرسة شعراء المهجر، لكن النص ظل من حيث الشكل واحدا، مما ادى في نهاية الصراع بين الشكل والتطور الفني الى ظهور نص جديد ثائر على الشكل التقليدي، وهو النص التفعيلي، الذي ظل منتميا الى فكر المدرسة الرومنسية في مرحلة الخمسينات والستينات، ولم يلبث ان افرز الشكل الجديد انزياحاته الفنية المغايرة للنص التقليدي.
ثورة السبعينيين
وتجلت اعلى الانزياحات في شعر السبعينات. ثم جاءت قصيدة النثر بثورتها الكبرى على الشكل والوزن القديم مقدمة طروحاتها المغايرة والاكثر تلاؤما مع منطقها الحضاري.
وذهب فاروق الى ان كل شكل طرح موضوعات اكثر تناسبا مع رؤيته الشعرية، تلك التي تتسق مع الاطار / الشكل الفني الذي ارتضاه، فالمدرسة الرومنسية طرحت المرأة كمعادل موضوعي ورمزي للتعبير عن رؤاهم الوجدانية حول انفسهم والعالم، فيما طرحت قصيدة التفعيلة في الخمسينات والستينات المدينة معادلا للتعبير عن حالة التغير الفني الذي يعيشونه في النص الجديد، فشكلت اليهم الدهشة والمفارقة والاغتراب، بينما طرح السبعينيون موضوعات الثورة والتصوف كمعادل مغاير لما يعيشونه من تغير اجتماعي واقتصادي وفكري ونصي، ولذا هيمنت اللغة وامكانيات تفجيرها الى اقصى مدى في قصائدهم.
التوازن التركيبي للجملة
وقدم فاروق دراسة فنية مهمة لتطور العلاقات النحوية في النص الشعري عبر تحولاته، محددا عددا من المستويات منها اعتماد رواد التفعيلة على بناء القصيدة على الازدواج، وتكرار البنى الجزئية نحويا وتصويرا ودلاليا، وهو ما اسماه بالتوازن التركيبي في بناء الجملة، والحرص على التنويع في الخطاب اللغوي، سواء على هيئة حوار او اقتباس واضح بين اقواس، أو تناص مع نص معروف.
ويرى فاروق ان هذا انحراف عن فكر واداء النص التقليدي، كما انه استتبع عددا من الادوات المغايرة والجديدة على النص الشعري ــ كالأقواس ــ والمتوافقة مع الشكل الجديد وهو الاسطر. كما ذهب الى ان المركب الانشائي ــ حسبما اسماه ــ كان واحدا من العناصر التي بدا عليها الانحراف الفني، فرغم وجوده في النصين القديم والجديد غير انه في التقليدي كان حضوره كأسلوب طويل ومفرط واستهلالي للنص، لكن حضوره في التفعيلي لدى عبدالصبور وغيره اصبح ركنا اساسيا في حركة المعنى للنص ككل، ومن ثم فحين يقول عبدالصبور «اقول لكم» فهو لا يقدم انشاءً يطالب بالتعاطف، ولكن قيمة فنية بنى عليها رؤيته الفنية في النص، وذهب فاروق الى ان واحدة من الانحرافات المهمة حدثت في الجملة الشعرية، وهو ما اسماه بسط مكونات الجملة وسردية العالم، حيث عمد شعراء النثر الى ابتداع نموذج فني يحتفل بالتفاصيل، مما ابرز القيمة الشعرية للاحداث الهامشية.
حركة المعنى في النص
وفي الفصل الذي خصصه للمركب المجازي رصد الناقد ما اسماه بمثالية الواقع والانحراف البلاغي للاسناد، موضحا ان اختيار الكلمة او المفردة خضع في شعر التفعيلة الى مدى قدرتها على تمثيل عناصر الصورة الذهنية في اطار علاقتها بالصورة الكلية، وان توافق الالفاظ لم يعد مرجعه الوزن بقدر ما يعود الى التناسب الصوتي، وبين ما يؤسس له الشاعر من صلة رمزية بين دلالة الالفاظ ودلالة الصورة الكلية، كما ذهب الى ان التحول من العمود الى التفعيلة ادى الى تحرر السطر الشعري من الارتباط بوحدة البيت الى اتصال الاسطر ايقاعيا، مما ادى الى خفوت الموسيقى الداخلية والاقرار بأن الايقاع اوسع من حصره في التفعيلة، ومن ثم فقد اكثر الرواد من الزحافات والعلل، متحررين من سطوة قواعد البحور الشعرية بما يتناسب مع حركة المعنى في النص. وقال فاروق في كتابه ان دراسته للمركب النحوي لدى السبعينات، اوضحت نموذجين للتركيب احدهما يميل الى الحذف، فتنخفض فيه عناصر التصوير الفني التقليدية، والثاني ينحو الى بسط عناصر المركب النحوي، مما يزيد من كثافة التصوير بادواته التقليدية، وهذا يستتبع الميل الى اضافة عناصر سردية بآليات تصوير مغايرة للمؤلف في النموذج التقليدي.
انزياحات فنية
وتعد هذه الدراسة «تحولات الشعرية العربية» واحدة من اكثر الدراسات التي تناولت النص الشعري العربي عبر الخمسين عاما الماضية بشكل فني، فلم تتوقف عند الرصد العرضي من العمودي الى التفعيلي الى النثر، ولكن اثر هذه التحولات على الانزياحات الفنية داخل النصوص الشعرية، لكن هذه الدراسة ورغم اهميتها الشديدة يكتنفها بعض الصعوبات التي فرضتها المنهجية الاكاديمية في العمل، فبدلا من ان يسترسل الناقد في شرح فكرته، كان عليه التوقف لتحليل النماذج التي اختارها، ومن ثم يفقد القارئ القدرة على متابعة الفكرة التي يعمل عليها، لكن هذا لا يمنع من اننا امام واحد من النقاد الاكثر جدية في جيل النقاد المصريين الجدد.
قصة مدينة مختفية البطالمة «تألهوا» وشيدوا «الجنة» فانعزلوا عن مصر!
ليست الاسكندرية اقدم مدن العالم، لكنها قد تكون اكثر المدن التي شهدت عددا من الحضارات المهمة في تاريخ البشرية، بدءا من الفرعونية، مرورا باليونانية والرومانية والاسلامية ذات العصور والسمات المختلفة، وانتهاء بالمصرية الحديثة، من ثم فقد ذهب عالم الآثار الفرنسي جان ايف امبرور الى عنونة كتابه الهام عنها بـ «الاسكندرية ملكة الحضارات»، ذلك الكتاب الذي الفه هو وعدد من باحثي الآثار الفرنسيين.
ويرصد امبرور ورفاقه الاثريون ما يمكن ان نسميه قصة مدينة تحت سطح الارض، فهم لا يرصدون التاريخ والنشأة وعوامل الازدهار والنمو ولكنهم يوضحون بالخرائط وما تواتر عن المؤرخين والباحثين القدامى وما توصل اليه علماء الآثار في العصر الحديث شكل المدينة وما كانت عليه وكيفية الحياة فيها، وما توصل اليه البحث الاثري من طرق ومنشآت وقنوات وشبكات مياه، جاء ذلك في ستة فصول تناولت نهاية الدولة الفرعونية ودخول الاسكندر مصر وتخطيطه بنفسه لمدينته، ثم العصر البطلمي تاريخياً، ثم الثقافة والفن في الاسكندرية البطلمية، ثم الحياة الدينية بها، وهي مادة تاريخية تضعنا امام العديد من الاسئلة.
وتبرز اهمية الثقافة في تاريخ البشر، فرغم الضعف السياسي الذي دب في الدولة الفرعونية عقب انتهاء حكم الرعامسة، وتعاقب العديد من الاسر سواء الليبية او الفارسية او المصرية على الحكم طيلة ما يزيد على سبعمائة عام، غير ان ما كانت عليه مصر من قوة ثقافية تغلبت على شتى اشكال الاحتلال، بل انها جعلت اقصى طموح المحتل ان يعمده كهنتها فرعوناً، فيضع على رأسه التاج المزدوج ويسمي نفسه ملك مصر العليا والسفلى، متناسياً انه ابن لمكان مختلف وحضارة مختلفة كالحضارة الفارسية او اليونانية، ومن ثم فقد حرص الاسكندر كغيره من الغزاة ان يضع هذا التاج على رأسه، وان يعمده كهنة آمون فرعوناً، وان يغير بعض الاثار على المعابد ليكون فرعون مصر العليا والسفلى، لكن الاسكندر كان ذا مأزق مختلف عن سابقيه، فهو ابن ثقافة تقارب الثقافة المصرية لكنه ليس ابن شرعياً لها، فهو مقدوني وليس يونانيا، وكان اليونان ينظرون الى المقدونيين على انهم اقل منهم في السلم الحضاري، ومن ثم فقد كان حلم الاسكندر التخلص من هذه الثنائية، ولذا فبعدما حقق اول انتصار له على الامبراطورية الفارسية في اسوس اقام حفل زواج جماعياً، تزوج فيه هو وسبعمائة قائد في جيشه من سيدات شرقيات، في محاولة للمزج بين الدم اليوناني والدم الشرقي، ويبدو ان هذا كان اول حجر في بناء ما اسمي في التاريخ بالثقافة الهيلينية. ورغم ان الامر تغير قليلاً مع خلفائه عن هذا الانفتاح والتمازج، غير انه ظل العنصر المكون لفكرة البطالمة في مصر، فمن حيث الاختلاف ذهب البطالمة الى جعل الجيل الثاني منهم عنصراً مختلفاً في ذاته، فقاموا بالتزاوج من داخل الاسرة الا في حالات نادرة بسبب الظروف السياسية والحاجة الى آخرين او مهادنة خصم ما، اما من حيث الاتفاق مع الاسكندر فلقد ذهبوا جميعاً الى الجمع بين الثقافتين اليونانية والمصرية، حتى انهم حملوا التاج المزدوج وتسموا بالفرعون وتزاوجوا على غرار الاسطورة المصرية في بدء الخلق، حيث تزوج اوزوريس من اخته ايزيس، كما ان محاولتهم للجمع بين الثقافتين انتجت إلهاً يجمع بين معالم اله المعابد المصرية وآلهة الاوليمب اليوناني، وكان العجل آبيس وزيوس هما هذا المزيج الذي تسمى سيرابيس، وجاءت هذه الديانة من ان المصريين كانوا يعلون في نهاية العصر الفرعوني من قيمة العجل آبيس رمز تحوت واوزيريس اله المعرفة والعلم والخصب، وكان في كل معبد لتحوت سرداب توضع فيه رفات العجل ابيس بعد ان يموت، ومن ثم فحين نقل بطليموس الاول مركز حكمه الى الاسكندرية بنى معبدا ذا سرداب طويل ورواق من الاعمدة اسماه معبد سيرابيس او آبيس واوزوريس، وعمل خلفاؤه على التقرب من جانب الى الشعب المصري فاعلوا من شأن آبيس، ومن جانب آخر على الاحتفاء بثقافتهم اليونانية فاضفوا عليه ملامح زيوس، واصبح معبد السيرابيس اهم المعابد البطلمية، رغم ان الاسكندر حين اختط مدينته حدد عددا من المعابد اليونانية التي تبنى، ولم يحدد سوى معبد مصري واحد كان للإلهة الام ايزيس، لكن الصراع الثقافي بين ندين احدهما منتصر والآخر منهزم لم يترك امام البطالمة، فيما يبدو غير هذا المزج، ويمكننا القول ان الهيمنة الثقافية المصرية هي التي سادت حيث تسمى المحتل باسم الفرعون، وحرص ان يكون اسمه على المعبد ملك مصر العليا والسفلى، وان يخالف تقاليد الاديان كلها، فيتزوج من اخته تحت دعوى انهم آلهة من سلالة ايزيس واوزيريس، فكان الملك يتزوج من اخته وامه وابنته وغيرهن من اشكال المحارم، ويبدو ان هذه العادة اثارت عليهم غضب المصريين الذي تجسد في ثورات متتالية.
سطوة ثقافية
ويبدو ان السطوة الثقافية للحضارة المصرية لم تهيمن على البطالمة وحدهم، ولكن على الامبراطورية الرومانية الناشئة ايضا، فقيصر لم يفكر في غزو مصر رغم ما بدا عليها من ضعف و انقسام جعل حكامها – كليوباترا السابعة – يستنجدون به، فحين عاقب البطالمة بحرق مدينتهم عام 47 قبل الميلاد، لم يكن ذلك الا لحماقة بطليموس الثاني عشر (شقيق كليوباترا)، فقد كان قيصر قد انتصر على غريمه بومبي الذي لجأ الى شواطئ فلسطين طالبا لجوءا الى مصر، ففكر بطليموس في قبول طلبه لكن خشي ان يثير ذلك غضب قيصر ففكر في رفضه ولكن خشي أن تدور الدوائر وينتصر بومبي ذات يوم، ومن ثم قرر قتله بمجرد نزوله إلى الشاطئ، فرأى قيصر أن فعلاً كهذا لا يليق أن يحدث لخصم شريف وند قوي كبومبي، ولذا خرج في حملة بحرية على مصر، وتصادف أن كليوباترا التي خرجت هرباً من أخيها – بطليموس 12 – إلى فلسطين كانت قد أعدت جيشاً وجاءت تنازعه الملك هي وأخوها الثالث عشر، فما كان من قيصر إلا أن نفى الثاني عشر، وزوج كليوباترا الثالث عشر، وسرعان ما تخلصت منه بمعاونة قيصر الذي اصطحبهما في رحلة إلى أسوان، ثم اصطحبها في رحلة إلى روما، وفي طريق العودة قتل قيصر ودعاها مارك أنطونيو إلى رحلة معه، وكان قائداً قوياً يتمتع بنفوذ وشعبية كبيرة على نقيض غريمه أوكتافيوس – ابن شقيق قيصر – وأخذته الثقافة المصرية، فرأى أنه أوزيريس وأن كليوباترا وابنها قيصرون إيزيس وحوريس، وهكذا كونا الثالوث المصري، وراح يحضر الاحتفالات المصرية على أنه الفرعون غير المتوج، وزاد في الأمر فقال انه سيقسم العالم الشرقي على ابنيه وكليوباترا وبطليموس الخامس عشر (قيصرون)، وكان هذا الإعلان أسوأ دعاية له في روما، فقد تناقصت شعبيته بشكل كبير، وما لبث ان هزم أسطوله في معركة أكتيوم، بعدما انسحب الأسطول المصري، وسلم جيشه – أنطونيو – نفسه لقيصر، فانتحر، ودخل قيصر الإسكندرية، ولم يكن في رغبته القضاء على كليوباترا لكنها انتحرت، فسلم السلطة لقيصرون لكن أعوانه زينوا له القضاء عليه ففعل. وهكذا أصبحت الإسكندرية عاصمة إقليمية لروما، وصارت لأول مرة قراراتها نابعة من عاصمة أخرى لا يفصل سوى البحر بينهما.
النخبة المصرية في الظل
لكن ذلك لا يعني حسبما قال أمبرور إن المصريين كانوا مرحبين بأي من الحضارات التي دخلت على حياتهم، فقد شهدت مصر الغزو الفارسي والنوبي والليبي واليوناني والروماني، وكانت الثورات أبرز معالم هذه الفترات التاريخية، وما لم تفعله الثورة فعلته الثقافة، فقد حولتهم جميعاً إلى حكام مصريين، لكن الملاحظة المهمة ان النخبة المصرية كانت دائماً في ظل كل من يحكم، وكان تعامل هؤلاء الوافدين مع هذه النخبة، في حين ان عامة المصريين كانوا رافضين لأي منهم. وقد سجلت الآثار المتناثرة في ربوع مصر سخرية المصريين من حكامهم الاجانب، ورفضوا ان يكون فرعونهم اجنبيا، كما رفضوا الانصياع للنخبة الحاكمة باسمه، ومن ثم كان التشدد والعسف والظلم البطلمي على اشده، حتى ان بطليموس الرابع جند جيشه كله لقمع ثورة كادت تنهي حكم البطالمة، كما ان هذا الجيش كان من المرتزقة اليونان، وكانوا يده في جمع الضرائب بشكل متعسف. ولم تكن حال مصر اقتصاديا كما يصور الخيال الادبي عن الحكم البطلمي رغم ما كانت عليه الاسكندرية من ازدهار ونشاط اقتصادي، وربما تعود هذه الخديعة الى ازدهار النشاط الثقافي، سواء عبر مكتبة الاسكندرية، التي بناها بطليموس الاول او عبر المعابد التي اقيمت على مقربة من قصر الحاكم، او مجموعة القصور التي اقيمت على الجانب الآخر من القصر، وهي تزيد في عددها على ثلاثمائة قصر سكنها قادة الجند والتجار واليونانيون الذين جاءوا مع الاسكندر، وتعد الاسكندرية ومنف رمزي هذا الازدهار لان منف كانت السلطة الدينية التي لا بد من شراء كهنتها بأي ثمن، اما الاسكندرية فكانت محل الاولمبيات التي تقام كل اربع سنوات، وكانت العاصمة التجارية التي اقيم ــ لأجل السفن الوافدة ــ عليها فنار فاروس الذي مثل احد اعاجيب الدنيا السبع، والذي عاند اكثر من ثلاثمائة وثمانين زلزالا، والذي اقيم على صخرة مربعة، فارتفع عن الارض مائة واربعين مترا على هيئة ثلاثة طوابق، محتويا على ثلاثمائة غرفة كان يخزن بها الوقود اللازم للشعلة التي يعلوها تمثال زيوس، واستمر تشييده خمسة عشر عاما، وانهار على مراحل بفعل الزلازل العنيفة، فحول احمد بن طولون الطابق الثاني منه الى مسجد فكان اعظم واعلى مسجد، وحاول صلاح الدين ترميمه لكنه مع مجيء زمن المماليك كان قد انهار تماما فاستفاد من احجاره قايتباي في بناء حصن في المكان نفسه يعرف الآن بقلعة قايتباي.
لعلية القوم وليس للشعب
ويذهب صاحب «الاسكندرية ملكة الحضارات» ورفاقه الى ان الزخم في الآثار البطلمية جاء من كثرة المحاجر المتنوعة في الصحراء المصرية، تلك المحاجر التي ورثوها عن الفراعنة، واستخرجوها لتحويلها ورش الفنانين المهرة الى كنوز ذهبية وفضية واحجار ثمينة واوان زجاجية، وقد كان لبطليموس الرابع في قصره كهف مبطن بالذهب ومزخرف بالاحجار الثمينة، واهدى لاحد الملوك مائدة من ذهب واحجار ثمينة، اما مارك انطونيو فحين ركب مركب كليوباترا الفاخر الثمين المحتوي على كنوز لا تحصى فقد قرر ان يستغني بالاسكندرية عن روما، وان يجعل امبراطوريته في هذه الجنة التي لا تنفد كنوزها ولا مواردها، ويبدو ان الاسكندرية في ذلك الوقت كانت مكانا اقل ما توصف به الجنة، فقد تحدث المؤرخون والرحالة عن القناة التي تجيئها بالماء العذب من النيل، هذه التي حفر محمد علي ترعة المحمودية على غرارها، وبحيرة مريوط التي تموج بالماء العذب، وشوارعها المهندسة المتقاطعة الفسيحة، فقد كان عرض الشارع خمسة عشر مترا، في حين ان الشارع الرئيسي الذي يجيء من الشمال الى الجنوب كان ثلاثين مترا، وكان القصر الذي بناه الاسكندر اكبر القصور عامة، وفيه اقيم السيرابيوم (مجمع المعابد) وبالقرب منه الموسيون (مركز الثقافة والادب)، وفيه جاءت مكتبة الاسكندرية التي انشأها بطليموس الاول، واخذ خلفاؤه والكهنة في تزويدها بالمخطوطات، حتى ان انطونيو جاءها من مكتبة تقاربها في روما بمائتي الف مخطوط او كتاب، اما الاحتفالات فكانت في الشوارع على غرار احتفالات اثينا، وكانت من كثرتها لا تنتهي، وليس هناك افضل من التعبير الذي قاله مؤلف الكتاب وهو ان الاسكندرية كانت مدينة استعراض.
وعلية القوم من التجار والكهنة والعلماء هم الذين اقاموا في هذه الجنة، ولم يدخلها من الشعب الا عمال مهرة، بل ما كان يسمح لهم ان يقيموا فيها.
صبحي موسى
الكتاب: الاسكندرية ملكة الحضارات
المؤلف: جان ايف امبرور
ترجمة: فاطمة عبد الله محمود
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
الصفحات: 400 قطع متوسط
سيسيليا (1) زميلاتها في المدرسة كن يخفن أن تسرق منهن أصدقاءهن
خطفت نيكولا من زوجته وطلقت جاك مارتان
تأليف: أنا بريتون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يتساءل الجميع كيف يمكن لامرأة أن تتخلى عن عرش فرنسا كله من اجل حب اكتشفته، وقد بلغت من العمر خمسين سنة؟ وكيف لها أن ترافق زوجها الى قصر الاليزيه، لتنسحب بعد فترة وقد أحدثت ضجة في الاعلامين الفرنسي والعالمي؟ ليس لأنها دفعت نيكولا ساركوزي الى توقيع معاملة الطلاق فحسب، ولكن لأنها تمكنت من تقديم نفسها في فترة قصيرة باعتبارها سيدة أولى لفرنسا، بعد الدور المحوري الذي لعبته في الافراج عن الممرضات البلغاريات اللواتي كن محتجزات في ليبيا.
أحبها ساركوزي واعترف بذلك على شاشة التلفزيون، أهداها رئاسة الجمهورية، لكنها أبت رغم أنها واحدة من الذين صنعوا مجده، منذ كان رئيس بلدية نويي.. أيمكن أن يدفع الحب الواحد منا الى التخلي عن كل شيء وهل يمكن أن يتغلب الحب على الجاه، والمشاعر على المنصب في حسبة المرأة؟!
أسئلة كثيرة طرحتها أنا بريتون صحفية مجلة لوبوان في كتابها الجديد «سيسيليا» الصادر عن دار فلاماريون، والذي تقدم «القبس» حلقات منه.
لقد نشرت الصحف الايطالية اخيرا خبرا مفاده أن سيسيليا قررت الارتباط بريتشارد اتياس في شهر مارس الجاري، الخبر يظل اشاعة، ذلك انه لم يتأكد، لكن الأكيد هو أن قصر الاليزيه استقبل ساكنة جديدة هي كارلا بروني، المغنية الايطالية وعارضة الأزياء، التي حاول ساركوزي من خلالها الانتقام لشخصه.
يقول الكثيرون ان هناك شبها كبيرا بين السيدتين شكلا ومسارا مهنيا، ولعل هذا السبب هو ما دفع ساركوزي الى التعلق بكارلا، التي ساهمت في نزول شعبية نيكولا ساركوزي وسط الفرنسيين، بعد أن صارت حياته الخاصة وتصرفاته حديث العالم بأسره.. قد تكون سيسيليا محقة في قرارها، وقد يكون نيكولا محقا أيضا، لكن الأهم هو أن نيكولا وسيسيليا صنعا ظاهرة اعلامية لم يسبق لها مثيل.
سيسيل ماريا سارة ايزابيل سيغاني، هذا هو الاسم الكامل للسيدة الفرنسية الأولى سابقا، لقد ولدت سيسيل في الثاني عشر من نوفمبر 1957 في بولوني بيلونكور الفرنسية، هي اصغر أفراد أسرتها والبنت الوحيدة ضمن أربعة ذكور.
ترعرعت سيسيل وسط عائلة بورجوازية هاجرت من ملدافيا الى فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، وكانت تشتغل في تجارة الأشياء الفخمة والفاخرة في أرقى الأحياء الباريسية، بينما تتحدر والدتها من أصول اسبانية، فهي ابنة الملحن الاسباني اسحاق البينيز.
امتهنت سيسيل عرض الأزياء الفاخرة عند بلوغها سن المراهقة، وصارت تتصدر بفضل ستايلها أغلفة المجلات الفرنسية، ما دفعها الى التفكير في تغيير اسمها ليواكب اطلالتها الجميلة وهكذا أصبحت تدعى سيسيليا بدخول عام 1979.
كبرت سيسيليا وكبرت معها أحلامها في أن تعيش حياتها مثلما تريد، لا مثلما يريد الغير، جربت الزواج مرتين، لكنها لم تعثر على الحب، لتكتشف أخيرا أنها أخطأت وان قلبها مستعد في أي لحظة للتخلي عن كل شيء من اجل الحب، لقد تخلت سيسيليا عن كل شيء، من اجل ريتشارد اتياس ذي الأصول اليهودية المغربية، لا يمكن أن نعرف ان كانت سيسيليا صادقة مع نفسها أو معنا ولكننا سنتابع مع بعض، بعضا من تفاصيل وردت على لسانها.
بعد شهر واحد من الطلاق
في هذه الأمسية، كان قد انقضى على طلاق سيسيليا شهر واحد، لقد فضلت التوجه الى مطعم باريسي، لم يكن يسمع أي صوت لكعب حذائها وهي تصعد الدرج، ذلك أنها انتعلت حذاء بكعب منخفض .
تعترف سيسيليا التي أطفأت منذ فترة قصيرة شمعتها الخمسين، بأنها لم تشرب طيلة حياتها قطرة خمرة واحدة وبأنها لا تعرف حتى مذاق الكحول. سيسيليا لا تتناول المشروبات الكحولية ولا تلبس الأحذية ذات الكعب العالي، غير أنها تملك قامة طويلة، يمكن أن تكون هي من اسر نيكولا ساركوزي.
تسرع في خطواتها وتختار لنفسها دائما جانب الطريق الأيمن، ورأسها شامخ، لقد تجاوزت برأسها الجميع، ابتداء من الرجلين الذين ارتبطت بهما.
جميلة جدا، طويلة، نظرتها ثاقبة وتقول عن نفسها «يظهر للرائين بأني امرأة حادة الطباع، واذا ما كان الأمر صحيحا، أنا أعاني من مشكلة مظهر لأنني خجولة، وأحاول حماية نفسي بخلق هذا الانطباع من حولي».
سيسيليا لغز، لقد اجتمعت العديد من الصفات لتجعل منها لغزا، السلطة والحب والتفاهة وعزة النفس والأمل المجنون والجمال والعمق والألم والتعالي والخجل.
لقد صرخت سيسيليا ذات مرة «ليست شيئا يذكر «ليس فقط لفرنسا وانما أيضا للعالم»، وذلك بعد أن أضحت صورها وأخبارها تتصدر الصحف والمجلات الفرنسية و الأجنبية.
كان وجهها دوما بشوشا
يقول المغني ديديي بارفيليو الذي يعرف سيسيليا منذ كانت زوجة لجاك مارتان كانت لا تبتسم كثيرا وقلت لها لا افهم لم أصبحت هكذا، كنت انسانة مبتهجة في الحياة وفي التلفزيون كنت دائما الوجه البشوش، فأجابتني «هذا يزعجني».
اذا ما كانت الصورة التي رسمها لها بارفيليو صحيحة، فانها لا تطابق أبدا الصورة التي نملكها عنها، وهي أن الحياة الاجتماعية والاعلامية والسياسية تضايقها وتزعجها.
كانت سيسيليا تكتفي بالملاحظة، غير أنها عانت كثيرا خلال الحملة الرئاسية، كانت كثيرا ما تبكي وتسأل أصدقاؤها،لماذا لا يحبني ؟ في تلك الفترة نمت علاقة صداقة بين سيسيليا وماتيلد اغوستينيلي وانيا كرومباك، وتشتغلان على التوالي مسؤولة الاعلام في مؤسسة برادا ورئيسة مؤسسة تيفاني فرنسا.
ظلت الاثنتان تلازمان سيسيليا الى غاية توقيعها معاملة الطلاق، ومنذ ذلك الحين لم تسألا عن أحوالها، لقد اختفتا منذ أن انفصل الزوجان، ذلك أن ساركوزي كان يأخذهما الى نيويورك وبرفقته كانا يسهران الى غاية الرابعة صباحا، وبذهاب سيسيليا لم يعد ذلك متاحا بالنسبة لهما، فلمَ الابقاء على صداقتهما لها.
أسف على الصديقات المخادعات
بعينين حزينتين تتأسف سيسيليا على ما حصل لها وتصف صديقتيها السابقتين بالداعرتين، ومن درجة حزنها لم تعد قادرة حتى على نطق اسميهما، فهي الآن سيدة مخدوعة من قبل اعز صديقاتها وتتساءل كيف لهاتين أن تكونا مع زوجها السابق الآن ؟
وأما سيسيليا فكانت تشعر بان وزيرة العدل رشيدة داتي التي اعتبرتها الأخت التي لم تلدها والدتها، الأقرب لها، ذلك أنها لم تتركها تماما مثلما فعلت الاخريان، وهو ما دفعها الى أن تبعث لها برسالة هاتفية بعد طلاقها.
رشيدة داتي تعرف ان سيسيليا هي من صنعت منها وزيرة، تقول سيسيليا «اعتقد أنها صديقتي واعتقد اني محقة، لكن يمكن أن أكون مخطئة بالطبع». هي تعي جيدا بأنها اخطأت فيما قبل، لكنها تقول «رشيدة محصورة بيني وبين نيكولا، أنا صديقتها أما نيكولا فهو مسؤولها، هي تناديه سيدي الرئيس نعم، سيدي الرئيس، لم تكن تحلم يوما بان تكون هنا في هذا المكان، وهي تريد أن تبقى فيه اذن» ونيكولا يسألها عني، الأمر ليس سهلا بالنسبة لها ولمساعدتها بعثت لها برسالة هاتفية، أرتها لنيكولا وكتبتُ فيها «أنت صديقتي، أتشرف برؤيتك، لكن دون أن نتحدث عني أو عن نيكولا».
لقد نصحت سيسيليا، رشيدة داتي بان تقول لساركوزي «اذا ما أردت سيدي الرئيس، سأتوقف عن رؤية سيسيليا»، وبالفعل نفذت داتي النصيحة .
لم يطلب ساركوزي من داتي مثل هذا الأمر ودون أن تعي سيسيليا مضمون ما تقول راحت تصرخ «كل شيء مكتوب في مجلة غالا، رشيدة مع راما واكبر ميزة للرئيس مثلما يقولون هو انه بدون سيدة أولى، عليه اذن أن يخرج مع فتيات جميلات ويتأبط أذرعهن وهن يتمايلين في ألبسة ديور».
كانت سيسيليا تتساءل طيلة الحملة الانتخابية وفي بداية تنصيب زوجها على رأس قصر الاليزيه: لم لا يحبني الناس؟ لقد أجابتها داتي «أنت جميلة وتملكين هيئة وزوجك يحبك واضافة الى هذا فهو يصرح بهذا أمام الجميع ».
تدرك سيسيليا جيدا بأنها تدفع ثمن جمودها، لكنها لا تملك خيارات أخرى، فهي لا تعرف وضع أقنعة أخرى، وكان ينقصها فقط أن تثق بنفسها وان تشعر بأنها شرعية.
سيسيليا لم تكن جميلة
ليس لشانتال مارشال أي ذكريات سيئة عن سيسيليا، وتقول عنها هي أخت زوجي السابق، كانت مثل أختي الصغرى بالنسبة لي، واعرفها منذ كان عمرها 16 سنة، عندما تزوجت مع أخيها. في ذلك الوقت لم تكن سيسيل - وكانت العائلة كلها تدعوها سيسيل - جميلة جدا، حتى أن اخوتها الأربعة كانوا قلقين بهذا الشأن، غير أن جمالها لم يتفتح الا بعد أن بلغت التاسعة عشرة.
لقد ولدت سيسيليا لعائلة بورجوازية، أمها اسبانية وجدها لامها كان ممثل اسبانيا في عصبة الأمم أما والدها فولد في رومانيا وهرب منها عندما بلغ عمره الثانية عشرة، لقد عبر أوروبا كلها وحده، غير انه رفض دوما الحديث عن هذه الفترة.
كان الفرق العمري بين والدها ووالدتها، خمسا وعشرين سنة وهو الفارق نفسه بينها وبين زوجها الأول جاك مارتان .
(يتبع)
عرض الأزياء بدل الدراسة
سيسيل لم تدرس، سجلت في قسم الحقوق بعد نيلها شهادة البكالوريا ثم اشتغلت مع والديها في متجر للفراء أقامه والدها أسفل فندق بوفو .واشتغلت عارضة أزياء لفترة معينة. كانت والدتها تقول على كل حال، لن تستطيع أبدا العمل، ذلك أنها جميلة جدا.
لم يكن لسيسيل في شبابها صديقات، ذلك أن الفتيات اللواتي كن يعرفنها، فهمن بسرعة بأنها مستعدة لفعل أي شيء من اجل الوصول، جميعهن كن يخشين أن تسرق منهن أصدقاءهن، كانت جميلة جدا .
لقد دفعت الأم ابنتها سيسيل الى الزواج بجاك مارتان، ذلك أنها كان تود أن تراها مرتبطة بشخصية معروفة.
تقول سيسيليا أنها كانت صديقة ماري الزوجة الأولى لنيكولا وان ماري كانت تعاني من سوء معاملة. لقد تعرفت العائلتان ساركوزي ومارتان في بلدية نويي وأصبح أفرادهما اصدقاء، فسيسيليا كانت عرابة واحد من أولاد ماري وماري كانت عرابة واحدة من بنات مارتان .
كانت ماري سيدة كتومة أما سيسيليا فسيدة جميلة وتسعى لان تبدو كذلك دوما، كانت تقدر كثيرا ساركوزي،، الذي كان يفضل المرأة الجميلة والأنيقة الهندام. لسيسيليا قوام رشيق وأما طريقة وقوفها ففيها الكثير من الشموخ، ولأنها تريد الوصول رأت ان ساركوزي هو أفضل حصان مقارنة بمارتان، فسيسيليا تنتمي الى مجموعة الفتيات اللواتي يدركن جيدا أين يذهبن .
تخلت سيسيليا عن مارتان في عام 1988 مؤكدة بأنه انسان لا يطاق، بينما كانت تخرج مع نيكولا ساركوزي منذ فترة. في تلك الفترة لعبت دور أخت كبرى، فذهبت لرؤيتها وردت علي «ماذا تريدين أن افعل الآن مع هذا الانسان؟» في تلك الفترة كان نيكولا ساركوزي قد دق على أبوابها.
أنا لا أطيق سيسيل، ليس لأنها لا تعجبني وليس لأني لا أطيقها، ولكن لأني أجدها غبية
ليست هي ذي المرأة التي تتخلى عن رئيس الجمهورية الفرنسية، وتؤكد سيسيليا اليوم أنها لم تتغير، تقول ان أشياء كثيرة ظهرت وأنها وجدت أخيرا نفسها.
• سيسيليا برفقة نيكولا وابنهما لويس
• ..وبرفقة زوجها الاول جاك مارتان وابنتيهما
10/03/2008
سيسيليا (2) قضت معه سنوات طويلة.. وأنجبت منه وتتساءل اليوم:
«كيف استطعت أن أتبادل الحب مع نيكولا ساركوزي؟»
• سيسيليا ونيكولا خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية (6 مايو 2007) بساحة الوئام
تأليف: أنا بريتون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يتساءل الجميع كيف يمكن لامرأة أن تتخلى عن عرش فرنسا كله من اجل حب اكتشفته، وقد بلغت من العمر خمسين سنة؟ وكيف لها أن ترافق زوجها الى قصر الاليزيه، لتنسحب بعد فترة وقد أحدثت ضجة في الاعلامين الفرنسي والعالمي؟ ليس لأنها دفعت نيكولا ساركوزي الى توقيع معاملة الطلاق فحسب، ولكن لأنها تمكنت من تقديم نفسها في فترة قصيرة باعتبارها سيدة أولى لفرنسا، بعد الدور المحوري الذي لعبته في الافراج عن الممرضات البلغاريات اللواتي كن محتجزات في ليبيا.
أحبها ساركوزي واعترف بذلك على شاشة التلفزيون، أهداها رئاسة الجمهورية، لكنها أبت رغم أنها واحدة من الذين صنعوا مجده، منذ كان رئيس بلدية نويي.. أيمكن أن يدفع الحب الواحد منا الى التخلي عن كل شيء وهل يمكن أن يتغلب الحب على الجاه، والمشاعر على المنصب في حسبة المرأة؟!
أسئلة كثيرة طرحتها أنا بريتون صحفية مجلة لوبوان في كتابها الجديد «سيسيليا» الصادر عن دار فلاماريون، والذي تقدم «القبس» حلقات منه.
لقد نشرت الصحف الايطالية اخيرا خبرا مفاده أن سيسيليا قررت الارتباط بريتشارد اتياس في شهر مارس الجاري، الخبر يظل اشاعة، ذلك انه لم يتأكد، لكن الأكيد هو أن قصر الاليزيه استقبل ساكنة جديدة هي كارلا بروني، المغنية الايطالية وعارضة الأزياء، التي حاول ساركوزي من خلالها الانتقام لشخصه.
يقول الكثيرون ان هناك شبها كبيرا بين السيدتين شكلا ومسارا مهنيا، ولعل هذا السبب هو ما دفع ساركوزي الى التعلق بكارلا، التي ساهمت في نزول شعبية نيكولا ساركوزي وسط الفرنسيين، بعد أن صارت حياته الخاصة وتصرفاته حديث العالم بأسره.. قد تكون سيسيليا محقة في قرارها، وقد يكون نيكولا محقا أيضا، لكن الأهم هو أن نيكولا وسيسيليا صنعا ظاهرة اعلامية لم يسبق لها مثيل.
يقول احد مساعدي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، إنه كان يحب كثيرا سيسيليا غير أن اكبر ما كان يفضله فيها هو زوجها.لقد أكد المتحدث ذلك عشية مؤتمر 14 يناير 2007، الذي قدم ساركوزي كمرشح عن الاتحاد من اجل الحركة الشعبية للرئاسة الفرنسية.
لم يسمح ساركوزي لزوجته بأن تكون امرأة سياسية.. ولكنها أصبحت سيدة ذات تأثير كبير.
أوامر الملكة
قالت رشيدة داتي قبل يومين من تعيينها وزيرة للعدل في الحكومة الفرنسية الحالية إنها تعرف جيدا ما الذي تدين به لسيسيليا وأضافت«لقد فرضتْ اسمي لأكون الناطقة الرسمية باسم ساركوزي أثناء حملته الانتخابية، لقد قالوا جميعهم إن هذا جنون من سيسيليا ولو فشلتُ في اداء مهمتي» لاتهموا سيسيليا.
كانت رشيدة داتي تدرك ان سيسيليا كانت تحارب الجميع من اجل أن تُعيّن وزيرة للعدل، حافظة للأختام، غير أنها لم تكن تعرف ان زوجة الرئيس أخرجتها من القضية، التي عرفت باسم قضية ميشال دوبكين، مدير الديوان الذي رفض أن تضع وزيرة العدل حدا لمشواره المهني.
بتاريخ السادس من يوليو، كانت رشيدة داتي تشعر بتعب شديد، بسبب مدير ديوانها ميشال دوبكين وتقول بخصوصه «كان إنسانا لا يطاق، أصبحت اشعر بالجنون بسببه، كان يبدأ في الساعة التاسعة ويذهب في الساعة الخامسة بعد الظهر، لقد هددته، ولم يكن يصغي إلي، وذلك منذ ثلاثة أسابيع، ما جعلني اتخذ قرارات أخرى، استدعيتُه إلى مكتبي وقلت له :لقد انتهى ميشال، إلى اللقاء ميشال».
أجاب ميشال قائلا «لن تستطيعي القيام بهذا، قاطعته حافظة الأختام بقولها «انتهى الأمر ميشال»، ثم ذهبت في مهمة عمل.
أسرع ميشال إلى قصر الاليزيه حيث قابل صديقه باتريك أوارت مستشار الرئيس نيكولا ساركوزي للشؤون القضائية، وقال له «رشيدة داتي ليست قادرة على الخروج من مأزقها من دوني، إنها بحاجة إلي» وكان اوارت مقتنعا بذلك تماما.
لم يمر وقت طويل، حتى ظهرت النتائج، وبينما كانت رشيدة داتي تستعد للنشرة الثامنة في تلفزيون تي أف 1، تلقت مكالمة هاتفية من رئيس الحكومة فرانسوا فيو، الذي صرخ في وجهها «ماذا فعلت اليوم بدوبكين؟ فيما هاتفها ساركوزي في الساعة العاشرة للسؤال عن الموضوع نفسه.
قرار في محل لبيع الأحذية
بررت رشيدة موقفها وكانت متعصبة جدا، فيما لم يقتنع ساركوزي بما جاء على لسانها وأجابها "ارتاحي وسنتكلم في الموضوع غدا، تعالي لرؤيتي في مكتبي».
صباح اليوم التالي، تحدثت رشيدة إلى سيسيليا في الموضوع، بعد أن التقتها صدفة في محل للأحذية، ما دفع السيدة الأولى إلى مكالمة زوجها مباشرة.
رد ساركوزي :ألا تعرف بان هذا النوع من الحماية المقربة لا يفيد شيئا، ليطلب من وزيرة العدل الالتحاق به.
بعد ساعتين قضتهما معه، حصلت رشيدة داتي على موافقة الرئيس على القرار الذي اتخذته، لتعين بعدها مباشرة خليفة لدوبكين.
لقد تمكنت رشيد داتي من استبعاد مدير ديوانها، غير أن سلطة القرار لم تكن بين يديها وكان الرئيس يفضل أن تكلمه مباشرة دون المرور على سيسيليا..... ولكن بالنسبة لرشيدة داتي «كان يتوجب عليها التوجه لشراء حذاء كلما واجهتها مشكلة معينة»؟
نيكولا بخيل وزير نساء
قالت سيسيليا ذات مرة إنها لم تعد تحب نيكولا وأنها عندما تراه في هذه الأيام، تتساءل كيف استطاعت أن تبادله الحب.لم تقل سيسيليا هذا الكلام يوما ما، ولن تقوله ربما مستقبلا، لكنها أسرت بهذه الكلام في صبيحة يوم من أيام شهر نوفمبر، بعد شهر واحد من توقيع معاملة طلاقها من نيكولا.
لقد كررت سيسيليا قولها ان نيكولا بخيل، غير أن صفة البخل ليست الصفة الوحيدة التي اكتشفتها في نيكولا طيلة 11 سنة من زواجهما، بل أيضا عشقه لنساء وإعجابه بكل ثرثارات العالم. وأمام أصدقائها قالت سيسيليا ان نيكولا زير نساء، لكن الكلمة ظهرت كأنها كانت تخرج بصعوبة من شفتيها، هي كلمة لم نسمعها أبدا منها، ولكنها سمعتها من آخرين، وهو بالفعل ما يقول الجميع اليوم عن ساركوزي «انه زير نساء».
لم يكن هجران سيسيليا للبيت الزوجي منذ سنتين ونصف السنة لهذا السبب، لقد أكدت لي هذا وهي تضع يدها على قلبها، كما نفت أيضا أن يكون احد من مقربي ساركوزي قد سلمها ملفا عن سلوكياته بما فيهم دومينيك دو فيلبان.
تقول «لقد ذهبت لأني وقعت ببساطة في غرام رجل ثان»، وتؤكد أنها لم تكن تعرف آنذاك أي شيء عن غراميات زوجها «لم يقل احد مثل هذا القبيل منذ 18 سنة».
تخوف من كتاب ياسمين رزا
تطاولت الألسن كثيرا بعد أن ذهبت سيسيليا برفقة ريتشارد عطية، هي تشعر بانزعاج كبير لما تستعيد ذكرياتها، لكنها تؤكد ان لا احد من مقربيها قال لها كلمات أساءت اليها «لقد أصابوا لأنهم لو فعلوا لأضروني كثيرا».
أيام قليلة قبيل تعيينها وزيرة للعدل، حافظة للأختام، عبرت رشيدة داتي عن تخوفها من الكتاب الذي كانت ياسمين ريزا بصدد تحضيره، فوزيرة العدل لاحقا، والصديقة الحميمة لسيسيليا ساركوزي تملكتها شكوك بخصوص تطرق المؤلفة لسلوكيات نيكولا ساركوزي مع النساء، غير أنها لم تملك الجرأة الكافية لتتحدث مع سيسيليا في الموضوع حتى لا تزيد في تعميق جراحها.
لما غادرت سيسيليا المرة الأولى، غادرت مع آخر ومن اجل آخر، لكن هذه المرة، غادرت وحيدة، من المؤكد أنها غادرت حبا في ريتشارد ولكن أيضا احتراما لذاتها، بعد أن أصرت على الطلاق، «لا استطيع على الإطلاق أن أتقبل طفلا من ثانية مثل دانيال ميتيران».
إشاعة علاقة نيكولا بصحافية
كانت سيسيليا تواجه إشاعة أخرى، مفادها أن صحافية تركت زوجها أخيرا، وكانت تدرك ان القصة مضت عليها شهور وشهور، غير أنها كانت تبدو حزينة جدا في تلك الفترة، ذلك أنها لم تكن قادرة على إيقاف تواتر هذه الأخبار عليها.
لقد غادرت سيسيليا بالفعل، لكنها كانت تكلمه دوما وكان يضايقها، كانا يقضيان ساعات في التحدث هاتفيا وكانت تقول له انها تعاني وكان يحب أن تردد على مسامعه مثل هذا الكلام.
رجوع بعد اعتراف بالحب
حملت سيسيليا حقائبها ورجعت إلى باريس في خريف 2005، عندما صرح بأنه يحبها مباشرة على شاشة تلفزيون فرانس 3، غير أن الغيرة مزقت قلبها من جديد، عندما قدم نيكولا ساركوزي لأصدقائه، إحدى صحفيات جريدة لوفيغارو كزوجة مستقبلية له، خلال عيد ميلاد والدته.وكانت هذه الصحفية تحضر اجتماعات معاوني ساركوزي في الحزب كما كانت تتصدر الصفوف الأولى خلال الاجتماعات الدورية.
كان الأمر لا يطاق بالنسبة لسيسيليا، التي كادت أن تفقد أعصابها بحسب صديقتها ايزابيل بلكاني، فيما استمر ساركوزي في علاقته مع صحافية لوفيغارو مما أزّم الوضع من جديد بينه وبين سيسيليا التي فضلت الرجوع إليه أخيرا، لكن هل عادت سيسيليا إلى ساركوزي حبا فيه أم عادت من فرط غيرتها؟
تقول انها عادت لشعورها، بأنه من واجبها العودة، "تملكني للآسف شعور بالواجب في تلك الفترة».
ريتشارد ليس حبا عابرا وإنما حقيقة
قررت سيسيليا آنذاك أن تكبح حبها لريتشارد عطية وتقول «لم يكن حبا عابرا وإنما قصة حقيقية، غير أني عدت لان نيكولا بحاجة إلي» وتؤكد أنها تصرفت على هذا النحو حتى تمنحه الحب والشجاعة التي يحتاج إليها خلال الحملة الانتخابية.
كانت سيسيليا تشعر بالغبن غير أنها كانت إلى جانب نيكولا، أيام فقط قبيل تنصيبه رئيسا للجمهورية الفرنسية.نيكولا رجل رائع بالنسبة لها، لكنه لم يعد الرجل الذي يوهج شعلة قلبها.
تظن سيسيليا أنها كانت ستفشل في رهانها، لو لم تعد وتؤكد مرة أخرى أنها رجعت،احتراما للوظيفة، ذلك أنها لم تكن لتتحمل أن يحملها الغير مسؤولية فشل نيكولا.
وعن التضحيات الكبيرة التي قدمتها طوال سنوات زواجهما تقول «لم نأكل يوما مع بعض في بيتنا طيلة السنوات التي قضيناها مع بعض، كنت أتناول الغداء مع الأولاد، فيما كان يتناول غداءه في مكتبه وهو يعمل» ومع ذلك كانت سيسيليا معجبة جدا بزوجها وكانت إلى جانبه في السراء والضراء وتظن أنها تركته وهو في أحسن الأحوال.
تأكدت سيسليا منذ عام 2002، أنها الشخصية الكفيلة بدفع ساركوزي نحو الأمام وكانت كلماتها آنذاك تشير إلى ذلك، لتصبح بسرعة البرق، المرأة التي بإمكانها أن تدفعه إلى الفوز أو الفشل، ولما ذهبت مع ريتشارد عطية، ظهر وكأن نيكولا ساركوزي فقد عموده الفقري حسب دومينيك دوفيلبان.
(يتبع)
نيكولا يعاني من مشكل في السلوك
تقول سيسيليا اليوم ان نيكولا لا يمكن أن يكون رئيسا للجمهورية، ذلك انه يعاني مشكلا سلوكيا «على احدهم أن يقول له ذلك، لقد فعلت ذلك طيلة 18 سنة ولا يمكن أن استمر، واعتقد أني آخر من يملك القدرة على ذلك، غير أني أظن ان كاترين بيجار، الرئيسة السابقة للقسم السياسي في مجلة لوبوان والمستشارة السياسية لنيكولا ساركوزي، قادرة على ذلك».
ولا يبدو اليوم ان سيسيليا منزعجة من الدعوة التي وجهها نيكولا إلى صديقتها بياتريس ستارن المقيمة في نيويورك، لتناول الغداء في البيت الأبيض بداية شهر نوفمبر الماضي، مرجعة ذلك إلى عدم وجود أصدقاء لنيكولا مما يدفعه إلى الاستنجاد بصديقاتها، ولهذا السبب أيضا قضى آخر إجازة صيفية له معها وسط صديقاتها.
سيسيليا (3) ترفض البروتوكول وتبحث عن الحرية:
فضلت حفلة عيد ميلاد ابنتها على دعوة الرئيس بوش
• سيسيليا برفقة ابنها لويس ساركوزي
تأليف: أنا بريتون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يتساءل الجميع كيف يمكن لامرأة أن تتخلى عن عرش فرنسا كله من اجل حب اكتشفته، وقد بلغت من العمر خمسين سنة؟ وكيف لها أن ترافق زوجها الى قصر الاليزيه، لتنسحب بعد فترة وقد أحدثت ضجة في الاعلامين الفرنسي والعالمي؟ ليس لأنها دفعت نيكولا ساركوزي الى توقيع معاملة الطلاق فحسب، ولكن لأنها تمكنت من تقديم نفسها في فترة قصيرة باعتبارها سيدة أولى لفرنسا، بعد الدور المحوري الذي لعبته في الافراج عن الممرضات البلغاريات اللواتي كن محتجزات في ليبيا.
أحبها ساركوزي واعترف بذلك على شاشة التلفزيون، أهداها رئاسة الجمهورية، لكنها أبت رغم أنها واحدة من الذين صنعوا مجده، منذ كان رئيس بلدية نويي.. أيمكن أن يدفع الحب الواحد منا الى التخلي عن كل شيء وهل يمكن أن يتغلب الحب على الجاه، والمشاعر على المنصب في حسبة المرأة؟!
أسئلة كثيرة طرحتها أنا بريتون صحفية مجلة لوبوان في كتابها الجديد «سيسيليا» الصادر عن دار فلاماريون، والذي تقدم «القبس» حلقات منه.
لقد نشرت الصحف الايطالية اخيرا خبرا مفاده أن سيسيليا قررت الارتباط بريتشارد اتياس في شهر مارس الجاري، الخبر يظل اشاعة، ذلك انه لم يتأكد، لكن الأكيد هو أن قصر الاليزيه استقبل ساكنة جديدة هي كارلا بروني، المغنية الايطالية وعارضة الأزياء، التي حاول ساركوزي من خلالها الانتقام لشخصه.
يقول الكثيرون ان هناك شبها كبيرا بين السيدتين شكلا ومسارا مهنيا، ولعل هذا السبب هو ما دفع ساركوزي الى التعلق بكارلا، التي ساهمت في نزول شعبية نيكولا ساركوزي وسط الفرنسيين، بعد أن صارت حياته الخاصة وتصرفاته حديث العالم بأسره.. قد تكون سيسيليا محقة في قرارها، وقد يكون نيكولا محقا أيضا، لكن الأهم هو أن نيكولا وسيسيليا صنعا ظاهرة اعلامية لم يسبق لها مثيل.
كان ساركوزي يلبس خاتم الزواج في بداية شهر ديسمبر، وكانت سيسيليا تردد آنذاك بأنه سينتهي إلى خلعه لا محالة، ولكن كيف نفسر إصراره على لبس خاتم الزواج؟تجيب سيسيليا «دون شك، من اجل أن يظهر للجميع بأنه ليس هو من أراد الانفصال «لتردف قائلة» في الأخير، أظن اني لست من طلب منه ذلك».
وعندما سئل ساركوزي عن الموضوع ذاته، نهاية شهر نوفمبر الماضي، أجاب ان سيسيليا تحتفظ به أيضا، غير أن سيسيليا تقول «أنا خلعته يوم طلاقي».
كان الجميع يدعون سيسيليا بالسيدة ساركوزي سواء في قصر الاليزيه أو في المطعم أو أي مكان آخر، والآن بعد أن حصلت على الطلاق الذي حاربت من اجله، يا ترى ما الاسم الذي سيدعونها به؟
رغبت في حب الناس لها
كانت سيسيليا تود أن يحبها الناس لذاتها وليس لأنها السيدة ساركوزي، واليوم عليها أن تتعلم أن تكون لذاتها، وهذه بدون شك الطريقة الوحيدة التي ستمكنها من أن تصبح زوجة رجل آخر بعد أن تضمن لنفسها شرعيتها الداخلية.
لقد صرح ساركوزي أمام أصدقائه بداية ديسمبر «إذا ما كانت تود العودة، فعليها أن تسرع، فقائمة اللواتي يردن اخذ مكانها طويلة، وبإمكاني أن اخذ أي امرأة»
لم يكن احد يدرك ان سيسيليا تملك الشجاعة الكافية لترك الرئيس والسلطة حتى فيليب سيغان رئيس مجلس المحاسبة، الذي قال ذات مرة «من تقوم بهذه الفعلة، مجنونة بالفعل».
ولكن عرف العالم قصة أخرى مشابهة هي قصة رئيس وزراء كندا بيير اليوت ترودو الذي تركته زوجته مارغريت ترودو في خريف 1977.
لكن سيسيليا مختلفة تماما عن مارغريت أو الطفلة الوردة، مثلما كانت تحب أن تلقب نفسها، فمن دفع مارغريت إلى التخلي عن زوجها، هو الجنون مثلما اعترفت به هي نفسها، غير أن سيسيليا كانت في نظر الجميع، متمردة.
تلقت التهاني بعد الطلاق
لقد حصلت على الطلاق من رئيس الجمهورية بالقوة وجمعت بعد ذلك الكثير من باقات الزهور التي أتتها مهنئة، لقد تلقت منذ الإعلان الرسمي عن نبا الطلاق أكثر من 70 باقة ورد، دون أن نحصي الرسائل الطويلة التي هنأتها بشجاعتها.
حتى اللحظة الأخيرة، لم تكن سيسيليا تدرك على الإطلاق أنها تملك هذه الشجاعة كلها، وحتى اللحظة الأخيرة كان نيكولا يعتقد أنها لن تتشبث بالطلاق، غير أنها أبدت قوة وإصرارا كبيرين.
كانت سيسيليا عشية الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية متأكدة من فوز زوجها وكانت متأكدة أيضا من أن جميع نساء العالم يحلمن بان يكن مكانها، بينما لم تكن تحلم هي سوى بالانسحاب.
تظن سيسيليا ان لا احد استطاع فهمها إلا من أحبوها. لقد أحبت رجلا آخر، هذا ما يمكن أن يفسر كل ما جرى لكنها حجة لا تكفي على الإطلاق.
وصف معاونو ساركوزي، سيسيليا باللامسؤولة، من شدة قلقهم على مستقبل الرئيس، إلا أنها علقت بالقول إنها لم تعرف المسؤولية، مثلما عرفتها في هذه الظروف.
لم يكن عالم ساركوزي عالمها، غير أنها أدت واجبها وأنهت معه المشوار إلى غاية فوزه بالرئاسة الفرنسية، ومع ذلك لا احد تركها بسلام، فالجميع أدانها. ترجاها ساركوزي لتبقى، فيما تهاطلت عليها مكالمات صديقاتها في محاولة يائسة منهن لإعادة ربط الود بينها وبين نيكولا.
قضية الممرضات البلغاريات
قررت سيسيليا العودة إلى نيكولا غير أنها لم تكن تعرف ما الذي ستفعله كزوجة رئيس، وبينما كان مدير ديوان الرئيس يستعد للسفر إلى طرابلس لمناقشة قضية الممرضات البلغاريات مع القيادة الليبية، التقطت سيسيليا الفكرة وقررت الذهاب، فيما رحب نيكولا بالفكرة التي يظهر انه استساغها.
بعد سفر سيسيليا الثاني إلى طرابلس تمكنت من مرافقة الممرضات البلغاريات إلى مطار صوفيا، وكان الانجاز رائعا بالنسبة إلى ساركوزي الذي اعتبره أمام الجميع شجاعة واستثناء من سيدة فرنسا الأولى.
لم تنسحب سيسيليا من حياة ساركوزي مباشرة بل قضت معه إجازة في وولفيبورو الاميركية، حيث أراد أن يستقل يختا برفقتها وكان هو من اقترح الرحلة عليها، ذلك انه كان يود أن يسترضيها.
لم تكن سيسيليا ترغب في قضاء إجازة برفقة نيكولا ولم تكن تملك الشجاعة بعد لتحقيق ما تريد، غير أنها كانت تظهر للجميع تمردها ضد كل شيء، تقول «أنا امرأة حرة، وافعل ما ارغب به».
رحلة البحث عن الحرية
كانت سيسيليا تعتقد أن الحرية هي أن تستقل سيارة ميني اوستين من دون سائق، فسيارة اوستين صغيرة وجميلة وفيها الكثير من الأنوثة لكنها أيضا أنيقة. فهي الموديل الذي ترغب كل البورجوازيات في اقتنائه.
سيسيليا كانت تعتقد كذلك ان الحرية هي أن ترفض الانقياد وراء الآخر وان الحرية أيضا ليست هي الذهاب إلى صوفيا لاستكمال الديكور الذي بدأ نيكولا في تصميم.
تقول سيسيليا «لقد أزعجوني جدا في فرنسا بقولهم» علي أن ابرر قراري، غير أني أقول لهم اذهبوا إلى الجحيم».
كانت سيسيليا تعتقد ان الشجاعة هي أن تدوس بقدميها على البروتوكول وان تتجاوز البرامج التي يطلق عليها برامج الزوجات على هامش القمم الدولية، بتفضيلها إحياء حفلة عيد ميلاد ابنتها على حضور الغداء الذي دعاها إليه الرئيس الاميركي جورج بوش.
ولكن إذا لم تكن هذه شجاعة، فإنها استقلالية للروح، لقد كانت سيسيليا ضحية الوسط السياسي وضحية معلقيه، الذين وصفوها بالجنون وعدم الوفاء. لقد نسوا جميعهم بأنها ظلت لسنوات الزوجة التي ساعدت زوجها من اجل بلوغ طموحاته.
كانت إلى جانبه دوما
يقول جون ميشال غايار، وهو مستشار سابق لفرانسوا ميتيران وكاتب سيناريو وصديق للزوجين ساركوزي – توفي عام 2005 – «التقيت نيكولا وسيسيليا في خريف 1995، لم يكن نيكولا لامعا آنذاك في الحياة السياسية، بل كان يعاني من مشاكل وصعوبات عدة وبوضوح، وكانت سيسيليا إلى جانبه في السراء والضراء».
كنا عندما نراهما مع بعض، نلمس العناية الفائقة التي توليها له. سيسيليا متحضرة جدا لكنها متحفظة جدا وملاحظة أيضا. وكان نيكولا يقضي وقته في قول «هل أنت موافقة سيسيليا؟» ماذا تظنين سيسيليا؟، كان يسألها دوما ويبحث عن موافقتها.
ولكن ما أحبه كثيرا فيها، هو جانبها الإنساني، لم تتغير منذ عرفتها، بل زادت أناقتها الجسمانية والروحية، واشعر بأنها أكثر تفتحا، وأما جبال السياسة فلا تخيفها إطلاقا، ليست حياتها مع نيكولا، الحياة التي حلمت بها منذ زمن. وعندما نرتبط للمرة الثانية، نأمل في تحقيق أشياء أخرى بعيدا عن أنظار الناس
هي امرأة تتميز بكرم نادر، وهي قادرة على أن تهب الآخر كل شيء حتى ذاتها، وأما نيكولا فيعتقد ان الجمهورية في خطر وأنه واحد من الرجال القادرين على وضعها في المسار الصحيح، والرجل الذي يستثمر طاقاته في مثل هذه المهمات، بحاجة إلى سيدة أولى وسيسيليا هي سيدته الأولى.
سيسيليا الأم
لا يمكن لسيسيليا أن تفارق أولادها أبدا، فهي تكلمهم دوما، حيثما كانوا وحيثما كانت هي، فسيسيليا قبل كل شيء هي أم وأمومتها هي أولى أولوياتها، واليوم بعد أن أصبحت وحيدة، فكل وقتها مكرس لخدمة أولادها، فهي لا تعيش إلا لهم.
وجوديت وجين ماري ابنتا سيسيليا من زوجها الأول جاك مارتان، آنستان اليوم وأما ولدها من ساركوزي فلا يزال صغيرا.
تقيم ابنتها الكبرى في لندن وتعمل في قطاع المالية وأما الثانية فهي طالبة في قسم الحقوق وتقيم مع خطيبها جورفان في شقة صغيرة بالقرب من جسر ألما وأما لويس الصغير فيقيم معها في نويي.
تقول صديقتها ايزابيل بلكاني «سيسيليا أم رائعة، غير أنها تخصص كل وقتها لرعاية لويس،ذلك انه ولد لا يطاق»،انه لا يطاق وكأنه نيكولا صغير، حسبما تؤكده جدته لوالده دادو.
من المستحيل أن تقضي بضع دقائق مع سيسيليا دون أن يقاطع صراخه حديثكما، ليقفز بين ذراعيها ويغرقها في القبل، فتراها تضحك، وتضحك لأنها تحبه وفي الأخير انه طفل يمارس سلطته عليها.
لقد تلقت البنتان تربية راقية جدا وهما مؤدبتان للغاية وتعتبران امتدادا لوالدتهما، ونيكولا ساركوزي لم يخطئ أبدا عندما سخرهما خلال الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية، لتعويض والدتهما، التي كانت ترفض مرافقته خلال هذه الفترة.
كانت الفتاتان تدخنان وتجيبان على المكالمات الهاتفية، داخل سيارة ساركوزي، بعد إعلان نجاحه في الانتخابات الرئاسية وقد طافا معه كل أرجاء باريس ليلتها انتشاء بالنجاح.
تقول سيسيليا إنها تقرأ أفكارها في أولادها الثلاثة وأنهم كل حياتها. وبينما كانت تحضر معاملة طلاقها، كانت تستعد أيضا للاحتفال بخطوبة ابنتها جيان ماري.
12/03/2008
سيسيليا (4) طلب منها القذافي لقاء ابنته لأنه أرادها أن تشبهها
سيسيليا فكرت في بيع صورها مع عشيقها لتجاوز ضائقتها المالية
• نيكولا ساركوزي برفقة زوجته السابقة سيسيليا قبل الطلاق
تأليف: أنا بريتون
ترجمة وإعداد: سليمة لبال
يتساءل الجميع كيف يمكن لامرأة أن تتخلى عن عرش فرنسا كله من اجل حب اكتشفته، وقد بلغت من العمر خمسين سنة؟ وكيف لها أن ترافق زوجها الى قصر الاليزيه، لتنسحب بعد فترة وقد أحدثت ضجة في الاعلامين الفرنسي والعالمي؟ ليس لأنها دفعت نيكولا ساركوزي الى توقيع معاملة الطلاق فحسب، ولكن لأنها تمكنت من تقديم نفسها في فترة قصيرة باعتبارها سيدة أولى لفرنسا، بعد الدور المحوري الذي لعبته في الافراج عن الممرضات البلغاريات اللواتي كن محتجزات في ليبيا.
أحبها ساركوزي واعترف بذلك على شاشة التلفزيون، أهداها رئاسة الجمهورية، لكنها أبت رغم أنها واحدة من الذين صنعوا مجده، منذ كان رئيس بلدية نويي.. أيمكن أن يدفع الحب الواحد منا الى التخلي عن كل شيء وهل يمكن أن يتغلب الحب على الجاه، والمشاعر على المنصب في حسبة المرأة؟!
أسئلة كثيرة طرحتها أنا بريتون صحفية مجلة لوبوان في كتابها الجديد «سيسيليا» الصادر عن دار فلاماريون، والذي تقدم «القبس» حلقات منه.
لقد نشرت الصحف الايطالية اخيرا خبرا مفاده أن سيسيليا قررت الارتباط بريتشارد اتياس في شهر مارس الجاري، الخبر يظل اشاعة، ذلك انه لم يتأكد، لكن الأكيد هو أن قصر الاليزيه استقبل ساكنة جديدة هي كارلا بروني، المغنية الايطالية وعارضة الأزياء، التي حاول ساركوزي من خلالها الانتقام لشخصه.
يقول الكثيرون ان هناك شبها كبيرا بين السيدتين شكلا ومسارا مهنيا، ولعل هذا السبب هو ما دفع ساركوزي الى التعلق بكارلا، التي ساهمت في نزول شعبية نيكولا ساركوزي وسط الفرنسيين، بعد أن صارت حياته الخاصة وتصرفاته حديث العالم بأسره.. قد تكون سيسيليا محقة في قرارها، وقد يكون نيكولا محقا أيضا، لكن الأهم هو أن نيكولا وسيسيليا صنعا ظاهرة اعلامية لم يسبق لها مثيل.
تقول سيسيليا ان المهمة التي أدتها في ليبيا كانت أصعب مهمات حياتها «لقد ذهبت إلى هناك، أخذت الممرضات وغادرت، كان الأمر صعبا، ذلك أن القذافي لم يبد أي نية لإطلاق صراح الفتيات».
تستدعي القضية الكثير من الشروحات، غير أن سيسيليا بدأت في الحديث دون أن نطرح أي سؤال «أنا من قاد المفاوضات وبسرعة أقنعت القذافي، لقد شعرت بان لي سلطة عليه، بعد أن وثق في».
ومنذ بداية مباحثاتنا خلال الرحلة الأولى وبعد أربعين دقيقة،طلب أن يتكلم معي بمفردي.وبعدها لما عدت إلى بنغازي، طلبت أن أعاود لقاءه، فقالوا لي ينتظرك بمفرده ذهبت بمفردي إلى خيمته، حيث كان يستقبل الجميع، وهناك استقبلتني أيضا زوجته مبروكة وبعدها أخذني إلى غرفة وأوصد الباب، وهناك قلت «أظن بأن القرآن يحث على العفو»، ثم أضفت «املك خبرا جيدا وهو أن سكان بني غازي لا يعارضون العفو وأنا أعدك بانفتاح ديموقراطي على العالم»، فأجابني «اطلب منك أن تقابلي ابنتي عائشة، أنت امرأة شجاعة وذكية، وأريدها أن تشبهك»، وهنا وجدت نفسي في مبنى فخم جدا يشبه بنايات هوليوود وأمامي امرأة شقراء طويلة القامة، كانت قامتها تقارب المتر وثمانين سنتيمترا، وأما عمرها فحوالي 30 سنة، إنها تشبه والدها، في صلابته وحدته.
قالت لي «يجب أن يكون ثمن الدم دما»، إنهن مذنبات. لقد كانت عائشة مثل سور الاسمنت المسلح».
مرحلة التجاذبات
ذهبت إلى كلود غيون والألم يكاد يفقدني أعصابي، وما إن وصلت إلى أسفل الطائرة حتى قدمت مبروكة زوجة العقيد القذافي جريا وقالت لي «العقيد موافق على طلباتك».
رجعت إلى باريس وفور وصولي كلمني العقيد القذافي على رقم هاتفي الجوال وسألني إن كنت راضية، لتبدأ مرحلة التجاذبات بين فرنسا وليبيا.
كان اليوم جمعة، فقلت لغيون سنعود إلى ليبيا غدا غير انه أجابني بـ «لا»، وعلى الرغم من رفض مستشاري نيكولا لعودتي مجددا إلى ليبيا لاستكمال المفاوضات، إلا أنني اختليت بالرئيس بعيدا عنهم وأقنعته، فرجع إلى الصالون حيث كان مجتمعا بمستشاريه وأقنعهم بدوره بالفكرة.
قلت لكلود غيون «سنذهب غدا» فأجابني هذه المرة «سأتبعك»، غير انه نصحني باصطحاب المفوضة الأوروبية المكلفة بالعلاقات الخارجية بينيتا فيريرو فالدنر، لم أكن متأكدة من ضرورة الأمر، لكني أجبت «اجل».
وصلنا في حدود الساعة الحادية عشرة صباحا إلى ليبيا، وهناك قيل لنا إننا سنلتقي العقيد معمر القذافي عند الساعة الثامنة والنصف مساء.
بحلول المساء ابلغنا بان القائد لا يستطيع لقاءنا، فذهبت عند الساعة منتصف الليل للقاء الناطق الرسمي وسألته «متى أرى القائد؟» فأجابني «انه نائم، وسترينه غدا».
تباحثنا إلى غاية الخامسة صباحا مع عدد من المسؤولين، وفي اليوم التالي أكملنا مباحثاتنا مع آخرين، ودائما في غياب القائد، ما دفعني إلى مهاتفة زوجته مبروكة، فأجابتني بأنه ينتظرني منذ الثامنة والنصف وأُبلغ بأني لا استطيع الخروج من الاجتماع.
شعور مفاجئ بالفشل
في المساء أخبرت من معي بأننا سنغادر عند الساعة الثانية صباحا مع أو من دون الممرضات البلغاريات، غير أن هاتفي رن فجأة، انه مصطفى، رجل الثقة بالنسبة للقائد معمر القذافي، يقول لي «القائد يريد رؤيتكم».
ذهبنا وقبل أن أراه، قال لي مصطفى ومبروكة، ان القائد ليس على ما يرام، تركاني لوحدي وانصرفا، فقال لي «أنت المفتاح، اقسم بذلك، ستغادرين برفقتهن».
انصرفت كالسارقة من الخيمة، حتى أني أضعت طريقي من شدة ما سمعت، عدت إلى الفندق، ثم توجهت إلى المطار برفقة غيون، وهناك قال لي «نحن على بعد 100 متر عن بلدنا».
صعدنا إلى الطائرة وبدأنا في البكاء مثل الأطفال.ثم قررنا انتظار الممرضات، لم أرد النزول من الطائرة وقلت، عندي مهلة إلى غاية الساعة الثانية صباحا.
في حدود الساعة الواحدة صباحا والنصف انتابتني حالة من العصبية فتوجهت إلى القاعة الشرفية، حيث كان كل الوزراء بالإضافة إلى الوزير الأول الليبي.
نجاح بعد 15 ساعة من المفاوضات
غادر الجميع ورأيت انا وكلود المواكب الرسمية وهي تغادر، والى غاية الدقيقة الأخيرة لم أكن اصدق بان ليبيا ستفرج عن الممرضات البلغار، غير أنهن وصلن في حدود الساعة الخامسة والنصف صباحا.
انتاب قائد الطائرة قلق شديد إلى غاية خروجنا من الإقليم الجوي الليبي، وفور إقلاعنا صفق الجميع لتهنئتي بهذا الانجاز، لقد قضيت 45 ساعة في المفاوضات دون أن تغمض عيناي لحظة واحدة.
غادرنا باتجاه بلغاريا وهناك بكيت طوال ثلاث ساعات كاملة، لم اشعر خلالها بما حصل إطلاقا، لقد كان ما حصل رواية حقيقية «أقول اليوم اني لم أُخلق في الأرض هباء واني استطعت أن أنقذ ستة أرواح، وهذا الانجاز يعجز الكثيرون من البشر عن تحقيقه».
سيسيليا اليوم فخورة جدا لأنها شجاعة واستطاعت إقناع العقيد القذافي بالإفراج عن الممرضات البلغاريات.
خوف قبل المغادرة
قبل أن تغادر سيسيليا قصر الاليزيه صرحت «اشعر باني مختلفة تماما عن الآخرين، فانا غير آبهة لا بالسلطة ولا بالمال». كانت سيسيليا تردد قبل الطلاق بأنها تشعر بالضيق وبألم شديد «أنا امرأة متحفظة وكتومة، كتومة جدا».
التزمت سيسيليا الصمت بعد إعلان خبر طلاقها ولم تعد تتكلم إلا قليلا.ومن جملة ما قالت ان نيكولا بخيل وانه كريم فقط حينما نكون معه وعندما نغادره فان لكرمه نهاية. وكلنا يتذكر ما روته ايزابيل بلكاني عندما غادرت صديقتها سيسيليا باتجاه نيويورك «نيكولا بخيل، وعندما عادا إلى نويي بعد استقالته من الحكومة لرئاسة الاتحاد من اجل الحركة الشعبية، لم يكن لسيسيليا رضيع، غير إنها كانت هي من يحمل الملابس إلى المغسلة، وأنا من أعطيتهم كراسي الصالون، وفي مقابل هذا أهداها ساعة رولكس من الذهب».
نفقة ضئيلة بعد الطلاق
تؤكد سيسيليا بأنها قبلت بنفقة لا تفي متطلباتها على الإطلاق، وفي الحقيقة المبلغ زهيد مقابل ما يتقاضاه رئيس الجمهورية، خصوصا بعد أن رفع مرتبه بنسبة 172 في المائة.
تقول سيسيليا كيف يمكن لي أن ادفع الإيجار، ذلك أنها غادرت شقة ساركوزي بنويي في 15 أكتوبر الماضي، مباشرة بعد توقيع معاملة الطلاق.
لم تكن سيسيليا تتحدث عن المال لما غادرت أول مرة برفقة ريتشارد اتياس، ذلك أن ريتشارد كان موجودا إلى جانبها، والمال لم يكن قضية بالنسبة لها.وأما هذه المرة، فريتشارد غير موجود، وهي وجها لوجه مع نفسها فقط، هي لوحدها، من دون رجل يسند كتفها.
لم تمر سيسيليا بأي مرحلة مشابهة منذ غادرت والدتها وتزوجت بجاك مارتان، غير أنها تقول إنها قادرة على العمل وتقول إنها ستعمل. لا نستطيع أن نطلب من سيسيليا ما الذي ستفعل، فهي لم تعمل أبدا ماعدا بعض الوقت مع والديها وبعدها مع زوجيها.
ينتاب سيسيليا خوف شديد من الأشياء التي تجهلها، ففي عينها ترى شعورا باللا أمن، فساركوزي لم يدفع نفقتها منذ أكتوبر، وكلمته هاتفيا في الموضوع بل وهددته بالحديث إلى الصحافة.
وسيسيليا لا تجهل على الإطلاق ان الصحافة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تضغط بها على نيكولا، لكنها تقول ان نيكولا يدرك تماما أنها لن تفعل ذلك.
متاعب مالية
لا يمكن أن نفاجأ أبدا من أن سيسيليا تحدثت مع ابنتها جيان ماري حول متاعبها المالية، خصوصا ان ابنتها كانت تنوي الزواج في عام 2008 من غيوفان. فما كان على جيان سوى أن تقترح عليها أن تأخذ لها صورة مع رجل حتى تتمكن بفضل عائداتها من تسديد تكاليف حفلة الزفاف.
سكتت سيسيليا برهة من الزمن ثم تساءلت «هل يمكن أن تباع صورة لي مع ريتشارد بـ500 ألف يورو؟ لأنه إذا ما كان الأمر حقيقيا، أريد فعلا أن أتقاسم العائدات مع المصورين الباباراتزي».
كان من الغريب جدا، ألا تقضي سيسيليا معظم وقتها أثناء الغداء في الحديث عن مشاكلها المالية.
(يتبع)
يليا (5) الطلاق وابتعاد ريتشارد يفقدانها أعصابها
هل ستنتهي سيسيليا إلى العثور على الحب والزواج ثالثاً؟
• سيسيليا برفقة صديقتها ماتيلد أغوستينلي
يتساءل الجميع كيف يمكن لامرأة أن تتخلى عن عرش فرنسا كله من اجل حب اكتشفته، وقد بلغت من العمر خمسين سنة؟ وكيف لها أن ترافق زوجها الى قصر الاليزيه، لتنسحب بعد فترة وقد أحدثت ضجة في الاعلامين الفرنسي والعالمي؟ ليس لأنها دفعت نيكولا ساركوزي الى توقيع معاملة الطلاق فحسب، ولكن لأنها تمكنت من تقديم نفسها في فترة قصيرة باعتبارها سيدة أولى لفرنسا، بعد الدور المحوري الذي لعبته في الافراج عن الممرضات البلغاريات اللواتي كن محتجزات في ليبيا.
أحبها ساركوزي واعترف بذلك على شاشة التلفزيون، أهداها رئاسة الجمهورية، لكنها أبت رغم أنها واحدة من الذين صنعوا مجده، منذ كان رئيس بلدية نويي.. أيمكن أن يدفع الحب الواحد منا الى التخلي عن كل شيء وهل يمكن أن يتغلب الحب على الجاه، والمشاعر على المنصب في حسبة المرأة؟!
أسئلة كثيرة طرحتها أنا بريتون صحفية مجلة لوبوان في كتابها الجديد «سيسيليا» الصادر عن دار فلاماريون، والذي تقدم «القبس» حلقات منه.
لقد نشرت الصحف الايطالية اخيرا خبرا مفاده أن سيسيليا قررت الارتباط بريتشارد اتياس في شهر مارس الجاري، الخبر يظل اشاعة، ذلك انه لم يتأكد، لكن الأكيد هو أن قصر الاليزيه استقبل ساكنة جديدة هي كارلا بروني، المغنية الايطالية وعارضة الأزياء، التي حاول ساركوزي من خلالها الانتقام لشخصه.
يقول الكثيرون ان هناك شبها كبيرا بين السيدتين شكلا ومسارا مهنيا، ولعل هذا السبب هو ما دفع ساركوزي الى التعلق بكارلا، التي ساهمت في نزول شعبية نيكولا ساركوزي وسط الفرنسيين، بعد أن صارت حياته الخاصة وتصرفاته حديث العالم بأسره.. قد تكون سيسيليا محقة في قرارها، وقد يكون نيكولا محقا أيضا، لكن الأهم هو أن نيكولا وسيسيليا صنعا ظاهرة اعلامية لم يسبق لها مثيل.
يقول رولان بارتس في كتابه «مقاطع خطاب غرام» ان سيسيليا كانت تلبس نظارات سوداء كلما ترددت على المطعم المفضل لديها، حتى لا يتعرف عليها العامة من الناس، كما أنها كانت ترتدي النظارات السوداء ذاتها في باريس خلال فصل الشتاء.
تخلع سيسيليا نظارتها فور جلوسها إلى طاولة بعيدة عن الأنظار، هي طاولة يختارها لها خصيصا صاحب المطعم، الذي يأتي دوما لتحيتها، مثلما يفعل مع أي شخصية كبيرة ومعروفة.
معجبة بعالم المال
غير أن سيسيليا كثيرا ما رددت بأنها تود العيش مثل بقية العالم و بأنها تود اقتناء حاجياتها بمفردها من مراكز التسوق.
كانت سيسيليا بعيدة كل البعد عن مراكز التسوق هذه وكانت مثلها مثل نيكولا معجبين بعالم المال وبعالم «هل رأيتني» وأيضا بعالم رولكس والخياطين الكبار.
قادت سيسيليا سيارتها الصغيرة بسرعة فائقة بعد توقيعها معاملة الطلاق في 15 أكتوبر الماضي، ولكنها سلكت الممر المخصص للحافلات، مخالفة القانون،وعلى الرغم من ذلك لم يوقفها عناصر الشرطة الذين لمحوها، وتقول سيسيليا إنهم لا يجرؤون على توقيفها، وأحيانا يوقفونها ثم يتركونها تذهب.
يقول بريس هورتفو صديق نيكولا ساركوزي «لا يمكن أن نقول ان سيسيليا لا تحب السلطة ولا ما يمكن أن تفعله السلطة»، ولهذا السبب تبقى الزوجة السابقة لصديقه لغزا مطلقا.
سقط بلاك بيري سيسيليا في الماء ،بعد شهر واحد من طلاقها وبسقوطه في الماء، ألغيت كل الأرقام الهاتفية التي كانت مسجلة على دليله، بما فيها أرقام الشخصيات النافذة في فرنسا، لقد كان جهاز البلاك بيري وسيلة مهمة بالنسبة لسيسيليا، التي كانت تستخدمه باستمرار .
تعترف بالتسرع
لقد اعترفت سيسيليا لمقربيها بأنها تسرعت في طلب الطلاق من اجل إقناع ريتشارد اتياس الاستمرار في حبها وبأنها مستعدة للتضحية من اجله، ومستعدة أيضا للتنازل عن منصبها في الجمهورية الفرنسية وعن تاجها وعن السلطة وكل الامتيازات، هي مستعدة للقيام بكل هذا أملا في استرجاع حب ريتشارد وثقته.
لقد كذبت سيسيليا عندما قالت انها لم تطلب الطلاق من نيكولا لترتبط بآخر، وكذبت أيضا حينما قالت بأنها سترحل من اجل نفسها فقط، حسبما أسرت به إلى أصدقاء لها، ساعات فقط قبيل توقيعها على معاملة الطلاق.
كانت سيسيليا تكذب، غير أنها لم تكن تملك شيئا آخر لتقوله. لقد طالبت بالطلاق بشكل يدفع كل واحد إلى فهم ما جرى على طريقته، غير أن نيكولا ساركوزي، فهم كل شيء وهو الأمر الذي وتره وأثار أعصابه.
لقد ثارت ثائرة نيكولا مرة أخرى، بعد ان خصت زوجته كل من مجلتي باري ماتش و«أل» بحوارين مطولين، حرصت فيهما على جمالية الصور التي رافقت تصريحاتها.
كان الطلاق أكثر من ضروري في تلك المرحلة، التي أرادت خلالها سيسيليا أن تبين لريتشارد مدى حبها له، وفي وقت حرصت فيه على القول انها لا تلتقيه إطلاقا.
لم يكن ريتشارد يود رؤيتها، فبقيت بمفردها رفيقة أولادها وإخوتها وزوجاتهم، لقد بقيت بين أحضان أسرتها من دون رجل يسند كتفها ويدعمها ماديا ومعنويا، وعن ريتشارد كانت تقول دوما انه خائف جدا، فعائلته وأصدقاؤه لا يتوقفون عن قول كل ما هو سيئ عنها.
لقد فقدت سيسيليا أعصابها، إلى درجة أنها طلبت مساعدة عدد من الوسطاء، لبعث علاقتها مع ريتشارد من جديد، وما كان عليها في تلك الفترة سوى الاستنجاد بصديقتها النيويوركية بياتريس ستارن، التي كانت متعودة على قضاء العطلة معها ومع ريتشارد.
حاولت بياتريس أن تكلم ريتشارد وكانت دوما تقول لها انه غير واثق تماما ويحتاج إلى المزيد من الوقت.
ريتشارد يبتعد خوفاً
التمست سيسيليا لريتشارد ألف عذر، فهي متفهمة جدا للوضع، ومستعدة أيضا للانتظار، لأنها مجبرة على ذلك، وعن ريتشارد تقول «لقد جعلته يعاني تصرفاتي التي صدمته كذا مرة، خصوصا في عمله، وبصراحة لم أتصرف بلياقة على الاطلاق معه، لقد قمت بما استطعت القيام به، غير أنني لم افلح».
وتضيف سيسيليا «يتخوف ريتشارد اليوم من أن أكون مزدوجة الشخصية، غير انه أجابها اعرف جيدا بان الطلاق هو أجمل اعتراف بحبك لي» لكنه أردف بالقول «غير أني أرى سيسيليا أخرى وأنا خائف منها».
تجيب سيسيليا «عندما نحب رجلا بصدق وعندما يحبنا بصدق، علينا أن نعيش الحب وان نقاوم كل الصعاب والمشاكل، وكان علي أن أعود من نيويورك لأنه لم يكن بمقدوري ان ابني حياتي من جديد دون أن اقضي على كل شيء من الماضي، لقد كان علي أن أعود حتى اتأكد من أن الصفحة طويت نهائيا».
وبالفعل طويت الصفحة تماما ،تبلغ سيسيليا اليوم من العمر 50 سنة، وعلى الرغم من أن ملامح العمر قد ظهرت على وجهها، لكن عينيها تشعان بريقا وحلما رومانسيا فـ«ريتشارد هو الرجل الوحيد الذي أحبته في حياتها» وتقول انها «لا تعتقد على الإطلاق أنها أحبت رجلا قبله».
تود سيسيليا أن تصبح وردة من جديد وان تعيش حبها وحياتها من جديد أيضا، كانت تريد أيضا أن تفقد بعضا من وزنها بمساعدة احد اخصائيي التغذية، حتى تشعر وكأنها في العشرين من العمر، غير أنها تبدو جميلة جدا بالكيلوغرامات الزائدة.
لقد قالت ساعات فقط، بعد إطلاق سراح الممرضات البلغاريات في ليبيا «قضيت 45 ساعة في التفاوض من دون أن اخلد دقيقة واحدة للنوم، ولم أتناول سوى قطع حلوى هلالية الشكل وحلويات بالعسل، وكنت أتناول واحدة كل ثلاث دقائق، غير أني فقدت كيلوغرامين». وتضيف سيسيليا متعجبة «لقد فقدت كيلوغرامين في 45 ساعة فقط».
لقد استطاعت سيسيليا، وهي تأكل حلويات بالعسل، أن تضع العالم كله على كتفيها في تلك اللحظات، غير أن هدفها كان نبيلا وجديا ولخدمة الآخرين «لم يخلق الإنسان ليعيش بمفرده، لقد خلقنا لنعيش أزواجا، لنترافق، مثلما هي الحال بالنسبة لاصابع اليد الواحدة».
كانت سيسيليا تقول دوما بأنها تحب الفخامة، لكنها تكره المال وترفض أن تقيم علاقة ما بين الحياة الجميلة والمال، غير أنها تؤمن بالقدر وبان القدر فقط سيجمعها بريتشارد وتؤمن أيضا بان الله يرافقها. فهي امرأة وهبت الحياة لثلاثة أطفال وأوصلت رجلا لرئاسة الجمهورية وأنقذت ستة أرواح، غير أنها تتساءل دوما وماذا بعد؟ هل هناك حياة لها بعد كل ما عاشته؟
سيسيليا تود أن تعيش وهي في الخمسين دون أن تحتاج إلى الآخر بشرط وحيد هو ألاَّ تتراجع، ذلك أن التراجع يمكن أن يحول حياتها إلى مرارة وكآبة وهذا أمر قبيح جدا بالنسبة لامرأة مثل سيسيليا، ضحت بكل شيء، لأجل أن تعيش بسلام مع حبها بعيدا عن الأعين، فهل ستتحقق رغبة سيسيليا في الزواج من ريتشارد، الذي ابتعد أكثر من أي وقت مضى؟ وهل ستصدق إشاعة الصحف الايطالية التي قالت أن العشيقين سينتهيان إلى الزواج هذا الشهر؟
(انتهى)
عــد 12 كتـــابا فـــي أدب الرحـــلات فايز فرح: بهرتني معجزة الإرادة الصينية.. والهجرة ليست طريقا مفروشا بالورود ب
«الكوريون يأكلون الكلاب ويشربون الثعابين، والحمير ترحب بالزائرين في قبرص، والكنديون ينتقمون من الشتاء»
هكذا يسجل فايز فرح انطباعاته عن الاماكن التى زارها في كتاب نشره اتحاد كتاب مصر بعنوان «اسفار وافكار» وصدر أخيرا في القاهرة.
المؤلف سبق ان اصدر 12 كتابا في ادب الرحلات والتراجم والنقد الاجتماعي من قبل، وسافر الى عشرين دولة بدعوة من حكوماتها او نقاباتها الصحفية والاذاعية، وهو يعمل بالصحافة إلى جانب الاذاعة منذ عام 1967.
يقول في مقدمة كتابه: هويت الاسفار منذ صباي، ولما كنت صغيرا لم يكن امامي الا أن اسافر على الورق بقراءة كتب ادب الرحلات، واستفدت كثيرا من الاساتذة الكبار: محمد حسنين هيكل، كمال الملاح، انيس منصور، الدكتور مصطفى محمود، الدكتور حسين فوزي، محمود عوض، فوميل لبيب، موسى صبري، محسن محمد، كامل زهيري، مصطفي غنيم، محمد ثابت، مصطفى بهجت بدوي.
في الكتاب يأخذنا المؤلف الى دمشق الفيحاء الجميلة، تذوق فستقها ويحكي قصة بناء جامعها الاموي، وفي تركيا نشم عبق الشرق، ونسير في شوارع اسطنبول مدينة التاريخ والمساجد العامرة، ويصحبنا المؤلف الى المطبخ التركي المشهور بروائحة الجذابة وتوابله الفاتحة للشهية، ومن تركيا الى قبرص يعبر بناالمؤلف في رحلة سياحية بعيدا عن السياسة، وهناك نرى الحمير ترحب بنا باللافتات والكلمات الرقيقة المكتوبة على جسمها، ويكشف عن ان الحمار القبرصي اشهر واقوى حمار في العالم.
ويتوقف فايز فرح في المجر، الدولة الاوروبية الصغيرة، يذكرنا بموسيقى الدانوب الازرق الذي يربط بين أكثر من دولة اوروبية، وهو اوسع ما يكون في بودابست العاصمة المجرية.
ويحكي المؤلف عن زياراته المتعددة للدول فيقول: زرت ايطاليا ثلاث مرات: الاولى 1970، والثانية 1975، والثالثة 2000، ولم تعجبني في الزيارة الاخيرة، فوجدت نفسي اتساءل: ماذا فعل الزمان بك يا ايطاليا؟ في كوريا وجدت الناس هناك تأكل الكلاب، وتشرب الثعابين، أما في الصين فقد بهرتني معجزة الارادة الصينية المعتمدة على العقل والعلم والثقافة.
وتحت عنوان «الهجرة ليست طريقا مفروشا بالورود» يحكي المؤلف ان سفير مصر في كندا حمدي ندا قد دعاه الى طعام الغداء مع بعض المهاجرين، وأنه قال في اجابة عن مدى استيعاب المجتمع الكندي مهاجرين جددا: اعتقد انه من الممكن، فكندا تستطيع ان تستوعب مهاجرين جددا، لكن المهم ان يجد المهاجر العمل المناسب له، لأن هناك اعمالا او مهنا لا تحتاجها، وكندا تحتاج الى من يتخصص ويعمل في مجال التكنولوجيا والكمبيوتر وبعض الصيادلة.. والهجرة ليست طريقا مفروشا بالورود.
وينتقل المؤلف الى باريس التي عرفها منذ صباه، كما يقول، عندما انعم الله عليه بنعمة حب القراءة، ومن خلال مصادقته لفلاسفتها ونجومها عاش المؤلف سنوات باريسية وهو لا يزال بعد بالقاهرة ويقول: ضحكت لأعمال «موليير» وأعجبت بدعوة «جان جاك روسو» إلى العودة للطبيعة والتمتع بها، وحفظت مقولة فولتير الساخرة «اضحك ودع غيرك يضحك» ثم شعاره «فكر ودع غيرك يفكر»، وانحنيت اعجابا بقصة كفاح «ماري كوري» العالمة البولندية الاصل والفرنسية التىعاشت على الكفاف، وعانت من الفقر والمرض حتى اهدت العالم اكتشافها المهم لمادة الراديوم التي تستخدم في علاج مرض السرطان، فاعترف بها العالم وأهداها جائزة نوبل مرتين.
ويضيف فرح: وهل انسى المهندس «جوستاف إيفل» الانسان العنيد عاشق الحديد، الذي اكتشف اهمية استخدام الحديد في البناء، وغير ذلك كثير عرفته عن فرنسا وباريس مدينة النور والثقافة واللهو والمتعة، بل كنت في شبابي اعتبر باريس إلى جانب نور العلم والثقافة مدينة ابليس واللذة والمتعة والعري والسهرات الحمراء والزرقاء وغير ذلك.
ويعبر المؤلف عن شعوره عندما دخل باريس حقيقة بجسمه قائلا: كان من حسن حظي ان اسكن في فندق «كمبانيل» في حي هادئ من باريس وعلى شاطئ نهر السين مباشرة، متعة الهدوء وجمال نهر السين النظيف جدا الذي يقسم باريس الى قسمين: شمال وجنوب، كذلك يقسم الباريسيون ضفاف نهر السين على مشاهيرهم ونجومهم ويطلقون اسماءهم عليها، فهذا شاطئ فولتير، وتلك ضفة أناتول فرانس، وهذه لفيكتور هوغو، وهكذا..
ويتوقف المؤلف في الفاتيكان، فتحت عنوان للفاتيكان والابداع التشكيلي يكتب فرح ان العالم كله اتجه الى روما عام 2000 للاحتفال بيوبيل سنة 2000 لميلاد السيد المسيح، وأهمية روما وجود دولة الفاتيكان بها، والفاتيكان ليست عاصمة الكاثوليك وحسب في العالم، بل هي عاصمة الفن الجميل والابداع التشكيلي لعمالقة الفن في عصر النهضة.
ويضيف المؤلف «كنت مهتما اثناء زيارتي للفاتيكان بزيارة «كابلة سكستين» لأشاهد روائع مايكل انجلو، وكابلة سكستين هي كنيسة صغيرة تلحق بكاتدرائية القديس بطرس بالفاتيكان، وهي من اروع واكبر كنائس العالم، وقد كلف البابا سيكستوس الرابع المهندس المعماري جيوفانينو دي دولتش ببناء كابلة تلحق بالكاتدرائية الكبيرة سنة 1473 لتخليد اسمه ولتكون كنيسته الخاصة، وانتهى الفنان من بنائها سنة 1481، وبلغ طولها اربعين مترا وعرضها 13مترا وارتفاعها واحدا وعشرين مترا، كما عهد البابا الى كبار الفنانين بزخرفة سقفها وجدرانها، وتم افتتاحها بعد ذلك رسميا في 15 أغسطس 1483، وعندما جاء البابا يوليوس الثاني لم يسترح لسقف الكابلة الذي كان يمثل سماء زرقاء تزينها نجوم مذهبة، وكان هذا البابا محبا للفن، معجبا بعبقرية مايكل انجلو، ومن هنا طلب منه اعادة رسم سقف الكنيسة، وتردد الفنان في البداية، لكنه وافق على طلب البابا في سنة 1508 وظل اربع سنوات يعمل ويبدع راقدا على ظهره او راكعا على ركبتيه على عوارض خشبية وسقالات ارتفاعها 18 متراً، والفرشاة في يده ليل نهار حتى انجز هذا العمل الكبير.
شادي صلاح الدين
أستاذ تاريخ الشرق الأوسط، والشرق الأدنى في جامعة لندن، المؤرخ والمستشرق الانكليزي، البروفيسور برنارد لويس، الذي قدم مجموعة من المؤلفات عن المنطقة «جذور الاسماعيلية، العرب في التاريخ، ظهور تركيا الحديثة، اسطنبول وحضارة الامبراطورية العثمانية، الشرق الأوسط والغرب» ــ هو صاحب الكتاب موضوع عرضنا.
ظهر الكتاب في الوقت الذي تفجر فيه الصراع العربي - الاسرائيلي عام 1967، الأمر الذي لفت أنظار العالم بشدة الى المنطقة. تابع المؤلف تاريخ فرقة الحشاشين منذ البداية وحتى قضى السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، على قوتهم، وأصبحوا مجرد تابعين له يعين رئيسهم ويعزله وقتما يشاء، بل يسجنه، وقد يموت هذا الرئيس في سجنه كما حدث مع سريم الدين مبارك حاكم قلعة «العليقة»، الذي سجنه بيبرس عند مخالفته الاوامر ويصل الى حصاره لقلاعهم، ثم احتلالها بعد ذلك عام 1273.
وقبل أن ندخل الى الكتاب يهمنا التوقف لملاحظة نراها جديرة بالنظر، وهي خاصة بالمترجم محمد العزب موسى، فقد تجاهل ترجمة الجزء الأخير من الكتاب، وهو الذي يحتوي على مجموعة المصادر التي رجع اليها المؤلف، والذي أعطاه عنوان «ملاحظات»، ويقع في عشرين صفحة، ويقول المترجم في ذلك «.. حتى لا يشق على القارئ»، وهو قول لا يعطيه هذا الحق في اقتطاع جزء مما يريد المؤلف ايصاله الى قارئ كتابه، ومن المعروف أن من يفكر في قراءة مثل هذه النوعية من الكتب يهمه بالمقام الأول مدى ما يوفره الكتاب من مراجع.
اكتشاف الحشاشين
تحت عنوان «اكتشاف الحشاشين» يبدأ المؤلف كتابه حيث يعود بنا الى النصف الأول من القرن الرابع عشر عندما كان فيليب ملك فرنسا يجهز لحملة صليبية جديدة، وجه له قس ألماني بروكاردوس رسالة يقول فيها «.. اذكر الحشاشين الذين ينبغي أن يلعنهم الانسان ويتفاداهم، انهم يبيعون أنفسهم، ويتعطشون للدماء البشرية، ويقتلون الأبرياء مقابل اجر».
وفي سجلات الصليبيين عموما كانت كلمة الحشاشين تعني «تلك الفرقة الاسلامية الغريبة التي يتزعمها شخص غامض يعرف بشيخ الجبل، وهي فرقة مكروهة بسبب عقائدها وأفعالها، من جانب المسيحيين والمسلمين على السواء».
وفي رسالة مبعوث فريدريك الثاني الشهير بـ«بارباروسا» أو «الزنديق الأعظم» الى سلطان مصر قطز في محاولة لتحذيره من الحلف الذي يدبر بين البابا انوسنت الرابع وخان المغول بشأن غزو مصر، ونلحظ من خلال الرسالة مدى التشابه بين نشأة شباب الحشاشين وبين ما هو معروف عن نشأة المماليك حيث العزلة التامة هي الحصن الأساسي الذي تتم عبره مراسيم تلقين الطاعة العمياء، ويأتي ثمة اختلاف مهم بين الاثنين حيث تزيد الجرعة الموجهة للمريد عن جرعة المملوك، فالأول يتم تدريبه على مجموعة من اللغات حتى يصبح قادرا على التحدث بأكثر من لغة بصورة يصعب كشف غربته عنها، في حين تقول مصادر التاريخ أن بعض من تسلطن من المماليك لم يكن يستطيع الحديث بالعربيـة، وهذه التدريبات هي أهم سلاح يعطى للفدائي ــ حسب التعبير السائد لدى الفرقة ــ فهو مفتاح الدخول للمكان المعين له القيام باغتيال الشخصية التي قرر أصحاب الأمر في الفرقة اغتيالها
وهناك تشابه آخر بينهم وبين المماليك من حيث الأخذ بمنطق أن الحكم والزعامة للأفضل الذي هو الأقوى والأعلى تأثيرا وان كانوا قد اخذوا بالوراثة في اخرياتهم لكنها وراثة غير مستقرة، فقد كانت الأمور كما هي من حيث أن القاعدة تظل بحيث تكون الرئاسة للأقوى ولا دخل لأولوية الوقوف في طابور التوريث.
يلقي المؤلف الضوء على مجموعة من النقاط منها التصور العام بكيفية حياة زعماء الحشاشين وقد وصف الرحالة ماركوبولو قلعة «ألموت»، وهي المقر الأساسي للــــفرقة، «..ولذا فقد نظمها بالوصف الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، للفردوس كحديقة جميلة تفيض بانها من الخمر واللبن والعسل والماء مليئة بالحور العين..».
كما تعرض لتأثير فكر الحشاشين في السياسات الأوروبية، فقد استغل الحكام الأوروبيون هذا الفكر وروجوا اشاعات تنفى عنهم القيام بالاغتيال السياسي والقاء التهم على الفرقة، وهي السياسة التي مازال الغرب يتبعها في الوقت وتلقي الحالي فيصفى خصومه ويلصق التهمة بالمسلمين.
ويعرض لأول محاولة غربية في تتبع علمي لتاريخ الفرقة في الدراسة التي نشرها دنيس ليبى دي باتيلي عام 1603م، وفيها يقول «..ليضيفوا على منطق العنف العاري غطاء أيديولوجيا براقا»، ويصل الى الجهود الأخرى التي حاولت تتبع نشأة الفرقة وكيف حصلت على اسمها الذي أخذته من اسماعيل بن جعفر ليصل نسبهم الى الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وآل وأصحابه، وماذا قال المستشرق النمسوى جوزيف فون هامر «الذي وضع الحشاشين وفرسان المعبد والجيزويت وحركة الاستنارة والبنائين الأحرار وقتلة الميثاق الوطني الفرنسي، في كفة واحدة من موضع المقارنة باعتبار أن كل هذه الفرق اعتمدت العنف نموذجا للعمل تسير على هديه في كل ما تقوم به من أعمال، وظلت المعلومات حول الفرقة يتوالى ظهورها حتى نهاية الحرب العالمــــية الأولى ( 1914- 1918) والجدير بالذكر أن مجهودات الدارسين الروس قدمت مجموعة كبيرة من المخطوطات أسهمت في التقدم الكبير الذي أحرزته الدراسات حول الاسماعيلية» وبفضل هذه الدراسات الحديثة لم يعد الحشاشون مجرد عصابة من السذج المخدرين يقودهم أفاكون مدبرون للمكائد، أو مؤامرة لارهابيين عدميين، أو جماعة من القتلة المحترفين، وهى نتيجة مهمة ــ فيما نرى ــ وان كانت ماتزال غير مفعله، حيث لم يغير الغرب من نظرته تجاه من يقوم بمقاومة الاحتلال ويعتبرونه ارهابيا، وأيضا لا يزال الخلط الغربي قائماً حيث أنهم لا يفرقون بين السنة والشيعة، ويعتبر من يخالفهم من الاثنين ارهابيا.
في الفصل الثاني يتعرض المؤلف للتاريخ المفصل للاسماعيلية بداية من أول أزمة بعد وفاة النبي عام 632م وما حدث في البيعة والخلافة حتى استخلاف عثمان ثم قتله، وتولى علي ومقتله هو أيضا، وحالة التوسع الاسلامي الأمر الذي أدخل ثقافات كثيرة أثرت على محصلة الثقافة الاسلامية في ذلك الوقف وبدأ نوع من التداخل بين الشريعة والخرافة في خلطة «يهودية مسيحية وثنية» أفرزت كماً يصعب حصره من الفرق وأشباهها.
ويصل المؤلف الى عهد الخليفة السادس في دولة الفاطميين في مصر، ذلك الذي اختفى في ظرف غامض عام 1021، فقال البعض بأنه استتر وقال البعض الآخر انه مات وعليه تم اختيار من يخلفه وانشق الكيان، وأحد المنشقين هو محمد بن اسماعيل الدرزى وهو من اصل وسط أسيوي، ويقال انه كان تزرياً.
وهنا يثور سؤال يقول هل هناك اثر لتحريف النطق الذي يحدث عند الغربيين من الأسماء العربية والشرقية، فأصبح الترزي درزياً؟!
هذا ان صح ان محمد بن اسماعيل قد مارس الحياكة، كما يقال.
المهم أن أتباع هذا الرجل هم من يطلق عليهم الآن اسم الدروز، وهم طائفة تتواجد ما بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة؟ (اسرائيل).
ورجوعا الى الدولة الفاطمية، وموت الحاكم بامرالله وصولاً الى المسنتصر، وهو الثامن منـهم ( 1036 - 1094) وصلت الدولة لأعلى نقطة، وبعده بدأت في التمزق، كانت الدولة في يد الادارة الحكومية، والهيئة الدينية والقوات المسلحة الأولى في يد الوزير، و الثانية في يد داعي الدعاة، أما الثالثة، فكان أمير الجيوش هو من يملك زمامها، ومنذ اختفاء الحاكم بدأ نفوذ قواد الجيوش في الزيادة والجور على باقي الثلاثة وحدث هذا بداية من استدعاء المستنصر لبدر الجمالي عام 1074 قائداً للجيوش، سرعان ما أصبح السيد الفعلي للبلاد واصبح يحمل الألقاب الثلاثة مجتمعة، وأن ظل العامة يطلقون عليه لقب «الجيوشي»، وعند وفاة المستنصر كان الأفضل بن بدر الجمالي هو رجل الدولة القوي، وكان قد دبر زواج ابنته من المستعلي ابن المستنصر الأصغر فاقامه مكان والده المتوفى متجاوزا ولي العهد الشرعي نزار ــ الشقيق الأكبر للمستعلي، وهو شقاق وتصدع جديد يصيب الدعوة الشيعية، وعندما توفي أخر الحكام الفاطميين، أعلن رجل مصر القوي ــ وقتها ــ صلاح الدين، الدعاء للخليفة العباسي الجالس في بغداد، وبهذا رجعت مصر سنية بعد اكثر من قرنين من الزمان، وشهدت الأيام ذهاب اتباع المستعلي الى اليمن والهند ليأخذوا لقب «البهرة» ومنهم الجماعة التي تتولى شؤون مسجد الحاكم بأمر الله في القاهرة، وأما اتباع نزار فقد يمموا ناحية الشرق، وكانوا على موعد مع ثورة عبقرية قدمها لهم وللعالم حسن الصباح، وهو ما يفرد له المؤلف الفصل الثالث وفيه يعرض لمسألة طال الأخذ والرد فيها، وهي التي تجمع بين كل من الشاعر عمر الخيام، الوزير نظام الملك، وحسن الصباح والتي يقال فيها أن الثلاثة تتلمذوا معا، وأنهم تعاهدوا أن من ينجح منهم، يمد يد المساعدة للآخرين.
ومرحلة ما بعد حسن الصباح هي قوام الفصل الرابع التي يعرض فيها المؤلف الى خلفاء، ويتوقف عند الثالث حسن بن محمد بن بزر حميد الذي أعلن ما اسماه بـ«القيامة»، أفرد برنارد لويس الباب الخامس من كتابه، والذي جعل عنوانه «شيخ الجبل» حيث يرجع الى بداية الدعوة الجديدة التي قادها حسن الصباح الذي أرسل دعاته الى الغرب (سوريا) وكان اختياره هذا مبنياً على أساس الجغرافيا التي تجعل منها مكانا استراتيجيا، اضافة الى ما كان يكتنفها من انتشار لحالة من التشرذم العقائدي، الذي يستتبعه بالضرورة تشرذم سياسي، وما أشبه اليوم بالبارحة.
الفصل السادس يعرض المؤلف لسياسة الفرقة، ويبين وجهة نظره في أهم نشاطاتهم «الاغتيال»، وهو بداية يأخذ تعريفا للارهاب من دائرة معارف العلوم الاجتماعية «الارهاب تمارسه منظمة محدودة صغيرة، وتلهبه أهداف واسعة النطاق يضمها برنامج متماسك ترتكب من اجله الأعمال الارهابية».
ويتوقف في النهاية ليعترف بأن الأمر يحتاج لأكثر من مجرد النظرة السطحية والحكم الانطباعي، وانه يجب دراسة أمور الاسلام بعمق حتى يمكن الوصول الى رأي مستند الى معلومات وافية تمت دراستها باستفاضة!
محمد الزرقاني
الكتاب: الحشاشون
تأليف: برنارد لويس
ترجمة: محمد العزب موسى
الناشر: مكتبة مدبولي
قطع صغير 203 صفحات
y>تأليف: غسان شربل
«العراق من حرب إلى حرب... صدام مرّ من هنا» عنوان الكتاب الجديد لرئيس تحرير «الحياة» الزميل غسان شربل، هو السادس من مؤلفاته التي صدرت ضمن سلسلة «يتذكر»، وتضمنت حوارات مع جورج حاوي عن «الحرب والمقاومة والحزب» وخالد مشعل عن «حركة حماس وتحرير فلسطين» اضافة الى «ذاكرة الاستخبارات» و«لعنة القصر» و«اسرار الصندوق الاسود».
والكتاب الجديد الذي يصدر عن «دار رياض الريس»، ويتضمن مقدمة وحوارات مع حازم جواد وصلاح عمر العلي ونزار الخزرجي وأحمد الجلبي، موثق بالارقام والتواريخ ويقع في 395 صفحة من الحجم المتوسط وعلى غلافه الاخير كُتب «يشهد العراق منذ عشرات السنين اضطرابات لا مثيل لها، سياسية، اقتصادية، اجتماعية ومجازر يومية تودي باعداد كبيرة من البشر وكأنهم لا بشر. هذا ما يشهده بلد من اغنى البلدان العربية ثروة وثقافة وتنوعاً وحضارة».
وفي الكتاب شهادات واعترافات مدهشة لاربعة من كبار رجالات هذا البلد السياسيين والعسكريين. والمحور الرئيسي للكتاب هو صدام حسين الذي اختزل العراق بحزب حاكم واختزل الحزب بشخصه. وتنتهي العبارة بالقول ان «الحكم للتاريخ».
واختارت «القبس» من الكتاب مقدمته والحوار مع الفريق اول الركن نزار الخزرجي الذي كان رئيساً لهيئة الاركان في الجيش العراقي في الثاني من آب (اغسطس) اليوم المشؤوم لغزو الكويت. بعض المعلومات كان نُشر في الاعلام المكتوب ونُقح لاحقاً تمهيداً لجمعه في الكتاب.
______________بعد غزو الكويت لن يعرف أحد أين سيمضي صدام ليلته وفي أي غرفة سينام وسيزداد تعلقاً بمسدسه وبالعيش السري الذي أدمنه_____________________
__________________________صدام تولّى شخصياً التخطيط لغزو الكويت بحضور حسين كامل وقريبه علي حسن المجيد________________________________
شعرت بشيء من القلق حين وقفت قرب جدار برلين المتداعي. كان الجدار حدود دولة وحدود امبراطورية. ألقت دولة الجدار بنفسها في أحضان الوطن الأم. وانسحبت الامبراطورية لتندحر وتنتحر. ومن الحطام السوفيتي ستولد روسيا وقياصرتها الجدد. وستفوز الولايات المتحدة بلقب القوة العظمى الوحيدة. وسيولد لها في بداية القرن الجديد أعداء جدد بلا عناوين معروفة. سيدمون رموز نجاحها وهيبتها وسترد بما يدمي أكثر من دولة ومنطقة.
بعد أربعة عشر عاماً شعرت بخوف عميق حين شاهدت، من بعيد، دبابة أميركية تقتلع تمثال صدام حسين ونظامه وتجول في شوارع بغداد. كان المشهد أكبر من القدرة على الاحتمال. فهذه بغداد، كائناً من كان حاكمها، لاسمها رنّة في تاريخ العرب والمسلمين. وهذا العراق، كائناً ما كان نظامه، شرايينه موصولة بشرايين المنطقة. مقلق حين يكون قوياً. ومخيف حين يستضعف أو يستباح.
يقول التاريخ إن ليس من عادة سيّد بغداد أن يتقاعد. خياراته محدودة: القصر أو القبر. عليه أن يستعد دائماً لغزو مدمّر. شهيّات الامبراطوريات المحيطة مفتوحة. وعليه أن يتنبه لمكائد الداخل ومكائد الخارج. طعنة غادرة. أو لسعة سمّ. أو خروج منقذ ناقم من عتمات الثكن. وفي هذا السياق يبدو صدام حسين ابناً شرعياً لهذا النهر من القساة. طبيعياً في صعوده حتى التسلط المطلق، وطبيعياً في نهايته معلَّقاً وسط صيحات الثأر.
لا العراق بلد عادي عابر في تاريخ المنطقة.. ولا صدام حاكم عادي في تاريخ العراق الحديث. لهذا كان مشهد الدبابة الأميركية مخيفاً. نجحت أوروبا الغربية المستقرة في احتواء سقوط جدار برلين. فشل الشرق الأوسط الهش والمضطرب في احتواء سقوط جدار صدام حسين. وبدا باكراً أن اقتلاع التمثال يعني اقتلاع أشياء كثيرة. معادلات وتوازنات. بعده لن يكون العراق ما عرفناه. سيتدفق النفوذ الإيراني عبر البوابة الشرقية للعالم العربي. سيحجز ورثة الإمام الخميني موقعاً لبلادهم على المتوسط وستنهمر صواريخ حلفائهم على إسرائيل من جنوب لبنان وبعده من غزة. تركيا أيضاً لن تكون تركيا السابقة. سقط الضلع العربي من المثلث الإيراني ـ العراقي ـ التركي. ولا بد من الانتظار طويلاً لمعرفة ما إذا كانت عودة هذا الضلع العربي واردة. كان نظام صدام من ركائز نظام الأمن العربي على رغم مغامراته وتهوراته. بعد سقوطه ستضطرب علاقات العراقيين بالعراقيين وسترشح دماً. علاقات السنّة بالشيعة. وعلاقات العرب بالأكراد. وللمرة الأولى سيكون لإقليم كردستان علم ونشيد ورئيس اسمه مسعود برزاني بكل ما يثيره الاسم من مشاهد وذكريات. وسيفيض الخلاف السنّي - الشيعي لاحقاً عن حدود العراق، خصوصاً حين سيشعر العرب بإرهاصات ولادة شرق أوسط جديد من الفشل الأميركي في العراق. منطقة من أربعة لاعبين هم إيران وتركيا وإسرائيل والعرب. وليس سراً أن اللاعب الرابع هو الأضعف.
4 مشاهد هزت المنطقة
أربعة مشاهد هزّت المنطقة في حفنة أعوام وتركت بصماتها على العلاقات بين دول وشعوب وتنظيمات واتجاهات: المشهد الأول مشهد الدبابة الأميركية تجول منتصرة في عاصمة الرشيد. المشهد الثاني صورة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري يسقط بفعل عملية اغتيال انتحارية اغتالت أيضاً حقبة من العلاقات اللبنانية - السورية وحقبة من العلاقات اللبنانية - اللبنانية. والمشهد الثالث عجز إسرائيل عن تأديب «حزب الله» اللبناني وعن وقف انهمار صواريخه «الإيرانية»على مدنها. والمشهد الرابع إسرائيل تشن عدواناً مجنوناً على غزة تحتفظ «حماس» بعد توقفه بقدرتها على إطلاق الصواريخ وبمأزقها منذ نجاحها في طرد السلطة الفلسطينية و{فتح» من القطاع.
لم تعارض إيران قيام الآلة العسكرية الأميركية بسحق نظام طالبان المعادي لها في أفغانستان. ولم تعارض مغامرة جورج بوش العراقية، ويمكن القول إنها سهّلتها حين سمحت للقوى الشيعية العراقية الحليفة لها بالانضواء في معارضة سعت واشنطن إلى لحم أجزائها الشيعية والكردية تمهيداً للغزو. لكن إيران سرعان ما شعرت بوطأة وجود القوات الأميركية قرب حدودها، ومن جهتين، فبدأت معركة استنزاف المشروع الذي حمله الغزو. سوريا انتابها القلق أيضاً. وهكذا تدفق الانتحاريون إلى العراق يُسعفهم التخبط الأميركي الذي بدأ بقرار الحاكم المدني الأميركي بول بريمر حل الجيش العراقي. مشهد اقتلاع نظام صدام أطلق المخاوف والتوترات وأطاح توازنات وصمامات أمان. وعلى خلفية ذلك المشهد حدثت المشاهد اللاحقة. وللمؤرخين لاحقاً أن يتحدثوا عن الترابط بين المشاهد أو بعضها.
.. ومشاهد عراقية
قبل المشاهد الأربعة هذه استوقفتني مشاهد عراقية. بعد اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية في أيلول (سبتمبر) 1980 أوفدتني «النهار» اللبنانية لتغطية التطورات. نظمت السلطات العراقية رحلة للصحافيين إلى بلدة مهران الإيرانية الحدودية فور سقوطها في يد القوات العراقية التي اجتازت خط الحدود الدولية. رأيت جنديين عراقيين يصطحبان عجوزاً إيرانياً إلى مكان آمن واستوقفني الخوف العميق المسيطر على ملامحه. وسألت نفسي ليلاً عن موعد الثأر الإيراني لا سيما بعد أن أطلق العراق على الحرب تسمية «قادسية صدام»، في نبش صريح لجروح المواجهات بين العرب والفرس.
المشهد الثاني كان مجيء صدام حسين بالبزة العسكرية لعقد مؤتمر صحفي. كان الشعور بالقوة يفيض من عينيه وابتسامته، فقد توغل جيش البعث في لحم إيران المقيمة في عهدة نظام «الثورة الإسلامية». ورحت أفكر في استحالة رضوخ آية الله الخميني الذي لن يتردد بعد ثمانية أعوام في تشبيه قبول وقف النار مع صدام بتجرع كأس السم. وحين سأل أحد الصحافيين الرئيس العراقي عن مستقبل إيران ردّ بأن الأمر تقرره «الشعوب الإيرانية». وبدا صدام حسين كمن يحلم بتفكيك إيران وشطب هذا الخطر مرة واحدة.
المشهد الثالث إبان حرب المدن. بث التلفزيون العراقي صورة للرئيس القائد يأمر بتجهيز القوة الصاروخية لإمطار المدن الإيرانية.
المشهد الرابع كان حين توافدنا لتغطية أعمال القمة العربية في بغداد في أيار (مايو) 1990 صافح صدام ضيوفه وعانقهم. وظهر جلياً في خطواته زهو «الانتصار». ولم يكن ليرضى بأقل من شطب الديون التي رتبتها الحرب على بلاده والاعتراف له بالزعامة العربية وبالموقع الأبرز في الإقليم. تصرّف وكأنه دافع عن العراق ودول الخليج في آن. وتحدث بوصفه «حارس البوابة الشرقية» للعالم العربي. كان بين الحاضرين أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح الذي وعده صدام بتلبية دعوته وستكون الزيارة باهظة للعراق والمنطقة. باجتياحه الكويت قامر صدام بنظامه وشخصه. اصطدم بالإرادة الدولية التي نبذته وعاقبته. اقتلع التحالف الدولي عبر «عاصفة الصحراء» أنياب ترسانته لكن بقي له منها ما يكفي لسحق انتفاضتي الشيعة والأكراد. أقام سيد بغداد جريحاً يناور ويداور للالتفاف على الحصار والعقوبات التي آلمت العراقيين أكثر بكثير مما آلمت الحاكم المتحكم. وفي العقد التالي ستجيئه الطعنة القاتلة من حيث لا يدري. أطلق أسامة بن لادن «غزوتي نيويورك وواشنطن» واختارت إدارة بوش اقتلاع نظام صدام متكئة على ذرائع سيتضح بطلانها لكن بعد فوات الأوان.
* * *
باكراً رن جرس الهاتف في منزل الفريق أول الركن نزار الخزرجي رئيس أركان الجيش العراقي. إنه الثاني من آب 1990 سارع إلى مقر القيادة العامة فاستقبله سكرتيرها العام الفريق علاء الجنابي بجملة قصيرة قاتلة هي «أكملنا احتلال الكويت». شمّ الخزرجي رائحة الكارثة وشعر بالإهانة. بعد قليل وصل وزير الدفاع عبدالجبار شنشل فعاجله الجنابي بالجملة نفسها. هذا يحدث في العراق وحده. يجتاح الجيش بلداً مجاوراً من دون معرفة رئيس الأركان ووزير الدفاع. لم يكن الاعتراض وارداً، ففي جمهورية صدام حسين لا تجرؤ سبابة على الارتفاع.
بعد أيام سيأتي من يأخذ الرجلين للقاء «السيد الرئيس» وكالعادة يبقى مكان اللقاء سراً. أُدخلا إلى كارافان (مقطورة) في منطقة الرضوانية ثم جاء صدام. تذرع بأنه أراد الاحتفاظ بعامل المفاجأة، ولم يتردد في القول إنه «حرّر الكويت» بالوحدات التابعة له مباشرة.
الرجل المطلوب
لم تظهر عليه أمارات الابتهاج. كانت ردود الفعل الدولية شديدة. صار الرجل مطلوباً كأن مذكرة اعتقال أو اغتيال صدرت بحقه. باستثناء مرافقيه المقرّبين، لن يعرف أحد، بمن فيهم رئيس الأركان، أين سيمضي ليلته وفي أي غرفة سينام. وسيزداد تعلقاً بمسدسه وبالعيش السري الذي أدمنه.
هذا ما رواه لي الخزرجي في قرية سوغو الدانمركية في ليلة مثلجة. قال إن صدام تولّى شخصياً التخطيط لغزو الكويت بحضور صهره حسين كامل وقريبه علي حسن المجيد الملقّب بـ «الكيماوي» وكشف أن تقريراً من الأخير كان وراء قرار صدام توجيه «ضربة خاصة» أدت إلى إغراق حلبجة في مجزرة تقشعر لها الأبدان. وأكد أن صدام كان معجباً بتجربة الزعيم السوفيتي جوزف ستالين وأنه ربما كان يعتقد نفسه القائد الأبرز بعد صلاح الدين.
بعد شهرين من توليه الرئاسة شارك صدام حسين في أيلول (سبتمبر) 1979 في قمة لحركة عدم الانحياز عقدت في هافانا. استقبل في مقر إقامته وزير خارجية إيران الدكتور ابراهيم يزدي الذي عيّن في هذا المنصب بعد انتصار «الثورة الاسلامية». كان صلاح عمر العلي مندوب العراق لدى الأمم المتحدة حاضراً. وصلاح رفيق قديم لصدام. كان إلى جانبه ساعة الاستيلاء على القصر في 17(يوليو) 1968 وكان بعد ذلك النهار عضواً في مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث.
حديث هافانا
كان اللقاء «بنّاء وإيجابياً» في الظاهر. خرج بعده صدام إلى الحديقة وتبعه صلاح الذي حاول تشجيع الرئيس على تحسين العلاقات مع إيران الخميني رغم ما تثيره من حساسيات ومخاوف. فجأة قال صدام «يا صلاح انتبه. هذه الفرصة قد لا تتاح مرة كل مائة سنة. الفرصة متاحة اليوم. سنكسر رؤوس الإيرانيين وسنعيد كل شبر احتلوه. وسنعيد شط العرب».
حدّق صلاح مذهولاً، فأضاف صدام «هذا الكلام عن حل سلمي وإنساني وتصفية المشاكل مع إيران لا أريده أن يتكرر على لسانك إطلاقاً. حضّر نفسك في الأمم المتحدة. اسمع ما أقوله لك. سأكسر رؤوس الإيرانيين وأُرجع كل شبر من المحمرة إلى شط العرب».
بعد عام على حديث هافانا ستندلع الحرب العراقية الإيرانية متسببة في سقوط مئات آلاف القتلى وكوارث إنسانية ومالية. ولدى توقفها بعد ثمانية أعوام لن يخفي الزعيم العراقي بهجته: «عشت حتى سمعت الخميني يتحدث عن تجرع السم وقبول وقف النار». لكن الخارج «منتصراً» من «قادسية صدام» والمبتهج بلقب «حارس البوابة الشرقية» لن يتأخر في تنفيذ عملية انتحارية هي غزو الكويت.
هذا ما سمعته من صلاح عمر العلي الذي روى أيضاً قصة دخوله مع صدام مسلحين بالرشاشات إلى مكتب الرئيس أحمد حسن البكر للتخلص من رئيس الوزراء العابر عبد الرزاق النايف في 30 تموز (يوليو) 1968 اقتاد صدام النايف من القصر إلى المطار ودفعه إلى المنفى. وبعد عشرة أعوام نجحت رصاصة صدام في العثور على النايف في لندن ودفعته إلى القبر.
في بداية السبعينات أعلنت بغداد كشف مؤامرة تدعمها ايران لاطاحة نظام البعث وأعدمت عشرات الضباط. رجلان اتهما بالوقوف وراء المؤامرة العقيد عبدالغني الراوي وعبدالرزاق النايف. وساد الاعتقاد لعقود بأن المؤامرة صناعة بعثية. زرت عائلة النايف في عمان وفتشت في الحقائب التي تركها وأوراقه فتبيّن لي أن النايف اكتشف باكراً أن صدام اخترق المجموعة المتآمرة فغادر طهران قبل موعد التنفيذ. وعثرت في الرياض على الراوي وسألته عن المؤامرة فردّ باعطائي مفكرته القديمة وهي تظهر أنه عقد لقاء مع الشاه محمد رضا بهلوي في سياق التخطيط لاطاحة البعث وأن دولة تبرعت بعشرة ملايين دولار لتمويلها.
لم ينسَ صدام تلك المحاولة الايرانية لاطاحة نظام البعث. ولم ينسَ أن القتال ضد الأكراد أرغمه في 1975، بوساطة من الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، على التوقيع مع الشاه محمد رضا بهلوي على اتفاق الجزائر. لن يقبل صدام أن يكتب التاريخ أنه تنازل عن شبر من أرض العراق لانقاذ النظام. وسينفذ لاحقاً ما جاء في حديثه في هافانا.
الحلقة الثانية:
أقام علاقة حميمة مع الملك حسين وكان يناديه «ابن العم»
• الدبابات العراقية داخل الكويت
العراق من حرب إلى حرب صدام مرّ من هنا (2)
بقلم: غسان شربل
«العراق من حرب إلى حرب... صدام مرّ من هنا» عنوان الكتاب الجديد لرئيس تحرير «الحياة» الزميل غسان شربل، هو السادس من مؤلفاته التي صدرت ضمن سلسلة «يتذكر»، وتضمنت حوارات مع جورج حاوي عن «الحرب والمقاومة والحزب» وخالد مشعل عن «حركة حماس وتحرير فلسطين» اضافة الى «ذاكرة الاستخبارات» و«لعنة القصر» و«اسرار الصندوق الاسود».
والكتاب الجديد الذي يصدر عن «دار رياض الريس»، ويتضمن مقدمة وحوارات مع حازم جواد وصلاح عمر العلي ونزار الخزرجي وأحمد الجلبي، موثق بالارقام والتواريخ ويقع في 395 صفحة من الحجم المتوسط وعلى غلافه الاخير كُتب «يشهد العراق منذ عشرات السنين اضطرابات لا مثيل لها، سياسية، اقتصادية، اجتماعية ومجازر يومية تودي باعداد كبيرة من البشر وكأنهم لا بشر. هذا ما يشهده بلد من اغنى البلدان العربية ثروة وثقافة وتنوعاً وحضارة».
وفي الكتاب شهادات واعترافات مدهشة لاربعة من كبار رجالات هذا البلد السياسيين والعسكريين. والمحور الرئيسي للكتاب هو صدام حسين الذي اختزل العراق بحزب حاكم واختزل الحزب بشخصه. وتنتهي العبارة بالقول ان «الحكم للتاريخ».
واختارت «القبس» من الكتاب مقدمته والحوار مع الفريق اول الركن نزار الخزرجي الذي كان رئيساً لهيئة الاركان في الجيش العراقي في الثاني من آب (اغسطس) اليوم المشؤوم لغزو الكويت. بعض المعلومات كان نُشر في الاعلام المكتوب ونُقح لاحقاً تمهيداً لجمعه في الكتاب.
أقام علاقة حميمة مع الملك حسين كان يناديه «ابن العم» وكره حافظ الأسد
اننا الآن في عام 1959 وحدها الصدفة أدت الى اشراك شاب نحيل اسمه صدام حسين في فريق كلّف باغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم. صاحب القرار أول أمين سر للقيادة القطرية في البعث العراقي فؤاد الركابي، وأغلب الظن أن أجهزة جمال عبدالناصر كانت على علم بالموضوع. فشلت المحاولة وأصيب صدام بشظية. فرّ الركابي وبعض أعضاء القيادة الى دمشق وكان بينهم حازم جواد وعلي صالح السعدي. في دمشق قلق الركابي على مصير صدام. راح يسأل عنه حين تأخر. ولدى وصوله اقترح تكريمه. حفل متواضع وقالب حلوى. كان صدام مجرد نصير فتقرر قبوله عضواً أصيلاً. وقف في دمشق وأدى اليمين أمام الركابي.
في بداية السبعينات ستكتمل فصول القصة. كان الركابي يستعد لمغادرة السجن خلال أيام بعدما ذاق فيه من الاذلال والتعذيب ما لا يطيق سجين احتماله. فجأة أدخلت أجهزة صدام الى السجن من زعمت أنه مجرم عادي. أرسل المجرم في مهمة محددة. استفز الركابي وافتعل معه شجاراً. أخرج سكيناً وذبحه من الوريد الى الوريد. ولم يكن أمام حازم جواد غير تسلّم جثة قريبه لمواراتها.
هذا ما رواه لي حازم جواد حين وافق على طي أربعة عقود من الصمت. كانت المرارات بادية في حديثه هو الذي قاد الحزب الى السلطة في 8 آذار (مارس) 1963 وأذاع البيان الرقم واحد وأرسل من يأتي بضابط شهير اسمه عبدالسلام عارف لن يتأخر في ازاحة البعث لينفرد بالسلطة.
لم يكن لصدام حسين دور بارز في تلك الأيام. لكن ذلك الفشل سيضاعف حظوظه في الصعود الى القيادة الحزبية بدعم من القائد المؤسس ميشيل عفلق وستقوم بين الرجلين لاحقاً علاقة حميمة وغريبة. وحين عاد البعث الى السلطة في 1968 كان قرار صدام القاطع منع تكرار تجربة خسارة السلطة واقتلاع أي خطر عليها قبل استفحاله في الحزب أو الجيش أو خارجهما.
حلم الجلبي
اطاحة البعث وصدام حلم قديم راود أحمد الجلبي الذي كانت عائلته جزءاً من المشهد السياسي في العراق قبل ثورة 1958. نتائجه اللامعة في أرقى الجامعات الأميركية لم تشبع طموحاته، فأرقام الرياضيات لا تشفي غليل من يشتهي ما هو أكثر. بدا الحلم بعيد المنال. في الحرب العراقية ـــ الايرانية ظهر صدام في صورة من يدافع عن الاقليم في وجه أحلام الخميني بـ«تصدير الثورة». ارتاحت واشنطن الى رغبة صدام في عدم الوقوع تحت تأثير موسكو رغم معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة بين البلدين. لم تدعم الرئيس العراقي لتوجيه ضربة قاصمة الى ايران. لكنها تدخلت لاحقاً بما يكفي لمنع طهران من تسديد مثل هذه الضربة الى النظام العراقي. حصل صدام على صور جوية أميركية لتجمعات القوات الايرانية وعلى تسهيلات مالية وتجارية.
عندما ارتكب صدام خطيئة غزو الكويت تجددت أحلام الجلبي. حاول قطع الشرايين المالية التي تغذي نظام البعث وتحميه من الاختناق. واستنتج أن مستقبل النظام يتقرر في أميركا بعدما فشلت المعارضة الشيعية والكردية في اطاحته.
تسلل الجلبي الى مراكز الأبحاث والدراسات وأروقة الكونغرس وكذلك الى دهاليز الـ«سي. اي. اي» وممرات وزارة الدفاع. انغمس في العمل في أميركا ولم تغب ايران عن باله. تطلع الى جمع المعارضتين الشيعية والكردية تحت سقف واحد لاقناع واشنطن بأن البديل موجود. ساهمت التوترات بين النظام العراقي وفرق التفتيش الدولية في تسهيل مهمة الجلبي. وتولت ماكينة اعلامية هائلة تصوير صدام كأنه الخطر الكبير على الاقليم والعالم.
بن لادن يقتل صدام
لم يكن صدور «قانون تحرير العراق» عن الكونغرس الأميركي، الذي يحمل بصمات الجلبي، كافياً. ثمة رجل سيمهد الطريق من دون أن يدري لقتل نظام صدام حسين. انه أسامة بن لادن. فبعد هجمات 11سبتمبر 2001 بدأ الهمس في غرف أميركية ضيقة عن «خطر صدام حسين». مطبخ بارع أعد الوجبة للرأي العام الأميركي: أسلحة الدمار الشامل وانتهاك القوانين الدولية والعلاقة بالارهاب والدكتاتورية والتعذيب وحلبجة.
إيران تريد الزعامة
ابتهجت ايران باسقاط الجيش الأميركي نظام طالبان في أفغانستان كما ابتهجت بتوجه أميركا نحو اقتلاع عدوها اللدود في بغداد. أدرك الجلبي لقاء المصالح وحين اقتلعت دبابة أميركية تمثال الرئيس ونظامه، تدفق المقاتلون العراقيون من المنفى الايراني الى بلاد شطب بول بريمر جيشها من الوجود.
هذا ما رواه لي الدكتور أحمد الجلبي حين وافق للمرة الأولى على الحديث عن الرحلة الطويلة التي مكنت جورج بوش من ارتكاب مغامرة ستدمي العراق والمنطقة وتفتح الباب أمام ايران للمطالبة بزعامة الاقليم.
ذاكرة حامد الجبوري مثقلة بالروايات. شاهد كثيراً وسمع كثيراً. والسبب بسيط: تولى ادارة مكتب «الأب القائد» ثم ادارة مكتب السيد النائب وحقيبة الاعلام ووزارة الدولة للشؤون الخارجية.
قال الجبوري ان العاهل الأردني الراحل الملك حسين صعد مع صدام في 22 سبتمبر 1980 الى دبابة قرب الحدود مع ايران وبارك الحرب باطلاق قذيفة من الدبابة. وجدت صعوبة في تصديق الرواية لكنه أصر عليها. وأضاف أنه تسلم شخصياً من سفير عربي في بغداد صوراً التقطتها أقمار التجسس الأميركية للحشود الايرانية.
وروى أنه كان حاضراً لدى استقبال صدام وزير الخارجية الاماراتي راشد عبدالله النعيمي وسط مؤشرات الى ميل الدول الخليجية الى تقليص مساهمتها في تمويل الحرب ضد ايران. قال الجبوري ان صدام خاطب النعيمي قائلاً: «سلم على... وقل له... لا أريد نقل العبارة بحرفيتها لأنها غير لائقة وهي تتحدث عما كان يمكن أن تفعله ايران بالامارات ودول أخرى لولا وجود صدام».
استقبل صدام السفراء العراقيين المعتمدين في الخارج. قال سفير العراق لدى الكويت انه طالب وزير الدفاع الكويتي بأن تتوقف الزوارق الكويتية عن انتهاك المياه الاقليمية العراقية لكنه لم يأخذ التحذير على محمل الجد. غضب صدام وخاطب السفير قائلاً «ترجع غداً الى الكويت بلا تأخير. تذهب فوراً الى صباح الأحمد (وزير الخارجية) وتقول له ان صدام يقول لك (...) وأن العصفور الذي يخترق أجواء العراق نقص ذيله». كان الكلام عنيفاً وجارحاً.
بن البكر وصدام
كان الجبوري وزيراً للاعلام حين ترأس صدام اجتماعاً اعلامياً حرص خلاله على انتقاده. توجه الى القصر وأبلغ البكر أنه ينوي الاستقالة. نهض البكر وأشار الى الكرسي التي كان جالساً عليها وقال «أبول على هذه الكرسي، كرسي رئاسة الجمهورية التي لا تحفظ حتى كرامة الرئيس» وراح البكر يخاطب نفسه «آخ أبو هيثم شلون تقبل تصير رئيس جمهورية، شلون تقبل تدخل بحزبهم». عاد البكر الى كرسيه وظهرت الدموع في عينيه وقال: «الاستقالة شيلها من ذهنك. ليس باستطاعتي قبول استقالتك، من يقبل استقالتي أنا. نحن أسرى ولا نملك حق الاستقالة».
استقبل البكر بعد توليه الرئاسة وفداً من بغداد فاجأه بالسؤال عن أسباب قتل الشيخ عبدالعزيز البدري الذي كان صديقاً له. لم يكن البكر على علم بالحادثة. وبعد مغادرة الوفد طلب من الجبوري «قل لصدام هذا الجالس مع ربعه في آخر الممر أن يعطوني خبراً على الأقل». في مكتب العلاقات العامة في آخر الممر وبرئاسة صدام كان يجلس أيضاً رجال قساة هم ناظم كزار وسعدون شاكر وعلي رضا باوه ومحمد فاضل وكان هذا المكتب نواة أجهزة الاستخبارات البعثية لاحقاً. نقل الجبوري الرسالة الى صدام فحدق به ولم يعلق.
من قتل وزير الخارجية؟
استقبل صدام، في حضور الجبوري، مبعوثاً للرئيس الشاذلي بن جديد يحمل ملفاً أوجز خلاصته. قال ان التحقيق الذي أجرته بلاده أكد أن الصاروخ الذي أسقط طائرة وزير خارجيتها محمد بن يحيى، الذي كان يحاول وقف الحرب العراقية ـــ الايرانية، كان عراقياً. وأضاف أن جزءاً من حطام الصاروخ عثر عليه في ايران وأن السوفيت أكدوا أنهم سلموا هذه الصواريخ الى العراق. تسلم صدام الملف ولم يعتذر ولم يعلق.
يقول الجبوري إن صدام أقام علاقة حميمة مع الملك حسين وكان يناديه «ابن العم» وكان يكره الرئيس السوري حافظ الأسد ويتهكم على العقيد معمر القذافي مردداً «من هو هذا القذافي؟». لم يكن صدام يحب السوفيت. ذات مساء قال للجبوري: مؤامرة 1973 مؤامرة كاظم كزار ومؤامرة 1979 وراءهما جهاز الـ»كي. جي. بي» السوفيتي وقد شاركت سوريا في الثانية.
الجملة التي لا ينساها الجبوري هي تلك التي سمعها من العاهل المغربي الملك الحسن الثاني في قصر الصخيرات حين قال الملك «بصراحة إذا حضر صدام نبدو كأن على رؤوسنا الطير» وصدور مثل هذا الكلام عن الحسن الثاني ليس بسيطاً.
* * *
كان الغرض مجرد الابتعاد عن لبنان الغارق في حرب أهلية وإقليمية. الابتعاد ولو لبضعة أسابيع. اقترح قريبي وصديقي أن نذهب إلى العراق فلم أمانع. كنا في أول العشرينات وكان لدينا من الوقت ما يكفي لتبديده. عرف صديقي المحامي والكاتب فايز قزي بمشروع الرحلة. طلب مني أن أبلغ تحياته إلى صديقه العراقي وأعطاني رقم هاتفه. كان اسمه علي صالح السعدي. القائد البعثي الشجاع الصاخب المتهور الذي لمع اسمه حين استولى البعث على السلطة في 8 شباط (فبراير) 1963.
وسريعاً سيضيق صدر الرفاق برفيقهم الذي تحوّل وزيراً من دون التنازل عن مبالغات المعارض ومن دون التنازل عن الإسراف في حب الحياة والعيش. افتقار البعثيين إلى الخبرة وقسوتهم المفرطة بحق الشيوعيين سهّلا لعبدالسلام عارف، العسكري الذي شارك عبدالكريم قاسم في صنع ثورة 14 تموز(يوليو) 1958، الانقضاض على الشريك البعثي والتفرد بالسلطة، خصوصاً بعدما ضاق عسكريو البعث ذرعاً بمراهقة المدنيين فيه.
أعطاني السعدي موعداً مسائياً في منزله في حي المنصور. حاولت الإيحاء أنني جئت لتناول القهوة فرد بلهجة حاسمة «نحن لا نستقبل ضيوفنا بهذه الطريقة» واسترسل في شرح علاقته بلبنان واللبنانيين وبيروت ومقاهيها ولياليها. وشاءت الصدفة أن ينعقد خيط الود سريعاً فراح يتصل بي يومياً وتكررت اللقاءات الليلية التي كانت فرصة لي للإطلالة على منجم الأهوال العراقي الذي سيزداد ثراء لاحقاً في ظل صدام حسين.
سعى السعدي إلى تبديد قلقي من احتمال تعرضي لإزعاجات بسبب تكرار اللقاءات وبعضها كان في نادي المنصور. قال «لا تقلق لم أعد أقلق أحداً. ولا يريدون قتلي فهم يعرفون أنني أنوب عنهم في هذه المهمة» وكان يشير إلى إفراطه اليومي في الشراب على الرغم من خضوعه لجراحة في القلب. وروى أن سيارة حاولت دهسه ذات يوم لكنها أخطأته. وأن رجال الاستخبارات كانوا يحصون أنفاسه. وأن أحدهم لحق به ذات يوم إلى دكان الحلاق. وقال: «نظرت إلى الضابط الشاب الذي دخل وجلس وقلت له، ابن... هل تمنعون المواطن من قص شعره. سأحطم رأسك بالقندرة. سارع الشاب إلى المغادرة».
العراق لا يتسع لرجلين
قال السعدي «أنت شاب فلا تصدق ما تسمع. حكاية الأب القائد هذه كذبة اخترعها صدام لطمأنة أحمد حسن البكر. إنه يحتاج إليه كغطاء بسبب افتقاره إلى الشرعية في الحزب والجيش والبلد. حين يستكمل خطواته لتطويع الجيش والحزب سيرميه خارجاً كثمرة مهترئة. سيكون البكر محظوظاً إذا اكتفى صدام بدفعه إلى خارج القصر من دون قتله بالسم أو غيره. وأضاف «ليس من عادة العراق أن يتسع لرجلين. نحن بلاد الرجل الواحد. لم يتسع العراق لعبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف. أصيب الأول سريعاً بجنون السلطة. الزعيم الأوحد. تنكر لرفيقه في الثورة. نزع صلاحياته وحاصره. أذله ونفاه وسجنه. الرحمة ليست عادة عراقية».
ينظر إلى الكأس ويعيد تجهيزه ويتابع «عارف كان عصبياً وانفعالياً وثرثاراً. كان عاشق سلطة ومتهوراً. حين استولينا على السلطة اقتيد عبدالكريم قاسم المهزوم إلى دار الإذاعة. كانت الشماتة تفيض من عيني عارف. لم يرحم رفيقه في الثورة. نظر إليه باستهزاء وحاول أن ينتزع منه اعترافات حول دوره في 1958 يريده أن يقر بأن عارف كتب البيان. فضّل عبدالكريم قاسم الموت على تقديم مثل هذه الهدايا لعبدالسلام. أنا لا أقول إنني كنت بريئاً أو رحيماً. أنا أيضاً من عجينة القساة». وقال «صدقنا الشعارات وقتلنا البلد وربما الأمة. كان سلوكنا صبيانياً ولم نعرف معنى السلطة والدولة والمؤسسات. غرقنا في أحقادنا ومخاوفنا. غرق الشيوعيون في دمنا وغرقنا في دمهم».
فجأة توقف عن الكلام وراح يضرب يده بعصبية على رجله. كان الوقت قريباً من منتصف الليل. نهض الرجل متثاقلاً لتغيير الأسطوانة. ولم يكن آخر ما يريد سماعه غير ترتيلة بصوت فيروز عن صلب المسيح تقول فيها «أنا الأم الحزينة وما من يعزيها...» بدا واضحاً أن ذاكرة السعدي تعذبه وأن ذاكرة العراق تعذبه أيضاً.
عقدة عبدالناصر
لم يكن الماضي وحده ما يقلقه فقد كان يخشى أهوال الآتي. قال «كل ما رأيناه ليس شيئاً أمام ما سنراه حين سيكمل صدام بسط سلطته ويصبح الزعيم الأوحد. أنا أعرف هذا الرجل، سيقود البلد الى الهاوية.. جائع الى السلطة ولا يقبل شريكاً. لا يقبل بأقل من أن يكون الآمر الناهي. يريد أن يكون زعيم العراق وزعيم الأمة لكن بالبطش والبلطجة، عقدة جمال عبدالناصر تلازمه مذ فرّ الى القاهرة وأقام فيها طالباً. متآمر يعرف اخفاء مشاعره ويسدد ضرباته بلا رحمة، يريد أن يثأر من طفولته وظروفه العائلية، معه سيغرق العراق في الدم. ومن يدري فقد تغرق المنطقة أيضاً».
أرشدني كلام السعدي الى منجم الآلام العراقي، لكن رغبتي الفعلية في استكشاف هذا المنجم لن تبدأ الا بعد عقدين، تحوّل السؤال عن صدام حسين جزءاً ثابتاً من اهتماماتي. لهذا السبب التقيت في دمشق عزيز محمد السكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي. استمعت منه الى قصة الشيوعيين العراقيين. روى أشياء كثيرة بينها أن ناظم كزار مدير الأمن العام في السنوات الأولى من عهد البكر - صدام كان يأكل الكباب ورجله تضغط على عنق سجين يحتضر.
وبين كردستان العراق وعواصم عربية واوروبية استمعت الى روايات الرئيس جلال طالباني ورئيس اقليم كردستان مسعود برزاني والفريق أول ابراهيم الداوود وزير الدفاع العابر الذي أُبعد بالتزامن مع ابعاد النايف. استمعت الى عبد الغني الراوي وعشرات العسكريين والمدنيين، كنت أسأل عن صدام وعن عراق صدام.
لم يكن الغرض محاكمة صدام. تجريمه أو تبرئته. استوقفتني قصة الرجل التي انتهت بمأساة له ولعائلته وبلاده والمنطقة. لم يكن هناك ما يرشح الطفل الذي ولد في 28 نيسان (أبريل) 1937 لمثل هذا الدور. لم يجد في استقباله غير أمه والفقر واليتم. عطف خاله الضابط المتقاعد خير الله طلفاح مكَّنه من التوجه متأخراً الى المدرسة في تكريت وبعدها في بغداد. باكراً سيجرّب صدام السجن. حفنة شهور انتهت بالافراج عنه لنقص الأدلة في جريمة اغتيال استهدفت تكريتياً ذا ميول شيوعية وقيل ان الخال كان المحرض.
بعدها سيتدخل القدر.. محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم والفرار الى دمشق ومنها الى القاهرة. عاد صدام الى بغداد بعد استيلاء البعث على السلطة في 8 شباط (فبراير) 1963 واثر نجاح عبدالسلام عارف في ازاحة البعث بعد تسعة أشهر سينتقل الى العمل السرّي وسيدخل السجن ليفرّ منه لاحقاً بعدما عُيّن في القيادة القطرية اثر نجاحه في الفوز باهتمام «القائد المؤسس» للبعث ميشيل عفلق.
الأحداث التي أعقبت عودة البعث الى السلطة تحمل بصماته. اتفاق الحكم الذاتي مع الملا مصطفى برزاني ومحاولة اغتيال الأخير بعده. قرار تأميم النفط ومعاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي. حملة محو الأمية. انهاء حركة ناظم كزار. القتال مع الأكراد واتفاق الجزائر مع شاه ايران. وفي ظل البكر كان يواصل تطويع الجيش والحزب وشطب المشكوك في ولائهم الى أن حانت في 16تموز (يوليو) 1979ساعة استقالة البكر. بدأ عهد صدام بوليمة حزبية دامية، وسينتهي العهد في 9 نيسان (أبريل) 2003، وسينتهي الرجل لاحقاً على حبل المشنقة. خسر نظامه وولديه عديّ وقصيّ وحفيده وتبددت عائلته ثم خسر كل شيء..
كان الغرض من المحطات العراقية في سلسلة «يتذكر» اشراك القراء في ما يعيشه العراق مع تسليط الضوء على الظروف التي سهّلت قيام نظام صدام حسين. لم يكن هاجس الكتاب حاضراً، لكنني حين عدت الى أوراقي قبل شهور شعرت أن جمع بعض هذه الشهادات قد يكون مفيداً لمن سيتولى لاحقاً تأريخ تلك المرحلة. انها شهادة من داخل المؤسسة العسكرية على لسان الخزرجي، ومن المؤسسة البعثية على لسان صلاح عمر العلي، وشهادة من العدوّ الأول لصدام واسمه أحمد الجلبي. أما حازم جواد صاحب التجربة الثمينة في 1963 فقد اكتفيت من ذكرياته الغنية بما يتعلق هنا بموضوع الكتاب وهو صدام.
التأريخ واحد من حاجات المجتمع، تفرضه الظروف المتصلة بكل مفردات الحياة في مجتمع بعينه، وتؤثر فيه مجموعة من العوامل، لعل من أبرزها ما يتصل بالعقيدة التي يتبناها هذا المجتمع. هذا، إضافة إلى ان عوامل الجغرافيا من مناخ وتضاريس تفرض سلوكا بعينه تجاه هذه الظواهر، وتجاه البشر الذين يحيطون بذلك المجتمع، ولا يشذ المجتمع العربي في ذلك ــ على الرغم من تأخره في تعاطي هذا الصنف من الانشطة البشرية ــ وكانت ثقافته التي أفرزتها العقلية العربية فيما قبل ظهور الإسلام في المنطقة تضعه في منطقة القدرة على قول الشعر أكثر مما تضعه في طريق معالجة كتابة التأريخ، فقد كانت عقلية شديدة التعصب للقبيلة تنزع إلى الأسطورة والخرافة، وهي في هذا تكون متشبعة بروح عصرها وتقاليده، فهي قليلة الصبر على المراجعة والتحقيق، محتقرة للثقافة المغايرة، وهي حالة لا تعوق نظم الشعر، بل قد تكون من بواعث نظمه، لأن الاسطورة والخرافة فيهما ما يثير الخيال، ويحرك العاطفة، لكنهما قطعاً تقفان عقبة في طريق النضج الذي تحتاجه كتابة التاريخ.
لو لم يضع فايز قزي لكتابه الجديد الصادر حديثا عن دار رياض نجيب الريس في بيروت العنوان التالي: «قراءة سياسية لحزب الله»، لكان بامكانه ان يضع عنوانا آخر هو: «حزب الله صناعة ايرانية»، ذلك ان هذا هو فحوى الكتاب، لدرجة القول ان كل صفحة من صفحاته تضيف «حيثية» جديدة الى ما سبقها من «حيثيات»، فلا ينتهي القارئ من الكتاب، الا ويجد امامه حكماً معللا غير قابل للاستئناف والتمييز. وحتى لو استؤنف، فالشك كل الشك في نقض الحكم السابق، نظرا لكثرة الادلة التي يقدمها الباحث، او المحامي على الاصح على ايرانية الاساس والتوجه. ويبدو ان حزب الله لم يعد يهتم اصلا بمثل هذه الاحكام. فاذا ما واجهه احد بانه حزب تابع لولاية الفقيه الايراني، اجاب بانه يفخر بهذه التبعية.
ولم يخطئ الباحث عندما وصف حزب الله بانه «حزب اممي عابر للمذاهب والمناطق والقوميات»، وبانه عندما يتحدث عن «الامة» لا يقصد بها الامة اللبنانية طبعا، ولا حتى الامة العربية. فهو لا ينتسب الى هاتين الامتين، وان انتسابه هو الى «امة اسلامية» تتزعمها ايران، هي غير الامة الاسلامية التي يتحدث عنها الاسلاميون عادة.
يطرح الباحث في البداية سؤالا عن البدايات. كيف بدأ حزب الله مسيرته في لبنان؟ ويجيب: في سنة 1979 ظهرت في لبنان «اللجان المساندة للثورة الاسلامية في ايران» التي راحت تتواصل مع ايران وعلى رأسها الولي الفقيه الامام الخميني. وخلال هذا التواصل حصل الاجتياح الاسرائيلي للبنان، فكان هناك سعي لتشكيل اسلامي موحد يتمحور حول نهج الاسلام ومقاومة الاحتلال، مع قيادة شرعية للولي الفقيه كخليفة للنبي (صلى الله عليه وسلم) والائمة. تمت صياغة ورقة نهائية حملها تسعة اشخاص من لبنان الى ايران، وهناك رفعوها الى الامام الخميني، فوافق عليها. عندها اكتسبت شرعية تبني الولي الفقيه لها، ومنها تأسس حزب الله. بعدها وافقت سوريا حافظ الاسد على مرور الحرس الثوري الى لبنان، وبدأت التدريبات في منطقة البقاع.
ولاية الفقيه من ركائز الحزب. والفقيه الاعلى ايراني، وولايته حسب الشيخ نعيم قاسم (ص31) تمثل الاستمرارية لولاية النبي صلى الله عليه وسلم. وينقل الشيخ نعيم عن الامام الخميني قوله: «اما توهّم ان صلاحيات النبي في الحكم كانت اكثر من صلاحيات امير المؤمنين، وصلاحيات امير المؤمنين اكثر من صلاحيات الفقيه، فهو توهم خاطئ وباطل».
والفقيه هو الآمر الزمني والروحي. اما الرأي والمشورة والقرار والإمرة والطاعة والولاء، فلايران وحدها، صحيح ان للشورى التي يرأسها الامين العام للحزب، التي تحصل على شرعيتها من الفقيه، صلاحيات واسعة وتفويضاً يساعدانها على القيام بمهامها، لكن اذا واجهت قيادة الحزب قضايا كبرى تشكل منعطفا في الاداء، او تؤثر في قاعدة العمل، او تعتبره فعلا رئيسيا، او تتطلب معرفة الحكم الشرعي فيها، فعندها تبادر الى طرح السؤال، او الى أخذ الإذن، لاضفاء الشرعية على الفعل او عدمه (ص32).
وجه من وجوه «حزب الله» هو المقاومة. وهذه المقاومة يبدو على ضوء ما يقدمه الكتاب مأمور بها من ايران. امر الولي الفقيه الامام الخميني بها، فكانت بدأ التدريب على السلاح في البقاع بإشراف الحرس الثوري الايراني. ولكن يبدو بنظر الباحث ان المقاومة محصورة بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي من دون سواه. فلا تمكن ممارستها مثلاً في وجه دولة مسلمة، كايران التي تحتل جزر الامارات العربية المتحدة في الخليج، كما تحتل منطقة الاهواز، ولا في وجه تركيا التي تحتل لواء الاسكندرون.
ويقول الباحث في كتابه ان «حزب الله» اللبناني قاتل مع الايرانيين ضد العراقيين في حرب الخليج الاولى. ينقل عن السفير الايراني السابق في سوريا علي اكبر محتشمي، وهو الاب الروحي لـ«حزب الله»، ان الحزب شارك جنباً الى جنب مع الحرس الثوري الايراني في الحرب الايرانية العراقية، وقد اكتسب خبرة قتالية عالية فيها. وبعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 تراجع الخميني عن فكرة إيفاد قوات ضخمة الى لبنان وسوريا، ونصح بتدريب الشبان الشيعة. وهكذا ولد «حزب الله». (ص 52 و 53). بل ان مشاركة «حزب الله» لاول مرة في انتخابات لبنانية أُجيزت من الفقيه الاعلى علي خامنئي. شارك الحزب في الانتخابات بعد ان وافق خامنئي على المشاركة فيها.
قد يثار سؤال حول الخدمات التي يقدمها الحزب لجمهوره ومناصريه، والجواب واضح في الكتاب. فالتدريب والتسليح والخدمات والاموال ايرانية بالدرجة الأولى وللحزب مؤسسات كثيرة ترعى نشاطاته الاجتماعية والصحية والاقتصادية، منها مؤسسة جهاد البناء التي انشئت عام 1985 وكلها مرتبطة بايران.
لا يعتبر الباحث ان «حزب الله» يمثل الشيعة، فما هو في الواقع سوى حركة جهاد تعتمد مدرسة شيعية محددة لتحقيق اهداف سياسية، وهناك جماهير ونخب شيعية كثيرة تعارض نهج حزب الله شكلا واساسا، فمن المفكرين الشيعة الكبار من دعا الى تجذر الشيعة في بيئاتهم المحلية والانغماس في قضايا مجتماعتهم الخاصة كالشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد هاني فحص الذي كتب مرة في كتابه: «الشيعة والدولة في لبنان»: «هناك شيعية وطنية تحمل من الخصوصيات ما لا يؤدي تعارضها مع العام والمشترك او الثابت، جماعة شيعية باكستانية وخليجية وافغانية وهندية ولبنانية وعراقية تسهم في بناء اوطانها، وتوالي هذه الاوطان، وهذه الشيعية لم يكن تهمها استلام الفقية السلطة» (ص 123).
ويتحدث الباحث في كتابه عن عدة استحالات تحول بينه وبين القبول بحزب الله، منها قناعاته العلمانية واللبنانية والعروبية والانسانية ذات المنحنى التقدمي وهذه كلها تدخل في صراع مرير مع حزب الله او ان حزب الله يدخل في صراع مرير معها، «هذه المستحيلات تجعل من حزب الله في صورته الحاضرة حركة جهاد عسكرية مغلقة في الفصول والاصول المذهبية غير اللبنانية والعربية والانسانية، وبعيدة عن الحداثة المدنية وتفاعل الحضارات الايجابي، وبالتالي فان حزب الله هو حزب ملتبس منغلق في المنهج والمستقبل على كل علاقة او «تفاهم او تحالف».
جهاد فاضل
كتاب الشبه والاختلاف بين الكبيرين هكذا سكت نيتشه.. هكذا تكلم زوربا
"هكذا سكت نيتشه، هكذا تكلم زوربا"، كتاب للكاتب أنس زاهد، صادر عن دار الانتشار العربي – بيروت، وهو دراسة وافية تستحق القراءة والغوص في تفاصيلها لما لها من دلالات ومعلومات فكرية ومعرفية، جهد المؤلف في تحقيقها عبر توسع وشرح مدروسين باتقان.
لقد سعى زاهد في كتابه إلى عقد مقارنة أو مقابلة بين الفكر الزوربي الذي يمثل الفطرة الإنسانية الخالية من الشوائب الاجتماعية والثقافية، وبين الفكر النتشوي.. وبالتحديد فكر فريدريك نيتشه الذي تجلى على أكمل وجه من خلال كتابه "هكذا تكلم زاردشت".
ويقول المؤلف إن دراسته هذه "ليست نقدية بالمعنى الفني أو الاحترافي للكلمة (...) هذا الكتاب لا يضع ضمن اهتماماته دراسة العناصر الفنية لرواية "زوربا"للكاتب اليوناني نيكوس كازينتزاكس كبناء الشخصيات والبنية الروائية وما إلى ذلك من أمور فنية، الكتاب هو محاولة للغوص في الفكر الزوربي الذي يمثل الفطرة الإنسانية النقية في أشد حالات تألقها".
وأمام هذا التعريف من المؤلف، ثمة سؤال يطرح نفسه وبقوة: لماذا نيتشه مقابل زوربا؟ والجواب يأتي سريعاً من صفحات الكتاب المليئة بالنقاشات والأفكار والقناعات التي يهندسها الكاتب، فكتابات نيتشه – حسب اعتقاد المؤلف – هي التجسيد الأعظم لقدرة العقل البشري على الإبداع، العقل البشري الخلاق الذي لا يتوقف عند حدود ولا يرتهن لمحظور، ولا يلزم نفسه باتباع أي عرف أو بالتسليم بأي من البديهيات، وكل قيوده يمكن أن تكبل العقل البشري.
يتوغل الكاتب داخل وجه الشبه بين الكبيرين زوربا ونيتشه رغم الاختلافات الكبيرة بينهما، والشبه الذي يؤسس له الكاتب هنا هو ان الاثنين قد بلغا من التفوق ما يجعل الحياة بكل جمالها وجلالها، تتوارى أمامهما خجلاً لأنها أضيق من أن تستوعب مطالب وطموحات هذا الثنائي الفريد.
يركز الكاتب هنا على تفرد نيتشه في بناء الفكر والفكرة، من دون ان يتأثر بسالفه او بمن سبقه الى العلم، "كتب نيتشه نصاً" لم اعثر فيه على تأثير احد من سابقيه سوى المسيح، بالاضافة الى الاثر المحدود الذي تركه الفيلسوف الالماني شوبنهاور. لم يتأثر فكر نيتشه وخصوصاً هذا الكتاب، بأي ممن سبقه من الفلاسفة والادباء، لانه في انفلاته كان قد تجاوز، الجميع يكفي ان نذكر ما قاله نيتشه حتى نكتفي بالقناعة حول هذا الكبير، فماذا يقول: "لقد اصبح كل شيء صغيراً، فاني حيثما اوجه انظاري لا ارى غير ابواب خفضت ارتاجها، فاذا شاء امثالي ان يجتازوها تحتم عليهم ان ينحنوا.
ايطول بي الزمان حتى اعود الى وطني، حيث لا ارغم على الانحناء امام كل صغير؟"
اما زوربا في هذا الكتاب، فهو يحمل القدر نفسه من عدم الرضا الذي يفضي الى التمرد. لكن زوربا اعتمد مشروعاً بعيداً عن مثالية نيتشه، حيث سعى الاخير الى تحقيق الكمال على الارض عبر مشروعه العقلي، بينما اندفع الاول في حب الحياة كما هي دون ان يطمح الى تغييرها.
وتبلغ المقاربة والمقاربة بين الكبيرين في كتاب زاهو الذروة، حين تمتد على صفحات الكتاب كلمات شديدة الحساسية والمعرفة: "زوربا كان يدرك ان الحياة مملوءة بأوجه القصور، والاهم انه كان يدرك اين تكمن مظاهر القصور ، وقد كان يثور في وجهها احياناً، لكنه لم يعتقد ابداً ان الحل المثالي هو هدم المعبد على من فيه تمهيداً لاعادة البناء على وجه اكمل من دون وجود اي ضمانة تكفل تحقيق الغاية الاخيرة(..) كان زوربا يتبع فطرته الانسانية النقية التي لم تفسدها نظريات الفلاسفة واوهام الايديولوجيا، ولذلك ظلت تلك الفترة نقية الى حد الشفافية ومنفلتة الى حد الحراشة.
لقد كان زوربا يلبي نداء الحياة الذي يزمجر بداخله، وقد كان هذا كافياً ليتعايش الرجل مع كل مظاهر النقص التي تكتنف الحياة.
وعلى العكس من ذلك كان نيتشه يكبح نداء الحياة بداخله تمهيداً لتحقيق غواية الكمال.. وهو ما لم يستطع نيتشه ان يحققه الا على الورق".
وبهذا التوقف الهادئ والعميق عند تقاطع المقارنة والمقاربة بين الرجلين، تنكشف اكثر صورة البناء الفكري المتواجهين بقوة الفعل والمعرفة والفكر، فالحياة لم تلب مطالب نيتشه، خذلته بمحدوديتها ازاء عقله الذي عرف بالتحديد مكامن الخلل واوجه القصور، فتمرد على الحياة، ومن ثم تمرد على نفسه وغرق في الجنون.
اما زوربا فكان ايضا يعاني ضعفا لا يمكن مغالبته تجاه كل مظاهر الضعف والرقة التي يمثلها الجزء الانثوي في الانسان، خير تمثيل، زوربا يحب الحياة وينظر اليها، رغم كل شيء بوصفها هبة، ولذلك فهو يشعر بالشفقة تجاه كل مظاهر الضعف التي تكشف كما لا يستطيع غيرها، توق الانسان الى البقاء وفزعه الشديد من فكرة الفناء.
يغوص الكتاب عميقا في فكر الكبيرين: نيتشه وزوربا، ولا يتأخر عن تقديم الاجوبة الوافية لاصول الفلسفة التي حركت وانتجت حيوية العقل عند الرجلين، وكلها تعمق في البحث والشرح، زاد من المعرفة بالاصول الفكرية التي تمتد على خطين نقيضين، لكنهما يلتقيان في تقاطعات كثيرة، وربما هذا التناقض بين الفكرين يؤجج حركة الوعي في العقل المتلقي ويجسّد له معرفة جديدة يمكن البناء عليها لقول المزيد من الفكر والفلسفة، والاهتداء الى المعرفة الاوسع.
عناوين كثيرة في الكتاب تتفرع منها الفصول والعناوين التالية، وكلها تصب في خانة التفسير الذي يفي بغرض الشرح الوافي، وفي هكذا امر تتحول الكلمات الى قاموس يمكن التوسع في شرحه وفهمه.
انه كتاب ــ محاولة لتقصي الحكمة الزوربية المندفعة كمياه شلال هادر مقابل ما جادت به قريحة الفيلسوف الالماني المثالي المسكون بحلم تحقيق الكمال على الارض، فريدريك نيتشه.
انها محاولة لقراءة فكر زوربا من خلال نيتشه وفكر نيتشه من خلال زوربا.
هذا ما يتمناه المؤلف.
غنى حليق
ابنة القدر التي عشقت السلطة بي نظير بوتو..الحياة تحت الضغط
هل كانت بي نظير بوتو ضحية للتشدد الديني أم الفساد السياسي؟ هذا السؤال الذي لم تنطلق منه الكاتبة نوال مصطفى في كتابها "بي نظير بوتو ابنة القدر" الصادر اخيراً عن مشروع مكتبة الأسرة، فقد انطلقت من كونها كانت منذورة لهذا القدر المأسوي، حتى أنها استعانت بعرافة في دبي التي كانت تقيم فيها قبل عودتها إلى باكستان، قالت لها انها تتخذ الطريق الخطأ، وقالت هي في جريدة لوس أنجلوس تايمز: أعلم أن أياماً صعبة تنتظرني، لكنني أضع ثقتي في الشعب، وأضع مصيري في يد الله . وفي حين نصحها بيرويز مشرف بعدم العودة إلى باكستان، وحاول منعها دستورياً من خوض الانتخابات باستصدار قانون يمنع الترشيح لرئاسة الوزراء للمرة الثالثة، لكن عناد وكبرياء بوتو وقدرها المخبأ في باكستان كان أقوى من كل النصائح والتخويفات، ومن ثم ذهبت كي تلقى مصيرها بين أنصارها وفي البلدة نفسها التي شهدت إعدام والدها عام 1979 وهي روالبندي .
لا يمكن القول بأن بي نظيرـ التي عني اسمها في اللغة الأردية أنها بلا نظير ـ كانت تمثل طفرة أو ظاهرة في الواقع السياسي الباكستاني على مستوى شجرة العائلة، فكل المؤشرات تقول انها ورثت إرثاً سياسياً استطاعت استثماره بقدر ما تستطيع للبقاء في السلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب أمها الإيرانية نصرت بوتو أو شقيقها مرتضى الذي حاول أن يكون خليفة للأب رئيس الوزراء السابق ذي الفقار علي بوتو، حتى أن مؤشرات حياة مرتضى تبرز أنه كان المؤهل بدرجة كبيرة للعب هذا الدور، فما أن قام ضياء الحق بالانقلاب العسكري على ذي الفقار حتى هرب مرتضى إلى أفغانستان الواقعة تحت السيطرة الروسية آنئذ وقام بتكوين تشكيل مسلح "جناح ذو الفقار" لمناهضة الحكومة غير الديموقراطية التي رأسها ضياء الحق، وتوزعت عناصر التشكيل بين أفغانستان وباكستان وإيران وعدة دول أخرى، وقاد حملة عالمية لمنع ضياء الحق من إعدام ذي الفقار، واستبدال الحكم بالسجن أو تحديد الإقامة الجبرية، ورغم أن مرتضى نجح في ذلك بشكل كبير غير أن ضياء الحق لم يلتفت لأي من التوسلات العالمية وقام بإعدام رئيسه السابق في ابريل 1979.
السجن و الرأي العام
كانت بوتو في ذلك الوقت ما بين السجن وإثارة الرأي العام لوقف إعدام ذي الفقار، ورغم أنها هي التي أرسلت إلى وكالات الأنباء بأن والدها سيعدم في صباح الغد، غير أن دورها السياسي لم يكن بارزاً بالقدر الكافي، فقد تولت الأم نصرت بوتو قيادة الحزب عقب إعدام ذي الفقار، وما لبثت أن اعتقلت هي وبي نظيربعدما أجل ضياء الحق إجراء انتخابات رئاسة الوزراء، لكنها – الام - مرضت بالسرطان، وطلب أطباؤها من ضياء الحق إخراجها للعلاج، فخرجت إلى لندن.
وبعد أن أنهت بي نظيرفترة الاعتقال تولت رئاسة الحزب، لكنها ما لبثت أن أجبرت على الخروج، فلحقت بوالدتها، ثم عادت عام 1986 لتقود حزب الشعب، وتزوجت من رجل الأعمال عاصف زرداري الذي يصغرها بثلاثة أعوام عام 1987، واغتيل ضياء الحق وعدد من مسؤوليه العسكريين بتفجير طائرتهم العسكرية عام 1988، وتهيأت البلاد لدخول انتخابات فاز بها حزب الشعب بأغلبية ضئيلة، وشكلت بي نظير حكومة ائتلافية في ديسمبر من العام نفسه، لتكون أول رئيسة وزراء في بلد إسلامي، فاستمرت في السلطة لمدة عامين من القلاقل والاتهامات بالفساد والتهديد بسحب الثقة، حتى أقالها الرئيس الباكستاني اسحاق خان في أغسطس 1990 بموجب سلطاته الدستورية في إقالة الحكومة والدعوة لانتخابات جديدة، فاز بها نواز شريف.
وظلت بوتو من عام 90 حتى عام 93 تناضل ضد اتهامات الفساد التي لاحقتها وزوجها، هذا الذي اكتسب مسمى زرداري عشرة بالمائة، نظراً لحصوله على هذه النسبة من الصفقات التي كان يقوم بها، كما دب الخلاف بينها وبين أمها نصرت بوتو التي عادت من الخارج، وأصبحت عضوة في المجلس التشريعي، كما أصبحت نائباً لرئيس الوزراء إسحاق غلام خان، كان الخلاف بسبب عودة شقيقها مرتضى الذي سعى إلى أن يكون زعيم الحزب، أو ساعدها الأيمن فيه، على أن تترك زوجها عاصف زرداري، لكن بي نظير التي فازت للمرة الثانية برئاسة الوزراء من عام 1993 حتى 1996 تمسكت بعنادها، بل وزادت من دور زوجها في السلطة، فعينته وزيراً للاستثمارات الخارجية، ووسعت في نفوذه وصلاحياته، حتى قيل ان عائلة بي نظير اختلست ثلاثة مليارات دولار وهي في السلطة، وقال مسؤول باكستاني ان هذه الأموال من تجارة المخدرات.
وظل الخلاف قائماً بين بي نظير وأخيها مرتضى الذي سعى للتحاور مباشرة مع عاصف زرداري، لكن اجتماعهما معاً أتي بتعميق أكبر للخلاف، وانتهى الأمر بمقتل مرتضى في سبتمبر 1996، ورغم أنه لم توجه إدانة قانونية لبي نظير أو زوجها في ذلك، غير أن كل أصابع الاتهام الشعبية اتجهت نحوها، ومن ثم حين أقالها رئيس البلاد بتهمة الفساد، ووقفت وزوجها في المحكمة الباكستانية لتواجه تهمتي الفساد واستغلال النفوذ، ومثلما قضت ثلاث سنوات في السجن عقب فترتها الأولى في رئاسة الوزراء قضت ثماني سنوات عقب الفترة الثانية، وجمدت الحكومة الباكستانية أرصدة عائلة بوتو في البنوك السويسرية، بينما رفضت بريطانيا أن تفعل هذا فيما يخص أموالهم في بنوكها بحجة أنه لا يوجد قانون بين البلدين يسمح بهذا، وقد نال حزب بوتو هزيمة ساحقة أمام نواز شريف عام 1997.
مصير زوجها
وبعد ثلاث سنوات من خروج بوتو من السلطة خرجت بمحض إرادتها من باكستان بأمها وأولادها إلى لندن ثم دبي كي لا تواجه مصير زوجها، ففي يونيو 1998 وجهت مجموعة من المحامين السويسريين اتهاماً لبوتو وزوجها بغسل الأموال في البنوك السويسرية، وفي إبريل 1999 أدانتها محكمة في مدينة روالبندي الباكستانية بتهمة الفساد، وحكمت عليها بالسجن لمدة خمسة أعوام ومنعها من ممارسة العمل العام، وفي ابريل 2001 نقضت المحكمة الدستورية العليا حكم محكمة روالبندي وأمرت بإعادة المحاكمة، لكن بوتو التي دفعت بأوراقها من لندن لم تحضر، وحكمت المحكمة عليها بالسجن ثلاث سنوات، وفي عام 2002 صدر قرار بمنعها من دخول البلاد لعدم حضورها المحكمة، كما أقر برويز مشرف تشريعاً يقضي بعدم السماح بالترشيح للمرة الثالثة لرئاسة الوزراء .
لكنها بحكم علاقاتها مع واشنطن ولندن استطاعت أن تقنع كلا البلدين بأن تتقاسم السلطة مع برويز مشرف لمنع باكستان ذات القوى النووية من السقوط في براثن الإسلاميين، وستكون بمنزلة توازن قوي أمام نفوذهم المتزايد في الجيش وغيره من المؤسسات الإسلامية، هذه التي تربطها بدرجات متفاوته علاقات مع جماعة طالبان المتمركزة على الحدود في أفغانستان، كما أنها ستجعل باكستان جناحاً قوياً في مواجهة محور الشر المتمثل في طالبان وكوريا وإيران حسب التصور الاميركى.
ويبدو أن برويز لم يكن راغباً في هذا الاتفاق، لكنه أصدر قراراً بالعفو عن بعض السياسيين ومنهم بي نظير التي نشطت في التصريح بأنها ستكون رئيسة الوزراء الباكستانية المقبلة، ومن ثم يمكنها إقامة علاقات مع إسرائيل، بل وزيارة الدولة الصهيونية في عقر دارها حال فوزها برئاسة الوزراء، لكن هذه الرئاسة لم يكن برويز مشرف ولا الإسلاميون يرغبونها في الوقت نفسه.
صدام بين الأسلمة والتغريب
لا يمكن القول ان مجهودات زرداري وحدها هي التي جلبت اللعنة على كليوباترا الجديدة حسبما حاولت أن تظهرها نوال مصطفى في كتابها المتعاطف بوضوح مع أول رئيسة وزراء في دولة إسلامية، فهذه اللعنة قديمة قدم شجرة عائلة آل بوتو السياسية في باكستان، وبالتحديد منذ جدها شاه نواز الذي تلقى تعليمه العالي في انكلترا، وعاد ليعمل في السياسة على نقيض والده خودا بوكس الذي كان موظفاً في السكك الحديدية بالهند، ومن ثم أصبح نواز واحداً من كبار السياسيين بمدينة جوناجاد، وجمع ثروة جعلته أكبر مالكي الأراضي في المدينة وعلى رأس قائمة أغنى أغنياء إقليم السند، وتزوج من خورشيد بيجم التي اسلمت وانجبت له ولدا وثلاث بنات، ولم تقل لنا نوال مصطفى عن ديانة لاخي باي قبل أن تصبح خورشيد بيجيم، لكنها قالت أن نواز أنشأ حزب شعب السند عام 1940، وكان على علاقة طيبة بممثل الحكومة البريطانية والحاكم العام لباكستان اسكندر علي ميرزا، الذي تحول فيما بعد إلى رئيس جمهورية باكستان بعد استقلالها عام 1956، وقد جعلت هذه العلاقة من نواز سياسياً شهيراً رغم أن دوره انصب فقط على إقليم السند .
كان الولد الوحيد الذي انجبه نواز هو ذو الفقار علي، ومن ثم أهله من صغره لأن يكون وريثه السياسي، فتلقى تعليمه الأولي في المدرسة العليا لكاتدرائية بومباي، ثم استكمل دراساته العليا في جامعة كاليفورنيا بأميركا ، ثم جامعة بركلي، ثم جامعة اكسفورد في بريطانيا التي حصل منها على شهادة الحقوق، وتزوج مرتين الأولى من ابنة عمه لكنه لم ينجب منها، والثانية من الإيرانية نصرت أصفهاني فانجب منها أربعة أبناء، بي نظيرعام 53 ومرتضى عام 54، وسانام المولودة عام 57، وشاه نواز عام 1958، وتأثر بشخصية مؤسس باكستان محمد علي جناح، واشتغل بالمحاماة عقب عودته من الدراسة في الخارج، ولمع اسمه عام 54 بسبب رفضه للانفصال بين باكستان الشرقية والغربية، وزادت شهرته - حسبما تقول مصطفى- حين سافر عام 57 مع الوفد الباكستاني لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، وألقى فيها الخطاب الرسمي لبلاده وهو في عمر 29 عاماً، ورأس وفد بلاده في العام التالي في أول مؤتمر دولي في جنيف لمناقشة قانون البحار، وفي العام نفسه صار وزيراً للتجارة في عهد اسكندر ميرزا، ليكون أصغر وزير في باكستان، ثم شغل منصب وزارة الخارجية من 63 حتى 66، وأحدث عدة انجازات كاتفاقية الحدود بين الصين وباكستان عام 63، ولكنه مع تفاقم الخلافات بينه وبين الرئيس محمد أيوب خان الذي خلف ميرزا خرج ذو الفقار من الوزارة، وأسس في العام التالي 1967 حزب الشعب الباكستاني، وفي عام 71 هزمت باكستان هزيمة ساحقة من الهند، كان من نتائجها أن استقلت باكستان الشرقية تحت مسمى بنغلادش عن باكستان الغربية، فاستقال أيوب خان وفاز حزب الشعب في الانتخابات البرلمانية وأصبح ذو الفقار رئيساً للوزراء، وخلال رئاسته اتخذ منحى اشتراكياً فأمم البنوك واهتم بالصناعات الثقيلة واستطاع الحصول على مفاعل ذري من فرنسا، وانسحب من الكومنولث عقب اعتراف بريطانيا ببنغلادش، وتوصل عام 1972 إلى اتفاقية مع الهند استعاد بمقتضاها الأراضي الباكستانية المحتلة.
لكن كل هذه الانجازات لم تستطع أن تشفع له أمام التيار الإسلامي المتزايد، فقد رأوه يتخذ موقفاً علمانياً في البلاد، ويحدث تقارباً مع الشيوعية في روسيا والصين، سواء من خلال العلاقات أو الزي الصيني الذي يرتديه، ومن ثم نهضت المعارضة الإسلامية، وقام ذو الفقار عام 1976 بترقية وتعيين ضياء الحق الذي لم تكن له أي مطامع أو ميول سياسية إلى قيادة الجيش كي يكون مؤتمن الجانب.
لكن المعارضة زادت، ودخلت البلاد في حالة من الفوضى عقب مقتل الزعيم الديني مفتي محمود، واستدعى الجيش للسيطرة على الأوضاع، لكن الجنود القادمين من إقليم البنجاب رفضوا مواجهة المتظاهرين، فاستغل ضياء الحق ضعف ذو الفقار والأحزاب السياسية عن مواجهة الفوضى وقام بانقلاب أبيض اعتقل فيه الحكومة وفرض الأحكام العرفية، وبعدها أفرج عن ذو الفقار وحدد موعداً للانتخابات البرلمانية لكنه شعر أن حزب الشعب قوي وقادر على كسبها، فاعتقل بوتو من جديد بتهمة قتل مفتي محمود وسوء استغلال السلطة، وانتهى الأمر بإعدامه في 4 يوليو 1997.
جمع العلاقات
ومثلما أورث شاه نواز ابنه ذو الفقار السياسة، وساعده على أن يكون أصغر وزير في السلطة الباكستانية، ووضعه على الطريق الغربي لتعلم السياسة والعلم وجمع العلاقات، فقد فعل ذو الفقار بأبنائه خاصة بي نظير التي أوصى أن تكون رئيسة الحزب من بعده رغم أنها لم تبلغ الثلاثين من عمرها، فقد تعلمت في هارفرد الأميركية، ثم نقلها الى اكسفورد البريطانية قليلة الخدمات بالنسبة للجامعة الأولى، والأكثر جدية في تعليمها منها، وحين اشتكت له ما تعانيه قال لها ان عليها أن تتقبل وضعها الراهن كي تتعلم كيفية العمل تحت ضغط، لكنها حين عادت عقب الدراسة لم تشهد من حكم والدها غير عام واحد حدثت بعده المأساة، وكان عليها أن تعمل حسب منهج اكسفورد، ومن ثم فقد جلبت لنفسها الضغوط سواء باستمرارها في زواجها من زرداري أو تحديها للرغبات الشعبية المناهضة لبقائه في السلطة وعلاقاتها البريطانية والأميركية وفي النهاية الإسرائيلية، وهذا ما حاولت أن تنفيه عنها نوال مصطفى.
صبحي موسى