لعنة كنعان الإنكليزية: عندما أباد الإنكليز أكثر من 18 مليون هندي أحمر في الولايات المتحدة!
كتب جهاد فاضل:
على مدى الاربعمائة سنة التي أباد فيها الانكليز في المنطقة التي تسمى اليوم الولايات المتحدة أكثر من 18 مليون هندي أحمر، ومحوا من ذاكرة التاريخ مئات الأمم والشعوب (كما فعلوا بعد ذلك بسكان استراليا ونيوزيلندة وعشرات الجزر التي كانت تعجّ بالحياة) لم يغب عن بالهم ان احتلال الأرض والابادة الجسدية ليست كل شيء، وانه لا بد من كسر العمود الفقري لضحاياهم، الا وهو لغتهم وثقافتهم وتراثهم الروحي. هذه الابادة الثقافية، أو «المحرقة الأخيرة للوجود»، بتعبير رسل ميتز أحد زعماء الحركة الهندية، هي موضوع كتاب منير العكش: «أميركا والابادات الثقافية».
يقول الباحث وهو مختص بالدراسات الأميركية انه امضى سنوات طويلة في دراسة اخلاق هذه الابادة الثقافية وايديولوجيتها واسلحتها وتقنياتها وابطالها، وابواتها المحليين، ووقائعها المخيفة، اعتمادا على مراجعة مئات المصادر العامة، وعلى البحث والتنقيب في صناديق الوثائق الحكومية التي تضم آلاف الأوراق التي ترى النور لأول مرة في صفحات هذا الكتاب: سجلات مفوضي المحفوظات الوطنية ووزارة الداخلية، أو وثائق قرن ونصف القرن من وثائق الشؤون الهندية، أو محفوظات الكونغرس والمنظمات التاريخية وغيرها. انها شريط مصور من مأساة تعجز كل مخيلات الرعب عن محاكاتها، مأساة ابطالها ملايين من البشر كانوا كما يقول زعيم هندي في إحدى هذه الوثائق: كشجرة تساقطت اوراقها فكنستها الريح إلى الأبد!
الانجليز الاكثر عدوانية
على مدى خمسماية سنة تعرض هنود أميركا لحملات غزو اسبانية وبرتغالية وفرنسية وهولندية وإنكليزية سلبتهم انسانيتهم، وأنزلت بهم فنونا عجيبة من القتل والتدمير، ونظرت كلها إلى حياتهم ولغاتهم وأديانهم باحتقار. لكن الإنكليز وحدهم كانوا الأكثر عنجهية وعدوانية واصرارا على تدمير الحياة الهندية واقتلاعها من الذاكرة الانسانية. وحدهم جاؤوا بفكرة مسبقة عن أميركا نسجوها من لحم فكرة اسرائيل التاريخية: فكرة احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ. فاستنسخوا بذلك احداثها، وتقمصوا أبطالها وجعلوها قدرهم المتجلي.
هذه الفكرة - في الكتاب - هي التي أرست الثوابت التاريخية الخمسة التي رافقت كل تاريخ أميركا:
- المعنى الاسرائيلي لأميركا.
- عقيدة الاختيار الالهي والتفوق العرقي والثقافي.
- الدور الخلاصي للعالم
- قدرية التوسع اللانهائي
- حق التضحية بالآخر.
وقد سلخت هذه الفكرة جلدها من حقبة الى حقبة، وجددت لغتها من جيل الى جيل، وطورها معاذيرها مع كل تطور جديد كالثورة الصناعية، ومع كل نظرية علمية جديدة كنظرية التطور. لكن جوهرها ومعناها وأهدافها لازمت المستعمرين الانكليز وقناعاتهم وتاريخهم وسياساتهم، واستحوذت على ألبابهم وعقولهم. كذلك ظلت حوافز هذه الفكرة وحروبها «الخيرية»، ورسالتها الحضارية واحدة لا تحول ولا تزول: انعاش الاسطورة، اسطورة «لعنة كنعان» التي نسجها بدو رعاع شيبون حاقدون على كل حضارات عصرهم. نسجوها من هاجس نهب هذه الحضارات باهلها وارضها وسمائها، واورثوا الزنابير الذين يرضعون هذه الاسطورة قبل حليب امهاتهم، عنجهية «الجلاد المقدس»، وأبلغ آداب «مسخ الآخر»، و«عبادة الذات»، وتقديس الجريمة.
القداسة الزائفة
الحضارة - وما أكثر تردادها واستهلاكها وابتذالها وتكني الانكليز بها - لم تستعر معناها من الاسطورة المؤسسة وحسب، بل انها نسجت منها كذلك تصوراتها ومعاييرها ونظامها القيمي والاخلاقي. فالفكرة، بلغتها الأم، تزعم فيما تزعم: - ان احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ، عمل مقدس أمر به الله. وبالتالي فانه يسمو على اخلاف البشر، وأمرائهم وقوانينهم وحياتهم وحرياتهم.
- ان فكرة أميركا تجسد مشيئة الله في أرض كنعان الجديدة (أي أميركا) وأهلها وثقافتها، كما جسدت فكرة اسرائيل مشيئة الله في أرض كنعان القديمة (فلسطين) وأهلها وثقافتها.
- ان المستوطنين الانكليز كالاسرائيليين التاريخيين استثناء وجودي يحتكر لنفسه الاضطلاع بارادة الله ويختص وحده بتنفيذها.
- ان معاملة السكان الأصليين لا تخضع للقوانين الاخلاقية أو الانسانية أو المبادئ العقلية، بل يحكمها ما نسجه العبرانيون من أساطير عن تجربتهم مع الكنعانيين. وهذا ما جعل المستعمرين الانكليز الذين يعتبرون انفسهم شعبا مختارا يطلقون اسم الكنعانيين على كل الشعوب التي أبادوها.
- ان نجاح فكرة أميركا في العالم الجديد يشكل مثالا طيبا يمكن تكراره حيثما اشتهى شعب الله. فالأرض «صحن من اللحم موضوع على المائدة، يقطع منه الانسان الأبيض ما يشتهي». وما تحقق في كنعان المجاز ليس الا خطوة على طريق كنعان الحقيقية: فلسطين والعالم العربي.
على مدى هذه المسيرة الطويلة من كنعان المجاز إلى كنعان الحقيقة، لم يغب عن أنبياء فكرة أميركا وجنرالاتها ان احتلال الأرض والابادة الجسدية ليست كل شيء، وانه لا بد من كسر العمود الفقري لضحيتهم، ألا وهو «لغتهم وثقافتهم وتراثهم الروحي».
حضارة الصابون والتعليم
ينقل الباحث من محاضر جلسات الكونغرس 33، الجلسة 23 ما يلي: «يجب مساعدة الحضارة على ابادة الهنود كما أمر الله يشوع ان يبيد الكنعانيين الذين لم يكونوا يختلفون عن جنود اليوم. ثم انه عوتب على تقاعسه عن الانصياع لأمر الله».
وعن مارك توين في عام 1867: «وقفت بجانب وزير الحرب وقلت له ان عليه ان يجمع كل الهنود في مكان مناسب ويذبحهم مرة وإلى الأبد. وقلت له: اذا لم توافق على هذه الخطة فان البديل الناجح هو الصابون والتعليم. فالصابون والتعليم انجح من المذبحة المباشرة، وادوم واعظم فتكا. ان الهنود قد يتعافون بعد مجزرة أو شبه مجزرة. لكنك حين تعلّم الهندي وتغسله، فانك ستقضي عليه حتما، عاجلا ام اجلا. التعليم والصابون سينسفان كيانه ويدمران قواعد وجوده. وقلت له: سيدي! اقصف كل هندي من هنود السهول بالصابون والتعليم، وَدَعْه يموت»!
ويبدو ان اضطهاد الهنود الحمر ما زال ساريا إلى اليوم في أميركا. فالباحث يشير في كتابه إلى حادثة تفيد ذلك: «لم يكن لفرحي حدود وأنا أرى بين طلاب الفصل الدراسي الجديد فتاة من سكان أميركا الأصليين لا تخطئ العين ملامحها «الهندية» برغم شعرها القصير ومظهرها «الأبيض» المبالغ فيه. كانت في السادسة عشرة وكان اسمها الأول «سنغ سوك». ولدهشتي، فانني حين ناديتها باسمها لم تجب. ولم ينفع النداء الثاني، بل زاد وجهها شحوبا واضطرابا وزادني حرجا. ومع انتهاء المحاضرة دنت مني وقالت وشفتاها ومنخراها يرتجفان: أرجو ان تناديني «جنيفر».هل يزعجك ان تناديني جنيفر؟ لا أريد أحدا ان يناديني «سنغ سوك»!
التطهر من الذات
ثمة اذن ما يسميه الباحث: ظاهرة الخوف من الذات، وكراهية الذات، والعنصرية ضد الذات، والارهاب الثقافي والنفسي «الأبيض» الذي جعل بعض السكان الأصليين يعتبر هويته كابوسا، ويجاهر بالقول: اتمنى لو انني لم اخلق هنديا. «لكن وجه الفتاة وهي تدعوني إلى ان اناديها باسم إنكليزي وليس باسمها الهندي، كان ابلغ من أي كتاب. انه سرد حي من فصل مأساوي آخر من فصول «فكرة أميركا»، فكرة احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة. حتمت على هؤلاء الاشقياء الذين نجوا بأعجوبة من اطول حرب وأدمى ابادة في التاريخ البشري ان يتطهروا من اسمائهم واخلاقهم وثقافتهم واجسادهم ويمثلوا دور الموتى»!
بل ان هناك شعوبا هندية لم تفقد اسماءها الحقيقية وحسب، بل صارت لا تُعرف ولا تعرّف عن نفسها الا بالاسم الذي شنعه به غُزاتها. في عام 1712 اطلق غزاة الشمال الأميركي على عنقود كبير من الشعوب الناطقة بلغة اوجيبوا اسم «الافاعي المخاتلة»، وأجبروهم ان يعرّفوا عن انفسهم به، ويكرهونهم رسميا على ان يلقنوه لأبنائهم واحفادهم، إلى ان صارت التسمية علما عليهم، أي ابرازا لخصائص هويتهم!.
أثار شارلز داروين بتأليفه كتاب «أصل الأنواع» ثورة في مجال العلوم الطبيعية، كما غيّر بصورة جذرية الطريقة التي ينظر بها ملايين الناس إلى انفسهم وعلومهم وقيمهم. وعلم النشوء والتطور الذي ولد على يديه اكتسب بعدا سياسيا منذ البداية وكان له وقع مزعج على العالم الذي نعيش فيه. ويتناول كتاب «الجين السياسي» كيفية سعي العلماء والسياسيين لاستخدام أفكار داروين في حل المشكلات الاجتماعية أو تعزيز الايديولوجيات السياسية. وقد ارتبطت بعض الاتجاهات التي ادعت انها استعرضت أفكاره ببعض من اسوأ الاحداث التي شهدها ماضينا القريب.
فعندما وصل ايريك هاريس الطالب في مدرسة كولومباين الثانوية في أميركا في صباح يوم 20 ابريل 1999 وارتكب مجزرته التي راح ضحيتها عدد من الطلاب من زملائه كان يرتدي قميص تي شيرت يحمل عبارة «الاختيار الطبيعي». وقبل قتل الطالب الفنلندي بيكا - ايريك أوفينين ثمانية اشخاص في مدرسته الثانوية في نوفمبر 2007، كان قد كتب ان «الاغبياء، ضعاف العقول ينجبون.. بوتيرة اسرع من الأذكياء، أقوياء العقول» وان «الموت والقتل ليس بأمر مأساوي بل انه يحدث في الطبيعة طوال الوقت».
وكان عنوان شريط اوفينين في موقع يو - تيوب «الاختيار الطبيعي 89». ويقول مؤلف الكتاب دينيس سيويل ان الطالبين كانا من اتباع «الداروينية الاجتماعية» الهواة. وقد استغلا نظرية النشوء والتطور لتبرير الفظائع التي ارتكباها. وفي هذا الكتاب الذي يقدم تاريخا موجزا لاساءة الاستخدام السياسي للداروينية، يوضح المؤلف سيويل ان تلك الافكار شكلت جزءا من تقليد طويل بائس ضم كل شيء ابتداء من عمليات التعقيم القسري إلى المجازر الجماعية. ويورد الكتاب بعض الأمور المزعجة، والمستفزة.
ويقر المؤلف ان داروين كان شخصا مهذبا ومتواضعا، غير ان من تحمسوا لافكاره منذ وقت مبكر كانوا أكثر عنفا. ففي بريطانيا كان هيربرت سبنسر صديق داروين الذي صاغ عبارة «البقاء للأفضل» يدعو بشدة الىعدم مساعدة الدولة للفقراء والمعوزين. فقد كتب يقول «اذا كان الانسان قادرا بما يكفي على الحياة، فانه يستطيع الحياة» واذا لم يكن كذلك «سيموت وانه من الأفضل ان يموت». أو كما اشار داروين نفسه، فانه «فيما عدا حالة الانسان نفسه، لا أحد من الغباء بمكان بحيث يسمح لاسوأ حيواناته بالانجاب».
وانضم الفابيون والاشتراكيون وجميع فئات الاتجاهات البائسة الداعية لتدخل الدولة بحماس إلى تلك القضية. فقد شكا الكاتب اتش - جي - ويلز قائلا اننا «لن نستطيع اقامة الحياة الاجتماعية والسلام العالمي الذي نسعى لتحقيقه مع وجود الاعداد الكبيرة من المواطنين الأدنى مرتبة ممن يفتقرون إلى التنشئة والتدريب الجيدين». وفي أميركا كان دعاة هذه الأفكار يدفعون المال للمشردين ممن لا مأوى لهم بارتداء لافتات كتب عليها «انني عبء على نفسي، وعلى الدولة، فهل يجب ان يسمح لي بالبقاء، والتناسل؟».
وتم سريعا الاعتراف بحركة تحسين النسل وسجلت قانونيا. وكان قانون التخلف العقلي لعام 1913، قبل الغائه في عام 1959 يقسّم غير اللائقين عقليا إلى «الاغبياء، والمعتوهين، وضعفاء العقول» وكان يتم عزلهم في «مستعمرات». ويروي المؤلف قصصا فظيعة عن الظلم الفادح مثل كيفية تحويل «الحيوان الصغير المنحرف الميئوس منه» بعد اجراء عملية جراحية في الدماغ في إحدى الملاجئ وكان يبلغ الرابعة عشرة من عمره إلى «صبي اجتماعي نظيف». ويقول سيويل ان «الداروينيه سيطرت تماما على الوضع في الملاجئ التي تؤوي من يعانون الاعاقة».
وفي بعض المناطق الريفية في الولايات المتحدة كان بعض الفرق التي تقوم بعمليات المسح تقيم حواجز في الطرق، وتقتحم البيوت بحثا عن من يعانون خلللا أو عيوبا. ولكن في عام 1927 اثيرت قضية حول المعاملة القانونية لكاري بوك التي حملت بعد اغتصابها من قبل ابن اخ رب الأسرة التي كانت ترعاها. وكانت قد اختيرت للاخضاع مثل والدتها لعملية تعقيم قسرية، وادخلت إحدى المستعمرات الخاصة بضعفاء العقول. وقد اعتبر طفلها البالغ من العمر سبعة أشهر بانه «يبدو غير طبيعي تماما»، والحق بالأسرة ذاتها التي كانت ترعاها. وفي عام 1927 توصل القاضي اوليفرر وينديل قاضي المحكمة العليا إلى انه «يكفي وجود ثلاثة أجيال من المعتوهين» وظلت قوانين التعقيم القسري سارية في بعض الولايات الأميركية حتى أعوام السبعينات، وفي ولاية اوريغون حتى عام 1983.
وقد بلغت ايديولوجية تحسين النسل أوجها في فترة النازية حيث تم قتل من كانوا يعانون الاعاقة البدنية والعقلية. ويورد الكتاب العديد من المظالم التي ارتكبت باسم نظرية تحسين النسل، مثل سجن فتاة بريطانية لمدة 18 عاما في قضية سرقة تافهة. واغلاق باب الهجرة في أميركا في وجه من اعتبروا بانهم مصابون باي نوع من أنواع الاعاقة.
وقد كان لأفكار الداروينيين المتطرفين تأثير في بعض السياسات العامة خصوصا تلك ذات الصلة بالفقر، والرعاية الاجتماعية، والهجرة والتربية والتعليم، والمساواة بين الجنسين، وحقوق الانسان.
ويضع التقدم الذي حدث في مجال العلوم الوراثية والنشؤ والتطور، النظريات الداروينية في خضم جدل ثقافي، وسياسي مرير مع الأفكار الليبرالية المساندة لحقوق الانسان. وسيكون لقضية الجين الوراثي دور أكبر واهم مستقبلا. فهناك خوف من محاولة الداروينيين اعادة احياء ما أطلق عليه علم تحسين النسل eugenics، والدراسات المشكوك في أمرها التي تتناول الفروقات في الذكاء فيما بين الاعراق.
غير ان المؤلف يقدم بعض الأدلة التي تشير إلى ان تلك الجماعة لن تستطيع الانتصار في قضية علوم الوراثة. وان المشكلة فيما يتعلق بقضية النشوء والتطور ليست النظرية بل تبرز المشكلة عندما يحاول البعض تطبيقها على أرض الواقع.
مسعود ضاهر يدرس الظاهرة من محمد علي إلى عبدالناصر هجرة الشوام إلى مصر.. وثائق ومعلومات
حمزة عليان:
ماذا فعل «الشوام» في مصر؟
هل تعدوا دور «الوسيط» الى الدور الطليعي بالتحديث والعصرنة؟ لماذا غضب الشعب المصري من «الشوام» واعتبروهم «متآمرين» وشركاء في نهب ثرواته مع الاجانب؟
هل «الشوام» تعبير عن المسيحيين ام انها كلمة فضفاضة لا تعني اللبنانيين، لانه لم يكن هناك لبنانيون او سوريون او فلسطينيون، بل كانوا جميعا من «الشوام»؟
لماذا لم يندمج اللبنانيون في المجتمع المصري وحافظوا على عصبيتهم وتعاطفوا مع المستعمر الخارجي على حساب الشعب المصري؟
وما السر في توجيه الهجرة اللبنانية المضادة بعد قرارات التأميم نحو اميركا وكندا واستراليا بدلا من لبنان وسوريا؟
كتاب د. مسعود ظاهر استاذ تاريخ لبنان الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية في بيروت «هجرة الشوام - الهجرة اللبنانية إلى مصر»، استغرق نحو ثلاث سنوات لإعداده وإخراجه وطباعته من دار الشروق في مصر عام 2009 يدرس فيه ظاهرة هجرة 100 الف لبناني خلال 100 عام الى وادي النيل.
الأرثوذكس أولاً
هجرة اللبنانيين الى مصر كانت طلبا للحرية السياسية، وبدافع الظروف الاقتصادية لعبت العائلة دورا اساسيا بجذبهم، اعتمد عليهم معظم الشركات الاجنبية لمعرفتهم باللغتين العربية والفرنسية ولخبراتهم في مجال الخدمات، وكانت غالبيتهم من الطوائف المسيحية، توافدوا الى مصر منذ اواخر القرن التاسع عشر تزايد عددهم حتى ناهزوا المائة الف مهاجر.
عرفوا بانغلاقهم على انفسهم وبدرجة اقل مع الاقباط، كان الارثوذكس الطائفة الاكثر عددا، يليهم الروم الكاثوليك الذين بلغ عددهم قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية قرابة الاربعين ألفاً، وحل الموارنة في المرتبة الثالثة، ووصل عددهم الى 18 الفا، ثم السريان الارمن وبأعداد بسيطة جدا من المسلمين في فترة ما بين الحربين العالميتين.
البعض نظر الى دورهم «كوسطاء» والبعض الاخر نظر اليهم بما يمتلكونه من دور طليعي في تحديث المجتمع وعصرنته والانفتاح على الغرب الاوروبي وانشاء دور الصحف وتحديث الطباعة والنشر وكذلك العمل في المهن الحرة والمصارف.
يشير المؤلف الى ان بعض «الشوام» حافظ على عصبية ضيقة اقليمية او طائفية وتعاطف مع المستعمر الخارجي واصبح عونا له على حساب الشعب المصري وان عملوا على نشر فكرة القومية العربية العلمانية.
الشوام والكنائس
تعبير «الشوام» يمتد على مسافة جغرافية واسعة فقد كان السائد في مصر ان عرب المشرق هم «الشوام» وعرب المغرب هم «المغاربة» والاوروبيون هم «الاجانب« ومعناه ان من قدم مصر من المنطقة الممتدة ما بين بادية الشام والاسكندرونة وجبال اليمن متوغلا نحو دمشق وحلب والقدس فهو من الشوام! ونظراً لاتساع هذه الرقعة الجغرافية ونظرا لعدم وجود احصاءات دقيقة حول جميع «الشوام» ولان جميع المهاجرين يعتبرون كالمصريين من رعايا السلطنة العثمانية ونظرا لان السجلات الاساسية كانت تكتفي بذكر المهاجر والمنطقة التي قدم منها كأن يقال طنوس الاسمر في جبل لبنان او الياس الفلسطيني او جبرائيل السوري.. لكل تلك الاسباب اقتصرت الدراسة في الوثائق والمصادر الشفوية والمكتوبة على ابراز الهجرة اللبنانية الى وادي النيل مع اشارات الى هجرة بعض الحلبيين والدمشقيين وقلة فقط من سكان المدن الفلسطينية.
تجدر الاشارة الى ان ما ساعد المؤلف على حصر الدراسة بالمسيحيين اللبنانيين احتفاظهم بسجلات خاصة بهم في كنائسهم واديرتهم ونواديهم وجمعياتهم ومدارسهم.
تنوعت مصادر الدراسة بالوثائق الاصلية وسجلات الكنائس وغرف التجارة وارشيف النوادي والحوارات الخاصة التي اجريت مع الابناء والاحفاد
خصص الفصل الاول من الكتاب للتعريف بالمصادر والتي تنشر للمرة الاولى، وهي سجلات مركز الدراسات الشرقية المسيحية في دير الفرنسيسكان بالموسكي ــ القاهرة ووثائق الازهر الذي كان يضم اربعين رواقاً وحارة ابن العصر العثماني ومطرانية الارمن الكاثوليك وبطريركية الارمن الكاثوليك بالاسكندرية والمارونية بالقاهرة، ومنها سجلات دمياط وطنطا والزقازيق وكنيسة درب الجنينة بالقاهرة والغرفة التجارية اللبنانية ــ المصرية واعلانات الفنانين والقنصلية اللبنانية بالقاهرة ورابطة الطلبة اللبنانيين والدراسات المنشورة.
من دمياط إلى الخرطوم
وضع الحواشي مع نهاية كل فصل من فصول الكتاب الذي جاء في بابين وافرد مساحات من الصفحات توازي عدد صفحات الفصل لاسيما في الحواشي التي اشار فيها للحوارات والمقابلات الشخصية التي اجراها في القاهرة ولبنان.
وصدر في الفصل الثاني اتجاهات هجرة الشوام الى مصر حتى الحرب العالمية الاولى بدأها بدمياط نظراً للارتباط الجغرافي على ساحل البحر المتوسط ثم الاسكندرية التي شكلت عنصر استقطاب للجاليات الاوروبية ثم منطقة قناة السويس ومنها بورسعيد والاسماعيلية والسويس، ومنهم من اتجه الى الخرطوم، وبالاجمال يمكن عمل مخطط للاتجاهات الاساسية للهجرة الى وادي النيل بواسطة خط دمياط ــ المنصورة ــ الزقازيق ــ القاهرة (خط نهري) وخط الاسكندرية ــ طنطا ــ القاهرة (خط حديدي) وخط بورسعيد ــ الاسماعيلية ــ السويس (خط بحري) وخط القاهرة ــ الخرطوم مروراً بالفيوم والمنيا وأسيوط ثم اعادة تجميع في القاهرة والاسكندرية والمنصورية الى ان جاءت قرارات التأميم والهجرة المضادة الكثيفة من مصر الى الخارج..
يذكر المؤلف ان العائلات البارزة في دمياط سنة 1809 كانوا من اصول حلبية ودمشقية في الغالب، ابرزهم جبرائيل عيروط (قنصل النمسا في دمياط كاثوليكي من حلب)
ويوحنا سرور (من عائلة كاثوليكية من بعلبك) وغالبية المهاجرين كانوا من الكاثوليك تقلدوا مناصب عليا في الدولة وعملوا في التجارة. تراجعت اهمية دمياط بعد فتح قناة السويس وتضاءل دورها بسبب التحولات الجذرية في بنية الاقتصاد المصري لمصلحة الاسكندرية وبورسعيد و«حي النصارى» كان شاهدا على نفوذ وقوة «الشوام» ويقدم تاريخ الحي حقائق ذات صلة بتاريخ البحرة طيلة القرن التاسع عشر خاصة في مرحلة حكم محمد علي باشا وابنائه من بعده.. ويستشهد الكاتب بدراسة غير منشورة للدكتور حلمي محروس اسماعيل حول اعداد المهاجرين الاجانب الى مصر مطلع حكم محمد علي عام 1811 وموقع الشوام بينهم.
يشير د. مسعود ظاهر الى البعد الطائفي في تمايز الشوام داخل مصر، حيث ارتبط في اذهان المواطنين المصريين ا ن كلمة «الشوام» تعني المسيحيين فقط، وذلك لفترة زمنية طويلة، اما موقع «الشوام» في الاقتصاد والادارة ابان حكم محمد علي فكان حيويا ومؤثرا والحاجة ماسة اليهم لاتقانهم اللغات العربية والاوروبية وبراعتهم في اعمال الصيرفة والبنوك ولديهم حظوة خاصة عنده، لا سيما دورهم في مشاريع التنمية على ضوء اختيار محمد علي تحديث مصر على الطريقة الاوروبية والنموذج الفرنسي بوجه خاص.
وعمل الشوام كمترجمين في عهد اسماعيل وفي العهود اللاحقة حتى الحرب العالمية الاولى ومنهم بشارة شديد وحنين نعمة الخوري وعيسى نرور وسعيد البستاني ونجيب حداد وجورجي زيدان ونجيب غرغور، ويستعرض تاريخ «آل مشاقة» في مجال التبادل التجاري بين دمياط والمناطق الشامية، ثم يكمل الحديث عنهم في القاهرة والاسكندرية والمنصورة وباقي المدن المصرية
في الباب الثاني يتحدث عن اللبنانيين في مصر في النصف الأول من القرن العشرين ويسميها «مرحلة التمركز والاندماج».
هجرة اللبنانيين تزايدت إلى مصر اثر أحداث 1860الطائفية والاحتلال البريطاني لمصر بعد القضاء على ثورة أحمد عرابي وقدرت ثروتهم المالية عام 1907 بحوالي 50 مليون جنيه مصري أي ما يزيد على مليار ونصف مليار من الفرنكات الفرنسية آنذاك، وهي نسبة تعادل عشر الثروة القومية المصرية، والهجرة مرهونة بعوامل اقتصادية وسياسية وعائلية وثقافية وليست بدافع طائفي أو اقتصادي بحت.
16 عائلة
أفرد الكاتب فصلا كاملا عن العائلات الشامية وألقى الضوء على تاريخ هجرتهم ومواقفهم وأعمالهم من خلال ذاكرة الأبناء والأحفاد الذين «تمصروا نهائياً» أو عادوا إلى لبنان، وأورد أسماء 16عائلة منها: آل كنعان، آل صوصة، آل زيدان، آل سكاكيني، آل فرح، أسرة بطرس النجار، آل صبَّاغ، آل صابات، آل صروف، آل ثابت وآل سلهب.
الفصل الثاني خصصه للحديث عن الآراء والانطباعات التي سادت حول الهجرة وأسبابها ودور الطائفية في تكوين الجالية السورية - اللبنانية، وكذلك المدارس واللغات في ترقيها ونفوذها حتى أواسط القرن العشرين، حيث تركز معظم الأغنياء في الاسكندرية من الروم الأرثوذكس والكاثوليك، في حين كان نفوذ الموارنة في المنصورة وأثرهم في الحركة السياسية المصرية خاصة آل تقلا والأهرام ومرحلة «تمصير مؤسسات الشوام».
استنتاجات
في الخاتمة يورد بعض الاستنتاجات ويشير الى ان معظم «الشوام» غادر الى مصر بعشرات الآلاف، ثم عاد قسم منهم الى موطنهم الاصلي او انتقلوا الى كندا واستراليا واميركا وافريقيا طمعا بالنفوذ والثروة، وكانت لقرارات التأميم الدور السياسي في «مصير مصر» فكثرت اعداد من غادرها من غير المصريين وعلى رأسهم اوروبيون وشوام ولم يلبث باب البحر ان فتح واسعا امام اهل مصر ا نفسهم فتحولت من بلد جاذب للمهاجرين الى بلد مصدر بمئات الآلاف الى الدول العربية والخليجية بشكل خاص.
من اهم الاستنتاجات التي توقف عندها ما له علاقة بالجانب السياسي، حيث لعب الشوام دورا ملحوظا في تسهيل حكم الاجانب لمصر «واستنزاف طاقاتها لذلك كانت نقمة الشعب المصري على كثير من مهاجري الشام»، دون نكران الدور التاريخي الذي ساهموا فيه بتحديث مصر وعصرنة مؤسساتها الاقتصادية والعمرانية.
كتاب بذل فيه مؤلفه جهدا واضحا يستحق الثناء لما احتواه من وثائق ومعلومات وروايات لم تنشر من قبل، لا سيما الملاحق التي وضعها في آخر الكتاب والخاصة باسماء العائلات المارونية في الاسكندرية (1851-1945) والمنابت الجغرافية للمهاجرين والعدد السنوي لحالات الزواج في الاسكندرية، والمتوفين واحصاء الموازنة والهيئات الارثوذكسية وبلغ عدد الملاحق 18 ملحقا، اضافة الى ملحق تعريف باسماء بعض المهاجرين من الذين لم يود ذكرهم في المصادر العامة.
«البيان لما يشغل الأذهان» ... من جديد الإسلام لم يظلم المرأة ولم يأمر بقتل المرتد والديموقراطية مبدأه
القاهرة - صبحي موسى
ترجع أهمية كتاب «البيان لما يشغل الأذهان» الصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ليس إلى أن مؤلفه هو مفتي الديار المصرية علي جمعة فقط، ولكن لأنه واحد من أهم من شغلوا هذا المنصب على مدار تاريخه، إذ أن البعض يرى أنه من المجددين، والبعض يرى أنه يجمع في فقهه ما بين الرؤية المدنية والرؤية الأزهرية في التعليم، لكنه في كل الحالات واحد من أبرز أهل الوسطية في الأحكام، وتحدوه الرغبة في ربط أحكام الدين بواقع الحياة، وليس وقفه عند على القرون الهجرية الأولى، ويبدو أن جمعة يعلم أهمية ما يمثله طرحه الوسطى في الفكر الديني الآن، ومدى احتياج المسلمين إليه بعدما كثرت الفضائيات والمتحدثين باسم الدين فيها، ومن ثم فقد عاد إلى ما شغل أذهان الناس من مسائل فقهية في القرن الرابع الهجري، وجمعها وصنفها في مائة فتوى، ساعياً من خلالها إلى الرد على أهم الشبهات التي يحيكها غير المسلمين على الإسلام، راغباً في أن تجمع هذه الفتاوى المائة شمل المسلمين من مختلف المذاهب ليكونوا يداً واحدة في مواجهة ما يحيكه الغرب لهم.
جاء كتاب البيان في خمسة أبواب، كل منها تضمن عدة فصول، وكل فصل اشتمل على عدة أسئلة كانت وما زالت مثارة سواء من قبل المنتمين إلى راية الإسلام أو الخارجين عليها، وكل سؤال يمكن القول انه جماع عدة مسائل فقهية أصبح من الضرورة أن يتصدى لها من يمكن تسميتهم بالمراجع الإسلامية، ليقدموا طرحاً شافياً لما يثار من لغط سواء من داخل أو خارج المسلمين. ومن ثم فقد انشغل الباب الأول بتعريف الإسلام ومسائل الاعتقاد والتوحيد، والباب الثاني عن النبي محمد صلى الله علية وسلم، وما يتعلق به وبمبادئ الفقه وأسباب الاختلاف فيه، أما بالباب الثالث فقد جعله للمسائل التي تتعلق بالعبادات كالذكر والصلاة والزكاة والصيام والحج، وجاء الباب الرابع عن الصوفية والمتصوفة، بينما جاء الباب الأخير عما يتعلق بالعادات.
وقد يبدو الأمر من خلال التصنيف العام على أنه لا جديد فيه، لكن القراءة المتأنية تبرز أن الكتاب احتوى على عدد من الفتاوى التي يحتاج المسلمون لمعرفتها من رجل يتمتع بالرؤية الوسطية والرغبة في الانفتاح على العالم ودرء الشبهات عن الإسلام، فنجده يتحدث عن ميراث المرأة، موضحاً أن الإسلام لم يقلل من شأنها، ولم يظلمها في حقوقها المادية، موضحاً أن الإسلام حدد أنصبة المواريث طبقاً لثلاثة معايير أولها درجة القرابة بين الوارث والموروث، وثانيها موقع الجيل الوارث، وثالثها العبء المالي الواقع على الوارث، وأن المعيار الأخير هو الذي جعل الأنثى ترث نصف الذكر في حال وفاة الأب، لكننا بدراسة حالات المواريث ككل نجد أن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل، وأن أضعاف هذه الحالات ترث فيها المرأة مثل الرجل، وأن هناك حالات كثيرة جداً ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، وأن هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل، ومن ثم فليس هناك موقف مضاد من الإسلام للمرأة، ولكن هناك دراسة عملية وواقعية لظروف الحياة ودرجات القرابة ومدى المسؤولية الاجتماعية، خاصة أن الرجل هو المسؤول من وجهة نظر الإسلام عن إعالة المرأة ومنزلها وأولادها، وأوضح جمعة كل هذه الحالات في معرض دفاعه عن وجهة النظر الإسلامية في التوريث وبناء المجتمع، كما أوضح أن الإسلام لم يأمر بتعدد الزوجات، ولكنه خصص حالات بعينها كالأرامل واليتامي، وفي حال عدم استطاعة العدل بينهن فقد فضل الاكتفاء بواحدة، وأوضح من خلال الأحاديث أن الرسول أمر بعض أصحابه متعددي الزوجات بطلاق ما زاد عن أربعة، كما أوضح أن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة في حق اختيار كل منهما لزوجه، وأن الشريعة أعطت للمرأة حق تطليق نفسها سواء بالشرط في عقد الزواج على أن تكون عصمتها في يدها، أو طلب التطليق من القاضي للضرر، أو الخلع، لكن في الحالتين الأولى والثانية تأخذ كل حقوقها، أما في الحالة الثالثة فإنها ترد إليه ما قدمه لها من مقدم صداق، ولا تأخذ منه أي نفقات، كما أوضح أنه لا يحق للابن أن يطيع والديه في تطليق زوجته، خاصة أمه، لأنه دائماً ما تكون هناك مشاحنات وغيرة بين النسوة بعضهن البعض، ولا يحق لمخلوق أن يطيع غيره في معصية الخالق حتى ولو كان والديه.
وفي ما يتعلق بالشريعة وتطبيقها فقد أوضح أن الإمامين جعفر الصادق والكرخي وغيرهما من أئمة الحنفية أسقطوا حرمة النظر إلى النساء العاريات في بلاد ما وراء النهرين لإطباقهن على عدم الحجاب، حتى أصبح غض البصر متعذراً إن لم يكن مستحيلاً، وقال ان الرازي ذهب في كتابه المحصول إلى أن الحكم لا يطبق إذا ذهب محله، وأن وجهة النظر التي أخذت بها الدول الإسلامية ـ وهي 56 دولة من أصل 196 ـ قالت ان عصرنا عصر شبهة، ولا يجب أن تطبق فيه الحدود نظراً لقول رسول الله «اردأوا الحدود بالشبهات»، وذهب إلى أن الاختلاف بين الشيعة والسنة اختلافات بسيطة في أمور فرعية، وأن الأزهر الشريف وهو أقدم مؤسسة علمية لتدريس علوم الدين الإسلامي تدرس المذهب الجعفري والزيدي منذ قرون، وهما أساس مذهب الشيعة، كما أوضح أن جمهور العلماء ذهب إلى أن الارتداد ـ نفسه ـ عن الدين الإسلامي لا يبيح إهدار دم المرتد، ولكن ما يبيحه هو الإتيان بأمر يفرق الجماعة ويفتنها، فضلاً عن محاربة المسلمين، وذهب علي جمعة إلى أنه لا تناقض بين الإسلام والديموقراطية التي تعد شكلاً للحكم يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم وإقرار الشورى والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الظلم، وأنه لن يضر المسلمين استخدام لفظ غربي كالديموقراطية، فمدار الأمر ليس على الأسماء ولكن على المضامين.
الكتاب: البيان لما يشغل الأذهان
المؤلف: مفتي الديار المصرية علي جمعة
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
القطع: كبير
عدد الصفحات: 390
رحلة الجاسوسية والغدر الكولونيل ليشمان.. والدرب الطويل إلى بغداد
مهاب نصر
«أخبرني خادمي الفارسي بأن أعرابيا بالباب يود أن يراني، وما لبث أن دخل عليّ بدوي طويل القامة شديد الشحوب قذر المنظر تماما فحياني وقال: هل لديك شيء آكله؟.. وأخيرا وجدته في المطبخ يجلس مع رفيق له أمام صحن كبير من الرز يأكل منه بشراهة مستخدما في ذلك أصابعه وفقا لطريقة العرب في تناول الطعام».
لم يكن هذا الشخص الذي تحكي عنه الفقرة سوى الكولونيل والجاسوس الإنكليزي ليشمان الذي جاب أرجاء الجزيرة العربية والعراق ومنطقة دير الزور وغيرها متشربا عادات وتقاليد المنطقة، ومتقربا من سادة بعض قبائلها في لحظة كانت المنطقة العربية تخضع فيها للأطماع الاستعمارية من أجل اقتسام تركة الرجل المريض «الدولة العثمانية» من جهة، والتحكم في طريق مستعمراتها «خاصة بريطانيا» في شرق آسيا، كما أن تدفق النفط في منطقة عبدان حيث قامت المصافي ومدت الأنابيب جعل «قطرة البترول تساوي قطرة الدم»، في ذلك الوقت من مطالع القرن العشرين إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بقليل كانت جولات هذا الجاسوس، وكان دوره الخطير في أحداث المنطقة وبعض الجهات التي شهدت مقاومة للاستعمار مثل دير الزور، وقبائل البوكمال، وهو ما يتناوله كتاب «الكولونيل ليشمان والدرب الطويل إلى بغداد» الصادر أخيرا لمؤلفه أسعد الفارس .
يقول المؤلف عن أسباب تأليف الكتاب «يعود اهتمامي بهذا الرجل إلى مطلع الخمسينات من القرن العشرين، عندما كانت القصص تروى والأشعار تنشد عن الإنكليزي نجيمان أو ليشمان بين أهلنا من عرب الفرات ومما يؤسف له جهلنا بتاريخ هذا الرجل الذي فعل الأفاعيل في المنطقة فقد كان المحارب والعدو اللدود الذي استخدم الطيران ليقصف ديار أهل الفرات لأول مرة في تاريخ الجيش البريطاني في المنطقة، فجل ما كان يكتب عنه كونه المسكين الذي كان يبيع الفرارات في مدينة البوكمال السورية وينام في المساجد، والذي اكتشف فيما بعد أنه جاسوس بريطاني ولذا بذلت جهودا كبيرة لجمع كثير من المعلومات عن ليشمان وعن تاريخ الحرب التي خاضها الجيش البريطاني في المنطقة العربية عام 1914-1920».
بداية الرحلة
تنقل ليشمان أثناء خدمته بين عدة مناطق أكسبته خبراته الجاسوسية وأهم محطاته كانت جنوب افريقيا حيث أرسلته بريطانيا إلى جبهة الحرب هناك فتعلم من أسلوب الحرب القذرة، ثم التحق بالجيش المرابط في الهند، وأخيرا رافق ليشمان الجيش البريطاني في حملته على العراق في الحرب العالمية الأولى وبقي يعمل هناك ويؤدي مهامه حتى قتل في خان النقطة قرب الفالوجة في العراق عام 1920.
ويوجز المؤلف تاريخ ليشمان في ثلاث محطات أساسية:
مرحلة التطوع في الجيش البريطاني 1898 والخدمة في جنوب افريقيا والهند والتحاقه بالجيش البريطاني الذي غزا العراق من الجنوب عام 1914
ثم مرحلة الترحال والتجسس التي شملت مناطق التبت وكشمير وطريق العودة من الهند عبر الشرق الأوسط والرحلات الاستكشافية في الوطن العربي مرة ما بين عامي 1909-1910، وأخرى عام 1912.
وتأتي المرحلة الأخيرة التي انتهت بمقتله في الفالوجة متناولة الخلاف بين ليشمان والشيخ الضاري بن محمود شيخ قبيلة الزوبع في الفلوجة.
مطارد من الثوار
يحكي المؤلف عن الشخصية الماكرة لليشمان الذي كان يجوب البادية كدرويش بائس يأوي إلى خيام العرب ضيفا فلا يسألونه عن هويته ثم يعود من رحلته التجسسية ليقود مفارز الشبانة والعملاء للإغارة على الأماكن التي كانت تستضيفه ويتعقب المعادين لبريطانيا حتى كشف أمره فصار هدفا للثوار إلى أن أدركه الموت.
تولى ليشمان الحكم العسكري لولاية الموصل حيث أعلن عن فشله السياسي قائلا «لست متأكدا من أنني أمثل ضابطا سياسيا نموذجيا، ذلك لأن وسائلي كانت فظة جدا» ، فمع الأكراد مثلا دفع مجموعات من الجيش لمهاجمة القرى، وفرض الغرامات وقتل شيوخ القبائل مما زاد حدة الثورة عليه.
وكان لليشمان دوره في الحرب على أهل البوكمال حيث جمع المعلومات عن الثوار الذين يحركون العشائر للمقاومة ثم قام بجيشه ليشن هجوما على قرية الغبرة ، ثم امتد طغيانه ليشمل كل القرى التي يفترض فيها وجود الثوار ويحرق أراضي المزارعين ويسوق الماشية ويدمر بحسب اعترافه كل ما يستطيع أن يراه.
اعتمد المؤلف في تأليفه على المصادر التي تحدثت عن ليشمان ككل لا يتجزأ، وبحسب قوله فقد اختصر من جوانب السيرة بينما استرسل في تحركاته عبر أحداث الوطن العربي في العراق وسوريا وشمال الجزيرة العربية» وخصوصا الحرب المدمرة في لواء دير الزور في سوريا، وهي الثورة التي توصف بالثورة المنسية في التاريخ».
يبرز الكتاب من ثم الآلية الغادرة التي تعاطى بها الاستعمار مع المنطقة العربية بينما كان أهلها واقعين بين نفوذ يتراجع للدولة العثمانية، وانقلاب يقترب في موازين العالم مع الجيوش الأوروبية التي أعادت تقسيم المنطقة وتفكيكها. ومن ثم يسقط هذه الأحداث على ما عانته وتعانيه المنطقة العربية حاليا من انقسامات وقضايا سببها الاستعمار.
كتاب يحمل مفارقاته بداخله الخمريات في العصر الأموي.. بين الإبداع والإثم
محمد النبهان
مفارقتان، فيهما شيء من الغرابة، يمكن تلمسهما مبدئيا في كتاب رجاء أحمد صادق «الخمريات في العصر الأموي» الصادر أخيرا عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت، كلاهما ينطلق من خلفية الكاتبة الثقافية وسبب اختيارها الموضوع.
تتمثل المفارقة الأولى منذ السطر الأول لمقدمة الكتاب بقلم سالم علي سبيتي، يقول: «الباحثة رجاء أحمد صادق تنكَّبت جادة الشعر الخمري في العصر الأموي، وفي دخيلتها إيمان متعبد عميق، ينفر من المحرمات جميعا، وينبذها قولا وعملا، ولا سيّما الخمرة التي هي رأس الشرور في الإسلام».
ينطلق المقدم والباحثة من مبدأ أن «الخمرة رأس الشرور في الإسلام»، فقد كان لابد من هذه المقدمة المطولة لـ «درء الشبهة» عن انحياز الباحثة لهذا الموضوع وتبنيها له، وهي كما يقول المقدم «ابنة أسرة دينية تتوارث العلم الديني وتترأس مجالسه أبا عن جد، منذ أكثر من ثلاثة قرون، فالعلامة الشيخ إبراهيم يحيى، الجد الرابع لرجاء صادق، كان المجتهد البارز فقها في زمانه، والمبرز الأول شعرا، وجدها لأبيها العلامة والشاعر والأديب المبرز، الشيخ عبدالحسين صادق، كان أحد أئمة زمانه في العلوم الدينية، وكذلك عمّاها: العلامة الشيخ محمد التقي، والمفتي الشيخ حسن إلى جانب نسيبهم العلامة الشيخ عبدالكريم ووالدها المتفقه في دينه والمحافظ في مسلكه ونهجه في دنياه، كانوا مركز هداية للكثير من المسلمين والمؤمنين..»
لذلك يجد المقدم نفسه أمام تبرير اختيار الباحثة لهذا الموضوع «لأنها تدرك بعمق مدى الإبداع وقوة الصنعة البيانية والبلاغية لدى شعراء الخمرة عامة، ولأنها، بما لديها من حس تربوي نفسي، وهي المربية الفاضلة العاملة في ميدان التدريس، تدرك أن إدمان الخمرة يشكل عقدة نفسية لدى المدمنين، تفرض نفسها على أحاسيسهم وتصرفاتهم وتفكيرهم وانفعالاتهم، فيشعرون بهيمنات روحية تجسدها أشعارهم الهائمة في كل وادٍ». ويتساءل المقدم عن نجاح الباحثة في بحثها الخمري المعادي لها (نفسيا واعتقادا ومسلكا للحياة)، ثم يجيب ويعقد هذه المقارنات التي عقدتها الباحثة طوال صفحات الكتاب، وهذه هي المفارقة الأخرى، بين الاعجاب بقوة الشعر الخمري وتلمس جمالياته والسكر بأبياته، وبين الدرس الموعظي الموجه للقارئ بأن «الخمرة رأس الشرور في الإسلام».
خمريات الجاهليين
وإذ تمهد رجاء لكتابها بآية (التحريم)، مؤكدة فكرة نهي الإسلام عن الخمرة وحدّ شاربها، وتحريمها، لتتابع «إنما صحيح أيضا أن الخمرة بقيت، رغم ذلك، ذات سلطان على كثير من الأفراد والجماعات من المسلمين، وفيهم الخلفاء والعديد من أصحاب المسؤوليات الكبيرة في دولة الإسلام». ومن هنا تجد الباحثة لنفسها مدخلا لدراسة هذا الغرض الشعري المتمثل في الخمرة لتجد «سبيلها إلى الاستقلال الذاتي، وتصبح موضوعا للشاعر يقف عليه قصيدته التي غالبا ما كانت تجيء قصيرة تصلح للغناء بين زُمَر النّدامى».
لا شك أن البحث الذي وضعته رجاء محمد صادق في كتابها «الخمريات في العصر الأموي» فيه جهد كبير تمثل في المقدمات لكل فصل والمصادر التي رجعت إليها الباحثة، والأهم من ذلك السؤال الذاتي المحرك للموضوع حول هذا الفيض الشعري الموقوف على الخمرة، وسبب ازدهاره بعد الإسلام؟ ليكون الباب الأول من الكتاب حول «الخمرة والشعر الجاهلي» و«علاقة الشاعر الجاهلي بالخمرة»، بمقدمة بانورامية عن حياة العرب قبل الإسلام «المشحونة بالتناقضات»، كما تراها، «فإلى جانب تمسك العرب بالعديد من القيم الأخلاقية والفضائل: الكرم وحسن الضيافة، الشجاعة والشهامة، كانت لهم بعض العادات السيئة التي قضى الإسلام على معظمها قضاء مبرما، كوأد البنات، واستقسام الأزلام ومعاقرة الخمرة». حيث تتوقف عند الخمرة، باعتبارها الحنين والحب والتوق إلى الحرية لدى الشاعر الجاهلي. والباحثة إذ تفرد هنا بعض التعريفات الجاهزة للشعر أو المجتمع الجاهلي، تقع بالمطب نفسه الذي لا يخرج عن نطاق المسلمات واليقينيات.
فهي حين تنظر للمجتمع الجاهلي كـ «مجتمع بدائي» بدوي، يكون الشعر فيه ابن البيئة، يصورها وينقلها حرفيا. فإنها ترى أن «القصد الرئيسي من شرب الخمور، كما ذكر طرفة (في معلقته)، ليس الإدمان المتعطش لشربها فقط، إنما هو السعي للذة متوخاة من ورائها حتى لو أبعد عن القبيلة، لسوء خلقه وانغماسه في الملذات واللهو وطلبا للفتوة مقصد كل شاعر وفارس، وكانت تتسامى عند كثير من فرسانهم، مثل عنترة، بل حتى لدى صعاليك مثل عروة بن الورد». في حين أن ما قاله طرفة يقوله غيره في هذا الفن الشعري الذي عبرت عنه رجاء بأنه ترجمة الحياة آنذاك، الأمر الذي يحتاج إلى دقة في البحث والبعد عن المسألة الأخلاقية في تحريم الخمرة في الإسلام وإسقاط التعاليم الدينية على النص الشعري.
الخمرة.. والإسلام
ومهما يكن من أمثلة وأدلة من ذم الخمرة في عصر ما قبل الإسلام يبقى أن الشاعر آنذاك ربط الخمرة بالفروسية والكرم في مواطن كثيرة، وهي نقطة تشير إليها الباحثة وتورد أمثلتها. وخصوصا حين تناقش رجاء صادق في الباب الثاني «الخمرة في الإسلام» و«الخمرة والشاعر المسلم»، وتفرد مساحة تاريخية للمعضلة التي واجهها الشاعر في صدر الإسلام جراء تحريم الخمرة، مجاهرة بعضهم أو تستر البعض الآخر، حتى أن قانون الحد الذي وضعه الإسلام لم يسلم من التجاوز عليه، رغم الخوف المسيطر على الشعراء من القانون الإسلامي وتطبيقه بالقوة والحزم. وهي إذ تورد نماذج مهمة من قصائد الشعراء الخمريين «المسلمين» ومنهم الولاة الذين جاؤوا في هذه المرحلة اللاحقة «للمجتمع الجاهلي»، تقول «فهذا الانفلات الشامل الذي كان يعيشه الإنسان الجاهلي، حدته الشريعة الإسلامية، وهذا السعي الدائم، وراء الملذات والشهوات المتمثلة في الأنانية الذاتية قضى عليها الإسلام قضاء مبرما».
يبدو أن هذا الحكم ينطلق أيضا من يقين مسبق بالقانون المجرم للخمرة في صدر الإسلام، أو من التأثر الثقافي الديني الذي تنطلق منه. لكنها في المقابل تفرد مساحة للجدل الفقهي حول التحريم ومراحله، ثم تذكر حرج الشعراء تجاه ذكر الخمرة الذي أدى، بالضرورة، دخول أفكار جديدة على قصائدهم، ومواقفهم من الخمرة التي بدأت تتغير «تماشيا مع المفهوم الجديد للحياة، والأسس الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام».
العصر الأموي.. وشعرية الخمر
وعبر فصلين، تدخل الباحثة في العصر الأموي بفصل أول حول «أسباب ازدهار الشعر الخمري»، وتعزوه الى تغير الحياة وانفتاح المجتمع الإسلامي على حضارات أخرى، وما صاحب ذلك من تعصب ونشوء للطبقية، وخصوصية المجتمعات المدنية. وما رافق ذلك من تباين بين الحواضر العربية على جميع الأصعدة، فجاءت الخمرة تلبية نفسية وليدة، أو شكلا من أشكال المعارضة، أو ملاذا يفر إليه الشاعر رغم إدراكه إثمها، وعبر مراحل وبيئات مختلفة أدت إلى نمو الشعر الخمري، وبروزه «كغرض شعري منفصل بعض الشيء عن بقية أغراض القصيدة».
كذلك؛ تفرد رجاء صادق المساحة الباقية من الكتاب لدراسة هذا الغرض الشعري، وتنقد أسلوب الشاعر الأموي التقليدي، وما أعطاه الأخطل مثلا من حرية التعبير والانفتاح على العالم الشعري الجديد. لتنتقل منه إلى طابع أكثر جدة من الناحية الفنية من خلال مرحلة الخليفة الماجن الوليد بن يزيد ومجان العراق الأكثر مجاهرة بشرب الخمرة، متحدين مبادئ الإسلام وقيمه، الى درجة تمزيق الوليد للقرآن.. فقال يا رب مزقني الوليد!
وهكذا تقدم رجاء صادق اجتهادها عبر فصل «الاستهتار بالدين وعقدة الذنب»، وكيف ربط الشاعر الأموي حياته بالخمرة، لتصبح مذهبا شعريا متجددا، درست من خلالها العوامل النفسية التي أبرزها الإحساس بالذنب. ولا تتأخر في تأكيد شعرية هذه المرحلة الخمرية التي أشعلها هذان التهتك والاستهتار وكانت النبع الذي نهل منه أبو نواس غذاءه الروحي بصوره الشعرية الشعبية والجذابة.
مسيرة ماو غيرت حياة ربع سكان العالم «بلا قيود».. حكاية المسيرة الصينية الطويلة
محمد حسن
تمثل المسيرة الطويلة الملحمة التي أوصلت الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة بقيادة الزعيم ماوتسي تونغ. ويروي كتاب «بلا قيود» للمؤلف دين كينغ حكاية تلك المسيرة الأسطورية التي غيرت تاريخ ربع سكان العالم، وباتت معلما من معالم تاريخ القرن العشرين.
وقد أمضى المؤلف خمس سنوات يتابع خطى تلك المسيرة على الأرض. وركز خلال ذلك على حالة ثلاثين امرأة تم اختيارهن للمشاركة فيها، وقد تمكنت تلك المجموعة من النسوة من النجاة بعد تلك المسيرة والمخاطر التي واجهتهن، وذلك على عكس من الرجال ممن أدركهم الموت خلالها.
ويقول من تابعوا المسيرة انها قطعت 3750 ميلا من جنوب شرق البلاد إلى شمالها الغربي، غير ان زعيمها ماو قال انه قطع 6000 ميل.
تبدأ حكاية تلك المسيرة بعد تخلص الثوار من آخر امبراطور حكم الصين، وتأسيس صن يات - سين لجمهورية الصين. وقد كان لمؤسس الجمهورية مساعدان هما ماوتسي تونغ وشيانغ كاي - شيك. وبعد وفاته دخل الاثنان في نزاع مرير.
الارهاب الأبيض
وبعد تولي شيانغ كاي - شيك قيادة الجيش الوطني شن حرب «ارهاب أبيض» ضد الشيوعيين الموالين لماو. ورد ماو على ذلك بقيادة انتفاضة في مقاطعة هونان مسقط رأسه، وهي الانتفاضة التي تم قمعها بوحشية. وتشير التقديرات إلى انه قد جرى اعدام أربعة اخماس القادة الشيوعيين. وفي تلك المرحلة أعلن من تبقى من القادة عن قبول النساء ضمن صفوف حركتهم كرفيقات متساويات للرفاق الثوار. وكانت النساء في ذلك الوقت يعانين من التمييز، والاضطهاد في المجتمع الصيني، وبالتالي لم يكن من المستغرب تدفقهن للالتحاق بصفوف الثورة.
وفي عام 1934 حوصر الجيب الرئيسي للثوار بقيادة ماو في جنوب شرق مقاطعة جينانغ شي التي كانت تخضع للحكم الشيوعي. وشدد الجيش الوطني البالغ قوامه مليون جندي الخناق على الثوار. وكانت الطريقة الوحيدة أمام قوات ماو للنجاة هي الهرب من ذلك الجيب. وفي ليلة مظلمة من ليالي شهر أكتوبر عام 1934 تسلل 68 مقاتلا عبر صفوف الأعداء، ومن هناك انطلقت المسيرة الطويلة التاريخية.
ولم يكن أي من المشاركين يدرك كم من الوقت كانت ستأخذ تلك المسيرة التي شاركت فيها ثلاثون امرأة من بينهن زوجة ماو، وزوجة رفيقه القائد شو اين - لاي.
حكومة وجيش متنقل
ولقد شكل الثوار جيشا، وحكومة تسير على الاقدام. وكانوا يحملون معهم اطنانا من المعدات المكتبية، ومطبعة، وآلة تصوير بالاشعة السينية، وقوالب من الذهب، ونقودا معدنية. ولكن لم تكن معهم كاميرا تصوير سينمائي والصور الوحيدة التي وصلتنا لتلك المسيرة التاريخية بصنع صور فوتوغرافية قديمة غير واضحة، ولقطات لمجموعة من المقاتلين. ولهذا السبب لا يعرف الكثير عن تلك التجربة الفريدة.
وقد بدأت مسيرة الثوار بسرية تامة حتى ان شيانغ لم يكتشف أمرها الا بعد مضي ثلاثة أسابيع. وحال اكتشاف طائرات الاستطلاع لموقع المسيرة، يبدأ قصفها بالقنابل والمدافع الآلية، وكانت الطريقة الوحيدة أمام الثوار لحماية انفسهم، هي الانتشار والبحث عن سواتر تقيهم من الضربات. وفوق كل ذلك واجه الثوار العوائق الطبيعية، وهطول الأمطار الذي لا يتوقف الذي اتلف احذيتهم المصنوعة من الجريد. وان كان هطولها قد اوقف على الاقل طلعات الطائرات القاذفة، وكان الثوار يقطعون في المتوسط ما بين 25 إلى 30 ميلا في اليوم. وقد ارهقهم المشي المتواصل، واتلف احذيتهم التي استبدلوها بالخرق.
وكانت كل امرأة تحمل قدرا كبيرا للطهي وتناول الطعام، وغسل أرجلهن والجلوس عليه في المناطق الموحلة. وكان على المشاركين في المسيرة عبور سلسلة متتالية من الأنهار بواسطة جسور بدائية من القوارب والسلاسل. وكانت التيارات في بعض الأحيان قوية قد تجرف الحيوانات والحمالين. وقد فقد الثوار عند عبور أحد الأنهار تحت القصف المتواصل ثلاثين ألفا.
حساء الأحذية
وبعدها واجه الثوار عبور الهضبة التبتية بجبالها الثلجية الشهيرة التي يصل ارتفاعها إلى 14 ألف قدم. ولم يكن أمام الثوار بديل سوى تسلقها، وقد ظلوا يعانون من حالات الاغماء بسبب الارتفاع. وتلا ذلك محاولات عبور المناطق الصخرية الوعرة والمستنقعات ومناطق لا تعيش فيها أية حيوانات يمكن اكلها حتى جرذان الجبال. وشرعوا في ذبح البغال التي وفرت جلودها لهم فرصة صنع أحذية جديدة. كما بدأوا بعدها في غلي الأحذية في الماء لصنع الحساء، وخلط الحشائش مع الطحين لصنع الكعك.
وفي الأيام ذات البرودة القاسية كانوا يجدون اثنين من الرفاق جالسين ساندين ظهريهما بعضهما الى بعض دون حراك وقد توفيا من شدة البرد. كما توفي 400 مقاتل على الاقل نتيجة الجوع.
وعلى الرغم من ذلك كان الانضباط متبعا بصورة مثالية في اوساط المشاركين في المسيرة، إذ بدلا من اللجوء إلى النهب والسلب في المناطق التي تمر عبرها المسيرة كان يفرض على المقاتلين دفع ثمن ما يأخذونه، واعادة أي شيء استعاروه، واصلاح كل ما أتلفوا أو خربوا من الممتلكات، والأمر الأكثر صرامة كان عدم ممارسة الجنس لان الحمل يعيق حركة المسيرة. وعلى الرغم من ذلك وقع المحظور، حيث انجبت العديد من النساء أثناء المسيرة، وكن يقمن بلف الجنين بالقماش وتركه في مسكن مهجور على ان يعدن إليه في وقت لاحق. وقد تمكنت واحدة منهن على الاقل من استعادة طفلتها التي اطلقت عليها اسم «المسيرة الطويلة وو».
نهاية المسيرة
والتقى في نهاية المطاف الجيش الأول بقيادة ماو في شمال غرب البلاد مع الجيش الرابع الذي كان قد انطلق من الوسط. وبعدها جاءت الأوامر من موسكو بتوحيد جميع الأطراف الصينية للوقوف بوجه الغزو الياباني الذي كان قد احتل منشوريا. وكان ذلك يعني اقامة تحالف فيما بين الشيوعيين والقوات الوطنية التي كانت تلاحقهم. وأعطيت القيادة المشتركة إلى تشيانغ كاي - شيل الذي كانت تحت امرته أكبر الجيوش.
وكانت كراهية اليابانيين العامل الوحيد الذي وحد الصينيين، وذلك إلى عام 1945، حين هُزم اليابانيون، وبعدها تم استئناف الحرب الأهلية وكأن البلاد لم تعان بما يكفي.
وقد حققت المسيرة الطويلة انجازا واحدا هو تحول مناطق كبيرة في الوسط وفي شمال غرب البلاد إلى دعم الحركة الشيوعية. وبحلول عام 1949 انسحب تشيانغ إلى تايوان، وولدت جمهورية الصين الشعبية فوق أراضي البر الصيني.
ومن بين القوانين الأولى التي أصدرتها الدولة الوليدة قانون اصلاح الزواج الذي حظر زواج القاصرات والزواج القسري ووأد البنات والتعدد، والعمل على حماية الأرامل والأطفال.
حب جديد وزوجة جديدة
كما تمت مكافأة العديد من النساء ممن شاركن في المسيرة بمنحهن مواقع رفيعة في هيكل الحزب. ولم تحظ زوجة ماو البطلة بهذا التكريم. وبعد نهاية المسيرة تدفقت الشابات الطموحات إلى المقر الرئيسي لماو تسي تونغ ومن بينهن جيانغ كوينتش الممثلة الشابة القادمة من شنغهاي. وبعد وقت قصير نشأت بينها وبين ماو علاقة حب، وأصبحت فيما بعد مدام ماو الشهيرة ضمن عصابة الأربعة التي قادت الثورة الثقافية في عام 1966. وقد أرسلت زوجته الأولى إلى روسيا لتلقي العلاج إلى أجل غير مسمى.
وخلال الثورة الثقافية عانت المقاتلات ممن شاركن في المسيرة الطويلة من التهميش والاهانة، بل والسجن، مما دفع البعض منهن إلى الانتحار ولم يرد إليهن اعتبارهن إلا بعد وفاة ماو وسقوط مدام ماو. وعلى الرغم من ذلك فقد استمر ولاؤهن للحزب حتى الموت. وقد توفيت آخر واحدة منهن في العام الماضي.
والكتاب يزخر بتفاصيل عديدة حول مسيرة تأسيس جمهورية الصين الشعبية التي تحولت الآن إلى قوة اقتصادية كبرى وقوة سياسية وعسكرية صاعدة.
مسيرة ماو غيرت حياة ربع سكان العالم «بلا قيود».. حكاية المسيرة الصينية الطويلة
محمد حسن
تمثل المسيرة الطويلة الملحمة التي أوصلت الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة بقيادة الزعيم ماوتسي تونغ. ويروي كتاب «بلا قيود» للمؤلف دين كينغ حكاية تلك المسيرة الأسطورية التي غيرت تاريخ ربع سكان العالم، وباتت معلما من معالم تاريخ القرن العشرين.
وقد أمضى المؤلف خمس سنوات يتابع خطى تلك المسيرة على الأرض. وركز خلال ذلك على حالة ثلاثين امرأة تم اختيارهن للمشاركة فيها، وقد تمكنت تلك المجموعة من النسوة من النجاة بعد تلك المسيرة والمخاطر التي واجهتهن، وذلك على عكس من الرجال ممن أدركهم الموت خلالها.
ويقول من تابعوا المسيرة انها قطعت 3750 ميلا من جنوب شرق البلاد إلى شمالها الغربي، غير ان زعيمها ماو قال انه قطع 6000 ميل.
تبدأ حكاية تلك المسيرة بعد تخلص الثوار من آخر امبراطور حكم الصين، وتأسيس صن يات - سين لجمهورية الصين. وقد كان لمؤسس الجمهورية مساعدان هما ماوتسي تونغ وشيانغ كاي - شيك. وبعد وفاته دخل الاثنان في نزاع مرير.
الارهاب الأبيض
وبعد تولي شيانغ كاي - شيك قيادة الجيش الوطني شن حرب «ارهاب أبيض» ضد الشيوعيين الموالين لماو. ورد ماو على ذلك بقيادة انتفاضة في مقاطعة هونان مسقط رأسه، وهي الانتفاضة التي تم قمعها بوحشية. وتشير التقديرات إلى انه قد جرى اعدام أربعة اخماس القادة الشيوعيين. وفي تلك المرحلة أعلن من تبقى من القادة عن قبول النساء ضمن صفوف حركتهم كرفيقات متساويات للرفاق الثوار. وكانت النساء في ذلك الوقت يعانين من التمييز، والاضطهاد في المجتمع الصيني، وبالتالي لم يكن من المستغرب تدفقهن للالتحاق بصفوف الثورة.
وفي عام 1934 حوصر الجيب الرئيسي للثوار بقيادة ماو في جنوب شرق مقاطعة جينانغ شي التي كانت تخضع للحكم الشيوعي. وشدد الجيش الوطني البالغ قوامه مليون جندي الخناق على الثوار. وكانت الطريقة الوحيدة أمام قوات ماو للنجاة هي الهرب من ذلك الجيب. وفي ليلة مظلمة من ليالي شهر أكتوبر عام 1934 تسلل 68 مقاتلا عبر صفوف الأعداء، ومن هناك انطلقت المسيرة الطويلة التاريخية.
ولم يكن أي من المشاركين يدرك كم من الوقت كانت ستأخذ تلك المسيرة التي شاركت فيها ثلاثون امرأة من بينهن زوجة ماو، وزوجة رفيقه القائد شو اين - لاي.
حكومة وجيش متنقل
ولقد شكل الثوار جيشا، وحكومة تسير على الاقدام. وكانوا يحملون معهم اطنانا من المعدات المكتبية، ومطبعة، وآلة تصوير بالاشعة السينية، وقوالب من الذهب، ونقودا معدنية. ولكن لم تكن معهم كاميرا تصوير سينمائي والصور الوحيدة التي وصلتنا لتلك المسيرة التاريخية بصنع صور فوتوغرافية قديمة غير واضحة، ولقطات لمجموعة من المقاتلين. ولهذا السبب لا يعرف الكثير عن تلك التجربة الفريدة.
وقد بدأت مسيرة الثوار بسرية تامة حتى ان شيانغ لم يكتشف أمرها الا بعد مضي ثلاثة أسابيع. وحال اكتشاف طائرات الاستطلاع لموقع المسيرة، يبدأ قصفها بالقنابل والمدافع الآلية، وكانت الطريقة الوحيدة أمام الثوار لحماية انفسهم، هي الانتشار والبحث عن سواتر تقيهم من الضربات. وفوق كل ذلك واجه الثوار العوائق الطبيعية، وهطول الأمطار الذي لا يتوقف الذي اتلف احذيتهم المصنوعة من الجريد. وان كان هطولها قد اوقف على الاقل طلعات الطائرات القاذفة، وكان الثوار يقطعون في المتوسط ما بين 25 إلى 30 ميلا في اليوم. وقد ارهقهم المشي المتواصل، واتلف احذيتهم التي استبدلوها بالخرق.
وكانت كل امرأة تحمل قدرا كبيرا للطهي وتناول الطعام، وغسل أرجلهن والجلوس عليه في المناطق الموحلة. وكان على المشاركين في المسيرة عبور سلسلة متتالية من الأنهار بواسطة جسور بدائية من القوارب والسلاسل. وكانت التيارات في بعض الأحيان قوية قد تجرف الحيوانات والحمالين. وقد فقد الثوار عند عبور أحد الأنهار تحت القصف المتواصل ثلاثين ألفا.
حساء الأحذية
وبعدها واجه الثوار عبور الهضبة التبتية بجبالها الثلجية الشهيرة التي يصل ارتفاعها إلى 14 ألف قدم. ولم يكن أمام الثوار بديل سوى تسلقها، وقد ظلوا يعانون من حالات الاغماء بسبب الارتفاع. وتلا ذلك محاولات عبور المناطق الصخرية الوعرة والمستنقعات ومناطق لا تعيش فيها أية حيوانات يمكن اكلها حتى جرذان الجبال. وشرعوا في ذبح البغال التي وفرت جلودها لهم فرصة صنع أحذية جديدة. كما بدأوا بعدها في غلي الأحذية في الماء لصنع الحساء، وخلط الحشائش مع الطحين لصنع الكعك.
وفي الأيام ذات البرودة القاسية كانوا يجدون اثنين من الرفاق جالسين ساندين ظهريهما بعضهما الى بعض دون حراك وقد توفيا من شدة البرد. كما توفي 400 مقاتل على الاقل نتيجة الجوع.
وعلى الرغم من ذلك كان الانضباط متبعا بصورة مثالية في اوساط المشاركين في المسيرة، إذ بدلا من اللجوء إلى النهب والسلب في المناطق التي تمر عبرها المسيرة كان يفرض على المقاتلين دفع ثمن ما يأخذونه، واعادة أي شيء استعاروه، واصلاح كل ما أتلفوا أو خربوا من الممتلكات، والأمر الأكثر صرامة كان عدم ممارسة الجنس لان الحمل يعيق حركة المسيرة. وعلى الرغم من ذلك وقع المحظور، حيث انجبت العديد من النساء أثناء المسيرة، وكن يقمن بلف الجنين بالقماش وتركه في مسكن مهجور على ان يعدن إليه في وقت لاحق. وقد تمكنت واحدة منهن على الاقل من استعادة طفلتها التي اطلقت عليها اسم «المسيرة الطويلة وو».
نهاية المسيرة
والتقى في نهاية المطاف الجيش الأول بقيادة ماو في شمال غرب البلاد مع الجيش الرابع الذي كان قد انطلق من الوسط. وبعدها جاءت الأوامر من موسكو بتوحيد جميع الأطراف الصينية للوقوف بوجه الغزو الياباني الذي كان قد احتل منشوريا. وكان ذلك يعني اقامة تحالف فيما بين الشيوعيين والقوات الوطنية التي كانت تلاحقهم. وأعطيت القيادة المشتركة إلى تشيانغ كاي - شيل الذي كانت تحت امرته أكبر الجيوش.
وكانت كراهية اليابانيين العامل الوحيد الذي وحد الصينيين، وذلك إلى عام 1945، حين هُزم اليابانيون، وبعدها تم استئناف الحرب الأهلية وكأن البلاد لم تعان بما يكفي.
وقد حققت المسيرة الطويلة انجازا واحدا هو تحول مناطق كبيرة في الوسط وفي شمال غرب البلاد إلى دعم الحركة الشيوعية. وبحلول عام 1949 انسحب تشيانغ إلى تايوان، وولدت جمهورية الصين الشعبية فوق أراضي البر الصيني.
ومن بين القوانين الأولى التي أصدرتها الدولة الوليدة قانون اصلاح الزواج الذي حظر زواج القاصرات والزواج القسري ووأد البنات والتعدد، والعمل على حماية الأرامل والأطفال.
حب جديد وزوجة جديدة
كما تمت مكافأة العديد من النساء ممن شاركن في المسيرة بمنحهن مواقع رفيعة في هيكل الحزب. ولم تحظ زوجة ماو البطلة بهذا التكريم. وبعد نهاية المسيرة تدفقت الشابات الطموحات إلى المقر الرئيسي لماو تسي تونغ ومن بينهن جيانغ كوينتش الممثلة الشابة القادمة من شنغهاي. وبعد وقت قصير نشأت بينها وبين ماو علاقة حب، وأصبحت فيما بعد مدام ماو الشهيرة ضمن عصابة الأربعة التي قادت الثورة الثقافية في عام 1966. وقد أرسلت زوجته الأولى إلى روسيا لتلقي العلاج إلى أجل غير مسمى.
وخلال الثورة الثقافية عانت المقاتلات ممن شاركن في المسيرة الطويلة من التهميش والاهانة، بل والسجن، مما دفع البعض منهن إلى الانتحار ولم يرد إليهن اعتبارهن إلا بعد وفاة ماو وسقوط مدام ماو. وعلى الرغم من ذلك فقد استمر ولاؤهن للحزب حتى الموت. وقد توفيت آخر واحدة منهن في العام الماضي.
والكتاب يزخر بتفاصيل عديدة حول مسيرة تأسيس جمهورية الصين الشعبية التي تحولت الآن إلى قوة اقتصادية كبرى وقوة سياسية وعسكرية صاعدة.
الغلاف
محمد حسن
تبدي القوى الغربية هذه الأيام قلقاً تجاه ما يمثله «النموذج الصيني»، وما تقوم به بكين من جهود لاستمالة عدد كبير من الدول الافريقية الى جانبها من خلال بناء السدود والجسور، وتوزيع معونات التنمية، وذلك من دون التفات الى اعتبارات مبادئ حقوق الانسان. كل ذلك في سبيل الحصول على النفوذ السياسي والوصول الى المصادر الطبيعية، وبصفة خاصة الحصول على المعادن لتعزيز الاقتصاد الصيني.
وقبل مائة عام مضت كانت هذه القوى تظهر انزعاجها تجاه المانيا وما تقوم به في منطقة الشرق الاوسط، فقد كانت المانيا حينها منشغلة في مشروع لاحداث تحولات في الامبراطورية العثمانية عن طريق بناء الطرق وتوفير المستشارين العسكريين والقروض للاستانة، وذلك بامل وراثة النفوذ الانغلو - فرنسي الذي كان سائدا ذات يوم.
وقد لعب خط سكك حديد برلين - بغداد دوراً مركزياً ضمن تلك الجهود، وتم تصميم ذلك الخط لربط العاصمة الالمانية بالمقاطعات التركية في منطقة ما بين النهرين والوصول في نهاية المطاف الى منطقة الخليج، وعند انجاز ذلك المشروع فانه لن يفتح فقط ابواب المنطقة امام التجارة والتنمية، بل انه كان سيقود الى تحول في تلك المنطقة الاستراتيجية برمتها، وكان ذلك سيتيح لالمانيا نقل قواتها بسرعة من وسط اوروبا الى منطقة الخليج، بينما كانت بريطانيا تقوم بنقل قواتها الى هناك عن طريق البحر.
ويوضح كتاب «قطار برلين - بغداد السريع» الذي لم يعتمد فقط على دراسة السجلات البريطانية والالمانية، بل استعان ايضاً بالوثائق الروسية والتركية، ان استراتيجية برلين في الامبراطورية العثمانية ذهبت الى ابعد من ربطها بخط للقطارات كان قد بدأ تسييره عبر منطقة الاناضول عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى. وقد كانت تلك الخطة جزءاً من مشروع اوسع يهدف الى إثارة ثورة داخلية لاضعاف التحالف الانغلو - فرنسي، والقضاء، ان امكن ذلك، على احد طرفيه واخراجه من الحرب.
دعم الجهاد
وبالنسبة للامبراطورية الروسية، دعمت المانيا تطلعات الاقوام غير الروسية، وبصفة خاصة اليهود. اما في منطقة الشرق الاوسط، وشمال افريقيا، واسيا الوسطى، فان المانيا لم تلجأ فقط الى لعب «الورقة الاسلامية»، بل اختارت ايضا ان تدعم الجهاد في مواجهة الامبراطورية البريطانية في كل من مصر والهند وغيرهما.
وتشكلت القوى الصدامية في هذه المعركة من شخصيات لا تقل غرابة عن لورنس العرب الذي استخدمته بريطانيا لتنفيذ مخططاتها في المنطقة، ومن بينهم البارون فون اوبنهايمر وهو شخصية مغامرة وزير نساء معروف بغزواته النسائية. وكانت تلك الشخصيات هي التي ستقع على عاتقها الدعوة الى الجهاد. ولكن كان هنالك اخرون مثل كورت بروفير والنمساوي الويسي موسيل اللذين كانا من الاكاديميين الجادين المتخصصين في الدراسات الاستشراقية، وقد بذلا جهودا حقيقية لتقديم تقييم واقعي للاوضاع في المنطقة الى برلين.
وقد قام كل منهما بسلسلة من المهمات الهادفة الى اطلاق الجهاد في بلاد الفرس وافغانستان وشمال افريقيا، ولكن تلك الجهود لم تتمخض عن نتائج تذكر، فالهجوم المرتقب على قناة السويس تم صده ودحره، والثورة السنوسية في ليبيا لم تكن اكثر من مصدر ازعاج. اما المقاومة الشرسة التي ابداها الاتراك في معركة غاليبولي يبدو ان دافعها المشاعر الوطنية المحلية او القومية العثمانية.
والأسباب وراء ذلك الفشل عديدة. فالجهاد ثبت انه كان أقل بكثير من مجرد دعوة لتجميع الصفوف ولم يتحقق كما كانت تأمل ذلك برلين وتخشاه لندن. والعديد من المجموعات التي كان من المقرر ان تشارك فيه اخذت الاموال وولت الأدبار، بل ان بعضها أبدى عداوة تجاه العملاء الألمان. ويصف مؤلف الكتاب شون ماكميكين التجارب التي مر بها أولئك العلماء، وكان بعضها يدعو الى الضحك. فقد واجهت احدى تلك الحملات العديد من عمليات النهب حتى ان افرادها اكملوا الرحلة بملابسهم الداخلية فقط.
إحباط وإخفاق
ومما أحبط جهود الالمان واثر في الروح المعنوية لعملائها سلبا، إقرار السلطات العثمانية لحلفائها الالمان ان احدى زياراتهم المهمة الى اجزاء في منطقة الحجاز لا يمكن التصديق عليها والسماح بها لانها لا تستطيع ضمان سلامتهم، وخلال المراحل الأخيرة في الحرب كان الاتراك بالكاد يخفون عداوتهم تجاه الالمان.
ويجري المؤلف مقارنة فيما بين هذاالفشل في الشرق الأوسط والنجاح الذي حققه الألمان في روسيا عن طريق مساندتهم للثورة البلشفية ضد نظام القياصرة واثارتهم ايضا للاقوام غير الروسية.
نجاح بريطاني
ولكن وكما اتضح فيما بعد فان البريطانيين تمكنوا من اثارة الثورة المضادة للدولة العثمانية في الشرق الأوسط في الوقت الذي فشل فيه الالمان في اثارة الوضع ضد النفوذ الانغلو - فرنسي.
فقد تمكن البريطانيون من اقناع شريف مكة لثورة ضد العثمانيين، وقد تم توثيق تلك الثورة في كتاب لورنس الشهير «اعمدة الحكمة السبعة»، وسجلت في كتب التاريخ على انها انتفاضة قومية عربية ضد الاتراك، غير ان هذا الكتاب يذكرنا انها كانت في واقع الأمر حملة جهاد منافسة لتلك التي كان يعد لها الالمان ضد النفوذ الانغلو - فرنسي. فقد ساندت بريطانيا ايضا التحالف القبلي الذي قاده الملك عبدالعزيز آل سعود في تلك الفترة.
وفي الفصل الأخير من الكتاب يعود الكاتب الى تناول الارث الذي خلفته ارتباطات المانيا خلال فترة الحرب بالشرق الأوسط بعد عام 1918، فالعديدون ممن سعوا لاطلاق حملات الجهاد ابان الحرب العالمية الأولى عرضوا خدماتهم لمساعدة نظام هتلر عندما سنحت فرصة ثانية لتحقيق ذلك في فترة الحرب العالمية الثانية.