من محمد علي إلى فاروق الأول ملوك منفيون ومفلسون (4) تجاهله الحاضرون فخلع فاروق نياشينه وبكى
أغرب النبوءات هي تلك التي تحقق نفسها. وقد تنبأت انت بزوال ملكك. صدقت الروايات التي أشاعتها جهات غامضة تحدثت عن خطر شيوعي يهدد البلاد. قلت لمن حولك: لن يبقى في العالم ملوك إلا خمسة. ملوك ورق اللعب الاربعة وملكة بريطانيا. وعندما رايت أبناء شعبك يتثاقلون عندما يتعين عليهم الوقوف تحية للسلام الملكي اقترحت تغيير اسمه الى السلام الوطني ليحترمه الناس ويقوموا واقفين لتحيته.
وتحققت نبوءتك وسقطت الملكية لأنك تصرفت على العرش كموظف يريد أن يحافظ على وظيفته لا كسياسي يستكشف اتجاهات التاريخ ويدفع باتجاهها. لم تعرف كيف تحافظ على ملكك فتحققت نبوءتك السوداء.
وعندما خرجت من البلاد قيل انك خلفت وراءك ثروة مقدارها 35 مليون جنيه مصري تساوي مليارات الدولارات بأسعار اليوم. وظلت زوجتك الأولى فريدة تعتقد أنك كنت تخبئ في بنوك سويسرا ثروة قدرت آنذاك بما يزيد عن 75 مليون دولار.
رفض الثوار أن يتركوا صديقك الايطالي بوللي يسافر معك لانهم كانوا يريدون أن يستنطقوه ليبوح بأهم اسرارك وخاصة ثروتك السرية المزعومة.
وبعد سفرك قلت لأحد المقربين منك إن ثروتك لا تتجاوز خمسة ملايين وهو ما يساوي ثروة واحد من باشواتك وهو احمد عبود باشا.
روى مصري مقيم في ايطاليا لكاتب هذه السطور أن دبلوماسيا مصريا في روما كان يقف أمام محطة القطار في طابور انتظار سيارة أجرة (تاكسي) عندما سمع شخصا واقفا وراءه يتمتم بالعامية المصرية معلنا عن سخطه على الطقس المطير وعلى همجية الطليان. التفت ليرى ذلك الشخص فاذا بـه فاروق. كان المصريون في روما آنذاك يندر أن ترى منهم أحدا إلا ثريا أو دبلوماسيا أو زائرا مهما، وفي حالات نادرة. سأله:
> جلالة الملك فاروق؟
رد الرجل متبرما:
ـ ايوه ياسيدي أنا فاروق.
وبعد طول انتظار جاءت سيارة التاكسي ولان الدبلوماسي كان الأحق بالركوب فقد عرض على الملك أن يتنازل له عن دوره لكن الملك وافق على أن يركبا معا وظلا يتسامران حتى عرف الملك أنه يقيم بشقة في المبنى نفسه الذي يسكنه فتجهم ولزم الصمت حتى نزلا من السيارة.
ولم يعد يحييه أو يرد تحيته اذا رآه. ربما ساءه أن يتدهور حاله حتى يسكن في مبنى واحد مع أحد رعاياه.
لكن هذه هي الدنيا. ماذا يمكن أن يتوقع ملك فقد عرشه وتاجه؟
لم تستقبلك ايطاليا بحفاوة. دخلها يختك الملكي وعلى متنه ملك مصر، ابنك أحمد فؤاد الثاني. لكن المدفعية لم تنطلق تحية لكما. ولم تجد في انتظارك إلا مندوب الخارجية الايطالية والسفير المصري عبد العزيز بدر. صحيح أنك ملك مخلوع. لكنك استقبلت ملك ايطاليا عندما طرده النازيون، الاستقبال للائق بملك صديق هل نسيت ايطاليا ذلك؟ وهل نسيت أنك جعلت قصرك مزرعة ايطالية؟ واذا كنت أنت ملكا مخلوعا فلماذا يتجاهلون أن ابنك الرضيع هو ملك مصر أحمد فؤاد الثاني وأنه سيبقى كذلك حتى مايو 1953، أي الى ما بعد وصولك بعشرة أشهر؟
لعبة الأمم
لعبة الأمم تدور مبتعدة عنك. فقدت عرشك فاحـرص على أن لا تفقد حياتك.
لم يمض وقت طويل على وصولك الى ايطاليا حتى احترمت الخلافات بينك وبين زوجتك ناريمان، تاريخك السابق يمكن أن يفسر ما جرى. أنت تحب السهر تريد ان تخرج وحدك. تتعلق هي بذراعك. تطلب منك أن تأخذها معك. وأنت ترفض. وتغضب أنت وتغضب هي.
هل تصدق ما قاله سكرتيرك الخاص فهيم ريان عن هذا الموضوع؟ يروى أنك أنت وناريمان كنتما تتبادلان الشتائم، وأن الأمر أصبح اكثر فظاعة وسوقية بعد أن انضمت اليكما أمها، حماتك. هل صحيح ما رواه سكرتيرك من انك لكمت زوجتك لانك تعلمت من «ابناء البلد» أن ضرب الزوجة ضرورة عائلية؟
يشوه الخدم، دائما، سير أسيادهم.
وقد يكون الصحيح في رواية فهيم ريان ما قاله من أنك أردت أن تنشئ الملك الصغير بالصرامة التي نشأت أنت عليها في ظل «ابيك الصارم» فأي جدوى في هذا كله؟ ما فائدة التربية الصارمة؟ ألم تفقد عرشك وتاجك؟ وقع الطلاق بينك وبين زوجتك الثانية. وذهبت ناريمان لتعيش في فيللا فـي سويسرا، قبل أن تعود هي، نهائيا، الى مصر وتبدأ حياة جديدة مع الطبيب أدهم النقيب الذي ارتبطت به.
فاروق والصبية
أما أنت فوقعت في غرام ايرما. كانت صبية في الخامسة عشرة. قدمت اليك الزهور اثناء زيارتك إيطاليا عام 1946. وعندما رايتها بعد أن كبرت تذكرتها على الفور.
عرفت أين تقع مدرستها. رحت تنتظرها على باب المدرسة كمراهـق صغير، لكي توصلها الى مسكنها في سيارتك الرولزرويس الحمراء. لكي تهديها الزهور.
انها ابنة سائق تاكسي من حارات نابولي الشعبية وضعتها الاقدار في طريق ملك فاخترعت لنفسها تاريخا ارستقراطيا وزعمت أنها من سلالة مينولتو الايطالية العريقة.
أخلص امرأة
يقول الكثيرون ان إيرما كانت اخلص امراة عرفتها في المنفى بعد أن خلعوك عن عرشك. ورغم حنانك البالغ عليها فقد كنت تتركها، كل ليلة، لتسهر وحدك مع صديقاتك الكثيرات. ومع رفاق القمار. كانت كل صديقاتك في عمر بناتك: سونيا رومانوف اليوغسلافية (22 سنة) وآناماريا غاني التي كانت في مثل عمرها. كانت الاولى ممثلة والثانية مصففة شعر وصبية اصغر منهما كانت السويدية بريجيتا ستنبرغ عندما عرفتها وهي في الثامنة عشرة.
ورغم ذلك فقد كنت تقابل إيرما إلا مرتين في الأسبوع. وعندما كنتما تسافران معا كنت تؤجر لها جناحا منفصلا عن جناحك. لم تتحدث معها، ابدأ، عن السياسة. ولم يتيسر لها ان تلتقي اسرتك إلا يوم جنازتك، عندما لم يعد بوسعك أن تمنعها من اللقاء معهم.
وقد حرصت على أن تجعل منها مغنية أوبرا مشهورة. وعندما وقفت على مسرح الأوبرا لتغني انتشى الناس بغنائها وبالتاج الماسي على رأسها وعقد الزمرد الاخضر حول جيدها.
كل هذا كان من صنعك. انت الذي اهتممت بصقل موهبتها وبإيصالها الى ذروة النجاح. ولم تكن إلا واحدة من فنانات بالغات الحساسية أحطن بك: منهن الممثلة اليوغسلافية سونيا. الكاتبة السويدية بريجيتا ستنبرغ والاديبة البريطانية بربارة سكلتون. وزوجتاك فريدة وناريمان اللتان ساقتهما الاقدار الى حياتك وكانتا رسامتين، وبعد ان سقطت الملكية في مصر عاشتا في بيروت، كرسامتين محترفتين، من دون أن تكون لاحداهما علاقة بالأخرى.
أنت ايضا كنت تملك حساسية انسان مثقف يقدر الفن والأدب. عندما كنت تجد وقت فراغ كنت تقضيه في مطالعة الشعر الفرنسي. وعندما منحتك الاقدار الولد الذي لطالما تطلعت اليه وقفت تتلو على زوجتك، أم الولد، قصيدة روديارد كبلنغ عن الوليد الملكي.
ويروي احد أقاربك أن أهتمامك بالجيولوجيا (علم طبقات الارض) ومقتنياتك المتصلة بهذا العلم كاهتماماتك بعلم الأحياء تشيران الى ثقافة علمية عميقة.
المثقف الماجن
وقد لاحظ كاتب هذه السطور الثقافة العميقة التي تمتع بها الامير محمد علي باشا عم الملك فاروق وولي عهده حتى ميلاد احمد فؤاد. كان ذلك الرجل فنانا معماريا كبيرا وكان عظيم الاهتمام باقتناء اللوحات لكبار الفنانين العالميين وبالصيد وتحنيط الحيوانات البرية. ورغم ذلك كانت حياته الشخصية على مستوى من المجرن الذي يدعو إلى الاشمئزاز كما أن الجناح الخاص به في قصره الرائع، الذي يحتوي واحدة من أعظم الحدائق في العالم من حيث ثروتها النباتية، كان شديد القذارة والقبح.
وكذلك كان فاروق يقتني أعظم المقتنيات العلمية والأدبية كما كان يقتني الأفلام الإباحية الرخيصة واللوحات الجنسية الماجنة. وتنطوي شخصيته على ملامح العظماء وعلى سذاجة الأطفال واندفاعهم.
هذه الازدواجية هي التي اسقطت فاروق عن عرشه. وعندما وجد نفسه في المنفى فكر في أن يبحث لنفسه عن وظيفة وحاول أن يعمل بالعلاقات العامة، وفشل.
لكنه بدأ يدرك عمق مأساته عندما اخذ إحدى بناته ليقدمها للجميع الارستقراطي في روما بعد سنوات من استقراره فيها. وفوجئ بالجميع يظهرون اللامبالاة بالملك المخلوع وبالاميرة السابقة.
وداعا للنياشين
وانتحى فاروق بنفسه مكانا بعيدا وبدا ينتزع أوسمته ونياشينه التي على صدره ويبكي.
رأته إيرما وهو يبكي ذات مرة. كان يقود بها السيارة على ساحل نابولي وذكره ساحل نابولي بالإسكندرية فأوقف السيارة وانخرط في بكاء مر.
وذات ليله ودع إيرما وذهب للسهر مع صديقته الحلاقة آنا ماريا غاتي بعد أن أعفى سائقه وحارسه الألباني رستم من مهام خدمته حتى الصباح.
دخل الاثنان مطعم «إيل دي فرانس» في شارع فيافنتو بروما. جلسا الى مائدة العشاء التي كان فوقها 12 قطعة روبيان. قطعتان من لحم الضان المشوي مع البطاطا. شطائر محشوة بالمربى. أكل فاروق. واشعل سيكارا كوبيا. وفجأة بدأ يسعل. واحتقن وجهه. ورفع يديه الى حلقة وسقط على المائدة. مات فاروق.
اختفت صاحبته: هل أفزعها مشهد النهاية؟ هلى خافت الفضيحة. والسؤال الأخطر هل كانت لها يد في قتله؟
كان ذلك في عام 1965. القوى المعادية لجمهورية يوليو كانت تتحرك ضدها حركة بلغت ذروتها في 1967. فهل كان موت فاروق في روما ـ كموت سيد قطب في القاهرة ـ نتيجة مبادرة دفاعية قامت بها الجمهورية ضد اعداء حقيقيين أو متوهمين؟
قد تكون أصابع الاتهام أشارت ـ من دون دليل ـ الى صديقته الحلاقة الايطالية ولكن هل فكر أحد في دور لصديقته الممثلة اليوغسلافية ولمخابرات تيتو الذي لم يكن يريد لجمهورية يوليو أن تسقط تحت سنابك الغزو الصهيوني ـ الغربي؟ لماذا لم تبادر سلطات ايطاليا الى تشريح الجثة؟ هل لمشروعات التعاون الصناعي بين مصر وايطاليا لانتاج سيارات الفيات دخل بما جرى؟
لا أحد يدري. وقد تفتح غدا ملفات مغلقة منذ الأمس البعيد، ليقرأ الناس ويعرفوا. وقد تبقى الأسئلة معلقة إلى الأبد. أسامة ا لغزولي
من محمد علي الى فاروق الأول ملوك منفيون ومفلسون (5) كسب الخديو ثروة طائلة وخسر العرش
ليست أقدار الملوك كأقدارنا نحن البشر العاديين. فقد تجمع شخصية الملك كل صفات العظمة ثم تعانده الأقدار وتسقطه عن عرشه، ويجلل تاريخه بالعار. وقد يكون صغير النفس انتهازيا وتدفعه الأحداث الى أعلى مكان.
واذا كان فؤاد الأول هو نموذج للملك صغير النفس، سيئ الخلق، الذي وفرت له الأقدار كل وسائل بلوغ المجد والعظمة فان أبن أخيه عباس حلمي الثاني اجتمعت في شخصه كل صفات القوة واتساع الأفق وعلو الهمة لكنه انتهى معزولا عن مملكته محروما من عرشه منفيا في أقصى الأرض.
سبق عباس حلمي عمه فؤاد الى الجلوس على العرش الخديو المصري وحقق لبلاده في الفترة من 1892 الى 1914 ما لم يحققه لها إلا القليلون من الحكام الذين تولوا شؤونها. ورغم كل ذلك فقد خلع عن عرشه وهو في شرخ شبابه وذروة فتوته.
ورغم الأمجاد السياسية والاقتصادية والثقافية التي حققها عباس فان حياته الشخصية أكثر جاذبية من حياة أي حاكم مصري، والابحار فيها متعة حقيقية لكل من يحب أن يتعمق في تأمل الحالة الانسانية والتعاسة التي تبدو قدر الانسان الذي لا فكاك منه.
لقد درس عباس في أعظم المعاهد العلمية. واكتسب المهارات القتالية والعلمية التي تجعل منه انسانا عصريا مستوعبا للتطورات الهائلة التي عرفها العالم في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.وعرف أجمل النساء. وصادق كبار المثقفين. وخالط القيادات البريطانية والفرنسية والنمساوية والألمانية والتركية التي كانت بأيديها مصائر العالم.
وفجأة أفلتت حياته من قبضته المحكمة كما يسقط كوب ماء من يد طفل عابث.
ولو سألنا عباس، الذي نجده حيا في مذكراته ومذكرات زوجته الثانية الأميرة جويدان وفي كتب التاريخ، عن سبب سقوطه لقال لنا: لقد وضعوا (يقصد الانكليز) على رأس نقاط ضعفي الطموح والتعطش الى القيادة.
ملك يلومه المحتل لأنه طموح ومتعطش الى أن يكون قائدا حقيقيا لشعبه لا تابعا ضعيفا مثل أبيه الخديو توفيق.
مأساة ملوك الشرق
هكذا ملوك الشرق. اذا كان لديهم طموح اصطدموا بجبل الهيمنة الغربية. واذا كانوا ضعافا داستهم عجلات المركبات الحربية الغربية. فأين المفر؟
عندما كان عباس صبيا أرسله أبوه ليتعلم في سويسرا، لماذا سويسرا التي تعلم فيها محمد عبده وقاسم أمين واحمد لطفي السيد؟
وعندما بلغ الثالثة عشرة ذهب للدراسة في أكاديمية التريزيانوم في فيينا، تحت رعاية مباشرة من امبراطور النمسا فرانسوا جوزيف، الذي كان يعرف أن هذا الأمير الشاب سوف يخلف أباه يوما ما، على عرش مصر.
ووجه البلاط الامبراطوري دعوة للأمير الشاب ليتعشى على مائدة فرانسوا جوزيف. وانشغل عباس بأمور كثيرة ولم يغادر الأكاديمية الا في الساعة المحددة للعشاء. وأدرك أنه تأخر فانطلق بعربته يحث السائس على أن يركض بالخيول الى القصر الامبراطوري.
ووصل متأخرا. تطلع اليه الخدم وهو يدخل، بدهشة واستنكار: كيف يجرؤ هذا الأمير الصبي على أن يجعل الامبراطور والامبراطورة والبلاط التقليدي المحافظ في الهابسبورغ ينتظرونه؟
بحيوية الشباب انطلق صاعدا السلم، أربع درجات بأربع، محاولا تفادي النظرات القاسية من كل جانب. انفتح أمامه باب قاعة الطعام على مصراعيه. وجد الكل في انتظاره بالتيجان والأوسمة والنياشين، حول المائدة. أسرع في اتجاههم. وقع على الأرض من فرط ارتباكه. لكنه لم ينفعل. نهض بكل ثقة. توجه الى الامبراطور الذي صافحه مبتسما ووجهه الى حيث يجلس، كأن شيئا لم يكن.
هذه الحادثة تلخص حياة عباس. اندفاع شاب. نظام امبراطوري يراقب اندفاعه. سقوط مفاجئ. الفارق أن الملك النمساوي كان صديقا يعفو عن أخطاء الأمير الشاب. أما التاج البريطاني فقد تصيد أخطاءه وأسقطه الى الأبد.
ولما توفي والده وهو في الثامنة عشرة من عمره استدعي الى عاصمة بلاده، الى القاهرة، ليجلس على العرش، وقال له امبراطور النمسا انه - هو أيضا - صعد الى العرش في الثامنة عشرة.
وقبل أن يأخذ عباس الباخرة الى الاسكندرية تقرر أن يسافر معه مجموعة من أصحاب الكفاءة المدنيين والعسكريين الأوروبيين أهمهم الأستاذ السويسري (!!) لوي روييه الذي كان أستاذه لمادة القانون الدولي في الأكاديمية في فيينا. وقد وصف عباس هذا الرجل بأنه كان رفيع الذكاء، عميق الثقافة، يتمتع بمزايا العنصر السويسري العقلية والسلوكية المحبة للعلم والنظام.
وفي الطريق الى الاسكندرية ظل الأستاذ السويسري يلقن الأمير الشاب مبادئ الحكم. وعندما وصلا الى عاصمة البلاد عينه عباس سكرتيرا عاما لمجلس الوزراء.
لم يكن عباس مجرد حاكم بل كان تاجرا وفلاحا مثل جده اسماعيل باشا. لكنه تعلم مما جرى لاسماعيل ان كرم الملوك قد يكون سببا في افلاسهم فأصبح حريصا على المال. وقد أنشأ خطاً للسكة الحديد كمشروع تجاري خاص به في الصحراء الغربية، وأرادت الحكومة المصرية أن تشتريه لتوصل به بين مصر وفلسطين، عبر صحراء سيناء. ولأن سعر الكيلومتر الواحد من الخطوط الحديدية كان يتراوح بين 2000 و4000 جنيه مصري فقد اعتبر عباس انه ضحى من اجل بلاده عندما باع الحكومة الكيلومتر الواحد بمبلغ 800 جنيه.
وقال في مذكراته: صنعت هذا الخط من خامات جيدة. لكنني بعته للحكومة بثمن منخفض. لكي اثبت أني مصري صميم.
مات أبوه مفلسا
مات أبوه توفيق مفلسا لأنه تنازل عن أملاكه لتخليص البلاد من بعض ديونها. وأراد أن يكون عكس أبيه فأظهر حرصا كبيرا على المال. ولهذا فقد استصلح الأراضي الشاسعة في منطقة المنتزه وأقام فوقها القصر المحاط بالخضرة الذي ظل أجمل القصور الملكية، الى اليوم، رغم ما حل به من دمار على أيدي البيروقراطية بعد 1952. واستصلح الأراضي الشاسعة في أدفينا والاسماعيلية. وبنى العمائر الضخمة في القاهرة. وكان يشرف على أعمال الزراعة بنفسه. ويتابع البنائين الذين يشيدون له البنايات كأنه مقاول وليس ملكا.
تقول زوجته جويدان انها لاحظت عشقه للعمل اليدوي كأنه نجار أو حداد في مختلف مرافق القصور فاشترت له آلات فضية للنجارة والحدادة وأعمال الكهرباء فتلقاها شاكرا.
وأثناء الحرب بين تركيا وبلغاريا قرر الخديو مساعدة لاجئي الحرب من رعايا الدولة العثمانية دون تفرقه في الجنسية أو الدين أو اللغة. وذهب اليخت الملكي المصري «المحروسة» ليأتي بأعداد كبيرة منهم.
واظهر الخديو نشاطا، كأنه ضابط شاب ذو رتبة صغيرة، في تهيئة قاعات كبيرة العدد في قصر رأس التين لاقامة هؤلاء. فنصبت مئات الأسرة. وأُعدت غرف للأطفال. وأماكن خاصة لغسل ملابس الرضع وتغذيتهم.
وتدفقت التبرعات من أغنياء مصر لمساعدة اللاجئين بالأغذية والملابس والأحذية والأدوية والمشروبات والتبغ والسكائر.
كان اذا رأى الخدم يتباطأون في فتح صندوق أخذ منهم أدوات النجارة وأزال البراغي وفتح الصناديق بمهارة وعزم.
ووسط هذا كله كان يخصص وقتا لمقابلة رجال الدولة والدبلوماسيين الأجانب.
وظهرت مشكلة، فاللاجئات كن يخفن خدم القصر. لأن اللاجئات مسلمات والخادمات أوروبيات. ولاحظت الأميرة جويدان، قرينة عباس، ذلك الأمر، فقالت لهن: الخادمات مسلمات لأنهن مؤمنات بالله. وطبعا الخادمات البولنديات والمجريات كن مسيحيات لكن جويدان اعتبرت أن المؤمن بالله مسلم، أيا كان دينه.
لقد كان كل من في القصر، من أصحاب الوظائف المهمة، من الأوروبيين ما عدا السياسيين وأسافل الخدم. وعندما أراد القصر أن يعلم قرينة الخديوي اللغة العربية وتاريخ الاسلام جاؤوها بالمستشرق الألماني هسي HESSE الذي علمها الاسلام من خلال الآيات القرآنية التي تشرح أركان الدين ومبادئه وفلسفته.
العري البدني والروحي
وكلما ذهبت لتلقي دروسها على يدي هسي HESSE لبست معطفا وغطت رأسها. لكن المستشارين المصريين في الديوان ومسؤولين أتراكا طلبوا منها أن تغطي كفيها حتى لا يرى المدرس يدها العارية.
ولكن جويدان قالت: كيف لا يرى المعلم يدي وهو الذي يرى روحي ويقوم بصياغتها من جديد؟
وقد قربت جويدان اليها خادمة كاثوليكية اسمها غابربيلا. وصحت ذات يوم من نومها على كابوس فاكتشفت أن غابربيلا تقف بجوار سريرها وفي عينيها نظرات مخيفة. واعتذرت الخادمة عن وجودها بجانب الفراش بأنها ظنت أن الأميرة نادتها.
ثم تبين لها أن غابربيلا تسرق الملابس والحاجات الشخصية. ولما واجهوها بتهمتها قالت انها فعلت ذلك وتبرعت بكل ما سرقته لأحد الأديرة. وأنها تنتظر العقاب دون خوف.
ولما تركوها دون عقاب انضمت الى احد الأديرة حيث عاشت بقية حياتها.
رغم هذه الأجواء الغريبة فقد فتح عباس أبواب قصره لكبار مثقفي عصره. وقد كان الشاعر أحمد شوقي صنيعته في عالم الشعر وعلي يوسف صنيعته في عالم الصحافة ومصطفى كامل صنيعته في عالم السياسة وجورج ابيض وعثمان جلال حظيا برعايته في عالم المسرح ومحمد تيمور في عالم الأدب وعبده الحامولي ومحمد عثمان في عالم الغناء والموسيقى. ويكفي أن عباس حول شارعا يملكه الى شارع للفن هو شارع عماد الدين حيث قامت المسارح ثم دور السينما حتى الستينات من القرن العشرين.
في عهد عباس حلمي الثاني صدرت في مصر 53 صحيفة أشهرها صحيفة اللواء التي أسسها مصطفى كامل باشا، رجل الخديوي الذي تخلى عنه الخديوي.
والاهم أن عهد عباس شهد تأسيس مائة وستين شركة، مجموع رأسمالها ثلاثة وأربعون مليون جنيه مصري وهو رقم هائل في ذلك الزمان.
الكفر في بلاد الشام
صحيح ساعدت الظروف عباس. لكنه أحسن استغلالها. فقد غضب السلطان عبد الحميد لأن بلاد الشام (سوريا ولبنان) مشت على طريق الكفار اذ كان الابداع كفراً فأنشئت المسارح وازدهرت الفنون وراجت الصحف، فهجم عليهم النظام التركي هجمة دموية جعلت كل المبدعين يهربون من الشام الى مصر حيث ساهموا في نهضتها.
ولولا الاستقرار والتسامح ما ذهبوا الى مصر. ولا أبدعوا ما أبدعوه فيها.
بقي عباس على العرش اثنين وعشرين عاما ثم أسقطه الانكليز.لماذا ؟ لأنة أظهر ودا بالغا تجاه تركيا. كانت الحرب العظمى توشك أن تقوم وقال كثيرون ان عباس المحب لتركيا كان يمثل خطرا على انكلترا لان تركيا انضمت للألمان وبالتالي فقد كان ارتباط عباس بتركيا خطرا على المصالح الانكليزية.
لكن المؤكد أن عباس لم يكن يرى في تركيا الا عبئا ثقيلا عليه وعلى بلاده. وهو يميل الى الأتراك بحكم العنصر والدين.
وقد بالغ الانكليز في تقدير عاطفته الدينية. والدليل في هذه القصة : ذهب عباس ليعود السير الدون غورست، الذي كان يحبه كثيرا، أثناء مرضه الأخير. ولما عاد قال لجويدان : تحدثنا لبعض الوقت ثم صلينا معا. وجئت.
اعتبرت جويدان أن صلاة ملك مسلم مع نبيل انكليزي دليل على التسامح. لكن المسيحي يصلي جالسا أو راكعا. أما المسلم فيقوم وينحني ويسجد ويقعد. فكيف يصلي الاثنان معا؟
هل يقصد أن كلا منهما دعا الله وتوسل اليه؟ ربما لان كلمة PRAY تعني الدعاء أو الصلاة. وكلمة صلاة لها المعنى ذاته ولكن الاستخدام الاسلامي الدارج للكلمة حددها، في عصورنا الحديثة، بالصلوات الخمس وما يلحق بها من الصلوات.
فما معنى هذا الكلام؟
ما هي حقيقة المشاعر الدينية لهذا الملك؟
لقد حرص عباس، كلما أراد أن يمتدح أحد المثقفين، على أن يوضح انه كان راجح العقل «رغم» ثقافته الدينية.
فهو يقول عن الشيخ علي يوسف: لم يكن تعليمة الديني يؤثر، الا بدرجة بسيطة، على اتجاهاته الليبرالية. ولم يخضع للاتجاه العروبي وبريقه.
لقد أراد عباس أن يحول الرابطة التي تربط بين المصريين من رابطة دينية الى رابطة وطنية وقد نجح في ذلك. لكنه لم يجن ثمار نجاحه عندما اختلف مع مصطفى كامل وتخلى عنه فأرجع التاريخ فضل الانبعاث القومي لمصطفى كامل وليس لسيده ومحركه الحقيقي خديوي مصر.
خسر عباس انكلترا بسبب ميله لتركيا. وخسر تركيا بسبب حرصه على عرشه. وخسر الوطنيين المصريين لأنهم كانوا، بنظره مجرد أدوات يحركها كيفما شاء.
قالت عنه زوجته: «لم يكن لعباس الثاني أصدقاء بمعنى الكلمة. فرفاق الصبا أصبحوا رجالا في التشريفات فقط. أما صداقة الماضي فلا ذكر لها. فالحكام يعيشون بلا أصدقاء. ومنذ عرفت عباس الثاني تمنيت لو أني خلقت رجلا لكي أصبح صديقا يخلص له باعتباره صديقا لا سيدا. بيد اني لو كنت رجلا لما استطعت أن اعرفه».
بعد أن عزله الانكليز ظل يسعى لاستعادة عرشه حتى أصبح عمه سلطانا على مصر فتنازل له عن الحق في العرش مقابل راتب سنوي قدره ثلاثون ألف جنيه مصري.
وفرض عليه الانكليز أن يعيش منفيا في نابولي مثل جده اسماعيل ومثل فاروق. لكنه تمكن من السفر الى سويسرا ليعيش في جنيف ويموت فيها عام 1944.
أما فاروق فكان أجبن من أن يغادر المنفى الايطالي الذي وصله عام 1952 فأرسل بابنه الوحيد وبناته وزوجته ناريمان ليعيشوا في سويسرا. ما حقيقة البعد السويسري في تاريخ مصر الملكية؟
العجيب أن هذا الملك الحريص على المال كان يؤجر ميناء قصر رأس التين للصيادين ويشتري منهم احتياجاته من الربيان. ويؤجر حدائق القصر لتجار الفاكهة. ويصدر أزهار بساتينه الملكية الى أوروبا. واذا بليت الملابس أمر بها أن ترفى وترتق. وعندما مات في جنيف كانت ثروته سبعة ملايين جنيه مصري.
كسب المال الطائل وخسر العرش.
أسامة الغزولى
من محمد علي باشا إلى فاروق الأول ملوك مفلسون ومنفيون (6) إسماعيل باشا.. جعل بلاده جنة لتعجب الحبيبة الفرنسية
أربع سيدات منقبات كلهن فوق السبعين في حديقة فندق هو أفخم فنادق جنيف يتسامرن ويتهامسن كأنهن صبايا مرحات تجمعهن مودة قامت على صداقة قديمة جعلتهن كالشقيقات وهن في الحقيقة ضرائر. إنهن أرامل إسماعيل باشا خديو مصر الذي كانت بين مواهبه الفذة موهبة قل أن تتيسر لرجل غيره: أن يجعل النساء المتيمات به صديقات، يجمعهن حبه ولا تفرقهن المنافسة على مودته. ويرجح من عرفوا الخديو أن سخاء إسماعيل كان كالبحر، يأخذ منه الناس جميعا، ولهذا فقد جمعت المحبة بين الضرائر.
ولكن الحقيقة قد تكون غير ذلك فسيد عابدين (قصر الحكم منذ نزلت السلطة من قلعة صلاح الدين إلى اليوم) في كل الأزمان لم تكن له حياة شخصية، في أغلب الأحوال.
ولم يكن إسماعيل وأبناؤه يعايشون نساءهم. بل كان لكل واحد منهم جناحه الذي تدخله قرينته بترتيب سابق أيام تعدد الزوجات.
ثم أصبحت لسيد عابدين زوجة واحدة بعد أن حرم الخديو توفيق على الحاكم أن تكون له إلا زوجة واحدة، وبدأ بنفسه فطلق ثلاثا واحتفظ بأم ولي العهد.ولم تعد هناك حاجة إلى جدول زمني تدخل به الضرائر مخدع الملك.
لكن بقيت الحواجز قائمة. فسيد البلاد مشغول بنفسه وبعشيقاته، ومشغول بمستشاريه وبأعوانه وبخصومه في الداخل والخارج وعندما كان يسافر أي ملك من ملوك الأسرة العلوية كان يجعل لقرينته جناحا خاصا بها في الفندق الذي ينزل به ومقصورة خاصة بها في السفينة التي يبحر بها بل إن القطار الملكي، الذي ظل عبد الناصر يستخدمه حتى نهاية حياته، كانت فيه مقصورة للملكة وأخرى للملك.
لكن إسماعيل تميز، بين سائر ملوك الأسرة العلوية بتأثيره الطاغي على النساء. وكان يلمح، هو وأبناؤه إلى أن السر في فحولته وقدرته النادرة على الإشباع الحسي لكل امرأة ترتبط به.
ويروي المستشار الصحفي للملك فاروق كريم ثابت باشا أن فاروق كان يدعي أمامه أنه عاشر في اليوم الواحد عدة نساء. ويأخذ في سرد تفاصيل لقاءاته بهن، في جناحه الملكي. ويغمز خادمه محمد حسن للباشا بعينه، مؤكدا أن هذا كله «تفنيص» ومحمد حسن أدرى الناس، لأن كل امرأة،وإن كانت الملكة نفسها، لا تدخل مخدع الملك إلا تحت رقابته.
وعندما يبدي كريم باشا انبهارا مصطنعا يضحك فاروق مختالا بنفسه ويقول: ماذا تظن؟ ألا تعرف أني حفيد إسماعيل باشا؟
ويروي المؤرخون أن إسماعيل كان يزور نبيلا فرنسيا فوقع في غرام ابنته. وأثناء الحديث أظهرت النبيلة الشابة إعجابا بالغا بقصر من القصور العظيمة في فرنسا. وراحت تتحدث عنه في لوعة المشتاق إلى حبيب.
وبمجرد أن انصرف إسماعيل من هذه الزيارة أرسل في طلب صاحب القصر واشتراه بالثمن الخيالي الذي طلبه المالك «المذهول»، وفي صباح اليوم التالي ارسل إسماعيل باشا إلى النبيلة الشابة عقد شراء القصر ومعه تنازل إسماعيل باشا عنه لمصلحتها، باعتبار ذلك تحية «متواضعة» لجمالها ورقتها اللذين يفوقان كنوز الدنيا.
وتقول الأميرة جويدان إن إسماعيل باشا وضع الخطط الطموحة لتحديث مصر وإنشاء البساتين والقصور والطرق الحديثة لمجرد أن يجعلها مكانا يستحق أن تزوره معبودته الفرنسية الإمبراطورة أوجيني.
سر شغفه بالعمران
ويكشف المؤرخ والصحافي جورجي زيدان عن بعد آخر في مشروعات إسماعيل النهضوية عندما يتحدث عن تعليمه، فقد أرسله جده محمد على باشا مع نخبة من شبان مصر الأذكياء إلى مدرسة باريس، يتولى رئاستهم وجيه ارمني اسمه اصطفان بك«وقد تعلم إسماعيل، في تلك المدرسة، اللغة الفرنسية والطبيعيات، والرياضيات وخصوصا الهندسة، وعلى الأخص فن التخطيط والرسم، وهذا هو سر شغفه، بعد ذلك،بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء».
وقبل أن يتعلم إسماعيل الفرنسية كان يجيد العربية التي تعلمها على أيدي معلمين كبار، ومارسها مع أصدقائه من أبناء الفلاحين وأشهرهم صديقه المشير إسماعيل باشا المفتش الذي أعدمه إسماعيل سرا، بعد أن غضب عليه.
وأجاد إسماعيل أيضا التركية والفارسية ولاشك أنه كان، هو وكل أبناء أسرته، يجيدون الأرمنية، فرائده في البعثة التعليمية إلى باريس كان أرمنياً، وهو اصطفان بك. وأقرب الناس إلى أبيه وأكثرهم حظوة عنده كان بوغوص بك الأرمني. وأحد أبرز رجاله ورئيس وزرائه، الذي كاد يسرق منه كرسي حكم مصر رغم أنه مسيحي، هو نوبار باشا.
وقد حول إسماعيل باشا القاهرة من مدينة عثمانية تعيش في القرون الوسطى إلى مدينة عصرية من أجمل مدن العالم في القرن التاسع عشر، وأهم مما أنشأه من قصور وبساتين وأهم مما شقه وعبده من شوارع وما أقامه من متاحف ومكتبات أنه أدخل مياه الشرب بالأنابيب إلى بيوت العاصمة وأنارها بالغاز الطبيعي، وأنشأ الإطفائيات والمستشفيات، وعمم زرع الأشجار في المدن والضواحي.
وطور الإدارة والقضاء والمجلس النيابي ووضع نظاما محاسبيا للدولة بعد أن كان المحاسبون المسلمون والمسيحيون يحتفظون بدفاتر ماليات الدولة في بيوتهم ويورثون أسرارها لذرياتهم.
ومن أجمل ما صنع أحد رجاله وهو ميريت باشا خبير الآثار الفرنسي أنه اكتشف «أبو الهول» الذي كانت تغطيه الرمال ولا يظهر منه إلا رأسه فأزاح الرمال من حوله، وأخرجه للناظرين ليكون، منذ ذلك اليوم من سبتمبر1850 حتى هذه الساعة، واحدا من أعظم الآثار على وجه الأرض.
وإذا كانت آثار إسماعيل العظيمة باقية إلى اليوم فإن أزمة الديون التي بدأها سلفه (شقيقه الأكبر) سعيد باشا تفاقمت في عهده، كما أن هيمنة الأجانب على الحكم زادت. وما زالت مصر تعاني من المشكلتين ليومنا هذا.
وبلغ إسراف إسماعيل واستهتاره بأمور المال أنه كان يصدر أمرا بصرف مبلغ من المال لشخص ما، ولا يحدد الغرض من هذا الصرف. وتصرف خزينة الدولة ما أمر به ولا تعرف إلى أين ذهب المال، وأحصيت هذه الأموال مجهولة المصير، بعد وفاته، فبلغت 84 مليون جنيه مصري وهي تفوق ديون مصر وتزيد.
ومن أجمل ما قيل عن محمد علي باشا أنه ارتقى سلم المجد وأصبح حاكما قبل أن يتعلم القراءة والكتابة، لكنه كان «يقرأ قلوب الرجال» أي أنه كان صاحب فراسة. ينظر إلى الرجل فيقرأ شخصيته كأنها كتاب مفتوح أمامه.
ويقول معاصرو إسماعيل إنه كان مثل جده صاحب فراسة قوية وعندما رأى أحمد عرابي باشا عندما كان الأخير ضابطا شابا نصح ابنه وولي عهده توفيق باشا بألا يرقي هذا الضابط كي لا يعرض العرش والحكومة والبلاد للمتاعب.
فراسة إسماعيل موروثة
ولا نظن هذا إلا بعضا من الأساطير التي نسجت حول عرابي بعد أن خسر معركته مع الانكليز، لكننا لا نشك في فراسة إسماعيل الذي يلقبه المؤرخ والأديب الراحل الدكتور لويس عوض بـ«إسماعيل العظيم».
وقد كان إسماعيل قوي الشخصية يأسر من يتحدث إليهم بسحر شخصيته فتمنعهم هيبته من معارضته، ويقال إنه درس التنويم المغناطيسي.
ولكن التنويم يحتاج أن يسلط المنوم (بكسر الواو المشددة) نظرات عينيه على من يتحدث إليه ولم يكن هذا ممكنا لإسماعيل الذي كانت إحدى عينيه أكبر من الأخرى ويبدو أنه كان مصابا بالحول، كما يقول القنصل الأميركي هارتمان، الذي كان شديد الإعجاب به.
والأرجح أن تعليم إسماعيل في فرنسا والخبرة التي اكتسبها من اسطنبول وفي البلاط الشاهاني لسلطان تركيا وثقافته الشخصية تفاعلت مع جينات العظمة التي ورثها عن آبائه، ومع ميوله الفنية والعلمية والقيادية وقوته الطبيعية الفياضة وتمكنه من عديد من لغات العالم الحية، وخلقت منه شخصية آسرة تملك النفوذ المطلق والعلاقات الدولية الواسعة والمال والرغبة في السيطرة، فمن يستطيع أن يقاوم كل هذا الجبروت من الرجال أو النساء؟
لم تنج الصفات الساحرة إسماعيل من الغرق في الديون فسقطت البلاد تحت رحمة الأجانب الذين استرضاهم ليأتوا ويستثمروا.
في حفل افتتاح قناة السويس كان البذخ غير متصور. يقول موظف أوروبي شارك في هذه الاحتفالات إنه دخن من الحشيش، طوال أيام الاحتفال، أكثر من راتب موظف مصري طوال ثلاثين عاما من الخدمة الحكومية.
ويقال إنه أثناء الاحتفالات دخل إلى بهو كبير، في حضور الخديو وكبار رجال الدولة والضيوف، أربعة نوبيين أشداء يحملون فوق أكتافهم صينية ذهبية ضخمة فوقها كومة من القشدة.
وتحت القشدة امرأة لا يظهر إلا رأسها فوق كومة القشدة هي زوجة موظف أجنبي من كبار موظفي الحكومة، ووزعت الملاعق الذهبية على الحاضرين فأخذوا يغترفون القشدة ويأكلون والزوجة الأوروبية تضحك وفجأة صرخ الزوج: كفى، فهي عارية تحت القشدة، ولو واصلتم رفع القشدة فسوف ينكشف عريها.
وأشار الخديو بيديه فتوقف الجميع عن نزع القشدة وحملها الخدم إلى أعلى، إلى غرفة نوم الخديو. حكايا لا تعرف الصادق من الكاذب منها. لكن إسماعيل مثل حفيده فاروق، كان يحب أن يعرف بالفارس ساحر النساء.
وقد دفعته «فروسيته» إلى حرب فاشلة في أثيوبيا لقي الجيش أثناءها هزيمة منكرة وبعد الثروة الطائلة.. التي حققتها البلاد أيام الحرب الأهلية الأميركية توقفت الحرب وعادت أميركا تصدر القطن فكسدت تجارة مصر وتراجعت إيراداتها.
وتلقى وزير خارجية فرنسا تقريرا من قنصله في مصر يتساءل مستنكراً - ومشيراً بطرف خفي إلى سفه إسماعيل -: «ما هو مآل النقود التي دخلت القطر، بتدفق، منذ عدة سنوات؟ الإحصاءات الجمركية تدل على أن جانبا عظيما منها لم يخرج من البلاد فكيف يصح، والحالة هذه، الكلام على متربة البلد وعلى تعذر دفع الديون التي عليه».
هذا نص البرقية التي تلقتها الخارجية الفرنسية كمـا ترجمها المؤرخ إلياس الأيوبي.
اشتد الكرب على الفلاحين الذين كانوا مصدر الضرائب والذين تعين عليهم أن يسددوا ديون الدولة من أقواتهم.
الباشا المجاهد
وأراد إسماعيل باشا أن يكسب رضا الشارع فطرد الوزيرين الأوروبيين اللذين فرضهما الدائنون أعضاء في حكومته وطرد كثيرا من الموظفين الأوروبيين وبدأ يدعو المصريين إلى «الجهاد» ضد الكفار الأجانب.
هذا الرجل الذي جرت الخمور في قصوره أنهارا والذي لم يكتف بالعشيقات من الحرائر فاقتنى لنفسه 450 جارية ووزع على أتباعه 400 جارية أخرى قبل أن يلغي الرقيق.
هذا الذي قضى عمره في صحبة الأوروبيين والذي كان يحتقر الفئات الشعبية أشد الاحتقار ويعاملهم بكل صرامة، فجأة أصبح محبا للشعب وداعيا للجهاد!
وتحرك الأوروبيون فصدر قرار من سلطان تركيا بعزله وتولية ابنه محمد توفيق باشا مكانه.
ووسط العويل والنحيب المتصاعدين من أجنحة الحريم ارتقى إسماعيل باشا درج القصر ليقدم التهنئة لابنه، سيد البلاد الجديد.
قائلا له: مبروك يا أفندينا.
ويرد عليه توفيق بعظمة الفرعون: الله يبارك فيك يا باشا.
أصبح إسماعيل مجرد باشا من باشوات البلاد الكثيرين وأصبح ابنه ولي النعم.
وبعد وفاة إسماعيل كانت الأميرة جويدان مع زوجها عباس باشا الثاني في جنيف عندما رأت أرامله الأربع جالسات معا ينتظرن، بشوق بالغ، امرأة خامسة تدلهت بحب إسماعيل، إنها الإمبراطورة أوجيني التي أقبلت عليهن تشاركهن متعة استعادة ذكرى رجل كن كلهن عاشقات له.
وبعد سنوات يصعب حصرها أقامت الحكومة الجمهورية مزاداً علنياً دولياً لبيع مقتنيات ملك مصر المخلوع فاروق الأول الذي أرسل أوروبيا ليشتري، من المزاد، هدايا أوجيني لجده إسماعيل باشا.
وفاء متبادل وراءه علاقات قوية ومشاعر عميقة يصعب التكهن بها.
الجندي المرتزق: من تجارة التبغ إلى الجنون (الحلقة الأخيرة)
أسامة الغزولي
فـي محــــاولـة دؤوب للتعـرف عــليـــه رجال من زمن السادات يشهدون عليه
السادات من الشخصيات التي اثارت - ومازالت - تثير - الكثير من النقاش حول تصرفاتها، واختلاف الآراء حول السادات يذهب الى اقصى اليمين، ثم ينحرف الى اقصى اليسار، البعض يكاد يرفعه الى مرتبة اصحاب الرسالات والزعامة العالية، والآخر يصمه بابشع صنوف الخيانة، وبين هؤلاء واولئك يقف الكثير في محاولات دؤوب للتعرف على الرجل.
صاحب الكتاب صحافي مصري، عرف مكانه من السادات فانحاز اليه، وهو في كتابه يحاول الدفاع عن الرجل، ويقول في نهاية مقدمته «..لأساهم بذلك بلبنة في صرح كتابة التاريخ عن حقبة السادات من خلال من أسميتهم: بشهود عصر السادات»
من جانبنا - وبصرف النظر عن موفقنا تجاه السادات وعصره - فإننا سنحاول عرض الكتاب بحيرة وموضوعية، كلما امكننا ذلك.
«شهود عصر السادات» الذين ضمن المؤلف شهاداتهم كتابة، ستة اشخاص، ثلاثة منهم عسكريون، كما كان السادات، والباقون قانونيون، ومهندسون، والستة من القلة الباقية من حكم السادات، هذا بصرف النظر عن الرئيس المصري الحالي حسنى مبارك الذي كان نائباً للسادات.
وطبيعة هذه النوعية من الشهادات تجعل - في غالب الأحيان - من أصحابها، أبطالاً وحكماء، وأناسا ذوي شجاعة لا توصف من فرط عظمتها، قرأنا كيف كان «س» من الناس يرد على عبد الناصر حتى يكاد يضربه، او انه ضربه لكنه تأدب ولم يقل لنا ذلك حفاظاً على صورة عبد الناصر «وص»، «ل»، «م»، «ن» إلى آخر قائمة حروف الهجاء العربية، كل هؤلاء خرجوا علينا بعد أن مات من يشهدون عليه بأقوال غريبة لا تصدق. لذلك، ومهما كانت الشخصية التي تقوم بالشهادة فإننا نجد أنفسنا قشد تحفظنا على ما تقوله منذ البداية، فليس يعقل مثلاً أن «ح ش» كان يراجع عبد الناصر، وينهره على فعل ما، لكن عبد الناصر مات فلا بأس من أن يخرج «ح ش» ليقول ان عبد الناصر لم يكن يأتمر بأمر أحد سواه شخصياً.
صوفي أبو طالب
الشاهد الأول هو الدكتور صوفي أبو طالب، الذي تقول شهادة انه لم يكن عضوا أتى من الأحزاب، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 كان في فرنسا يستكمل دراساته العليا في القانون.
كما لو أن نظام عبدالناصر قام باستطلاع آراء الجميع بالاسم أبان أزمة مارس 1954 على أساس أين يقف، هل مع عبد الناصر أم مع محمد نجيب، ولأن الدكتور صوفى كان ضد عبد الناصر، فقد حسب ضمن الثورة المضادة، وبناء على ذلك تم استبعاده من كل التنظيمات، حتى عام 1968، وعندما اكتسح كل منافسيه في انتخابات الاتحاد الاشتراكي تم الاعتراف به أمينا للاتحاد في كلية الحقوق، رغم انف النظام الذي يكرهه.
رئيس مجلس الشعب الأسبق الدكتور رفعت المجحوب، رحمه الله، قام - دون معرفة من الدكتور صوفي أبو طالب - بترتيب اعارته إلى الكويت، ثم بيروت، ولم يعد الدكتور صوفي إلا عام 1972، يعني عمل ما بين الكويت وبيروت ثلاث سنوات، وهو الذي لا يحب ترك مصر، ويرفض «العمل في أي بلد آخر سواها».
الدكتور صوفي يرى أن السادات رجل الديموقراطية وهو من أعاد الدستور إلى البلاد، بعد أن طهرها من مراكز القوى الذين سيطروا على البلاد، وتحكموا في مصائر العباد، وهو (السادات) من أمر بالعفو عن الإخوان المسلمين الذين سجنوا في الحقبة الناصرية وذلك من اجل أن تكون القوى السياسية كلها تنعم بالحرية، وليس من اجل مناوئه الشيوعيين كما يروج البعض لذلك.
الدكتور صوفي أبو طالب، أستاذ الجامعة، والقانوني، لا يزال متمسكاً بمقولة تخلى الجميع عنها عندما تبث أنها مقولة غير حقيقية، وأنها كانت تغطي الموقف المتخاذل لليسار المصري، هذه المقولة هي محاولة إلصاق مهمة تدبير انتفاضة 17 و18يناير1977 باليسار، من اجل إعلاء شأن قادة اليسار، لكن الحقيقة ان حركة يناير 1977 كان شعبية تماماً وتلقائية عفوية، بريئة، من التدابير الخائية لليسار المصري، أو أي تيار، آخر والغريب ان الدكتور صوفي لايزال متمسكا بالكذبة التى أطلقها النظام ايامها، ومن فرط سذاجة اليسار وتهافت قادته – ايامها - صدقوا تلك الكذبة، وحاولوا ان يثبتوا انهم المخططون للانتفاضة، لكن احداً لن يصدقهم.
وفي موضع أخر يقول «.. لأن خلافا حدث بينى وبين الرئيس السادات، لكنه يريد شخصا يبرر له تصرفاته، وأنا لا اعرف ان ابرر، بل اعرف ان ادبر»، وفي موضع ثالث يقول: «كانت طموحاتى عندما توليت رئاسة مجلس الشعب ان اتمسك بالعدالة الاجتماعية دون ان انزلق الى الفكر الشيوعي، ودون ان اقع في سوءة النظام الراسمألي»، ناسيا ان السادات هو من يحكم وحسب رأي الدكتور، فإن اغتيال السادات كانت وراءه «قوى اجنبية كان لها مصلحة في التخلص من الرئيس السادات، وهي التي ساعدت هؤلاء القتلة»، واخيراً يرى ان الجماهير - وليست اجهزة الاعلام الحكومية بايعاز من السادات نفسه - هي التي اعطته اسم الرئيس المؤمن !
محمد عبد القادر حاتم
الشاهد الثاني هو الدكتور محمد عبد القادر حاتم ومعرفته قديمة بالسادات حيث كانا في الوحدة العسكرية نفسها عام 1946، وتزاملا في اماكن كثيرة بعد ذلك بدءا من العمل في مؤسسة التحرير «الجمهورية»، ومجلس الامة «الشعب».
ومن البداية يرى الدكتور حاتم ان الشيوعيين كفرة، ورغم ذلك عين عددا منهم في المسارح، وحتى «لا تنتشر المبادئ الملحدة، فقد انشئت لأول مرة في مصر إذاعة القرآن الكريم»، واصدرت تعليمات بأن تقطع الاذاعة والتلفزيون ارسالهما لاذاعة مواقيت الصلاة، كما قررت اذاعة القداس المسيحي في عيد اخواننا المسيحيين، وفاجأ الشيوعيين بانشاء مسجد التلفزيون أعلى المبنى ليفسد حجتهم في امر العربة الوحيدة التي يملكها التلفزيون، وبذلك تستطيع ان تذهب للملعب وتنقل المباريات بينما تنقل صلاة الجمعة من داخل المسجد بأعلى المبنى.
وحسب الدكتور حاتم، فإنه من قدم «خطة اعداد الدولة للحرب.. وفي قلب هذه الخطة: المفاجأة الاستراتيجية»، وهو يقدم في شهادته تفصيلا لخطة الاعلام والمفاجأة الاستراتيجية التي قدمها للسادات، والشهادة في مجملها اقرب إلى السيرة منها إلى شهادة على عصر أو رجل.
مصطفى خليل
الشاهد الثالث هو الدكتور مصطفى خليل، الذي تعرف على السادات اثر رده على مقال كتب ضد هيئة المواصلات حيث كان الدكتور وزيرا للنقل والمواصلات، ورده اغضب بعض النواب الذين اشتكوا لرئيس مجلس الامة، الذي طلب مقابلة الدكتور، وهو بدوره طلب إذنا من عبد الناصر، الذي رفض وأمره بأن يتصل بالسادات ويبلغه برفض المقابلة.
د. مصطفى خليل هو من قدم ورقة تشرح السياسة البترولية في مرحلة حرب اكتوبر، وهو هنا - في شهادته - لا يطرح موقفاً بطولياً له، أو يدعي علماً ومعرفة فوق ما يعلمه الآخرون، يقول انه «كلف بعمل الورقة، وانه تمت مناقشتها ثم اجيزت»، هكذا دون زيادة أو نقصان.
وفي شهادته فيما يختص باحداث سبتمبر1981، فإنه يمسك العصا من المنتصف لا يريد أن يكذب، وايضا لا يستطيع الافصاح.
النبوي اسماعيل
الشاهد الرابع على عصر السادات هو النبوي اسماعيل وزير الداخلية الاسبق، كان مديراً لمكتب وزير الداخلية ممدوح سالم عام 1971، لذلك فقد كان قريباً من احداث 15 مايو، وهو يكرس الفصل الاول من شهادته ليحكي ماذا فعل مع وجيه اباظة عندما طلب للشهادة في القضية التي اتهم فيها اباظة، يقدم مجموعة من الانجازات الامنية المفصلة بعمله كوزير للداخلية، ويتعرض لمسألة علاقته بممدوح سالم الذي كان يريد ابعاده عن المنصب «بعد ان ضج من النجاحات التي تمت في فترة عملي كنائب وزير» ومن ممدوح سالم إلى احداث خريف 1981، يقول «شاركت بعد ذلك جميع اجهزة الامن داخل وزارة الداخلية وخارجها في إعداد كشوف باسماء من يستحقون الوضع في التحفظ، وبلغ تعدادهم 1536 شخصاً».
فكري مكرم عبيد
الشاهد الخامس هو المحامي المخضرم، والوزير السابق فكري مكرم عبيد، الذي يأخذنا إلى اجواء حزب الوفد القديم، وإلى قضية اغتيال امين عثمان عام 1946 وترافعه عن السادات، ضمن الفريق الذي قاده شقيقه الاكبر مكرم عبيد، ثم يعرض ملخصاً لمسيرة حركة يوليو حتى وصول السادات، الى الحكم، واستدعائه له، والتفكير في الاحزاب، وكيف قام السادات بتوزيع الادوار حسب تصوره الخاص للحياة الحربية.
حسن ابو سعدة
وهنا نصل للشاهد السادس - الاخير -، وهو العسكري الثالث في طابور الشهود، لم يغير الفريق اركان حرب حسن ابو سعدة من مساره، وظل هو هو الرجل العسكري نفسه الذي تخرج في الكلية الحربية نهاية الاربعينيات (1949)، ولم يدخل دهاليز السياسة رغم عمله سفيراً لمدة خمس سنوات في لندن، ولهذا تأتي شهادته أقرب إلى تقرير اداء مهمة اعتاد العسكريون ان يقوموا بمثلها، وفي نهاية شهادته، التي انصبت على العمل العسكري بوجه عام، وعلى بعض ذكرياته عن فترة حرب اكتوبر 1973، يقول ابو سعدة: «وبالتالي أنا شخصيا رحبت بزيارة الرئيس السادات للقدس وما تلاها من اتفاقات، لاننا كعسكريين كنا على استعداد لان نواصل الحرب ولو لمائة سنة وحتى الموت».
وبعيداً عن المكان الذي يقف فيه الآخرون - أي آخرين - فإن المؤلف قدم شهادة هؤلاء الرجال ليؤكد للآخرين صدق رأيه في السادات وعصره، وليساهم بلبنة في صرح كتابة التاريخ، كما قال في بداية كتابه.
محمد الزرقاني
كاتب المسرح البريطاني الشهير «جون أوزبورن» الذي خرج على العالم سنة 1957 بمسرحيته التي أثارت ردود فعل غاضبة في أوروبا والعالم، ولا تزال قادرة على إثارة المزيد، ونقصد بها مسرحية «انظر خلفك في غضب».
المسرحية وعنوانها الدال ألحا علي د. جابر عصفور بدرجة لا يمكن إنكارها، حتى أنه بات يردد فيما بينه وبين نفسه عنوانها بعد أن قام ذهنه بتحريف العنوان ليصبح «انظر حولك في غضب»، ويرجع د. عصفور هذا الإلحاح إلى الواقع الذي أصبح كل ما فيه «يثير الغضب ويبعث على السخط.يرى جابر عصفور انه لا يمكن للإنسان إلا أن يغضب «وهو يرى معارك المثقفين الصغيرة، وتصاغر الكبار، وتطاول الصغار، في مؤازرة رفع شعارات لا أساس لها من واقع سلوكنا، فنحن نعلن إيماننا بالحوار وحق الاختلاف، لكن الويل لمن يختلف معنا، أو يرى رأياً غير رأينا؟!».
وقبل الدخول إلى أجواء الغضب نتوقف عند ملاحظة شكلية مفادها أن الدكتور عصفور دفع إلى الصحف بواحد وأربعين مقالاً، كتبت فيما بين أوائل 1995 ومنتصف 2007، وان المقالات توزعت على هذه الصحف بواقع 21 مقالا للأهرام، 14 مقال للحياة، 3 مقالات للبيان، وأخيراً مقال واحد لكل من المصور والعربي.
قدم الدكتور مقالاته تحت أربعة عناوين، الأول «ملاحظات ثقافية»، وضم 13 مقالاً، الثاني «ضد التطرف والإرهاب»، وضم 12 مقالا، وكان العنوان الثالث «ضد القمع السياسي»، وضم 6 مقالات، أما العنوان الرابع فجاء باسم «تداعيات لا تعرف الفرح»، وكان من نصيبه 9 مقالات.
ملاحظات ثقافية
ونتوقف مع جابر عصفور أمام المشهد الثقافي الذي يراه.. مشهداً مأزوماً يعاني توترات لافتة، ويواجه مشكلات دالة، ولعل أول الملامح كثرة مفارقات المشهد من تجاور الأضداد، واتساع المسافة بين الظاهر والباطن، المعلن والممارس، المنطوق والمسكوت عنه، وباضافة انه يعكس كيانا غير متجانس نكون قد وضعنا ايدينا على الملمح الثاني.
ولنأخذ مثلا عندما ننظر الى اعداد الجامعات المتزايدة، فهل يعني هذا اي معنى للتقدم؟ الواقع يتولى الاجابة، حيث ان احوال هذه الجامعات تغني عن اي سؤال، فالحرية الاكاديمية ــ المفترض وجودها داخل مثل هذه الكيانات ــ تتقلص مساحتها يوما بعد يوم، والمبالغ المنفقة على البحث العلمي تشير بوضوح الى مدى تراجع مثل هذه الانشطة الحيوية بالنسبة للجامعات واستمرارها على قيد الحياة، كما انه يكفي ان نلاحظ علاقة ما نعلنه بما نكتمه ونسره، والجرأة الواصلة حد الاضراب في مواجهة خصوم مفترضين، في حين نسكت حتى عن مجرد التلميح بكلمة في اتجاه نقد الذات، هذا اذا اغفلنا النظر الى الحكام وصورة الحكم التي لم تعد تخفى على احد، وايضا خصومات المثقفين فيما بينهم، والرغبة في التخلص من هيمنة المركزية.
ويعرض د. عصفور لموقف الشيخ امين الخولي الذي يلخص المعركة ــ الابدية ــ التي تدور، وطرفيها الطليعة المثقفة المستنيرة، وعامة الشعب، حيث تقابل الفكرة الواعدة الجديدة باعتبارها بدعة، فهي ضلالة، ولان كل ضلالة في النار، فهي كافرة، ولان الزمن لا يتوقف، وفعله في البشر ــ رغم بطئه ــ مؤثر ومستمر، فيفعل الزمن فعله لتصبح الفكرة الجديدة التي حوربت، مذهبا وعقيدة تخطو بالحياة خطوة الى الامام، وتستقر الامور حتى تخرج الطليعة من جديد بفكرة واعدة جديدة من رحم تلك التي استقرت وتمذهبت، لتكتمل الدائرة ــ ولتستمر الحياة.
ويشير المؤلف الى ان التأثير السلبي المتزايد والدال على مدى ما للقوى الاجتماعية الجانحة للجمود والتقليد، هو ما انتج المحاولات العتيقة التي شهدتها الساحة الثقافية، ويتوقف عند اغتيال عبدالقادر علولة فنان المسرح الجزائري، فرج فودة المفكر المصري، ومحاولة فاشلة لاغتيال نجيب محفوظ الاديب المصري، وحكم التفريق بين نصر ابوزيد وزوجه، وهروبهما من وجه طوفان التعصب خارجين من مصر، وحكم السجن الذي طال احمد البغدادي في الكويت، والسجن مع ايقاف التنفيذ على كل من ليلى العثمان، عالية شعيب في الكويت، ومحاكمة مارسيلي خليفة، سيد القمني من لبنان ومصر، وعشرات غير هؤلاء. وفي اطار العلاقة مع الاخر، يدخل بنا عصفور الى دائرة خطاب العنف، تلك الدائرة التي علت نبرتها فوق كل الاصوات العاقلة حتى ان عدواها قد طالت المثقفين، فتبادلوا الاتهامات العنيفة، ويسوق على ذلك مثلا صارخا عندما اعلن كاتب مغمور ان صنع الله ابراهيم قد سرق روايته الجديدة «شرف» من مصنف سبق ان اصدره بعنوان الزنزانة، ودون تمهل سارعت جلسات النميمة على مقاهي المثقفين بمساندة الاتهام، وهنا يقول د. عصفور: وما ان صدرت الرواية كاملة.. اكتشف الجميع انه لا سرقة ولا تأثر، وان الامر كله لا يعدو ادخال بعض المعلومات على سبيل التناص التوثيقي في فصل واحد مع الاشارة الامينة الى مصادر التوثيق في الفصول كلها في نهاية الرواية التي تعتمد كل الاعتماد على التسجيل المعلوماتي وهو مجرد مثل واحد من حوادث كثيرة تكاد تكون ما يشبه السلوك العام داخل اوساط المثقفين.
الحرية مطلب منطقي وضروري
وفي قول صبغ بعبارات حزينة، خائفة من الوقوع للأبد في الدائرة الجهنمية للصراع بين محاولات التقدم، والاصرار على الجمود، يقول اول مسلم ينال جائزة نوبل – في علوم الطبيعة – الباكستاني الأصل، د. محمد عبدالسلام «ما من حضارة على الارض ضعف فيها العلم كما ضعف في أرض الإسلام، ولا شك ان لهذا الضعف مخاطر كثيرة، لأن بقاء اي مجتمع اليوم، او استمراره، يعتمد اعتمادا مباشرا على قوته في العلم والتكنولوجيا وقول العالم الباكستاني يذكرنا بموقف الدكتور طه حسين الذي واجه عاصفة هوجاء عندما اصدر كتابه «في الشعر الجاهلي» وبعد ان هدأت الأمور بعد تفهم النائب العام المستنير «محمد نور» وعندما اصدر الطبعة الجديدة من الكتاب الذي اسماه «في الأدب الجاهلي» أكد طه حسين على شرط الحرية باعتبارها المقدمة المنطقية للتفكير المنهجي، ومرة ثانية يعود المؤلف الى قول عالم الطبيعة الباكستاني محمد عبدالسلام من انه لا يوجد سوى عالم كوني واحد وعلم واحد في كل مكان فليس هناك ما يسمى علم إسلامي او مسيحي او هندوسي.. بل علم، وعلم يجاوز القوميات والديانات والأيديولوجيات.
ويلخص رأيه في قضية العولمة وتأثيرها على الواقع الذي تعيشه البلدان النامية، ومدى تطرف وتنوع ردود الأفعال التي تدعمها البقايا الراسخة للوعي التقليدي الماضوي، وخصوصا في بلدان الشرق القريب، يقول ان الموقف الذي تتخذه هذه القوى، هو الوجه الآخر من التبعية السياسية والاقتصادية التي تقود خطى المشهد الثقافي الى الخلف على عكس المأمول، وهنا يشير الى القضية التي رفعت ضد الشاعر حلمي سالم، وحكم المحكمة الإدارية العليا القاضي بسحب الجائزة وإلزام الشاعر برد القيمة المادية – 50 الف جنيه – لها، ويبدو الأمر كأنه عبث لا هدف له سوى إرهاب المبدعين والتشويش عليهم لمجرد ان شخصا ما لا يستلطفهم او يراهم غير جديرين بلقب مبدع، حيث ان مجال التقاضي مفتوح امام استئناف ونقض يوصلان الأمر في غالب الأحوال الى رد الأمور الى ما كانت عليه قبل رفع الدعوى لكن الشاكي قد حقق هدفه من التواجد في دائرة الضوء في ذات الوقت الذي اوقع الرعب في قلوب المبدعين.
ويرى د.عصفور انه قد آن الأوان لأن يتوقف كل هذا العبث وانه يجب على المثقفين ورجال الدين وكل مؤسسات المجتمع المدني أن يقفوا في مواجهة هذاالخطر الداهم الذي لا يبقي على احد او قيمة.
ضد التطرف والإرهاب
علق د.عصفور على قضية الحسبة التي رفعت ضد د. نصر حامد أبو زيد، وبعد ذلك بثماني سنوات جاء الدور ليعلق على الهجمة الشرسة ضد الكاتب المبدع أسامة أنور عكاشة، وثماني سنوات فارقة بين الحالتين تعني فيما تعنيه استمرار التواجد المكثف لجماعات الضغط الرافضة لأي محاولة يشتم منها – حتى من بعيد – انها تمت إلى الاستنارة بصلة ما والهجمة الشرسة التي قادها بعض رموز التطرف، ورفعوا فيها راية التكفير في وجه أسامة أنور عكاشة عندما أشار في حديث تلفزيوني إلى دور عمرو بن العاص في حادثة التحكيم التي ثارت أيام الصدام ما بين الإمام علي – كرم الله وجهه – من جهة، ومعاوية وأتباعه من جهة ثانية، وفيما اقترح ابن العاص انتداب شخصين يمثل كل منهما معسكراً ويجلس الاثنان ليتفقا، وهي الحيلة التي استطاع عمرو بن العاص من خلالها الانتصار لمعاوية من الإمام، ذلك الموقف الذي أدانه الكثير من كتاب السير والمتابعين، وإشارة عكاشة ليست أكثر من نوع من التوصيف الدنيوي المأخوذ به في مثل هذه المواقف، لكن قوى التطرف قامت بلي ذراع قول الرجل، وأولوه تأويلاً يؤدي إلى رفع راية التكفير في وجهه، وهي الحال نفسها التي سارت فيها الحملة ضد د. أبوزيد والسؤال هنا هو: من يملك مثل ما ملك د.أبوزيد من شجاعة في الوقوف في مواجهة التربص الذي تواصل تلك المجموعات إيصال صوته وتأثيره لأبعد مدى ممكن حتى تظل حالة الإحجام مسيطرة على الكثير ممن كانوا على بداية الطريق المستنير نفسه؟ وهل يمكن لهؤلاء – إذا ما واتتهم الشجاعة المفتقدة – أن يحاولوا بجد؟ أم أنه إيثار السلامة على خوض معركة لمصلحة المستقبل؟ ولا يقتصر أمر جماعات التطرف والتعصب على المسلمين وحدهم فنرى على الجانب الآخر من الصورة من يخرج ليحارب أفلاماً مثل «بحب السيما، عذاب المسيح، وشفرة دافنشي» وبضم جانبي الصورة لا نستطيع الهروب من عقد مقارنة بين ما تفعله هذه الجماعات التي تتحدث باسم الدين، وهي في الحقيقة جماعات مسيسة، تستخدم الدين باعتباره أقرب التكتيكات الموصلة إلى سدة الحكم، لا نستطيع غض الطرف عن عقد مقارنة بين ما يفعله هؤلاء، وما سبق أن فعلته حركة محاكم التفتيش في أوروبا في القرون الوسطى، وما أسفرت عنه فترة المكارثية في أميركا.
من يعرف القواعد يكسب دائماً
ما يحدث على الأرض الفلسطينية، وردود أفعال جميع الاطراف، وخصوصاً الطرف الأقوى الذي هو أميركا وإصرارها الدائم على الوقوف إلي جانب إسرائيل، أياً ما كانت المقدمات والنتائج، وتفرض على الطرف الآخر الذي هو الفلسطينيون ممثلين بسلطتهم التي لا تملك من الأمر سوى الموافقة، على طول الخط، على الإملاءات الأميركية، كل هذا يوصلنا إلى ما يسمى بلعبة الخلط المتعمد للأوراق، وتفعيل المثل العامي القائل: «ضربني وبكى وسبقني واشتكى» والأمر بهذا الشكل يعني أن اللاعب الذي أمامك – إسرائيل – يعرف قواعد اللعبة جيداً في الوقت الذي تظن فيه أنك من يعرف، لكن الحقيقة أنك تمارس لعبة سرية أنت طرفها الوحيد في حين أن الآخر يلعب وهو يثق بعدم فهمك أكثر مما يثق بمقدرته، لذلك تراه يكسب الجولة بعد الجولة في الوقت ذاته الذي تخسر فيه باستمرار، ومن فلسطين إلى العراق ويبدو ان الحال هي الحال رغم اختلاف الأمور وتباين وضع الناس في البلدين المحتلين، واستمراراً للعبة نفسها تتحرك قوى التعصب اليهودية لتقود حملة ضارية ضد مكتبة الإسكندرية، تطالب فيها – ضمن مطالبات أخرى – بمحاكمة المسؤولين عن عرض نسخة من «بروتوكولات حكماء صهيون» بالتهمة الجاهزة والمشرعة في وجه كل من تسول له نفسه الزج بها في أي أمر من الأمور التي تخص من قريب أو بعيد اليهود واليهودية، ونعني بها «معاداة السامية» والمعروف للكافة أن «البروتوكولات» هي مجرد أوراق تمت فبركتها في روسيا القيصرية إبان حملة من الحملات التي لم تنقطع في روسيا، والاتحاد السوفيتي ضد اليهود، ومعروف أيضاً أنه لا علاقة له بالتوراة، لذلك فهو محض أوراق مجردة من القداسة، لكنها عقلية اللاعب الذي يتصيد كل ما يمكنه أن يساعده في إرهاب الآخر – أي آخر – ومن ثم ابتزازه واستخلاص أقصى فائدة ممكنة من هذا الآخر. محمد الز
خطاب الرشوة» دراسة تستشرف سلوكيات الأفراد والجماعات إيديولوجيات الشطارة والفلهوة.. تحض على الرشوة
«خطاب الرشوة» دراسة لغوية اجتماعية اصدرها نادر سراج في كتاب لفت الانتباه كثيرا لما فيه من افكار خاصة وعامة وتتمحور في مساحة جدلية لا يمكن الا ان تكون مفتوحة على لحظات وأفكار ونقاش.
المدرسة اللسانية الوظيفية للمؤلف يسرت له آليات وكيفية الاتصال برواة لغويين متعددي المنابت الجغرافية والاصول المناطقية والاهتمامات الحياتية، الأمر الذي راكم لديه خبرات متنوعة لانماط التواصل وصيغ التعاطي، وزوده بأدبيات التخاطب.
الكتاب يخاطب ويعالج «خطاب الرشوة« في تداعياته، ويتطرق الى خطاب متواز ومسكوت عنه، مكونات هذا الخطاب تدرس للمرة الأولى في لغة الضاد، عبر اضاءة لسانية اجتماعية، ومن خلال معاينة منظومة متكاملة من الكنايات والتوصيفات وخطابات افرقاء عملية الرشوة الثلاثة: الراشي والمرتشي والرائش، فضلا عن باقة منتقاة من مأثوراتنا الشعبية التي بحثت في الرشوة واخواتها الكثيرات.
ومن الواضح ان المؤلف يؤمن بالنظرية اللسانية كأساس فعل وبناء وتفسير، وهذا ما جعل الاطار العام يتأسس ضمن منهج وصفي لعرض وقائع اللغة من دون ان تقع هذه اللغة في اي تأثير خارجي او دخيل، فالحقيقة اللغوية تكشف دائما عملية البناء والتواصل.
رفد سراج المعطيات اللغوية في كتابه بمقتطفات صحفية عربية، مشفوعة بمسموعات عفوية، جرت على الالسن، وعبرت عن معاناة العوام والخواص، وادرجت كشهادات حية في كتاب.
أهمية الكتاب وشرح المؤلف
بعد قراءة وافية لهذا الكتاب الذي يشكل خصوصية وقد يكون الكتاب اللافت فعلا في مضمونه لما فيه من قراءة وافية لواقع واسع لكنه غير مكشوف امام المجتمع وسائر النخبة أو أغلبها، بعد هذه القراءة وجهت سؤالا واحدا الى المؤلف حول النتائج والخلاصات التي ولدت من هذا البحث فأجاب في شرح مسهب، الأمر الذي ساهم في تفسير القصد والمعنى، فماذا قال نادر سراج لـ«القبس»:
ــ دراستنا اللسانية الاجتماعية لمسألة الرشوة تعتمد معاينة الوقائع اللغوية واستشراف سلوكيات الافراد والجماعات من خلالها، وقد جعلناها في باب الرطانة او الارغة او اللهجات الاجتماعية. وفي المحصلة فقد كشفت الوقائع والمدونات ان الكلام العملي و«المعسول»، احيانا المنسول، يوميا، على ألسنة «اصحاب الحاجات» او جماعات «القبّ.يضة» او المتوسطين بينهما لا يحد، فهو يتطور اسلوبا ومضمونا بتطور احتياجات مستخدميه واحوالهم.
ــ ان الاشكال الحقيقي الذي يحسن التوقف عنده ليس تعبيريا لفظيا، بقدر ما هو سلوكي اجتماعي، ويندرج في اطار ذهنية متفشية تستبيح وتتجاوز وتبرر افعالها وتسندها بمقولات لفظية واهية.
ــ هذه الدراسة اللسانية التزامنية، والتي استندت في بعض المفاصل الى موروثنا الثقافي العربي، لا تعدو ان تكون تذكيراً وتسجيلا وتحليلا لما هو قائم وراهن، اي لواقع لغوي معيشي لا مهرب من الاعتراف به وتصويره بدقة وعلمية، وهي كما نقول في العرف اللساني الوظيفي تطمح الى رصد واقع اجتماعي انساني لا مناص من التغاضي عن وجوده في المشهد الحياتي اليومي، فاللساني لا يصطنع السياقات، ولا يتكلف في مقاربة مواضيعه، ولكنه في الان نفسه لا يغض طرفه عما يجول على السنة الجمهور، وتلتقطه اسماعه، او تقع عليه عيناه، كما انه لا يعتمد الانتقائية في جمع معطياته اللغوية.
ان العبارة او المصطلح ايا كانا، وكائنا من كان منتجهما او مروجهما او متلقيهما لا تغني ولا تسمن من جوع المرتشي ونهمه الى التهام مال الاخرين، واستسهاله اياه بغير حق او مسوغ شرعي، فالمدلول او العمولة ومشابهاتها هي الاساس والمقصد في هذا «البازار» المفتوح، وما الدال او الكلمة المصاحبة او الممهدة، او الاشارة الجسدية سوى انموذج عن الاسهام الشخصي او الحصة العينية او جواز العبور اللغوي التي يتوسلها المرء لتبرير حاجته او تأكيد حضور، او ابلاغ رسالته.
مضمون الرشوة او بالاحرى قيمتها المادية او العينية هي مربط الفرس في حين ان خطاب الرشوة بمختلف مستوياته ومضامينه وبتعدد منتجيه ومرسليه ومتلقيه هو الفرع ـــــ إن أيديولوجيات الشطارة والفهلوة و«ضرب الكم» والبراني والحك والرش والأكل وذكر القهوة والأوكسجين وسواهما، وما يكتنفها من أجواء وتحفيزات تحض على طلب الرشوة. وهي لهذه الغاية تستحضر وتؤسس عادة لسياقات مشجعة ومهددة لتسويغ خطاب الرشوة في أعين الجمهور وأسماعه عن طريق إعادة إنتاج قاموس كلامي حديث وعملي ولمّاح يتفنن في شرعنة هذا الداء الاجتماعي ويمهد لإدخاله في السلوكيات اليومية بغية تسهيل عملية جلب المنافع وطلب المال غير الشرعي.
- وتقتضي منا الأمانة العلمية أن نميز في خلاصتنا هذه موضوع الحرص على تقديم أو طلب الإكرامية أو الحلوان أو البخشيش أو البخاشيش المعتبرة أمراً قائماً ومتعارفاً عليه، وهو يواكب نبض الحياة الاقتصادية اليومية في مختلف مستوياتها.
- إن التمادي في تقديم هذه الإكراميات وتجاوز السقف المرتقب عن طريق «توسعة» قيمها المادية من شأنه أن يضعها في خانة الرشوة المقنعة.
- ثمة نزوع نحو مأسَسَة مسألة الرشوة لدى البعض. فالدفع مثلاً يتم وفق جنسية الراشي ونوعية الخدمة المؤداة والسرعة المطلوبة في إنجازها.
- تبدل احتياجات المتكلمين المعيشية والاقتصادية أدى من ثم إلى تطور لحق بالأدوات اللفظية اللازمة لها. لذا، أصاب هذا التطور بدوره مستلزمات الرشوة وأساليبها. فصيغة المعطف والقرطاس سابقاً، وصيغ الجارور والمجر والمظروف أو حتى الجريدة التي كانت تحتضن و«تستر» المبلغ المعلوم، وتصاحب بمفتاح كلامي «خوذ قراها»، تراجعت بشكل ملحوظ، بل هي ولت وذهبت بذهاب الظروف التي أنتجتها، وباتت عنواناً لمرحلة منقضية شعارها «الأكل ع السكت» أو «تحت الطاولة». بات «العطي فوق الطاولة»، لا بل فوق الحاسوب أخيراً، يحدث علناً ومن دون ظرف أو أي ستر آخر، وأحياناً كثيرة بغير مقدمات ومبررات لفظية. صار المرتشي فاعلاً أساسياً في العملية، صاحب حق يطالب بوقاحة ويضع «أسعاراً للمعاملات»، وأحياناً «جدولاً متحركاً» بها، ويساوم ويحتسب لنفسه «نسباً مئوية» من أساس الرسم المفروض الذي يعتبر انه وفره جزئياً على صاحب المعاملة وصولاً إلى التعليق متى لم يعجبه المبلغ المعروض «ما بتوفي!» أو «خليها علينا!» أو «ما بتحرز!». خطابه لم يعد يعتمد صيغ التوسل والتمني والتودد الكاذب بقدر ما أمسى خطاباً واضح المعالم، يبطن ما قل ودل من الدلالات المباشرة المصاغة بأفاظ عملية.
- الطريف هو أن اللون المميز للعملة المطلوبة قد اختلف باختلاف الأحوال والأزمان. فتعبير طيرلك شي أزرق (أي ورقة المائة ليرة اللبنانية الورقية) السائد قديماً لم يعد يشفي الغليل. إذ باتت العملة الخضراء اللون (الدولار الأميركي) مطلب المرتشي في الآونة الراهنة.ــ الحياء او الخجل او «طلب السترة»، سقطت من تقاليد واعراف التعاطي اليوم. استهلاكية المجتمع وخطاه الاقتصادية المتسارعة وتدفق الرساميل والفورة الاقتصادية التي شهدناها منذ مطالع التسعينات حرّكت عموماً وتيرة التماس الرشوة وتقديمها والتلويح بها.
ــ يبدو ان للبخشيش او «البوربوار»، كما يطلق عليه في المغرب العربي، نمطاً واحداً متعارفاً عليه. اما الرشوة، فتتعدد انماطها واساليبها ووجوه النظر اليها انطلاقاً من مضمونها او فحواها المادي او العيني.
ــ ثمّة قطيعة سلوكية وتعبيرية بين المجالين القديم والمعاصر لمسألة الرشوة. في ظل هذا المبدأ، جهدنا لايفاء التحديدات اللغوية القديمة حقها، وكذلك الامر بالنسبة الى الامثال الشعبية والاقوال السائرة التي ناهزت المائتين. من الطبيعي ان تتكرر وتتعدل هذه الامثال. بيد ان توظيفها حالياً مغاير للدلالات القديمة وللظروف التي انتجتها وروجتها، بالرغم من ان العنوان العام الذي تنضوي تحته هو الرشوة والافساد والبذل غير الشرعي. ان السياقات المعاصرة تشهد الموت الوظيفي لغالبية هذه الامثال. وما يطفو منها على سطح الواقع المعيشي لا يتعدى الثلث.
ــ ان التجليات اللغوية، على اختلاف اشكالها، التي زخر بها هذا الخطاب تنساب احياناً كثيرة في منطوقنا اليومي بعفوية وتلقائية باعتبارها محطات كلام تقليدية، او تعابير رائجة للتندر والتفكه، او تعليقات تستخدم للدلالة على «شطارة» البعض وتميزه وفعالية مبادرته. من هنا لا يستوي توظيفها حصراً في خطاب الرشوة.
ــ وفي المحصلة نقول اننا جهدنا في اعتماد الوصف والملاحظة والاستقراء منهجاً، وسعينا قدر الامكان لتجنب اي موقف لغوي معياري او اخلاقي. وتوسلنا عوضاً عن ذلك التركيز على الرؤية الدينامية للغة. وعسى ان نكون وفقنا في هذا الرصد اللغوي لمنسوب الرشوة ــ وهي في الحقيقة احدى بوابات الفساد ــ في بيئتنا الثقافية الاجتماعية في لبنان تحديداً، وفي غيرها من البيئات الثقافية العربية عموماً. هذا المنسوب نتمنى ونعمل كي ينخفض وينعدم فعلاً وتأثيراً ورواجاً، فتنحسر بالتالي ثقافته، ويضمحل خطابه، وتتلاشى او بالاحرى تتعدل تعابيره من منطوقنا اليومي وتعود الى سويتها التعبيرية»..
غنى حليق
داخل مصر» يلج من باب عمارة يعقوبيان.. أرض الفراعين على حافة الثورة
يبدأ الصحافي جون برادلي رحلته المصرية بالدخول من بوابة الفن السينمائي الذي هو أجمل أشكال التأريخ للمأساة (أو الملهاة) الإنسانية وأكثرها ارتباطا بالقرن العشرين.
وفيلم «عمارة يعقوبيان» هو المدخل السينمائي الذي اختاره برادلي لتقديم أطروحته التي تقول إن ثورة يوليو وضعت مصر على الطريق الخطأ. وجمهورية مبارك هي التجلي الراهن لجمهورية يوليو. وما بني على باطل فهو باطل.
ومثل زكي باشا، الشخصية المحورية في فيلم «عمارة يعقوبيان» التي جسدها عادل إمام، فإن برادلي يرى أن انتقال مصر من الملكية إلى الجمهورية كان انتقالا من الجمال إلى القبح. ولأن البناية المعروفة باسم عمارة يعقوبيان، في رأي مؤلف الرواية التي بنى عليها الفيلم الدكتور علاء الأسواني وفي رأي جون برادلي، هي الرمز المجسد لمصر، فإن المقارنة تدور بين ما هي عليه الآن وما كانت عليه قبل 56 عامًا.
تمثل بناية يعقوبيان واحدة من 96 بناية في قلب العاصمة المصرية. ولو بالغنا في عدد سكان كل بناية منها، أيام الملكية، وقلنا إنه بلغ الألف ساكن فهذا يعني أن الحي الأفرنكي الذي تألفت منه هذه البنايات كان يضم 96 ألف إنسان، معظمهم من الأجانب، في بلد كان تعداده 22 مليونا. أي أن ساكني ذلك الجزء من العاصمة كانوا يمثلون أقل من جزء على مائتين وعشرين من أهل البلاد. وجنتهم الوارفة لم تكن تعني شيئا لمعظم المصريين.
لكن الرؤية التي يطرحها برادلي لا تخصه وليست من اختراعه فكثيرون في مصر يؤمنون بأنها كانت جنة الله في أرضه، أيام الملكية، وأن سقوط النظام الملكي وخروج الأجانب حولا الجنة إلى جحيم. فهذه هي رؤية بطل عمارة يعقوبيان. وهي التفسير الوحيد للنجاح الجماهيري الساحق لمسلسل الملك فاروق الذي عرض في رمضان الماضي، أو على الأقل، فهذه الرؤية هي التفسير الذي يعتمده برادلي لشعبية المسلسل وإن كان هناك من يقول إن الناس أعجبوا بالمسلسل لأنه من حق أي إنسان أن يطالع صور ماضيه بحرية وإذا حرم من هذه الحرية فإنه يشعر بلذة عظيمة عند استعادتها، من دون أن يعني ذلك رغبة حقيقية في أن يعيش في ماض يعرف أنه لن يعود.
ثورة فاشلة
لكن المؤلف يمسك بمعول ثقيل هو ذلك الفصل المكون من 48 صفحة بعنوان «ثورة فاشلة» ليدق به فوق رأس جمهورية يوليو التي يوحي إليك بأنها تتجسد لديه في مؤسسها جمال عبد الناصر رغم أن هدف هجومه الحاد هو، في الحقيقة، الرئيس الراهن للجمهورية.
ولهذا فهو يشير إلى يوم قيام الثورة بعبارة «ذلك اليوم المشؤوم، في الثالث والعشرين من يوليو 1952» وإذا كان صحيحا ما قاله إن خط جمهورية يوليو كان (على المستوى الدعائي فقط) خط عداء بالغ للأجانب فهو يربط ذلك بالعداء لليهود زاعما أن عبد الناصر طرد نصف يهود مصر.
والحقيقة أن عبد الناصر لم يطرد أحداً، صحيح أن هذا هو الشائع، لكن ما يتردد في جلسات المثقفين وأنصاف المثقفين شيء والحقيقة التاريخية شيء آخر. فالحقيقة التاريخية تعتمد على الوثائق وليست في العالم كله وثيقة تقول إن عبدالناصر طرد اليهود.
هو قال بعد اندحار عدوان 1956: إن وجودهم في مصر غير مرغوب فيه، لكنه لم يصدر قرارات ملزمة، ولم يتخذ أي إجراءات من شأنها طرد اليهود، الذين غادروا مصر لأنهم - كما قال إحسان عبدالقدوس - مارسوا حقا إنسانيا في اختيار الوطن الذي يريدون العيش فيه.
ويصل جون برادلي إلى حد الظلم عندما يعتبر أن جمهورية يوليو هي التي جعلت كلمتي «يهودي» و«إسرائيلي» تعنيان الشيء ذاته لدى المصريين وان ذلك جزء من النهج العنصري المعروف باسم «العداء للسامية» ولو قرأ برادلي الخطاب الذي وجهه البارون إدمون دي روتشيلد، احد كبار مؤسسي الحركة الصهيونية والأب الأعلى للدولة العبرية، بكل المقاييس، لاعتبره، هو الآخر، معاديا للسامية.
يتحدث البارون دي روتشيلد في هذا الخطاب عن اتصالاته مع مؤسس الاتحاد الإسرائيلي العالمي شارل نيتر ومشاوراتهما حول «الحركة التي يجري حفزها في روسيا لدفع الإسرائيليين إلى فلسطين».
كتب هذا الخطاب في ابريل 1883 أي قبل قيام الدولة الإسرائيلية بأربعة وستين عاما، لكنه يشير إلى اليهود باسم الإسرائيليين، لأن الصهيونية الفرنسية، وقد كان البارون وشارل نيتر من أهم قياداتها، اعتمدت هذا الاسم، وشاع استخدامه في فرنسا وفي العالم، وخاصة في مصر التي كانت ثقافتها فرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت غالبية اليهود فيها متفرنسين وكانوا يشيرون إلى أنفسهم باسم الطائفة الإسرائيلية، قبل أن يسمع احد منهم (أو حتى يقبل) بوجود دولة اسمها إسرائيل. وهذا ما يشرحه المستشرق هنري لورانس في كتابه المهم «اختراع الأرض المقدسة».
ويرى برادلي أن هجوم عبد الناصر على اليهود وطرده إياهم (كذا) من مصر كان يستهدف شد الأنظار بعيداً عن سياساته الفاشلة، ويعتبر أن موقفه من الإخوان المسلمين كان مفتعلا، أيضاً، وللغرض ذاته. وهذا قول عجيب لأن رفض الإخوان لعبد الناصر، المستمر ليومنا هذا، يبين عمق التناقض بينهما.
ولا يكتفي برادلي بمشاهدة فيلم «عمارة يعقوبيان» بل يحاور مؤلف الرواية الدكتور علاء الأسواني الذي يذهب للقائه في احد المقاهي القائمة وسط العاصمة واسمه «الندوة الثقافية».
ورغم أن الأسواني يوافق برادلي على كثير من مكونات رؤيته لماضيها وحاضرها إلا أن الأسواني يصر على رفض الاستعمار، وإن جاء بخير للبلاد، في حين يفتخر برادلي بما أنجزه البريطانيون في مصر، وهو كثير من الناحية المادية وإن سعوا، دوماً، إلى خنق الروح الوطنية.
أربعة أمور مهمة
لكن برادلي يطرح أربعة أمور بالغة الأهمية. فهو ينقل عن المستشار عوض المر أن نقطتي الضعف في تاريخ ثورة يوليو هما غياب الديموقراطية وهزيمة يونيو العسكرية. وهذا رأي يجمع عليه غالبية المصريين.
وقد قابل كاتب هذه السطور المستشار عوض المر، لأول مرة، في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، حيث كان المر معبرا عن الحق المصري والرؤية العربية لقضايا المياه بوجه البريطانيين والإسرائيليين، نهاية الثمانينيات.
وعند الانتقال إلى العهد الحالي من تاريخ جمهورية يوليو يطرح برادلي وجهات نظر أخرى، شائعة بين مثقفي هذا العصر، عندما يشير إلى أن أسوا ما يحدث في مصر الآن هو إطلاق العنان لبرامج الخصخصة، دون ضابط أو رابط. واقتلاع التفكير العلمي، من جذوره، بادعاء التأسلم.
ويعتبر برادلي أن الخصخصة الجامحة تنزل من أعلى، بقوة مدمرة، والتعصب الأصولي يصعد من أسفل، بقوة مدمرة. وهذا صحيح. لكن غير الصحيح هو ما يقوله من أن الطبقة المتوسطة واقعة بين حجري الرحى هذين، وأنها في طريقها إلى الاختفاء.
وهذا الكلام غير صحيح، فالطبقة المتوسطة في مصر تنمو نموا متواصلا، عدد من يرسلون أبناءهم إلى مدارس غير حكومية يتزايد بقوة، عدد من يملكون السيارات الخاصة يتزايد، عدد من يرفضون المواصلات العامة، ليركبوا التاكسي ويدفعوا عشرة جنيهات في رحلة تكلفهم جنيها واحداً في المواصلات العامة، يتزايد بقوة، عدد من يرتادون المولات والمطاعم والمشارب ودور السينما والمسارح ومن يتدفقون على المصايف والمشاتي، ومن يذهبون لقضاء عطلاتهم في الخارج سواء في تركيا الرخيصة أو سويسرا الباهظة، في مالطة القريبة أو في الصين القصية، عدد كل هؤلاء يتزايد بقوة ملحوظة.
فهل حقا فشلت الثورة؟ الحقيقة ــ في رأيي ــ أنها نجحت. وانتهت، ولا بد، للتخلص منها، من ثورة جديدة، بدأت قبل ثلاثة أعوام وهي تمضي في طريقها، بتغيير تتراكم مؤشراته كل يوم، في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفي طبائع الأدوار التي تؤديها الطبقات والمؤسسات المختلفة.
ورغم الحوار الصاخب الذي يشق الطريق لهذه التحولات فهي تحولات سلمية وبطيئة وعملية.
لكن الرؤية الدراماتيكية التي يجنح إليها المؤلف برسم صورة لتحول «سوف» يحدث، متجاهلة ما حدث بالفعل. وما يحدث كل لحظة. وهو ينقل عن عالم النفس المشهور الدكتور أحمد عكاشة: إن البلاد ينتظرها مصير من اثنين: إما أن يقع انقلاب عسكري، أو يسيطر الإخوان المسلمون على السلطة.
قاعدة جوهرية
ولا يعتقد كاتب هذه السطور أن الإخوان يريدون الحكم، والسبب بسيط وهو أن لا احد سيكون قادرا على حكم مصر إلا برضا الجيش والشرطة والبيروقراطية الحكومية وهم يدركون أن هذه قاعدة جوهرية ولا سبيل إلى تجاهلها أو تحييدها.
ورغم أن الإخوان المسلمين يرددون دائما: إنهم دعوة سلمية لا تمارس العنف فالمؤلف ينقل عن كتاب «الأصولية الإسلامية في السياسة المصرية» لباري روبين 2002 أن الجماعة تستخدم التخويف للسيطرة على الحياة الثقافية والاجتماعية وذلك باللجوء إلى رفع القضايا ضد خصومهم وبالخطابة النارية التي تخوفهم وإن كانت تمزج ذلك بالترغيب المتمثل في الأنشطة الأهلية التي تسد احتياجات الجمهور.
فهل هذا يؤهلهم لأن يشغلوا الفراغ الذي يمكن أن ينشأ إذا انفجرت هبة شعبية أسقطت النظام؟ بالقطع لا، فعندما يذكر الجيش كمرجع وطني أعلى يمكن اللجوء إليه إذا استحكم الخلاف بين مختلف الفرقاء، فإن الإخوان لا يكونون أقل حماسا من غيرهم للقبول بهذه المرجعية، بل إن تعليق الداعية الحقوقي الشهير على الانقلاب العسكري في موريتانيا في مقال له بالمصري اليوم، أشار إلى أنه، هو أيضا، داخل في الإجماع الوطني على هذه الفكرة.
وهذا يعني أن أي اضطراب خطير سوف يكون مبررا لأن يتطلع الجميع باتجاه الجيش كما فعلوا في يناير 1952 عندما احترقت القاهرة، وفي يناير 1977 عندما هددت التظاهرات النظام الاجتماعي، وعندما تكرر الأمر مع تظاهرات الأمن المركزي في الثمانينيات، وفي كل مرة كان الناس يستقبلون الجيش بالترحيب.
المصريون متصوفون
أما عن الإخوان المسلمين فإن المؤلف يرى أن رؤيتهم للإسلام تتناقض مع جوهر الرؤية المصرية التي هي، في الأساس، صوفية متسامحة، وهي رؤية أبقت الباب مفتوحا، طوال 14 قرناً لتعايش ودي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في مصر.
فإلى أين تمضي البلاد؟ ليس سوى مواصلة الإصلاح بخطوات صغيرة متلاحقة تتجه جميعا إلى الأمام، دون نكوص عن الديموقراطية. لماذا؟ يرى برادلي أن النظام لا يريد أن يترك السلطة تسقط من يده، بفعل أخطاء يواصل ارتكابها، ليلتقطها الإخوان المسلمون. وأن واشنطن سترتكب خطأ كبيرا إذا ساعدت جماعة أصولية على الوصول إلى الحكم في بلد لا تحتمل ثقافته التشدد الأصولي.
ويستعيد المؤلف المراحل الإستراتيجية العامة التي حددها مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول حسن البنا للوصول إلى السلطة قائلاً: إنها ثلاث مراحل: الإعداد، وهو في الأساس دعائي يستهدف تطويع أذهان العامة للتجاوب مع توجهات الإخوان المسلمين. وبعد ذلك تأتي للتجاوب المرحلة التنظيمية بخلق الكوادر المؤمنة بفكر الإخوان وتوسيع عضوية الجماعة، والمرحلة الأخيرة هي مرحلة العمل أو الوثوب على السلطة.
من الواضح أن هذا كلام عمومي، شأن كل ما يصدر عن الإخوان، لكن سلاسل متواصلة من الأنشطة انبنت عليه. والإخوان المسلمون الآن في المرحلة الثانية، مرحلة التنظيم وغرس المبادئ والأفكار في عقول وسلوكيات أكبر عدد ممكن من المواطنين من مختلف الطبقات، خاصة الفقراء، ومن مختلف الأعمار خاصة الشباب، ومن مختلف مناطق مصر، خاصة المناطق الريفية.
وسط هذا العرض المسهب للوضع السياسي في مصر وآفاقه المحتملة يمر المؤلف بقضية جمال مبارك التي تشغل حيزا كبيرا من اهتمام فصائل المعارضة في مصر، مرورا يمكن أن يقال عنه إنه عابر.
هو لا يتوقع من جمال مبارك، إذا أصبح رئيساً، أي خير للبلاد، ويقول: إن تعليمه الغربي لا يعني شيئا مؤكدا لمصلحة بلاده، ودليله على ذلك أن الرئيس السوري بشار الأسد أثار آمال الكثيرين عندما خلف أباه على حكم سوريا وأن هذا كله لم ينته إلى شيء يذكر.
لكن كاتب هذه السطور يرى أن إبرام سلام مع إسرائيل ضمن صيغة تعيد تركيا إلى لعب دور مركزي في المنطقة يمكن، إذا حدث، أن يغير طبيعة التوازنات في منطقة الشرق الأوسط تغييرا يظل التاريخ يذكره لسنوات طويلة، وأقصد بذلك أن بشار الأسد، الذي يتحرك في هذا الاتجاه والذي أثبت أنه قادر على الحفاظ على مركزه الموروث على الساحة اللبنانية (بغض النظر عن سلبيات هذا الأمر) ليس سياسيا يستهان به.
لكن أهم ما يقوله المصريون الذين لا يتوقعون لجمال مبارك أن يرث السلطة في البلاد هو أن مصر تختلف عن سوريا، كما أنها تختلف عن ليبيا التي يقال إن زعيمها معمر القذافي يستعد لاستخلاف أحد أبنائه في حكمها، وتختلف عن المغرب التي انتقلت السلطة فيها من الملك الراحل الحسن الثاني إلى نجله العاهل الحالي محمد السادس في إطار ملكي يعتمد التوريث كآلية مركزية ضمن منظومته، وهو أمر يجعلنا نتساءل عن جدية المقارنة التي يعقدها المؤلف بين حالة جمال مبارك وحالة محمد السادس.
أسامة الغزولي
غلاف الكتاب
من ينظر في الوقائع اليومية السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، سيكتشف مدى تغلغل العنف بين ثناياها لدرجة مفزعة، فلم يعد العنف حكراً على الدولة التي تضفي على استخدامه المشروعية الدستورية والقانونية والسياسية، ولا جزءاً من أنشطة أفراد وعصب إجرامية جانحة، لأن العنف أصبح أبعد مدى وأعقد من دائرتي المشروعية والقانونية والسياسية، واللامشروعية والتأثيم العقابي لأنماطه التي تمثل تهديداً لمصالح فردية أو جماعية تحددها السلطات الشارعة في كل دولة، وفق أطرها الدستورية والقانونية الموضوعية والإجرائية.
تحول كبير حدث، ولم يعد العنف جنائياً أو سياسياً، أو حتى ذلك الذي تولده الصدامات الاجتماعية، إنما امتد ليتمدد في خلايا وشبكات اللغة والعقائد والرموز، وذهب إلى قلب المقدس ومحرماته وأيقوناته العقائدية، وظواهر هذا العنف ليست جديدة حيث يشير جزء – يوثق آراءه – من مؤرخي الأديان إلى أن الارتباط حدث منذ البداية، فالبنى الداخلية للأنساق الدينية والمذهبية – السماوية والوضعية – تؤدي إلى فرض سياجات بين الأنساق المختلفة، والسياجات يواجهها عنف، وكذلك يوجد عنف مذهبي داخل كل ديانة.
الكتاب: الخوف والمتاهة
تأليف: نبيل عبدالفتاح
الناشر: دار ميريت للنشر والتوزيع
قطع متوسط: 517 صفحة
«الخوف والمتاهة» كتاب يتناول فيه «نبيل عبدالفتاح» قضايا عالم المابعديات، وخصوصاً عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 وانعكاساته على الإسلام عموماً، والعلاقات بين الثقافات والأديان والمذاهب والمعتقدات والتأويلات. كما يركز على أبرز معضلات وتطورات الدولة والمجتمع المصري.
وكان المؤلف قد أصدر طبعة أولى اشتملت على خمسة فصول ثم أضاف إليها لتصبح ثمانية عشر فصلاً.
العنف المقدس
مقولة سارتر الشهيرة «الجحيم هو الآخرون» هل يمكن ان تنتقل من الفلسفي الوجودي ذي الروح العدمية الى احد ما، لتدخل الى مجال العلاقات بين الثقافات والاديان؟ تساؤل تفرضه عوالم 11 سبتمبر 2001، وما بعدها.
واذا قلنا ان ثقافة الكراهية ليست جديدة او طارئة على العلاقات بين الاديان، لان ركائزها تسيطر على بعض مكونات تاريخ الاديان وصراعاتها القديمة، بل ان كل ديانة تسعى الى تفردها وتميزها واولوية عقائدها وطقوسها على الاديان الاخرى، اذا سلمنا بهذا فسوف نكون في مواجهة تفسير نفهم من خلاله ما يحدث من جنوح بعض وسائل الاعلام الغربية الى الخروج السافر ـ بين الحين والحين ـ ببدعة جديدة في معرض الاساءة للاسلام والنبي صلى الله عليه وسلم، ولعل فيما قاله بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس خلال محاضرته الشهيرة في جامعة ريجنسبورج بولاية بافاريا الالمانية في سبتمبر 2006، خير دليل على طغيان نظرة شديدة القصور ومتأثرة بتصورات قديمة لاتزال قادرة على احداث تأثيراتها داخل المجتمعات الغربية، ولا نحتاج سوى إلى مجرد مؤثر بسيط ـ يمكن ان يكون نجاح مسلم شرقي يعمل في الغرب ـ وبعدها تنطلق جميع الابواق في كل الاتجاهات، وهكذا كانت محاضرة بابا الفاتيكان التي اثارت ردود فعل غاضبة في اوساط المسلمين، الامر الذي جعل الفاتيكان يتراجع ويصدر بيانا يأسف فيه من فهم المسلمين الخاطئ لمقاصد قداسته، والبيان لا يحمل شبهة الاعتذار بقدر ما يحمل من الاسف على ان المسلمين لم يفهموا ما قاله قداسته!!
وكالعادة اعتبر الغاضبون البيان اعتذارا وما هو بالاعتذار، اعتبروه اعتذارا لانهم يبحثون عن رمال ليدفنوا فيها رؤوسهم فلا يرون الحقيقة، وتظل حالة العمى او التعامي التي يصرون على العيش في اسارها، فهم لا يملكون سوى البحث عن عذر للمعتدي.
ومن محاضرة بابا الفاتيكان الى وصف الرئيس الاميركي بوش الابن لبعض الجماعات الاسلامية الراديكالية بـ «الفاشية الاسلامية»، وباضافة هذه الممارسات بعضها إلى جانب بعض نجد اننا بازاء افعال تشيع الكراهية ضد اصحابها باعتبار ان هذه الكراهية من قبيل رد الفعل، وبذلك ندخل في الدائرة الجهنمية للافعال المثيرة للغضب، وردود الفعل المنتظر، وردود افعال تجاه ردود الافعال، وذلك في الوقت الذي يحتاج فيه الناس الى التسامح والمساواة حتى تشيع الحرية والعدل بالقدر الذي يسمح للحوار الذي يؤسس تعايشا هادئا في محيط حياتهم ويمكن القول ان فترة الحرب العالمية الثانية، والتي خرج منها العالم وقد تغيرت كل الامور، حيث اصبحت الامبراطورية الماركسية الفتية ـ وقتها ـ تمثل تحولا يجب التصدي له، وتمثل ذلك في تبني الكنيسة لمجموعة من القيم التي تتسم بمرونة وتسامح كبيرين، وفي ذات الوقت، روجت لاتهام الماركسية بالكفر كوسيلة فعالة في مواجهة التيارات المناصرة لها، وهذا التراجع الذي طال الايديولوجيات ذات المصادر الدينية والسلطان العالمي للمؤسسات الدينية كالفاتيكان، كان احد اهم اسباب السعي الجديد الذي سار الفاتيكان على نهجه لاستعادة مكانته التي فقدها، وطبيعي ان الحال ينسحب على المؤسسات الدينية الاخرى، وبدأت النبرات الخلافية بين المذاهب وخصوصا المذاهب الاسلامية ــ السنة، الشيعة ــ تعود ليعلوا صوتها من جديد وتشهد الساحة ظواهر جديدة منها انتشار الزي الاسلامي الذي يفجر سؤالا يقول: هل كان انتشار الزي هذا مجرد رد فعل، ومظهراً استعراضياً تعويضياً في مقابل ما فرضته العولمة، وتداعيات احداث سبتمبر 2001؟
للفتوى أكثر من وجه
وفي سياق مغاير، يعرض المؤلف مبررات وضع المؤسسة الدينية في مصر تحت الرقابة المباشرة للدولة، حتى ان رئيس مجلس الوزراء هو من يدير الملف المزدوج للاديان «الازهر والكنيسة» وان كلا من شيخ الازهر وبابا الكنيسة نواب له.
ومن هذا الى ما يحدث في الفضائيات والتي اعتمد معظم المتصدرين للفتوى من خلال شاشاتها على النزعة النقلية، وهذا ينلقنا الى النظر في الفجوة ما بين السنة والشيعة، والتساؤل هو: هل هي اكبر من ان يجتازها المسلمون لتفادي التداعيات الخطيرة للازمة الراهنة، تلك الفجوة لا تبذل القوى المعادية للمسلمين الا اقل القليل من الجهد في توسيعها او على الاقل تثبيتها، وتترك ذلك للمسلمين من الطرفين، ويكفي النظر في مجموعة الفتاوى التي يصدرها بعض المشايخ السنة، وفيها يتم وصف الشيعة بالروافض، والدمى التي تحركها ايران، وان لم تخل الساحة من اصوات عاقلة منها واحد من ابرز الدعاة السعوديين ــ د. محسن العواجي ــ الذي انكر صمت العلماء على نصرة المقاومين في لبنان.
والتذبذب بين الهجوم والتراجع يضعنا امام حالة تذكرنا بالمثل الشعبي المصري «ياما في الجراب يا حاوي»، فالفتاوى هي.. هي لم يغير صاحبها منها حرفا واحدا، وانما قام بلي ذراع الكلمات وذهب ليستعين بالنص المقدس فأخذ منه قولاً يبرئ به نفسه وفتواه من وزر معاداة حزب الله، اخذ القول الكريم «ألا ان حزب الله هم المفلحون» ويعود ليقول عن الرافضة.. انهم لا يتراجعون، وايضا لا يظهرون تعنتاً، فقط يقومون بنثر بعض محسنات القول مستعينين بحيل علوم الكلام، يقدمون الموقف الجديد والقديم، ولسان حالهم يقول «وفي القلب ما فيه».
التجربة الغربية في الفصل بين الدين والدولة
وهذا يجرنا لملاحظة مدى التشابك الحاصل بين السياسة والخطاب الديني حتى اصبحا يمثلان وجهين لعملة واحدة ولا يمكن فصلهما الا باللجوء الى الجراحة القاسية التي فصل بها الغرب بين الدين والسياسة حتى ان دولة الفاتيكان – والتي كان أوروبا على اتساعها تضيق بها ــ تقطعت لتصبح كيلو متراً مربعاً داخل العاصمة الايطالية روما، ومع المساحة تقلص نفوذ بابا الفاتيكان، فلا يمتد نفوذه إلى خارج المساحة المحدودة التي ترسم حدود دولته، وأصبح ثقلها السياسي نوعاً من اللزوميات البروتوكولية إن جاز التعبير. هذا التشابك بين السياسة والخطاب الديني ظهر عندما أثيرت قضية منع لبس الحجاب في فرنسا، تلك القضية التي أشارت إلى الاحتقان الحادث في عالم الإسلام الأوروبي، الذي يشير بدوره إلى البطالة والتفكك الأسري وضعف أو اختفاء تمثيل الإسلام في مؤسسات الحياة السياسية الحزبية، وتضخم مشكلة الهوية بين المهاجرين، ومن ذلك النظر إلى جسد الأنثى تلك النظرة التي تفرض الحجاب زياً ضرورياً وهنا يتفق الفرقاء (السنة والشيعة) وإضافة إلى ما سبق تشير الحالة إلى هيمنة رأس المال المدفوع من جانب الدول، وهو أمر يفرض اتجاهات بعينها حسب ميول أصحاب المال – الوهابية مثلاً - وتأتي بعد ذلك المسألة الديموغرافية، والتي تعطي ثقلاً للإسلام في حالة فرنسا على وجه التخصيص، فالإسلام يأتي في المرتبة الثانية بعد الكاثوليكية.
إن الحاجة إلى رؤى جديدة سياسية ودينية حول العلاقة بين الدين والدولة، أصبحت ضرورية وملحة، حتى يمكن الخروج من دائرة المشكلات المعقدة والتي باتت تسم العلاقة الاحتكارية للإسلام من قبل الصفوة السياسية والحكم أو نزاعها عليها من قبل فرق التيار الإسلامي المتواجدة على الساحة، وهي كثيرة.
وقبل أن يغلق المؤلف هذه الملفات يشير إلى الظواهر التي طفت على السطح بعد نجاح جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية في مصر، تلك الظواهر التي يرجعها إلى فقدان التوازن بعد النجاح الكبير وغير المتوقع في الانتخابات حتى ان قادة الجماعة وقعوا في وهم الانتصار وتصوروه مقدمة لسقوط وشيك بات يهدد السلطة والنظام الحاكم.
يواصل نبيل عبدالفتاح عرضه للحالة المصرية من خلال صعود الإخوان على الساحة السياسية، ويناقش مستقبلهم، حيث يرى ان إشكالية اندماجهم في إطار النظام السياسي هي واحدة من أبرز الاشكاليات التي تواجه الصفوة الحاكمة، وباقي القوى السياسية الفاعلة داخل المجتمع المصري، وهو يرى أن القوى الفكرية الإسلامية والعربية على اختلاف انتماءاتها الفكرية والدينية والسياسية مطالبة بمواجهة واقع تغلب عليه احتقانات قابلة للتقيح ان جاز التشبيه ويطرح تصوراً للحل يصوغه في خمس نقاط: مجلس حوار إسلامي – إسلامي، مجلس عالمي للشؤون الدينية، بيانات ترمي إلى إدارة حوار مع المؤسسات الدينية في العالم تديرها مطبوعة شهرية تصدر بأكثر من لغة في موقع على الشبكة الدولية للمعلومات خاص بالحوار.
هموم الأقباط
وفي اشارة الى ما وصلت اليه الاحوال في مصر يسوق المؤلف تعبير «الرجل المريض في الشرق الاوسط» وهو يذكرنا بما وصلت اليه الامور في النصف الاول من القرن العشرين حيث كان مركز الخلافة الاسلامية في تركيا يعاني من امور قريبة من التي يعاني منها النظام المصري الان، مما دعا الغرب الى اطلاق وصف «الرجل المريض» على النظام التركي. ويقول المؤلف ان الورقة القبطية، اضافة الي غيرها من اوراق ملف ازمة النظام المصري، تأخذ وضعا شديد الاهمية، وخصوصا بعد تزايد نشاط الحركة الاسلامية السياسية في الخارج ــ خصوصا في الولايات المتحدة ــ مما جعل الامر يبدو كما لو كان الفريقان في حلبة سباق، فهولاء يلوحون باوراق المعونات الاقتصادية، والاخرون يشيعون ان الاقباط يستقوون على النظام بالخارج الاميركي والاوروبي، مما يساعد على احتقان الحالة الطائفية من دون جدل موضوعي حول حلحلة الازمة من خلال المطالب التي يمكن ان تساعد على نزع فتيلها، ومن ذلك الغاء بعض قيود الخط الهمايوني، وشروط العزبى باشا حول بناء الكنائس، والتفاوض حول استعادة الاوقاف المسيحية وتحقيق مبدأ المواطنة في باقي الامور.
واخيرا يقترح حلولا في خطة طويلة الاجل تعتمد نظرة شاملة لتجديد الدولة والنظام السياسي والسياسات الاعلامية والدينية والثقافية والامنية، ومن خلال خطوات مدروسة تركز على اعادة تأهيل المدرسين وتدريبهم على ثقافة المواطنة والتسامح مع الاخر وقبوله، واعداد مناهج مماثلة تتلاءم مع مراحل التعليم المختلفة، الى جانب دراسات عن تاريخ الازمات الطائفية واسبابها، وتحديث المؤسسة الامنية، مع اصلاح المنظومات القانونية التي تمثل قيدا على حقوق المواطنة، واخيرا تجديد اواصر الاندماج القومي المصري في ضوء مبادئ وثقافة المواطنة ودولة القانون الحديث.
ويقول في النهاية ان الاصلاح غير ممكن دونما حريات ديموقراطية واصلاحات دستورية وسياسية، وان الاصلاح السياسي لن يكون فعالا دونما اصلاحات اعلامية عموما، ودينية على وجه الخصوص. محمد الزرقاني
شهادة زوجين جمعتهما مقاعد الدراسة ثم السياسة ومشاكل إيطاليا (1) سياسة القلـــب
فلافيا في المدرسة الابتدائية وتظهر أعلى الصورة الى اليميند
* تأليف رومانووفلافيا برودي
* ترجمة سليمة لبال
تعرفا على بعضهما البعض في ريجيو ايمليا مسقط رأسيهما، حيث عاشا تجربة الحياة الجامعية الايطالية في نهاية الستينات من القرن الماضي، وتزوجا ايضا عام 1969، انهما فلافيا فرونزوني ورومانو برودي رئيس الوزراء الايطالي السابق.
لقد اصبحت فلافيا مرجعية في عالم التكوين الاجتماعي في ايطاليا بسبب نشاطاتها، كما تمكن رومانو في انتخابات ابريل 2006 من كسر شوكة سيلييو برلسكوني صاحب الامبراطورية المالية والاعلامية ليكسب بفضل برنامجه وتحالف »اليونيون« اصوات الهيئة الناخبة الايطالية بعد مشوار طويل قضاه في الجامعة استاذا للاقتصاد. ثم رئيسا للوزراء من مايو 1996 الى اكتوبر 1998 بواسطة تحالف اليسار الوسط - الاوليفا - الذي اقامه، فرئيسا على مدى خمس سنوات للمفوضية الاوروبية التي اشتغلت طويلا لتحقيق وحدة اوروبا جغرافيا ونقديا بعد ان توسعت الى 52 دولة، وصار اليورو عملتها الموحدة.
واذا ما كان الكتاب الذي تعرضه »القبس« على حلقات وليد افكار فلافيا في البداية، فإنها سرعان ما ارتأت ان تخطه الى جانب زوجها الذي تقاسمت معه سنوات من الضغط والجهد في سبيل تغيير صورة ايطاليا التي عاشت على مدى سنوات ازمة اقتصادية خانقة بسبب الفساد الذي استشرى في اركان الدولة.. والذي عاد يقوى مجددا مع عودة برلسكوني الى رئاسة الوزراء.
»سياسة القلب« هو شهادة زوجين جمعتهما الجامعة ثم السياسة ومشاكل ايطاليا، هي محطات يتوقف عندها كل من رئيس الوزراء الايطالي السابق وزوجته وننقلها للقراء لاكتشاف جانب آخر من اوروبا.
بعدما قلبت الحرب العالمية الثانية الأحوال المادية ورفضت والدته الهجرة من ايطاليا رئيس وزراء نشأ في مدرسة للأيتام
منذ 36 سنة، وأنا اقضي برفقة رومانو اياما من اجازة الصيف في بيت يقع على ربوة في بيديو المتاخمة لريجيو ايميليا في الشمال الايطالي. انه منزل كبير جدا ويتسع لستين شخصا تقريبا. حرصنا منذ زمن على الاحتفال فيه باعياد الميلاد، حتى ان عددنا وصل عام 2004 الى ثلاثة وسبعين فردا من افراد العائلة ولم يكن عددنا مكتملا، ذلك انه كان سيفوق المائة لو حضر جميعنا.
عائلة رومانو كبيرة، فهي مكونة من سبعة اخوة واختين، ولد الواحد منهم تلو الآخر في فترات متقاربة وكان زوجي ثامنهم، وهو ما دفع والدة رومانو، وتدعى انريكا، الى التضحية بعملها كمدرسة للاهتمام برعاية اولادها، بينما كان والده، الوحيد الذي حظي بالتعليم بين افراد عائلته المزارعين، ليصبح مهندسا في ادارة المقاطعة.
ويروي رومانو دوما واقعتين لايزال يذكرهما عن والده، الاولى ان والده لم يكن يدفع فقط تكاليف دراساته الجامعية وانما كان يحول شهريا مبلغا معينا لوالديه حتى يعوضهما عن غيابه، لانه الوحيد الذي لم يكن يشتغل في الارض عكس اخوته. والثانية انه بقي ستة اشهر اضافية بعد نهاية الحرب العالمية ليدرس امكانية مضاعفة اتجاهات السكة الحديدية بين فيرون وبولونيا الايطالية.
عاشت عائلة برودي في وضعية جيدة اثناء الحرب، لكن الامور انقلبت بعد ذلك، فلم يعد بمقدور والد رومانو مواجهة الامر وهو الذي كان يعارض دوما طلب تسبيق من مرتبه لتسديد المصاريف الى غاية نهاية الشهر، مما دفع مقربيه الى نصحه بالهجرة الى الاورغواي، غير ان زوجته رفضت، فبقيا في ايطاليا، على الرغم من المصاعب الاقتصادية، وقررا استثمار كل ما كانا يملكانه لتعليم اولادهم الذين تابعوا جميعهم دراساتهم الجامعية.
في مدارس ريجيو ايمليا
تردد رومانو برودي وزوجته فلافيا على المدرسة ذاتها، ذلك انهما ينحدران من ريجيو ايميليا في الشمال الايطالي، ولكن على مراحل متباينة حيث التحق هو بالصف الابتدائي مباشرة بعد انتهاء الحرب، فيما التحقت هي في بداية الخمسينات من القرن الماضي، اي بفارق سبع سنوات تقريبا.
كانت المدرسة تقع داخل ملجأ للايتام وتستقبل اطفال ضحايا الحرب، بالاضافة الى اطفال الحي، ذلك ان المديرين البيداغوجيين اختاروا ان لا يقتصر استقبالهم للاطفال الذين يعيشون ظروفا صعبة، وانما تعدى الامر الى اطفال العائلات المقيمة في الحي، حتى لا تتحول المدرسة بمرور الوقت الى »غيتو« يكون احد عوامل اقصائهم اجتماعيا لاحقا.
لم ينس رومانو ابدأ هؤلاء الاطفال الفقراء الذين تمدرس معهم، ولم ينس كذلك اي احد منهم. كان يتفنن في محو ختم البريد من على البطاقات البريدية القديمة، حتى يتمكن من استعمال الطابع البريدي مرة اخرى لارسال بطاقة بمناسبة عيد الميلاد.
تتذكر فلافيا طفولتها ورفقة رومانو، وتقول »طيلة طفولتنا المبكرة، عايشنا الفقر والتهميش الذي ميز المرحلة الانتقالية التي شهدتها مدينتنا بعد الحرب. ومع ذلك كانت لنا ذكريات مختلفة تماما، فرومانو لم يكن شغوفا بالدراسة. كان يفضل لعب الكرة في الشارع ولم يصبح تلميذا نجيبا الا في المرحلة الثانوية. اما انا فقد درست كثيرا وقد نصحني اساتذتي بالالتحاق بالثانوية العلمية. واتذكر انني كنت اميل الى الكتابة الصحفية وشغوفة بعصر الانوار«.
أصدقاء الجامعة ضمن أعضاء الحكومة
عندما ادى رومانو برودي واعضاء حكومته اليمين الدستورية امام رئيس الجمهورية اوسكار لويجي سكالفارو، همس وزير العمل ليزيانو ترو في اذن رونانو برودي »انتهى«.
لم تكن الكلمة غريبة عن اذني رومانو، ذلك انها تعود الى المرحلة الجامعية، حيث كان برفقة وزير العمل طالبين في كلية اوغستينيانوم الكاثوليكية ونطق بها عندما انهيا بنجاح امتحان مادة القانون الخاص، وهي اصعب مادة في السنة الاولى حقوق.
ومن المفاجئ ايضا، ان تضم حكومة برودي رفيقا آخر له من المرحلة الجامعية هو جيوفاني ماريا فليك. فكلية اوغستينيانيوم، حيث درس الثلاثة الحقوق، شكلت تجربة خاصة، ذلك انها كانت تستقبل الطلبة من مختلف انحاء ايطاليا وغالبيتهم ينحدرون من عائلات بسيطة ويستفيدون من منح جامعية، لكنهم سرعان ما تدرجوا في مناصب قيادية واصبحوا يمثلون النخبة الايطالية.
ولم تكن كلية اوغستينيانوم مرقدا فقط وانما كانت حيزا مستمرا لتبادل الافكار والتكوين الذي يضاف الى التجربة الجامعية بل ويكملها في حضور قس، كان مرجعا للطلبة، الذين كانوا يحيطون به من كل جانب ويقضون معه فترات طويلة.
واما فلافيا فقد دخلت عام 1966 كلية العلوم السياسية في بولونيا الايطالية. كانت كلية جديدة وقد تم افتتاحها في سبيل تطوير العلوم الاجتماعية في ايطاليا.
تتذكر فلافيا المرحلة الجامعية فتقول انها كانت مليئة بالتوتر، ما دفع مجلس الجامعة الى اشراك الطلبة في التسيير، لقد كان الاحتجاج في البداية على طريقة التدريس المعتمدة لينتقل فيما بعد الى طبيعة المناهج والبرامج.
ومنذ ذلك الحين، تقول فلافيا توسعت الاحتجاجات الجامعية لتأخذ لها ابعادا اخرى، حيث لم يعد التنديد والاحتجاج مقتصرا على المناهج والتدريس، وانما تعداه ليرتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية، لقد كانت بداية الاحتجاج على النظام كله.
ولوج المعترك السياسي
لقد تكونت غالبية القادة السياسيين الايطاليين في كلية اوغستينيانوم ويقول رومانو برودي ان »مجموعة طلبة جيله دخلوا جميعهم المعترك السياسي مباشرة بعد حصولهم على الشهادة، ذلك ان السياسة في تلك المرحلة كانت بمثابة الخبز اليومي واكثر من الخبز ذاته، والسبب واضح جدا، لان النموذج التربوي الذي استندت عليه دراستنا يتيح امكانية التحدث في السياسة، لكنه يرجئ ممارستها الى فترة ثانية، تلي الدخول في المرحلة العملية. لقد وعينا بأن السياسة نشاط شريف، وتحتاج منا تقوية مبادئنا الاساسية ونحن شباب صغار«.
ويضيف »لقد بدأت حياتي السياسية، ثلاثين سنة من بعد تخرجي في الجامعة، بعد ان فكرت كثيرا في هذه النقطة، وعلى الخصوص في مسيرة حياة نظرائي من الايطاليين والاجانب. ففي العديد من البلدان يُفرض عليك ولوج السياسة، من دون الحاجة الى ممارسة وظيفة معينة. وأتذكر كيف فوجئ الوزير الاول الياباني عندما ابلغته بأن اول خطاب لي القيته امام غرفة النواب، كان بصفتي رئيس مجلس، وعلى العكس اطلعني بأن المسار السياسي في بلده يخضع الى العديد من الاعتبارات الحازمة، وكان عليه ان ينتظر ثلاث عشرة سنة كاملة كنائب في البرلمان حتى يلقي اول خطاب رسمي له«.
»هو انضباط سياسي صارم، متعارف عليه في الكثير من البلدان الاوروبية، غير انني لا ازال وفيا للنموذج، الذي تلقيته في الجامعة وعلى الخصوص في المجالات المرتبطة بايطاليا، ومع ذلك انا متأكد من وجود نموذج تكوين مغاير، بإمكانه ان يكون اكثر فعالية«.
خيارات مهنية ومصالح مشتركة
اختار رومانو دراسة الاقتصاد بعد ان تابع دراسات في الحقوق وناقش اطروحة لها صبغة اقتصادية تحت اشراف البروفيسور سيرو لومبارديني، وهو احد مجددي العلوم الاقتصادية الايطالية لفترة ما بعد الحرب، واحد الملاحظين والمتتبعين للحياة السياسية في ايطاليا، ثم تابع دراسات معمقة في مدرسة الاقتصاديين اللندنية، بينما اختارت فلافيا دخول كلية العلوم السياسية.
بدأ رومانو حياته المهنية استاذا مساعدا في جامعة بولونيا الايطالية ثم تدرج الى ان اصبح استاذا للاقتصاد الصناعي في كلية العلوم السياسية، واصبح معروفا من خلال استضافته في البرامج الاذاعية للحديث عن الازمة الاقتصادية واحيانا عن النظام المصرفي الايطالي واسباب التضخم الذي بلغ نسبة العشرين في المائة في ايطاليا.
كانت فلافيا تستضيفه احيانا برفقة عدد من الاساتذة في برنامجها الاذاعي »الاوراق على الطاولة« على امواج القناة الاذاعية الثالثة. وعن تلك الفترة تقول »كنا نسجل خوف الناس وسأمهم واسئلتهم بطريقة سهلة وخفيفة، كما كنت اساعد المخرج في اختيار المقاطع الموسيقية المناسبة لكل حوار نقوم به، كنا نبحث عن علاقة بينها وبين المواضيع، واتذكر انني برمجت اغنية كاروزون »قافلة البترول« لما تطرقنا في اعداد أحد البرامج الى موضوع الازمة البترولية التي تسببت في ارتفاع اسعار النفط.
في تلك المرحلة كان رومانو يعطي دروسا في الاقتصاد للقساوسة في ملتقى لهم في جامعة بولونيا، ويتذكر الاحاديث التي كانت تجمعه بطلبة علم اللاهوت، الذين كانوا يحاولون فهم كيفية صرف المال العام، ومن هنا انطلقت اهتمامات برودي بالصالح العام الايطالي وبمصلحة الشعب الايطالي.
في الكنيسة
كان رومانو كثير التردد على كنيسة القديس بروسبر في ريجيو ايميليا، واما فلافيا فكانت عادة ما تتوجه الى كنيسة القديس بيير، وكانا غالبا ما يلتقيان في هذه الاخيرة، خصوصا بعد ان غادرت عائلته الحي، الذي كانت عائلة فلافيا تسكن فيه.
كانت الكنيستان تقعان في وسط المدينة، وتوفران لمرتاديهما اماكن مخصصة للرياضة، واخرى للحديث حسبما ترويه فلافيا، وكان التكوين فيهما يهدف الى دعم برامج النشاط الكاثوليكي في ايطاليا.
لقد تدرجت فلافيا ورومانو في الكنيسة الى ان اصبحا متشبعين بالمبادئ الكاثوليكية، وتعودا على اتباع دليل يحتوي على اجوبة مختصرة للعديد من الاسئلة الدينية، كما حرصا على دخول ولديهما الوحيدين الى الكنيسة، لينهلا من الرافد الديني ذاته، الى ان تزوج كلاهما من فتاتين تعرفا عليهما في الكنيسة.
أثر الكنيسة على رومانو وفلافيا
كان فرق العمر بيني وبين رومانو سبع سنوات كاملة وفي ذاكرة رومانو، لم تكن الكنيسة مكانا للتكوين الديني فحسب، وانما حيزا يسمح بتعلم طرق معايشة الآخرين. الى غاية نهاية الخمسينات، كان جميع سكان المقاطعات الايطالية يقضون معظم وقتهم في الكنيسة، التي كانت مرجعا لكل حي سكني. ولم يكن هناك خيار آخر، فالمدن الايطالية كانت تفتقر الى مدارس اللغات والى قاعات الجمباز، والى المسابح وعلى الخصوص الى التلفزيون، فيما يفضل الشباب التوجه جماعات نحو البارات لتمضية الوقت.
كانت الكنيسة مرجعية للجميع سواء ما تعلق بالجانب الديني او الانتماء السياسي او على المستويين الاجتماعي والعائلي، ووسيلة خاصة للتكوين، يقصدها الجميع مهما كان مستواهم، فكان هناك من يشاركون في اللقاءات الرياضية والترفيهية ومن يندمجون في النشاطات ذات الطابع الديني والتكويني. كانت اذا نموذجا تعليميا مرنا مفتوحا وذا صبغة عالمية.
شهادة زوجين جمعتهما مقاعد الدراسةثم السياسة ومشاكل إيطاليا سياسةالقلـــب (2)
فلافيا الى جانب زوجها رومانو برودي في السراء والضراء
* تأليف رومانو وفلافيا برودي
* ترجمة سليمة لبال
تعرفا على بعضهما البعض في ريجيو ايمليا مسقط رأسيهما، حيث عاشا تجربة الحياة الجامعية الايطالية في نهاية الستينات من القرن الماضي، وتزوجا ايضا عام 1969، انهما فلافيا فرونزوني ورومانو برودي رئيس الوزراء الايطالي السابق.
لقد اصبحت فلافيا مرجعية في عالم التكوين الاجتماعي في ايطاليا بسبب نشاطاتها، كما تمكن رومانو في انتخابات ابريل 2006 من كسر شوكة سيلييو برلسكوني صاحب الامبراطورية المالية والاعلامية ليكسب بفضل برنامجه وتحالف »اليونيون« اصوات الهيئة الناخبة الايطالية بعد مشوار طويل قضاه في الجامعة استاذا للاقتصاد. ثم رئيسا للوزراء من مايو 1996 الى اكتوبر 1998 بواسطة تحالف اليسار الوسط - الاوليفا - الذي اقامه، فرئيسا على مدى خمس سنوات للمفوضية الاوروبية التي اشتغلت طويلا لتحقيق وحدة اوروبا جغرافيا ونقديا بعد ان توسعت الى 52 دولة، وصار اليورو عملتها الموحدة.
واذا ما كان الكتاب الذي تعرضه »القبس« على حلقات وليد افكار فلافيا في البداية، فإنها سرعان ما ارتأت ان تخطه الى جانب زوجها الذي تقاسمت معه سنوات من الضغط والجهد في سبيل تغيير صورة ايطاليا التي عاشت على مدى سنوات ازمة اقتصادية خانقة بسبب الفساد الذي استشرى في اركان الدولة.. والذي عاد يقوى مجددا مع عودة برلسكوني الى رئاسة الوزراء.
»سياسة القلب« هو شهادة زوجين جمعتهما الجامعة ثم السياسة ومشاكل ايطاليا، هي محطات يتوقف عندها كل من رئيس الوزراء الايطالي السابق وزوجته وننقلها للقراء لاكتشاف جانب آخر من اوروبا.
بعد 17 سنة على أول عمل سياسي له كمستشار للشؤون البلدية برودي وزيرا للصناعة وزوجته فلافيا لم تصدق الـخبر
تقول فلافيا برودي إن عملها، ساعد زوجها رومانو على التعرف الى الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها ايطاليا، ذلك أنها اشتغلت طيلة ثلاثين سنة كمدرسة في المؤسسات الاجتماعية المنتشرة في عدد من المدن الايطالية.
»عام 1974، عملت في معهد ايميلي روماني للخدمات الصحية والاجتماعية. وكان لهذه المدرسة صبغة كاثوليكية، مثلها مثل الكثير من المؤسسات المهتمة بالخدمات الصحية. واذكر أنها أغلقت أبوابها عام 1986 أثناء التوتر الذي عرفته المدارس والجامعات في تلك ال مرحلة..«.
لكن الخدمات الصحية عرفت عام 1978 تطورا نوعيا في ايطاليا بعد تطبيق قانون »باساقليا«، الذي نص على إغلاق المستشفيات النفسانية واستبدالها بمراكز الصحة العقلية واهتم لأول مرة بالإقصاء الاجتماعي.
في قلب السياسية
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، غادرت عائلة برودي منطقة سكانديانو القريبة من ريجيو ايميليا، حيث ولد رومانو، وعادت إلى المنزل الذي كانت تسكنه منذ الثلاثينات من القرن الماضي، لكنها هذه المرة وجدت نفسها تؤجر بيتها من الحزب الشيوعي الذي اشترى المبنى من مالكه السابق.
كان لمنزل برودي مدخلان، احدهما يؤدي إلى مقر الحزب الشيوعي الايطالي، حيث كان يجتمع رفقاء انطونيو قرامسي وهو احد أهم مؤسسي الحزب، فيما كانت عائلات عدة تسكن بقية العمارة.
ويتذكر رومانو برودي كيف كان يتابع بشغف كبير بروفات الاحتفال الخاص بإحياء ذكرى وفاة ستالين عبر نافذة منزله. كما يتذكر ما كان يردده احد الرفاق بان »ستالين لم يمت، ستالين لا يزال حيا يرزق من اجلنا«.
ويسترسل رومانو برودي في العودة إلى الوراء وكيف كان يدفع مستحقات إيجار بيت عائلته للمسؤول المالي للحزب الشيوعي رينو سيري، وكيف ربطته بالأخير وبعدد آخر من الشيوعيين الايطاليين علاقات صداقة ومعرفة، لينتخب رغم صغر سنه مستشارا للشؤون البلدية.
المشاكل الاجتماعية التي كان الايطاليون يعانون منها كانت تقض مضجع رومانو، الذي كان يحتج دوما على عدم انتباه المجلس البلدي لها وتركيز اهتمامه على الجدل السياسي وعلى المعارك السياسية القائمة على الساحة الايطالية والدولية.
عرفت تلك الفترة من تاريخ ايطاليا نقاشات كبيرة داخل المجالس البلدية بخصوص السياسة الدولية وشرعية الحلف الأطلسي. لقد شهدت ايطاليا خلال سنوات حرب فيتنام تطورا في نظامها السياسي إلى غاية السنوات التي أصبح فيها رينو سيري مؤسس الحزب الشيوعي الايطالي، أمينا فرعيا للعلاقات الخارجية مكلفا بالعلاقات الدولية في حكومة التحالف التي يرأسها رومانو برودي.
كانت أول تجربة سياسية لرومانو برودي، عندما تولى منصب مستشار للشؤون البلدية، حيث انعكس نجاحه في الانتخابات على عائلته بأكملها، ذلك انه ابتعد عن مدينته منذ دخوله جامعة ميلانو ثم لندن.
لم يكن رومانو غريبا على مدينة ريجيو، لان مرور تسعة من إخوته وأخواته على مدارس المدينة طيلة عشرين سنة لعب دوره ومكنه من نسج علاقات صداقة مع الكثيرين، وكانوا جميعهم على علاقة وطيدة بالعالم الكاثوليكي.
بقي رئيس الحكومة الايطالي فترة قصيرة في منصب مستشار للشؤون البلدية، ليقدم استقالته بعد أن اخذ عمله في الجامعة كل وقته بالإضافة إلى انه لم يعد بوسعه البقاء في المجلس إلى غاية الساعة الثالثة صباحا حتى يستقل القطار من جديد في حدود الساعة السابعة صباحا للذهاب إلى بولونيا الايطالية حيث يدرس هناك.
الالتزام الثقافي في ريجيو اميليا ومحيطها
شهدت ريجيو اميليا، على الرغم من مساحتها الصغيرة، في الستينات من القرن الماضي نهضة فنية وثقافية وسياسية، لكنها أحداث لم يعايشها الزوجان رومانو وفلافيا، على الرغم من أنهما تعارفا على بعضهما وخطبا وتزوجا فيها.
تقول فلافيا أنها انخرطت فيما بعد في النشاطات الثقافية لمدينتها برفقة رومانو وكانا كثيري التردد على المؤسسات ذات الطابع الديني الكاثوليكي. وتروي كيف أنهما عانيا الأمرين عندما أصيبت سيارتهما، من نوع "فيات 850«، بعطب واضطرا للبحث عن سيارة على قارعة الطريق السيار لإيصال الأب ماري دومينيك شنو، الذي كان مستعجلا لإلقاء محاضرة في ريجيو ايميليا.
وعن الحادثة تقول »لقد حل الإشكال بعد أن توقف احد السائقين واصطحبني برفقة الأب«.
بولونيا وما قبل السياسية
غادر رومانو برفقة زوجته نهائيا ريجيو ايميليا بعد زواجهما في عام 1969، ليستقرا في بولونيا الايطالية، حيث افتقدا طابع الحياة الاجتماعية الذي يميز المدينة التي نشآ فيها، غير أنهما استطاعا الولوج في الحياة الثقافية، وكانا يحرصان دائما على حضور المؤتمرات والنقاشات التي كان يشارك فيها مفكرو المدينة وتنظمها المؤسسة الثقافية »مولينو«، التي أدخلت إلى ايطاليا العلوم الاجتماعية من خلال دار النشر التي أقامتها وعمدت إلى ترجمة النصوص الانكلوسكسونية.
لقد اثر تدريس العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية في الحياة السياسية الايطالية التي عرفت تجديدا رافقه فيما بعد تحول في النظام الاقتصادي الايطالي.
كما كانت مؤسسة »مولينو« أرضية خصبة لمناقشة العديد من المواضيع التي كانت تشكل عصبة النقاش السياسي في ايطاليا، وهو النقاش الذي أدى إلى مواجهة دائمة بين الثقافة العلمانية الليبرالية والثقافة الكاثوليكية الديموقراطية.
وزير في حكومة اندريوتي
طلب رئيس الوزراء الايطالي جوليو اندريوتي معلومات عن التجارب السابقة لرومانو برودي، بعدما تابعه وهو يناقش مخطط بوندولفي ـ بوندولفي هو وزير الخزينة الايطالي ـ خلال مؤتمر نظمه حزب الديموقراطية المسيحية في أكتوبر عام 1978، ليعينه فيما بعد تقنيا في العديد من الحكومات التي تعاقبت على ايطاليا، كما استدعاه وزير الصناعة كارلو دونات ليشغل منصب نائب سكرتير له.
كان رئيس الوزراء الايطالي يبحث في ذلك الوقت عن طريقة تمكنه من تنويع ألوان أعضاء حكومته، فطلب من فيليبو بوندولفي (وزير الخزانة) أن يعرض عليه اسم أستاذ في الاقتصاد، بإمكانه تسيير وزارة الصناعة، فأجابه باسم رومانو برودي وكان الرئيس قد استمع سابقا لعرضه في مؤتمر حزب الديموقراطية المسيحية. وهكذا، أصبح رومانو عضوا في الحكومة بعد أن استفاد خارجيا من دعم اليسار.
تقول فلافيا ان عمرها كان لا يتعدى الواحد والثلاثين عندما تلقت خبر ترقية زوجها غير المنتظرة. لقد أدركت أن ذلك سيقلب حياتها رأسا على عقب، فيما شعر رومانو بثقل المهمة الملقاة على عاتقه، ذلك انه اقتنع بان تحليل ونقد الأمور يختلفان تماما عن اتخاذ القرارات، وان معرفة المشاكل وتحديدها ليست شرطا كافيا لتولي وظيفة حكومية، أيا كان المستوى.
كانت ايطاليا في تلك الفترة منشغلة بإعادة بناء مؤسساتها، التي كانت تعاني الكثير من الأزمات. وكان الوضع يفرض دراسة مستفيضة لواقع القطاع الصناعي والاقتصادي.
تتذكر فلافيا أنها توقفت ذات يوم أحد برفقة رومانو، لزيارة وحدة لإنتاج الأنابيب، بينما كانا في طريقهما إلى رافان. كانت الزيارة مفاجئة، لكنهما اكتشفا أن الوحدة مشلولة من قبل العمال.
بمجرد دخولهما، بدا العمال في التعبير عن سخطهم من عدم فعالية مؤسستهم، وهي واحدة من اكبر المؤسسات الأوربية. تقول فلافيا "كانت المرحلة عصيبة جدا ودرامية، بسبب انهيار المؤسسات الايطالية الواحدة تلو الأخرى، على الرغم من القانون الذي صادق عليه برودي قبل أن يصبح وزيرا والقاضي بدعم المؤسسات ومساعدتها على الوقوف من جديد لتجنب الإفلاس".
في حفلة على شرف ملكة هولندا
على الرغم من الآلام التي تكبدها الزوجان طيلة تلك الفترة التي صادفت وفاة والد فلافيا وعمره لم يتجاوز التاسعة والخمسين، فان مخيلة فلافيا لا تزال غنية بالذكريات الجميلة، كالحفلة التي أقيمت على شرف ملكة هولندا الملكة بياتريس والتي أجبرتها على شراء ثوب سهرة طويل، بالإضافة إلى اقتناء بذلة سموكن لرومانو مثلما يقتضيه البروتوكول في مثل هذه المناسبات.
كما سنحت تلك الفترة كذلك لعائلة رومانو بالاستقرار في روما، لكن التعديل الحكومي عجل بذهاب رومانو، الذي أقصي من الجهاز التنفيذي الذي لم يعمر إلا خمسة أشهر.
أثناء الإعلان عن التعديل الحكومي، كان رومانو بصدد مناقشة قانونه أمام اللجنة البرلمانية وبمجرد انتهائه من العرض توجه إلى مقر وزارته متجاهلا كل ما وقع، حيث وجد معاونين وهم يهمون بجمع ملفاته وكتبه التي توجه بها إلى بولونيا الايطالية ساعتين بعد ذلك.
العودة بعد 17 سنة من الغياب
لم يتقلد رومانو برودي منصبا سياسيا إلا بعد سبع عشرة سنة، حيث كان منصبه الأول مفاجئا وغير منتظر تماما سواء ما تعلق ببدايته أو الطريقة التي انتهى بها، ويتوجب القول هنا بان ولوج الساحة السياسية الايطالية والخروج منها في تلك الفترة، كان مفروضا على عكس ما حصل فيما بعد.
لقد اشتغل رومانو برودي دوما في قطاعات على علاقة وطيدة بالسياسة، كما انه كان متعاونا أثناء اشتغاله بالجامعة مع عدد من الصحف ك»لافونير« و»ال سول 24 اور« و»ال كوريز ديلا سيرا«، حيث كان يكتب مقالات اقتصادية تعنى بتفاصيل تحول النظام الاقتصادي وآفاقه السياسية.
تولى رومانو برودي فيما بعد منصب رئيس معهد إعادة البناء الصناعي ثم خاض تجربتين قصيرتين كرئيس لمؤسسة جيبي وهي مؤسسة مالية عمومية، كانت مهمتها جرد المؤسسات التي تواجه مصاعب ثم خوصصتها ثم ترأس مؤسسة »ماسيراتي« المصنعة للسيارات في مدينة مودين.
لعبت السياسة دورا مهما في ايطاليا، بتوفيرها لكل المؤشرات التي تسمح بالعثور على تقنيين أكفاء، بحيث كانت مهمة معهد إعادة البناء الصناعي هي دراسة أسباب وطبيعة الأزمات التي تمر بها المؤسسات العمومية بالإضافة إلى دراسة إمكانية وضع برنامج للخصخصة، وكان هذا الموضوع الذي دأب المعهد على الاشتغال عليه في فترتين، الأولى ما بين سنتي 1982 و1989 والثانية تمتد ما بين 1993 و1994 أي مباشرة قبل حكومة برلوسكوني.
تميزت المرحلة الثانية التي تولى خلالها كارلو ازيقليو كيامبي رئاسة الوزراء بالكثير من السلوكيات غير الشريفة، خصوصا على مستوى إدارة المؤسسات العمومية وهو ما دفعه إلى طلب معونة رومانو برودي.
وتتذكر فلافيا أن رئيس الوزراء كلمها وطلب منها ردا سريعا بينما كان رومانو يتجول بدراجته على الربوة، وكيف شعرت بالضغط لأنها لم تستطع أن تخبر رئيس الوزراء بان رئيسها في جولة منذ ساعتين من الزمن ولا تستطيع الاتصال به لان الهاتف النقال لم يكن متوفرا آنذاك.
كان رومانو برودي معتادا على القيام بجولة على الدراجة أو ممارسة رياضة الجري كلما تعلق الأمر باتخاذ قرار. لقد كان ذلك ثابتة من ثوابت سلوكيات رومانو التي تعودت عليها زوجته فلافيا شيئا فشيئا.
تقول فلافيا إنها تتذكر جيدا مكالمة رئيس الوزراء كيامبي، ذلك أنها كانت متوترة جدا بسبب نية زوجها العودة إلى تجاربه السابقة نظرا لصعوبة المشاكل التي ستواجهها وحدة العنف والهجوم الذي سيتعرض له عند اتخاذه قرارات تمس مصالح أناس معينين.
وتمس هذه القرارات في الأساس النظام المصرفي الايطالي وبيع المؤسسات مثل مؤسستي »كريسو« و»ألفا روميو«، لكن أصحاب هذه القرارات بحسب فلافيا لم يكونوا معرضين لجملة من الانتقادات فحسب وإنما لاتهامات غير مؤسسة، غالبا ما كانت تستغل سياسيا ضدهم.
يتبع الحلقة الثالثة: معجب باسلوب الإنتخابات الأميركية
هادة زوجين جمعتهما مقاعد الدراسة ثم السياسة ومشاكل إيطاليا سياسة القلـــب (4)
تأليف: رومانو وفلافيا برودي
ترجمة: سليمة لبال
تعرفا على بعضهما البعض في ريجيو ايمليا مسقط رأسهما، حيث عاشا تجربة الحياة الجامعية الايطالية في نهاية الستينات من القرن الماضي، وتزوجا ايضا عام 1969، انهما فلافيا فرونزوني ورومانو برودي رئيس الوزراء الايطالي السابق.
لقد اصبحت فلافيا مرجعية في عالم التكوين الاجتماعي في ايطاليا بسبب نشاطاتها، كما تمكن رومانو في انتخابات ابريل 2006 من كسر شوكة سيلفيو برلسكوني صاحب الامبراطورية المالية والاعلامية ليكسب بفضل برنامجه وتحالف »اليونيون« اصوات الهيئة الناخبة الايطالية بعد مشوار طويل قضاه في الجامعة استاذا للاقتصاد. ثم رئيسا للوزراء من مايو 1996 الى اكتوبر 1998 بواسطة تحالف اليسار الوسط - الاوليفا - الذي اقامه، فرئيسا على مدى خمس سنوات للمفوضية الاوروبية التي اشتغلت طويلا لتحقيق وحدة اوروبا جغرافيا ونقديا بعد ان توسعت الى 52 دولة، وصار اليورو عملتها الموحدة.
واذا ما كان الكتاب الذي تعرضه »القبس« على حلقات وليد افكار فلافيا في البداية، فإنها سرعان ما ارتأت ان تخطه الى جانب زوجها الذي تقاسمت معه سنوات من الضغط والجهد في سبيل تغيير صورة ايطاليا التي عاشت على مدى سنوات ازمة اقتصادية خانقة بسبب الفساد الذي استشرى في اركان الدولة.. والذي عاد يقوى مجددا مع عودة برلسكوني الى رئاسة الوزراء.
»سياسة القلب« هو شهادة زوجين جمعتهما الجامعة ثم السياسة ومشاكل ايطاليا، هي محطات يتوقف عندها كل من رئيس الوزراء الايطالي السابق وزوجته وننقلها للقراء لاكتشاف جانب آخر من اوروبا.
«زمن الخيارات» صقل مواهبه في التعاطي مع الإعلام
برودي استنجد باختصاصي أمراض عقلية لفهم الصحافيين
كان رومانو برودي معتادا على التعامل مع وسائل الإعلام والخوض في نقاش معها، ذلك لأن برنامج »زمن الخيارات« التلفزيوني الذي شارك فيه مرات عدة، صقل مواهبه في التعاطي مع الصحافة المرئية والمسموعة وكذا المكتوبة. ومع ذلك، عكف على تحضير نفسه (حسب زوجته فلافيا) كلما ظهر على شاشة التلفزيون، حيث كان يختار مرافقيه، وعادة ما يكون إلى جانبه المكلفان بالإعلام اللذان يعملان معه، وهما سيلفيو سيركانا ونان غرينيافينين، وعدد من الخبراء في مجالات عدة، بالإضافة إلى صديقه الاختصاصي في الأمراض العقلية فيتوريني اندريولي، الذي كان يسدي له النصح بسبب معرفته لسلوكيات الناس، حتى يتمكن من فهم نية محاوريه ويتجاوب معهم بشكل صحيح.
تلقى رومانو الكثير من الانتقادات اللاذعة حول طريقته في الاتصال والتعبير عن مواقفه، خصوصا وأنها تشبه طريقة الأستاذ الجامعي بالنظر إلى الوظيفة التي مارسها طويلا، غير أن ذلك لم يحرك ساكنا فيه.
وتتذكر فلافيا برودي المناظرة التلفزيونية التي جمعت زوجها بسيلفيو برلوسكوني خلال الحملة الانتخابية التي تحولت إلى مواجهة عنيفة بين الطرفين، خصوصا الحلقة التي اهتمت بمناقشة الضرائب وتمت في مقر الكونفدرالية العامة للتجارة في شهر مارس العام 1996، فقد عجز رومانو حينذاك عن شرح مواقفه فيما يخص النظام الضريبي، بعد أن تعرض لهجوم كاسح يخص طريقة تسييره لمعهد إعادة البناء الصناعي، ما حصل لرومانو دفعه إلى تجميع طاقاته، لينجح في بناء اسراتيجية إعلامية جديدة ومتناسقة.
على الرغم من الجهود التي كان رومانو برودي يبذلها لتحقيق الفوز على سيلفيو برلوسكوني، فإن زوجته فلافيا كانت تفكر دوما في هزيمته أكثر من فوزه، على الرغم من التفاؤل الذي كان يشعر به معاونوه.
تقول فلافيا انها وزوجها ترددا في تقبل الفوز عشية إعلانه وتضيف انهما كانا يتابعان نتائج الانتخابات عند إحدى الصديقات وتدعى ماريزا عندما شاهدوا الجماهير الغفيرة تغزو ساحة القديس ابوتر يوم 21 ابريل 6991. أدت الحكومة الجديدة بقيادة برودي، اليمين الدستورية بتاريخ 17 مايو، بعدها ألقى رئيس الوزراء خطابا على أعضاء مجلس الأمة، تطرق فيه إلى العديد من قطاعات الحياة اليومية من الصحة إلى المدرسة إلى الإدارة العمومية.
الشيوعيون يسحبون الثقة من برودي
انتهت العهدة الأولى لحكومة برودي في 21 أكتوبر 1998 بعد أيام من التوتر، وكانت الأزمة قد بدأت بداية شهر أكتوبر عندما أعلنت اللجنة السياسية لإعادة التأسيس الشيوعي سحب دعمها له وقررت بتاريخ 9 أكتوبر عدم تجديد ثقتها في الحكومة.
لم يتمكن رومانو برودي من كسب الأغلبية بعد أن اتضح أن احد أعضاء التحالف لم يعد يقاسمه الخيار نفسه وحصل نقاش كبير حول همزة وصل يمكن أن تفرق أو لا بين كلمتي »الوسط واليسار«.. ما يعني وجود فكرتين مختلفتين داخل أركان التحالف. الأولى تتحدث عن تحالف حكومي بسيط، بينما تتحدث الثانية عن عقد بين الأحزاب يحمل تطلعات جديدة ويشكل موضوعا سياسيا جديدا يحمل »الاوليفو« بين ثناياه، على أن يحتفظ كل حزب سياسي بهويته وخصوصياته.
ولم تمكن التغييرات الحاصلة على الساحة السياسية الايطالية رومانو برودي من تأمين الأغلبية البرلمانية وتوحيد الخط السياسي الذي ساعده في الفوز بالانتخابات، ليتوقف بذلك تحالف ومسار »الاوليفو« بسبب غياب وجود صوت واحد وكان بإمكانه أن يعزز السياسة في ايطاليا.
وللحفاظ على الخط السياسي من جديد تم الاتجاه عام 1999 إلى إنشاء حزب الديموقراطيين الذي حصد 7.8 % من أصوات الايطاليين خلال الانتخابات الأوروبية، وهو ما أعطى إشارة على أن المشروع الذي عرضه رومانو لا يزال يحظى باهتمام الايطاليين. غير أن برودي لم يكمل المشوار مع الديموقراطيين، ذلك أن المجلس الأوروبي لرؤساء الوزراء استدعاه في الخامس من مايو ليتبوأ منصب رئيس المفوضية الأوروبية.
رومانو رئيسا للمفوضية الأوروبية
بعد أربعة أشهر من ذلك ألقى رومانو برودي أول خطاب له أمام أعضاء البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ وقدم برنامجه بعد أن أدى اليمين أمام أعضاء لوكسمبورغ.
تقول فلافيا انها حضرت برفقة ولديها لمتابعة الخطاب، الذي وصفته بالتاريخي، لتضيف بأن جهد زوجها بدأ في الظهور تدريجيا بعد اعتماد »اليورو« عملة أوروبية موحدة وتوسع أوروبا لتمتد إلى عشر دول أخرى، بالإضافة إلى سن الدستور الأوروبي ومحاولة ترشيد الحكم. أي البحث عن الطريقة التي يمارس بها الاتحاد سلطاته والمسؤولية المنوطة بكل مؤسسة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
كان العمل صعبا ويتطلب الكثير من الجهد بحسب فلافيا لان الوضع كان يستدعي التعامل مع ثقافات مختلفة وشعوب ذات خلفيات تاريخية متباينة. كما كان يتطلب العمل بثلاث لغات. لقد كان برودي يستخدم اللغة الفرنسية في المكتب واللغة الانكليزية أثناء عمل اللجان واللغة الايطالية في البرلمان.
وتذكر فلافيا كيف غادر زوجها مقر المفوضية الأوروبية بعد خمس سنوات من العمل المتواصل على وقع تصفيق البرلمانيين الأوروبيين، الذين وقفوا كلهم عندما ألقى خطابه الأخير الذي تضمن حصيلة عهده في آخر يوم له في بروكسل.
برنامج المصنع
كانت عودة رومانو برودي إلى السياسية والحملات الانتخابية بعد عشر سنوات من تجربته الأولى مختلفة تماما عما شهده سابقا، لأن كان عليه أن يواجه في الانتخابات التحالف من اجل الحرية، بالإضافة إلى إيجاد طريقة لجمع عدد من القوى السياسية حتى تكون أكثر فعالية لتحقيق النصر وتشكيل حكومة أكثر استقرارا وفعالية كذلك. جاءت فكرة »برنامج المصنع« التي اقترحها خوليو سانتاغاتا على رومانو برودي، لتعزز برنامجه الانتخابي، ذلك انه منح خمس دقائق لكل عامل حتى يتحدث عن مشاكله والحلول التي يقترحها، أسوة بما كان يحصل داخل أسوار البرلمان الأوروبي، مما ضاعف عدد الأصوات المناصرة له.
واجهت الفكرة صعوبة في التطبيق في البداية، لكن سرعان ما تلقفها العمال وانتشرت لتكون مبادرة المصنع ومبادرات أخرى نقطة انطلاق رومانو مع العديد من الأشخاص المحيطين به، خصوصا وان ايطاليا شهدت تغيرات كبيرة وقت تواجد برودي في بروكسل.
كانت النتيجة الأولى هي حصول رومانو برودي على دعم »الاتحاد« أو ما يطلق عليه بالايطالية »اليونيون«، والذي ضم كل أحزاب اليسار الوسط. لكن المشكلة الوحيدة التي كان يواجهها هي إيجاد طريقة لتجاوز »الاوليفو« في معركة الانتخابات المحلية التي شهدتها ايطاليا بتاريخ 16 أكتوبر 2005، وتلك قصة أخرى.
في مواجهة الإشاعات
تؤثر الحياة السياسية، بشكل كبير، على الحياة الشخصية للسياسيين، ذلك انه يستحيل على الرجل أو المرأة أن يتفاديا بعض المشاكل التي تعوق حياتهما اذا كان احدهما متورطا في الحياة السياسية.
تقول فلافيا انها تسرعت ذات مرة بعد أن تولى زوجها منصبه كرئيس للوزراء، عندما قالت لبييرو شيامبريتي في حوار خصته به في منزله : »تذكر بأنني غير موجودة«. غير أن ذلك غير صحيح تماما تضيف فلافيا، لأنني كزوجة، كنت دوما حاضرة إلى جانب رومانو، ولكن تأثير الإشاعات التي أحاطت بي كان كبيرا جدا«.
وتابعت قائلة: »عندما تريد أي زوجة مساعدة زوجها، مثلما هي الحال بالنسبة لي، فإنها تتعرض للكثير من الاستهداف والمضايقات. وهذا يحدث أيضا في ايطاليا، حيث لا تحظى زوجات الحكام بدور خاص، عكس ما هو عليه الحال في الولايات المتحدة مثلا. ولا اعرف إن كان للناخبين الحق في معرفة الحياة الخاصة للذين يودون التصويت لهم، وأما أنا فاعتقد انه من المهم الاطلاع على برامجهم والتحقق مما قد أنجزوه ولهذا السبب تفاديت الإدلاء بأي حوار صحفي. لكنني لم أتفاد الصحفيين خلال لقائي بهم في المؤتمرات للحديث عن موضوع مهم وليس لأني احمل لقب برودي.
وكان قبولي فكرة تأليف كتاب مؤشرا على تغير سلوكي، مقارنة بما كنت عليه في البداية. والمؤلم بالنسبة لي كان قراءة المقالات الصحفية التي تحمل انتقادات وهجوم علينا من دون وجه حق وبعيدا عن الأسلحة المستعملة عادة في الحياة السياسية«.
وتذكر فلافيا كيف أقامت القنوات التلفزيونية الايطالية الدنيا ولم تقعدها ضد اليسار الوسط ورومانو، الذي اتهمته بالتورط في قضية »تيليكوم« صربيا، وكيف كانت الصحف تكتب »انها تواظب كل صباح على ممارسة رياضة الجمباز، لكنها لا تحسن فن الطبخ«.
ووصفت فلافيا هذا النوع من الأخبار والمعلومات التي كانت تروج لها الصحف الايطالية بـ»الكذب البسيط لكنه مزعج جدا، ذلك أن أيا كان يود أن تمنحه الصحف الصورة الحقيقية التي تنطبق عليه«.
لكن لم تتوقف الأمور عند الكذب البسيط. تقول فلافيا انها سمعت بنفسها احد المرشدين السياحيين وهو يشير إلى احد القصور المحيطة بساحة سانتو ستيفانو على انه قصر لرومانو برودي، بينما تؤكد أنها وزوجها يسكنان في شقة تقع قي شارع صغير وراء القصر ويطل على الساحة ذاتها.
وتضيف فلافيا، أن إحدى صديقاتها سمعت من احد المرشدين السياحيين في مدينة براغ، ان رومانو برودي رئيس المفوضية الأوروبية يملك احد البيوت الفاخرة هناك، وبأنها وزوجها مساهمان في مؤسسة كبرى للسيراميك والرخام.
لكن الحادثة التي أقضت مضجع فلافيا وآلمتها كثيرا هي الإشاعة التي روجت لها الصحف وتقول بوجود صلة قرابة وثيقة بينها وبين سيدة أقدمت على قتل ابنها وتحمل نفس لقبها العائلي. وقيل أيضا ان العدالة عاملت السيدة معاملة خاصة ولم تسجن بسبب علاقتها العائلية بزوجة رئيس الوزراء، بينما تقول فلافيا أن لا علاقة تجمعها بالسيدة المذكورة، وإنهما تتحدران من منطقتين مختلفتين تماما، حتى وان كانتا تحملان اللقب العائلي نفسه.
شهادة زوجين جمعتهما مقاعد الدراسة ثم السياسة ومشاكل إيطاليا سياسة القلـــب (3)
زوجات رؤساء الدول والحكومات في 10 دانينغ ستريت ( مقر رئيس الوزراء البريطاني )
* تأليف رومانو وفلافيا برودي
* ترجمة سليمة لبال
تعرفا على بعضهما البعض في ريجيو ايمليا مسقط رأسهما، حيث عاشا تجربة الحياة الجامعية الايطالية في نهاية الستينات من القرن الماضي، وتزوجا ايضا عام 1969، انهما فلافيا فرونزوني ورومانو برودي رئيس الوزراء الايطالي السابق.
لقد اصبحت فلافيا مرجعية في عالم التكوين الاجتماعي في ايطاليا بسبب نشاطاتها، كما تمكن رومانو في انتخابات ابريل 2006 من كسر شوكة سيلفيو برلسكوني صاحب الامبراطورية المالية والاعلامية ليكسب بفضل برنامجه وتحالف »اليونيون« اصوات الهيئة الناخبة الايطالية بعد مشوار طويل قضاه في الجامعة استاذا للاقتصاد. ثم رئيسا للوزراء من مايو 1996 الى اكتوبر 1998 بواسطة تحالف اليسار الوسط - الاوليفا - الذي اقامه، فرئيسا على مدى خمس سنوات للمفوضية الاوروبية التي اشتغلت طويلا لتحقيق وحدة اوروبا جغرافيا ونقديا بعد ان توسعت الى 25 دولة، وصار اليورو عملتها الموحدة.
واذا ما كان الكتاب الذي تعرضه »القبس« على حلقات وليد افكار فلافيا في البداية، فإنها سرعان ما ارتأت ان تخطه الى جانب زوجها الذي تقاسمت معه سنوات من الضغط والجهد في سبيل تغيير صورة ايطاليا التي عاشت على مدى سنوات ازمة اقتصادية خانقة بسبب الفساد الذي استشرى في اركان الدولة.. والذي عاد يقوى مجددا مع عودة برلسكوني الى رئاسة الوزراء.
»سياسة القلب« هو شهادة زوجين جمعتهما الجامعة ثم السياسة ومشاكل ايطاليا، هي محطات يتوقف عندها كل من رئيس الوزراء الايطالي السابق وزوجته وننقلها للقراء لاكتشاف جانب آخر من اوروبا.
"سنديانة" اوحت بـ " زيتونة "
حلف "الأوليفو" يواصل برودي إلى رئاسة الوزراء عام 1996
فاز تحالف اليمين من اجل الحرية عام 1994 بالانتخابات في ايطاليا، وكان الحدث غير منتظر على الاطلاق بالنسبة للساحة السياسية. ومع ذلك تقول فلافيا ان رومانو برودي اسر الى احد معاونيه ان برلوسكوني سيحصد اغلبية الاصوات بسبب ارهاق البلد والتجديد الذي اعتمده برلوسكوني في حملته الانتخابية.
تريث رومانو قبل الانطلاق في حملة معارضة، حتى تتسنى له معرفة ما سيقدم عليه برلوسكوني، ولذلك صرح لمقربيه بانه ينبغي الانتظار، غير ان بن يامين اندرياتا وهو سياسي واستاذ اقتصاد معروف في ايطاليا، سارع الى عقد جلسات مع عدد من اصدقائه للتحدث عن الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد.
بدأ الحديث في تلك المرحلة من حياة ايطاليا عن تنظيم معارضة حقيقية لبرلوسكوني، وتجمع تشكيلات سياسية وثقافية مختلفة من الاشتراكيين الى حزب "الخضر" بالاضافة الى ممثلين عن المجتمع المدني الايطالي من المؤسسات الصناعية والحرفية الى النقابات والمحيط الجامعي والمدرسي.
وهنا تتذكر فلافيا ان ميشال سالفاتيكا، وهو سياسي ايطالي، قال لرومانو "في العمق من الممكن ان تمثل نقطة التقاء كل هذه الحساسيات، فتحدث التوازن بين كل المواقف"، وذلك اثناء واحد من هذه الاجتماعات ذات الصبغة السياسية، لتضيف ان هذه الملاحظة شخصية ويمكن ان تكون القراءة التي اعطتها لها شخصية كذلك.
استمرت اللقاءات في الاسابيع والاشهر التي تلت ومن بين ما تذكر فلافيا ان رومانو كان يلتقي دوما بالاب جيوساب في اوليفيتا وفي عدد من المباني الدينية الواقعة على روابي مدينة بولونيا الايطالية، حيث قضى الاب دوسيتي آخر ايامه.
بوادر معارضة النظام السياسي
كان اول لقاء بين دوسيتي ورومانو عام 1994 وفيه عبر الاب عن انشغاله بالوضع العام في ايطاليا وقلقه من عدم وجود من يمثل المجتمع الايطالي في السلطة. كان الاب دوسيتي يرغب في اعادة بناء السياسة بعد الفساد الذي استشرى في اوصال الدولة والاحزاب السياسية.
ويقول رومانو ان الاب دوسيتي طلب من الجميع رصد جميع الاسماء المرجعية، بالاضافة الى رصد اسماء كل عقلاء المدن الذين بامكانهم المساهمة في اعادة بناء العلاقة بين المجتمع والسياسة. كان يظهر بان الاقتراح تجريدي وصعب التحقيق، خصوصا في وسط يغمره اليأس، غير انه كان فكرة قاعدية اسست لعمل من نوع آخر عرفته السنوات التي تلت، انطلق من تنصيب اللجان من اجل الدستور التي شارك فيها الاب دوسيتي في كل نشاط.
كان الاب جيوساب يستقبل مدعويه في اوليفيتو، في خلية صغيرة تتسع لسرير واحد وكانت كلماته توحي بانه يسعى لان يقوم بشيء ما لتغيير الاوضاع مثلما هي الحال بالنسبة لرهبان مونتيسول. واستمرت لقاءات برودي لكن هذه المرة مع الشخصيات السياسية الايطالية وكان من بينهم ماسينو داليما احد اهم زعماء ديموقراطيي اليسار ورئيس مجلس الوزراء ما بين 1998 و2000
بدأت الافكار تختمر في ذهن رومانو برودي بمساعدة تلميذه اندريا بابيني الذي يدير مؤسسة للاستشارات والمناجم- نت. وراح الاثنان يرصدان مشاكل ايطاليا وازماتها نقطة نقطة في سبيل ضبط برنامج سياسي متكامل يستجيب لتطلعات الايطاليين.
بفضل مساعدة ليسيا ميناردي، قضى اندريا بابيني ساعات من العمل لضبط كل الملفات من خلال اللقاءات التي عقدها والشخصيات التي التقاها، فيما انشغل رومانو باعادة بناء اهم نقاط النقاش السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلد.
لقد عاد الاثنان الى التحاليل التي قدمها البرنامج المتلفز »زمن الخيارات« لدى تطرقهما للعديد من المشاكل التي تعاني منها ايطاليا ثم قاما بتصميم جدول يرصد اللاتوازن الذي يعاني منه الاقتصاد الايطالي، وعلى الخصوص ما تعلق بالحجم الهائل للديون، فيما اهتم رومانو بتسجيل ملاحظاته حول اهم المشاكل التي تخص القطاعات الاقتصادية، بالاضافة الى قطاع العدالة وضرورة اعتماد الاصلاح المؤسساتي وبوتيرة اسرع.
أولى مخرجات رومانو برودي
كان اومبارتو بونافيني، مدير مجلة لاغازات دو ريجيو، يحاور رومانو برودي سنويا، على اعتباره شخصية من اهم شخصيات مدينة ريجيو ايميليا. نشر الحوار في اغسطس من عام 1994. وفيه ادلى رومانو باول تصريح سياسي له، لكنه لم يتم في شكل حوار وانما على شكل لقاء عام بطلب من الساندرو كاري، رئيس بلدية كاربينيتي، الذي سعى لدى مدير الجريدة حتى يكون اللقاء عاما امام الملأ وفي حديقة في منتزه فاليسترا.
امتد النقاش ليتطرق رومانو برودي الى الوضعية الاقتصادية في ايطاليا ثم الى انتقاد حكومة برلوسكوني، حيث اعلن نيته صراحة دخول المعترك السياسي بصفة مباشرة بسبب الوضعية الصعبة التي تعيشها ايطاليا وعزمه تقديم مشروع سياسي جديد.
ارسل مدير مجلة لاغازات دو ريجيو الحوار الى جميع وكالات الانباء، ليشكل ما جاء فيه حدثا لما تبقى من فصل الصيف، ومنذ ذلك الحين بدأ النشاط السياسي لرومانو برودي، الذي ادلى فيما بعد بحوار آخر لصحيفة الباييس الاسبانية بمناسبة زيارته لبرشلونة الاسبانية.
وفي حواره مع الباييس جزم برودي بان العقدة التي ينبغي على ايطاليا تجاوزها تفرض ايجاد حل يمكن من تسيير البلاد بطريقة افضل، وكان هذا التصريح بمنزلة اعلان عن استعداد برودي لحمل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للايطاليين على عاتقه، حسبما اوردته زوجته فلافيا، التي تؤكد ان هذه المرحلة من حياة زوجها قدمت لايطاليا مسارا جديدا متكاملا وليس برنامجا ورقيا لان البرامج في نظرها بقيت دوما ميتة في نظر الناخبين الذين يتطلعون الى ما هو اضمن واجود وفيه استمرارية وافكار تسعهم جميعا.
»الأوليفو« او الزيتونة ؟!
كان على رومانو برودي ان يبحث عن مصطلح يؤسس به لمرحلة اعادة بناء ايطاليا، بعد ان بدأت الصحف الايطالية تتحدث عن احتمال تجمع عدد من التيارات السياسية في تحالف معارض لليمين الوسط. عرفت وتيرة هذا التحالف تسارعا ملحوظا، بعد ان سرب جيوفاني بيانشي، وهو برلماني ينتمي الى الحزب الشعبي، فحوى الاجتماع غير الرسمي، الذي جمعه برومانو برودي واندرياتا وآخرين، ومفاده: فرضية الاعلان عن ميلاد تحالف بين قوى واحزاب سياسية مختلفة، يمكن ان يقدم رومانو برودي مرشحا عنه لرئاسة مجلس الوزراء.
غير ان الصحف الايطالية التقطت الخبر وقدمته في اشكال لم تكن منتظرة تماما بالنسبة لبرودي. فقد قيل ان برودي القى بنفسه في وسط المعركة، وهي الجملة نفسها التي استعملها سيلفيو برلوسكوني، للقول ان رومانو برودي دخل السياسة.
وعلى الرغم من الهجوم الاعلامي الذي استهدف شخص برودي، فان فاكسات ورسائل المساندة لم تتوقف عن التواتر على مكتبه بشارع كاريولي الواقع في بولونيا، فالجميع ابدوا استعدادهم للمشاركة في هذه المغامرة السياسية. بدأت الحركة تكبر شيئا فشيئا. وكان ينبغي تنظيمها، فتم اقتراح انشاء جمعية اتخذت لها تسمية "ايطاليا التي نريد"، وعقدت اول ندوة صحفية لها في فبراير عام 1995، لينضم اليها لاحقا كل من الحزب الديموقراطي الاشتراكي والخضر والحزب الشعبي وحركة ديني والاشتراكيين.
في هذه الفترة بالذات، ظهرت تسمية »الاليفو« او الزيتونة. وتقول فلافيا "لقد جلسنا في منزلنا في بولونيا برفقة العديد من المعاونين لتحضير الندوة الصحفية التي كان ينتظر ان يعقدها برودي في اليوم التالي. كنا نبحث عن مصطلح يمكن ان يصف مشروعنا، بالطبع كانت السنديانة (رمز ديمقراطيي اليسار) هي من اوحت لنا بفكرة العثور على رمز يكون نبتة.
وتتابع فلافيا كان علينا ان نتعرف إلى خصائص شجرة الزيتون، فهي تنمو في مناطق البحر المتوسط وجذورها تمتد عميقا في الارض وعدد العقد بجذعها قليل، فكانت تمثل الصورة التي نود رسمها، شيء قوي بشكل اقل تعقيدا. لم يكن احد يظن آنذاك ان الحركة ستصبح حركة الزيتونة، فما دار في منزل رومانو برودي لم يكن سوى احاديث عابرة، لكنها استحالت حقيقة بعد ان عرف الرمز نجاحا كبيرا، لتصبح لجان برودي فيما بعد لجانا من اجل الزيتونة.
في الـحافلة
كان رومانو برودي يحاول اكتشاف قدرات البلاد بعد تحديد مشاكلها ولكن كان ينبغي عليه زيارة كل المدن الايطالية للاطلاع عن كثب على ما يحصل فيها، ولكن كيف سيستطيع زيارة المدن المائة التي حددها؟ اسوة بالرؤساء الاميركيين الذين عادة ما يلجأون الى استخدام حافلة في حملاتهم الانتخابية بعد ان يحولوها الى مكتب خاص لهم، فعل رومانو الشيء نفسه بعد ان جهز له معاونه نوسمينا حافلة قديمة بجهاز فاكس وطاولة وثلاجة وحاسوب، فيما وضع خارجها صورة عملاقة لبرودي، في الوقت الذي نظم فيه المعاون الثاني جيوليو سانتاغاتا المسار وضبط المحطات التي يتوجب الوقوف عندها.
تقول فلافيا: »كنا نرصد في كل محطة المشاكل المستعصية ونتصل مباشرة بالمجتمع المدني لمعرفة دقائقه واهتماماته وآلامه كذلك، وكنا نعنى اكثر بالجانب الاقتصادي، كما كان لمعرفة رومانو بالخصائص الجغرافية والاقتصادية للمناطق الايطالية بالغ الاثر في تحديد كوامن ضعف الاداء الحكومي«.
جمع الاقتراحات
ساعدت رحلة الحافلة رومانو في جمع العديد من المعلومات والمعطيات بخصوص الوضع، كما ساعدته على تحرير اقتراحاته وبرنامجه، بعد ان تمت مناقشة كل المعطيات خلال اجتماعات طويلة عقدها مع كل من جيوفاني ماريا فليك وستيفانو زاماقني ولويجي سبافانتا ولورا مارشيتي وجياني بونفيسيني وفاليريو اونيدا وكلهم خبراء في قطاعات مختلفة.
تم نشر المقترحات كاملة، وعددها 88 مقترحا، بتاريخ 6 ديسمبر 1995 وباسم »الاوليفو« بعد ان صادقت عليها الاحزاب السياسية المشاركة في التحالف، لتكون البرنامج الذي قاد رومانو برودي لرئاسة وزراء ايطاليا لاول مرة.
يتبع الحلقة الرابعة: عاونو برودي كانوا متفائلين بفوزه أما زوجته فلا
شهادة زوجين جمعتهما مقاعد الدراسة ثم السياسة ومشاكل إيطاليا سياسة القلـــب5 .
فلافيا برودي في ضيافة هيلاري كلينتون في البيت الابيض الاميركي
* تأليف رومانو وفلافيا برودي
* ترجمة سليمة لبال
تعرفا على بعضهما البعض في ريجيو ايمليا مسقط رأسهما، حيث عاشا تجربة الحياة الجامعية الايطالية في نهاية الستينات من القرن الماضي، وتزوجا ايضا عام 1969، انهما فلافيا فرونزوني ورومانو برودي رئيس الوزراء الايطالي السابق.
لقد اصبحت فلافيا مرجعية في عالم التكوين الاجتماعي في ايطاليا بسبب نشاطاتها، كما تمكن رومانو في انتخابات ابريل 2006 من كسر شوكة سيلفيو برلسكوني صاحب الامبراطورية المالية والاعلامية ليكسب بفضل برنامجه وتحالف »اليونيون« اصوات الهيئة الناخبة الايطالية بعد مشوار طويل قضاه في الجامعة استاذا للاقتصاد. ثم رئيسا للوزراء من مايو 1996 الى اكتوبر 1998 بواسطة تحالف اليسار الوسط - الاوليفا - الذي اقامه، فرئيسا على مدى خمس سنوات للمفوضية الاوروبية التي اشتغلت طويلا لتحقيق وحدة اوروبا جغرافيا ونقديا بعد ان توسعت الى 25 دولة، وصار اليورو عملتها الموحدة.
واذا ما كان الكتاب الذي تعرضه »القبس« على حلقات وليد افكار فلافيا في البداية، فإنها سرعان ما ارتأت ان تخطه الى جانب زوجها الذي تقاسمت معه سنوات من الضغط والجهد في سبيل تغيير صورة ايطاليا التي عاشت على مدى سنوات ازمة اقتصادية خانقة بسبب الفساد الذي استشرى في اركان الدولة.. والذي عاد يقوى مجددا مع عودة برلسكوني الى رئاسة الوزراء.
»سياسة القلب« هو شهادة زوجين جمعتهما الجامعة ثم السياسة ومشاكل ايطاليا، هي محطات يتوقف عندها كل من رئيس الوزراء الايطالي السابق وزوجته وننقلها للقراء لاكتشاف جانب آخر من اوروبا.
علاقة الزوجين برودي بشيراك ساهمت في حل مشكلة ألبانيا
فلافيا ارتدت التشادور الإيراني فثار الإيطاليون عليها
قضى الزوجان برودي فترتين من حياتهما في روما وبروكسل. وكانت التجربتان مختلفتين تماما، لأن رومانو برودي عمل خلالهما في مؤسستين مختلفتين تماما. ولما تولى منصب رئيس الوزراء أقام برفقة عقيلته فلافيا في شقة تقع وسط المكاتب في الطابق الثالث لقصر »شيجي« الآهل كمقر لرئاسة الوزراء في ايطاليا. وكانت شقتهما تتكون من صالون كبير وقاعة للطعام وغرفة صغيرة علقت على احد جدرانها لوحة للرسام الايطالي دومينيكو زامبيرين، بالإضافة إلى غرفة نوم كبيرة، غير أن الشقة استلمها بأثاثها القديم.
تقول فلافيا إنها كانت تجلب احد الأسرة إلى الغرفة الصغيرة، كلما كان عليها استقبال ولديها في القصر، مشيرة إلى أنها السيدة الأولى التي سكنت هذه الشقة، التي كانت تستغل فقط خلال اللقاءات الرسمية أو خلال اجتماعات العمل، حيث تحتوي على باب يتصل مباشرة بقاعة اجتماعات كبيرة جدا، هي مقر المفاوضات التي عادة ما تتم بين الحكومة والنقابة والباترونا، أي رجال الأعمال.
كان على الزوجين السكن في الشقة بعد أن أصبح رومانو نائبا ورئيسا لمجلس الوزراء لأنهما لم يكونا يملكان سكنا في روما. وعلى الرغم من الطابع الرسمي للمبنى، فان فلافيا تقول إنها عاشت فيه حياة عادية، استغلت كل دقيقة منها.
وأما في بروكسل، فكان الزوجان يقيمان في شقة تتربع على مساحة 130 مترا مربعا وتقع في الطابق الثامن في عمارة بجانب حظيرة تدعى »الخمسينية نغير« بعيدا عن مقر المفوضية وتضم غرفة نوم إضافية للأولاد. وتقول فلافيا انها كانت تشعر بان شقة بروكسل صممت لها بينما صممت شقة قصر رئاسة الوزراء لقصر شيجي.
رئيسة لجمعية نساء أوروبا
ترأست فلافيا، شرفيا، جمعية نساء أوروبا طوال فترة عمل زوجها بالمفوضية الأوروبية. هي جمعية للنساء اللواتي يعملن أو يقمن في بروكسل وهدفها جمع تبرعات لدعم المشاريع الصغيرة في البلدان السائرة في طريق النمو أو تلك التي تواجه الفقر، بالإضافة إلى نسج علاقات بين المقيمين في بروكسل من المنحدرين من جنسيات مختلفة.
تقول فلافيا انه نادرا ما كانت ترافق زوجها في الزيارات الرسمية، إلا ما تعلق منها بقمة الثمانية الكبار أو القمم السنوية للدولة الأكثر تصنيعا وبعض الزيارات إلى الدول الأوروبية، ذلك أن زوجات رؤساء دول أوروبا قلما يشاركن في اجتماعات الاتحاد الأوروبي، لأنها قصيرة وتتم بصفة دورية بالإضافة إلى أن حضورهن يكلف الشيء الكثير لما تفرضه الترتيبات الأمنية المرافقة لهن.
تختلف طبيعة العمل بين روما وبروكسل، بحسب فلافيا، فكل شيء في قصر "شيجي" كان يظهر لها استثنائيا عكس بروكسل. وإذا ما كانت وتيرة العمل في العاصمة البلجيكية عادية، فإنها مكثفة في روما، حيث يتغير جدول الاعمال مرات عدة بما يتناسب والأحداث المستجدة.
وعن التغيير، أو »النقلة« التي عرفتها حياتها كزوجة رئيس الوزراء، تقول فلافيا أن ذلك انعكس على عملها، بحيث أصبحت تستقبل زوجات الرؤساء اللواتي يتوافدن على ايطاليا وكان مكتب البروتوكول يمدها كل مرة ببيان السيرة الذاتية للسيدة التي ستستضيفها حتى تتمكن من التواصل معها بسهولة.
في لقاء برناديت شيراك
أول سيدة استقبلتها فلافيا بصفتها زوجة لرئيس الوزراء كانت برناديت، زوجة الرئيس الفرنسي (السابق) جاك شيراك، في أكتوبر عام 1996، وقد بذلت فلافيا قصارى جهدها لتضبط لها برنامجا يناسب اهتماماتها، بعد أن أطلعها مسؤولو البروتوكول، بان زوجة الرئيس الفرنسي منشغلة بالسياسة وهي نائب محلي وشغوفة بعلم الآثار وتاريخ الفن.
اكتشفت فلافيا في نهاية زيارة شيراك أن عليها أن تحضر نفسها جيدا أثناء استقبالها للشخصيات الدولية، بالاطلاع على كل معطيات ومشاكل ايطاليا حتى تكون في المستوى وتتمكن من الإجابة على أي تساؤل يمكن أن يطرح عليها، بالإضافة إلى التمرن على بعض الخطابات المتعلقة بهذه المسائل باللغة الإنكليزية .
في البيت الأبيض
كانت زيارة الوزير الأول الإيطالي إلى الولايات المتحدة في عهد بيل كلينتون الأكثر رسمية وتأثيرا في الزوج الايطالي، مقارنة بكل الزيارات التي قام بها رومانو برودي، ذلك أن الزيارة حسب فلافيا هي ثمرة عمل مكثف سعى من خلاله إلى إعادة بناء العلاقات بين البلدين.
سعت هيلاري كلينتون، أثناء استضافتها لزوجة رئيس الوزراء الايطالي، حتى تكون الرحلة موفقة جدا على جميع الأصعدة، ما دفع فلافيا إلى وصف عمل مضيفتها بالاحترافي. فقد حرصت السيدة الأميركية الأولى على ضرورة ارتقاء التغطيات التلفزيونية للحدث من خلال تنظيم لقاءات مع التلفزيون أو الصحافة المكتوبة.
وتشير فلافيا إلى أن هيلاري كلينتون لم تكن تنسى أبدا أن تدعوها إلى الاستلقاء على أريكة الصالون حتى تسترخي عضلاتها وترتاح أقدامها، كما كانت تسألها عن دقائق الحياة الايطالية من المدرسة إلى المرافق الصحية إلى دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمناطق الصناعية.
العلاقات الشخصية.. والدولية
تقول فلافيا برودي انه في كثير من الأحيان، تهيأ لها بان الكثير من القضايا المعقدة يمكن أن تجد لها حلا بعيدا عن الموائد الرسمية. وتحكي كيف ساعد القدر في حل مشكلة ألبانيا بعد لقاء جمع الزوجين الايطاليين بالرئيس الفرنسي جاك شيراك وزوجته برناديت أثناء إحياء باريس للذكرى الثمانين لوفاة عازف الكمان مستيسلاف روستوروبوفيتش.
كانت ألبانيا آنذاك تعيش على وقع مظاهرات دامية بعد انفجار عدد من الفضائح المالية. وكان على الدول الأوروبية التحرك لمواجهة الأمر من خلال عملية "ألبا" التي تقتضي إرسال فرق عسكرية أوروبية إلى المكان لإعادة الأمن. لكن ايطاليا، التي تكفلت بالتنسيق بين الدول الأوروبية الأخرى، وجدت نفسها وحيدة في التعامل مع القضية بعد أن عزف جيرانها عن مساعدة ألبانيا.
تقول فلافيا أن القدر ساقها هي ورومانو إلى باريس، وبعد العشاء الذي أقامه شيراك وحرمه على شرفهما، تناقشا في الموضوع وحللا كل جوانبه، ليقرر الرئيس الفرنسي بعد مغادرة رئيس الوزراء الايطالي المشاركة في عملية "البا" وإرسال 1000 عسكري فرنسي للعمل تحت أوامر القيادة الايطالية.
فلافيا والتشادور الإيراني
بعد سنوات طويلة، توجه رئيس الوزراء الايطالي عام 1998 إلى إيران في زيارة رسمية. كانت الزيارة معقدة جدا، ذلك أنها كانت تهدف إلى الاعتراف لإيران بانفتاحها بالإضافة إلى تضييق الهوة الكائنة بين البلدين، خصوصا ما تعلق منها بالحقوق والحريات.
تقول فلافيا إنها واجهت الكثير من الانتقادات بسبب الصورة التي التقطت لها وهي ترتدي التشادور والعباءة الطويلة، بعد أن نشرتها العديد من الصحف المحلية والدولية. وتضيف "لم نكن قد تعودنا على ذلك عكس الآن بعد أن ألفنا رؤية صور الغربيات وهن يرتدين الخمار أو التشادور في البلاد الإسلامية، خصوصا الصحفيات اللواتي يشتغلن مراسلات في العراق مثلا".
تتذكر فلافيا أنها ردت على هذه الانتقادات وشرحت كيف قبلت المشاركة في هذه الزيارة وأهمية اتصالها بالعالم الخارجي، بدل الانغلاق والانعزال، لتضيف ان الانتقاد لم يكن مباشرة لطريقة لبسها التشادور وإنما لأنه كان شرط الإيرانيين لتزور بلادهم خصوصا انه أصبح إجباريا منذ عام 1979 مباشرة بعد الإطاحة بنظام الشاه.
ايطاليا في منطقة اليورو
كانت أوروبا، ولا تزال، مرجعية بالنسبة لفلافيا التي دأبت منذ طفولتها على التمسك بالاعتقاد ذاته، لكنها لا تعرف إن كان أفراد جيلها فقط من يبادلونها الشعور ذاته. وبالنسبة لها لا يمكن أبدا لايطاليا، أو بلد أوروبي آخر، أن يحل مشاكله بمعزل عن القارة الأوروبية، التي يبغي لها أن تؤسس لنفسها سياسة قارية مرتبطة بالمصير المشترك للأوروبيين.
لم يكن لايطاليا أن تتحول اقتصاديا واجتماعيا في نظر فلافيا دون علاقة وطيدة تجمعها بأوروبا ودون انخراطها في المشاريع الأوروبية الكبرى. ولذلك تعين عليها تغيير نمط الحياة المعتمد فيها والكثير من العادات على الصعيدين الاجتماعي والثقافي في وقت كانت تعيش فيه أسوأ أيامها بسبب التضخم المالي.
عادت ايطاليا إلى الساحة السياسية الأوروبية بعد أن وصل رومانو برودي إلى رئاسة الوزراء، وتمكنت حكومته من اجتياز السنوات الصعبة. ففي التسعينات من القرن المنصرم لم تتمكن ايطاليا من الالتحاق بالموقعين على اتفاقية »ماستريخت« بعد أن فشلت في استيفاء الشروط المطلوبة. وكان ميزانها التجاري آنذاك يعاني من عجز كبير بسبب نسبة التضخم المرتفعة، ما حال دون إدراج الليرة الايطالية ضمن النظام النقدي الأوروبي.
وعلى الرغم من كل هذه المشاكل، انتهت ايطاليا بحلها لتصبح من بين الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي وخاطرت في دخول منظومة العملة الموحدة .
توسع أوروبا
حددت المفوضية الأوروبية ثلاثة أهداف رئيسية لها، أولاها توحيد العملة الأوروبية لتصبح اليورو ثم توسيع الاتحاد فوضع دستورا أوروبيا.
وإذا كانت أوروبا قد نجحت في توحيد العملة، فان مشكلة التوسع لتضم تركيا في طريقها للحل تدريجيا بحسب رومانو برودي، الذي يؤكد أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي سيكون ، وان لم يحدد لذلك تاريخا معروفا، وذلك من خلال تصريحات المسؤولين الأوروبيين في مختلف اللقاءات والقمم.
ومع ذلك يرى رومانو ان مشكلة تركيا تعقدت، لان على التوسع الأوروبي أن يهدئ الرأي العام الداخلي والخارجي أي على مستوى تركيا وبلدان الاتحاد، ليضيف ان هذا البلد يواجه في المرحلة الراهنة سلسلة جديدة من المشاكل منها ما هو مرتبط بمساحته الكبيرة وتنوع ثقافاته، وأخرى بعدد من المشاعر المرتبطة بالتاريخ، وإذا كانت رسالة الاتحاد الأوروبي إلى تركيا تشهد على تعددية وقوة الاتحاد، فان على أوروبا كذلك أن تحافظ على انسجامها وهويتها التي يميزها وتجعل منها اتحادا قويا في القرون المقبلة.
وحدة أوروبا تستدعي إرادة شعبية
يمثل الدستور الأوروبي ثالث هدف وثالث مرحلة في السنوات الخمس التي قضاها رومانو برودي في بروكسل، ذلك أن قادة أوروبا فهموا ضرورة احتواء الاتحاد على قواعد عمل جديدة.
يقول رومانو أن الدستور الأوروبي يُعنى بالمشاكل التي أفرزتها العولمة من خلال اقتراحه لعقد ديموقراطي مناسب للمرحلة التي تعيشها أوروبا، ويختلف تماما عن الأسس التي قامت عليها الدول الأمم وهو ما يوقع لمرحلة جديدة في تاريخ أوروبا كلها.
تم التوقيع الرسمي على الدستور الأوروبي في روما خلال احتفالية كبيرة وفي حضور ممثلي كل الدول الأوروبية، الذين عبروا عن رضاهم الكامل، لكن المفاجأة التي واجهت الجميع كانت أثناء عرض الدستور للمصادقة، أي عندما رفض الفرنسيون والهولنديون نص المشروع بعد عرضه عليهم خلال الاستفتاء الشعبي.
أوروبا بحاجة ماسة إلى ميثاق مشترك، بحسب رومانو برودي، الذي يرى ان الزمن والصبر كفيلان لوحدهما بوضع أوروبا على السكة، مضيفا أنه متأكد من تصويت الأوروبيين كلهم لمصلحة الدستور الاوروبي لو تم تنظيم الاستفتاء في الموعد نفسه، ذلك أن لا أحدا يمكنه أن يقف حجر عثرة أمام الوحدة الأوروبية.
لقد عبرت الشعوب الأوروبية عن وحدة قرارها فيما يتعلق بالقضايا الوطنية والأوروبية، لكنها رفضت المحيط الاقتصادي والاجتماعي الحالي أكثر من رفضها لنص الدستور. وعليه فان وحدة أوروبا تستدعي، حسب برودي، إرادة شعبية تتطلب دون شك فترة من التفكير المتمعن والطويل.
شهادة زوجين جمعتهما مقاعد الدراسة ثم السياسة ومشاكل إيطاليا سياسة القلـــب (6)
* تأليف رومانو وفلافيا برودي
* ترجمة سليمة لبال
تعرفا على بعضهما البعض في ريجيو ايمليا مسقط رأسهما، حيث عاشا تجربة الحياة الجامعية الايطالية في نهاية الستينات من القرن الماضي، وتزوجا ايضا عام 1969، انهما فلافيا فرونزوني ورومانو برودي رئيس الوزراء الايطالي السابق.
لقد اصبحت فلافيا مرجعية في عالم التكوين الاجتماعي في ايطاليا بسبب نشاطاتها، كما تمكن رومانو في انتخابات ابريل 2006 من كسر شوكة سيلفيو برلسكوني صاحب الامبراطورية المالية والاعلامية ليكسب بفضل برنامجه وتحالف »اليونيون« اصوات الهيئة الناخبة الايطالية بعد مشوار طويل قضاه في الجامعة استاذا للاقتصاد. ثم رئيسا للوزراء من مايو 1996 الى اكتوبر 1998 بواسطة تحالف اليسار الوسط - الاوليفا - الذي اقامه، فرئيسا على مدى خمس سنوات للمفوضية الاوروبية التي اشتغلت طويلا لتحقيق وحدة اوروبا جغرافيا ونقديا بعد ان توسعت الى 52 دولة، وصار اليورو عملتها الموحدة.
واذا ما كان الكتاب الذي تعرضه »القبس« على حلقات وليد افكار فلافيا في البداية، فإنها سرعان ما ارتأت ان تخطه الى جانب زوجها الذي تقاسمت معه سنوات من الضغط والجهد في سبيل تغيير صورة ايطاليا التي عاشت على مدى سنوات ازمة اقتصادية خانقة بسبب الفساد الذي استشرى في اركان الدولة.. والذي عاد يقوى مجددا مع عودة برلسكوني الى رئاسة الوزراء.
»سياسة القلب« هو شهادة زوجين جمعتهما الجامعة ثم السياسة ومشاكل ايطاليا، هي محطات يتوقف عندها كل من رئيس الوزراء الايطالي السابق وزوجته وننقلها للقراء لاكتشاف جانب آخر من اوروبا.
حرص دوما على إبراز الجذور المسيحية لأوروبا
برودي الـحداثي.. شغوف برواية »الإخوة كارامازوف«
كانت العلاقة بين الكنيسة والدولة موضوع نقاش كبير في اوروبا. ويروي رومانو برودي انه كان يتبادل الحديث في الموضوع مع زملائه في الجامعة خلال الفترة ما بين نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي. وكانوا يعودون دوما في ذلك الى دراستهم وقراءاتهم، غير ان طلبة الفلسفة كانوا يرجحون الكفة في تحليلاتهم لما يوافق ما درسوه نظريا، مفضلين بذلك الفصل بين سيادة الكنيسة وسيادة الدولة، فيما كان آخرون يفضلون اعتماد التحليل التاريخي، فتراهم يحللون المشوار كله، اي منذ ميلاد الدولة الايطالية الى تطورها الى النظام الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية في القرن العشرين.
وعلى الرغم من تباين الرؤى، فإن الطلبة الايطاليين كانوا يتحدثون دوما عن كتاب ارتورو كارلو جيميلو المعنون بـ »الكنيسة والدولة في ايطاليا خلال المائة عام الاخيرة«، اي منذ نهاية الحكم البابوي وترسخ مبدأ »كنيسة حرة ودولة حرة«، الى مرحلة اقصاء الكاثوليك من الحياة العامة وصولا الى الاتفاق القاضي باعادة ادماج الكاثوليك في الحكومة الديمقراطية في ايطاليا بعد الحرب العالمية الثانية.
يقول برودي ان كتاب جيميلو افاده كثيرا في معرفة تاريخ ايطاليا واحتفظ به طويلا في مكتبته، الى غاية ان اعاره لفلافيا، وكانت آنذاك لا تزال في السنة الجامعية الثانية، كما استعانت به في تحضير دراسة مونوغرافية استعدادا لامتحانها في مادة التاريخ المعاصر.
مع مرور الوقت، خفت حدة الصراع داخل الكنيسة الكاثوليكية بخصوص المسائل الكبرى، كما تراجع حجم التوتر وقل الاختلاف في وجهات النظر ليفقد النقاش والجدل الذي كان سائدا في وقت مضى رونقه وثراؤه ايضا.
ويقول برودي انه اكتشف ان الايطاليين غير محضرين بالشكل الكافي لمواجهة المشاكل الجديدة التي يعرفها مجتمعهم، ومع ذلك اكد ان النقاش بخصوص العلمانية داخل العالم الكاثوليكي ساهم بشكل كبير في تطور المجتمع الايطالي، ذلك انه يعود الى القرون الاولى التي عرفت ميلاد المسيحية.
واليوم، فان وظيفة الكنيسة معروفة في ايطاليا من خلال رسالة الى ديونات، وهي رسالة لا تحمل توقيعا، لكنها تعود الى القرن الثاني ومعروفة منذ فترة قصيرة فقط في اوساط المختصين وفي الدوائر الضيقة. وتوجه الرسالة الخطاب التالي للمسيحي انتماءين دوما، سواء كان قسا او لائكيا ،ما يفرض عليه واجب طاعة الكنيسة والدولة في الوقت ذاته.
وفي نظر برودي، فان الموضوع الرئيسي حاليا ليس العلاقة التي تجمع الكنيسة بالدولة، وانما تلك الموجودة بين المسيحية والسلطة ،حيث يختلف نمط التفكير حول العلاقة بين الاخلاق والحق ليضيف: »علينا ان نتقبل ان العولمة اكدت ان الدولة غير قادرة على التحكم في الظواهر والمشاكل الكبيرة، لانها تتجاوز الحدود الجغرافية«.
العلمانية والسياسة
يقول برودي: »كان يظهر لي ان الوقت قد حان لاستعادة الخطاب الذي استمعت اليه ايام دراستي في كلية اوغوستينيانيوم، والقاضي باعادة بناء النظام السياسي الايطالي، وذلك بعد ان أُسقط جدار برلين وانقسمت الاحزاب السياسية الايطالية، لقد قدمنا في هذا الجو المشحون بالتطلعات مشروع الاوليفو بهدف انشاء تحالف ديمقراطي تشارك فيه كل الحركات الاصلاحية، من الكاثوليك الديموقراطيين الى الاقتصاديين الى الخضر والليبيراليين الديمقراطيين«.
وبنظر برودي، فان جمع مختلف الحساسيات السياسية في ايطاليا ودفعها الى تحرير مشروع حكومي واحد غايته ضمان الاحترام الكلي للمبادئ الاخلاقية والروحية التي يحملها المجتمع الايطالي في جذوره، صعب جدا، ذلك ان كل مشروع سياسي بحاجة الى جذور وآفاق لا تقتصر على السياسة والاقتصاد فقط. ولهذا السبب دافعت طيلة تواجدي على رأس المفوضية من اجل مشروع اوروبي يعتمد على قواعد اخلاقية.
وهو ما حصل بالفعل، على عكس الانتقادات التي وجهت اليه، من انه بلا روح ولا مضمون. فالمشروع الاوروبي هو المشروع السياسي العصري الوحيد الذي حدد السلم اول اهدافه بالاضافة الى انه اعطى مفهوما جديدا للحياة المدنية والسياسية، بامكانه تجاوز عجز وحدود الدولة الامة.
الجذور المسيحية لأوروبا
من الصعب جدا تلخيص تاريخ بناء الاتحاد الاوروبي، والدور الريادي الذي لعبته الاعتقادات الدينية، التي ساعدت على تطور التفكير بخصوص الجذور الروحية للقارة الاوروبية، وساهم في ترسيخها الآباء السيد دو غاسبيري وروبرت شومان وكونراد اديناور.
لقد كانت لهذه المسالة اهمية كبيرة طيلة المرحلة الاخيرة من عهدة رومانو برودي على رأس المفوضية الأوروبية، سواء في اطار هذه الاخيرة التي حررت مشروع الدستور الاوروبي او على مستوى الرأي العام بحيث حاول ادراج المرجعية الدينية، لتجسيد ما كان يردده جون بول الثاني »جذور مسيحية لاوروبا«. ويقول برودي انه يتطرق دوما للفكرة، لما لها من مدلولات موضوعية وايضا لانه كان دوما الى جانب الحفاظ على الاساسيات الثقافية والروحية لاوروبا، بما في ذلك عدم تجاهل الدور المسيحي للقارة الاوروبية، فالامر بالنسبة له جوهري و يستدعي تحركا على اكثر من صعيد.
تشترط المصادقة على الدستور الاوروبي قبول كل شعوب الدول الاوروبية، لكن الامر ما زال متوقفا على فرنسا وهولندا، اللتين ترفضان ان يحكم اوروبا دستور بهذا الشكل والمواصفات، وهما الدولتان اللتان تجذرت فيهما العلمانية وعصفت فيهما السياسة بكل التجارب الدينية، خصوصا وان الاهتمام في اوروبا في الوقت الراهن يخص الحدود المتوجب فرضها على الوظيفة الدينية مع تناسي كل ما يمكن ان تمنحه للحياة العامة.
يتذكر رومانو برودي كيف توسل اليه الرئيس الفرنسي ليعيد الى جيبه الورقة التي تضمنت اقتراحه لتعديل المادة المتعلقة بالجذور المسيحية لاوروبا، ذلك ان شيراك رفضها تماما لانها تشرح بالتفصيل الصراعات الداخلية التي عاشتها فرنسا. وفي الحقيقة يشير برودي الى ان اقتراحه لم يكن متعارضا مع مقومات اوروبا الجديدة وانما مع تاريخ فرنسا.
ويشير رومانو الى ان المبادئ التي يقوم عليها الدستور الاوروبي، سواء ما تعلق منها بالاعتراف بحقوق الافراد والمجتمع وحماية الاقليات وما الى ذلك. كلها مستمدة في العمق من المسيحية، بل هي نتيجتها وان رفضها كمرجعية ليس له علاقة بالوضعية الحالية وانما يعود الى سلسلة الصراعات التي عرفتها اوروبا في السابق، والتي بامكان الاتحاد الاوروبي ان يوقفها نهائيا.
واذا ما استحال على رومانو برودي ان يبرز الجذور المسيحية في ديباجة الدستور الاوروبي، لكنه ضمنها في المادة 52 التي تعترف بحقيقة الكنائس والاتفاقات التي ابرمت مع الدول الاعضاء، بالاضافة الى اعتراف المادة بدور الكنائس كمحدث ومحاور مفضل داخل مؤسسات الاتحاد الاوروبي، وهو ما يطلق عليه برودي تسمية »الحوار البنيوي«، الذي يمثل خطوة كبيرة مقارنة بالماضي وبكل مواثيق ودساتير الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي.
ويقول رومانو ان النقاش بخصوص البعد الروحي لاوروبا، ليس وليد اللقاءات الخاصة بتحرير الدستور الاوروبي، وانما وليد دراسات كثيرة سبقت تشكيل مجموعة عمل العام 2002 بهدف العمل بحذر لايجاد الابعاد الثقافية والروحية لاوروبا الجديدة.
تواضع فلافيا
تقول فلافيا ان تأليف الكتاب دفعها الى التطرق للعديد من الاحداث، كما اعاد الى ذاكرتها يومياتها ما بين التدريس وتنظيف البيت والتردد على مدارس ومدرسي ولديها والتسوق، بالاضافة الى مرافقة جدتها للطبيب، والمشاركة في اجتماعات الكنيسة وايضا التحدث بلغة اجنبية عند حضور عشاء عمل رسمي مع مدعوين اجانب. ومع ذلك تقول فلافيا ان التدريس سلب عقلها لانها تحب ايصال ما تؤمن به وتفكر فيه بهدف اقناع الآخرين. يصعب على المراة في نظر فلافيا، ان توازن بين حياتها العائلية من متابعة الاولاد الى قضاء حاجيات شؤون البيت والحياة المهنية، التي كانت تقتضي بالنسبة لها السفر وتعلم اللغات ومع ذلك كانت تحرص اكثر على دراسة اولادها وعلى علاقتهم بالكنيسة وبفريق كرة السلة وعلى صداقاتهم مع اقرانهم وبدوره سعى رومانو الى دفع اولاده وتشجيعهم مثلما كان يفعل دوما في الجامعة مع تلامذته.
وان كانت فلافيا تعترف بان ولديها درسا في جامعات اجنبية، غير انهما يبقيان حسبها بولونيين الى اصابع قدميهما، ومنزلهما وعائلتهما وعملهما هنا في ايطاليا.
تتذكر فلافيا ان رومانو اهداها عندما كانا مخطوبين صورة كاريكاتورية رسمها شولتز وكانت معنونة بـ »الامن هو ...« لتضيف في حديثها عن الامن : كان الامن بالنسبة لشرويدر هو الانغلاق في علبة محمية ومعزولة، فيما كان بالنسبة لآخرين ان يكون لك اخ كبير او احد تعتمد عليه، احد يمكن ان يسدي لك النصح. تقول فلافيا انها لم تعط ولديها ابدا مصروف الجيب الاسبوعي او الشهري، وانها فضلت دوما بالاتفاق مع رومانو وضع قليل من النقود في كوب على خزانة توجد بقاعة الجلوس.
كان بامكان الولدين ان يأخذا ما يحتاجان لشراء البيتزا او المثلجات او للذهاب الى السينما. وتضيف فلافيا ان لا احد منهما صرف اكثر مما يجب ان يصرفه، واما بالنسبة للاجازات فكانت قليلة التكلفة وان ولديها تعلما الاستقلالية، حتى ان احدهما كان يجمع القطع النقدية التي يجود بها جديه عليه، وكانت هي احيانا تستعملها عندما تنسى المرور على البنك بعد ان تكسر الحصالة، من دون ان ينزعج ولداها من تصرفها.
تربية الأولاد على السياسة
من اهم واكبر مشاكل الشباب في الوقت الراهن عدم اكتراثهم بالسياسة، فهي امر لا يهم وغير مجد تماما بالنسبة لهم، وهو ما دفع فلافيا الى التأكيد على ضرورة ادراج السياسة في حياة الشباب وفي عملهم وفي المدرسة وفي اوقات الفراغ، الامر نفسه بالنسبة للتربية الدينية، التي ترى بان لها دورا كبيرا في تربية الاطفاء وتنشئتهم على الايمان و احترام القائد وتعميق معارفهم الثقافية من خلال القراءة .
تقول فلافيا ان مكتبة بيتها تحتوي على كتب متنوعة، الكثير منها قديم، ولكن غالبيتها تخص الاقتصاد والعلوم الاجتماعية، التي لها علاقة مباشرة بعملها هي وزوجها. وتضيف ان برودي كان كثيرا ما ينصح الشباب بمطالعة رواية »الاخوة كاراموزف« للروسي ديستوفسكي، لانها برأيه تحتوي على مشاعر كبيرة وفيها الكثير من الامثلة حول الصراع ما بين الشر والخير.
تقول فلافيا ان النصيحة غريبة شيئا ما، ولكنها تعود الى قراءات رومانو المكثفة اثناء شبابه، لقد كان شغوفا بمطالعة مؤلفات تولستوي وتورجينييف وباسترناك، وكان دائما يعيب عليها بعد الزواج عدم اطلاعها على الادب الفرنسي والروسي.
ويرجع سبب اختلاف العادات بين رومانو وزوجته الى عدم توافر جهاز التلفزيون اثناء فترة شباب رومانو ما شجعه على ان يكون اكثر اقترابا من الكتب التي رافقته لسنوات عدة، على عكس فلافيا التي كبرت في الفترة التي عرف فيها التلفزيون اوجه.
وعلى الرغم من العلاقة الوطيدة التي تجمع رومانو بالكتاب، فانه فشل في توريثها الى ولديه، وهو ما ترجعه فلافيا الى الاختلافات الكائنة بين الاجيال المتعاقبة، خصوصا مع الثورة التكنولوجية التي قلبت العالم الى قرية صغيرة بفضل شبكة الانترنت، ومع ذلك تصر على اهمية التوازن ما بين التجديد والتجربة الانسانية. غير ان الغريب في كل هذا ان ينصح رومانو برودي بقراءة الاخوة كارامازوف وهو الذي نذر حياته للدعوة الى الحداثة والتجديد.
(انتهى)
> فلافيا برفقة أختها لورا ورومانو في شرفة معهد الاقتصاد في جامعة بولونيا
رعان ما طلق العمل العام في شيكاغو أوباما ورحلة البحث عن حل لمعاناة السود
كتاب "أميركا باراك اوباما"
تأليف: فرانسوا دوربار
واوليفيي ريشوم
ترجمة: سليمه لبال
لمع نجمه بسرعة في عالم السياسة الأميركية، ليصبح وهو محام شاب، السيناتور الأسود الخامس في تاريخ مجلس الشيوخ الأميركي، والسيناتور الوحيد في المجلس الحالي، ثم أول مرشح أسود للانتخابات الرئاسية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
نجح في ازاحة هيلاري كلينتون وهي السيناتورة البيضاء وزوجة رئيس سابق، من تصفيات الحزب الديموقراطي، وها هو يتقدم شيئا فشيئا نحو البيت الأبيض، في منافسة حامية الوطيس مع الجمهوري جون ماكين.
يصفه البعض بكيندي الجديد وبالحلم الأميركي، الذي سينقل أميركا من مجتمع أبيض وأسود الى مجتمع خلاسي، باختصار لقد أصبح رمزا للأقليات، التي تبحث عن الانتصار لعرقها في كل العالم.
انه باراك أوباما، هذا الأميركي ــ الأفريقي الأصل، الذي نجح في تصدر استطلاعات الرأي امام هيلاري، ونجح ايضا في اذابة الجليد بين البيض والسود، من أجل ان تنعم اميركا بالوحدة والتضامن.يتساءل الجميع كيف نجح هذا الأربعيني في سرقة الأضواء؟ وكيف تمكن من التعايش صبيا مع ثقافة أمه الأميركية وموروث والده الكيني وحياة زوج والدته الاندونيسي؟ ثم كيف رفع التحدي وانخرط في السياسة بفضل دعم زوجته ميشال، هذه المرأة التي وقفت الى جانبه، مثلما كانت والدته الى صفه دوماً؟
هي اسئلة تجدون الاجابات عنها في هذا الكتاب الذي تنشر «القبس» ترجمته، في انتظار ان تجيب الانتخابات الرئاسية الأميركية عن السؤال الأهم، والذي يشغل كل العالم: من سيكون على رأس الولايات المتحدة الأميركية؟
اكتشف باري، بفضل راي عالما لم يكن أبدا يعرفه، انه عالم حفلات الشباب السود في السكن الجامعي او في القواعد العسكرية.
بدا باري في الابتعاد شيئا فشيئا عن جديه في هذه المرحلة.. بعد ان اكتشف ذات يوم بان جدته اشترطت على زوجها اصطحابها الى العمل بعد ان طلب منها احد المتسولين ذات مرة شيئا من المال ولم يكن المتسول سوى متسول اسود.
لقد أكد راي في يوم من الايام لباري بأنه اذا لم يتوفقا في الخروج مع البنات فان ذلك سيعود الى سبب واحد الا وهو لون بشرتهما الاسود، غير ان باري اجابه لا يمكن ان تصف فتاة بالعنصرية لمجرد رفضها الخروج معك واضاف «الفتيات البيض لسن عنصريات، لكنهن يبحثن على فتى يشبه آباءهن».
أطبق راي جفنيه باستياء وأجاب صديقه باري «يا رجل، اعرف جيدا لم تحاول ان تبحث عن أعذار للبيض».
اكتشاف المخدرات
التحق اوباما بعد انتهاء مرحلة الثانوية بجامعة اوكستدونتال في لوس أنجلوس، حيث درس اولى سنواته الجامعية. كان عمر اوباما 18 سنة، حينما اكتشف المخدرات، قد تناول الحشيش والكحول والقليل من الكوكايين.
كتب اوباما في مذكراته بانه لم يجرب الهيرويين لان الشخص الذي كان سيعطيه شيئا منها كان مضطربا وينتفس بصعوبة «انا لا احب مثل هذه الحالات، ولم أكن اريد ان اصل الى هذه الحالة، لانها تقترب من حالة الموت».
لقد اعترف مرشح الانتخابات الرئاسية الاميركية بانه وقع في الفخ، الذي تقع فيه غالبية المراهقين السود، سيكون لاعترافاته التي اقربها عام 1995، الكثير من الآثار السلبية على مساره وآفاقه السياسية، فبيل كلينتون على سبيل المثال توخى الكثير من الحذر عام 1992 خلال حملته الانتخابية حينما صرح بأنه لم يقدم أبدا على شم المخدرات، كما أن جورج بوش فضل الحديث عن أخطاء الشباب دون أن يتحدث عن تفاصيل أخرى، لذلك اوباما هو أول مرشح للرئاسة، يعترف بتناوله الكوكايين.
مؤكدا في مذكراته بأنه غير نادم على الإطلاق على اعترافاته حتى وان اعترف بان بعض الفقرات سبب الكثير من المشاكل.
من باري إلى باراك
اندمج باري بسهولة في عالم الطلبة السود لدى التحاقة في جامعة اوكسيدونتال، وكان البعض منهم متحدرين من الغيتوهات، فيما كان البعض متحدرين من الضواحي، مثلما هو الحال بالنسبة لطالبة، فاجأت اوباما بقولها «لست سوداء وإنما متعددة الاثنيات «،لما سألها إن كانت تنوي حضور اجتماع جمعية الطلبة السود.
كان باري يختار أصدقاءه بحذر شديد وكانوا في الغالبية من الطلبة السود، الناشطين سياسيا والطلبة الأجانب القادمين في إطار برامج التبادل من ذوي الأصول اللاتينية وكذلك الأساتذة الماركسيون.
تعرف باري خلال سنته الجامعية الأولى على طالبة تدعى ريجينا. لقد شجعت ريجينا باراك على الانخراط في حركة مناهضة للابارتايد، حيث كان الطلبة في المساكن الجامعية يحتجون ضد المعاملة السيئة التي يعاني منها سود افريقيا الجنوبية بتواطؤ من المؤسسات الأميركية.
الخطاب الأول
وقف اوباما ذات مرة بصفة تلقائية خلال حفل في السكن الجامعي وتناول الكلمة للمرة الأولى في حياته أمام الملأ. وفيما كان البعض يتبادلون الحديث وآخرون يلعبون، كان باراك يصرخ بأعلى صوته «هناك معركة تعني كل واحد منكم، معركة تتطلب منا أن نختار صفا، ليس بين بيض وسود وليس بين أغنياء وفقراء، انه اختيار بين الكرامة والدناءة، بين العدالة واللامساواة، انه اختيار بين الخير والشر».
كان باري يفكر كثيرا في ذلك الوقت في جدتيه لوالده ووالدته، واحدة سوداء والاخرى بيضاء، والاحلام التي كانتا ترسمانها عنه، لقد كانتا تنتظران الشيء نفسه، لذلك انتهى باراك الى الايمان بان هويته لا يجب ان تتوقف عند اصوله.
في هذه المرحلة بالذات طلب باري من الجميع مناداته باسمه الافريقي باراك دون باري، هذا الاسم الثاني.
استفاد باراك بعد سنتين من الدراسة في لوس أنجلوس من برنامج تبادل مكنته في خريف 1981 من دخول جامعة كولومبيا، هذه الجامعة النيويوركية العريقة، التي تيقن فيها من ضرورة ان يتبع خطوات والده الغائب والاستمرار في تحقيق حلمه، لقد كان يدرك تماما بان والدته الى جانبه، تسهر من أجله وتدعمه مثلما كانت تفعل دائما.
أول الالتزامات: 1981 - 1996
لقد تميزت حياة اوباما بالتزامات على الصعيد المهني والعاطفي أيضا، ففي نيويورك كان يتقاسم شقة تقع في حي راق بالقرب من ايست هارلم، مع صديق باكستاني، التقاه في لوس أنجلوس .
لقد قرر باراك الالتحاق بجامعة كولومبيا حتى يتخلص من العادات السيئة التي اكتسبها في جامعة اوكسيدونتال كما قرر أيضا عدم التردد على ضواحي لوس أنجلوس والعيش في مدينة حقيقية، تضم أحياء للسود .
وصل باراك الى نيويورك بداية الثمانينات، وكانت وول ستريت في قمة التوسع، فيما كانت منهاتن تشهد حركة نشيطة جدا، بسبب افتتاح مطاعم جديدة وعلب ليل، بدأت آنذاك باستقطاب الشباب .
ركز باراك اوباما في دراسته وكان يرفض كل الدعوات التي كان يوجهها له صديقه في الشقة للذهاب الى البارات برفقة البنات، وكان يركض 5 كيلومترات يوميا ويصوم يوم الأحد، كما كان يدون يوميا أفكاره وايضا نصوصا اخرى، كانت المادة الاولى التي استند اليها في كتاب مذكراته، عشر سنوات فيما بعد .
كانت ادارة ريغن آنذاك عاجزة تماما عن حل مشكلة الفقر، التي تفشت في الولايات المتحدة الاميركية، وبالنسبة لاوباما، كان الاغنياء والفقراء يعيشون في عالمين منفصلين، لا يتصلان أبدا .
اكتشفت والدة اوباما وأخته رجلا مختلفا تماما لما اتتا لزيارته في صيف 1982، فوالدته فرحت كثيرا لما علمت بانه يراسل والده ويستعد لزيارة كينيا فور حصوله على الشهادة،
وروت له الكثير من الذكريات التي جمعتها بوالده وعلى الخصوص تأخره عن اول موعد بينهما، بينما كانت تنتظره امام مكتبة الجامعة حتى نامت من شدة ارهاقها وهي جالسة على المقعد ولم تستيقظ الا وهو امامها برفقة اثنين من اصدقائه .
وامام هذا المشهد قال لصديقيه «أرأيتم، لقد قلت لكم بانها فتاة رائعة وستنتظرني».
تيقن اوباما خلال ذلك اليوم من الحب الذي تكنه والدته لابيه، لقد بقيت تكن له المشاعر نفسها على الرغم من انه تركها برفقة رضيع يحتاج الى الكثير من الرعاية والحماية، هذا الرضيع الذي غرست فيه على مر السنوات صورة الاب المثالي، الذي لم يعرفه، لكنه يسعى الى رؤيته.. لقد تبخرت هذه الأحلام فجأة خلال أشهر قليلة، بعدما تلقى اوباما مكالمة هاتفية من عمته في نيروبي، تخبره فيها بمقتل والده في حادث سيارة.. الخبر فاجأ كثيرا اوباما الذي لم يذرف دمعة واحدة على أبيه الراحل .
في عام 1983، كان باراك اوباما قد حصل على شهادة ليسانس في العلوم السياسية تخصص علاقات دولية من جامعة كولومبيا ويحضر نفسه لأول تجربة مهنية له، وفيما عين اصدقاء له في مؤسسات معروفة وترشح آخرون لانهاء دراساتهم الجامعية ونيل شهادة الدكتوراه، كان الالتزام الاجتماعي هو من يحرك اوباما، الذي غذته والدته منذ الصبا بقصص عن الحقوق المدنية .
غير أن الشيء الآخر الذي كان يحرك اوباما آنذاك هو ولعه بمساعدة المعوزين والفقراء للتحرر من الحلقة المفرغة للفقر واليأس .
وبدل أن يخطط اوباما للمراحل التي ستمكنه بسرعة من صعود درجات السلم الاجتماعي، راح يراسل جمعيات الحقوق المدنية ورجال السياسة التقدميين على غرار هارولد واشنطن، الذي انتخب مؤخرا في شيكاغو، ليكون أول رئيس بلدية اسود لهذه المدينة، كما راسل الجماعات التي تناضل من اجل حقوق المؤجرين وجمعيات الأحياء على مستوى البلاد كلها .
وعلى الرغم من كل هذه المراسلات، لم تصل أي اجابة الى باراك اوباما، الذي قرر انتظار الوقت المناسب لاعادة الكرة، في تلك الاثناء، عين مستشارا اقتصاديا في مؤسسة متعددة الجنسيات تدعى «بزنس انترناشيونال كوربوريشن »، واصبح له مكتب مستقل وسكرتيرة ومال ايضا، دون الحديث عن الاعجاب الذي كانت تبديه النساء السود اللواتي كن يشتغلن في السكرتارية، لقد كان اوباما، مفخرة لهن وكن يأملن في أن يدير الشركة في يوم ما .
اعتقد اوباما بانه سيكتفي بهذا المنصب فقط، حينما تلقى مكالمته من اوما أخته الافريقية غير الشقيقة، التي أخبرته بوفاة أخيه غير الشقيق ديفيد، لقد ذكره هذا الخبر بالوعد الذي قطعه على نفسه لخدمة الآخرين والانخراط في مهمة هي أسمى وأرقى من الجلوس في مكتب في أعلى برج، مما دفعه الى الاستقالة، ومراسلة جمعيات وشخصيات، غير انه لم يتلق ردا هذه المرة كذلك .
وبينما شعر اوباما باليأس وأصبح قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن مشروعه، تلقى مكالمة هاتفية من مارتي كوفمان، رئيسة منتدى ديني في شيكاغو وكانت تبحث عن توظيف منسق اجتماعي .
زار اوباما شيكاغو أول مرة برفقة جديه، لما كان في الحادي عشر وعاد اليها بعد 14 سنة وعمره 25 سنة .
كان دوره هو مساعدة كنائس ساوث سايد في تنظيم برامج تكوين لسكان الأحياء الفقيرة، التي عانت من غلق الوحدات الصناعية ومن التسريح، مقابل اجر سنوي يعادل 10 آلاف دولار و منحة 2000 دولار لشراء سيارة .
استهزأ أصدقاء اوباما من عرض الجمعية وسخر منه البعض، حتى ان حارس العمارة التي يقيم فيها نصحه بنسيان الجمعية والبحث عن عمل آخر يجلب له المزيد من المال «لا يمكن ان تساعد الناس الذين لا مستقبل لهم، ولن يرحبوا أبدا بمحاولتك» ... غير انه قبل الوظيفة .
وقع باراك اوباما في حب شيكاغو، فور زيارتها بالسيارة برفقة مارتي كوفمان من الساحل مرورا بالوحدات الصناعية المغلقة وطريق مارتن لوثر كينغ.. كما مكنته السنوات الثلاث التي قضاها فيها كمنسق اجتماعي، من معرفة ماذا يعني العمل العام . لقد لاحظ غياب خدمات البلدية، بما فيها الشرطة، الغائبة تماما عن الاحياء . فمواقف السيارات غير مهيأة والمدارس غير مدعومة والمحلات تنتهي كلها بغلق أبوابها. كان يستمع الى الناس وهم يسردون همومهم ومصاعبهم وأملهم في أن تتحسن الظروف وكانت مهمته تقوم على تقدير احتياجاتهم والتباحث معهم بخصوص الطرق الأمثل لتحسين وضعيتهم .
لم ينس باراك شهادات هؤلاء الأفراد الذين لم يأخذ احد قضيتهم مأخذ الجد، عندما انخرط في السياسة، وقال عنهم ذات مرة «لقد فقدوا الامل في ان يتمكن سياسي من حل مشاكلهم والاستجابة الى طلباتهم، فالانتخابات بالنسبة اليهم ليست سوى تذكرة لمهرجان».
لقد تمكن اوباما من خلال حواراته واحاديثه مع سكان الاحياء ذات الغالبية السوداء من فهم طريقة تفكيرهم وايضا فهمهم للتجربة الافرو اميريكية فمفاهيم «النقاء العرقي والاصل او الثقافة» لا يمكن ان تكون ابدا مصدر فخر الأميركي الأسود، فالاندماج بحسب اوباما يجب ان يتأتى من شيء آخر، أسمى من المورثات التي ورثناها .
دق باراك اوباما كل الابواب وحضر كل اجتماعات الأحياء في سراديب الكنائس وفي مطاعم المدارس وفي البنايات، عمل على تنظيف الأحياء وصيانة الحظائر، لقد كتب ان السياسيين المحليين يعرفون اسمه، غير انه تيقن من أن استمراره كمنسق اجتماعي لعشرين سنة أخرى لن يحول دون مواجهة العراقيل ذاتها .
لكن باراك اوباما وعد بالعودة الى شيكاغو بعد الحصول على شهادة الحقوق من جامعة هارفارد .
أول زيارة لكينيا
قررت أوما الاخت غير الشقيقة لاوباما زيارته في شيكاغو عام 1987، تبادل الاخوان تجاربهما الحياتية طيلة الوقت الذي قضياه معا وسألته أن كانت تستطيع الانتقال الى المانيا والتكيف مع الغربة، ان غادرت مع صديقها الالماني اوتو للاستقرار في بلاده ؟
كانت تسأله «وانت باراك أتواجه مشكلة الغربة هذه ام ان اختك مضطربة فقط ؟
لقد أسر اوباما لأخته بأنه كان يخرج طيلة عام كامل مع فتاة بيضاء وان علاقتهما شابها الفتور شيئا فشيئا لما أدركا بأنهما يتحدران من عالمين مختلفين . ففي يوم من الايام دعا اوباما صديقته البيضاء الى حضور مسرحية ابطالها سود . كانت المسرحية تعبر عن غضب هذه الفئة من الاوضاع السيئة التي يغرقون فيها في الولايات المتحدة الاميركية، مما اثار تعاطف الحاضرين وكانوا جميعهم من السود المنحدرين من افريقيا .
لم يرق الامر لصديقة اوباما التي بدأت فور انتهاء المسرحية بالحديث عن السود والتساؤل عن سبب غضبهم، مما دفعه الى اجابتها «انها طريقتهم في التصدي وعدم النسيان، فلا احد طلب على سبيل المثال من اليهود نسيان الهولوكوست».
تشاجر الاثنان طويلا امام المسرح ولما صعدا السيارة، بدأت بالبكاء «لم تكن تستطيع ان تكون سوداء ولن تكون ان استطاعت، غير انها لا تستطيع، لا تستطيع الا ان تكون هي نفسها ولم يكن هذا كافيا على الاطلاق».
ذات مساء روت اوما لباراك قصة والدهما، لقد ولدت هي وشقيقها راي قبل ان يسافر والدهما الى هاواي عام 1959، وكانا يعيشان مع والدتهما في كوغيلو ولما رجع من الولايات المتحدة الاميركية، كان برفقة سيدة بيضاء جديدة تدعى روث .
وبعد ان اشتغل لفائدة وزارة السياحة لفترة، تشاجر مع الرئيس جومو كينياتا بسبب التوترات التي برزت بين كيكيو الاثنية المسيطرة في كينيا واثنية لو التي ينتمي اليها اوباما .
لقد اغلقت جميع ابواب الوزارة امام باراك الاب لينهار نفسيا ويغرق في شرب الخمر بعد ان عين في منصب اخر، مما افقده أي شعور تجاه زوجته واولاده وهنا اتضحت الامور بالنسبة لباراك، الذي ارقه لغز والده مدة طويلة .
بعد اشهر، قرر باراك زيارة كينيا لاول مرة في حياته وهناك تملّكه شعور غريب له علاقة وطيدة بالحرية الجسمانية «شعرك ينمو هنا مثلما هو ينتظر ان ينمو، وهنا الجميع سود وما عليك سوى ان تكون انت».
قضى بارك غالبية اجازته في كينيا مع أخته غير الشقيقة، حيث تعرف على الوضعية الداخلية للبلاد وذات يوم وبينما كان ينتظر برفقتها في مطعم كيني، فوجئت أوما بتجاهل النادل لها ولأخيها واسراعه لخدمة سياح بيض، مما دفعها الى رمي وجهه بوابل من النقود وهي تصرخ «استطيع ان ادفع ايضا وجبتي».
اتهم باراك اخته اوما بالقسوة، مشيرا الى ان الامر نفسه يحدث في مدن الجنوب الكبرى من جاكارتا الى مكسيكو .
لقد توصل باراك خلال اجازته الى اقناع اخته غير الشقيقة بالذهاب الى رحلة سفاري، كانت رافضة للفكرة في البداية وقد ارتبطت السفاري في ذهنها بالاستعمار، غير انها وافقت، وهناك تساءل اوباما كثيرا عن الأسباب التي تحول دون استغلال هذه الاراضي في الفلاحة، والاحتفاظ بها غير مأهولة للسياح ؟
واما احدى عمات باراك فقد روت له بانها اول مرة شاهدت فيها التلفزيون ظنت بان الناس الذين يوجدون داخل هذه العلبة وقحون لانهم لم يكونوا يجيبونها لما تحدثهم .
كانت شهادة الدكتوراه التي نالها والده من جامعة هارفارد معلقة على احد جدران البيت العائلي في كوغيلو، واسفله كانت جدة اوما واسمها اوكتاجينار، جالسة تسترجع ذكريات تعود الى حقبة الاستعمار البريطاني .
(يتبع)
الحلقة الثالثة: 17 دقيقة نقلت أوباما إلى عالم السياسيين الكبار
كتاب «أميركا باراك أوباما» (1)
الشعور باللاعدل وباللامساواة بدأ من جاكرتا الآخرون نظروا إلى أوباما كـ«أسود» ..لا خلاسي
• بارا ك الطفل مع والدته
كتاب «أميركا باراك اوباما»
تأليف: فرانسوا دوربار
واوليفيي ريشوم
ترجمة: سليمة لبال
لمع نجمه بسرعة في عالم السياسة الأميركية، ليصبح وهو محام شاب، السيناتور الأسود الخامس في تاريخ مجلس الشيوخ الأميركي، والسيناتور الوحيد في المجلس الحالي، ثم أول مرشح أسود للانتخابات الرئاسية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
نجح في ازاحة هيلاري كلينتون وهي السيناتورة البيضاء وزوجة رئيس سابق، من تصفيات الحزب الديموقراطي، وها هو يتقدم شيئا فشيئا نحو البيت الأبيض، في منافسة حامية الوطيس مع الجمهوري جون ماكين.
يصفه البعض بكيندي الجديد وبالحلم الأميركي، الذي سينقل أميركا من مجتمع أبيض وأسود الى مجتمع خلاسي، باختصار لقد أصبح رمزا للأقليات، التي تبحث عن الانتصار لعرقها في كل العالم.
انه باراك أوباما، هذا الأميركي ــ الأفريقي الأصل، الذي نجح في تصدر استطلاعات الرأي امام هيلاري، ونجح ايضا في اذابة الجليد بين البيض والسود، من أجل ان تنعم اميركا بالوحدة والتضامن.يتساءل الجميع كيف نجح هذا الأربعيني في سرقة الأضواء؟ وكيف تمكن من التعايش صبيا مع ثقافة أمه الأميركية وموروث والده الكيني وحياة زوج والدته الاندونيسي؟ ثم كيف رفع التحدي وانخرط في السياسة بفضل دعم زوجته ميشال، هذه المرأة التي وقفت الى جانبه، مثلما كانت والدته الى صفه دوماً؟
هي اسئلة تجدون الاجابات عنها في هذا الكتاب الذي تنشر «القبس» ترجمته، في انتظار ان تجيب الانتخابات الرئاسية الأميركية عن السؤال الأهم، والذي يشغل كل العالم: من سيكون على رأس الولايات المتحدة الأميركية؟
عنون باراك اوباما الفصل الأول من سـيرته الذاتية التي نشـــرها عام 1995 بـ «أصول». انه مصطلح يمكن أن نقرأه بطرق شتى، ذلك أن تفرع شجرة عائلته وتعقدها تجعلان منه شخصا فريدا من نوعه، غير أن البعض يرون ان هذه الأصول تحول دون بناء مستقبل سياسي زاهر، خصوصا لدى الناخبين المحافظين.
واذا ما كان جون كينيدي قد واجه صعوبات جمة ليتقبله الأميركيون، لأنه كاثوليكي في أميركا ذات الغالبية البروتستانتية، فماذا سيقول اوباما ؟اوباما المنحدر من عائلة، الجد فيها والاب و الاخ مسلمون والاخت وزوج الام اندونيسيان.. الخ ؟
ويمكن ان نقرأ مصطلح «اصول» بطريقة اخرى، فالطموح الى منصب رئيس اكبر قوة في العالم، لا يمكن ان يكون نتيجة صدفة . فهذه الابتسامة الصريحة وهذه الرقة البادية على وجهه، تدعونا الى التساؤل عما يقف وراء الارادة الكبيرة التي يتمتع بها اوباما ؟
كيني – إيرلندي
ولد باراك حسين اوباما في 4 اغسطس 1961 في هونولولو في هاواي، كان والداه آنذاك طالبين شابين، فوالده ينحدر من اثنية كينية تدعى «لو»، بينما والدته آن دانهام من اصول ايرلندية .
لقد انفصل والدا باراك عن بعضهما وعمره لم يكن قد تجاوز السنتين، ووالده لم يره الا عند بلوغه سن العاشرة، قبل ان يموت عام 1982، في حين تزوجت والدته للمرة الثانية بطالب اندونيسي، مما دفع العائلة الى الاستقرار في جاكرتا، حيث ولدت مايا، الاخت غير الشقيقة لباراك.
مدرسة .. إسلامية
من الطبيعي عند كتابة أي سيرة ذاتية ان نبدأ بالحديث عن المولد ثم الشباب لنغوص بعدها في كرونولوجيا مسار الفرد، الذي نريد ان نفهمه ونكتشفه، الا ان هناك مبررا اخر في حالة اوباما، ذلك ان نقاشات سياسية كبيرة تتناول لغاية الساعة المسائل المتعلقة باصوله، وعلى الخصوص الاثنية والدينية منها.
لقد كُتب على الموقع الالكتروني لمجلة «انسايت» المحافظة، ان باراك اوباما تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة اسلامية في اندونيسيا، وما ان بث الخبر على شبكة الانترنت، حتى تلقفته وسائل اعلامية اخرى، من بينها القناة الاخبارية «فوكس نيوز»، مما دفع مدير المدرسة المعنية، الى تكذيب الخبر قائلا»غالبية تلاميذنا مسلمون، غير اننا نستقبل مسيحيين أيضا ونرحب بالجميع عندنا».
وأخرى كاثوليكية
غير ان باراك درس ايضا في مدرسة كاثوليكية خاصة تدعى «سانت فرانسوا داسيس»، ولما سئل عن تردده على مدرسة حكومية اندونيسية اجاب «ترددي على مدرسة حكومية اندونيسية وعمري 7 و8 سنوات، لن يدفعني الى مواجهة ازمة مع الشعب الاميركي».
تركّز وسائل الاعلام على شخصيتين كان لهما بالغ التأثير على الصغير باري هما والده والموروث الافريقي الذي ورثه عنه، ووالدته التي تمثل الشخصية المحورية، التي دعمته طول الوقت وغذته بمختلف القيم والمبادئ، هي المرأة التي لم تتوقف يوما عن تقديره وتشجيعه، في الوقت الذي كان فيه اوباما غير واثق من قدراته .
جد شاعر
تنحدر آن دانهام من ويشيتا وهي مدينة صغيرة في ولاية كنساس، غير ان والديها رحلا الى هاواي بحثا عن حياة افضل . كان والدها مدير محل اثاث، ينظم الشعر ويستمع كثيرا الى موسيقى الجاز، وكان حلمه ان يرزق بولد، مما دفعه لان يطلق اسم ستانلي وهو اسم ولد، على ابنته الكبرى، ليضيف لها فيما بعد اسم «ان».
واما زوجته فكانت موظفة في بنك محلي، وكانت سيدة براغماتية وعنيدة .
التقت ان دانهام الطالب الكيني باراك اوباما، تزوجا بسرعة، ورزقا بباراك الابن. غير ان الحياة لم تستمر بينهما طويلا، لترتبط ثانية بـلولو سويتورو وهو طالب اندونيسي رافقته الى بلاده، بعد ان دعا الرئيس سوهارتو مواطنيه للعودة الى الوطن .
لم تكن لان غير صديقة واحدة في اندونيسيا هي الكاتبة جوليا سوراكوسوما، المعروفة بمعارضتها للاسلاميين .
تقول جوليا في حوار أجرته معها «صانداي تايمز» آن امرأة تقدمية، تعلمت بسرعة اللغة الاندونيسية، غير ان لولو تغير كثيرا لدى عودته الى اندونيسيا، فالرجال الشرقيون تشدهم ثقافتهم الأصلية، مما اجبر آن على الانفصال عن زوجها للمرة الثانية .
وتتذكر جوليا آن دانهام كانت تنادي ابنها باري، وبحميمية اندونيسية أردفت قائلة «لقد كنا كلانا والدتان، وكنا نتحدث عن المصاعب التي تواجه أي سيدة عندما تنفصل عن ابنها أو ترسله بعيدا، غير أن آن كانت متخوفة جدا ومنشغلة بمسار باري الدراسي ... انا اتفهم تفتح باراك على الاخرين مثل والدته، ذلك انه ولد لأم بيضاء واب اسود ونشأ في اندونيسيا».
شخصية الأب
لقد كتب اوباما بانه كبر ولغز والده لا يفارقه اطلاقا، هي شخصية لم يعرفها الا من خلال القصص التي ترويها والدته او جديه لوالدته، ويروون بان باراك الاب كان طويلا وجميلا وعاقلا وكان يتكلم بصوت جهوري وبلكنة بريطانية، كما كان راقصا وانيقا وذا شخصية قوية جدا .
إلى هارفارد
اصبح باراك اوباما الاب عام 1959 وعمره 23 سنة، اول طالب افريقي في جامعة هاواي . وهناك تعرف على ستانلي ان دانهام، كان طالبا لامعا، مما مكنه من الحصول على شهادة في الاقتصاد في ظرف ثلاث سنوات فقط. غادر الجامعة عام 1962، أي سنة واحدة بعد ميلاد ابنه . فضل باراك الاب الانتقال الى هارفارد على الرغم من حصوله على منحة دراسية من نيو سكول في نيويورك، ظنا منه بان البرستيج الذي ستضيفه هذه الجامعة الى بيان سيرته الذاتية سيساعده في التموقع جيدا لدى عودته الى بلاده كينيا، حيث ينتظره منصب حكومي مرموق .
خمسة إخوة
غادر باراك الاب الى بوسطن بمفرده واتفق مع آن على عودة عائلتهما الى كينيا فور الانتهاء من مشواره الدراسي، غير ان ما جرى كان مختلفا تماما، فباراك الاب عاد بمفرده الى كينيا حيث اصبح شخصية اقتصادية معروفة في الادارة الجديدة للدولة، وهناك تزوج ثانية ورزق بخمسة اطفال، اربعة ذكور وبنت هم اخوة باراك الابن غير الاشقاء وعائلته الافريقية .
في جاكارتا
عاش باري ما بين عامي 1967 و1971 في اندونيسيا، في أحضان زوج والدته المسلم، الذي علمه كيف يكون الرجل وكيف يختار اكله وكل هذا يعكس تنوع هوية باري. ومع حيث تعلم من «لولو» اكل الفل الاخضر، كما يتذكر اليوم قساوة لـحم الكــلاب والثعابـيـــن والجراد المحمص.
باري يتذكر أيضا اليوم وعد «لولو» بان يجلب له نمرا للعشاء... لم يكن باري يتناول الأكلات السريعة أثناء طفولته في اندونيسيا... وأما في هاواي فأصبح يتناول أكلة البوك وهي اكلة شعبية في هاواي وكذلك لحم الخنزير المغلف بأوراق الموز واكلة لولو المفضله وهي خليط من اللحم والخضر المطهوة على بخار الماء.
ويتذكر اوباما المناظر الطبيعية في اندونيسيا وليالي وشوارع جاكرتا المكتظة بالدراجات الهوائية وبيتهم لما غمرته المياه، خلال فصل الأمطار .
شعور باللاعدل
لم تكن الحياة العائلية سهلة بالنسبة لاوباما، الذي شعر منذ طفولته باللاعدل واللامساواة بين الفقراء والاغنياء، فان لولو يملك من المال، ما يمكنه من ابتعاث باري الى الانترناشيونال سكول، حيث كان أولاد الأجانب في جاكارتا يزاولون دراستهم.
الايقاظ المبكر
كانت والدة اوباما توقظه خمس مرات في الأسبوع في حدود الساعة الرابعة صباحا حتى تعطيه دروسا طيلة ثلاث ساعات، قبيل توجهه إلى المدرسة وتوجهها إلى مقر عملها. يقول اوباما بانه كان يستيقظ متعبا وعيناه تغفوان كل خمس دقائق، غير أن الأمر لم يكن أبدا مزحة بالنسبة لوالدته التي كانت تود ان يتلقى أرقى تعليم .
سعى لولو لان يعرف باراك على أصدقائه وأقاربه حتى يندمج في المجتمع الاندونيسي ولا يشعر بالانعزال وكانت يقدمه بصفته والده، غير أن باري فضل دوما الإبقاء على مسافة معينة بينه وبين زوج والدته.
قال باراك فيما بعد أن المسافة هذه كانت تعني ثقة رجل، فلولو لم يعلمه فقط كيف يغير عجلة السيارة وإنما علمه أيضا كيف يدير مشاعره وكيف يدافع عن نفسه.
ذات مرة سال لولو، باري عن سبب انتفاخ أصاب رأسه، فأجابه بان الأمر يعود إلى شجار دفعه إليه ولد يفوقه سنا قبل رجوعه إلى البيت.تصوروا ما ذا كان رد لولو ؟
ملاكمة.. وتسامح
جلب لولو إلى باري في اليوم التالي زوجا من قفازات الملاكمة ودربه على توجيه لكمات على صدره حتى تعود على استخدام يديه في الدفاع عن نفسه .هذه الطفولة غير العادية، علمت اوباما التسامح، حسبما صرح به سنوات فيما بعد.
لقد فهم باراك الطفل بان العالم الذي يعيش فيه قائم على توازنات حساسة جدا، كما لاحظ التوتر الذي بدا يطفو على الساحة بين والدته ولولو، باراك الطفل فهم أيضا بان حياته في اندونيسيا ليست سوى مرحلة فقط .
لقد شجعت آن ابنها على التأقلم سريعا مع المجتمع الاندونيسي، مما جعل منه ولدا مستقلا غير متطلب ومتحصن بسلوكيات ومبادئ راقية مقارنة بالأطفال الاميركيين.
إلى هاواي
أرسل باري وعمره عشر سنوات إلى هاواي ليكمل دراسته في كفالة جديه لوالدته، فادخل إلى مدرسة بوناهو، حيث كان أولاد العائلة المالكة في هاواي سابقا يزاولون دراستهم. كبر باري مثل أي ولد من أبناء هاواي، وتعلم الصيد والسباحة في المياه الزرقاء.
وعلى الرغم من ذلك بدات حياة باراك بكابوس لعين، فاوباما لم يكن ينظر له كولد خلاسي من ام بيضاء واب اسود وانما كاسود.
رحبت المدرسة وكانت تدعى السيدة هفتي باوباما في اول يوم التحق فيه بالمدرسة، غير ان الولد لم يتوقف عن الحركة مثل قرد مشاغب، مما دفع التلاميذ الى الضحك باستمرار في القسم .
ولدان أسودان
سخر الاولاد من اوباما كثيرا، فساله احدهم ان كان والده وحشا فيما تجرأ زميل آخر على لمس شعره الاجعد، ولم تكن في المدرسة غير تلميذة سوداء أخرى اسمها كوريتا، وكانت من دون اصدقاء.
تفادى الولدان أي لقاء بينهما منذ اول نظرة، وكانا يلاحظان بعضهما عن بعد، غير انهما انتهيا الى اللعب مع بعض خلال اول استراحة تتم بين ساعات الدراسة، مما دفع مجموعة من الاولاد الى السخرية منهما وتوجيه اصابعهم الى اوباما وهم يصرخون «لكوريتا صديق «لكوريتا صديق».
دافع باري عن نفسه قائلا «ليست صديقتي» ونظر في عيني كوريتا حتى تؤكد ما يقول، غير انها بقيت ساكنة لفترة ثم قالت «لست صديقته».
انتهى باراك بالصراخ «اتركوني وشاني» واتضح له فيما بعد أن هذه الحادثة هي أولى الحوادث التي سيتعرض لها بسبب هويته وأصوله الأفريقية .
كان باري يقضي معظم وقته عند جديه وكان ينادي جدته «توت» وتعني بلغة هاواي جدتي فيما كان ينادي جده «غرامبس»، تمكن الروتين من قلبه الصغير، لكنه فرح كثيرا حينما علم بان والديه قررا زيارته بمناسبة احتفالات أعياد الميلاد عام 1971.
صورة الاب الناقصة
قرر والد باراك قضاء شهر كامل برفقة ابنه، غير أن زيارته بدأت بصمت طويل، فباراك الابن لم ير في والده الذي أصيب في حادث سيارة، ذلك الرجل القوي، الذي حدثوه عنه، لقد كان رجلا باردا ومتسلطا، يأمره بإطفاء التلفزيون كل مرة لانجاز واجباته المنزلية .
انتاب باراك الصغير قلقا كبيرا، لما أخبرته والدته بان المعلمة هيتفي، دعت والده الى المدرسة لتحدث عن بلاده، ذلك انه اخبر زملاءه بان جده رئيس قبيلة وهو بمنزلة ملك ووالده أمير وانه هو من سيقود قبيلة لو في وقت لاحق.
خطوات الرقص الأفريقي
كان باراك الابن يشك في أن يكتشف زملاؤه الحقيقة في يوم ما، غير أن المعلمة قالت له لما انتهى والده من الحديث «حقيقة والدك رائع جدا «فيما قال له احد الزملاء «والدك مرح وبسيط «. كان هذا الزميل هو من سال باراك يوما ما أن كان والده وحشا .
تقرب باراك من والده كثيرا في الأيام التي تلت ، فكانا يقران معا ويحضران عروض الموسيقى، وفي احتفالات أعياد الميلاد أهداه والده كرة سلة واسطوانتين للموسيقى الأفريقية، اشتراهما من كينيا، كما علمه خطوات الرقص الأفريقي .
يتذكر اوباما كل حركات والده وكل ما دار بينهما في تلك الأيام، لأنها كانت آخر مرة يراه فيها، بسبب وفاته في حادث سيارة عام 1982.
مبادئ التسامح والمساواة
غادر باري شقة جديه واستقر مع والدته، التي كانت تحضر شهادة ماجستير في الانثربولوجيا، وفي هذه الفترة بالذات لقنت آن، ابنها الكثير من القيم والمبادئ والحقوق المدنية كالتسامح والمساواة والكفاح من اجل الفقراء، غير أنها تفاجات برفضه، لما طلبت منه الرحيل معها ومع مايا الى اندونيسيا، وكانت حجته انه احب المدرسة وانه لا يريد تغييرها، غير ان السبب الحقيقي لذلك حسبما كشف عنه باراك فيما بعد هو التزامه بمعركة داخلية بينه وبين نفسه من اجل بناء هويته وذاته .
تساؤلات مبهمة
خلال دراسته في المرحلتين الثانوية والجامعية، كان باراك يقرا ويعيد قراءة رسائل والده في محاولة منه لإيجاد إجابات عن تساؤلات بقيت مبهمة. لم يجد باراك هذه الإجابات في الرسائل غير انه وجدها في هدية احتفالات أعياد الميلاد، لقد شغف بلعبة كرة السلة على خلاف كرة القدم وانضم في المرحلة الثانوية الى الفريق الاول كما كان يشارك في المقابلات في جامعة هاواي.
كما يبدو فان باراك بحث عن تعاطف زملائه في اللعب، وكانت غالبيتهم من السود، لقد قال فيما بعد بأنه وجد في هذه الرياضة الكثير من القيم التي ساعدته في حياته السياسية وعلى الخصوص عدم إظهار مشاعر الخوف والألم، حتى لا يراها الخصم. لقد تعرف باري أثناء ممارسته لكرة السلة على العديد من الشباب المراهقين السود، الذين رافقوا آباءهم للاستقرار بهاواي، غير أن اقرب صديق إلى نفسه،كان اسمه راي، ويكبره بسنتين.
كان هذا الرجل الشاب ذكيا وغريبا، ثوريا ومبعثرا، ومقربا جدا من اوباما، حيث كانا يستمتعان بالتنكيت على البيض ويعددان الشتائم والمواجهات التي تتم معهم.
(يتبع)
كتاب «أميركا باراك أوباما» ( 3 )
تدرج في عالم السياسة بدعم من ميشال 17 دقيقة نقلت أوباما إلى عالم السياسيين الكبار
• أوباما مع زوجتة ميشال وابنتيه
كتاب "أميركا باراك اوباما"
تأليف: فرانسوا دوربار
واوليفيي ريشوم
ترجمة: سليمه لبال
لمع نجمه بسرعة في عالم السياسة الأميركية، ليصبح وهو محام شاب، السيناتور الأسود الخامس في تاريخ مجلس الشيوخ الأميركي، والسيناتور الوحيد في المجلس الحالي، ثم أول مرشح أسود للانتخابات الرئاسية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
نجح في ازاحة هيلاري كلينتون وهي السيناتورة البيضاء وزوجة رئيس سابق، من تصفيات الحزب الديموقراطي، وها هو يتقدم شيئا فشيئا نحو البيت الأبيض، في منافسة حامية الوطيس مع الجمهوري جون ماكين.
يصفه البعض بكيندي الجديد وبالحلم الأميركي، الذي سينقل أميركا من مجتمع أبيض وأسود الى مجتمع خلاسي، باختصار لقد أصبح رمزا للأقليات، التي تبحث عن الانتصار لعرقها في كل العالم.
انه باراك أوباما، هذا الأميركي ــ الأفريقي الأصل، الذي نجح في تصدر استطلاعات الرأي امام هيلاري، ونجح ايضا في اذابة الجليد بين البيض والسود، من أجل ان تنعم اميركا بالوحدة والتضامن.يتساءل الجميع كيف نجح هذا الأربعيني في سرقة الأضواء؟ وكيف تمكن من التعايش صبيا مع ثقافة أمه الأميركية وموروث والده الكيني وحياة زوج والدته الاندونيسي؟ ثم كيف رفع التحدي وانخرط في السياسة بفضل دعم زوجته ميشال، هذه المرأة التي وقفت الى جانبه، مثلما كانت والدته الى صفه دوماً؟
هي اسئلة تجدون الاجابات عنها في هذا الكتاب الذي تنشر «القبس» ترجمته، في انتظار ان تجيب الانتخابات الرئاسية الأميركية عن السؤال الأهم، والذي يشغل كل العالم: من سيكون على رأس الولايات المتحدة الأميركية؟
كان جد اوباما من الفئة التي تطبعت بطباع وسلوكيات البيض، فكان يرتدي البدلات ويتقن فن الحديث ويكتب الانكليزية، بينما ابنه، وهو والد باراك الابن، فقد عاش مهملا منذ كان عمره 9 سنوات، ولما بلغ سن المراهقة طُرد بسبب تمرده، وبسبب نضاله من اجل الاستقلال، دخل السجن.
بدأ باراك الأب فيما بعد بالتفكير في مستقبله، حيث انطلق في تحرير عشرات الرسائل في محاولة منه للانضمام الى واحدة من الجامعات الأميركية، ولم تسعه الفرحة وهو يتلقى رسالة القبول من جامعة هاواي........ أحس باراك وهو يستمع الى هذه القصص لأول مرة، بوالده، كما فهم لأول مرة اليأس الذي كان يحيط به... لتغمر الدموع عينيه وفي ثوان أجهش بالبكاء من اجل ذكرى والده .
قانوني ملتزم
قرر اوباما عام 1988 التوقف عن العمل في شيكاغو والتوجه لدراسة الحقوق في كلية الحقوق التابعة لجامعة هارفارد، لقد اختار جامعة هارفارد، التي اختارها والده ذات مرة ونال منها الشهادة مع التقدير، ليعين في فبراير 1990 رئيسا لمجلة الحقوق التي تصدرها جامعة هارفارد.
لقد كان اوباما أول اسود يتبوأ هذا المنصب منذ انشاء المجلة قبل 140 سنة، وتشجيعا لمواهبه وقدراته، وهو دكتور ثلاثيني، تهاطلت عليه الاعلانات من مختلف الناشرين في نيويورك، فيما اختاره أستاذ القانون الدستوري لورانس تريب، الذي دافع عن ألغور ضد جورج بوش أمام المحكمة العليا خلال انتخابات 2000، ليكون مساعدا في البحث.
كان الأستاذ لورانس تريب يشعر بان اوباما هو واحد من بين أحسن طالبين درسهما طيلة 37 سنة، زاول خلالها مهنة التدريس.
كان يمكن لاوباما لدى عودته الى شيكاغو، أن يختار مزاولة مهنة المحاماة في مكتب محام كبير مثلما يفعل غالبية المتخرجين، غير انه رفض جميع عروض العمل التي قدمت له للالتحاق بمكاتب محاماة معروفة.
بالموازاة مع ذلك، اتجه اوباما بين سنتي 1993 و2004 الى تدريس القانون الدستوري كأستاذ محاضر في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو، غير انه لم يكتف بتدريس المضمون العلمي للطلبة فقط وانما حاول ان ينقل اليهم فلسفته.
أول لقاء مع ميشال
التقى باراك اوباما، ميشال روبنسون في صيف 1989، وذلك في مكتب محاماة كانت تشتغل فيه، لقد غير هذا اللقاء حياته جذريا. كانت ميشال امرأة طويلة وصريحة، نشأت في عائلة بسيطة، تعيش في شيكاغو.
لقد لاحظت ميشال العديد من الفروق بينها وبين باراك، حيث تقول «كان يملك هذا الخليط، هذه الطفولة العالمية، بينما قدمت أنا من شيكاغو وفقط»، غير أنها كانت تركز دوما على نقطة مشتركة بينهما، وذلك في قولها: «في الحقيقة كلانا من الغرب الأوسط للولايات المتحدة الأميركية، وبعيدا عما يظهر فاوباما يشعر في دواخله بالانتماء الى كنساس، ذلك أن جديه لامه من هذه الولاية، وأيضا لان عائلتينا متفاهمتان جدا».
لم يلتق باراك بميشال من قبل، غير أن كلاهما درسا الحقوق في هارفارد ويتقاسمان الرؤية نفسها. لم تهتم ميشال مثل باراك بقانون المؤسسات، غير أنها رفضت مثله كل العروض التي قدمت لها للالتحاق بمكاتب محاماة كبيرة، مفضلة بذلك الخدمة العمومية، لتصبح بعد فترة نائب رئيس مستشفى كبير في شيكاغو.
الطفلة السوداء
ولدت ميشال عام 1964 وتصف نفسها بطفلة سوداء مثلها مثل غيرها من الفتيات السود اللواتي نشأن في بيئة لا تملك الكثير من المال.
لقد كان الذهاب الى السيرك، حدث السنة بالنسبة لها، مثلما كان تناول البيتزا مساء الجمعة، يعني لها الفخامة كلها، ذلك أن والدها لم يكن سوى موظف بسيط، حيوي، ومثقف، وتقول بشأنه ميشال «لو كان والدي رجلا ابيض، لعين مدير مصرف، غير انه لم يكن كذلك».
اما نتائجها الدراسية فقد كانت ممتازة في المرحلة الثانوية، لتبدأ بعدها دراساتها الجامعية في جامعة برنستون، حيث كان أخوها نجم البيسبول ورابع هداف في تاريخ الجامعة كلها.
أن تكون اسود وفقيرا في جامعة راقية، يعني أن شخصيتك ستقوى مثلما يجب، تقول ميشال «كان الكثيرون ينتظرون أبناءهم وأقاربهم في سيارات ليموزين نهاية السنة، بينما كنت امشي برفقة أخي الى غاية محطة المترو، حتى نتمكن من الوصول الى البيت، غير أن هذا الأمر مكنني من تقوية شخصيتي ومن اصراري على النجاح هنا، كنت اعرف العديد من الشباب الذين يدرسون في مدارس راقية، غير أنهم لم يكونوا أفضل مني في الجانب الدراسي».
شخصيتان متشابهتان
باراك وميشال متشابهان وأما شخصيتاهما فمتكاملتان، غير أنها نقلت فكرها البراغماتي إلى اوباما. لما قدم باراك ميشال إلى جديه، همست جدته في أذنه «إنها الفتاة التي تليق لباراك بشموخ رأسها وطول قامتها».
ذهب العاشقان إلى كينيا بعد أن أقاما حفلة الخطوبة، وهناك استقبلتها عائلته الإفريقية بحفاوة لا نظير لها، ويمكن أن يعود الأمر إلى معرفتها للكثير من كلمات قبيلة لو مقارنة بباراك.
لقد واجه باراك وميشال الكثير من المصاعب والظروف السيئة التي كادت تحول دون زواجهما، كوفاة ابن عم باراك ثم أخيه فوالد ميشال، وعلى الرغم من ذلك عقدا العزم على إتمام مراسيم الزواج.
زواج وطفلتان
تزوج باراك وميشال عام 1992، ورزقا بطفلتين الأولى ماليا وولدت عام 1999، وأما الثانية فقد ولدت عام 2001 وأطلقا عليها اسم ساشا .لقد أصبحت عائلة اوباما في خضم سنوات قليلة جدا، نموذج العائلة الأميركية السوداء، الذي ينبغي أن يحتذى، إلى درجة أن اثر النجاح العائلي لاوباما، ايجابيا على حملته الانتخابية كمرشح لرئاسيات 2008. وأما في أوساط السود، فلقد سر خبر اختيار باراك لزوجة سوداء، العديد من النساء السود على الرغم من النجاح الزوجي الذي حققه السود المرتبطون بنساء بيض ،ذلك أن المتعارف عليه في كثير من الأحيان، هو ارتباط الأسود الناجح ببيضاء أو بسيدة اقل سمرة. لم يكن الأمر سهلا بالنسبة للزوجين اوباما، فميشال عانت كثيرا للتوفيق بين عملها وتربيتها لطفلتين، لقد ذهبت لإجراء مقابلة شخصية للفوز بمنصب نائب مدير مستشفى شيكاغو وهي تجر عربة ابنتها الثانية ساشا، وكان من حسن حظها ان نامت الطفلة ولم تستيقظ طيلة المقابلة ،ما مكنها من الفوز بالمنصب الذي كانت مهتمة به.
لم يكن باراك قد اندمج في أي عمل سياسي لما وقع في حب ميشال ،غير أنها كانت تعي جيدا حجم النتائج التي سيترتب عليها التزام زوجها سياسيا وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها وهي أم لطفلتين .
تقول والدتها: «لقد عملت ميشال بحدة حتى بلغت هذة المرحلة ،و أنا حزينة بعض الشيء من أجلها».
فضل ميشال
لقد قبلت ميشال أن ينخرط زوجها في السياسة، عكس العديد من النساء اللواتي فضلن خيارات أخرى، فكولن باول الذي كان يتصدر استطلاعات الرأي عام1996، رفض الترشح لمنصب رئيس على الرغم من إمكاناته التي كانت ستمنحه المنصب ليصبح أول رئيس اسود للولايات المتحدة الأميركية، غير أن زوجته ألما رفضت ترشحه وحجتها خوفها من تعرضه لعملية اغتيال.
يدرك اوباما بان الفضل يعود لميشال التي قبلت أن يستجيب إلى طموحه السياسي، الذي لم يحضر له أبدا، لقد أجابت ميشال لما سألها احد الصحافيين ماذا يعني أن تكون امرأة زوجة لرجل سياسي: «هذا أمر صعب وقاس»، مضيفة وقد ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها: «لهذا السبب باراك رجل يقر بالجميل».
بين العائلة والسياسة
لم يخف باراك من جهة أخرى وجود توتر داخل بيته الزوجي، حينما أعلن ترشحه للرئاسة تحت مظلة الحزب الديموقراطي: «لا أظن باني غيرت رأيها، غير أني أظن بأنها بدأت بالاعتراف بقيمة الرسالة التي احملها، واجزم بان الأمر الذي ساعدني على تخفيف التوتر بيننا هو استماعي الجيد لميشال وتأكدها من فهمي لها وعدم تجاهلي لشكاويها الشرعية».
الأكيد هو أن لا احد منهما يدرك إذا ما كانت كل هذه التضحيات ستؤتي أكلها أو ستكلل بفائدة يوما ما.
أولى الدرجات في عالم السياسة 1996 ــ 2004
كان باراك وعمره 35 سنة متعطشا لتغيير الكثير من الأوضاع، وحانت الفرصة بالنسبة له، حينما أعلن شغور مقعد في مجلس ولاية الينوي.
حرص باراك قبيل بدء حملته الانتخابية، على وضع النقاط على الحروف مع ميشال، التي كانت غير موافقة على انخراطه في السياسية.
لقد صرحت بعد فترة في حوار صحفي قائلة:«لقد قلت له آنذاك ،لقد ارتبطت بك لأنك وسيم وذكي، غير انه الشيء المجنون الوحيد، الذي تطلبه مني».
كان باراك يدرك تماما بأن التضحيات المرتبطة بحياته السياسية، سيتقاسمها أفراد عائلته، ذلك أن حياته اليومية كانت مثقلة بالأعباء، ويضاف إلى ذلك أعباء الأسرة المادية فعائلة اوباما أجبرت على طلب قرض عقاري ثان من اجل الشقة واستكمال تكاليف الحملة الانتخابية.
أطلق باراك حملته الانتخابية بدعم قوي من زوجته ميشال وأصدقائه وزملائه في الجامعة، وفي المقاطعة التي اشتغل بها منسقا اجتماعيا قبل عشر سنوات، وخلال بضعة أسابيع، تمكن من التعرف على كل التجار وزار كل الكنائس وكل قاعات الحلاقة.
أثمر هذا العمل الميداني انتخاب اوباما سيناتورا في مجلس إلينوي. نحن الآن في عام 1996، العام الذي بدأ فيه مشواره السياسي.
الانطلاقة في مجلس إلينوي
فاز باراك اوباما بمقعد في سبرينغفيلد، ولم يكن يملك أي تجربة سياسية. كان رجلا تقدميا في مجلس يضم غالبية محافظة، غير انه فهم بسرعة بان السياسة هي الاتصال وليست الهجوم من الخلف.
لم يثق أعضاء المجلس بباراك منذ أول لقاء، مثلما يوضح مقال نشره في «ذو نيويوركر» سيناتور جمهوري أصبح صديقا له، ويدعى كيرك دابلو ديلارد، حيث قال «الكثيرون كانوا متحفظين ومترددين قبالة جماله وذكائه، وقدرته أيضا على تدوير الجمل والكلمات. لقد أثار انتباه جميع أعضاء المجلس، ذلك انه كان أستاذ القانون الدستوري ومتخرجا من هارفرد».
لم يستمر الأمر على هذا النحو، ذلك أن اوباما اقنع أعضاء المجلس بقوة عمله وشهامته، وتمكن بنجاح من تعديل مشاريع القوانين التي تقدم بها الجمهوريون، وعلى الخصوص ما يتعلق منها بتمكين العائلات الضعيفة الدخل من حق الملكية. شهد الوضع تسارعا كبيرا، بعد ان اخذ الديموقراطيون زمام مراقبة المجلس في يناير 2003، حيث عين اوباما رئيسا للجنة الصحة العمومية والخدمات الاجتماعية، وتمكن خلال السنة الأولى من تمرير 26 مشروع قانون، منها توسيع التغطية الصحية لتشمل المعوزين، واجبار وكالات التأمين الصحي على تعويض فحص الثدي، واقامة برنامج لتربية الأولاد الصغار...الخ.
اقنع باراك اوباما ممثلي الشركة بأهمية تسجيلات الفيديو في ادانة المذنبين، وأيضا في انقاذ الأبرياء من التهم المنسوبة اليهم، وهكذا تمت المصادقة على مشروع القانون عام 2003، لتصبح الينوي أول ولاية أميركية تجبر الشرطة على تسجيل استجواباتها للأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم كبيرة عن طريق الفيديو.
17 دقيقة من أجل أن يصنع اسماً له
كان باراك اوباما يدرك جيدا ان الانتقال من مجرد رجل سياسة محلي الى رجل سياسة وطني يمر حتما عبر شبكات الضغط والتأثير المتمركزة في العاصمة واشنطن. لقد دعاه ذات مرة فرنون جوردن، وكان عضو الفريق الانتقالي للرئيس بيل كلينتون عقب انتخابه عام 1992، الى بيته بمناسبة عملية جمع أموال، وهناك بدأ يتعرف على الأوساط التي بامكانه أن يستغلها كلوبي مؤيد له ولأفكاره.
التقى باراك اوباما خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي آنذاك بشخصية ساهمت كثيرا في تحديد مساره لاحقا. لقد انبهر جون كيري بالخطاب الذي ألقاه باراك بهذه المناسبة، فدعاه بعد أشهر الى التحدث أمام الديموقراطيين في بوسطن. كان يوم 27 يوليو 2004، يوما لا ينسى بالنسبة لباراك، الذي عرف كيف يستغل هذا التاريخ وينسلخ عن قوقعة الرجل السياسي المحلي الذي غلفته سابقا. لم يكن الأمر يتعلق بخطاب يوجه الى المندوبين مثلما اعتقد سابقا، وانما بخطاب برنامج نقلته على الهواء ثلاث شبكات بث، اضافة الى عدد من القنوات الملتقطة عن طريق الكيبل. ألقى باراك خطابه في 17 دقيقة، كان خطابا ألهب مندوبي الحزب، ذلك انه دافع ورافع لمصلحة الحلم الأميركي، حيث تطرق الى أصوله، ودعا الأميركيين جميعهم الى الوحدة، منددا في الوقت ذاته بسياسة التقسيم التي يقودها جورج بوش.
سيطرت فكرة التضامن على الجزء الثاني من خطاب اوباما، وكانت حجته أن أفراد العائلة الأميركية، مهما كانوا، يتقاسمون المسؤولية والأعباء فيما بينهم، ليعود في نهاية الخطاب الى الحديث عن نفسه، متطرقا الى آمال طفل نحيف يحمل اسما غريبا ويعتقد بان له مكانا أيضا في الولايات المتحدة الأميركية.
وصفت مجلة التايم الخطاب بأنه واحد من أحسن الخطابات، الأمر نفسه بالنسبة لناشيونال ريفيو المحافظة التي قالت «انه خطاب بسيط لكنه قوي» ويستحق «الاستقبال الحار» الذي لقيه.... وهكذا بين عشية وضحاها اكتشفت الولايات المتحدة الاميركية اسم اوباما في عالم السياسة.
كتاب «أميركا باراك أوباما» (4 )
هل سيقوده إلى دخول البيت الأبيض؟ الحظ قاد أوباما إلى مجلس الشيوخ
• أميركا باراك أوباما
كتاب "أميركا باراك اوباما"
تأليف: فرانسوا دوربار
واوليفيي ريشوم
ترجمة: سليمه لبال
لمع نجمه بسرعة في عالم السياسة الأميركية، ليصبح وهو محام شاب، السيناتور الأسود الخامس في تاريخ مجلس الشيوخ الأميركي، والسيناتور الوحيد في المجلس الحالي، ثم أول مرشح أسود للانتخابات الرئاسية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
نجح في ازاحة هيلاري كلينتون وهي السيناتورة البيضاء وزوجة رئيس سابق، من تصفيات الحزب الديموقراطي، وها هو يتقدم شيئا فشيئا نحو البيت الأبيض، في منافسة حامية الوطيس مع الجمهوري جون ماكين.
يصفه البعض بكيندي الجديد وبالحلم الأميركي، الذي سينقل أميركا من مجتمع أبيض وأسود الى مجتمع خلاسي، باختصار لقد أصبح رمزا للأقليات، التي تبحث عن الانتصار لعرقها في كل العالم.
انه باراك أوباما، هذا الأميركي ــ الأفريقي الأصل، الذي نجح في تصدر استطلاعات الرأي امام هيلاري، ونجح ايضا في اذابة الجليد بين البيض والسود، من أجل ان تنعم اميركا بالوحدة والتضامن.يتساءل الجميع كيف نجح هذا الأربعيني في سرقة الأضواء؟ وكيف تمكن من التعايش صبيا مع ثقافة أمه الأميركية وموروث والده الكيني وحياة زوج والدته الاندونيسي؟ ثم كيف رفع التحدي وانخرط في السياسة بفضل دعم زوجته ميشال، هذه المرأة التي وقفت الى جانبه، مثلما كانت والدته الى صفه دوماً؟
هي اسئلة تجدون الاجابات عنها في هذا الكتاب الذي تنشر «القبس» ترجمته، في انتظار ان تجيب الانتخابات الرئاسية الأميركية عن السؤال الأهم، والذي يشغل كل العالم: من سيكون على رأس الولايات المتحدة الأميركية؟
لقد حاول الشاب باراك اوباما الترشح على المستوى الوطني في عام 2000 ، ليكون عضوا في مجلس النواب غير انه خسر بعد أن حصد 30 في المائة من الأصوات فقط مقابل بوبي روش الذي حصد 61 في المائة من الأصوات.
سأل احد الصحافيين اوباما بعد الهزيمة إن كان قد توفي سياسيا بعد ما جرى له، فأجابه «لا احد كان سيصوت لفائدة مرشح يحمل اسم اوباما بعد أحداث 11 سبتمبر».
عاود اوباما الدخول إلى السباق بعد أن أعلن السيناتور الجمهوري بيتر فايتزجيرالد تقاعده في يناير 2003، وكان يبدو أن المرشحين الديموقراطيين أوفر حظا وكفاءة منه، فدان هينز يحوز على دعم الحزب الديموقراطي في الينوي وكذا النقابات المحلية، كما كان رجل الأعمال الثري بلير هول مستعدا لدفع 29 مليون دولار أميركي لتمويل حملته الانتخابية، فيما كان باراك اوباما معتمدا على أربعة موظفين فقط، يداومون في مكتب صغير.
حملة في المناطق الريفية
كان الخبراء السياسيون يرون بان نجاح اوباما في مقاطعته سيكون فقط في المناطق الريفية أو المدن الجنوبية التابعة للولاية، وبالفعل قاد حملته الانتخابية في المناطق الريفية في وسط وجنوب الولاية مستقطبا بذلك المزارعين.
اعتمد اوباما على الحظ من اجل النجاح أيضا، فشعبية الثري بلير هول الذي تصدر الاستطلاعات أسبوعا واحدا قبيل موعد الانتخابات، سرعان ما تلاشت بعد قضية تحرش جنسي، لتحل المفاجأة في 16 مارس 2004، بعد أن تصدر اوباما قائمة المرشحين الديموقراطيين بـ53 في المائة من الأصوات.
بدأت الحملة الانتخابية، ومعها بدأت تحركات الجمهوري جاك ريان، الذي طلب خدمات المستشار الإعلامي سكوت هويل وكلفه بمتابعة باراك اوباما عن طريق كاميرا.
انقلبت هذه الإستراتيجية العدائية ضد المرشح الجمهوري، بعد أن اكتشف باراك اوباما أن المصور سجل محادثات هاتفية خاصة بينه وبين زوجته وبناته، ليؤكد في ما بعد وخلال خطاباته بأنه ترشح من اجل مكافحة مثل هذه الممارسات، ما مكنه مرة أخرى من الاستفادة من الظروف الخارجية، ذلك أن ريان انسحب من السباق بتاريخ 25 أغسطس، خصوصا بعد أن كشفت الصحافة تفاصيل انفصاله عن الممثلة جيري ريان، التي اتهمت زوجها السابق بإرغامها على التردد على نوادٍ تتم فيها العملية الجنسية بصفة جماعية.
أُجبر الجمهوريون على اختيار بديل لريان بعد الفضيحة، ووقع الاختيار على آلان كيس، الذي لم يجد الوقت الكافي لتنظيم حملة انتخابية ولم يكن يفصل عن موعد الانتخابات سوى ثلاثة أشهر.
تصريحات آلان كيس هي الأخرى قللت من شعبيته في أوساط ناخبي الينوي خصوصا عندما قال بان ابنة نائب الرئيس ديك تشيني وآخرين من المثليين والسحاقيات هم من أنصار اللذة.
ميشال لم تصدق فوزه
لم يكتف اوباما بالاستفادة من هذه الظروف، وقاد حملته الانتخابية بكل ذكاء، حيث ندد بسياسة بوش، في الينوي التي فقدت 200 ألف منصب شغل وحدها، ليفوز في2 نوفمبر2004 بالانتخابات بعد أن حصد أكثر من 70 في المائة من الأصوات مقابل 27 في المائة من الأصوات عادت إلى غريمه.. انه الانتصار الساحق الأول من نوعه في تاريخ انتخابات الكونغرس الاميركي.
وصل باراك اوباما إلى واشنطن في يناير 2005، أي ساعات فقط قبيل أدائه اليمين الدستورية كسيناتور جديد للولايات المتحدة الأميركية.
في تلك اللحظات، ذكرت ميشال اوباما بالمخطط الذي رسمه قبيل دخوله معترك المنافسة ألا وهو الفوز بالانتخابات التمهيدية ثم الفوز بالانتخابات ثم تأليف كتاب وأثناء ذلك، حدقت في عينيه وقالت «لا استطيع أن اصدق بأنك وصلت حقا».
دروس النصر
استخلص باراك اوباما دروسا عدة من فوزه بالانتخابات، فالناس كانوا يظنون بان رجلا اسود مثله ليس في مقدوره الفوز بمقعد في مجلس الشيوخ، في امة منقسمة مثل الولايات المتحدة الاميركية.
كانوا يظنون بان شخصا اسمه باراك أوباما لا يمكنه إطلاقا أن يطمح إلى هذا المستوى، غير انه بلغه بعد أن استخلص دروسا أيضا من فشله خلال انتخابات مجلس النواب عام 2000.
الى جانب ذلك استغل اوباما أيضا حظه وأخطاء منافسيه.لقد اعترف وهو يبدأ حياته الجديدة كسيناتور بتأثير القدر عليه وذلك في قوله «لقد حالفني الحظ كثيرا خلال هذه الحملة الانتخابية ولا يوجد أدنى شك في ذلك».
أولى المهام
أدى اوباما اليمين الدستورية في 5 يناير 2005 ومنذ اليوم الأول انهالت عليه التهاني وسارع إليه المعجبون والمعجبات، مطالبينه بتوقيع اوتوغرافات.
أصبح بيت روس مديرا لمكتب اوباما، فيما تم تعيين الخبيرة الاقتصادية كارن كورنبلوه مستشارة سياسية له، بعد أن كانت المديرة المساعدة لمكتب وزير المالية السابق روبرت رابن.
لقد نشرت جريدة نيو ستيتسمان البريطانية في اكتوبر 2005، مقالا صنّف اوباما ضمن الشخصيات العشر التي بإمكانها تغيير العالم، وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط من دخوله مجلس الشيوخ الاميركي، فيما وصفت مجلة التايم اوباما في عام 2007 بالرجل الأكثر تأثيرا في العالم.
قبل اوباما مرة واحدة بالعديد من المهام التي أوكلت إليه، فأصبح عضوا في لجنة الشؤون الخارجية وفي لجان الصحة والتربية والعمل والتقاعد والتأمينات الاجتماعية وقدامى المحاربين.
الجذور وإفريقيا
وفقا لاعترافه الشخصي، فان جذور اوباما الإفريقية هي السبب الرئيس الكامن وراء اهتمامه بالسياسة الخارجية وانشغاله بأوضاع القارة السمراء، ما دفعه في يوليو 2005 إلى التطرق إلى قضية دارفور في مقر جمعية الأمم المتحدة بنيويورك، والتحذير من مغبة تكرار سيناريو رواندا في السودان.
التقى اوباما السفير الصيني وونغ غوانغيا، على اعتبار أن الصين هي أول مستثمر في الصناعة البترولية في السودان والبلد الأكثر قدرة على تطبيق عقوبات على الخرطوم، حيث طلب من الحكومة الصينية الضغط على السودان حتى توقف هجوم ميليشيات الجنجويد على المدنيين، كما التقى أيضا ممثلي الدول الاعضاء في منظمة الاتحاد الأفريقي وهي كل من كينيا ورواندا والسنغال وكلها تملك قوات عسكرية في منطقة دارفور.
نالت زيارة اوباما لمقر الأمم المتحدة إعجاب السفير الاميركي لدى الأمم المتحدة ريتشارد ويليامسون الذي أكد أن قلة من أعضاء الكونغرس الاميركي، يهتمون بالشأن الافريقي.
مهدت هذه المبادرة لمرحلة جديدة في مسيرة اوباما، حيث قرر بعد 6اشهر قضاها في دراسة القضايا الإفريقية الداخلية داخل مقر مجلس الشيوخ، قرر تخصيص كل وقته لعضوية لجنة الشؤون الخارجية، ليتجه بتاريخ 24 أغسطس 2005 في أول رحلة رسمية له إلى روسيا ثم أذربيجان وأوكرانيا برفقة السيناتور ريتشارد لوغار رئيس اللجنة، وهدفت هذه الزيارات إلى دراسة استراتيجيات مراقبة الأسلحة في إطار الوقاية من التهديدات المرتبطة بالإرهاب.
قام اوباما ولوغار بتفتيش مقرات تدمير الرؤوس النووية في ساراتوف، جنوب غرب روسيا، وفي اوكرانيا وقعا اتفاقية ثنائية للوقاية من مخاطر انتشار العدوى، التي يسببها الإرهاب البيولوجي.
كانت وجهة اوباما الثانية في يناير 2006 هي الكويت والعراق حيث التقى برفقة وفد من الكونغرس بالقوات الأميركية المتمركزة هناك ثم زار الأردن فإسرائيل والأراضي الفلسطينية، حيث التقى الطلبة الفلسطينيين قبل أسبوعين فقط من موعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية وأكد لهم أن بإمكان الولايات المتحدة عدم الاعتراف بمرشحي حماس الفائزين إلا إذا تراجعت حماس عن فكرة تدمير إسرائيل.
وأما رحلته الثالثة فكانت إلى كينيا وافريقيا الجنوبية مرورا بجيبوتي وتشاد وإثيوبيا خلال شهر أغسطس 2006.
«اوباما تعال الينا»
لقد استقبل السفير الاميركي في نيروبي باراك اوباما لدى وصوله برفقة زوجته وابنتيه إلى مطار كينياتا الدولي، ولم يكن السفير وحده، بل جموع كبيرة ارتدى أفرادها قمصانا كتب عليها اسمه، فيما كان البعض ينادون «اوباما تعال الينا».
وفيما ذهب اوباما لزيارة موقع سفارة الولايات المتحدة الاميركية الذي تعرض لهجوم إرهابي، اتجهت عائلته الصغيرة إلى ضاحية نيانزا في الغرب الريفي، حيث توجد ربى إفريقيا الخضراء التي عشقها هيمنغواي وكتب عنها.
كان أفراد قبيلة لو يعتبرون اوباما واحدا منهم حتى وان نشأ بعيدا عنهم وفي بيئة مختلفة تماما.اقترب اوباما من عامة الناس وزار جدته لوالده في بيته المغطى بالعشب وفق تقاليد قبيلة لو في قرية كوغيلو وهناك حاول إشعار الناس بخطر السيدا، حيث خضع هو وزوجته لفحص السيدا في عيادة كينيان.
دهش الجميع برد فعل الجماهير التي رحبت باوباما، على الرغم من زيارته مرتين فقط لكينيا، غير ان هذا لم يكن سوى صورة تعكس شعبيته في الولايات المتحدة الاميركية منذ بداية مشواره السياسي.
بعد أشهر من زيارته إلى مسقط رأس والده، أعلن باراك اوباما دعمه الكامل للمبادرة الكينية الهادفة إلى استرجاع مئات القطع الأثرية الكينية فكان أول رجل سياسي أميركي يؤكد على أهمية احترام التراث التاريخي والثروة الثقافية للبلاد التي استعمرتها الدول الغربية فترة طويلة.
لقد مكنت هذه الزيارات اوباما من تعزيز صورته وموقعه أيضا كرجل سياسة على الصعيد الدولي، كما مكنته من دحض كل الافتراءات والانتقادات التي طالته وحجتها ضآلة تجربته السياسية.
نجم الكونغرس
أصبحت صورة باراك اوباما خلال بضعة أشهر، تتصدر غالبية الصحف والمجلات وأصبح الصحافيون يقدمونه كواحد من أكثر الشخصيات كاريزمية في الولايات المتحدة الأميركية.
لقد عنونت تايم ماغازين صفحتها الأولى بتاريخ 23 أكتوبر 2006 وبحروف كبيرة «الرئيس القادم» و كتب أسفله «لماذا سيكون؟»، فيما قارن التقرير الذي نشر على الصفحات الداخلية بين اوباما وقوس قزح، انه حدث مفاجئ لكنه مثار إعجاب ونشوة.
أول الانتقادات
بدأت أولى الانتقادات توجه إلى باراك اوباما، حينما كتب كاتب افتتاحية شيكاغو سان تايمز مقالا تطرق فيه الى إمكانية لجوء اوباما الى تغيير عقليته وهي المقابل الذي سيقايض به استمرار نجاحه وتألقه، لقد كتب: «اسوأ ما يمكن ان يحصل هو ان يصبح اوباما أكثر حذرا وتحفظا حتى يستطيع الحفاظ على الشهرة التي وصل اليها»، فيما ذهب بول ستريت أكثر من ذلك، حيث نشر في مجلة الكترونية موجهة الى السود مقالا، جاء فيه ان اوباما يحاول تخفيف ادانة البيض، بينما لا يفعل البيض شيئا لمكافحة التمييز العنصري.
وأما في الصف الجمهوري فقد تركزت الانتقادات حول نقص تجربة اوباما السياسية. وأجاب فريق اوباما على هذه الانتقادات، بالقول ان الصفات الأساسية للقائد لا يمكن أن تكون التجربة وإنما الذكاء والرؤية الواضحة.طالت الانتقادات والهجومات كل شيء في اوباما حتى اسمه، ذلك ان مواقع الكترونية قدمت التشابه اللفظي بين اوباما واسامة –أي اسامة بن لادن – على انه اشكال كبير، فيما ركز العديد من الجمهوريين على اسمه الثاني «حسين» وهو الاسم نفسه الذي حمله الديكتاتور صدام حسين.
وكان رد روبرت جيبس مدير العلاقات العامة لاوباما بسيطا جدا حيث اكد استحالة تسوية وحل مشاكل العراق، باللجوء الى اقامة حملات تخص الاسماء الثانية للافراد.
لم يكن اوباما مجرد سيناتور في الولايات المتحدة الاميركية وان حاول في العديد من المرات تكذيب اشاعة ترشحه للانتخابات الرئاسية، الا ان عددا كبيرا من الصحافيين كانوا يؤكدون عدوله عن رأيه. توجد ثلاثة اسباب لذلك، بحسب صحافي نيويورك تايمز ديفيد بروكس وهي اولا: اهمية حزبه، فاوباما هو احسن من يمكن أن يبرز ويمثل طموحات الديموقراطيين وثانيا :عمره وشبابه المفعم بالحيوية والتجديد واخيرا رؤيته للسياسة، فهو الوحيد الذي بامكانه ان يقنع الرأي العام بفكرة العمل العام. لقد كانوا كثراً من تقدميين ومحافظين، من أملوا ترشح باراك اوباما للرئاسيات، لانهم يدركون تمام الادراك بانه قادر على الدفاع عن مصلحة الاميركيين وقادر ايضا على دفع عجلة النقاش الديموقراطي.
الحلقة الخامسة:
هل سيصوت الأميركيون لمسيحي ابن مسلم؟
طبعة أولى بعد تأليفه بستين عاما ديموقراطية طه حسين يصدر من البداية إلى النهاية
حين قامت ثورة 1919، ووضع دستور 1923، أصبح مصطلح الديموقراطية واحدا من المفاهيم التي لاقت كثيرا من الجدل والنقاش في الأوساط المصرية، ومن ثم فقد انبرى عميد الأدب العربي لا ليلقي محاضرات عن المصطلح الغربي، ولكن ليسرد قصة الديموقراطية منذ عرفها الإنسان وحتى تأسيس المفكرين والفلاسفة الجدد لها،
هذا السرد الهادئ البسيط الذي تناول تاريخ البشرية ونزوعها الدائم نحو الملك والامتلاك والسيطرة، ذلك التاريخ الذي صاحبه نزوع إنساني آخر لاحترام وجهة النظر المخالفة ورأي الأقلية، والتمايز النوعي، والالتزام على شروط واضحة بين الحاكم والمحكومين، وأشكال إسقاط هذه الصيغة منذ قسم اليونانيون أنفسهم إلى من يحق له الحكم ومن يظل محكوماً، وتطور ذلك مع الفكر الروماني حتى جاء العصر الإسلامي ثم المدنية الحديثة، تلك المدنية التي أقرت شروطاً يتم على أساسها انتخاب الحاكم من بين الجميع، وإسقاطه أو محاكمته إذا خالفها ورفض الإذعان لها. كان هذا موضوع الكتاب الذي عكف د.طه حسين على كتابته عقب ترديد الشعب لمصطلح الديموقراطية دون أن يعرفوا معناه الحقيقي، ولم يكتف بالكتابة ولكنه أخذ في إلقاء عدد من المحاضرات، كان بعضها فصولاً في هذا الكتاب (الديموقراطية) وما كاد أن ينتهي منه حتى حدثت أزمة كتابه الأشهر «الشعر الجاهلي»، ذلك الكتاب الذي ووجه باتهامات وانتقادات جعلته يؤجل نشر عمله الفكري التثقيفي العام إلى أجل غير مسمى، حتى عثرت عليها حفيدته منى الزيات، فحصلت عليها دار نفرو للنشر ونشرته بمقدمة طويلة وفريدة للباحث إبراهيم عبد العزيز.
ربما كان طه حسين من أكثر المؤهلين بحكم ثقافته وتعليمه – للحديث عن الديموقراطية، فهو من زاوية أزهري حفظ القرآن وتلقى تعليمه في الأزهر، ومن ناحية أكمل تعليمه المدني في أوروبا وحصل على الدكتوراه من السوربون، وكانت دراسته للأدب العربي والأوروبي وأثر حرية الفكر على تطور هذا المنجز الإنساني داعية إلى تأمله طيلة الوقت في مسألة الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم.
ومن ثم، فقد جاءت فصول كتابه لتشرح فكرة العدل والحرية والديموقراطية والجمهورية وغيرها من المفاهيم في الفكر اليوناني القديم، ثم تلتها فصول رصدت نظام الحكم في الإسلام وشخصية الحاكم الصالح عمر بن الخطاب ونشأة الدولة الإسلامية وتطور الفكر الديموقراطي فيها، ثم جاءت المرحلة الثالثة لترصد فصولها الديموقراطية في الغرب وأزمتها الحقيقية، والتناقض بين الدعوة للديموقراطية ومنع الشعوب عن نيل استقلالها، والغربة التوسعية التي أدت إلى نشوب الحرب العالمية. وفي النهاية وضع طه حسين عددا من الفصول التي تحفز الشعب على التمسك بحريته ومكتسباته، موضحاً أن الشعب الديموقراطي يحارب لحرصه على الحياة الحرة، أما الشعوب المستعبدة فإنها تحارب أيضا ولكن مرغمة لأنها تساق إلى الحرب وهي كارهة، ومن ثم فإنه يقول: «أخص ما تمتاز به الحياة العامة في الأمم الديموقراطية أنها لا تفرض على الشعب وإنما تصدر عنه، وأن الشعب لا يساق إليها، ولا يكره عليها، وإنما يسعى إليها راغباً فيها مريداً لها».
استفاد د.طه حسين من اطلاعه على الثقافة الشرقية والغربية، فتعامل بمنهج وفلسفة ابن خلدون في قراءته للتاريخ وصراع الأمم. ودمج ذلك بفكر أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان، موضحاً فجر الديموقراطية ومنتقدا أرسطو في تقسيمه لمن يحق لهم أن يحكموا، وهم النبلاء والفلاسفة، ومن يحق عليهم أن يحكموا وهم طبقة العبيد. كما انتقد موقف المؤرخين العرب من ثورتي الزنج والقرامطة، موضحاً أنهم زيفوا الحقيقة لصالح السلطة الرسمية في عصر الخلافة العباسية، وأن هاتين الثورتين خرجتا على السلطان بحثاً عن العدل والمساواة والحرية، وقارن بين ثورة الزنج وثورة العبيد في ايطاليا التي قادها سبارتكوس. ويبدو أن طه حسين لم يتراجع عن نشر هذا الكتاب المؤسس لفكر الديموقراطية وحرية الرأي بسبب ما حدث من انتقاد لكتابه الشعر الجاهلي فقط، فقد سبق ذلك الأزمة الكبرى التي أثارها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق، ثم جاء الشعر الجاهلي ليحيي الأزمة بشكل جديد وكانت السلسلة ستكتمل بظهور هذا الكتاب نظراً لما ينطوي عليه من انحياز لشكل الحكم الأوروبي، خصوصا الإنكليزي الذي لا يعدو الملك كونه رمزاً لحكم ديموقراطي يتم فيه انتخاب رئيس وزراء من الشعب، ليدير حكم الشعب تحت رقابة من برلمان منتخب لكن ذلك كله ما كان سيحدث في ظل انهيار الخلافة العثمانية وبحث مصر عن آليات لنقل الخلافة إليها، ومن ثم فقد اكتفى حسين بإلقاء بعض من فصوله كمحاضرات في عدد من التجمعات الفكرية كجامعة القاهرة وغيرها ونشر بعضها الآخر في مجلات كالهلال والبلاغ وغيرهما في الفترة من 1937 حتى 1945 ثم انتهت هذه الرغبة بمجيء ثورة يوليو التي حولت البلاد إلى فكر شمولي مناهض لما سعى إليه عميد الأدب في كتابة «الديموقراطية»، ذلك الكتاب الذي عثرت منى الزيات على أوراقه ودفعت به إلى صاحب دار «نفرو» ليقدمه في أولى طبعاته بعد كتابته بما يزيد عن ستين عاماً.
صبحي موسى
الكتاب: الديموقراطية.. كتاب لم ينشر
اسم المؤلف: طه حسين
اعداد وتقديم: إبراهيم عبدالعزيز
دار النشر: دار نفرو للنشر - القاهرة
عالم خطف الطائرات والاغتيالات وعملية «أوبك» أواخر القرن الماضي أسرار الصندوق الأسود (2)
تأليف: غسان شربل
عام 1975 كان عام بداية الحروب الاهلية والمتنقلة في لبنان، وكانت الفصائل الفلسطينية في قلب المعركة والسلطة القائمة على جزء غير يسير من الاراضي اللبنانية، قبل ان يخرجها الاجتياح الاسرائيلي عام 1982.
ثمة روايات متناقضة عن موقف وديع حداد من الحرب اللبنانية، مساعدون له يقولون انه دعا الى ان تنأى الفصائل الفلسطينية بنفسها عنها، وآخرون بينهم انيس النقاش يوصون بالعكس، وفي كلام انيس عن عملية احتجاز وزراء نفط «اوبك» في فيينا اواخر عام 1975 اي بعد اشهر من انطلاق الحرب اللبنانية، تأكيد على ذلك.
لكن ما يعنينا في رواية انيس النقاش عن العملية ابراز الاختلاف بينه وبين ما رواه كارلوس، ومايقوله احد مساعدي وديع حداد.
فربط العملية بالحرب اللبنانية، كما يقول النقاش، يناقض روايتي كارلوس ومساعدي الحداد عن ان الاخير رفض التورط في صراعات اللبنانيين الداخلية، وقول النقاش انه اقنع كارلوس بعدم اعدام وزيري النفط السعودي والايراني يناقض قول كارلوس انه طرح فكرة قتل الوزيرين (الأوامر كانت تقضي باعدام الوزير السعودي احمد زكي اليماني فقط) على النقاش ومساعدهما الالماني فأيداه بحماسة.. وفوق كل ذلك يقدم النقاش نفسه على انه البطل الاول «في عملية فيينا»، علما بانه لم يكن منتميا الى الجبهة الشعبية، بل الى حركة فتح، وعلاقته المباشرة كانت بابو جهاد. الا ان اهمية شخصية انيس النقاش تكمن في انه نام طويلا على سر دوره (سواء كان الاول او الثاني) في تنفيذ عملية فيينا، وقد فشلت اجهزة الاستخبارات في فضحه، ولم ينتبه المحققون اليه على رغم اقامة الرجل سجينا بين ايديهم على مدار عقد كامل، مداناً في محاولة اغتيال رئيس الوزراء الإيراني الأسبق شهبور بختيار.
هنا حلقة ثانية عن عملية فيينا نعرضها كما جاءت في كتاب الزميل غسان شربل «اسرار الصندوق الاسود» مع بعض التصرف:
بدأت رحلة النقاش الفعلية حين تعرف الى خليل الوزير (ابو جهاد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، وحين اختار ان يعمل في امن الثورة من خارج المؤسسات الامنية المعروفة. حدثان كبيران ميزا مسيرته: الاول عندما عمل مع مجموعة وديع حداد وشارك في عملية فيينا، والثاني حين ذهبت به العلاقة بالثورة الايرانية الى حد رئاسة الفريق الذي حاول اغتيال رئيس الوزراء الايراني السابق شهبور بختيار في باريس في 1980.
في 1980 اهتزت فرنسا، وتناقلت وكالات الانباء اسم هذا الشاب اللبناني الذي انضم باكراً الى الثورة الفلسطينية، وها هو يحاول اغتيال شهبور بختيار رئيس الوزراء الايراني السابق. نجا بختيار، لكن فرنسيين قتلا في الحادث، احدهما شرطي، واصيب نقاش وحكم عليه بالسجن المؤبد، ومنذ لحظة اعتقاله سيتحول ملف النقاش هاجسا لدى المسؤولين الفرنسيين لانه تداخل مع مجريات الحرب العراقية – الايرانية وازمة الرهائن الفرنسيين في لبنان، وضاعف من تسميم العلاقات بين باريس وطهران التي كانت تشترط اطلاقه.
لكن القضاة الفرنسيين سيكتشفون بعد قراءة هذه السطور ان النقاش ارتكب ما هو اهم واخطر من محاولة اغتيال بختيار، ولم يدر في خلدهم السؤال عن السر او الاقتراب منه او محاولة الوصول اليه.
شريك كارلوس
ها هو انيس النقاش يعترف بانه كان شريك كارلوس في عملية احتجاز وزراء النفط في «اوبك» في فيينا في 21 ديسمبر 1975، وانه شارك في التخطيط والتنفيذ. ويكشف النقاش انه اقنع كارلوس بعدم تنفيذ اوامر وديع حداد باعدام الوزيرين الايراني والسعودي، الذي كان مقرراً ان يحصل في بغداد او عدن، بعد تحقيق الهدف الاول من العملية، وهو الحصول على فدية قيمتها عشرة ملايين دولار. ويروي ان خلافا وقع بين حداد وكارلوس بعد العملية بسبب امتناع الثاني عن اعدام الوزيرين وتقديم نفسه علانية خلال تنفيذها خلافاً لأوامر الأول.
ستة شاركوا في عملية فيينا: كارلوس والنقاش ولبناني اسمه الحركي «جوزف» وفلسطيني اسمه الحركي «يوسف» والألماني هانز يواكيم كلاين والألمانية غابريل توجمان واسمها الحركي «ندى».
قصة مثيرة ومعقدة. انتمى النقاش باكراً إلى التنظيم الطالبي لحركة «فتح» وعمل مع عضو اللجنة المركزية فيها خليل الوزير (أبوجهاد) واختار خدمة الأمن السياسي للثورة من خارج أجهزتها الأمنية. دخل عالم الأسرار وأقام فيه بأسماء مستعارة إلى أن سقط في أيدي الشرطة الفرنسية.
أدوار
يروي النقاش انه شارك في استقطاب أوروبيين للقيام بعمليات استطلاع داخل إسرائيل. وانه في النصف الأول من السبعينات قرر اختراق مجموعة وديع حداد التابعة أصلاً لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» لمعرفة المجموعة والحيلولة دون أن تمس عملياتها أمن الثورة. ويقول انه كلف لاحقا بالمشاركة في الإشراف على تدريب الإيرانيين المعارضين لنظام الشاه، وكان أول من طرح فكرة إنشاء «الحرس الثوري».
يقول النقاش الذي واكب ولادة «الحرس الثوري» وربطته علاقات بمسؤوليه، انه شارك في نقاشات هناك انتهت إلى أن بختيار رجل خطير وانه الرمز الذي تحاول الولايات المتحدة استخدامه لانقلاب عسكري يطيح بالثورة الإيرانية التي شكل قيامها كسباً كبيراً للثورة الفلسطينية. ويضيف ان «محكمة إيرانية قضت بإعدام بختيار وان الإمام الخميني أقر الحكم. فتطوعت للتخطيط ثم قُدت عملية التنفيذ».
ويكشف النقاش انه حصل عبر وكالة الصحافة الفرنسية على رقم مقربين من بختيار، وانه زار منزله مدعياً انه صحافي عربي، وأجرى بهذه الصفة حديثاً كاملاً تمكن خلاله من استطلاع المكان والحراسات ونقل النتائج إلى طهران، فصدر قرار التنفيذ. لم ينشر الحديث وعاد النقاش لإجراء حديث آخر تتم خلاله عملية الاغتيال، لكن إجراءات الأمن فرضت تغييراً في الخطة التي تحولت إلى عملية اقتحام. وينفي أن تكون المجموعة أخطأت في الشقة، مؤكداً ان المرأة التي قتلت أصيبت بالصدفة وان الباب المصفح هو الذي أنقذ بختيار خلال الاشتباك الدامي. ويحكي عن وعود الاشتراكيين والديغوليين بإطلاقه وكيف أعطي هاتفاً دولياً للمساهمة في إطلاق الرهائن الفرنسيين في لبنان. ويشير إلى أسماء المسؤولين الإيرانيين الذين كانوا على علم بقصة بختيار. وفي 28 يوليو 1990 أصدر الرئيس فرنسوا ميتران عفواً عن النقاش فعاد مع أفراد المجموعة إلى طهران.
ويكشف النقاش أيضاً كيف خططت مجموعة وديع حداد لاغتيال السفير الأميركي في بيروت غودلي والمبعوث الأميركي دين براون والملحق العسكري الفرنسي والدور الذي قام به «أبو جهاد» و«أبو حسن سلامة» في إفشال هذه الخطوة بعد اطلاعهم عليها قبل تنفيذها، وفي هذا تناقض آخر مع ما يقوله مساعدو حداد عن ابتعاد الأخير عن تنفيذ عمليات داخل لبنان.
الهدف التمويل
يقول النقاش: عملية فيينا سبقتها مجموعة عمليات خُطط لها، وكان الهدف منها التمويل. مع بوادر الحرب الأهلية في لبنان كانت مجموعة وديع حداد في حاجة إلى تمويل. وكانت تعتقد ان أكثر من طرف فلسطيني، من بينهم «الجبهة الشعبية»، سيفيد منه. وأول برنامج أو هدف لعملية التمويل، بعدما وضعت احتمالات عدة، كان التفكير في خطف مهدي التاجر، الثري الإماراتي الذي كان سفيراً لبلاده في لندن. وفي شتاء 1974 – 1975، بدأ التحرك للإعداد لهذه العملية. وكلفت مجموعة تضم بعض الشباب اللبنانيين وامرأة ورجلاً ألمانيين بالإعداد الأولي، كان المطلوب تحضير المجموعة وإعداد الوثائق اللازمة لها مثل الجوازات. والجوازات التي كان من الممكن الافادة منها كانت بوليفية. اجتمعت المجموعة في باريس للتحضير لمراقبة الاماكن المطلوبة في بريطانيا وتحديدها.
وبسبب خطأ فني حصل في الجوازات، وعدم تمكن كل افراد المجموعة من الدخول الى لندن، تقرر تأجيل العملية. وفي هذه الفترة تفاقمت الازمة في لبنان، واخرت الحرب الاهلية هذه المسألة قليلا، الى ان اعيد طرح ضرورة التمويل مرة اخرى.
ويؤكد ان وديع حداد كان من اتخذ قرار خطف التاجر وان كارلوس كان موجودا ضمن المجموعة التي ستنفذها.
بطل العملية
كان انيس النقاش اسمه «خالد» حين شارك، الى جانب كارلوس، في عملية احتجاز وزراء نفط «اوبك» في فيينا. وكان اسمه «مازن» خلال عمله الطويل في حركة «فتح». هذا اذا تناسينا اسماء اخرى على جوازات سفر مزورة. اليوم لم يعد انيس النقاش يحتاج الى الاسماء المستعارة. انها مرحلة كاملة انتهت وهو ما سهل البوح باسرارها. ويقدم النقاش او «خالد» نفسه بطلا اول لعملية «اوبك» حيث يقول كلفت اولا بعمليات الاستطلاع الاولى. وذهبت مرة اولى الى فيينا بجواز لبناني عادي. جنيف اولا ثم بالقطار الى فيينا، حيث مكثت هناك نحو 10 ايام لاتقصى الاجواء والاماكن: مركز «اوبك» والشوارع والشقق. اي عملية استطلاع كاملة. وكان يرافقني شاب آخر عديم التجربة، وكان هذا مشواره الاول الى اوروبا في عملية استطلاع، وبغرض تدريبه. ولم يكن له اي دور لاحقا.
ويقول انه دخل الى مركز «اوبك» خلال عملية الاستطلاع، موضحا حجته في ذلك بان في مبنى «اوبك» كانت توجد السفارة الكندية وشركة نفط. «صعدت الى طابق «اوبك» بحجة انني ظننته طابق السفارة. ودخلت المركز ولم تتسن لي رؤيته بالكامل. لكنني القيت نظرة على المدخل والسلم والمصعد، والى ما هنالك من تفاصيل وامور. ثم اعتذرت عن «الخطأ» في الطابق وخرجت. رجعت الى بيروت، وكان كارلوس موجودا وتداولنا المعلومات. ثم قررنا الانطلاق للتنفيذ. هنا خرجت بجواز لبناني عن طريق زيورخ. وفيها بدلت الجواز الى جواز قبرصي كي ادخل الى فيينا. واكتملت المجموعة في فيينا».
وعندما يسأل من أين اتى كارلوس؟ يجيب موحيا بدور الاخير الثانوي:
ــ لا اعرف تماما. لكنني اعرف انه كان في لبنان. والاحتمال ان يأتي اما من طريق سويسرا واما ايطاليا. ولم يكن مطلوبا مني ان اعرف اي وجهة ستسلك العناصر الى فيينا.
ويضيف: كارلوس كان يقيم في شقة وانا في فندق. حين اكتملت المجموعة، كثفنا عمليات الاستطلاع، انطلاقا من اماكن اقامتنا، ولكي يكون كل افراد المجموعة على علم بالتفاصيل.
واستنادا الى زيارتي مقر «اوبك»، وكان كارلوس قد ذهب الى هناك بالطريقة نفسها، اي بحجة انه اخطأ بين المقر والسفارة، وبناء على دراستي هندسة الديكور استطعت ان اضع مخططا للمبنى وان اقدر اين تقع قاعة الاجتماعات، ثم حددنا يوم العملية، وقبل التنفيذ بــ 48 ساعة، وصل المانيان (شاب وفتاة) من خارج المجموعة ومعهما الاسلحة، واقتصرت مهمتهما على جلب الاسلحة فقط، وكانا ينتميان الى «الالوية الحمراء» الالمانية، سلمانا الاسلحة فقط، ثم قررنا عقد اجتماع في اخر ليلة قبل العملية، وبتنا في الشقة نفسها، شقة كارلوس، حيث تلقى كل فرد منا التعليمات اللازمة، وفي الصباح الباكر غادر الالمانيان اللذان اتيا بالاسلحة، اما نحن فبقينا الى ان حان وقت العملية.
ركبنا قطاراً (ترامواي) عبر خط يوصلنا الى محطة تبعد نحو 15 مترا عن مقر اوبك، ووضعنا الاسلحة في حقائب رياضية، ولم يكن الجميع في حاجة الى حقائب، فانا كنت احمل مسدسين، ومن كان يحمل رشاشا احتاج الى حقيبة وتحديدا كارلوس وجوزف.
التنفيذ
خرجنا من المحطة وكان البرد قارسا، وشاهدنا عنصرين من الشرطة هناك وكنا نرتدي المعاطف، كان كل شيء مموها في شكل جيد، ولم يلاحظ الشرطيان شيئا، حتى اننا، وبكل بساطة، سألناهما عن مكان المؤتمر، فظنا، من الحقائب التي معنا، اننا صحافيون، فدلانا الى المكان، طبعا كنا نعرف الطابق الذي يقع فيه مقر اوبك، الا انها بادرنا الشرطيين بالسؤال اولا قطعا للطريق على اي اشتباه او التباس، واكملنا اسئلتنا عن موعد المؤتمر ومكان القاعة، اي مجرد اسئلة روتينية اعتيادية، دلنا الشرطيان الى الطابق الاول، صعدنا الى المقر وبدأ الاقتحام، وبحسب الخطة، انقسمنا مجموعتين: الاولى تسيطر على المدخل الاساسي مع السنترال والسكرتيرة، والاخرى تكمل الاقتحام، وهذه الاخيرة انقسمت قسمين كل واحد يتولى تفتيش جهة من الممر، توليت انا تفتيش الجهة اليمنى وسلاحي في يدي، وفتحت اربع غرف او خمسا فيها موظفون، كانت قاعة الاجتماعات اخر غرفة، عندها ناديت بقية العناصر، ولم نكن قد ارتدينا الاقنعة بعد، الا انني كنت اعتمر قبعة من الفرو وقبة الكنزة عالية فلم يلحظ احد ملامحي، خصوصا انني كنت اتحرك في سرعة، ولما دخلنا القاعة وضعنا الاقنعة كي لا يتأملوا طويلا في وجوهنا.
رصاصتان في السقف
الجميع كانوا في الاجتماع، وفور دخولي اطلقت رصاصتين نحو السقف، فانبطحوا ارضا، وكانت المجموعة الثالثة قد ساقت الموظفين الى القاعة، وكانت هناك مجموعة حراس شخصيين في قاعة الانتظار، وقتل منهم اثنان عراقي وليبي، بقية الوزراء لم يكن لديهم حراس، وقد حاول الحارسان المذكوران استهداف الفتاة المشاركة معنا ظنا منهما انها الاضعف لكنها عاجلتهما بالرصاص واردتهما.
تم تجميع كل الموظفين في القاعة، وحصل اشتباك بسيط مع الشرطيين اللذين كانا على مدخل المبنى، عندما صعدا لمعرفة ما الذي يحصل ثم اتت مجموعة من قوات خاصة وحصل اشتباك، جرح خلاله رفيقنا الالماني، الا اننا بقينا مسيطرين على الوضع بحسب الخطة، كان من المفترض، ان نقسم الوزراء والموظفين مجموعات، مجموعة الاعداء مؤلفة من ايران والسعودية، ومجموعة الحياديين تضم الكويت والنيجر واندونيسيا ومن ليس له علاقة.. ومجموعة الدول شبه الحليفة للقضية الفلسطينية تضم العراق والجزائر وليبيا، اي دول «جبهة الصمود».
عشاء احتفالي
يروي النقاش انه في صباح اليوم التالي للعملية «حصلت طرفة من السفير العراقي، وكان قد وجد نفسه مرتاحا، كأنه يشاهد فيلما سينمائيا لا يعنيه، فقال إننا فوتنا عليه حفلة الختام في فندق «هيلتون» على شرف الوزراء. فاستجبنا طلبه جديا وطلبنا من الحكومة النمساوية ان تحضر المآكل، التي كانت ستقدم في حفلة الهيلتون، إلى الرهائن. وبالفعل جاؤوا بالصحون. وأصبحنا على استعداد للانتقال إلى الطائرة».
صفقة أكبر
من الجزائر توجهت الطائرة الى ليبيا وعلى متنها 11 وزيرا.. يقول النقاش: نزلنا في مطار ليبيا وكان الوزير الجزائري لا يزال معنا في الطائرة على رغم اننا طلبنا منه البقاء في الجزائر، لكنه أصرّ على مرافقتنا. ولما وصلنا إلى ليبيا، سمح له كارلوس بأن ينزل ويتفاوض مع الليبيين. وهنا تأكدت من وجود صفقة اكبر وإلا فما معنى هذه المناورات؟
تفجير خطوط النفط
في شهر يونيو من عام 1969، هاجمت مجموعة تابعة لوديع حداد خطوط نقل النفط السعودي الى مصفاة الزهراني (جنوب لبنان) المعروفة باسم خطوط التابلاين، ويبرر مساعد حداد العملية بالقول ان غرضها الاساسي هو ان هذا النفط العربي الذي يمر في ارض محتلة وبحماية اسرائيلية ويصب في مرفأ الزهراني وتنقله ناقلات غربية الى البلدان الغربية يجب ان يكون مشمولا بالمعركة. حصلت عملية تفجير. المتضررون اتخذوا موقفا عنيفا، وبعض الفصائل الفلسطينية اعترض على العملية.
وديع حداد يحاكم كارلوس
بعد نحو أسبوعين من العملية غادر كارلوس الجزائر الى مقديشو وتوجه منها الى عدن حيث عُقد اجتماع ثلاثي سيكرس الطلاق بين القائد الفلسطيني وديع حداد والشاب الفنزويلي كارلوس، الذي كبر في ظله. ودامت الاجتماعات اكثر من 12 ساعة. في الجلسة الأولى طلب من كارلوس ان يروي ما فعل منذ انطلقت عملية التنفيذ.
وهكذا حكى عن الأيام الأخيرة والاستطلاع والاقتحام وما رافقه. وفي الجلسة الثانية تركز الحديث على الطريق التي انتهت بها العملية وتطرقت الى دور الجزائريين، خصوصا وزير الخارجية آنذاك عبدالعزيز بوتفليقة في الافراج عن الرهائن.
سُئل كارلوس، خلال الجلسات التي عقدت في مقر حداد في خورمكسر في عدن، لماذا لم ينفذ التعليمات القاضية بإعدام الوزيرين السعودي والايراني؟ فأجاب بانه رأى ان العملية نجحت وصدر بيان عن دور النفط العربي في المعركة وبالتالي فانه لم يشعر بضرورة اعدام الوزيرين وتلويث العملية، علما ان التعليمات كانت تقضي عكس ذلك، فرد بانه لم يكن امامه أي مجال للانكار لأن الحاضرين عرفوه في صورته ولكنته. وسُئل عما يتردد عن فدية، فقال انه لم يكن هناك أي بحث في فدية ولا علم له بما تردد بعد العملية.
لم تقنع ردود كارلوس الرجل الذي تعهده واطلقه فقال له غاضبا: «نحن في معركة ونخوض قتالا ولسنا فريق كشافة».
وفوجئ حداد بـ«سالم» (الاسم الحركي العربي لكارلوس) يقول: «تعاملونني كأنني عضو لديكم وانا تنظيم حليف لكم». استغرب حداد الكلام، فحتى تلك الساعة كان كارلوس عضوا في «المجال الخارجي». وفي اختتام الاجتماعات الثلاثية طلب حداد من كارلوس ان يذهب الى المعسكر ليرتاح ففعل.
تناقضات أخرى في رواية النقاش: لم تجر مفاوضات حقيقية
على نقيض رواية كارلوس عن سير المفاوضات مع وزراء اوبك، يؤكد النقاش انه لم تجر مفاوضات حقيقية، وان اتفاقا سريعا تم على ان تدفع كل من ايران والسعودية 5 ملايين دولار وقد دفعتا على حد تعبيره، في حين ان كارلوس يقول ان المبلغ كان 25 مليون ولم يصل منه شيء الى خزينة المقاومة الفلسطينية.
كذلك يؤكد النقاش معارضته لاعدام الوزيرين من اليماني واموزيغار فيما كان كارلوس قال ان النقاش كان متحمسا لذلك.
نترك النقاش يتحدث عن هذه النواحي:
عمليا لم تجر مفاوضات حقيقية مع النمساويين فكل المطلوب منهم ظاهريا اذاعة البيان، وقد استجابوا الطلب وسمعنا البيان من راديو صغير كان في حوزتنا، النقطة الثانية هي عملية الاخلاء، وكان من المفترض ان يوفر النمسويون لنا طائرة تقلنا، اما عن الخطة، فكانت هناك خطة علنية وخطة ضمنية، الاولى قضت بأن نتفاوض معهم لاعلان البيان وللخروج مع الرهائن سالمين من فيينا.
اما الخطة الضمنية فقضت بأن يكتب الرهائن رسائل الى سفاراتهم وحكوماتهم كما يحلو لهم، والهدف من ذلك ان نضع اليد على رسالتين تحديدا من اموزيغار واليماني، ثم املينا عليهما ما يجب ان تتضمنه رسالتاهما، اي يجب على كل من الحكومتين تحويل مبلغ قيمته 5 ملايين دولار، ما مجموعه 10 ملايين دولار، وهذا ما حصل، ومن الطريقة التي عومل بها اليماني واموزيغار ادرك الاثنان انهما الهدف وانهما سيعدمان اذا لم تنفذ المطالب (..) هنا لابد من العودة الى امر حصل خلال التحضير، وهو امر مهم جدا، اي حين كنت وكارلوس وحدنا في فيينا، اذ بعدما ذهب واستطلع بنفسه مقر الاوبك، جلسنا في مقهى خلف المبنى، وطلب مني كارلوس ان ادلي برأيي في العملية فبادرته بأن لدي استفهاما عن عملية الاعدام (اعدام الوزيرين الايراني والسعودي)، لانني رجل مسيّس وادرك ابعاد تنفيذ قرار خطير من هذا النوع. بحسب الخطة، كان علينا ان نتوجه بالطائرة بعد الحصول على الاموال الى العراق او عدن لاعدام الوزيرين، وانا لا استطيع ان اتصور ما الذي سيحصل بعد الاعدام، اكان في بغداد ام في عدن، ففي بغداد سيكون نسف لكل اتفاقات ايران مع العراق ووقف الحركة الكردية والتدخلات بين البلدين بحسب اتفاق الجزائر، اما اذا تم الاعدام في عدن البلد الصغير المتهم اساسا فإنه سيتعرض بالتأكيد لضغوط من الدول المعنية، وربما لاكثر من ضغوط وانا لا اعتقد بأننا نكون بذلك اسدينا خدمة حسنة لرفاقنا في عدن.
كانت لوديع قاعدة في عدن وعملية من هذا النوع، (اي الاعدام) ستخرج هذا البلد بالتأكيد وتوجه اليه الاتهامات وتليها المقاطعات. فوجئت بان كارلوس تجاوب معي في سرعة ولم يتأخر ليؤيد وجهة نظري في ان هذا الهدف (اي الاعدام) ليس طبيعيا وسليما (..) المعضلة تكمن في انني لا استطيع الطلب منه مخالفة الاوامر وعدم اغتيال الوزيرين، ولا هو يستطيع ان يلقي علي مسؤولية الكشف عن نفسه في المفاوضات.
الحلقة المقبلة: خـطــف الطـائــرات
================================================
عالم خطف الطائرات والاغتيالات وعملية أوبك أواخر القرن الماضي أسرار الصندوق الأسود (3)
تأليف: غسان شربل
كيف بزغت فكرة خطف الطائرات في ذهن وديع حداد، ولماذا وكيف جرى تنفيذها ولأي غاية نفذ كل منها؟
في كتابه «أسرار الصندوق الأسود» يقدم غسان شربل الأجوبة منقولة عن السنة مساعدي حداد في تلك الفترة العاصفة من عقد السبعينات في القرن الماضي.
كل عملية كان لها هدف. وبعد كل عملية كانت تنشأ ظروف تساعد، أو تعترض النجاح.. لكن جميع عمليات خطف الطائرات كان وراءها أو من حولها أو في ثناياها دور لدولة أو إيحاء من قائد في المعسكر المعادي للولايات المتحدة الأميركية والدائر في فلك الاتحاد السوفياتي، بالرغم من ان هذا الأخير وبعد ان دخل في معاهدة للحد من التسلح مع واشنطن ضغط من خلال مؤيديه أو مباشرة للحد من هذه العمليات، وكان لهذا الضغط أثره داخل الجهة الشعبية مباشرة ما أدى إلى إضعاف نفوذ وديع حداد، وربما كان وراء الانفصال الدراماتيكي بينه وبين جورج حبش.
هنا الحلقة الثالثة من عرض كتاب غسان شربل، وفيها نتعرف على العمليات الأولى لخطف الطائرات:
العمليات الأولى.. من «ابتدع» فكرتها وخطط لها وكيف نفذت؟
خطف الطائرات يحبس أنفاس العالم
في 6 سبتمبر 1970 يحبس العالم انفاسه، ذعر في الاجواء وذعر في المطارات، وسيردد اسم فلسطين في الرسائل المتلاحقة التي تبثها وكالات الانباء والاذاعات والتلفزيونات، ومنذ ذلك اليوم سيعتبر حداد، إلى وفاته في 1978، الرجل الاخطر في الشرق الاوسط وستبدأ اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والغربية حملة مطاردة طويلة بحثا عنه. لكن وجبة الطائرات التي اقتادها حداد الى «مطار الثورة» في محلة «قيعان خنا» في الاردن لن تحقق غرضها المباشر وهو مبادلة الاسرائيليين المحتجزين بالفلسطينيين المعتقلين في السجون الاسرائيلية، لان اشتباكات سبتمبر 1970 بين الجيش الاردني والفدائيين الفلسطينيين ستندلع بعد ايام فقط.
محطة اخرى في هذا السياق. في 22 فبراير 1972 خطفت عناصر تابعة لـ «المجال الخارجي» من نيودلهي طائرة تابعة لشركة «لوفتهانزا» الألمانية الغربية واقتادتها الى عدن. بعد وقت قصير من تأكيد نجاح عملية الخطف اقترب شاب عربي من علبة البريد في مقر الشركة في فرانكفورت ووضع رسالة لن تتأخر في الوصول الى مكتب المدير. كانت العملية مالية وغرضها حل المشكلة المالية التي كانت تواجهها «الجبهة الشعبية». ووقع الخيار على ألمانيا الغربية لمعاقبتها على التعويضات التي تقدمها لاسرائيل وتستخدمها الاخيرة في ترسيخ احتلالها.
وفي استطاعتنا ان نؤكد ان الرواية التي ننقلها عن هذه العملية المالية هي اول رواية كاملة لهذا الحدث وعلى لسان من كانوا في موقع القرار والتنفيذ معا. طبقت «لوفتهانزا» حرفيا ما جاءها في الرسالة ـ الانذار. وصل مبعوث ألماني الى مطار بيروت الدولي حاملا في حقيبته خمسة ملايين دولار وانطلق بسيارة قادها بنفسه، وفقا للتعليمات، وسلم الحقيبة في مدينة صيدا في جنوب لبنان.
لماذا خطفت أول طائرة؟.. الجواب يقدمه اثنان من مساعدي وديع حداد بالقول: خطفت طائرة «العال» الإسرائيلية التي كانت متجهة من روما الى تل أبيب وأجبرت على التوجه الى الجزائر في 23 يوليو 1968. كانت «الجبهة الشعبية» محاصرة إعلاميا. في فبراير 1968 أعدت الجبهة تقريرها السياسي وتحدثت عن النظام المصري كنظام بورجوازي صغير يحكم العلاقة معه تحالف وصراع، وكان هناك انشقاق داخل الجبهة. العملية ساهمت في كسر الحصار الاعلامي وفي اطلاق عدد من المعتقلين. معيار صحة العملية هو مدى تقبل الجماهير لها. والواقع ان الجماهير الفلسطينية كانت مؤيدة.
ويوضح ان المتحدثين ان العملية تمت تنفيذا لاستراتجيية الجبهة بضرب الركائز الاقتصادية والعسكرية والبشرية للعدو الصهيوني. كان أحد الأهداف المطالبة بإطلاق السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية وبينهم سجين أسر في 1964. وقد تم اطلاق الأسير ومعه نحو 37 أسيرا.
صاحب القرار
ويؤكد ان وديع «كان على رأس اللجنة وهو صاحب القرار الأول. كان يشاركه في التخطيط آخرون اصحاب خبرات مختلفة، اما في مراحل التنفيذ ففي البداية لم يكن اعضاء اللجنة يعرفون جداول عمليات الطيران والخطوط التي تسلكها الطائرات، لذا كان لا بد من الاستعانة بخبراء «هكذا تمت الاستعانة بطيار فلسطيني، احاط وديع نفسه بمجموعة من الكفاءات الفكرية والسياسية والعسكرية والفنية من الفلسطينيين والعرب،» ويوضح المساعدان ان هذه العملية كانت الاولى و«حظيت باجماع كامل داخل الجبهة» (لكن) حصلت ملابسات، الجزائر اعتقدت ان توجه الطائرة اليها هو عملية موجهة ضدها واتهمت ضمنا مصر بالتشجيع على ذلك، طبعا لم يكن هذا صحيحاً، مصر ايضا لم تكن راضية، فقد تمت العملية خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة، وفي ذكرى ثورة يوليو، بعض الفصائل رأت العملية نوعاً من المزايدة، وديع كان نائبا لرئيس المجلس الوطني وكان حاضراً في القاهرة وخرج واعلن عن العملية، والصورة الوحيدة التي تتداولها وسائل الاعلام هي صورته يومها». بعد اقل من خمسة اشهر وتحديداً في ديسمبر 1968 هاجم شبان بالرشاشات طائرة «العال» وهي جاثمة في المطار وبعد صعود الركاب اليها، فوقع عدد من الاصابات، واعتقل عنصران.
ثم وبعد نحو شهرين في فبراير 1969 هوجمت طائرة «العال» في زوريخ وهي تستعد للاقلاع، وقد نفذ الهجوم ثلاثة شبان وفتاة، استشهد شاب اسمه عبدالمحسن والقي القبض على الآخرين، ادى الهجوم الى وقوع اصابات، استمر احتجاز الشابين والفتاة في سويسرا الى سبتمبر 1970 حيث اطلق سراحهم.
وفي 29 اغسطس 1969 خطفت طائرة «بوينغ» تابعة لـ«الخطوط الجوية العالمية» متوجهة الى دمشق، وقد اطلق الركاب والملاحون قبل تدمير الطائرة ،شارك في عملية الاختطاف ليلى خالد وسليم عيساوي وهي كانت اول عملية خطف بقيادة امرأة فلسطينية واعادت التذكير باول شهيدة للجبهة شادية ابو غزالة التي انفجرت بها في 21 نوفمبر 1968 قنبلة من القنابل التي كانت تصنعها للجبهة الشعبية وفق ما ورد في بيان العملية».
العملية الكبرى
اختطاف مجموعة من الطائرات الى مطار مهجور في الاردن، كان «الخبطة» الكبرى التي اذهلت المتابعين، فمن اتخذ القرار بمثل هذه العملية الضخمة؟ وكيف تمت؟ ولماذا اختير الاردن؟
الجواب يأتي دائما وفقاً لروايات مساعدي وديع حداد، حيث يقول احدهم ان القرار اتخذه جورج حبش في وقت كانت المنطقة «تعيش اجواء مبادرة روجرز التي قبلها الرئيس جمال عبدالناصر».
كان لدى القيادة تحليل مفاده ان القبول بالتسوية السلمية يعني القضاء على المقاومة الفلسطينية، في هذه الاجواء وجه حبش رسالة الى وديع حداد يمكن اختصارها بكلمتين هما «اشعل المنطقة» وهذا يعني ان المطلوب من وديع كان اعداد عملية تقلب الاجواء والمعادلة، وهكذا بدأ التحضير لخطف مجموعة طائرات، طائرة «العال» وطائرة سويسرية وثالثة بريطانية ورابعة اميركية. «العال» احبطت في الجو، السويسرية والاميركية فجرتا في مطار الثورة، ومعهما طائرة تابعة للخطوط البريطانية خطفها شاب فلسطيني من البحرين بمبادرة منه، اما الطائرة الاميركية الاخرى، ففجرت في مطار القاهرة.
كان من اهداف العملية ايضا مطالبة اسرائيل باطلاق سراح الاسرى الفلسطينيين. اطلق في لندن سراح ليلى خالد واطلق الذين اعتقلوا في زيورخ في 1969.
في زيورخ، كانت هناك جملة من الاجراءات. مجموعة تقوم بالاستطلاع وتقدم معلومات تفصيلية عن الهدف نقل الاسلحة تتولاه مجموعة ثانية لا علاقة لها بالاولى. يتسلم السلاح شخص لا علاقة له بالمجموعة ويسلمه الى المنفذين، من يسلم السلاح يعرفه شخص من المنفذين وبعد قيامه بتسلمي السلاح يغادر المكان، المنفذون لا يعرفون من قام بالاستطلاع ومن اوصل السلاح، اذا اعتقل المنفذ لا تكون لديه معلومات عن الآخرين، كانت هناك تدريبات للمنفذين حول سلوكهم في حال اعتقالهم، التدريبات تستند الى دراسات قانونية. كان هناك شخص يلعب دور المحقق او القاضي ويطرح عليهم الاسئلة المحتملة، ويتم تدريبهم على الاجابات التي يفترض الا يحيدوا عنها.
كان الشعار ان من يعمل في هذا العمل مصيره السجن او الاستشهاد، وعليه ان يكون مستعدا.
كان هناك
وقد ذهب وديع الى عمّان اثناء خطف الطائرات الى مطار الثورة، وكان هناك في استقبال الطائرات، ذهب قبل فترة لتحضير المكان الذي ستهبط فيه الطائرات، وقع الخيار على مطار عسكري قديم كان يستخدم في الحرب العالمية الثانية، كان من غير الوارد اقتياد الطائرات الى مطار عمان الدولي، بعد عملية بحث دقيقة، والاستعانة بمهندسين وطيارين تم تحديد المكان.
اما لماذا اختير الاردن؟ فلأسباب عدة «بينها قدرتنا على السيطرة على الطائرات بسبب وجود الجهاز المقاتل، ثم ان الدولة الاردنية كانت غير قادرة على السيطرة على الطائرات بعد وصولها من دون المجازفة باشتباكات واسعة مع المقاتلين». وقد أشرف وديع حداد على هذه العملية منذ اللحظة الاولى حتى نهايتها، اي من اختيار «المطار» إلى وصول الطائرات وإدارة العملية الاعلامية ـ السياسية، ثم تفجير الطائرات. ارتفعت حرارة الاجواء مع الجيش الاردني وخرج وديع الى عمان مع الرهائن، اي في حماية الدروع البشرية. كان وديع مستهدفا ولا بد من اخراجه.
كان مقررا ان يغادر الى العراق، لكن في ذلك اليوم لم نجد احدا من الاخوان العراقيين، لذلك عبرنا في الصحراء الى سوريا. مررنا بالسويداء، ومنها الى دمشق، وتوجهنا الى بيروت.
أسلوب عمل وديع حداد
كيف كان وديع حداد يعمل؟.. الجواب على لسان احد مساعديه:
ـــ كانت المعلومات تصل من عناصر الاستطلاع. تتجمع المعلومات لدى لجنة التخطيط، وعندما يتم اختيار الهدف يصبح الامر متعلقا بلجنة التنفيذ. بدأنا جمع معلومات عن اهداف وشخصيات اسرائيلية. كنا نقول انه بعد 25 سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية كان اليهود يطاردون من سمّوهم مجرمي النازية، فلماذا لا نلاحق نحن المجرمين الصهاينة. وضعنا لائحة تشمل ديفيد بن غوريون وموشي دايان وآخرين. درسنا اغتيال دايان في اميركا وبن غوريون في السويد. ارسلنا عنصرا الى اميركا لملاحقة دايان، لكن المسألة لم تبلغ مرحلة التنفيذ، وارسلنا اثنين الى السويد واعتقلا. جمعنا معلومات عن سفارات ومؤسسات اقتصادية، اضافة الى ضرب اهداف في الداخل كان متعذرا على الجهاز العسكري العادي الوصول اليها. وتفجير سينما «حين» في تل ابيب في 1974 وعملية مطار اللد في 1972.
ـــ في تلك الفترة كان هناك حرص على عدم استخدام التكنولوجيا في الاتصالات. كانت الاتصالات شخصية. يذهب شخص ويأتي شخص. في فترة التحضير كان التخطيط في مقر وديع، وكانت عناصر التنفيذ في متناوله. وكان المنفذون ينطلقون من بيروت وغيرها بحسب الهدف. كان القرار الاخير يتخذ في بيروت. الاجراءات معقدة. ارسال المنفذين وتوفير الاسلحة والتنسيق.
الألماني حامل حقيبة المال كاد يضيع أو يعتقل
سر اللوفتهانزا وراءه.. خمسة ملايين دولار
في فبراير 1972 حصلت عملية خطف طائرة اللوفتهانزا وكانت مالية.
ويؤكد احد مساعدي وديع حداد: السبب المباشر لها الاوضاع المالية الشديدة الصعوبة التي كانت تعيشها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الواقع ان الصعوبات كانت مالية وغير مالية، بحكم خصوصية «المجال الخارجي» وطبيعة عمله كان من مسؤولية وديع ان يضمن امن العناصر والمعلومات، هذا يستدعي عمليا وجود ثلاث او اربع شقق في بيروت لحماية الناس واسرار العمل، قبل ذلك كان منزل وديع في بيروت قد تعرض لهجوم، كما ان وديع استهدف ايضا في منطقة بشامون اذ قصفت الطائرات منزلا كان يستخدمه هناك، لم يكن امامه الا ان يقيم في اماكن مختلفة، في تلك المرحلة تكاثر الكلام، راحوا يقولون ان الازمة المالية حادة بينما يتنقل وديع بين عدد غير محدد من الشقق، طبعا كان الدكتور جورج حبش والرفيق ابو علي مصطفى يعرفان القصة لكن لم يكن في استطاعة وديع ان يشرح الامر للجميع، تصاعد اللغط حول هذا الموضوع.
تمت الدعوة الى مؤتمر للجبهة وبدأ اعداد الوثائق التي ستقدم اليه وغاصت الجبهة الى اذنيها في الاخذ والرد والانتقادات والحسابات الشخصية ادرك وديع ما سيثار في المؤتمر ولم يعجبه الاضطراب الحاصل وخاف على الجبهة من التفكك، وكانت الازمة المالية هي العنوان، وهكذا قرر وديع القيام بعملية مالية قبل عقد المؤتمر، وقع الخيار على شركة لوفتهانزا للاسباب المعروفة، كانت المانيا الغربية تقدم تعويضات لاسرائيل عما حصل ابان الحرب العالمية الثانية، نحن اعتبرنا ان هذه التعويضات تساعد اسرائيل على تصعيد سياسة العدوان ضدنا واعتبرنا ايضا ان من حقنا تدفيع الالمان.
التنفيذ
لكن اين رتبت عملية الـ «لوفتهانزا» يجيب مساعد وديع: في بيروت ونفذها شبان فلسطينيون باسم «ابناء ضحايا العدوان الصهيوني» خطفوا الطائرة التي انطلقت من مطار نيودلهي الى عدن، في مطار عدن كان لدى الشباب كلمة سر اذا تلقوها يتم الافراج عن كل من في الطائرة ويسلمون انفسهم للسلطات اليمنية، ومن دون تلك الكلمة لا مجال للمفاوضة، حصلت عملية الخطف وتلقت الشركة رسالة بالمطلب وهو دفع خمسة ملايين دولار موزعة على عدد محدد من العملات ومن فئات مختلفلة وان يتم تسليم المبلغ في لبنان، كانت الخطة التي ابلغت الشركة بها هي الآتية: يأتي شخص يريدي ثيابا من لون معين ويحمل حقيبة بمواصفات معينة ويخرج من باب محدد في مطار بيروت الى مكان توجد فيه سيارة من طراز «فولكسفاغن» مفاتيحها في داخلها. يفتح الرجل المكان المخصص للاوراق فيعثر على خريطة ترسم له طريقا عليه ان يتقيد به ويسير مسافة لا تزيد على اربعين كيلومترا وحين يصل الى النقطة المحددة يتوقف هناك. وكانت النقطة قرب فندق في صيدا.
وماذا حدث؟
ــ وافقت الشركة واتخذنا اجراءات تبدأ من المطار وصولا الى النقطة المحددة للتسليم. وفي الوقت المحدد لم يصل الرجل. كان وديع موجودا في بيروت ويستعد للتوجه الى النقطة المحددة لتسليم المبلغ لكن الرجل لم يأت في الوقت المحدد.
المفاجأة
بعد نحو ساعة خطر للشخص الذي كلف اصلا التأكد من وصول المبعوث الحامل للحقيبة ان يعود الى المطار، ففعل وبرفقته احد الشبان. وامام المطار حصلت المفاجأة. المبعوث بالملابس المحددة ومعه الحقيبة خرج الى الـ«فولكسفاغن» واطلع على الخريطة وادار المحرك ومشى. وقع الشابان في ما يشبه الارتباك. توجها الى المكان الذي كان يفترض ان يكون فيه وديع قرب منزله في منطقة الملا (في بيروت) صدع احدهما الى الطابق الخامس، حيث كان يوجد رجل اسمه احمد خرج ضريرا من السجون الاسرائيلية بفعل التعذيب. سأله عن ابو هاني، فقال لم يأت، سأله عن شخص آخر فرد بالجواب نفسه. فقال له: اذا جاء احدهما فقل له انني سألت عنهما وغادرت. خرج المكلف واقلع بالسيارة بسرعة مجنونة ومعه الشاب الذي رافقه الى المطار، وكان الهدف اللحاق بحامل الحقيبة الذي ادركاه في منطقة الجية الى ان وصل الى مدخل صيدا. شاءت الصدف ان تكون مرابطة هناك اربع شاحنات للجيش اللبناني. اعتقد الشابان ان العملية كشفت وان الجيش اللبناني اعد كمينا. فجأة نزل الرجل الالماني امام الفندق فاقتربا منه. كان اول ما قاله: اريد سلامتي، فأجابه احدهما: انت في امان، اين الحقيبة؟
في المقهى المجاور عثرنا على المهندس الشاب الذي كان دوره اصلا ان يبقى مع الالماني الى حين عودتنا. هذا الشاب لم يتم ابلاغه، لحسن الحظ، بالغاء الاجراءات.
ذهب وديع الى المكتب في الملا (منطقة في رأس بيروت) وسأل احمد ان كان احد قد سأل عنه فأجابه: سأل عنك فلان وغادر مسرعا وسمعت صوت دواليب سيارته وهو ينطلق بجنون. ادرك وديع ان المبعوث وصل فسارع، وهكذا التقى الجميع في المكان المحدد للتسليم. كان برفقة وديع رفيق له وشخص ثالث يعمل في المصارف ويستطيع ان يعد الاموال بسرعة. عد الرجل الاموال فقال: على السعر الرسمي لليوم المبلغ ناقص عشرة دولارات، فضحك وديع وقال: يجب ان يدفعوها.
كلمة سر
المهم اعطى الالماني بعض الدولارات وابلغ بكلمة السر التي نقلها الى الشركة ونقلها هؤلاء الى كابتن الطائرة الذي نقلها الى الشبان الذين يحتجزون الطائرة في عدن وانتهت العملية. كانت كلمة السر «ابو طلعت» وهو اسم احد شهداء الجبهة، وكان المسؤول عن عملية احتجاز الطائرة شابا فلسطينيا من قريته، وبالتالي لم يكن من الممكن حدوث خطأ، فهو يعرف القصة ومن هو ابو طلعت. وهكذا انتهت العملية.
الحلقة المقبلة: مطاردة إسرائيل براً وجواً وبحراً
يصدر قريباً عن دار رياض نجيب الريس
وديع حداد ورجاله.. كارلوس والآخرون.. في عالم خطف الطائرات وعملية أوبك والاغتيالات (1) أسرار الصندوق الأسود
تأليف: غسان شربل
قبل ان يصبح اسامة بن لادن المطلوب الاول في العالم، كان هناك كارلوس، الذي ارتبطت باسمه عشرات العمليات الارهابية حول العالم، منذ اطلالته الصاعقة في عملية اوبك، التي احتجز فيها وزراء نفط الدول المنتجة للنفط في اواخر ديسمبر من عام 1975.
لكن كارلوس، واسمه اليتش راميرز سانشيز، الفنزويلي الجنسية، «الأممي» الانتماء، الماركسي النشأة والمسلم حاليا (سجين في فرنسا)، لم يبزغ نجما فجأة، بل كان في بدايته كوكبا يدور في فلك وديع حداد (ابو هاني) أحد مؤسسي حركة القوميين العرب ورفيق جورج حبش في التأسيس وفي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبطل عمليات خطف الطائرات والعمليات الجريئة الاخرى، التي شغلت العالم وحبست انفاسه، خلال عقد كامل من السنين، بين نهايتي ستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت عمليات ذلك العقد متقنة الاعداد والتنفيذ، عصية على الانكشاف، تحرك ضمنها وخلال تنفيذها جيش اممي من ثوريي ذلك الزمان، بينهم يابانيون واوروبيون واميركيون وجنوبيون وعرب واكراد، ومن الجنسين.. وبين هؤلاء من لمع لاحقا في مواقع ومراكز عليا في دولهم.
عالم الاسرار ذاك، الذي كان عالم وديع حداد، لم يكشف النقاب عنه كاملا، الروايات التي نسجت او تناقلتها وسائل الاعلام، بقي معظمها ناقصا، ذلك انها جاءت من «الخارج»، ولم تستق معلوماتها ممن هم كانوا داخل هذا العالم، بل في صميم الدائرة الضيقة التي حركته.
الزميل غسان شربل، رئيس تحرير صحيفة الحياة، وفي كتابه «أسرار الصندوق الأسود» الذي تنشر «القبس» بعض فصوله تصدى للمهمة الصعبة، التي مرت سنوات من دون أن تنجز، الا وهي مهمة تقديم مشهد بانورامي لهذا العالم، يرسمه ويرويه «أبطاله» الحقيقيون واللاعبون الرئيسيون فيه، هؤلاء الذين احتفظوا طويلاً بالأسرار المكنونة في دواخلهم، ليجري تفكيكها اليوم من خلال رواياتهم التي ادلوا بها بعد ان ولى زمن كان زمنهم وجنحت السفينة التي كانوا يبحرون فيها في اتجاه آخر، أصبح لها معه ربابنة آخرون، يتقدمهم اليوم أسامة بن لادن.
أبطال تلك المرحلة يعمد غسان شربل إلى «استنطاقهم» بأسئلة ملحاحة، تتناسل من بعضها بعضاً، وهو يتقمص شخصية الخبير الذي تعود اليه مهمة تفكيك رموز الصندوق الأسود في الطائرة بعد سقوطها لمعرفة ما حصل طوال رحلتها.
الكتاب فصول تغلب عليها الحوارات، نتعرف فيها ومن خلالها إلى وديع حداد الذي لم نكن نعرف عنه سوى صورته «الرسمية» وهو يرتدي الحطة والعقال الفلسطينيين. ونتعرف على كارلوس أكثر من خلال حديثه المباشر ونقرأ تفاصيل عملية أوبك بخط يده. كما نتعرف إلى أنيس النقاش الذي اشتهر كبطل لمحاولة اغتيال شهبور باختيار، فيما هو كان الشخص الثاني في قيادة عملية فيينا. وإلى جانب هؤلاء، تبرز أسماء وشخصيات كثيرة، أسماؤها ضعف عددها، لأن كلا منها كان له «وكانت لها» اسمه الحركي. لكن قبل هؤلاء نستطلع المزيد عن شخصية جورج حبش.
وفي الرحلة بين متعرجات الأحداث التي حبست الأنفاس قبل أكثر من ثلاثين عاماً، نجدنا نحبس أنفاسنا ونحن نصطدم بالمفاجآت: رفيق الحريري كان في منزل وديع حداد.. جلال الطالباني كان عضواً في التنظيم.. خطفت طائرة اللوفتهانزا من أجل خمسة ملايين دولار.. روايات «أبطال» تلك الحقبة عن العمليات والأحداث تتقاطع في معظمها عند ترداد القصة الواحدة، إلا عندما يتعلق الأمر بعملية فيينا لخطف وزراء أوبك، الذين كان بينهم آنذاك وزير النفط الكويتي عبدالمطلب الكاظمي، وقد اعتبره منفذو العملية لأمر ما من «الأصدقاء» و«ثورياً».. هنا تجدنا أمام ثلاث روايات يختلف كل منها إلى حد التعارض. أحد مساعدي وديع حداد يقول إن هدف العملية كان قتل وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني ووزير النفط الإيراني جمشيد اموزيغار، كارلوس، وفي رواية بخط يده يقول شيئاً مختلفاً، ويجزم ان الزعيم الليبي معمر القذافي هو «العقل المدبر» للعملية، فيما يقول أنيس النقاش انه كان المخطط الأول للعملية وان الهدف كان مالياً، علماً بأن كارلوس لم ينف هذا الهدف، لكنه يشير إلى أن «الاتفاق» كان على أن تدفع الدول المعنية لاحقاً، لكنه يعتبر انه لم يصل اي مبلغ ويصف نهاية العملية بالكارثة.. هنا رواية كارلوس.
المحرر
هذه الرواية جاءت في رسالة مطولة بعثها كارلوس من سجنه، بواسطة محاميته وبخط يده، معتبرا انها الرواية الكاملة لما حصل في عملية فيينا لخطف وزراء اوبك، وقد كتب كارلوس هذه الرسالة بعد ان اغضبه ما جاء على لسان انيس النقاش بشأن العملية، وبالتالي سنلاحظ (بعد ايراد رواية النقاش) مدى الاختلاف والتناقض في العديد من التفاصيل كما سنلاحظ اختلافا عن رواية احد مساعدي وديع حداد.
رواية كارلوس تستحق الاهتمام لانه كان بطلها الاول.. وهنا التفاصيل:
مقر «اوبك»
فيينا، في الواحد والعشرين من ديسمبر 1975
انا اللاعب الوحيد في العملية الخارجية التاريخية للمقاومة الفلسطينية التي تميزت ببعدها الدولي المجيد، اذ واكبتها منذ اعدادها مرورا بمراحلها كلها، من التحضير الى التنفيذ، والمتابعة في ما بعد التنفيذ، لا سيما على الصعيد الامني واللوجستي والسياسي والدبلوماسي، وانا مخطط هذه العملية وقائدها العسكري، وذلك يمنحني الكفاءة لسرد سيرها بأدق تفاصيلها.
«العقل المدبر»: العقيد معمر القذافي.
التنسيق الاستراتيجي: كمال خير بك.
الاعداد: الدكتور وديع حداد.
التخطيط: اليش راميريز سانشيز.
التنسيق الخارجي: ويلفريد بوز.
التنسيق العربي: انيس نقاش.
كمال خير بك
كان الراحل كمال خير بك من الطائفة العلوية، ولد في منطقة القرداحة، وسكن في جوار عائلة الوحش التي عرفت في ما بعد بعائلة الاسد، وجلس على مقاعد الدراسة الى جانب رفعت الاسد، حكم على كمال صورياً بالاعدام اثر اتهامه باغتيال عدنان المالكي سنة 1955 في ملعب رياضي في دمشق.
انطلقت عملية «اوبك» مع كمال الذي كان عضوا في المجلس الاعلى للحزب السوري القومي الاجتماعي، وشارك في تأسيس منظمة ايلول الاسود، الى جانب الراحل فؤاد الشمالي وفؤاد عوض والشهيد علي حسن سلامة»، بتمويل من ياسر عرفات الذي قدم مليون دولار لهذه الغاية.
اللقاء مع القذافي
استقبل قائد الثورة الليبية الاخ العقيد معمر القذافي كمال في طرابلس الغرب نهاية اكتوبر 1975 واقترح عليه، او بالاحرى سأله ان كان بإمكانه تنفيذ عملية «اوبك» في 20 ديسمبر، عارضا عليه تزويده المعلومات والاسلحة والنفقات اللازمة. فأجاب كمال: «مستحيل، ليس لدينا الوقت الكافي، كارلوس هو الوحيد الذي يمكنه تحضير مثل هذه العملية في وقت قصير». وكان الدافع الاولي للقذافي اقدام السعودية على خفض اسعار النفط الى ادنى المستويات.
التقى كمال خلال زيارته طرابلس الغرب رئيس الاركان اللواء ابو بكر يونس جابر ورمضان، المسؤول عن العلاقات الدولية في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي (الحزب الحاكم الوحيد) والذي اوكلت اليه مهمة متابعة العملية، واعطاه 30 الف دولار لتغطية النفقات الاولية وتكاليف السفر الى عدن (عاصمة جمهورية اليمن الديموقراطية التي تم توحيدها مع اليمن الشمالي).
سافر كمال اوائل نوفمبر الى خور مكسر (في عدن)، حيث اجتمع معي فور وصوله. واعطيته موافقتي شرط الحصول على رد ايجابي من زعيمنا وديع حداد (ابو هاني) الذي قال لاحقا: «هؤلاء ليسوا جادين» وسألني ان كان لدينا الوقت الكافي لتنفيذ المخطط. واذ تحدثت عن الموضوع مع ويلفريد بوز، اجبته «طبعا»، ان باشرنا فورا.
موافقة حداد
وافق ابو هاني (وديع حداد) على العملية شرط ان يقدم الليبيون المعلومات والاسلحة، رافضا تسديدهم نفقات العملية تجنبا لاي حيلة مالية قد يلجأون اليها، واوكل مهمة تسديد كل النفقات الى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وفوضني ابو هاني كامل الصلاحيات لتنفيذ العملية، وحملت الى بيروت رسالة وجهها ابو محمد المسؤول الاداري عن العمليات الخارجية في «الجبهة الشعبية» وعضو اللجنة المركزية...
توزيع «العمل»
قسمت الكوماندوز الى ثلاثة فرق ثنائية:
كارلوس، القائد: رشاش بيريتا + مسدس براوننغ الفائق القوة (HP) + قنبلتان يدويتان.
انيس نقاش، القائد الثاني للعملية: مسدسان من طراز براوننغ (HP) + قنبلتان يدويتان.
ندى: مسدس توكاريف + قنبلة يدوية.
يوسف: توكاريف + قنبلة يدوية + متفجرات + ادوات تفجير.
كلين: براوننغ (HP) + مسدس سميث اند ويسون + قنبلتان يدويتان.
جوزف: رشاش بيريتا + براوننغ (HP) + قنبلتان يدويتان.
كانت القنابل الدفاعية (الشظوية) التي في حوزتنا من صنع روسي. وفر لنا اللوجستية والحماية واحتياطي المقاتلين (مقاتلين اثنين) في فيينا 16 مناضلا دوليا من جنسيات مختلفة، تحت قيادة ويلفريد بوز.
قمنا بكل التحضيرات بمساعدة الليبيين من دون حساب النفقات، كما اقدمنا بامكاناتنا الخاصة على تخزين الذخائر لتسليح 12 مقاتلا. وخططنا لعمليات دعم وحددنا طريقا تخولنا الانسحاب باتجاه تشيكوسلوفاكيا.
روقب الهدف في صورة متواصلة حتى اليوم الاخير، ونجحنا
(كنت من ضمن الفرقة) في الدخول إلى مقر «أوبك» مرات عدة. وتمكنا من اطلاق العملية ابتداء من 20 ديسمبر، من دون أي تدخل من الليبيين.
الهجوم
دخلت المبنى أولا ولحقني الآخرون واحدا خلف الآخر، وكنا نتكلم بالانكليزية للإيحاء بأننا من طاقم الصحافيين. صعدنا الدرج باتجاه الطابق الاول وشننت الهجوم بتغطية من أنيس، مسيطرا بالكامل على الموجودين في قاعة الاستعلامات. لكن بدلا من انتظاري، مشى أنيس نحو اليمين ودخل قاعة المؤتمرات في آخر الممر، حيث اطلقت النار عليه. فوصلت خلفه وأحكمت السيطرة على القاعة بعد اطلاق للنار أدى الى مقتل الكابتن يوسف إزمرلي، معاون الوزير الليبي، وإصابة مفوض كويتي في ذراعه.
بعدها، تمركزت ندى ويوسف مكاننا في قاعة الاستعلامات، وعندما حاول شرطي نمساوي وموظفة في المبنى الفرار، أمرتهما ندى بملازمة مكانهما، وأصابت الشرطي برصاصة في ظهره، فعادت الموظفة أدراجها.
وكان يوسف وكلاين في مركز المؤخرة، يغطيان المصعدين والدرج. نزع كلاين سلاح الشرطي الممدد على الأرض، ومن ثم وضعه في المصعد بمساعدة ندى التي ضغطت على زر الطابق الأرضي، وتوفي الشرطي لاحقا في المستشفى.
مقتل الملازم العراقي
التقط الملازم العراقي علاء حسن، الذي تزيد قامته على قامة ندى بثلاثين سنتيمترا يدها من الخلف لنزع سلاحها، وعلى رغم أنه كان مصابا بذراعه، استمر في الإمساك بها من الخلف. فالتفت كلاين، الذي كان دمر جهاز الاتصالات برصاصات (أصابت إحداها السماعة التي توضع داخل أذن موظفة الاتصالات)، وأصاب الملازم العراقي برصاصة في جبينه. فترك علاء حسن يد ندى، ومشى ببطء قبل أن يسقط في المدخل. عندها، توجه كلاين نحوه وأخذ مسدسه الذي كان داخل القراب. وشهد على هذه الحادثة ما يقارب الاثني عشر نمساويا..
كان يوسف وكلاين متمركزين عند اول الممر، في الجهتين اليمنى واليسرى، واتت ندى فيما بعد لمساندتهما، وترددت ايابا وذهابا باتجاه الصالة، اطلقت الكويتي الجريح الذي استخدم حزامه لتضميد جرحه، وتبعه المترجم البريطاني الذي اوكلنا اليه نقل مطالبنا الى السلطات، هاجمنا فوج التدخل التابع للشرطة، ونجح القائد السابق للفيرماخت في دخول قاعة الاستعلامات، واطلق ثلاث رصاصات باتجاه يوسف، لكن الرصاص ارتد على كلاين، فأصيب برصاصة في اسفل بطنه، اما الرصاصتان الاخريان فثقبتا سترته ورجْل سرواله، اثر ذلك اصاب كلاين النمسوي برصاصة في مؤخرته. وتواجد الاثنان في ما بعد في الغرفة ذاتها في المستشفى.
رمى جوزيف قنبلة يدوية بأمر مني، أدت الى شل الهجوم، بعدها اطلقت سكرتيرة الامين العام لـ «أوبك»، وهي امرأة فائقة الجمال طويلة القامة، لمساعدة الشرطي الجريح على الخروج من المبنى ان اقتضت الحاجة، واخبارالسلطات بأننا سنقوم بعملية قتل جديدة سيكون نائب الوزير السعودي اول ضحاياها. وخرج الشرطي الجريح من المبنى وهو يقفز على رجله، حاملا سلاح الـ «عوزي» الخاص به من طرفه الأعلى بيده اليسرى (بالإبهام والسبابة)، وكنت ارافقه وفي يدي قنبلة نزعت صمامها..
توزيع الوزراء
توزع زوارنا على الشكل الآتي:
1ـ أصدقاؤنا: العراقيون والجزائريون والليبيون والكويتيون.
2ـ أعداؤنا: السعوديون والإماراتيون والقطريون.
3ـ الحياديون: الاندونيسيون والنيجيريون والغابونيون والإكوادوريون والفنزويليون.
4ـ موظفو المبنى.
اجمتعت بالوزراء الاحد عشر الموجودين، وكان وزيرا قطر والامارات العربية المتحدة قد غادرا الليلة الفائتة اثر الحصار السعودي، وخلال الاجتماعين اللذين قابلت فيهما الشيخ اليماني في مكتب الامين العام، طرحت عليه الاسئلة التي تهمنا. وتكلم الشيخ بطلاقة لكنه اجاب عن اسئلتي بأقل ما يمكن، حتى انه حاول رشوتي بطريقة حاذقة. وأعلمت طايع عبدالكريم بأن زعيمنا هو أبوهاني.
عاين الوزير النيجيري الطبيب، كلاين ونصح بإدخاله الى المستشفى سريعا. بعدها، حمل الوزير الجزائري بلعيد عبدالسلام كلاين الى الطابق الأرضي، وأجرى أول اتصال سياسي قبل العودة الى القاعة كما كان متفقا عليه.
فرح الكاظمي
فرح الوزير الكويتي عبدالمطلب الكاظمي كثيرا، لكونه اعتبر ثوريا هو والوزيران الاندونيسي والاكوادوري (الجنرالان الانقلابيان المعاديان للشيوعية)، الامر الذي يسر التبادل، من دون ان يضفي عليه طابعا حميما، وكان الوزير الغابوني الشديد اللطف من مؤيدي القضية الفلسطينية، فوجه الي دعوة باسم الرئيس عمر بانغو لزيارة بلاده. كنت امضي اوقات الراحة برفقة ثلاثة فنزويليين، ضاق صدرهم من الانتظار لشدة خوفهم. وكان الموفدون الثلاثة التابعون لدولتي قطر والامارات تائهين من دون وزرائهم. واستدعيت أخيرا جمشيد اموزيغار الذي اصيب بحال من الذهول منذ بداية العملية.
ذل وزير
اقترب الأخير من الطاولة التي كنت قد وضعتها بجانب يوسف، وبدا كأنه في طريقه الى المشنقة. مددت له يدي، فأمسكها بيديه الاثنتين وحاول تقبيلها. فشعرت بالحرج فسحبت يدي وأمرته بالعودة الى مكانه من دون اصدار اي صوت.. كان اموزيغار الوحيد الذي اهان نفسه امامي بين اكثر من مائة رهينة.
امر المستتشار برونو كرايسكي جميع رؤساء الوفود بتدوين رسالة خطية، لطلب تصريح بمغادرة المكان معنا بارادتهم الشخصية. فنفّذ جميع الوزراء الطلب باستثناء الموفدين الاماراتيين والقطريين الذين كانوا في حال ذعر. ولم يطاوعوا المستشار، الا بعد ان اتى الشيخ اليماني ووبخهم، بتشجيع مني. وبعد قراءة الرسائل اعطيناها لرياض الازاوي الذي سلمها الى المستشار. وسمحنا للموفدين بأن يبرقوا الى حكوماتهم وعائلاتهم من دون مراقبة، ووعدناهم بأن البرقيات سترسل على شكل رسائل مغلقة..
في المطار كانت تنتظرنا طائرة مع طاقم مؤلف من متطوعين نمساويين ذوي كفاءة. وكان كلاين على متن الطائرة وكمامة الاوكسجين على فمه..
حكاية الفدية
فكر كمال في طلب فدية، غير ان ابو هاني شرح لنا بهدوء ان علينا الامتناع عن الدخول في اي صفقة مالية خلال العملية، كي لا نعرضها للخطر، وتم الاتفاق على ان الدول المعنية ستدفع لاحقاً، وهذا بالفعل ما حصل، رفضت الخمسين الف دولار التي عرضها عليّ ولي العهد السعودي (الملك فهد حالياً) وخلتباري، وزير العلاقات الخارجية الايرانية، واضطر الاخير الى تلقي المخابرات الهاتفية مكان رئيس الوزراء امير عباس هويدا الذي استدعاه الشاه فوراً (كانوا يريدون انقاذ حياة وزيريهم)، وكذلك لم يصل الى خزينة المقاومة الفلسطينية المبلغ الذي قدمه الامير فهد، كما ان الشاه لم يدفع حصته البالغة خمسة وعشرين مليون دولار.
عندما علمت في فيينا ان الوزير اموزيغار كان على رأس الوفد الايراني، قررت قتله فوراً بمؤازرة ويلفريد وأنيس، وبعدما ساعدت كلاين والدكتور رويندوزي على النزول من الطائرة، استقبلني بوتفيلقة والكولونيل احمد درايا (مدير الأمن العام) والكولونيل محمد بن احمد عبدالغني (وزير الداخلية) الذين يحتلون على التوالي كلا من المركز الثاني والثالث والرابع في مجلس الثورة، اثر ذلك، اطلقنا افراد الوفود المحايدة وشاباً سعودياً شديد السمنة.
عمدنا إلى اطلاق سراح عدد من الموفدين في كل محطة جديدة، بعد ان بثينا عبر الراديو البيان الطويل الذي حرره كمال باللغة العربية باسم «ذراع الثورة العربية»، وهي التسمية التي اطلقها أبو هاني على جماعتنا الحالية وأوكل إلى أنيس الاهتمام بـ«المفاوضات» في المطارات العربية، وكان مقرراً ان يحل مكاني في حال حصول أي مكروه خلال السطو على مقر «أوبك».
واتخذ دور أنيس طابعاً جوهرياً في آخر مراحل العملية في القاهرة، وبعد اعدام أموزيغار واليماني، كنا سننتقل إلى بلد صديق (كانت أمامنا خيارات كثيرة)، حيث كان مقرراً اطلاق آخر الموفدين، لا سيما الايرانيين والسعوديين.
في ليبيا
عندما حطت طائرتنا في طرابلس الغرب، وصل الوزيران الليبي والجزائري، وكان الأخير قد رفض البقاء في الجزائر العاصمة مع باقي أفراد وفده، صعد رئيس الوزراء الليبي الرائد عبدالسلام جلود إلى الطائرة فور فتح الباب وكان بالكاد يقظاً، وتصرف وكأنه لم يكن على علم بشيء (في الواقع، لم يكن يعلم شيئاً حتى انه كان يجهل هويتي) توجهت إليه بالتأنيب بعدما انتهى من القاء التحية على الوزراء وارسلته مع أنيس لتوضيح الأمور خارج الطائرة التقى أنيس اللواء أبو بكر يونس جابر في المطار وتأخر في العودة (كان العقيد القذافي قد اختفى في الصحراء الليبية حينها) نزلت إلى المطار ولاحظت ان الليبيين غير متعاونين، وعاد أنيس لرؤيتي وفي حوزته معلومات، وقال لي قبل دخوله الطائرة ان الأمور ليست جيدة فجأة، بدأوا بتوبيخنا عبر الراديو من برج المراقبة، طالبين منا مغادرة البلد، وبما انه لم يكن لدينا البرنامج المعلوماتي الذي يخولنا التوقف في طبرق لبلوغ بغداد بسرعة، اضطررنا الى العودة ادراجنا وقررنا انتظار طائرة «بيونغ 707» السعودية في مطار قرطاج في تونس، حيث رفض المسؤولون السماح لنا بالهبوط ليلا فقطعوا الكهرباء عن المنطقة باكملها، ما اجبرنا على العودة الى الجزائر العاصمة.
النهاية
وبعد مرور ثلاثة ايام وثلاث ليال من دون نوم، كنا مرهقين من التعب، وفشلت مخططاتنا الاولية عندما رفض الجزائريون منحنا اللجوء السياسي، اذا اعدمنا المتهمين الاثنين على اراضيهم، كذلك عجز القبطانان النمسويان المرهقان عن الاقلاع، كنا جميعنا نلتقط آخر انفاسنا وكانت الكارثة تقترب، كانت تلك النهاية.
تركنا زوارنا على متن الطائرة، وابرزنا سلاحنا الى وزير الخارجية وسلمناه اياها، لكن الاخير اعاد الي مسدسي بسرعة ووضعه في حزامي.
قدمنا نتائج سياسية ومالية للمقاومة باجمعها وكبحنا جماح غطرسة الطغاة طوال خمس سنوات، «خير الامور احمدها مغبة!»
سان مور، 31 يوليو 2003.
حكاية القرار بإعدام اليماني وأموزيغار
يقول كارلوس في حوار مع الزميل غسان شربل ان وديع حداد وبخه لانه لم يقتل وزير النفط السعودي احمد زكي اليماني كما امر. ويوضح: كان ابو هاني (وديع حداد) امرني فقط ان اقتل وزير النفط السعودي، اما القرار باعدام الوزير الايراني والمفاوض الرئيسي لاوبك جمشيد اموزيغار فقد اتخذته وحدي في فيينا، وايد قراري ويلفريد بوز وانيس النقاش (مساعد كارلوس في التنفيذ) بحماسة. ويضيف: اعدام الشيخ يماني كان قرارا صادرا عن جهات ثلاث (دولة عربية وتنظيمان عضوان في منظمة التحرير)، وذلك لاربع حجج مختلفة، تعكس وجهات نظر متناقضة في بعض الجوانب، من بينها: ــ دوره في تقديم ياسر عرفات الى المغفور له الملك فيصل، مما اوقع منظمة التحرير تحت ثقل جارف اكتسبته منظمة فتح بما حصلت عليه من اموال خليجية ومما جعلها قوة مناهضة للناصرية. ــ دوره بعد اغتيال الملك فيصل في تغيير السياسة البترولية القومية التي سطرها المغفور له.
أين ذهبت الــ 50 مليون دولار؟
يقول كارلوس: «خلافا لما روّج لم تكن هناك اي فدية خلال العملية (عملية اوبك) على الرغم من ان كمال خير بك فكر في ذلك في البداية، لكن ابو هاني (وديع حداد) شرح لنا ان دول اوبك كلها ستدفع، لكن بعد انتهاء العملية، وكان ذلك احد الانعكاسات او النتائج المرتقبة للعملية، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، ولهذا السبب رفضت الخمسين مليون دولار التي تم اقتراحها عليَّ، اثناء العملية. ولسبب اجهله تم دفع الخمسين مليون دولار باسم البلدين (السعودية وايران)، رغم رفضنا. وهذه الاموال لم تصل قط الى المقاومة الفلسطينية، ولذا رفض شاه ايران ان يعيد تسديد قسط بلاده من هذه «الفدية» اي 25 مليون دولار، للطرف السعودي.
الحلقة المقبلة: رواية أنيس النقاش
• كارلوس (بالقبعة) مع وزراء دول اوبك المخطوفين
29/08/2008
عالم خطف الطائرات والاغتيالات وعملية أوبك أواخر القرن الماضي أسرار الصندوق الأسود (4)
تأليف: غسان شربل
بعد العمليات الأولى لـ«المجال الخارجي» في الجبهة الشعبية، الذي كان يقوده وديع حداد، توافدت مجموعات ثورية من بلدان مختلفة الى الشرق الاوسط تطرق باب حداد، وبعد المرور بالتنظيم الطالبي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» والإعلام فيها، كان حداد يستقبل من يتوسم الجدية في عملهم.
تبدأ العلاقة ببلورة الأرضية السياسية وحين تتأكد صلابتها يبدأ التعاون وفق برنامج محدد. تبادل معلومات وتوفير وثائق وأسلحة وتسهيلات وتدريبات وأحيانا مشاركة مباشرة في العمليات.
تحوّل حداد رمزا وملاذا. وتحوّل «المجال الخارجي» معهدا للثوار تخرج فيه من هزوا العالم بعنف: «سالم» الفنزويلي الذي لم يكن غير كارلوس، و«مريم» اليابانية التي لم تكن غير نوريكو شيغينوبو زعيمة «الجيش الأحمر»، و«مجاهد» الأرمني الذي لم يكن غير آغوب أغوبيان زعيم «الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا».
«سالم» يقيم اليوم في سجنه الفرنسي. «مريم» سجينة في بلادها و«مجاهد» جندله الرصاص. سقطوا بعد رحيله. ربما بسبب غياب المظلة وربما ايضا لأنهم وقعوا في ما كان يحميهم منه: نسج علاقات مع دول واجهزة فضلا عن الوقوع في النجومية.
وجاءت عملية مطار اللد التي كانت ضربة موجعة وجهها «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية» الى اسرائيل عبر «الرفاق» اليابانيين. لم تنجح الأجهزة الاسرائيلية في كشف قصة المجموعة اليابانية التي تدربت في «معسكر بعلبك» في البقاع اللبناني وفي موقع قريب من صيدا في جنوب لبنان. ولم تعرف ان الشاب الياباني الذي غرق مصادفة في بحر بيروت كان احد الذين اختارهم حداد لتنفيذ عملية مطار اللد في 30 مايو 1972. وكانت عملية اللد واحدة من سلسلة عمليات استهدفت اسرائيل برا وجوا وبحرا.
تلك العمليات نفذها رجال ونساء من مختلف الجنسيات.. يابانيون من «الجيش الأحمر» الياباني، ألمان من «بادرماينهوف» وسواها، فرنسيون كانوا يعملون تحت رايات اليسار الثوري المتطرف، أرمن.. أكراد وطبعا فلسطينيون وعرب آخرون، كلهم تجمعوا تحت جناح وديع حداد (أبو هاني) وقد جاؤوا إلى «المجال الخارجي» في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان تحت قيادته، من أبواب عدة.
هنا بعض من هذه العمليات كما وردت في كتاب غسان شربل «أسرار الصندوق الأسود»:
مهاجمة إسرائيل.. براً وجواً وبحراً
عملية مطار اللد تهز تل أبيب فترد الضربة بأقسى منها في عنتيبي
ينقل غسان شربل عن احد مساعدي وديع حداد روايته عن عملية مطار اللد، وفيها:
اقام «المجال الخارجي» علاقات وثيقة مع تنظيمات ومجموعات كانت تعتقد ان المعركة واحدة على مستوى العالم كله وان كانت لكل بلد اوضاعه وخصوصياته، من تلك العلاقات كانت العلاقة مع الاخوة اليابانيين في 1972 كانت هناك مجموعة من «الجيش الاحمر الياباني» موجودة في بيروت وتخضع لعملية تدريب وكنا نتولى نقل عناصرها من شقة الى اخرى للمحافظة على سرية العمل.
كان لدى افراد المجموعة اليابانية ولع بالنقاش خصوصاً حول المائدة.
وقع في تلك الفترة حادث غير متوقع، كنا نتناول الغداء مع وديع في الجبل، ولدى وصولنا الى محلة الروشة في بيروت شاهدنا ازدحاماً غير عادي، سألنا عن السبب فقالوا ان شابا غرق امام صخرة الروشة مباشرة، لم يقل احد من هو الغريق، سألني الدكتور وديع: من هو الغريق؟ لم نعرف، تابعنا طريقنا ووصلنا الى مقرنا.
وبعد نصف ساعة تلقينا النبأ وهو ان احد الاخوة اليابانيين، كان مفروزا للمشاركة في عملية اللد، غرق في محلة الروشة، كان للخبر وقع قوي، فالعملية محاطة بقدر كبير من الكتمان والسرية، من الطبيعي ان يثير غرق شاب ياباني اسئلة حول هويته وماذا يفعل، كان لا بد من احتواء المسألة وقرر وديع التعجيل في ترتيبات تنفيذ العملية، طبعاً شعر المشاركون في العملية بالألم لفقدان رفيق كان مقرراً ان يشاركهم، لكنهم تجاوزوا الحادث وعقدوا سلسلة لقاءات مع وديع وتم التزام البرنامج وتعيين بديل للشاب الذي غرق خلال قيام عدد من افراد المجموعة بالاستحمام قبالة الروشة.
خطة العمل
شرح وديع لافراد المجموعة الخطة كاملة: الصعود الى الطائرة والاسلحة التي ستكون بحوزتهم ومن بينها قنابل صنّعها «المجال الخارجي» ولم تكن اجهزة المطارات قادرة على اكتشافها، بعد انتهاء قصة الياباني الغريق واستكمال الاستعدادات اعطيت تعليمات التنفيذ والتي كانت تتضمن الانطلاق الى محطة اخرى ومنها الى مطار اللد، كان المنفذون ثلاثة في حوزة كل واحد منهم رشاش من طراز «كلاشينكوف» مع الذخائر والقنابل، وصلوا الى مطار اللد وحين جاء دورهم للتفتيش فتح كل واحد منهم حقيبته وبدأ باطلاق النار.
هزت عملية اللد الكيان الصهيوني، كانت الضربةالتي وجهت اليه مؤلمة ومكلفة، دخل المنفذون المطار باسلحتهم، يابانيون ينفذون هجوماً جريئاً و«الجبهة الشعبية» تعلن مسؤوليتها، في الجانب المالي وحده انفقت مبالغ مالية هائلة لتحسين اجراءات الامن في مطارات اسرائيل ومطارات الدولة الغربية ايضا، راحوا يستبدلون اجهزة الرقابة باخرى اكثر تطوراً.
في أواخر عام 1975 سيسدد حداد ضربة مدوية عبر احتجاز وزراء نفط «أوبك» في فيينا. كان حداد غادر بيروت في 1976. لم يكن مؤيداً تحول المنظمات الفلسطينية إلى مجموعة جيوش علنية منتشرة في لبنان ومحصورة فيه. وها هي المقاومة تغرق في الحروب اللبنانية وتدخل في مواجهة مع سوريا.
عملية عنتيبي
في تلك السنة كاد حداد مجتمعاً مع الرئيس الصومالي محمد سياد بري في مقديشو، وكانت العلاقة «شهر عسل» سمح للقائد الفلسطيني بأن يكاشف بري ربغته في خطف طائرة لإرغام إسرائيل على الإفراج عن عدد من الأسرى. الواقع ان حداد كان يبحث عن مطار يستقبل الطائرة المخطوفة. اقترح الرئيس الصومالي على حداد الاتصال بالرئيس الأوغندي عيدي أمين الذي تردت علاقاته مع إسرائيل وأوروبا. وهكذا كان. وللمرة الأولى سيتضح في هذه الحلقة لماذا اختيرت عنتيبي. وافق عيدي أمين. وفي 26-6-1976 خطف «المجال الخارجي»، بمشاركة عضوين ألمانيين في «الخلايا الثورية»، طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية بعد توقفها في أثينا في طريقها من تل أبيب إلى باريس وعلى متنها 77 إسرائيلياً.
رافق حداد مجريات العملية من مكان قريب من المطار ومن مقر إقامة عيدي أمين وكان على اتصال دائم معه. رعونة الرئيس الأوغندي أدت إلى إطالة أمد المفاوضات، وكذلك مغادرته إلى قمة منظمة الوحدة الافريقية. لم يأخذ عيدي أمين باقتراح حداد توزيع الرهائن في مجموعات في الغابات، وراح يطمئن حداد إلى سلامة الإجراءات التي اتخذها الجيش الأوغندي.
في ذلك الوقت كان رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين يوالي اجتماعاته مع وزير الدفاع شمعون بيريز ويقلب الخيارات ومخاطرها قبل أن يطلب من الجيش الإعداد لعملية تدخل في نقطة تبعد أربعة آلاف كيلومتر عن إسرائيل. وفي 4 يوليو هبطت الطائرة الإسرائيلية في مطار عنتيبي ونزلت منها سيارة شبيهة بسيارة الرئيس الأوغندي وجنود بثياب الجيش الأوغندي أيضاً. فور اقتراب الطائرة الإسرائيلية حاول حداد عبثاً الاتصال بعيدي أمين، لكن الإسرائيليين كانوا قد نجحوا في تعطيل كل الاتصالات. ويروي رفاق وديع انه كان في المطار قبل ساعتين من وصول الإسرائيليين وانه طلب من الأوغنديين وضع عوائق على المدرج لعرقلة هبوط الطائرات لكنهم لم يفعلوا. كما تمنى وديع ألا يشارك الألمانيان في عملية الحراسة تفادياً لاضطرارهما إلى الاشتباك مع الإسرائيليين وما يمكن أن يعنيه ذلك نظراً إلى الحساسيات القديمة بين الألمان واليهود.
الكارثة
تحولت عملية عنتيبي إلى كارثة. خلال أقل من ساعة قتلت القوة الإسرائيلية كل المشاركين في خطف الطائرة واحتجاز الرهائن. أدى الاشتباك العنيف أيضاً إلى مقتل ثلاث رهائن وضابط إسرائيلي هو جوناثان نتانياهو شقيق رئيس الوزراء المقبل بنيامين نتانياهو الذي يقول عارفوه انه لم ينس لحظة واحدة مشهد جثة أخيه العائدة من عنتيبي.
لماذا عنتيبي؟
لكن لماذا اختيرت عنتيبي مكاناً لاستقبال الطائرة المخطوفة؟
يجيب أحد مساعدي وديع حداد: اتخذ القرار بعملية خطف طائرة بهدف الافراج عن عدد من المعتقلين. كانت هناك في تلك الفترة علاقة قوية بين وديع حداد والرئيس الصومالي محمد سياد بري. طرح وديع الفكرة على سياد بري الذي نصح بطرح الفكرة على الرئيس الأوغندي عيدي أمين، مشيراً إلى أن الأخير لديه مشاكل كثيرة مع الأوروبيين وقد يكون مستعداً لاستقبال الطائرة. كان وديع يعرف طبيعة عيدي أمين والعوامل التي يمكن أن تؤثر فيه. لذلك تم ارسال رجلين ضخمي جثة للقائه وطرحا معه الموضوع فأبدى استعداده. بعد العثور على مكان لاقتياد الطائرة إليه تسارعت الاستعدادات لتنفيذ العملية. كان وديع على ما أعتقد في الصومال وبعد وقوع عملية الخطف انتقل إلى عنتيبي للبقاء على اتصال مع عيدي أمين.
الشعور بالخطر
وضعت جملة من الترتيبات. نقل الركاب إلى عنبر في المطار وشارك المبعوثان إلى عيدي أمين في عملية الاحتجاز إلى جانب الخاطفين. طبعاً كان رأي وديع أن يتم توزيع الركاب في أكثر من مكان لتسهل السيطرة عليهم. ودرست الناحية الأمنية فحرص عيدي أمين على تأكيد ارتياحه إلى الإجراءات المتخذة. كانت العملية ناجحة تماماً لكن المفاوضات استمرت أكثر مما ينبغي. حين بدأ الوسطاء يقولون أعطونا المزيد من الوقت شعر وديع أن الإسرائيليين يرتبون شيئاً. اتصل بعيدي أمين وقال له إن الوضع بات خطيراً والمطلوب إما توزيع الركاب أو تشديد الحراسة. أبدى عيدي أمين ارتياحه إلى الاجراءات وتحدث عن فاعليتها. كان وديع على مقربة من المطار ومن مقر عيدي أمين وكان على اتصال معه.
.. وكان الهجوم
فجأة هبطت الطائرات الإسرائيلية على طرف المدرج ونزلت منها سيارات جيب عسكرية وسيارة مرسيدس شبيهة بسيارة عيدي أمين. سمع وديع صوت الطائرات فرفع سماعة الهاتف للاتصال بعيدي أمين فلم يتمكن. حاول مرات عدة فلم ينجح. إذ تمكن الإسرائيليون من تعطيل كل أنواع الاتصالات. في هذه الأثناء دوى إطلاق النار. دخلوا إلى العنبر بعدما قتلوا أحد شبابنا الذي خرج مستطلعاً وقتل آخر كان يرتاح ليتمكن من العمل لاحقاً. حين دخلوا هاجمتهم الفتاة الألمانية بالقنابل والشاب الألماني بالرشاش. الاثنان من «الخلايا الثورية» وقد قتلا. انتهت العملية بالسيطرة الإسرائيلية واستشهاد رفاقنا.
جيـــش أممــي
انضم الى العمل ضمن «المجال الخارجي» تحت قيادة وديع حداد او بالتنسيق معه كل من: الجيش الاحمر الياباني، و«مجاهدي خلق» من ايران وشخصيات ايرانية بينها عدد من الملالي، واكراد بينهم الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني وبادر ماينهوف والخلايا النورية و«الثاني من يونيو» من المانيا و«ايتا» من اسبانيا والساندينيون من نيكاراغوا، وكان بينهم شخص تولى وزارة الخارجية في بلاده لاحقا، والترباماروسا من اميركا اللاتينية، والجيش الارمني السري.
تفجير سينما جين
في 12ــ12ــ1974 فجر ايراني تابع لـ «المجال الخارجي» نفسه داخل سينما جين في اسرائيل وعن هذه العملية يقول احد مساعدي وديع حداد: ارسل «المجال الخارجي» شابا ايرانيا من طريق شرق اسيا بجواز بريطاني، كان الشاب قد تدرب على صنع المتفجرات من مواد محلية وتم تأمين الصواعق له، يدخل الى السينما حاملا قناني مرطبات تحوي قنابل او متفجرات مصنعة، واثناء عرض الفيلم يفتح القنابل ويرميها في السينما ثم يفجر نفسه بحزام ناسف، ونفذ العملية واستشهد موقعا عددا من الاصابات (26 بين قتيل وجريح).
فــي البحــر
بداية سنة 1971 استهدفت ناقلة كورال سي من قبل احدى مجموعات العمل التابعة لوديع حداد. فكيف تمت؟ يجيب احد مساعدي حداد قائلاً: انها ناقلة نفط اسرائيلية مسجلة في ليبيريا وكانت تنقل نفطا ايرانيا، هاجمناها قرب باب المندب في البحر الاحمر استلزم اعداد العملية شهوراً، اخذنا مجموعة من عشرة عناصر واقمنا في جزيرة بريم، كان يفترض ان نراقب البواخر التي تمر ولدينا جدول بمواعيد البواخر الايرانية المتجهة الى اسرائيل، وكانت المرة الاولى التي نستخدم فيها المناظير ما تحت الحمراء.
مضت ثلاثة اشهر اي من ابريل الى يوليو، في هذا الوقت تهب الرياح الموسمية ويحدث هياج في البحر، المركب الذي كان في حوزتنا كان قديما، كانت الاقامة في تلك الجزيرة اكثر من منهكة ارجأنا العملية الى بداية 1971.
كان رئيس الوزراء في اليمن الديموقراطي محمد علي هثيم، فطلبنا منه الحصول على مركب سريع، اجابنا ان ليس لديهم مثل هذا المركب، بعد فترة قال لنا ان ثمة مركبا موجودا في الميناء فاسرقوه. وهكذا حصلنا على مركبين، اطلقنا على الناقلة 11 قذيفة «ار.بي. جي» اشتعلت فيها النار وجنحت لكنها لم تغرق وقطروها لاحقاً.
حاورت كارلوس فرنَّ الهاتف وجاءني صوت مجهول قال: «انت تنشغل بكارلوس وتنسى من جعله نجما، كان مهما حين كان يستمع الى توجيهات معلمه وديع حداد الذي احاله الى التقاعد بعد عملية فيينا، القصة الفعلية موجودة لدى رفاق وديع، فلماذا لا تبحث عنها؟ لديهم خزنة اسرار تتعدى قصة كارلوس» سألته عن اسمه ورقم هاتفه فاكتفى بالقول انه مجرد قارئ، لم يتصل الرجل مرة اخرى لكن نصيحته كلفتني آلاف ساعات العمل وانا مدين له. لي في هذا العالم اصدقاء قساة، خطفوا طائرات، احتجزوا رهائن زرعوا عبوات، زوروا باسبورات وتحايلوا على المطارات اختاروا اسماء مستعارة وعاشوا في ظلها، تمردوا على الظلم وطاردوا «العدو في كل مكان» وعادوا من الرحلة، هذا اصيب في روحه وقهرته الايام، وذاك اصيب في جسده ويعيش مع الادوية والذكريات، وثالث دفن على بعد الاف الاميال من التراب الذي كان يناديه.
انهم رفاق الدكتور وديع حداد مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي ارتبط اسمها طويلا باسم قائدها الراحل الدكتور جورج حبش، طالبان فلسطينيان التقيا على مقاعد الجامعة الاميركية في بيروت، اغرقتهما النكبة في اسئلة عن حالة الامة ومستقبلها، اسئلة كانت تراود ايضا محسن ابراهيم وهاني الهندي واحمد الخطيب وغيرهم وسيلتقي كل هؤلاء في المؤتمر التأسيسي لـ «حركة القوميين العرب» في عمان في 1956 ومن رحم الفرع الفلسطيني للحركة ستولد «الجبهة الشعبية» في 1968.
قبل بن لادن
قبل عقود من طائرات اسامة بن لادن انهمكت مجموعة في قيادة «الجبهة الشعبية» في البحث عن وسيلة لهز ضمير العالم وتذكيره بالظلم اللاحق بالفلسطينيين، كان الغرض ايضا توسيع دائرة المعركة مع اسرائيل الى كل مكان، هكذا اقر مبدأ خطف الطائرات، وسيقع على عاتق وديع حداد مسؤول المجال العسكري الخارجي عبء التخطيط والتنفيذ واستقطاب «الرفاق» الاجانب المعادين للامبريالية الى حد الاستعداد لمقاتلتها على مسارح قريبة وبعيدة. في هذا السياق ستولد قصة «مريم» اليابانية و«مجاهد» الارمني و«سالم» الفنزويلي والذي لم يكن غير كارلوس الذي كان اشهر مطلوب في العالم قبل ان يسقط في يد الفرنسيين ويتنقل اللقب في بداية القرن الجاري الى اسامة بن لادن. لم يسمح لي القضاء الفرنسي بزيارة كارلوس في سجنه.
الزيارات ممنوعة، حاورته عبر محاميته فلم تطفئ اجوبته عطشي، راح يكشف ويخفي، احسست انه يتشاطر وقررت سلوك دروب اخرى، تذكرت ان مساعده في عملية احتجاز وزراء «اوبك» في فيينا كان شابا عربيا، رحت اسأل عنه واكتشفت ان ذلك الشاب لم يكن سوى انيس النقاش الذي سيلتحق باكراً بالثورة الإيرانية وسيتردد اسمه في العالم، حين حاول اغتيال رئيس الوزراء الايراني السابق شهبور بختيار في باريس، وقع النقاش في قبضة الفرنسيين وامضى عقدا في السجن، والغريب ان المحققين لم يسألوه عن دوره في «اوبك».
دور النقاش
اتصلت بالنقاش المقيم في طهران وتواعدنا على اللقاء في بيروت، طلبت منه ان يعترف للمرة الاولى بمشاركته في عملية «اوبك» وان يروي قصته كاملة، وعدني بدرس الموضوع وانعكاساته الامنية والقانونية، وحين وافق التقينا مجددا، وكانت الثمرة حلقات نشرت في «الوسط» في الشهر الاخير من عام 2000. استفز بعض كلام النقاش مشاعر كارلوس. قرر أن يوضح فحاورته في الشهر التالي. وهنا اتصل القارئ المجهول.
الوصول الشاق
كان الوصول إلى رفاق حداد شاقاً ومنهكاً. رجال أدمنوا العمل السري واختاروا العيش في الظل. يعيشون في أماكن متباعدة، ولم يعد يربط بينهم غير خيط الذكريات والوفاء لحداد. نفذوا بعد غياب «أبو هاني» عمليات لاتزال تمنعهم من كشف وجوههم وأسمائهم. حلقة ضيقة جداً تعرف أرقام هواتفهم وعناوين أماكن إقامتهم. رجال تدربوا على الحذر والشك والاحتراز. كلما اتصلت بواحد منهم كان يسألني كيف حصلت على رقمه وبواسطة من؟ كان لابد من إقناعهم. والفوز بثقتهم وتدريبهم على التحدث أمام آلة التسجيل المفتوحة. وطمأنتهم إلى أن الأشرطة لن تسقط في يد أحد آخر. وحين وافقوا على التحدث احتفظوا بشرط وحيد هو عدم ذكر الأسماء التي كانت لاتزال مدرجة في لوائح «الإرهاب».
الصندوق الأسود
هكذا عثرت على «الصندوق الأسود». التقيت الرجل الذي كان إلى جانب سرير حداد لدى وفاته وسألته إن كان مات مسموماً. والتقيت الرجل الذي تولى القيادة بعده. والرجل الذي شارك في خطف حبش من سجنه في سوريا. والرجل الذي تسلم من ألماني غربي هبط في مطار بيروت حقيبة تحتوي خمسة ملايين دولار مقابل الإفراج عن طائرة «لوفتهانزا». كما التقيت من شارك في عملية «مطار الثورة» في الأردن، وفي عملية عنتيبي التي تحولت مأساة، ومن شارك في التخطيط لعملية اللد التي نفذها اليابانيون. والتقيت الرجل الذي أشرف على تدريب كارلوس في معسكر جعار في اليمن الجنوبي. وحكى هؤلاء عن علاقة «المجال الخارجي» بالعراق وليبيا والجزائر.
رفيق الحريري
وعثرت في «الصندوق الأسود» على ما لم أكن أتوقعه. قال المتحدث: «بعد ساعات من قصف الموساد منزل وديع بالصواريخ في بيروت ذهبت إليه صباحاً. وجدت شاباً يجمع كسر الزجاج لكن ليس من المناسب كشف اسمه». أغلقت آلة التسجيل وسألت عن الاسم وجاءني الجواب: رفيق الحريري.
وفي قريطم سألت الحريري لاحقاً عن القصة فرد بابتسامة معترفاً ومسارعاً إلى القول: «لماذا تحب نبش الماضي دعنا نفكر في المستقبل».
.. وجلال الطالباني
وقال المتحدث إن حداد «نجح في تجنيد شباب يساريين من جنسيات مختلفة وأرسلهم في مهمات في أوروبا وبينهم شاب كردي عراقي يساري يلعب حاليا دورا قياديا». أغلقت آلة التسجيل وسألت فجاءني الجواب: جلال الطالباني، وبعد أعوام سألت الرئيس الطالباني عن القصة وفاجأني باعترافه بصحتها ونشرت حديثه في «الحياة».
في الأسبوع الأول من سبتمبر 2001 نزلت «الوسط» إلى الأسواق وكان غلافها صورة لوديع حداد مهندس خطف الطائرات، لم يكن احد يومها يتوقع ان يكون العالم بعد أيام على موعد مع طائرات أسامة بن لادن.
قرأ كارلوس ما نقلته وكالات الأنباء وصحف أجنبية عن «غابة أسرار المجال الخارجي». نجح في معرفة أسماء بعض المتحدثين، خصوصا «الرجل الثالث» الذي كان حاضرا في اللقاء الأخير بينه وبين حداد. لم يعد التشاطر ممكنا. كتب القصة الكاملة لعملية فيينا وأرسلها إلي.
نموذج اندثر
ولا بد لي من الإشارة إلى ان رفاق وديع الذين التقيتهم يمثلون نموذجا لم يعد شائعا، إنهم أنقياء في هذا العالم الملوث. حاولت أن أشتري دواء للرجل الذي أقعدته رصاصات «الموساد» فرفض وقال: «تحدثت إنصافا لوديع. اذا قبلت ثمن الدواء فسأشعر أنني بعت الأسرار». إن هذا الرجل الذي يعيش في ظروف مالية بالغة الصعوبة هو الرجل الذي تسلم حقيبة الخمسة ملايين دولار.
كتاب أورويل ساعده على صياغة موقفه من المسألة جلال أمين يحاول فك لغز التقدم والتأخر.
ولم يمض وقت طويل حتى وجدنا أن القوى التي حررت شعوب شرق أوروبا والبلقان من القبضة الخانقة للدولة اللينينية هي نفسها القوى التي تساند برامج تجويع الجماهير وتفتيت الأمم وتمكين قوى الهدم والتخريب والتناحر في البلقان والشرق الأوسط وآسيا المسلمة.
كل هذه التطورات جعلتني أعيد التفكير في فكرة التقدم التي بدت يقال إنها مسيحية في أساسها. وبدا لي أن الإسلام سد النقص الذي عانى منه الفكر الإنساني السابق على البعثة المحمدية بخصوص فكرة التقدم أو سعي الإنسان إلى الارتقاء بحياته، عندما حذر الإنسان من الانسياق وراء أوهام لن تجعله 'يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا'. وعندما حذر من أنه إذا أخذت الأرض زينتها وظن أهلها أنهم قادرون عليها، كان ذلك إيذانا بنهاية الحضارة البشرية، بأمر إلهي.
وهكذا بدأت أفكر في التقدم ليس باعتباره تحقيق الأفضل أو الارتقاء بالحياة، في المطلق، بل باعتباره مواكبة التغيرات التي تطرأ على حياة كل جيل، وهي تغيرات يحتمها الجهد البشري المتواصل لإحكام السيطرة على الطبيعة والذي وصل إلى منافسة الطبيعة والاستعلاء عليها.
فالإنسان اليوم يستعلي على الدواب بالقطارات والسيارات وعلى الطيور بالطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية. ويستعلي بكل هذه المخترعات وبغيرها على قيود الزمان والمكان والجاذبية. كما يستعلي بالمواد المصنعة على المواد الطبيعية من طعام وملابس وأدوية.
هذه بعض مظاهر 'التقدم' وهي مفيدة وضارة. تحقق للإنسان الكثير من المنافع وتجلب عليه الكثير من الأمراض الجسمية والنفسية. لكن رفضها يعني 'التخلف' عن العصر بخيره وشره.
ويمكننا أن نقول الأمر ذاته عن منجزات التقدم في المجالات الإبداعية (الرواية، الشعر، المسرح، السينما، التلفزة، الرسم، النحت.. الخ) (فمفاهيم الإبداع اليوم تقدم لقارئ هذا العصر ما هو نتاج عصره، وما يساعده على التعامل مع هذا العصر قبولا أو رفضا، تثبيتا أو تغييرا، أما مفاهيم الإبداع القديمة فلا تفعل ذلك.
ويعد الموقف الإسلامي العام من رواية سلمان رشدي 'آيات شيطانية' تعبيرا عن رفض لمفاهيم الإبداع المقبولة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وهو الرفض الذي دفعت ثمنه جمهورية إيران الإسلامية عندما حملت لواءه نهاية الثمانينات. وبوسع المرء أن يقول إن رفض رواية سلمان رشدي، بالأسلوب الذي عبرنا به كمسلمين عن هذا الرفض، ساعد على تهيئة الأجواء الكارهة للإسلام والمسلمين في الغرب والتي لم تكن، حتى هذه اللحظة إلا ستار دخان يخفي أمورا لا علاقة لها بالأديان والأعراق ولا علاقة لها بالإبداع، فهي أمور عسكرية وسياسية تتصل بما يسمى 'النهب الإمبريالي لثروات أمم الشرق'.
وحادثة تفجير تمثالي بوذا في أفغانستان دليل آخر على تفاوت كبير بين فهم ? شرقي مسلم ? للإبداع ورموزه، وفهم آخر غربي مسيحي ? يهودي.
هل يجوز لنا أن نسأل أي الفهمين أفضل؟ بالقطع، لا. ولكن هذا التفاوت في الفهم يجعل التواصل صعبا. وعلى كل أمة أن تجري حساباتها لتوازن بين اعتبارات الحفاظ على الأصالة واعتبارات الحاجة إلى التواصل مع الآخرين.
ظننت أن جلال أمين سيقول كلاما مثل هذا في كتابه " خرافة التقدم والتأخر" وأني سأجد في كتابه هذا تأصيلا للموقف الذي أشرت إليه.
لكني فوجئت به يرفض، في الكتاب، فكرة أن يكون هناك تقدم أو تأخر يلمح إلى أن القبول بالتقدم، وهو مطروح علينا اليوم في صيغة ولدت في أوروبا الغربية وتطورت في أميركا الشمالية، لن يكون أفضل من صفقة الدكتور فاوست الذي باع روحه للشيطان مقابل ملذات جسمية وعقلية.
ورغم أن الدكتور أمين يشير إلى أكثر من عمل علمي وأدبي ساعد على تبلور هذه المواقف الرافضة للتقدم في ذهنه، فإني أحسب أن الكتاب الذي أثر في صياغته للموضوع هو 1984 الرواية التي ألفها جورج أورويل، والتي قرأها جلال أمين لأول مرة عقب هزيمة العرب في 1976 وما كشفته من أكاذيب الإعلام العربي الرسمي بل وأكاذيب النظم الحاكمة.
ثم أعاد قراءتها عام 1990 عقب هجوم صدام حسين على الكويت لأنه يعلم، حتى من قبل ذلك الهجوم، أن صدام سياسي كذاب وان مبرراته للهجوم على أشقائه كاذبة ومصطنعة وأنه ليس إلا عميلا أميركيا ? إسرائيليا.
ومرة ثالثة، يعيد د. أمين قراءتها عقب الهجوم على نيويورك وواشنطن في سبتمبر2001 لعجزه عن التصديق بأن مجموعة من الإرهابيين العرب أو المسلمين خططت ونفذت هذا الهجوم من أجل رفعة الإسلام ومن أجل الانتقام من الولايات المتحدة وإسرائيل.
في هذه الرواية، رواية 1984 نكتشف أن المجتمع الذي يدعي انه وصل ذروة التقدم هو في الحقيقة واقع في وهدة التخلف. وان دعاة الرحمة هم جلادون قساة وأن دعاة الفضيلة وحراسها هم زباينة الرذيلة.
والإطار العام للرواية يدفع إلى الاعتقاد بأن استكمال الدولة الحديث لأدوات الحداثة يجعلها وحشا خرافيا يلتهم البشر ويجعل الحداثة أو التقدم كابوسا مرعبا.
لكن، أليس ممكنا أن نبرئ الحداثة من ذنوب الحداثيين كما برأنا المسيحية من ذنوب المسيحيين والإسلام من ذنوب المسلمين؟
وهل يمكن أن نعالج أمراض الحداثة بأدوية من القرون الوسطى أو ما قبلها؟ أم يتعين علينا أن نعالج الحداثة بالحداثة؟
قلت إن كتاب اورويل هو الذي ساعد جلال أمين على 'صياغة' موقفه من التقدم والتأخر.
القراءات زودته بالشكل أو بالغلاف أما المحتوى أو الجوهر فقد يكون له مصدر آخر نابع من تربيته في بيت أحد الثقات في دراسة الحضارة الإسلامية، ودخوله مرحلة الشباب والرجولة مع الوثبة الناصرية التي لم تثق أبدا في الغرب، وإن ظلت، مثلها مثل جلال أمين، من البداية للنهاية تشك فيه ولا تقدر على الطلاق منه. وها هي الوثبة التي انتهت بالنكسة امتزجت فيها رؤى التقدم بدعوى التخلف وسيطرت على الأجواء البارانويا التي تفسر كل ما يجري بمؤامرات تحاك في الخفاء.
أسامة الغزولي
قبل أن تقع عيناي على كتاب 'خرافة التقدم والتأخر' الذي كتبه الدكتور جلال أمين، بعدة سنوات كنت قد بدأت أشك في فكرة التقدم.
فبعد سقوط النظام السوفيتي في نهاية التسعينات وانحسار الظل الروسي الطويل والعريض عن بلدان أسيرة كثيرة، أصبحت القوى التي درج العالم على وصفها بأنها 'تقدمية' منذ العقد الثاني للقرن العشرين، تلعب دورا رجعيا يحاول أن يمنع الشعوب من الإفلات من قبضة الكرملين وتوابعه، فيما برزت القوى الموسومة بالرجعية كلاعب أساسي في تحرير هذه الشعوب وإطلاق طاقاتها، كما قيل آنذاك.