مصانع طحن البشر... في سجون الأسد بسورية
روايات مرعبة تكشف بعضاً من العذابات والفظائع وجرائم الإبادة
قضايا - الجمعة، 17 فبراير 2017 / 19,925 مشاهدة /
16
صورة تعبيرية لمعتقلين في أحد سجون النظام السوري
×
1 / 6
شارك:
+ تكبير الخط - تصغير الخط ▱ طباعة
| إعداد محمد ابراهيم |
حامد: كنا نتمنى الموت لأننا كنا نموت ببطء كل يوم
البعض لا يعرف أنه سيُعدم إلا عند وضع الحبل حول رقبته
الجثث متراكمة في الحمامات وسط أكياس قمامة تسيل منها الدماء
مازن حمادة اعترف «بكل شيء» بعدما هددوه بقطع...
وائل: أكلت الخبزة الصغيرة رغم أن السجان بصق فيها وصفعني
المقدم الطيار 20/31 أخفى التعذيب ملامحه وملأ دمه الزنزانة
استخدام كابل الدبابات والأسلاك الشائكة وآلات اللحام في التعذيب الوحشي
الألم أقسى من الجوع وأعمق من الطعن وأبعد بكثير من القدرة على البكاء
«كل ما كنت أريده بشدة أن أموت بهدوء»... «كانوا يعاملوننا كالحيوانات»... «كنت أرى الدماء تسيل بغزارة كالنهر»... «لم تكن لديهم أي مشكلة في أن يقتلوننا»... «سبعة أشخاص توفوا خنقاً حين توقفت أجهزة التهوئة عن العمل»... «بدأوا يركلوننا ليروا من منا لا يزال على قيد الحياة، وطلبوا مني ومن الناجين أن نقف، وعندئذ أدركت أنني كنت أنام بجوار سبع جثث».
هذه ليست جملاً مقتطعة من روايات بوليسية، لكنها عبارات واردة في شهادات على لسان معتقلين سابقين وحاليين في سجون النظام السوري ضمن حكايات مرعبة، لا تكشف سوى القليل مما يجري في هذه المعتقلات والزنازين من جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
منذ اندلاع الثورة قبل نحو ست سنوات، سيما بعد تحولها حرباً طاحنة بفضل «جهود» النظام وحلفائه من الميليشيات الطائفية، ونتيجة تخاذل وتردد المجتمع الدولي وعلى رأسه «أميركا - أوباما»، انصب التركيز - بطبيعة الحال - سياسياً وإعلامياً على أعداد الضحايا من قتلى وشهداء وجرحى، فيما سجون النظام العلنية والسرية تعج بمئات آلاف المعتقلين والمعتقلات الذين يعيشون ظروفاً مأساوية وترتكب بحقهم أبشع الجرائم الوحشية التي لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً، بدءاً بالاغتصاب وإجبار المعتقلين على اغتصاب بعضهم، مروراً بالاحتجاز لفترات طويلة إلى جانب الجثث والحرمان من الغذاء والماء، وصولاً إلى شتى أنواع التعذيب، كالصعق بالصدمات الكهربائية ونزع أظافر الأيدي والأرجل والسلق بالمياه الساخنة...
ورغم أن عشرات التقارير الدولية الصادرة منذ العام 2011 وآخرها تقرير منظمة العفو الدولية مطلع الشهر الجاري بعنوان «المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والابادة الممنهجة في سجن صيدنايا» الذي يوثق مقتل نحو 13ألف سجين بين العامين 2011 و2015، كشفت الكثير من جرائم جلادي الأسد ومرتزقته، ونجحت بتسليط الضوء على مأساة المعتقلين والمفقودين والمخفيين قسراً، إلا أن حجم جرائم الإبادة أكبر من ذلك بكثير ويستحيل حصره أو معرفة حجمه بالنظر إلى غياب دولة القانون في سورية منذ عقود وليس سنوات، ولأن ركائز النظام الأسدي قائمة على الجماجم والجثث.
وفي ما يلي بعض الشهادات المؤثرة والمرعبة التي وردت في تقارير دولية، أو نشرها معتقلون سابقون وحراس وموظفون وشهود على المواقع الالكترونية وعلى صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، أو كتبها آخرون من داخل زنازينهم:
غرف الموت تحت الزنازين
في تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في الثاني من فبراير الجاري، الذي يسلط الضوء على عمليات الاعدام شنقاً في منتصف الليل وفي سرية تامة بمعدل نحو مرتين في الأسبوع يومي الاثنين والأربعاء في سجن صيدنايا، يقول قاض سابق شهد الإعدامات، «كانوا يبقونهم (معلقين) هناك لمدة 10 الى 15 دقيقة»، فيما يؤكد معتقلون سابقون أنهم كانوا يسمعون أحياناً أصوات عمليات الشنق في غرف تحت زنزاناتهم.
وفي هذا السياق، يقول حامد، المعتقل السابق، «أصبح القتل هدية. كنا نتمنى الموت... لأن ذلك هو ما نفعله في السجن فعلاً، فلقد كنا نموت موتاً بطيئاً كل يوم».
وبالاضافة الى الاعدامات، يؤكد البعض أنهم «تعرضوا للاغتصاب أو أجبروا على اغتصاب سجناء آخرين في بعض الحالات»، فضلا عن التعذيب الذي يؤدي أحياناً الى الوفاة.
القذارة مع الطعام
ويروي المعتقل السابق كريم المعاناة مع الجوع والمرض، قائلاً «تجد على أرضية الزنزانة قشور الجلد المتساقطة من البثور والصديد الناجمة عن الجرب، والشعر المتساقط من أجسامنا، والدماء الناجمة عن القمل».
ويضيف «كل ما تريده من قذارة تجده على أرضية الزنزانة، ولكن تلك الأرضية هي التي ينسكب الطعام عليها أيضاً... نجلب الممسحة من مكان الاستحمام ونقوم بتجميع الطعام المسكوب على الأرض ونجعله على شكل كومة ونتناوله».
النوم على صوت الاختناق
ومن المعتقلين أيضاً من لا يعرف أنه على وشك الموت إلا عندما يوضع حبل المشنقة حول رقبته، كما أن أصوات الشنق كانت تسمع في بعض الأحيان.
ويقول ضابط سابق اعتقل في العام 2011: «إذا وضعت أذنيك على الأرض، يمكن أن تسمع صوتاً من نوع من الغرغرة... هذا من شأنه أن يستمر نحو 10 دقائق، كنا ننام على صوت اختناق الناس، وبعد ذلك اصبح أمراً طبيعياً بالنسبة لنا».
وحسب بعض الشهادات، فإنه بعد تنفيذ الأحكام، يتم نقل جثث السجناء بعيداً بشاحنات ليدفنوا سراً في مقابر جماعية، فيما لا تعطى أسرهم أي معلومات عن مصيرهم.
شلل نصفي نتيجة تكسير فقرات الظهر
يقول جعفر حاج قاسم (46 عاماً) الذي قضى نحو أربع سنوات في المعتقلات، «عندما كنت في فرع فلسطين بدمشق وإذا بشخص لا أعرفه مطلقاً ولم ألتق به طوال حياتي يعترف علي بأنني قائد مجموعة من مجموعات المعارضة المسلحة التي كانت بتلك الايام (العام 2012) قليلة جداً وقيد التشكيل، وتم اتهامي بامتلاك أسلحة وذخائر كي أعترف بها، لكني رفضت الاعتراف، وتعرضت لأشد انواع التعذيب وأقصاها حيث كانوا يقومون بإطفاء السجائر في كل أنحاء جسدي وحتى في لساني... ومن أساليب التعذيب أيضاً الشبح لساعات وأحياناً لأيام، وقلعوا أظافري».
ويضيف شارحاً أنواع التعذيب التي تعرض لها: «ضربوني بقضبان حديدية، نتج عن هذا التعذيب انكسار ثلاث فقرات في ظهري مما أدى لحدوث شلل نصفي في الأطراف السفلية من الجسم، وكان من نتائج الشلل أنه لم يعد بإمكاني أو بمقدوري الذهاب للحمام لقضاء حاجتي مما اضطرني لتركيب قسطرة بولية».
إجبار المعتقلين على اغتصاب بعضهم
ويقول عمر، وهو معتقل سابق في صيدنايا، «في فرع المخابرات يكون الهدف من التعذيب والضرب إجبارنا على الاعتراف. أما في صيدنايا، فيبدو أن الهدف هو الموت».
ويكشف أنه في إحدى المرات «أجبر أحد الحراس اثنين من المعتقلين على خلع ملابسهما، وأمر أحدهما باغتصاب الآخر، وهدده بالموت إن لم يفعل».
ويروي سلام، وهو محام من حلب أمضى عامين في صيدنايا، كيف ضرب حراس السجن مدرباً لرياضة كونغ فو حتى الموت، بعدما اكتشفوا أنه كان يدرب آخرين في الزنزانة.
تعليق من اليدين مع الضرب
محمد (25 عاما)، اعتقل في أحد الفروع الأمنية في دمشق لمدة تزيد على ستة أشهر. انتقل خلالها بين ثلاثة فروع أمنية، لينتهي به المطاف في «محكمة الارهاب»، ويخرج من هناك.
تحدث محمد عن الجروح المتقيحة التي نتجت عن التعليق يومين مستمرين من اليدين مع الضرب، حسب مزاج السجانين. تحدث عمّن مات بسبب جروحه التي تسبب بها التعذيب، أو لنقص الدواء، أو الاختناق بسبب كثرة العدد في الزنزانة. كما تحدث عن الأجساد المتزاحمة على سنتيمترات من أرضية لا تتسع لقدم واحدة.
يؤكد محمد أنه فقد أكثر من ثلث وزنه خلال مدة سجنه، لكنه اكتسب حياة جديدة بعد خروجه من السجن.
شقيقان في زنزانة
وفي قصة أخرى، يقول علي، الذي كان معتقلاً مع أخيه في الزنزانة نفسها، «أنا الأخ الأكبر، لكنني كنت من يحتاج إلى المساعدة. كبر أخي الأصغر كثيراً في المعتقل، وأصبح يهتم بي وبالآخرين».
يضيف علي: «الجثث كانت متراكمة في الممر الواصل إلى الحمامات، وفي الحمامات أيضاً. وكانت هناك أكياس قمامة يسيل منها الدم».
خنق المرضى في المستشفيات
يقول سامر، الذي نقلوه إلى موقع آخر بسبب وضعه الصحي السيء في فرع التحقيق، «تم نقلنا إلى المشفى، وكنا نحو 22 رجلاً، لم يبق منّا سوى أنا وصديق لي».
ويضيف «كان الاستقبال لنا في المشفى بخنق أحد المرضى أمام أعيننا، أما أنا فقيدوني إلى السرير، كما يحدث مع كل المعتقلين المرضى في المشافي، ويتم تحضيري لوجبات التعذيب عوضاً عن وجبات الطعام والدواء».
يفضل سامر البقاء وحيداً، ويرفض أن يكشف عن ندوب جسده للناس، لكنه يفعل ذلك مع أصدقائه المقربين.
انتزاع اعترافات تحت التهديد ... بـ «الخازوق»
يؤكد المعتقل مازن حمادة أنه تعرض لأقسى أنواع التعذيب في المعتقلات، وأنّه كان شاهداً على العديد من الفظاعات التي تمت، خصوصا في «المشفى المسلخ» حسب تعبيره، ويقصد به المشفى العسكري في حي المزة.
ومازن من مواليد محافظة دير الزور، مدينة الموحسن ويبلغ من العمر 21 سنة، وهو أحد خريجي معهد النفط، وكان يعمل موظفاً في شركة «شمبرجير» الفرنسية للتنقيب عن النفط في محافظة دير الزور بصفة فني. واعتقل ثلاث مرات على يد فرع أمن الدولة في دير الزور.
يقول مازن: «لم تمضِ دقائق على مغادرة طبيبة الطاولة التي كنا نحتسي عليها الشاي في مقهى ساروجة وسط دمشق، حتى قدم إلينا عدد من العناصر الأمنية وطلبوا منا إظهار هوياتنا، وبعد التدقيق فيها طلبوا منا الذهاب معهم، وكنت أنا وأولاد إخوتي الاثنين، ثم اقتادونا إلى مكان مجهول بواسطة سيارة مدنية، بعد أن غطوا رؤوسنا بواسطة الثياب التي كنا نرتديها، علمنا لاحقاً أنهم اقتادونا إلى فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري في دمشق».
ويتابع: «عند وصولنا إلى مطار المزة، بدأت العناصر باستقبالنا بالضرب الشديد بواسطة أنبوب أخضر بلاستيكي، وكان الضرب يتم على منطقة الرأس والظهر في شكل مباشر».
وعن أسلوب التحقيق معه، يقول: «قاموا بتكبيل يدي ووضع (الطميشة) على عيني ثم أخذوني إلى باحة، وهناك كنت أسمع أصوات المعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب، وعند وصولي إلى غرفة المحقق سألني عن توجهاتي السياسية واتهمني بالعمل مع التنظيمات الإسلامية، فأنكرت على الفور».
ويضيف: «طلب مني محقق الاعتراف بقتل جنود الجيش النظامي والهجوم على الحواجز العسكرية وحيازة السلاح، وقال إنه ذاهب ليدخن سيجارة وبعد عودته يريد الاعترفات على الفور. وبعد نحو خمسة دقائق، عاد إلى الغرفة، وسألني هل ستوقع على هذه الاعترافات أم أجعلك تقولها بالقوة؟
فقلت إنني لا أملك أي نوع من السلاح، ولم أحمل السلاح يوماً، ولم أقتل أي جندي، ولم أهاجم الحواجز العسكرية، فنادى على الفور على العناصر لضربي، وانهالوا عليّ بالأيدي والأرجل وباستخدام كبل غليظ وخرطوم، وكل ذلك لم يشف غليلهم، فقاموا بوضعي على الأرض وبدأوا بالدهس علي، وكسرت أربعة أضلاع من قفصي الصدري، وبقيت بعد ذلك مدة شهرين لا أستطيع التنفس في شكل جيد».
ويواصل: «ثم قاموا بتعليقي من يدي، وكنت مرتفعاً عن الأرض أكثر من 10 سنتمترات، ولم أستطع تحمل الألم الشديد، كنت أقوم بالصراخ بأعلى صوتي، فقام أحدهم بوضع الحذاء العسكري في فمي وحذرني من مغبة الصراخ ثانية، وفعلاً اعترفت بحيازة السلاح وحماية التظاهرات، ولكنني رفضت الاعتراف بقتل جنود الجيش النظامي، فأعادوني إلى غرفة التحقيق ثانية ثم أمروني بخلع جميع ثيابي، وجاؤوا بآلة حديدية وكانت عبارة عن حلقة حديدية، وقاموا بوضع «عضوي التناسلي» ضمن الحلقة وكانت اليد متحركة، كلما قاموا بشدّها كانت تضغط على العضو الذكري بشكل أكبر مما كان يسبب ألماً فظيعاً، وهددوني أنهم سيقطعون عضوي ما لم أعترف بكل شيء، وعلى إثرها اعترفت بكل ما طلبوا مني الاعتراف به، خصوصا بعد جلبهم للخازوق وكان عبارة عن رمح حديدي ذي رأس حاد يتمّ وضعه في مؤخرة المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم».
أشجع رجل رأيته في حياتي
كتب سجين سابق قضى نحو أربع سنوات متنقلاً بين السجون والمعتقلات هو وائل الزهراوي، عبر صفحته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي شهادات حيّة ومريرة عمّا رآه خلال الفترة التي قضاها بين جدران السجون الأسدية.
يقول في إحدى شهاداته عن سجين وصفه بأنه أشجع رجل رأه في حياته «عندما بدأ يشتمهم لم أصدق ما أسمع... ليس هناك مكان للشجاعة في أفرع الأمن...
- شو مسوي حالك زلمه يا... (فرد عليه) زلمه غصباً عنك... رد السجان وقال طيب… هلق منشوف والله لخلي مصارينك تطلع من تمك يا ابن العاهرة... بدأت أسمع صوت كبل الدبابة. قلت لأحدهم همساً بدي أشوف قال والله العظيم إن حسو (إذا شعروا) ليعدموني ويعدموك. قلت له «ما بئى تفرق (لا فارق) بدي شوف».
انحنى صديقي الذي كنت قد حملته سابقاً في كثير من الأوقات على ظهري... الجميع صامت تماماً وينظرون إلي... بدأ رفيقي ينهض وبدأت أرى من الطاقة الصغيرة التي تفصلنا عن الممر وغرف التحقيق.
كان ضخم الجثة له شارب خفيف وذقن طويلة.. تكاثروا عليه... علي وشادي وزكريا والسجان القاتل أحمد. اثنان بكبل الدبابة وواحد كبل رباعي وأحمد أمسك عصا غليظة... بدأوا يضربونه وهو يصرخ كلاب شوية كلاب وهم يلتئمون أكثر... تمنيته لو يسكت... دمه غطى كل الجدران... والله لو بموت لك كلاب خاينين كلاب آه آه يا ولاد الحرام...
اقترب السجان عليه بكبله القاتل ضربه عدة ضربات على قفى رأسه بالكبل، ثم أكمل أحمد بالعصا على وجهه وفمه ورفع شادي يديه وضربه على أعلى رأسه. استند للحائط ثم سقط للأرض وهو يحرك شفتيه دمه مشى في الممر... عيناه لم تعودا موجودتان... وضع عليه رجله فوق رأسه ودعس عليه وقال: شو شايفك خرست يا سبع زمانك!.
لك نحنا داعسين على راس أبوك... أراد أن يتكلم. أمسكه علي من رأسه وشده قلو شو... حاول أن يبصق عليه لكن كل ما خرج من فمه كان دماً خالصاً، وأغمي عليه. رماه على للأرض وقال هلق شي ربع ساعة بيفطس جهزولو بطانية... لم يأخذ كل ذلك ثلاث دقائق شعرت أنها تاريخ بأكمله لأشجع رجل رأيته في حياتي واجه الموت وهو يشتمهم هناك... هناك حيث لا يزال جزء مني يسمع صرخات المظلومين...».
اقتلاع اللحم في «أفظع عذاب عرفته البشرية»
وفي شهادة نشرها أخيراً وتداولتها صفحات الثورة السورية على «فيسبوك»، يروي وائل الزهراوي قصة مرعبة عن ضابط منشق قضى أمامه تحت التعذيب.
يقول: «لم يكن الموت هو ما ينتظر ذاك المقدم الطيار المنشق... لقد كان أفظع عذاب عرفته البشرية كلها في قسم التحقيق في مطار المزة العسكري - المخابرات الجوية».
ويضيف متحدثاً عن نفسه «رغم أن المساعد بصق في الخبزة الصغيرة وصفعني عشر مرات قبل أن يعطيني إياها إلا أنني التهمتها كما لو أنها أطيب ما ذقته في حياتي. مضى يومان وأنا مشبوح في غرفة الموت... والأصفاد كانت قد دخلت في لحم يدي عندما أدخلوا ذاك الرجل الأربعيني فجراً عارياً من كل شيء.. علقوه بالسقف من رجليه على غير عادتهم كان يرتعد بشدة لقد أدرك بحكم أنه ضابط ما الذي سيفعلونه به. بعد قليل دخل اثنان منهم يحملان كبلان للدبابات وتبعهم واحد يحمل قطعة من سلك معدني شائك من النوع الذي نراه على الحدود بين الدول...
أمسكه أحدهم من شعره و... «كال له التهديدات الممزوجة بعبارات كفر بالله عز وجل».
كانت عيونه تبكي من دون أن يحركَ ملامح وجهه. يبكي بكبرياء لم أر مثله في كل لحظات اللقاء مع الموت.
كنت عاجزاً لدرجة أني لم أستطع حتى البكاء معه...
أمسك المساعد السلك الشائك وبدأ يلفهُ حول كبل الدبابة حتى غطى كامل الكبل، فصار شكل الكبل مع الأسلاك الشائكة كوجه الموت الزؤام.
وكنت قد سمعت عن آلة لِحام الحديد ورأيت أناساً أحرقوهم بماكينة لحام الحديد. لكني لم أكن قد رأيتها أبداً قبل تلك الليلة.
دخل أحدهم وأدخل معه آلة اللِحام، وصلها بالكهرباء... بدأت أرتجف وكانت حركتي تزيد ألمي لأن الأصفاد كانت تحتك بلحم يديَّ...
كبلوا له يديه للخلف، كانت أول ضربةٍ هوت على جسده العاري بالكبل الذي كانوا قد وضعوا عليه السلك الشائك فصرخ صوتاً كأن الأرض قد صرخت معه، وفي كل ضربة كانت تقع على ظهره كانت الأشواك الحديدية تنغرس بجسده فيشدها المساعد المسخ مقتلعاً بها كل ما تحمله معها من لحمه الطاهر...
وعندما كان الكبل ذو الأسلاك الشائكة يصادف معدته كانت الأشواك الحديدية تغوص بلحمه لدرجة أن المساعد كان يشدها مرتين لتخرج ولتأخذ معها قطعاً من جسده...
اقترب المساعد الثاني وطعنه بآلة لحام الحديد فثقب له كتفه كله فبدأ يتقيأ دماً... وكأن مشهد الدم كان يغريهم فزادوا عليه بالكبال على كل أنحاء جسده وهو يصرخ يالله يالله مالي سواك يالله يالله ساعدني يا رب... وما زلت أسمع صوته حتى هذه اللحظة …
اقترب المسخ بآلة اللِحام وطعنه بكتفه الثاني بقضيب اللحام فثقب له كتفه الآخر، فأغمي عليه وصمت تماماً. ذهب أحدهم وعاد ومعه عصا الكهرباء. كان المسؤول عن التعذيب هو المساعد أول نصر اسبر قال لهم يالله صَحوه (أيقظوه)... ما بيطلع من هون غير عالقبر».
ويتابع وائل روايته مشيراً إلى رغبة أحد السفاحين بتجربة عصا الكهرباء عليه، «(يقول المساعد السفاح) بدي جربها على هادا سيدي». كنتُ أقرب معتقل له. نظر في عيني وقال إذا بتراجع وبتوسخ الأرض بعدمك هون فهمت ولا كلب.. لسا بروح وبرجع بشوفك بخلقتي ما بقى تموت ولا حيوان... كنت أنتفض وأنا معلق وأرجوه ألا يفعل، لم أترك شيئاً لم أتوسل به له لكن القدر أبى إلا أن أواجه مصيري في ذاك اليوم.
ضحك واقترب مني وصعقني بها في ركبتيّ. أردت أن أصرخ لكن شيئاً ما شَلَّ فمي. شعرت كأن أحداً ما أدخل سكيناً في عظامي وكأن قلبي قد انفجر وتجمدت عيناي ولم أعد أرى بهما... كانت الثواني تمر كأنها سنوات.
والألم جاء أقسى من الجوع وأعمق من الطعن وأبعد بكثير من قدرة البكاء. شهقت ولم أعد أقوى على التنفس... فبدأ يصفعني على وجهي... حتى عدت وشهقت من جديد.
سمعته يقول لي «طلع فيني هون ولاك طلع فيني هون»... لم أكن أراه حتى أنظر إليه كنت ألتفت إلى الجهة الخطأ فيصحح لي جهة رأسي بالكبل الذي أمسكه بيده الأخرى.. سألني شو اسمك شو اسمك ولاك (...) قلت له: أنا الرقم 1646 سيدي... قال بعرف بس شو اسمك ولاك احكي: قلت له وائل سيدي...وائل الزهراوي سيدي... فقال أيوه وهي لساك متذكر اسمك. أنا أصلا كل الدارسين حقوق بحبن... ثم أمسك الكبل الذي يقطر من دم المقدم ومسحه برأسي يريد أن ينظفه وقال لي: أصلا كلكن دمكن متل بعض دم وسخ...
وكم كان ما فعله عظيما وكم كان فعلاً جميلاً من مسخ قبيح لا يعي كل ما أشعر به ابداً. وكم فرحت أني أحمل بعضاً من دم ذاك الضابط الشهيد... فقطرات الدم تلك تساويهم جميعاً عندي.
وفي عمق ذاك الألم كنت أتساءل عما يشعر به وربع لحم جسده قد وقع تحت رأسه.
سكبوا على المقدم وعاءً من الماء. وما إن بدأ يصحو حتى صعقه المسخ بعصا الكهرباء في ظهره الذي لم يبق فيه جلد يغطي عموده الفقري. وزادوا عليه بكبل الدبابة... وبدأوا يضربونه على رأسه والكبل الملفوف بالأسلاك الشائكة اقتلع نصف فروة جمجمته.
وما لن أنساه حتى ما بعد الموت، كيف حاول في آخر لحظات حياته أن يثني جسده ويصل للأصفاد التي كان معلقاً بها كانت عيناه قد عميتا وورمتا لدرجة لا توصف ومع ذاك يريد أن ينجو...
بصق نصف أضراسه تحت رأسه... يحاول أن يقاوم الموت القادم لا محالة ولكن هيهات هيهات...
ثقبوا له فخذه وانغرس قضيب اللحام في عظامه وأثقلوه بالكبل ذي السلك الشائك في أماكن الثقوب وعلى رأسه حتى غابت كل ملامحه. كما يغيب الوطن خلف أحقاب القهر وكما يغيب الضوء عندما ينتصر الظلام وكما كنت أستسلم للموت وأدعوه أن يأخذني من هناك ويأبى...
ورأيته كيف كان ُيمطر الأرض دماً كأنه ينتقم من ظلمهم بنزفه، وشعرت أن الكون كله يمطر دماً... كان صوت تساقط دمه يشبه صوت ارتطام أكداس الجثث حين كانوا يرمونها فوق بعضها... جثث أبناء الوطن.
المقدم الطيار 20/31... هذا رقمه واسمه وتاريخه وبطولاته وأطفاله وحياته. صرخ بكل قوته ثم أسلم الروح هناك. هناك حين كنا نحب بعضنا لدرجة أننا ندفن معاً في مقابر جماعية.
بعد ساعة كان دمه قد ملأ الغرفة فكوا أصفاده فوقع على الأرض جثة لا يتحرك... وسحبوه من رجليه ليكون رقماً بين مئات الأرقام التي هي جبين الوطن وعزته وشرفه ورائحته.
في صباح اليوم التالي أنزلوني لم أكن اشعر بيدي ولا أستطيع التحكم بكتفيّ مطلقاً... لبست سروالي الداخلي بعد سبعة عشر يوماً قضيتها عارياً. أدخلوني للجماعية الرابعة، زنزانة المرضى.
ويختم وائل شهادته المؤثرة بالتوجه إلى الشعب السوري قائلاً: «عندما دخلت لغرفة المرضى كان عددنا 98 شاباً سورياً. بعد عشرة أيام أصبحنا 62... البقية قدموا أرواحهم لكم ورحلوا... تركوا لكم كل أحلامهم وصرخاتهم ورسائلهم ودماءهم ونظراتهم قبل الموت...».
يعد مرادفاً للوحشية واليأس واللا إنسانية
سجن تدمر... لو أحرق فلن تطهر نيرانه روح الصحراء التي سلبت آلاف الأرواح
«رأيت قطعة من فروة رأس أحد السجناء ملتصقة بسقف الغرفة»، «رأيت آثار الطلقات على سقف وجدران المهجع»، تلك مشاهد خالدة في ذاكرة الأسير أسامة الحلاق أحد الذين سجنوا في سجن تدمر، بعد ثمانية أشهر من ارتكاب مجزرة العام 1980. أما سجين آخر كان مسجوناً في سجن أبو غريب في العراق، فبمجرد رؤيته جدران تدمر تمنى «أن يعود إلى حيث كان».
سجن تدمر الذي كتب على أبوابه «الداخل مفقود والخارج مولود»، يعد أحد أكبر سجون سورية، وأسوأها على الاطلاق.
في هذا السجن، يمتلك الحراس صلاحيات مطلقة، يقتلون أي معتقل برصاصة أو يعذبونه حتى الموت من دون إبداء أي أسباب. خصصت لضحاياه مقبرة في منطقة وادي عويضة تلقى فيها جثث السجناء فرادى أو مجموعات.
سجن «لؤلؤة الصحراء» الذي يبعد نحو 200 كيلومتر شمال شرقي دمشق، يقع في قلب بادية الشام بتدمر، التي حولتها جرائم النظام لعاصمة المعتقلات والتعذيب على مدار خمسين عاماً.
يصنف بأنه الأسوأ بين عشرة معتقلات على مستوى العالم، متقدماً على سجن «كارانديرو» البرازيلي، و«بيتالك» الروسي، و«كوانغ بانغ» التايلندي، وتعتبره منظمة العفو الدولية مرادفاً «للوحشية واليأس واللاإنسانية».
وحسب موقع «كريمينال جاستيس ديغري هاب»، الذي أعد قائمة أسوأ السجون في العالم، فإنه «في سجن تدمر... سالت الكثير من الدماء وراء قضبانه، ولو أحرق فلن تطهر نيرانه روح الصحراء التي سلبت آلاف الأرواح ظلماً».
في داخل السجن، يقبع في غرفة واحدة لا تزيد مساحتها على 12 متراً طولاً و6 أمتار عرضاً، أكثر من 150 سجيناً، يقضون جل وقتهم تحت تعذيب تختلف فصوله، فيما يزيد عدد السجناء في الباحات السبع التي يتألف منها السجن على 20 ألف معتقل، في حين أنه يفترض ألا يؤوي أكثر من 7 آلاف.
يقول أحد السجناء الذين خرجوا من السجن، تعليقاً على الأحداث التي أدت إلى سيطرة «داعش» على تدمر أخيراً، إن السجناء الذين يعيشون خارج الواقع مغيبون قسراً عن كل ما يحصل في الخارج، لذا لا يستبعد أن يكونوا ظنوا أن ما يحصل من حولهم هو اجتياح إسرائيلي لسورية!
وكتب معتقلون سابقون عشرات الكتب عن السجن، رووا فيها تجاربهم المؤلمة.
ومن أهم هذه الكتب، «تدمر شاهد ومشهود»، الذي أصدره المعتقل الأردني سليم حماد، الذي اعتقلته المخابرات السورية في التسعينات عندما كان يدرس في إحدى الجامعات السورية، وقضى 11 عاماً قبل أن يطلق سراحه.
كما يعد كتاب «عائد من جهنم» الصادر العام 2012، من أهم ما صدر عن سجن تدمر، كتبه اللبناني علي أبو دهن الذي قضى 13 عاماً في السجن، منذ اعتقاله في مدينة السويداء العام 1987.
معاناة الكاتب بدأت في السويداء مع كابوس «فرع التحقيق» الذي سماه أبو دهن «فرع المسلخ»، حيث أجبر على توقيع اعترافات تحت التعذيب الشديد وبتأثير «الكرسي الألماني» والصعق بالكهرباء. في هذا الكتاب يصف أبو دهن الزنزانة التي اعتقل فيها وفيها آثار للرصاص والدماء.
كتاب «من تدمر إلى هارفارد.. رحلة سجين عديم الرأي»، ألفه الدكتور البراء سراج الذي قضى 12 عاماً في السجون السورية، ويؤكد فيه أنه يعتبر نفسه محظوظًا، لأنه شاهد عشرات عمليات الإعدام وكان يتوقع مع كل دفعة تساق إلى الإعدام أن يأتي دوره.
يصف السراج معاناته تحت التعذيب، في الغرف المظلمة والزنازين الرطبة الضيقة، والضرب اليومي والعقوبات المريرة، وقوافل الرجال الذين يقودونهم إلى ساحة الإعدام.
وتعد رواية «القوقعة» من أجمل وأهم ما كتب في مدونة أدب السجون السورية، كتبها الروائي مصطفى خليفة، وهو مسيحي اعتقلته مخابرات نظام الأسد بتهمة الانتماء لجماعة «الإخوان المسلمين»!
خليفة الذي قضى عشرة أعوام في السجن من دون أن يعرف التهمة الموجّهة إليه، يتحدث في «القوقعة» عن يوميّات شاب أُلقي القبض عليه لدى وصوله إلى المطار عائداً إلى وطنه سورية من فرنسا، بعد الانتهاء من دراسة الإخراج السينمائي.
ويسرد مصطفى يوميّاته كما عايشها. من يومه الأول في التحقيق، حتى آخر لحظة خرج منها من السجن.
يدخل مصطفى، كما يقول النقاد، إلى قعر المجتمع، من ثقب جدار الزنزانة، التي يتلصّص من خلالها على ساحة السجن الصحراوي.
«هناك، يلتقي بالأبرياء، المقاتلين، المناضلين والمجرمين. يلتقي بأطفال، شباب، رجال وعجزة. يلتقي بمثقّفين، خرّيجي جامعات، أطبّاء وغيرهم».
كائنات ملونة منتفخة
نشر موقع «أنا إنسان» رسالة مسربة كتبها معتقل قضى فترة في معتقلات الفروع الأمنية التابعة لنظام الأسد، توثق قسماً من مشاهداته.
كتب هذه الشهادة المعتقل (ن.ش) بعد وصوله إلى أحد السجون المدنية التي يتم تحويل من نجا من الموت تحت التعذيب في الفروع الأمنية إليها في سورية.
وفي هذه السجون قد يجد المعتقل هامشاً ضيقاً من الحياة كاد يفقد الأمل فيه أثناء فترة احتجازه في الفروع الأمنية.
كتب (ن. ش) جزءاً بسيطاً مما شاهده داخل أقبية الفروع الأمنية، وهي ليست سوى فصل من فصول التعذيب والموت الذي يحدث في سجون ومعتقلات الأسد. وفي ما يلي نص الرسالة - الشهادة:
في طريقه لشراء الخبز لأولاده واعداً اياهم بطبق من الفول اعتقلوه لمجرد انهم يريدون أن يعتقلوا، ليتموا به رقم الخمسين معتقلاً الذي أمرهم رئيس فرعهم باعتقالهم. وبعد ترقب وخوف لثلاثة أشهر طلبوه للتحقيق في ساعة متأخرة من الليل وطلع الصباح ولم يعيدوا«أبو المجد».
في الصباح كان علينا عند الخروج الى الحمامات القفز فوق جثة تبين أنها جثته التي لم تتحمل التعذيب، واضطررنا للقفز فوقها حتى لا ينالنا ضرب من السجان.
يدخلون الى جحيم المعتقلات شبان أقوياء اصحاء يتحولون بعد جلسات التعذيب الى كائنات ملونة منتفخة، وبسبب الجوع تغادرهم اجسادهم ويبقون عظاما يسترها جلد هش، تضغطهم الحياة ويحرمهم ضيق المكان النوم، يعصرهم اليأس فترحل عقولهم ليصبحوا كائنات جديدة تليق بهذا الجحيم، عقولهم لم تتحمل ضغوط المكان فأصبحوا غير مهتمين بنظافتهم، يرفضون الطعام ويقفزون فوق أجساد بعضهم البعض نتيجة ضيق المكان، بعضنا يتألم لحالهم والبعض الآخر يسكت لأنه يعلم انهم سيغادرونا ملفوفين بالبطانيات قريباً، وبعضهم قد يسرع في خلاصنا وخلاصهم فالبقاء هنا للاقوى.
أحد أكثر المنشآت تحصيناً
صيدنايا ... «قنبلة مولوتوف»
«سجن صيدنايا» هو سجن عسكري سوري، يعد من أكبر سجون البلاد وأفظعها. عُرف منذ تشييده العام 1987 بأنه «سجن عسكري»، لكنه في الواقع كان معتقلاً لمئات من السياسيين، وتحول منذ اندلاع الثورة العام 2011، مقراً لاحتجاز آلاف المدنيين.
يقع قرب دير صيدنايا المسيحي التاريخي على بعد نحو ثلاثين كيلومترا شمال دمشق، ويعد أحد أكثر المنشآت العسكرية تحصيناً.
وأكثر ما يلفت في السجن، الذي وصفته اللجنة العربية لحقوق الإنسان بأنه «قنبلة مولوتوف حية»، طريقة تصميمه التي قصد منها زيادة تحصينه منعا لحدوث أي تمرد قد يقع للسجناء داخله، إذ يتكون من ثلاثة مبانٍ كبيرة (أ وب وج) على شكل ماركة «مرسيدس»، وتلتقي كلها في نقطة واحدة تسمى «المسدس».الراي