للنقاء رمز و للشموخ رمز و للمظلومية رمز و..هو رمز ..سعد الدين الشاذلي

الفصل الحادي والأربعون: الأخطاء القيادية الجسيمة* أطالب بإلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة. هذا المنصب الذي لا نجد له مثيلا إلا في دول العالم الثالث المتخلفة.
* لو أن السادات لم يرتكب أي جريمة في حق الوطن سوى أنه عين أحمد اسماعيل قائدا عاما للقوات المسلحـة وهو يعلم انه كان مريضا بالسرطان، لكان ذلك دليلا كافيا لإدانته بارتكاب جريمة الخيانة العظمى في حق الوطن.
* إن القائد الذي يخشى أن يسحب جزءا من قواته من القطاعات الغير مهددة للزج بها في القطاعات المهددة بحجة أن ذلك قد يؤثر على الروح المعنوية. هو قائد انهزامي ولن ينجح قط في تحقيق أي نصر في أي معركة.
* لقد عارض السادات واحمد إسماعيل اقتراح الشاذلي بسحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 المدرع من الشرق إلى الغرب يوم 16، ولكنهما قاما بسحب الفرقة الرابعة المدرعة يوم 18. وعارضا اقتراح الشاذلي بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب يوم 20، ولكنهما قررا الأخذ بهذا الاقتراح يوم 28 أكتوبر. وفي الحالتين جـاء القرار متـأخرا ولم يحقق الهدف من هذه المناورات.
* لماذا لم تشكل لجنة قضائية عليا حتى الآن لتقصي الحقائق عن حرب أكتوبر، كـما حدث في إسرائيل، وكما يحدث في جميع الدول المتحضرة في أعقاب كل حرب؟.
* لماذا يخشى السادات قبول دعوة الشاذلي إلى مناظرة علنية كبديل مؤقت للجنة تقصي الحقائق؟
التستر على الخطأ جريمةفكرت كثيرا قبل أن اختار عنوان هذا الفصل "الأخطاء القيادية الجسيمة". وكان العنوان الذي في رأسي أول الأمر هو "أخطاء أحمد اسماعيل والسادات" ، حيث انهما هما اللذان ارتكبا تلك الأخطاء دون غيرهما. غير أن المناقشات والتصريحات التي أدلى بها بعض القادة وبعض المحللين العسكريين بعد الحرب كان بعضها يؤيد هذه الأخطاء. وحيث أن تلك الأخطاء التي سوف اسردها تتعارض مع أصول العلم العسكري وما نقوم بتدريسـه لأبنائنا في الكليات والأكـاديميات العسكرية، فقد خشيت أن يقتنع بعض القادة الحاليين وبعض طلاب العلوم العسكرية بتلك الأخطاء فتكون مصيبة كبرى بالنسبة لمستقبل مصر والبلاد العربية.
ولذلك فقد اخترت العنوان الذي ذكرته ليكون في نفس الوقت ردا لكل من يؤيد تلك الأخطاء بالصمت أو بالكلمة.

عدم المحافظة على الغرضالمحافظة على الغرض مبدا أساسي من مبادئ الحرية بل أنها هي المبدأ المحوري الذي تتأثر به جميع مبادئ الحرب الأخرى. ولذلك فإن المهمة التي تخصص للقوات المسلحة يجب أن تكون واضحـة، وان تكون في حدود إمكـاناتها. وحيث أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسيلة أخرى، فإن القيادة السياسية هي التي تخصص المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة.
ولكن القيادة السياسية تلجأ عادة إلى مناقشة هذه المهمة مع القادة العسكريين قبل إصدارها حتى تضمن إمكان نجاح القوات المسلحة في تنفيذها. ومنذ اليوم الأول لميلاد أول خطة هجـوميـة "المآذن العالية" في شهر أغسطس 1971، كانت القيـادتان السيـاسيـة والعسكرية على قناعة بحقائق ثلاث: هي تفوق العدو الساحق في مجال القوات الجوية. تفوق العدو علينا في مجال الحرب البرقية خفيفة الحركة BLITZ KRIEG كنتيجـة حتمية لتفوقه في القوات الجوية وفي وسائل الاتصال المؤمنة في الجو والأرض.والثالثة و الأخيرة هي أن أمريكا تؤيد إسرائيل تأييدا مطلقا سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وفي ظل هذه الحقائق كـان يجب أن يكون الهدف متواضعا. حـتى أن الرئيس السادات كان يقول في مؤتمرات القادة قبل الحرب "أريد منكم أن تنجحوا في احتلال عشرة سنتيمترات على الضفة الشرقية وان تحتفظوا بها. وسوف يؤدي ذلك إلى تعديل كبير في موازين القوة سياسيا وعسكريا".
وفي ظل هذه الحقائق وضعت خطة المآذن العالية التي كان هدفها هو عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلال من 10-12 كيلومتراً شرق القناة وفي خلال الفترة من أغسطس 71 حتى أكـتوبر 73، زاد حجم ونوعية قواتنا المسلحة، ولكن كانت تقـابلها أيضا زيادة في حـجم ونوعية قوات العدو. وبالتالي فإن الحـقائق الثـلاث التي أدت إلى الخطة الهجومية بقيت كما هي، وبالتالي فإن الهدف المحدد للقوات المسلحة بقي كما هو. كان كل ذلك يتم شفويا بين القيادتين السياسية والعسكرية، ولكـن أحمد إسماعيل بطبيـعته الحذرة طلب من القيادة السياسية أن تحدد مهمة القوات المسلحة في وثيقة مكتوبة. فأصدر السادات في الأول من أكتوبر 73 توجيها إلى القائد العام يحدد له مهمة القوات المسلحة والتي كانت كما يلي "تحـدي نظرية الأمن الإسرائيلي، وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانات القوات المسلحة، يكون هدفه إلحاق اكبر قدر من الخسائر بالعدو، وإقناعه أن مواصلة احتلاله لأراضينا تفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه. وبالتالي فإن نظريته في الأمن- على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري- ليست درعا من الفولاذ يحـميه الآن أو في المستقبل".
وكـان هذا يتماشى تماما مع جوهر خطة "المآذن العـالية" التي تغير اسـمها ليصبح "جرانيت-2" ثم "بدر". وبحلول يوم 9 من أكتوبر عام 1973 كـانت القوات المسلحـة قد حققت المهمة التي كلفت بها. فقد نجحت في خلال 18 ساعة في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف. وفي خـلال ألـ 48 ساعة التاليـة كانت قد نجحت في صـد جميع الهجمات المضادة التي قـام بها العدو. واعتبـارا من يوم 10 من أكتوبر كـان العدو يقف يائسـا أمام قواتنا الصامدة. لقد كانت خطتنا تهدف إلى وضع العدو أمام خيارين، كلاهما مر بالنسبة له وكلاهما حلو بالنسبة لنا. كان الخيار الأول :هو أن يقوم بهجمات مضـادة على قواتنا، وقد اتبع هذا الخيار يومي 8 و 9 ولكنه فشل في تحقيق أي نجاح. واعتبارا من يوم 10 بدأ يلجأ إلى الخيـار الآخر وهو التوقف عن شن هجـمات مضادة قوية. كانت المبـادأة بأيدينا، وكان العدو يتصرف كما نريد له أن يتصرف طبقا للخطة.
ولو أن القائد الـعام تمسك بمبدأ المحـافظة على الغرض لكان في إمكاننا أن نبقى في هذا الوضع عدة اشهر، بينما لا يستطيع العدو أن يتحمل هذا الوضع بضعة أسابيع، فلم يكن من الصـواب إذن أن ننسى تفوق العدو علينا في القوات الجـوية وفي أسلوب الحـرب البرقية (الحقيقتان الأولى والثانية) وان ندفع بقواتنا في عمق سينـاء ولم يكن من المقبول أن يبرر السادات أخطائه بالقول "إني لا أستطيع أن أحارب أمريكا" . فقد كنا نعلم مسبقا أن أمريكا سوف تؤيد إسرائيل سياسيا وعسكريا كما فعلت في الحروب السابقة (الحقيقة الثالثة). ولو أننا التزمنا بمبدأ المحافظة على الغرض لما استطاعت إسرائيل أن تزحزحنا عن مواقعنا شرق القناة مهما تحصل على مساعدات أمريكية.
عدم المناورة بالقواتالمناورة بالقوات أيضا مبدأ مهم من مبادئ الحرب فلو افترضنا وقوع اصطدام بين جيشين متساويين في الحجم وفي المعدات وفي النوعية وفي الروح المعنوية وفي كل شيء آخر. فإن الغلبة ستكون للجيش الذي يطبق قائدة مبدأ المناورة بالقوات. تماما كما يحدث بين لاعبي الشطرنـج اللذين يبدآن المباراة بقطع متساوية في العدد والنوعية والمواصفات. ومع ذلك فإن النصر يكون دائما لمن يحسن تحريك قطعه ونقلها من مكان إلى مكان. فيخلق بذلك لنفسه حشدا متفوقا في الاتجاه الذي يهاجم فيه إذا كـان يشن هجوما. وإذا كان اللاعب في الدفاع فعليه إن يسـتقرئ نوايا خصمه وان يسرع بتحريك قطعه إلى الأماكن المهددة حتى يكون على أهبة الاستعداد لإفشال هجوم خصمه.
ومادمنا نقوم بتعليم أبنائنا في معاهدنا العسكرية، أن تطبيق مبدأ المناورة بالقوات هو مفتـاح النصـر في كل الحـروب على المستوى الاستراتيجي، وفي كل المـعارك الكبرى والصغرى على المستويين التعبوي والتكتيكي. فلكي تكون هناك مصداقية لما نقوله لهم، فإنه يجب علينا أن نعترف بان القائد العام للقوات المسلحة في حرب أكتوبر لم يطبق هذا المبدأ فحسب، بل إنه كان أيضا يرفض النصائح التي كـانت تقترح عليه ضرورة المناورة بالقوات. كان أحيانا يبدي تخوفا شديدا من تأثير سـحب قوات من قطاع ما على أمن وسـلامة هذا القطاع. وكان أحيانا يبدي تخوفه من أن يؤثر هذا السحب على الروح المعنوية للجند وكان أحـيانا يقول: إن الموقف العسكري العام لا يستدعي ضـرورة القيـام بهذا الإجـراء. وفي الحالات النادرة التي استجاب فيها إلى تلك النصائح فإنه كان يقوم بها بعد تردد كبير، وبعد مضي بضعة أيام تكون فيها تلك المناورة قد أصبحت عديمة القيمة. وأن واجبي الوطني يحتم على أن أوضح لأبنائنا وأحفادنا من قادة المستقبل، ما سببته لنا مواقف احمد إسماعيل المتخاذلة من مصائب مازلنا نقاسي منها حتى يومنا هذا.
- إن عدم المناورة بالقوات هو الذي أدى إلى ثغرة الدفرسوار. إن عدم المناورة بالقوات هو الذي سمح لثغرة الدفرسوار أن تتسع. إن عدم المناورة بالقوات هو الذي أدى إلى حصار الجيش الثـالث ومدينة السويس. وأن تطبيق العدو لمبدأ المناورة بالقوات، وإحجامنا عن تطبيقه، هو الذي أدى إلى أن يحقق العدو كل هذا النجاح، رغم أن قواتنا البـرية بالجبهة كانت تتفوق في الحـجم ولا تقل في النوعيـة عن القوات الإسرائيلية التي في مواجهتها. وسوف أذكر فيـما يلي تلك السلوكيات الخاطئـة التي ارتكبها أحمد إسمـاعيل... والتي أدعو قادة المستقبل إلى ضرورة تفاديها.
الحذر الشديد
كان الحـذر الشديد يدفع أحمد إسماعيل إلى زيادة حجم القوات المكلفة بالدفاع بشكل يفوق كثيرا متطلبات الدفاع، وعلى سبيل المثـال فإن الخطة الهجومية الأصلية "المآذن العالية" لم تكن تتضمن تدعيم فرق المشاة الخمس المكلفـة بالهجوم بأية ألوية مدرعة. حيث إن فرقة المشاة بما لديها من أسلحة عضوية قادرة على صد فرقة مدرعة إسرائيلية تضم ثلاثة ألوية مدرعة. وكان في تقديراتنا أن أقصى ما يمكن للعدو أن يدفعه في اتجاه الجبهة المصرية هو 8 ألوية مدرعة و 4 ألوية من المشاة الميكانيكية. وبالتالي فإنه لن يستطع تدمير قواتنا التي تعبر إلى الشرق والتي كـان قوامها 5 فرق مشاة. إن أقصى مـا يستطيع العدو أن يفعله هو أن يركز هجومه على فرقة واحدة أو اثنتين. وقد ينجح في تدمير إحدى الفرق ولكن بعد أن يكون قد فقد نصف مدرعاته وبالتالي يفقد القدرة على متابعة الهجوم، ويهيئ لنا الظروف للقيام بهجوم مضاد نستعيد به الموقف. ومع كل ذلك فقد أمر أحمد اسماعيل بتدعيم كل فرقة مشاة بلواء مدرع. وهكذا قمنا بتخـصيص 5 ألوية مدرعة للفرق المشـاة، وكان ذلك بالتأكيد على حساب الاحتياطات التعبوية والاستراتيجية التي كان يتحتم علينا الاحتفاظ بها غرب القناة. كما انه كان يتعارض مع الأسلوب الأمثل في استخدام القوات المدرعة، والذي يحذر من تفتيت القوات المدرعة، ويدعو إلى استخدامها في حشود كبيرة في المكان والوقت المناسب لحسم المعركة.
وقد كان من الممكن إصلاح هذا الخطأ المؤقت لو أننا قمنا بسحب هذه الألوية المدرعة من الشرق واعدناها إلى وحداتها الأصلية المكلفة بواجبات الاحتياطات التعبوية والاستراتيجية. وقد كـان من الممكن تحقيق ذلك اعتبارا من يوم 10 أكتوبر بعد أن تحطمت هجمات العدو المضادة يومي 8 و 9 أكتوبر. ولكن الحذر الزائد من جانب احمـد إسماعيل دفـعه إلى الإبقاء على هذه الألوية مع الفرق المشاة بل انه عندما اتخذ يوم 12 قرارا بالتطوير-رغم المعارضة الشـديدة من جـانب رئيس الأركان وقـائدي الجـيشين الثاني والثـالث- فإنه دفع بلواءين مدرعين إضافيين ولواء مشاة ميكانيكي إلى الشرق. ومرة أخرى كان من الممكن إصلاح هذا الخطأ بعد أن فشلت عملية التطوير يوم 14، وذلك بإعادة الفرقتين المدرعتين الرابعـة والحادية والعشرين إلى مواقعهما الأصلية إلى الغرب. ولكنه رفض ذلك أيضا.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
عدم القدرة على التنبؤ
إن تقدير قدرات العدو هو العامل الأول في تقدير الموقف الذي يقوم به كل قائد قبل أن يتخذ قرارا سواء كان هذا القائد يقود فصـيلة أم كان يقود جيشا أم مـا هو أكثر من ذلك. ولكن بالنسبة للقادة الأصاغر فإن الفاصل الزمني بين تقدير الموقف وبين تنفيذ القرار يكاد يكون معـدوما. وبالتـالي فإن تقدير قدرات العدو خلال فترة تقدير الموقف لا تختلف عن قدراته أثناء تنفيذ القرار. ولكن الأمر يختلف كثيرا بالنسـبة للمستويات الأعلى. حيث إن الفاصل بين الوقت الذي يتخذ فيه قائد الجيش أو القائد العام للقوات المسلحة قراره وبين الوقت الذي يتم فيـه تنفيذ القرار قد يمتد إلى 24 ساعة، بل قد يمتد إلى بضـعة أيام. وفي خلال هذه الفترة سوف يتغير حتما حجم وأوضاع العدو عما كانت عليه وقت تقدير الموقف. وبالتالي فإن قادة التشكيلات الكبرى يجب أن تكون تقديرهم لقدرات العدو على أساس ما سوف تكون عليه
وقت تنفيذ قراراتهم وليس على أساس ما كان عليه العدو عند اتخاذهم القرار. وهذا يتطلب من قادة التشكيلات الكبرى أن يكون لهم القدرة على التنبؤ واستقراء نوايا العدو المستقبلية لبضعة أيام قبل حدوثها.
وللأسف الشديد فإن احمد إسماعيل لم تكن لديه القدرة على استقراء نوايا العدو. لقد اخترق العدو مواقع الجيش الثاني في منطقة الدفرسوار ليلـة 15/ 16 أكتوبر وبدأت قواته صباح يوم 16 تغير على مواقع كتائب الصواريخ المضادة سام-2، سـام-3 غرب القناة بمجموعات من الدبابات تقدر بحوالي 7 دبابات في كل إغارة وعندما ظهر لي أن قيادة الجيش غير قادرة على استعادة الموقف اقترحت في منتصف نهار يوم 16 أن نسحب الفرقة الرابعة المدرعة (كان للفرقة الرابعة لواء مدرع ولواء مشاة ميكانيكي في شرق القناة، بينما كان لها لواء مدرع في غرب القناة) واللواء 25 مدرع مستقل من الجيش الثالث إلى غرب القناة. ثم تكليف الفرقة الرابعة المدرعة بالكامل بعد تدعيمها باللواء 25 بتوجيه ضربة قوية لتصفية العدو في منطقة الدفرسوار في أول ضوء يوم 17. واعترض احمد إسماعيل على هذه الخطة قائلا: لماذا كـل هذه القوات ضد 7 دبابات وعبثا حاولت إقناعه أن قيـام العدو بالإغارة على كتائب الصواريخ بقوة 7 دبابات في كل مرة لا تعني أن كل ما يملكه من دبابات غرب القناة هو 7 دبابات؟. ثم إنه بحلول فجـر يوم 17 قد يصل حجم هذه الدبابات إلى لواء مدرع أو لواءين!. وكانت الخطة البديلة التي أمر بتنفيذها هي توجيه ضربة من الشرق يقوم بها اللواء 25 مدرع. تلك الخطة التي أدت إلى تدمير اللواء 25 مدرع (راجع الفصل 33).
التأثير المعنوي على الجنودكان احـمد إسـماعيل يخـشى أن يؤثر سحب قوات من الشرق إلى الغرب على الروح المعنوية للقوات، وان هذا السحب قد يتـحول إلى ذعر تصعب السـيطرة عليه. وكـان ذلك انعكاسا للعقدة النفسية التي كـانت تسيطر عليه منذ هزيمة 1967. تلك العقدة التي جعلته يخلط خلطا مشينا بين انسحاب عام 67 وبين المناورة المقترحة بالقوات عام 73. فقد كانت قواتنا عام 67 تنسـحب تحت ضغط من قوات العدو البرية والجوية، وبدون أي دفاع جوي من جانبنا، وبدون أي سيطرة من القيادة العامـة للقوات المسلحة. أما المناورة بـالقوات عام 73، فقد كانت تقوم بها قوات ليست على اتصال بالعدو. وكـانت تتم تحت ستر 5 فرق مشـاه وتحت مظلة دفاعنا الجوي، وفي إطار خطة محكمة تحت سيطرة القيادة العـامة. وبالتالي فان تحرك هذه القوات كان اقرب إلى أن يكون تحركا إداريا اكثر منه إلى تحركات العمليات. وبالإضافة إلى ذلك فإن انتصارنا في اقتحام القناة قد فجر في الضباط والجنود طاقات معنوية هائلة. إن إحـجام وتردد احمد إسماعيل في المناورة بالقوات هو خطأ لايمكن قبوله تحت أي عذر من الأعذار، وإن الادعاء بأن المناورة بـالقوات ما بين شرق القناة وغربها يمكن أن تؤثر على الروح المعنوية هو ادعاء باطل وانهزامي، ومن يؤمن بهذا الادعاء فإنه لن ينجح في تحقيق الانتصار في أي حرب.
عدم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسبكان تردد احمد إسماعيل في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب هو أسوأ صفات أحمد إسماعيل. ورغم كل ما يقدمه من مبررات، فإن ذلك يرجع أساسا إلى سببين رئيسيين الأول هو العقدة النفسية التي ترسخت في أعماقه نتيجة هزيمة 67 ونتيجة قيام عبد الناصر بإعفائه من منصبه مرتين، مما جعله يخشى المسؤولية ويتردد في اتخـاذ القرارات الجريئة. أما السبب الآخر فهو كونه كان يقود معارك على الخرائط فقط، ولم يزر الجبهة قط إلا بعد وقف إطلاق النار ببضعة أسابيع، وبعد أن أصبحت مزارا لكل الناس بما في ذلك طلبـة المدارس. وإن عدم اتصـاله بالضباط والجنود لم يسمح له بأن يلمس ما أحدثه نجاحنا في عبور قناة السويس في رفع روحهم المعنوية، وفي استعادة ثقتهم بقادتهم الذين رسموا لهم الخطط وهيئوا لهم الظروف التي مكنتهم من تحـقيق هذا النصـر. وبالتالي فإن الصـورة الكئيبة التي شاهدها عام 1967 بقيت مترسخة في أعماقه ووجدانه. فـأصبح يخلط بين المناورة بالقوات وبين الانسحاب . و بمعنى آخر يخشى أن يتطور انتقال أي قوات من الشرق إلى الغرب بهدف القتال أو تشكيل احتياطي إلى انسحاب مذعور تصعب السـيطرة عليه. وعندما يتشجـع ويتخذ القرار في النهاية يكون الوقت قد فات. وفيما يلي أمثلة على القرارات التي لم تتخذ في الوقت المناسب:
1- عدم سـحب الألوية المدرعة من الفرق المشـاة بعد نجاح العبور ونجاح قواتنا في صد جميع هجمات العدو المضادة يومي 8 و 9 من أكتوبر.
2- عدم سحب الفرقة الرابعة المدرعة والفرقة 21 المدرعة إلى الغرب بعـد فشل عملية التطوير يوم 14 من أكتوبر.
3- عدم سحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 مدرع يوم 16 بهدف تصفية الثغرة من الغرب. ولكنه عاد فسحب الفرقة المدرعة يوم 18، ولكن انسحابها جاء متأخراً 48 ساعة زاد خلالها انتشار العدو في الغرب واصبح الأمر يحتاج إلى سحب أعداد أكبر من الألوية المدرعة.
4- عدم سحب الألوية المدرعة التي طالب الشاذلي بسحبها يوم 20 (الفرقة 21 مدرعة وبها لواءين مدرعين+ اللواء 24 مدرع الذي كان ضمن تجميع الفرقة الثانية المشاة+ اللواء المدرع الذي كان ضمن تجميع الجيش الثـالث). وقد أدى هذا التردد إلى حصار الجيش الثالث ومدينة السويس. وبعد أن توقف القتال في 28 من أكتوبر ببضعة أيام أصدر أحمد إسماعيل أمرا بسـحب جميـع الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب. ولكن هذا القرار الذي جاء متأخرا مدة أسبوعين عن التاريخ الذي طالب فيه الشاذلي بسحب هذه الألوية افقدها الكثير من فعالياتها وتأثيرها على سير المعارك.
إغفال تشكيل احتياطيات جديدةيتحتم على كل قائد أن يحتفظ باحتياطي من القوات والنيران حتى يمكنه أن يواجه به أي تصرفات غير محتملة (راجع الفصل 33). وإذا ما دعت الضرورة إلى إقحام الاحتياطيات أو جزء منها في المعركة، فإنه يجب تشكيل احتياطيات جديدة لكي تحل محلها. وحيث إنه ليس من المتيسر على مستوى القيادة العامة للقوات المسلحة تشكيل وحدات جديدة لكي تحل مكان الوحدات التي كانت تشكل الاحتياطيات التعبوية والاستراتيجية. فإن التغلب على ذلك يمكن أن يتم بالمناورة بالقوات. تماما كـما يفعل لاعب الشطرنـج الذي يبدأ بعدد محدد من القطع ولا يسمح له بزيادتها إلى أن تنتهي المباراة.
وطبـقا للخطة الأصلية "المآذن العـالية" فقد كـنا نحتفظ في الاحتيـاطات التـعبوية والاستراتيـجية بقوات كبيرة قوامها فرقتـان مدرعتان وثلاث فرق مشـاة ميكانيكية وثلاثة ألوية مدرعة مستقلة (إجمالي الألوية المدرعة عشرة: اثنان في كل فرقة مدرعة وواحد في كل فرقة مشاة ميكانيكية، ولواءان مستقلان. لواء الحرس الجمهوري). ولكن الحذر الزائد من احمد إسماعيل اضطرنا إلى تخصـيص 5 ألوية مدرعة لتدعيم فرق المشاة. وقد كان مفروضا إعادة هذه الألوية إلى الاحتياط بعد أن نجـحت فرق المشاة في تثبيت مواقعها شرق القناة ولكن ذلك لم يحـدث. بل إن أحمد إسماعيل لجأ إلى زيادة تفتيت الاحتياطات كما سبق أن أوضحنا في الفصول السابقة حتى تأزم الموقف تماما. وفي يوم 20 من أكتوبر كانت الفرصة الوحيدة لإنقاذ الموقف هي سحب الألوية المدرعة الأربعة التي كانت في الشرق لكي نواجه بها الموقف المتأزم في الغرب ومع ذلك فإن احمد إسماعيل عارض هذا الاقتراح وانه لمن المؤسف حقا أن هناك بعضا من القادة يؤيدون اليوم هذا التصرف المعيب.
وإني أقولها صـراحة: إذا لم نوضـح لأبنائنا من طلبة الأكـاديميـات العسكرية أن عدم المناورة بالقوات، وتفتيت الاحتياطيات، وعدم تشكيل احتياطيات جديدة بدلا من تلك التي يتم إقحامها كانت جميعها من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها أحمد إسماعيل خلال حرب أكتوبر 73. فأبشروا بجيل جديد من القادة سيجلبون على مصر هزائم تتضاءل بجانبها هزيمة عام 001967 اللهم قد بلغت.
التدخل السياسي في القرارات العسكريةليس هنالك خلاف حول حتمية تبعية القيادة العسكرية للقيادة السياسية، حيث إن الحرب كما قـال كلاوزوفيتز هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى. ولكن الخـلاف يدور حول حدود ومدى هذه التبعية. وتتساوى في ذلك جميع الأنظمة السياسية سواء كـانت ديمقراطية أم دكتاتورية أم شمولية، وإن اخـتلفت الأسباب التي تراها الأنظمة لفرض هذه التبعيـة. ففي الدول الديمقراطية تكون القيـادة السيـاسية منتخبة بواسطة الشعب، وبالتالي فهي تمثل الشعب وتعمل على تحقيق أهدافه. في حين أن القيادة العسكرية غير منتخبة وبالتالي يجب إخضاعها لإشـراف القيادة السياسية المنتخبة. وقد ذهبت بعض الدول الديمقراطية إلى أبعد من ذلك عند تعيين رؤوس القمة العسكرية.
ففي الولايات المتحدة يختـار الرئيس الأمريكي رئيس الأركـان، ولكن هذا الاختيـار لا يكتمل إلا بعد عرض هذا الاسم على الكونجـرس وإقراره. وقد يلجا الكونجرس إلى دعوة الشخص المرشح لهذا المنصب لمناقشته والحوار معه عدة جلسات قـبل أن يوافق على تعيينه أو رفضه، فإذا رفض الكونجرس هذا التعيين فإنه يتحتم على الرئيس ترشيح شخص آخر يحظى بموافقة الكونجرس.
أما في الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، فالأمر يختلف. فالقيادة السياسية فيها هي قيادة مغتصبة، والمغتصب يريد دائما أن يحافظ ويدافع عمـا اغتصبه ضد أي غاصب محتمل آخر، أو ضد أي انتفاضة شعبية ضد نظامه. وحيث إن القوة العسكرية هي الوسيلة الأمضى لقمع أي انتفاضة شعبية ضد الحكم، وهي في الوقت نفسه تعتبر المرشح الأول لاغتصاب السلطة من مغتصبيها. فإنه من الضروري للحاكم أن يسيطر سيطرة كـاملة على القوات المسلحة، وبذلك يمكنه استـخدامها في قمـع أي انتفاضة شعـبية، ويضمن في الوقت نفسه الا تنقلب عليه. كانت الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفيتي- قبل ان تتحول إلى أنظمة ديمقراطية في أوائل التسعينيات- تلجا إلى السيطرة على القوات المسلحة عن طريق تسييسها بصفة عامة، وعن طريق تسييس القادة بصفة خاصة. فقد كان غالبيـة القادة الكبار أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وكان وزير الدفاع دائما هو عضو في المكتب السياسي. ونتيجة لذلك فقد كان هناك فصل بين اختصاصات القيادة السياسية ممثلة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي ، وبين القيادة العسكريـة التي يرأسها رئيس أركان حرب القوات المسلحة والذي هو في نفس الوقت عضو في اللجنة المركزية.
ونتيـجة لذلك فإن منصب رئيس الأركان كـان قمة الهرم العسكري سواء في الأنظمة الديمقراطيـة الغربية ام في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشـرقية ذات النظم الشمولية. وكان وزير الدفاع في كل من الكتلتين- سواء كان رجلا مدنيا أم عسكريا- هو حلقة الوصل بين القيادتـين السياسية والعسكرية. وبالتالي فلم تكن هناك حاجـة لدى تلك الأنظمة- رغم اختلاف طبيعتها- إلى أن تخلق وظيفة نصفها عسكري ونصفها سياسي كما فعلت الغالبية العظمى من دول العالم الثالث.
 
لقد ابتكرت الأنظمة في دول العالم الثالث- وغالبيتها أنظمة غير ديمقراطية- نظاما فريدا يميزها عما هو مـتبع في الدول الديمقراطيـة ودول الكتلة الشـيوعيـة قـبل تحولها إلى الديمقراطيـة.. وذلك بخلق وظيفة جـديدة تسمى القائد العام للقوات المسلحة. وهناك أربعة نماذج لهذه الوظيفة: النموذج الأول هو إسناد هذه الوظيفة إلى وزير الدفاع فـيصبح لقـبه وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحـة. النموذج الثاني هو أن يحتفظ رئيس الدولة بلقب القائد العام ويصبح وزير الدفاع هو نائب القائـد العام. النموذج الثالث هو أن يحتفظ رئيس الدولة بمنصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، ويلغي منصب رئيـس الأركان، ويستبدله بمنصب ذي صلاحـيات محـدودة يسمى أمين عام وزارة الدفـاع. النموذج الرابع والأخـيـر يلغى فيه منصب وزير الدفاع ومـنصب رئيس الأركـان، ويمارس رئيس الدولة سلطات هذين المنصبين من خلال أحد مديري مكتبه. وهذه النمـاذج الأربعة وإن اختلفت في الشكل، إلا أنها تتفق في المضمون والهدف، وهو تمكين رئيس الدولة من ممارسة أكـبر قدر من السيطرة على القوات المسلحة. ومصر هي إحدى دول المجموعة التي تتبع النموذج الأول. هناك إجماع في الرأي علـى ان القيادة السياسـية هي التي تحدد مهمة القوات المسلحة.

ولكن جرت العادة على أن يتم التشاور بين القيادتين السياسية والعسكرية قبل تخصيص المهمة حتى تكون المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة في حدود إمكاناتها. أما بعد تخصيص المهمة فإن القيادة السياسية يجب ألا تتدخل في أسلوب القيادة العسكرية في التنفيذ. وإن كان هذا لا يمنع عقد لقاءات مشتركة بين القيادتين لتبادل الرأي إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وحـتى يلم كل طرف بإمكانات وحـدود الطرف الآخـر. يحـدث هذا في كل من دول الكتلة الغربية بزعامة أمريكا ودول الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق، حيث بالنسبة لمصر ودول العالم الثالث، فالأمر يختلف. حيث أن جمع وظيفة وزير الحـربية- وهو عضو في القيادة السياسية- ووظيفة القائد العام للقوات المسلحة في شخـص واحد، يعني أن نصف هذا الشخص سياسي والنصف الآخر عسكري. فهو إذا تحدث في موضوع معين مع رئيس الأركان حول أسلوب تنفيذ المهمة بصفته وزير الحربية، فإن رئيس الأركان يستطيع أن يرفض ذلك. أما إذا تحـدث معه بصفته القائد العام للقوات المسلحة فإن رئيس الأركان يصبح ملزما بتنفيذ أوامرها وأقصى ما يمكن لرئيس الأركان عمله، هو أن يبين لـه العيوب والمشاكل والمخاطر التي سوف تترتب على تنفيذ هذا الأمر، فإن أصر القائد على التنفيذ فانه يجب على رئيس الأركـان أن ينفذ أوامر القائد وبنفس الحماس الذي عارض به الأمر قبل إقراره بصفة نهائية . حـيث إن تقاليد القوات المسلحة وسلامة وأمن أفرادها لا تسمح لأي قائد أو ضابط مرؤوس أن ينفذ من أوامر قائد ما يعجبه ويستبعد منها مالا يعجبه. وفي ظل هذا التنظيم وهذه المفاهيم شاءت المقادير أن يكون الفريق أول أحمد إسماعيل هو القائد العام للقوات المسلحـة ووزير الحربية، وكان الفريق سعد الدين الشاذلي هو رئيـس أركان حرب القوات المسلحة، إبان حرب أكتوبر 73. (راجع الفصل التاسع والعشرين).
ولاداعي لأن أكرر هنا ما سبق أن ذكرته في الفصول المسابقة عن الخـلافات التي وقعت بيني وبين أحمد إسماعيل خلال فترة إدارة العمليات الحربية. فقد عارضت الكثير من قراراته قبل أن يتقرر إرسالها إلى القادة المرؤوسين ولكن الموقف كان يحسم في النهاية بضرورة الالتزام بما يأمر به بصـفته القائد العام للقوات المسلحة. حدث هذا بالنسبة لقرار التطوير، وبالنسبة لموقفه من مطالبتي بضرورة المناورة بالقوات وبالنسبـة لأسلوبه في التعامل مع الثغـرة، وبالنسبة لموقفه يوم 20 من أكتوبر من اقتراحـي بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب. ثم كان يوم 25 من أكتوبر عندمـا تمردت على أوامره ورفضت توقيع الأمر الذي يتعلق بدفع الفرقة الرابعة المدرعة لفك حصار الجـيش، حيث إني كنت على قناعة تامة بان توقيعي على هذا الأمر يعني أنني اشترك في مؤامرة سوف تؤدي إلى تدمير هذه الفرقة (راجع الفصل الخامس والثلاثين).
ومن أجل مصر.. ومن أجل سلامة القوات المسلحة فإني أطالب بضرورة إلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة. هذا المنصب الذي لا نجد له مثيلا إلا في أنظمة دول العالم الثالث المتخلفة.. التي تضع سـلامة النظام وسلامة الحاكم قبل سلامة أمن البلاد. وبان نتبع في مصـر نفس الأسلوب الذي تتبعه الدول الديمقراطية. وهو أن تكون وظيفة وزير الحـربية وظيفة سياسية فقط فهو كعضو في القيادة السياسية يسـاهم في تخصيص مهمة القوات المسلحة في الحرب والسلم ولكنه لا يتدخل في أسلوب تنفيذ تلك المهام. فلو أن وظيفة أحمد إسماعيل خـلال حرب أكتوبر كانت هي وزير الحربيـة فقط، لكان في إمكاننا تحقيق انتصارات تفوق كثيرا ما حققنـاه وهو يجمع بين وظيفتي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة.
أحمد اسماعيل لاعب أم دمية؟!
أعتقد أن أحمد اسماعيل كان اقرب إلى أن يكون دمية في يد السادات من أن يكون شريكا معه في اتخـاذ تلك القرارات المهمة. فعلـى الرغم من أن التوجيه الاستراتيجي الذي أصدره السادات إلى أحمد إسماعيل ينص على أن تقوم القوات المسلحة بعمل عسكري يكون في حـدود إمكاناتها، إلا أننا نجـد أن السـادات كلف القوات المسلحة بعمل يخـرج عن حدود إمكاناتها عندما اتخذ قراراً يوم 12 من أكتوبر بتطوير الهجوم. وقد استجاب أحمد إسماعيل لهذا التكليف رغم علمه بأن العدو يتفوق علينا تفوقا ساحقا في مجـال القوات الجوية، وأن هذا الهجوم محكوم عليه بالفشل قبل أن يبدأ ومما يؤكد سيطرة السادات الكاملة على أحمد إسماعيل، ذلك التصريح الذي أطلقه السادات في أحد خطبه عام 1977 والذي قال فيه إنه كان يعلم بمرض أحمد إسماعيل بداء السرطان قبل وأثناء حـرب أكتوبر 73، وان الأطباء أخطروه بان حالته الصحية لاتسمح له باتخاذ القرارات، وإن السادات هو الذي كـان يتخذ القرارات (راجع الفصل التاسع عشر). ولولا هذه الشهادة التي يدين فيها السـادات نفسه بنفسـه، لما كان في استطاعة أي محكمة تاريخيـة إدانة السادات على ما ارتكـبه من أخطاء جسيمة أثناء الحرب. إذا ما قدم الدفاع عنه إلى المحكمة وثيقة التوجيه الاستـراتيجي التي بعثها إلى احمد إسماعيل، والتي يربط فـيها بين المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة وبين حدود إمكاناتها.
قد يكون من السهل على النقاد أن يتهموا السادات بالجهل، لأنه لم يخدم في القوات المسلحة سوى ثلاث سنوات وهو برتبة الملازم والنقيب في بداية الأربعينيات، ولأنه لا يحب أن يجهد نفسه في القراءة والبحث. ولكن هذا لا ينطبق على أحمد إسماعيل. فلا أحد يستطيع أن يشك في علمه وثقافته العسكرية، وإن كان قد اشتهر بجموده الفكري وخشيته من تحمل المسئولية. ولكن هل من الممكن أن يصل الجمود الفكري بأحمد اسماعيل إلى حد إهمال مبدأ عام وحيوي من مبادئ الحرب لايمكن تحقيق أي نصر بدونه وهو المناورة بالقوات هل يمكن أن يصل الجمود الفكري إلى حد أن يقوم يوم 25 أكتوبر بتكليف الفرقة الرابعة المدرعة بفك حصار الجـيش الثالث، بينما كانت قوات العدو غرب القناة تقدر بحوالي 3 فرق مدرعة وكان يمتلك زمام الجو، ولولا تمردي ورفضي توقيع هذا الأمر لدمرت هذه الفرقة؟!
وهناك أسئلة كثيرة مازلنا نجهل إجاباتها حتى الآن نذكر منها: هل كان احـمد إسماعيل يعلم بالرسـالة التي بعث بها السادات إلى كيسنجر يوم 7 من أكتوبر؟هل شارك احـمد إسماعيل السادات بالرأي عندما طلبت بريطانيا يوم 13 من أكتوبر- عن طريق سفيرها في مصر السير فيليب آدامز- أن يبدي السـادات رأيه في المشاورة الدائرة بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن حول إمكان وقف اطلاق النار في المواقع القائمة؟ وهل اتخـذ السادات قراره برفض هذا الاقتراح؟ (البحث عن الذات/ ص 344) دون التشاور مع صاحب المنصبين الرئيسيين اللذين لهما علاقة بهذا القرار؟؟ وهل طلب السادات مشورة احـمد إسماعيل- صاحب المنصبين الرئيسيين- عندما رفض الاقتراح الذي تقدم به الاتحـاد السوفيتي يوم 13 والأيام التالية، والذي كان يتضمن أيضا وقف اطلاق النار على الخطوط القائمة، أم أن السادات كـان ينفرد
باتخاذ القرار؟ وهل كان قرار دفع الفرقة الرابعة المدرعة -الذي تقرر إلغاؤه بعد أن رفضت التوقيع على أمر العمليات- صادرا من احمد اسماعيل عن قناعة أم انه كان ينفذ أمر السادات؟ هذه هي بعض الأسئلة التي يتحتم على المؤرخين الإجابة عنها قبل أن يمكننا أن نحدد طبيعة العلاقة بين الرجلين.
- وعمومـا فقد وردت شهادتين على لسان كل من حافظ اسماعيل وحسنين هيكل عن انفراد السادات باتخـاذ القرارات خلال حرب أكتوبر. يقول حافظ في تعليقه على اتخـاذ السـادات قرار وقف إطلاق النار يوم 21 أكتوبر على الخطوط الحـالية، دون أن يستشيـر أحد ما يلي "كان الرئيس وحيدا. كان هو الذي اختـار أن يواجه الموقف وحده لقد اتخذ وحـده من قبل قرارات مصيرية متعددة . وربما لم يجد ضرورة الآن، وحدة الأزمة تتصاعد، أن يدعو رفاقه ومعاونيه. واختار بان يجتاز الأزمة وحده لقد أراد أن يكون صاحب النصر عندما ننتصر. وهو الآن يرفض إلا أن يكون المسئول عن نتائج تحول المعركة. بينما كنت أظن أن هذه الساعات الحرجة التي نمر بها هي بالضبط الظروف التـي من اجلها بني تنظيم الأمن القومي لكي يدعى ليتحمل مسئوليته ويعاون على اتخاذ القرارات المصيرية. فلقد كـان الموقف يتطلب تفويضـا جديدا". (محمد حـافظ إسماعيل/ أمن مصـر القومي/ ص 360).
- أما هيكل فهو ينقل إلينا موقف السادات من أي مشروع قرار يناقشـه مجلس الأمن، فيذكر أن السادات قال له: "إنه من المستحسن أن يبت هو (السادات) في كل الأمور من هنا من القاهرة، وان يجيئوا إلي شخصيـا كلما أرادوا إدخال أو تغيير كلمة أو حرف" (هيكل/ أكتوبر 73/ ص 455).
تعالوا إلى كلمة سواء
الحرب عملية باهظة التكلفة. وتكلفة الحرب لا تقاس بمجموع مـا يتم إنفاقه خـلال فترة العمليات الحربية وما تتحمله الدولة من خسائر بشرية ومادية خلال تلك الفترة. بل يضاف إليها ما تنفقه الدولة على قواتها المسلحة خلال سنوات السلم التي يتم خلالها تجهيز وتدريب تلك القوات، وما يتم إنفاقه لتامين الشعب ضد أخطار الحرب عند انـدلاعها. ونتائج كل حرب هي التي تحـدد مدى نجاح الدولة في تدبير شـئونها العسكرية من حـيث التسليح والتدريب وترشـيد الإنفاق. الخ. ولذلك فإن الدروس المسـتفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن، لأنها تكون رصيدا للدولة إذا ما اشتركت في حرب أخرى.
وهذه الدروس المسـتفـادة لا يمكن التوصل إليها، إلا إذا عرفت الأخطاء التي ارتكبت بواسطة أحد الأطراف وأدت إلى هزيمتـه أو أدت إلى وضعه في موقف صعب. وان اكتفائنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خـلال حرب أكتوبر، وعدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدى قادة الأجـيال التالية شعورا بالتفوق الزائف، الذي قد يؤدي إلى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم وأجدادهم. ولذلك فإنه يجب علينا أن نعترف بأنه رغم النجاح الباهر الذي حققناه بعبورنا قناة السويس وتدميرنا خط بارليف في 18 سـاعة فقد ارتكبنا سلسلة من الأخطاء. إذ إن تطوير الهجـوم يوم 14 أكتوبر كان قرارا خاطئا، وهو الذي أدى إلى حـدوث ثغرة الدفرسوار ليلة 15/16 أكتوبر. كمـا أن عدم المناورة بقواتنا المدرعة واستغلال خفة حـركتها لكي نتصدى بها للقوات المدرعة الإسـرائيلية التي عبرت إلى الغرب كان تصرفا خاطئا. علاوة على أن التهوين من أهمية الثغرة في الإعلام المصري، ووصفها بأنها معركة تليفزيونية هو وصف ديماجوجي ومضلل، وأدى في النهاية إلى نجاح العدو في حصار الجيش الثالث ومدينة السويس.
والآن وبعد مرور حوالي 22 عاما على حـرب أكتوبر المجيدة، ألم يأن الأوان لأصحاب الآراء المختلفة حول القرارات التي اتخذت خـلال تلك الحرب، أن يجلسوا مع بعضهم البعض، وان يتناقشوا حول نقاط الخـلاف بغية التوصل إلى ما هو صحـيح وما هو خطا، وأن تتم هذه المناقشـات على شكل مناظرة علنية يقوم فيها كل طرف بعرض وجهة نظره مع تقديم الحجج التي تؤيدها. نحن لسنا في حاجة إلى استدعاء خـبراء أجانب فلدينا خبراء قد يتفوق الكثير منهم على الخبراء الأجـانب. ولكن بشرط أن نوفر لهم المناخ الديمقراطي، وألا يضار صاحب رأي برأيه. مناظرة لا يكون كل هم المشاركين المصـريين فيهـا- كمـا حدث في أثناء الندوة الدولية لحرب أكـتوبر التي عقدت عام 1975- هو الدفاع عن الأخطاء التي ارتكبتها القيادة السيـاسية والقيادة العسكرية خلال تلك الحرب. إن هذا هو اقل ما يمكن عمله اليوم. فإن لم نفعل ذلك فإن التاريـخ لن يرحم هؤلاء الذين يريدون تزييف تاريخ مصر. وما لنا لا نفعل ذلك وقد سبقتنا دول كثيرة اتخذت خطوات اكثر تشددا من تلك المناظرة التي ناديت بها منذ سنوات ومازلت أنادي بها حتى اليوم. لقد شكلت بريطانيا لجنة تقصي الحقائق في أعقاب حـرب الفولكلاند عام 1982. وشكلت إسرائيل لجنة مماثلة في أعقاب حرب أكتوبر ، وأخرى في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. فهل يقبل الجمسي أن يدخل معي في مناظرة علنية حول نقط الخلاف؟ وهل يقبل هيكل أن يثري هذه المناظرة بآرائه وتحليلاته السديدة على ضوء المعلومات التي كانت خـافية عنه وقت أن نشر كتابه عن حرب أكتوبر؟
 
عودة
أعلى