مذكرات الفريق / سعد الدين الشاذلي (2)
الفصل السابع عشر: قصة الخلاف بيني وبين صادق،
أعمدة السلطة الثلاثة:
لقد كانت القوات المسلحة المصرية هي أداة التغيير في ثورة 23 يوليو عام 52. وقد كانت الثورة تعتبر ولاء القوات المسلحة من أهم أهدافها، وقد كان تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة يهدف في المقام الأول إلى تأمين القوات المسلحة وضمان ولائها.
كانت وظيفة القائد العام للقوات المسلحة هي وظيفة جديدة خلقتها الثورة، وهي وظيفة غير موجودة إطلاقا لا في التنظيم الغربي ولا في التنظيم الشرقي، حيث يعتبر(ر.ا.ح.ق.م.م) في كل من الكتلتين الشرقية والغربية هو قمة الجهاز العسكري ويتبع وزير الحربية الذي يمثل القيادة السياسية. أما في مصر فإن إدخال هذا النظام قد خلق تنازعا على السلطات وأضاع المسئولية بين القيادة السيـاسية والقيادة العسكرية، فبينما لا يوجد خـلاف حول. شخصية(ر.ا.ح.ق.م.م) من حيث كونه رجلا عسكريا فهناك جدل كبير حول شخصية وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة. هل هو رجل عسكري أم مدني؟ هل أي خطأ يرتكبه يعتبر خطأ للقيادة السياسية أم لا؟ هل أي قرار يتخذه يعتبر هو المسئول عنه كقائد عسكري أم أن مسئوليته تتوقف عند القرار السياسي.
وفي سبيل أن يضمن عبد الحكيم عامر ولاء القوات المسلحـة جعل ثلاث إدارات تتبع له تبعية مباشرة بحيث لا يكون لرئيس أركان حرب القوات المسلحة أي سلطات عليها، اللهم إلا من ناحية الشكل فقط وهذه الإدارات هي إدارة المخابرات الحربية، وإدارة شئون الضباط وهيئـة الشئون المالية. إنه عن طريق إدارة المخابرات الحربية يستطيع أن يحدد من هم الموالون ومن هم السـاخطون. وهو عن طريق إدارة شئون الضـباط يستطيع أن يقصر القيادات والمناصب الحسـاسة على العناصر الموالية له، وعن طريق الهيئة المالية والحسابات السرية يستطيع أن يغدق عطائه على المخلصين والتابعين. وبعد ذهاب المشير عامر حل محله الفريق فوزي فحافظ على التراث وقننه. كان عبد الحكيم عامر يستمد قوته وسلطاته من الشرعية الثورية بحكم انتمائه إلى الثورة وكونه عضوا بارزا في مجلس قيادة الثورة، فلم يكن في حاجة إلى قانون أو قرار جمهوري يحدد له سلطاته، بل العكس هو الصحيح. فمنذ أوائل الستينيات كان قد اصبح في استطاعته أن يتحدى سلطات رئيس الجمهورية. فلما ورث الفريق محمد فوزي هذا المنصب لم يكن يطمع في تحدي سلطات رئيس الجمهورية ولكنه كان يطمع في كل ما هو دون ذلك، فاستصدر من رئيس الجمهورية قرارا جمهوريا يعطي له سلطات ضخمة وكانت جميع هذه السلطات طبعا على حساب سلطات ر.ا.ح.ق.م، وبذلك اصبح الفريق محمد فوزي يمارس سلطاته طبقا لقرار جمهوري. ثم جـاء من بعده الفريق محمد صادق فوجد هذه السلطات فبدا يمارسها بالأسلوب نفسه الذي كان يمارسها به عبد الحكيم عامر ومحمد فوزي.
لقد كان هذا هو الوضع عندما تسلمت عملي كـ ر.ا.ح.ق.م. وجدت نفسي مبعدا تماما عن تلك الإدارات الثلاث لم تكن لدى أية رغبة في أن أقحم نفسي في مشكلات السلطة، فقد كانت أمامي مجالات كثيرة للعمل يمكن أن تستنفد طاقاتي كلها، ولكن تتابع الأحداث جرفني لكي أجد نفسي في قلب المشكلة.
كنت اجلس في أحد الأيام في نادي هليوبوليس الرياضي ومعي أحد الضبـاط القدامى الذي كان قد ترك القوات المسلحة في أوائل الخمسينيات وعين في وزارة الخـارجية ووصل إلى درجة سفير بها، ثم تقاعد بعد ذلك. اشتكى لي بأنه لا يستطيع الحصول على تأشيرة خروج من مصر إلا إذا حصل على موافقة من القوات المسلحة لأنه كان ضابطا يوما من الأيام، على الرغم من انه ترك القوات المسلحة منذ اكثر من 18 عاما. تعجبت من هذه الأوامر التعسفية ووعدته بان ابحث الموضوع. طلبت مدير المخابرات الحربية وبحثت معه الموقف فاتضح أن ما قاله السيد السفير كان صحيحا. فطلبت إليه إلغاء هذه التعليمات ولكنه طلب منى بأدب أن ابحث الموضوع مع السيد الوزير. بحثت الموضوع مع السيد الوزير فوجدته يرى ضرورة الإبقاء على هذا النظام! (1) لماذا؟ لأن بعض الضباط القدامى مقيدين في القائمة السوداء التي بموجبها لا يصرح لهم بمغادرة البلاد. قلت له "لماذا لا ترسلون القائمة السوداء إلى إدارة الجوازات وبذلك تعفون آلاف الضباط غير المقيدين في تلك القائمة من تلك القيود البيروقراطية ؟" قال لأننا لا نريد أن يعرف من هو في القائمة السوداء انه مقيد عندنا وذلك لأغراض الأمن! " ولعلم القارئ فإن الاصطلاح "لأغراض الأمن " هو الاصطلاح الذي يمكن به إنهاء أية مناقشة، وتحت ستار هذا الاصطلاح تتعاظم سلطة الحاكم ومعاونيه في النظم الاوتوقراطية وتمتهـن الديمقراطية وتنتهك الحرمات، أي أمن هذا؟! كيف تحافظ إسرائيل على أمنها وهي في الوقت نفسه تمارس الديمقراطية وتحترم حرية الفرد اليهودي إلى ابعد الحدود!!
كانت إدارة شئون الضباط في وضع مختلف. فقد كنت بحكم وظيفتي أعتبر رئيسا للجنة شئون الضباط التي تتكون من حوالي 15 ضابطا من رتبة لواء، وتختص هذه اللجنة بالنظر في شئون الضباط من ترقية وطرد وعقاب ولكنها لا تختص بشئون التعيين في وظائف القيادة أو النقل من وظيفة إلى أخرى، حيث أن ذلك يتم بتعليمات مبـاشرة من الوزير إلى مدير إدارة شئون الضباط. كنا نجتمع في هذه اللجنة في المساء وكان اجتماعنا يمتد إلى ما بعد منتصف الليل لعدة ليال متتالية لكي نقوم بهذا العمل بما يرضي الله والضمير. كنا نستمع إلى جميع الآراء ثم نجرى التصويت. ويكون القرار دائما طبقا لرأى الأغلبية. وبعد كل هذا العناء كان يتحتم عرض قرار اللجنة على السيد الوزير. كنت أظن أن تصديق الوزير هو أمر شكلي إذ لا يعقل أن يبحث الوزير في خلال خمس دقائق ما قام به 15 ضابطا كبيرا في ثلاثيين ساعة عمل ( أي 450 رجل ساعة)!! ولكني كنت مخطئا في تصوري! إن الوزير يقوم بشطب أي قرار لا يعجبه ويضع بدلا منه قراره هو فإذا ناقشته في ذلك فإنه يقول "أنا أعرف هذا الضابط اكثر منكم،، قلت له "لماذا إذن أضيع وقتي ووقت 14 جنرالا معي في عمل يمكن أن يشطب بجرة قلم منك؟ لماذا لا تقوم أنت بالعمل كله وتعفينا من هذا العناء".
لقد كـان صادق هو أحد رجال الانقلاب الذي قام به السادات في مايو 71، وكانت هذه الصفة بالإضافة إلى كونه وزيراً للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة تعطيه سلطات واسعة على المستويين السياسي والعسكري. كان الجميع يعرفون قوة صادق بما فيهم أنا طبعا. ولكنه مع ذلك- كبشر- كان أحيانا يحب أن يستعرض هذه القوة وفي ساعة من ساعات التجلي كنت في مكتبه أتناقش معه في بعض الموضوعات قبل سفره إلى السعودية في طائرة بوينج خاصة تنتظره في المطار، فاخرج من جيبه كتابا ناولني إياه وقال لي أقرا، كان الكتاب في ظرف غير مغلق وهو معنون باسم الملك فيصل، وموقع من قبل الرئيس السادات، وفيه يقول السادات للملك فيصل: "أن الفريق صادق هو موضع ثقتي الكاملة، أن أي شيء يقوله أو يعد به هو باسمي تستطيع أن تتكلم وتتعامل معه كما لو كنت تتعامل معي". (2)
قاتل الله السلطة التي تجمع بصاحبها فتدمره لقد أخذت سلطات صادق تتعاظم يوما بعد يوم حتى دمرته. لقد ارتكب صـادق أخطاء من سبقوه نفسها. أنه يبطش بأي ضابط يعترض طريقه ويغدق العطاء على من يسير في ركابه. ويضيق صدره إذا سمع رأيا يختلف عن رأيه. لقد بدأت السلطة تجمح به في أواخر عام 1971 وبدا الخلاف بيني وبينه يظهر ولم نكن قد عملنا معا سوى ستة أشهر. لقد كان صادق صديقا عزيزاً لي منذ أيام شبابنا. وأنا مازلت احبه وأقدره إني اختلف معه في كثير من الآراء ولكني مازلت اعتقد انه عنصر وطني يمكن أن يخطئ وأني اقف بجانبه ضد الاتهامات الباطلة التي يوجهها إليه السادات اليوم دون أن يعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه. أن كل ما ألوم صادق عليه هو انه خضع للسلطة فجمحت به حتى اصبح لا يطيق أن يسمع رأيا يخالف رأيه. انه الضعف الإنساني. لم يكن صـادق أول هؤلاء ولن يكون قطعا أخرهم أني اشعر أن من واجبي أن أظهر هذه الحقائق عسى أن يستفيد منها بعضهم فلا يقعوا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه أسلافهم.
الخلاف أثناء اجتماع مجلس الدفاع المشترك:
وقع أول تصادم بيني وبين صادق في أواخر نوفمبر 71 خلال فترة انعقاد مجلس الدفاع العربي المشترك. (3) كنت اعرض مشروعا جديدا على المجلس بصفتي الأمين المساعد العسكري للجامعة العربية" بينما كان هو يحضر الاجتماع مندوبا عن مصر بصفته وزيرا للحربيـة. لم يعجـبه الخط الذي كنت أسير فيه فجـاء يلومني خلال فترة الاستراحة بين الجلسات ويطلب إليّ تغيير المسار لكي يتفق مع وجهة نظره فرفضت قائلا " أنك بصفتك وزيرا للحـربية في مصر تستطيع أن تصدر إليّ التوجيهات بصفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، أما بصفتي الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية فإنه ليس من حقك أن تصدر إليّ أية توجيهات انك تمثل مصر وتستطيع أن تتكلم باسم مصر كيفما تشاء ويستمع إليك الآخرون ويناقشونك أما أنا فإنني أتكلم باسم جميع رؤساء أركان حرب القوات المسلحة العربية،، فرد غاضبا بنبرة لا تخلو من التهديد "ولكنك تعلم أن وظيفتك أمينا عسكريا مساعدا للجامعة العربية هي نتيجة لكونك (ر.ا.ح.ق.م.م)، فأجبت نعم اعرف ذلك ولكنـي لن أساوم على حريتي في العمل أمينا مساعدا للاحتفاظ بوظيفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، وهذه الحقيقة يجب أن تعرفها جيدا".
الخلاف حول سلطات (ر.ا.ح.ق.م.م):
حاول صادق أن يتوسع في سلطاته في شئون القوات المسلحة كما لو انه ليس هناك من يشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م، وكان علىّ أن أقف ضده كان يعتقد انه بصفته وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة فإنه هو وحده الذي له سلطة اتخـاذ القرار وأنه يتحتم علي أن أخطره بكل شيء وألا اتخذ أي قرار، قلت له "إنك تريدني أن أقوم بأعمال مدير مكتب وليس ر.ا.ح.ق.م.م وهذا ما لا أقبله!". فما كان منه إلا أن اخرج من مكتبه القرار الجمهوري الذي استصدره سلفه الفريق فوزي وقال لي"تفضل واقرأ هذا القرار وأنت تعرف أني اعمل في حدود سلطاتي!". لقد كان القرار غامضاً في بعض النواحي ولكنه كـان على العموم يعطي سلطات واسعة للقائد العام للقوات المسلحة الذي قام هو نفسه بتحريره والتصديق عليه من رئيس الجـمهورية دون أيـة دراسة من الأجهزة الفنية المتخصصة. إن هذا هو أحد من الدروس التي يجب أن نتعلمها في مصر من أخطاء الماضي. "عندما يكون شخص ما في السلطة فإنه يقوم باستصدار قانون أو قرار جمهوري يخدم أغراضه ويقنن تصرفاته".
ولإصلاح هذا الوضع بالنسبة للأجيال القادمة دعوت لجنة لدراسة هذا الموضوع، تتكون من اللواء عمر جوهر رئيس هيئة التنظيم واللواء محـمد عبـد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات وآخرين. وقد كـان رأي الجميع دون استثناء هو أن تكون هناك شخصيـة سياسية هي شخص وزير الحربية وتختص باتخاذ القرار السيـاسي والقرار الاستراتيجي، أما جميع القرارات ما دون ذلك بما في ذلك- إدارة العمليات الحـربية والسيطرة والإدارة اليومية للقوات المسلحة- فإنها تكون من اختصاص وظيفة عسـكرية هي رئيس أركان حرب القوات المسلحة. وحتى لا يكون هناك أي إحراج لأحد، اقترحت أن يطبق هذا النظام بعد تغيير كل من وزير الحربية الحالي ورئيس أركان الحرب الحـالي حتى لا يتهمني أحـد بأنني أبحث عن السلطة. ولما عرضت هذه الاقتراحات على الوزير رفضها.
الخلاف حول توزيع الدبابات ت 62:
في خلال المفاوضات بين مصر والسوفيات في فبراير 72 وافق الجـانب السوفيتي على إمدادنا بعدد من الدبابات ت 62. وفي يوم 26 من فبراير اجتمعت لجنة برئاسة الوزير لبحث طريقة استيـعاب وتنظيم هذه الدبابات. لقد كان رأي الوزير ومعه رئيس هيئة العمليات ورئيس هيـئة التنظيم هو أن نسلم هذه الدبابات إلى اللواءين المدرعين المستقلين، وأن تحل الدبابات ت 54 و ت 55- التي كـانت أصلا ضـمن تنظيم هذين اللواءين- مـحل الدبابات ت 34 في التشكيلات الأخـرى. أما أنا فقد عارضت هذا الرأي وطالبت بتسليم الدبابات ت 62 إلى الفرقتين المدرعتين بدلا من اللواءين المسـتقلين. وقد بنيت رأيي على أساس أن وجود هذه الدبابة القوية ذات المدفع 115 مم ضمن الفرق المدرعة وفي احتياط القوات المسلحة يجعلنا قادرين على توجيه ضـربة قوية وحاسمة في الاتجاه الذي قد يظهر لنا أثناء المعركة.(4) أما
توزيعها على الألوية المدرعة المستقله فسوف يترتب عليه ان تستخدم هذه الألوية في الأغراض الأولى من المعركة وفي اتجاهات قد لا تكون ذات أهمية كبيرة وقد وافقني الفريق عبد القادر حسن على هذا الرأي.
في اليوم التالي اجتمعنا مرة أخرى لبحث الموضوع نفسه ولكن في هذه المرة بعد أن انضم إلينا الجنرال اوكينيف وبعض المستشارين السوفيت. قام السيد الوزير بصفته رئيسا للمؤتمر طلب رأي الحـاضرين واحدا بعد الآخر. أيد الجمسي وعمر جوهر رأيهم السابق وعدل عبد القادر حسن رأيه لكي ينضم أليه. أما أنا فقد قمت بتأكيد رأيي الذي أعلنته في اليوم السابق، وبذلك أصبحت المعارض الوحيد لوجهة نظر الوزير. استمعنا بعد ذلك إلى رأي المستشارين فكانوا جميعا ذوي رأي واحد يتطابق مع وجهة نظري. وهنا علق الوزير موجها كلامه إلى كبير المستشارين بأسلوب لا يخلو من الغمز "أرى انك تتفق تماما مع الفريق الشاذلي "! (5)
وقد عرفت فيما بعد أن السبب الحقيقي الذي دفع صادق للوقوف ضد اقتراحي هو انه كان يشك في ولاء العميد عادل سوكه الذي كان قائدا لإحدى الفرق المدرعة. وان تسليم 100 دبابة جديدة ت 62 إليه قد يخل بالتوازن الأمني الداخلي الذي تضعه القيادة السياسية المصرية دومـا في مقدمـة المتطلبات العسكرية للمعركة. وهكذا اتخذ الوزير القرار بتسليم الدبابات ت 62 إلى كل من اللواءين المدرعين المستقلين 15 و25
موضوع اللواء عبد الرؤوف:
كان يوم 20 من أبريل 72 هو قمة الخلاف بيني وبين الفريق صادق، وذلك عندما اتخذ صادق إجراء تعسفيـا ضد اللواء عبد الرؤوف كان اللواء عبد الرؤوف يعمل في تصفية أعمال القيادة العربية الموحدة وكان البند الثامن من قرارات مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة التي انعقدت في القاهرة ما بين 27 و30 نوفمبر 71 ينص على "تخصيص مبلغ مليون ونصف المليون جنيه إسترليني من الرصيد المتبقي لدى القيادة العربية الموحدة لشراء لنشي مساحة، على أن تقوم جمهورية مصر العربية بتدبير الفنيين اللازمين لتشغيل هذين اللنشين وعلى أن تلتزم بعملية المسح الهيدروغرافي لجميع السواحل العربية طبقا للأسبقية التي يضعها مجلس الدفاع المشترك" .لقد وافقت جميع الدول العربية بالإجماع -بما فيها مصر- على هذه القرارات وكنت بحكم وظيفتي أمينا مسـاعدا عسكريا للجامعة العربية مسئولا عن تنفيذ هذا القرار. وبعد القيام بالدراسات الأولية قررت إرسال اللواء عبد الرؤوف إلى لندن للقيام بالإجراءات النهائية والتوقيع على العقود اللازمة. وفى يوم سفر اللواء عبد الرؤوف قام الفريق صادق بإجراء تعسفي عنيف ضده أثناء قيامه بتنفيذ هذه المهمة.
لقد أمر صادق رجـال مخابراته بإيقافه في المطار أثناء تحركه في اتجاه الطائرة وعومل في المطار معاملة غير كريمة وكأنه طفل هارب !! لقد كـان خطا كبيرا من صادق لا يليق بجمهورية مصر العربية! إنني لم ارغب في إثارة هذا الموضوع على المستوى العربي حينذاك خوفا من أن يؤثر ذلك على العلاقات والتعاون الذي يربط مصر- بصفتها الدولة المضيفة لمنظمات جامعة الدول العربية- بباقي الدول العربية. أما الآن وبعد أن مضى اكثر من سبع سنوات على هذا الحادث، فإن من حق الدول العربية أن تعرف هذه الحقيقة حتى تعمل على ضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل، لذلك فأنى أثير السؤال التالي أمام العرب كله:
"هل من حق السلطات المصرية أن تتخذ إجراءات تعسفية ضد المصريين الذين يعملون في الجامعة العربية بطريقة تمنعهم من تنفيذ قرارات اتخذتها الجـامعة العربية ومنظماتها المختلفة؟ إذا كانت الإجـابة من الناحية النظرية هي"لا"، فما الضمانات التي تكفلها الجامعة العربية لموظفيها حتى يمكنهم أن يحتفظوا بحريتهم في العمل وعدم خضوعهم للإرهاب الذي قد تمارسه السلطات المصرية ضدهم كما حدث للواء عبد الرؤوف"؟
لقد قضيت نهار يوم 20 من أبريل 72 في الجيش الثـالث، حيث كانت الفرقة الرابعة المدرعة تقوم بإجراء مشروع تدريبي. وعندما وصلت إلى مكتبي حوالي السـاعة 1730 علمت بالحادث المحزن الخاص باللواء عبد الرؤوف. وفى الساعة 2000 قابلت الوزير في مكتبه. لقد كانت مقابلة صاخبة. وقد قلت له "لا يمكن أن تسير الأمور بهذا الشكل، يجب أن نقابل رئيس الجمهورية ليحكم بيننا" وعندما قلت له ذلك ثار غضبه وكأن عقربا قد لدغه وصاح قائلا "فكرة كويسة. لازم نروح لرئيس الجمهورية. سوف أقول لرئيس الجمهورية يجب أن يختار يا أنا يا سعد الشاذلي في القوات المسلحة!". كانت الساعة حوالي التاسعة من مساء يوم الخميس عندما غادرت مكتب الوزير على أمل أن نقابل الرئيس يوم السبت التالي. إن صادق الرجل القوي الذي لم يكن ليخشـى رئيس الجمهورية لم يضع الوقت سدى،فاصدر أمرا بعزل اللواء عبد الرؤوف من منصـبه وعين اللواء طلعت حسن علي بدلا منه. وتحت مختلف أساليب القهر والتهديد أرغم اللواء عبد الرؤوف على إرسال برقية إلى لندن لاسترجاع الأموال التي حولها البنك الأهلي المصري لتكون تحت تصرف اللواء عبد الرؤوف واللجنة المرافقة له. وهكذا خلال يوم الجمعة- وهو عطلة رسمية- أتم صادق تنفيذ ما يريده، وعند عرض الموضوع على الرئيس فإنه سوف يجد نفسه أمام الأمر الواقع Fait accompli. في تمام الساعة 1130 من يوم 23 من أبريل ذهبت أنا وصادق إلى منزل الرئيس في الجيزة. وفي حضور صادق أخبرت الرئيس بكل شئ، أخبرته بقصة اللواء عبد الرؤوف. أخبرته بقصـة توزيع الدبابات ت 062 أخبرته كيف ينفرد صادق بالسلطة في المخابرات الحربية وشئون الضباط و أضفت قائلا" سيادة الرئيس تحت هذه الظروف حيث لا سلطان لي على إدارة المخابرات الحربية ولا على إدارة شئون الضباط فأني لا يمكن أن أكون مسئولا عن أمن القوات المسلحة(6) ! كان دفاع الفريق صادق لتبرير تصرفاته عنيفا من وجـهة نظري على الأقل.
فيما يتعلق بقصة اللواء عبد الرؤوف ذكر أن المبالغ المحولة إلى لندن كان من الممكن صرفها من البنك بتوقيع واحـد هو توقيع اللواء عبد الرؤوف، وأن ذلك يعطيه الحق في التصرف في هذه الأموال كأنها أمواله الشـخصية و أضاف قائلا: " إننا نعرف في إدارة المخابرات الكثير عن اللواء عبد الرؤوف مما لا يعرفه الفريق الشاذلي. (7) لقد أمرت يا سيادة الرئيس بإجراء تحـقيق في هذا الموضوع وسأعرضه عليكم خلال أيام". وفيما يتعلق بإدارة المخـابرات تكلم بغموض وعدم تحديد فقال إنه يوافق على أن يقوم بإخباري بما يجري في إدارة المخابرات، ولكن هذا لايعني بالضرورة انه يتحتم عليه أن يأخذ رأيي في كل شئ حيث إن هذا يعني فرض حدود على حريته في العمل. وفيما يتعلق بإدارة شئون الضباط قال إن من حقه اعتماد قرارات لجنة شئون الضباط وانه لم يمارس حقه في تعديل هذه القرارات إلا مرة أو مرتين (8) رددت عليه" إن المسالة مسـالة مبدأ إذا كان لك أن تنقض قرار لجنة مكونة من 15 ضابطا كبيرا فيجب أن تكون هناك أسباب قوية، أسباب أقوى من مجرد معـرفتك الشخصية لهذا الضابط. إن مستقبل الضباط يجب ألا يترك في يد شخص واحد"! وعلى الرغم من شعوري بأن ما أقوله كان منطقيـا فقد حاول صادق أن يستـخدمه ضدي وصاح قائلا شوف يا سيادة الرئيس سعد الشاذلي عايز يحرمني من سلطاتي!!" (9) وفيما يتـعلق بقصـة الدبابات ت 62 أتهمني صـادق بأني اقف دائما ضده وفى صف المستشارين السوفيت. لقد مكثنا مع الرئيس حوالي ثلاث ساعات ولم يتخذ الرئيس أي قرار حاسم بخصوص الموضوع. كل ما قاله هو بعض النصائح العامة. قال موجها كلامه لصادق "لا يا محمد لازم تقول لسعد على كل حاجة في المخـابرات وتستشيره في تعيينات وتنقلات الضباط الراجل مشترك في المسئولية!"، وقال موجها كلامه لي "شوف يا سعد، لازم تأخذ بالك، الروس حيخدعوك، كل الناس بتكرههم حا يحاولوا يستغلوك حتكون أنت الخسران!". كان واضـحا من كلام الرئيس أن صادق نجح في أن يزرع الشكوك في نفسه على اعتبار إني صديق للروس. ولكـني رددت بحدة "سيـادة الرئيس.. إذا تصادف وكانت أرائي أحيانا متطابقة مع آراء الروس، فليس معنى ذلك أني أتعاون معهم ضد أي شخص. إني أقول دائما وبصراحة ما اعتقد انه الحق وانه في مصلحة بلادي، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتمشى مع إنسان ما أو يتعارض معه". وهنا علق الرئيس قائلا: إني اعرف انك رجل وطني وانك لا يمكن أن تقوم بعمل ضد وطنك ولكن أخشى أن يخدعوك وان يجروك إلى الاتجاه الخاطئ". وهكذا غادرنا منزل الرئيس دون أن نحل أية مشكلة. سـارت الأمور في هدوء ويسـر لمدة أسابيع قليلة ثم ارتدت مرة ثانية إلى طبيعتها السابقة. (10)
ولكي يثبت الفريق صادق أن اللواء عبد الرؤوف لم يكن أهلا ليؤتمن على ما يقرب من مليون جنيـه إسترليني، فإنه أمر بتشكيل لجنة تحـقيق لبحث أية مخالفات ماليـة يكون قد ارتكبها أثناء قيامه بعمله كرئيس أركان بالنيابة للقيادة العربية الموحدة، وكان رئيس هذه اللجنة هو اللواء طلعت حسن علي الذي عينه صادق ليحل محل اللواء عبد الرؤوف. (11) كان قرار مجلس التحقيق مخيبا للآمال، فقد وجه اللوم إلى اللواء عبد الرؤوف لارتكابه بعض الأخطاء المالية التافهة مثال ذلك استخدامه الهاتف الرسمي في مكالمة خـاصة مع ابنته في أمريكا دون أن يدفع ثمنها، وقيامه بشراء قلم حبر من الأموال العربية لا المصرية لاستعماله الخاص، وغير ذلك من المخالفات التافهة. (12)
ومع أنني شخصيا لا أؤيد أية مخالفة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة فإنني أود أن أعلن أن هناك أخطاء جسيمة ترتكب يوميـا من قبل كبـار الشخصيـات المصرية، أخطاء تزيد في جسامتها مئات المرات على تلك الأخطاء التي نسبت إلى اللواء عبد الرؤوف، ما قـيمة مكالمة هاتفيـة إلى أمريكا إذا قورنت بهاتف خـاص ذي خط خاص إلى جميع بلاد غرب أوروبا؟ ما قيمـة ثمن قلم حبر إذا قورنت باستخدام طائرة تملكها الدولة وتتسع لأكثر من 100 راكب من قبل فرد واحد في تنقلاته وأحيانا زوجته وأولاده؟ لماذا عندما يسافر بعض المصريين للخارج- وإلى لندن بالذات- يصرف لبعضهم بدل سفر يومي 10 جنيهات إسترلينية بينما بعض المحظيين يكون لهم حساب مفتوح، وينفق بعضهم حوالي مائتي جـنيه إسترليني في اليوم؟ هناك الكثير من المخـالفات المالية ولكن لم يأت بعد وقت الحساب. عموما فإن هذا هو المنطق السائد في مصر.. منطق القول عندما يكون الشخص في السلطة فإن كل ما يقوم به من عمل هو صحـيح وقانوني، فإذا سقط فإن من في السلطة يستطيع دائما أن يبحث، وان يستخرج الكثير من الأخطاء. لقد حاكم السادات وشوه سمعة الكثيرين ممن خدموا في عهد عبد الناصر. و هاهم هؤلاء رجاله يرتكبون أضعاف أضعاف ما نسب إلى رجال عبد الناصر، ألا يعلم هؤلاء الناس أن عجلة الزمن تدور دون توقف وأنه سيأتي اليوم الذي يحاسبون فيه؟!
الفصل السابع عشر: قصة الخلاف بيني وبين صادق،
أعمدة السلطة الثلاثة:
لقد كانت القوات المسلحة المصرية هي أداة التغيير في ثورة 23 يوليو عام 52. وقد كانت الثورة تعتبر ولاء القوات المسلحة من أهم أهدافها، وقد كان تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة يهدف في المقام الأول إلى تأمين القوات المسلحة وضمان ولائها.
كانت وظيفة القائد العام للقوات المسلحة هي وظيفة جديدة خلقتها الثورة، وهي وظيفة غير موجودة إطلاقا لا في التنظيم الغربي ولا في التنظيم الشرقي، حيث يعتبر(ر.ا.ح.ق.م.م) في كل من الكتلتين الشرقية والغربية هو قمة الجهاز العسكري ويتبع وزير الحربية الذي يمثل القيادة السياسية. أما في مصر فإن إدخال هذا النظام قد خلق تنازعا على السلطات وأضاع المسئولية بين القيادة السيـاسية والقيادة العسكرية، فبينما لا يوجد خـلاف حول. شخصية(ر.ا.ح.ق.م.م) من حيث كونه رجلا عسكريا فهناك جدل كبير حول شخصية وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة. هل هو رجل عسكري أم مدني؟ هل أي خطأ يرتكبه يعتبر خطأ للقيادة السياسية أم لا؟ هل أي قرار يتخذه يعتبر هو المسئول عنه كقائد عسكري أم أن مسئوليته تتوقف عند القرار السياسي.
وفي سبيل أن يضمن عبد الحكيم عامر ولاء القوات المسلحـة جعل ثلاث إدارات تتبع له تبعية مباشرة بحيث لا يكون لرئيس أركان حرب القوات المسلحة أي سلطات عليها، اللهم إلا من ناحية الشكل فقط وهذه الإدارات هي إدارة المخابرات الحربية، وإدارة شئون الضباط وهيئـة الشئون المالية. إنه عن طريق إدارة المخابرات الحربية يستطيع أن يحدد من هم الموالون ومن هم السـاخطون. وهو عن طريق إدارة شئون الضـباط يستطيع أن يقصر القيادات والمناصب الحسـاسة على العناصر الموالية له، وعن طريق الهيئة المالية والحسابات السرية يستطيع أن يغدق عطائه على المخلصين والتابعين. وبعد ذهاب المشير عامر حل محله الفريق فوزي فحافظ على التراث وقننه. كان عبد الحكيم عامر يستمد قوته وسلطاته من الشرعية الثورية بحكم انتمائه إلى الثورة وكونه عضوا بارزا في مجلس قيادة الثورة، فلم يكن في حاجة إلى قانون أو قرار جمهوري يحدد له سلطاته، بل العكس هو الصحيح. فمنذ أوائل الستينيات كان قد اصبح في استطاعته أن يتحدى سلطات رئيس الجمهورية. فلما ورث الفريق محمد فوزي هذا المنصب لم يكن يطمع في تحدي سلطات رئيس الجمهورية ولكنه كان يطمع في كل ما هو دون ذلك، فاستصدر من رئيس الجمهورية قرارا جمهوريا يعطي له سلطات ضخمة وكانت جميع هذه السلطات طبعا على حساب سلطات ر.ا.ح.ق.م، وبذلك اصبح الفريق محمد فوزي يمارس سلطاته طبقا لقرار جمهوري. ثم جـاء من بعده الفريق محمد صادق فوجد هذه السلطات فبدا يمارسها بالأسلوب نفسه الذي كان يمارسها به عبد الحكيم عامر ومحمد فوزي.
لقد كان هذا هو الوضع عندما تسلمت عملي كـ ر.ا.ح.ق.م. وجدت نفسي مبعدا تماما عن تلك الإدارات الثلاث لم تكن لدى أية رغبة في أن أقحم نفسي في مشكلات السلطة، فقد كانت أمامي مجالات كثيرة للعمل يمكن أن تستنفد طاقاتي كلها، ولكن تتابع الأحداث جرفني لكي أجد نفسي في قلب المشكلة.
كنت اجلس في أحد الأيام في نادي هليوبوليس الرياضي ومعي أحد الضبـاط القدامى الذي كان قد ترك القوات المسلحة في أوائل الخمسينيات وعين في وزارة الخـارجية ووصل إلى درجة سفير بها، ثم تقاعد بعد ذلك. اشتكى لي بأنه لا يستطيع الحصول على تأشيرة خروج من مصر إلا إذا حصل على موافقة من القوات المسلحة لأنه كان ضابطا يوما من الأيام، على الرغم من انه ترك القوات المسلحة منذ اكثر من 18 عاما. تعجبت من هذه الأوامر التعسفية ووعدته بان ابحث الموضوع. طلبت مدير المخابرات الحربية وبحثت معه الموقف فاتضح أن ما قاله السيد السفير كان صحيحا. فطلبت إليه إلغاء هذه التعليمات ولكنه طلب منى بأدب أن ابحث الموضوع مع السيد الوزير. بحثت الموضوع مع السيد الوزير فوجدته يرى ضرورة الإبقاء على هذا النظام! (1) لماذا؟ لأن بعض الضباط القدامى مقيدين في القائمة السوداء التي بموجبها لا يصرح لهم بمغادرة البلاد. قلت له "لماذا لا ترسلون القائمة السوداء إلى إدارة الجوازات وبذلك تعفون آلاف الضباط غير المقيدين في تلك القائمة من تلك القيود البيروقراطية ؟" قال لأننا لا نريد أن يعرف من هو في القائمة السوداء انه مقيد عندنا وذلك لأغراض الأمن! " ولعلم القارئ فإن الاصطلاح "لأغراض الأمن " هو الاصطلاح الذي يمكن به إنهاء أية مناقشة، وتحت ستار هذا الاصطلاح تتعاظم سلطة الحاكم ومعاونيه في النظم الاوتوقراطية وتمتهـن الديمقراطية وتنتهك الحرمات، أي أمن هذا؟! كيف تحافظ إسرائيل على أمنها وهي في الوقت نفسه تمارس الديمقراطية وتحترم حرية الفرد اليهودي إلى ابعد الحدود!!
كانت إدارة شئون الضباط في وضع مختلف. فقد كنت بحكم وظيفتي أعتبر رئيسا للجنة شئون الضباط التي تتكون من حوالي 15 ضابطا من رتبة لواء، وتختص هذه اللجنة بالنظر في شئون الضباط من ترقية وطرد وعقاب ولكنها لا تختص بشئون التعيين في وظائف القيادة أو النقل من وظيفة إلى أخرى، حيث أن ذلك يتم بتعليمات مبـاشرة من الوزير إلى مدير إدارة شئون الضباط. كنا نجتمع في هذه اللجنة في المساء وكان اجتماعنا يمتد إلى ما بعد منتصف الليل لعدة ليال متتالية لكي نقوم بهذا العمل بما يرضي الله والضمير. كنا نستمع إلى جميع الآراء ثم نجرى التصويت. ويكون القرار دائما طبقا لرأى الأغلبية. وبعد كل هذا العناء كان يتحتم عرض قرار اللجنة على السيد الوزير. كنت أظن أن تصديق الوزير هو أمر شكلي إذ لا يعقل أن يبحث الوزير في خلال خمس دقائق ما قام به 15 ضابطا كبيرا في ثلاثيين ساعة عمل ( أي 450 رجل ساعة)!! ولكني كنت مخطئا في تصوري! إن الوزير يقوم بشطب أي قرار لا يعجبه ويضع بدلا منه قراره هو فإذا ناقشته في ذلك فإنه يقول "أنا أعرف هذا الضابط اكثر منكم،، قلت له "لماذا إذن أضيع وقتي ووقت 14 جنرالا معي في عمل يمكن أن يشطب بجرة قلم منك؟ لماذا لا تقوم أنت بالعمل كله وتعفينا من هذا العناء".
لقد كـان صادق هو أحد رجال الانقلاب الذي قام به السادات في مايو 71، وكانت هذه الصفة بالإضافة إلى كونه وزيراً للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة تعطيه سلطات واسعة على المستويين السياسي والعسكري. كان الجميع يعرفون قوة صادق بما فيهم أنا طبعا. ولكنه مع ذلك- كبشر- كان أحيانا يحب أن يستعرض هذه القوة وفي ساعة من ساعات التجلي كنت في مكتبه أتناقش معه في بعض الموضوعات قبل سفره إلى السعودية في طائرة بوينج خاصة تنتظره في المطار، فاخرج من جيبه كتابا ناولني إياه وقال لي أقرا، كان الكتاب في ظرف غير مغلق وهو معنون باسم الملك فيصل، وموقع من قبل الرئيس السادات، وفيه يقول السادات للملك فيصل: "أن الفريق صادق هو موضع ثقتي الكاملة، أن أي شيء يقوله أو يعد به هو باسمي تستطيع أن تتكلم وتتعامل معه كما لو كنت تتعامل معي". (2)
قاتل الله السلطة التي تجمع بصاحبها فتدمره لقد أخذت سلطات صادق تتعاظم يوما بعد يوم حتى دمرته. لقد ارتكب صـادق أخطاء من سبقوه نفسها. أنه يبطش بأي ضابط يعترض طريقه ويغدق العطاء على من يسير في ركابه. ويضيق صدره إذا سمع رأيا يختلف عن رأيه. لقد بدأت السلطة تجمح به في أواخر عام 1971 وبدا الخلاف بيني وبينه يظهر ولم نكن قد عملنا معا سوى ستة أشهر. لقد كان صادق صديقا عزيزاً لي منذ أيام شبابنا. وأنا مازلت احبه وأقدره إني اختلف معه في كثير من الآراء ولكني مازلت اعتقد انه عنصر وطني يمكن أن يخطئ وأني اقف بجانبه ضد الاتهامات الباطلة التي يوجهها إليه السادات اليوم دون أن يعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه. أن كل ما ألوم صادق عليه هو انه خضع للسلطة فجمحت به حتى اصبح لا يطيق أن يسمع رأيا يخالف رأيه. انه الضعف الإنساني. لم يكن صـادق أول هؤلاء ولن يكون قطعا أخرهم أني اشعر أن من واجبي أن أظهر هذه الحقائق عسى أن يستفيد منها بعضهم فلا يقعوا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه أسلافهم.
الخلاف أثناء اجتماع مجلس الدفاع المشترك:
وقع أول تصادم بيني وبين صادق في أواخر نوفمبر 71 خلال فترة انعقاد مجلس الدفاع العربي المشترك. (3) كنت اعرض مشروعا جديدا على المجلس بصفتي الأمين المساعد العسكري للجامعة العربية" بينما كان هو يحضر الاجتماع مندوبا عن مصر بصفته وزيرا للحربيـة. لم يعجـبه الخط الذي كنت أسير فيه فجـاء يلومني خلال فترة الاستراحة بين الجلسات ويطلب إليّ تغيير المسار لكي يتفق مع وجهة نظره فرفضت قائلا " أنك بصفتك وزيرا للحـربية في مصر تستطيع أن تصدر إليّ التوجيهات بصفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، أما بصفتي الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية فإنه ليس من حقك أن تصدر إليّ أية توجيهات انك تمثل مصر وتستطيع أن تتكلم باسم مصر كيفما تشاء ويستمع إليك الآخرون ويناقشونك أما أنا فإنني أتكلم باسم جميع رؤساء أركان حرب القوات المسلحة العربية،، فرد غاضبا بنبرة لا تخلو من التهديد "ولكنك تعلم أن وظيفتك أمينا عسكريا مساعدا للجامعة العربية هي نتيجة لكونك (ر.ا.ح.ق.م.م)، فأجبت نعم اعرف ذلك ولكنـي لن أساوم على حريتي في العمل أمينا مساعدا للاحتفاظ بوظيفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، وهذه الحقيقة يجب أن تعرفها جيدا".
الخلاف حول سلطات (ر.ا.ح.ق.م.م):
حاول صادق أن يتوسع في سلطاته في شئون القوات المسلحة كما لو انه ليس هناك من يشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م، وكان علىّ أن أقف ضده كان يعتقد انه بصفته وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة فإنه هو وحده الذي له سلطة اتخـاذ القرار وأنه يتحتم علي أن أخطره بكل شيء وألا اتخذ أي قرار، قلت له "إنك تريدني أن أقوم بأعمال مدير مكتب وليس ر.ا.ح.ق.م.م وهذا ما لا أقبله!". فما كان منه إلا أن اخرج من مكتبه القرار الجمهوري الذي استصدره سلفه الفريق فوزي وقال لي"تفضل واقرأ هذا القرار وأنت تعرف أني اعمل في حدود سلطاتي!". لقد كان القرار غامضاً في بعض النواحي ولكنه كـان على العموم يعطي سلطات واسعة للقائد العام للقوات المسلحة الذي قام هو نفسه بتحريره والتصديق عليه من رئيس الجـمهورية دون أيـة دراسة من الأجهزة الفنية المتخصصة. إن هذا هو أحد من الدروس التي يجب أن نتعلمها في مصر من أخطاء الماضي. "عندما يكون شخص ما في السلطة فإنه يقوم باستصدار قانون أو قرار جمهوري يخدم أغراضه ويقنن تصرفاته".
ولإصلاح هذا الوضع بالنسبة للأجيال القادمة دعوت لجنة لدراسة هذا الموضوع، تتكون من اللواء عمر جوهر رئيس هيئة التنظيم واللواء محـمد عبـد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات وآخرين. وقد كـان رأي الجميع دون استثناء هو أن تكون هناك شخصيـة سياسية هي شخص وزير الحربية وتختص باتخاذ القرار السيـاسي والقرار الاستراتيجي، أما جميع القرارات ما دون ذلك بما في ذلك- إدارة العمليات الحـربية والسيطرة والإدارة اليومية للقوات المسلحة- فإنها تكون من اختصاص وظيفة عسـكرية هي رئيس أركان حرب القوات المسلحة. وحتى لا يكون هناك أي إحراج لأحد، اقترحت أن يطبق هذا النظام بعد تغيير كل من وزير الحربية الحالي ورئيس أركان الحرب الحـالي حتى لا يتهمني أحـد بأنني أبحث عن السلطة. ولما عرضت هذه الاقتراحات على الوزير رفضها.
الخلاف حول توزيع الدبابات ت 62:
في خلال المفاوضات بين مصر والسوفيات في فبراير 72 وافق الجـانب السوفيتي على إمدادنا بعدد من الدبابات ت 62. وفي يوم 26 من فبراير اجتمعت لجنة برئاسة الوزير لبحث طريقة استيـعاب وتنظيم هذه الدبابات. لقد كان رأي الوزير ومعه رئيس هيئة العمليات ورئيس هيـئة التنظيم هو أن نسلم هذه الدبابات إلى اللواءين المدرعين المستقلين، وأن تحل الدبابات ت 54 و ت 55- التي كـانت أصلا ضـمن تنظيم هذين اللواءين- مـحل الدبابات ت 34 في التشكيلات الأخـرى. أما أنا فقد عارضت هذا الرأي وطالبت بتسليم الدبابات ت 62 إلى الفرقتين المدرعتين بدلا من اللواءين المسـتقلين. وقد بنيت رأيي على أساس أن وجود هذه الدبابة القوية ذات المدفع 115 مم ضمن الفرق المدرعة وفي احتياط القوات المسلحة يجعلنا قادرين على توجيه ضـربة قوية وحاسمة في الاتجاه الذي قد يظهر لنا أثناء المعركة.(4) أما
توزيعها على الألوية المدرعة المستقله فسوف يترتب عليه ان تستخدم هذه الألوية في الأغراض الأولى من المعركة وفي اتجاهات قد لا تكون ذات أهمية كبيرة وقد وافقني الفريق عبد القادر حسن على هذا الرأي.
في اليوم التالي اجتمعنا مرة أخرى لبحث الموضوع نفسه ولكن في هذه المرة بعد أن انضم إلينا الجنرال اوكينيف وبعض المستشارين السوفيت. قام السيد الوزير بصفته رئيسا للمؤتمر طلب رأي الحـاضرين واحدا بعد الآخر. أيد الجمسي وعمر جوهر رأيهم السابق وعدل عبد القادر حسن رأيه لكي ينضم أليه. أما أنا فقد قمت بتأكيد رأيي الذي أعلنته في اليوم السابق، وبذلك أصبحت المعارض الوحيد لوجهة نظر الوزير. استمعنا بعد ذلك إلى رأي المستشارين فكانوا جميعا ذوي رأي واحد يتطابق مع وجهة نظري. وهنا علق الوزير موجها كلامه إلى كبير المستشارين بأسلوب لا يخلو من الغمز "أرى انك تتفق تماما مع الفريق الشاذلي "! (5)
وقد عرفت فيما بعد أن السبب الحقيقي الذي دفع صادق للوقوف ضد اقتراحي هو انه كان يشك في ولاء العميد عادل سوكه الذي كان قائدا لإحدى الفرق المدرعة. وان تسليم 100 دبابة جديدة ت 62 إليه قد يخل بالتوازن الأمني الداخلي الذي تضعه القيادة السياسية المصرية دومـا في مقدمـة المتطلبات العسكرية للمعركة. وهكذا اتخذ الوزير القرار بتسليم الدبابات ت 62 إلى كل من اللواءين المدرعين المستقلين 15 و25
موضوع اللواء عبد الرؤوف:
كان يوم 20 من أبريل 72 هو قمة الخلاف بيني وبين الفريق صادق، وذلك عندما اتخذ صادق إجراء تعسفيـا ضد اللواء عبد الرؤوف كان اللواء عبد الرؤوف يعمل في تصفية أعمال القيادة العربية الموحدة وكان البند الثامن من قرارات مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة التي انعقدت في القاهرة ما بين 27 و30 نوفمبر 71 ينص على "تخصيص مبلغ مليون ونصف المليون جنيه إسترليني من الرصيد المتبقي لدى القيادة العربية الموحدة لشراء لنشي مساحة، على أن تقوم جمهورية مصر العربية بتدبير الفنيين اللازمين لتشغيل هذين اللنشين وعلى أن تلتزم بعملية المسح الهيدروغرافي لجميع السواحل العربية طبقا للأسبقية التي يضعها مجلس الدفاع المشترك" .لقد وافقت جميع الدول العربية بالإجماع -بما فيها مصر- على هذه القرارات وكنت بحكم وظيفتي أمينا مسـاعدا عسكريا للجامعة العربية مسئولا عن تنفيذ هذا القرار. وبعد القيام بالدراسات الأولية قررت إرسال اللواء عبد الرؤوف إلى لندن للقيام بالإجراءات النهائية والتوقيع على العقود اللازمة. وفى يوم سفر اللواء عبد الرؤوف قام الفريق صادق بإجراء تعسفي عنيف ضده أثناء قيامه بتنفيذ هذه المهمة.
لقد أمر صادق رجـال مخابراته بإيقافه في المطار أثناء تحركه في اتجاه الطائرة وعومل في المطار معاملة غير كريمة وكأنه طفل هارب !! لقد كـان خطا كبيرا من صادق لا يليق بجمهورية مصر العربية! إنني لم ارغب في إثارة هذا الموضوع على المستوى العربي حينذاك خوفا من أن يؤثر ذلك على العلاقات والتعاون الذي يربط مصر- بصفتها الدولة المضيفة لمنظمات جامعة الدول العربية- بباقي الدول العربية. أما الآن وبعد أن مضى اكثر من سبع سنوات على هذا الحادث، فإن من حق الدول العربية أن تعرف هذه الحقيقة حتى تعمل على ضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل، لذلك فأنى أثير السؤال التالي أمام العرب كله:
"هل من حق السلطات المصرية أن تتخذ إجراءات تعسفية ضد المصريين الذين يعملون في الجامعة العربية بطريقة تمنعهم من تنفيذ قرارات اتخذتها الجـامعة العربية ومنظماتها المختلفة؟ إذا كانت الإجـابة من الناحية النظرية هي"لا"، فما الضمانات التي تكفلها الجامعة العربية لموظفيها حتى يمكنهم أن يحتفظوا بحريتهم في العمل وعدم خضوعهم للإرهاب الذي قد تمارسه السلطات المصرية ضدهم كما حدث للواء عبد الرؤوف"؟
لقد قضيت نهار يوم 20 من أبريل 72 في الجيش الثـالث، حيث كانت الفرقة الرابعة المدرعة تقوم بإجراء مشروع تدريبي. وعندما وصلت إلى مكتبي حوالي السـاعة 1730 علمت بالحادث المحزن الخاص باللواء عبد الرؤوف. وفى الساعة 2000 قابلت الوزير في مكتبه. لقد كانت مقابلة صاخبة. وقد قلت له "لا يمكن أن تسير الأمور بهذا الشكل، يجب أن نقابل رئيس الجمهورية ليحكم بيننا" وعندما قلت له ذلك ثار غضبه وكأن عقربا قد لدغه وصاح قائلا "فكرة كويسة. لازم نروح لرئيس الجمهورية. سوف أقول لرئيس الجمهورية يجب أن يختار يا أنا يا سعد الشاذلي في القوات المسلحة!". كانت الساعة حوالي التاسعة من مساء يوم الخميس عندما غادرت مكتب الوزير على أمل أن نقابل الرئيس يوم السبت التالي. إن صادق الرجل القوي الذي لم يكن ليخشـى رئيس الجمهورية لم يضع الوقت سدى،فاصدر أمرا بعزل اللواء عبد الرؤوف من منصـبه وعين اللواء طلعت حسن علي بدلا منه. وتحت مختلف أساليب القهر والتهديد أرغم اللواء عبد الرؤوف على إرسال برقية إلى لندن لاسترجاع الأموال التي حولها البنك الأهلي المصري لتكون تحت تصرف اللواء عبد الرؤوف واللجنة المرافقة له. وهكذا خلال يوم الجمعة- وهو عطلة رسمية- أتم صادق تنفيذ ما يريده، وعند عرض الموضوع على الرئيس فإنه سوف يجد نفسه أمام الأمر الواقع Fait accompli. في تمام الساعة 1130 من يوم 23 من أبريل ذهبت أنا وصادق إلى منزل الرئيس في الجيزة. وفي حضور صادق أخبرت الرئيس بكل شئ، أخبرته بقصة اللواء عبد الرؤوف. أخبرته بقصـة توزيع الدبابات ت 062 أخبرته كيف ينفرد صادق بالسلطة في المخابرات الحربية وشئون الضباط و أضفت قائلا" سيادة الرئيس تحت هذه الظروف حيث لا سلطان لي على إدارة المخابرات الحربية ولا على إدارة شئون الضباط فأني لا يمكن أن أكون مسئولا عن أمن القوات المسلحة(6) ! كان دفاع الفريق صادق لتبرير تصرفاته عنيفا من وجـهة نظري على الأقل.
فيما يتعلق بقصة اللواء عبد الرؤوف ذكر أن المبالغ المحولة إلى لندن كان من الممكن صرفها من البنك بتوقيع واحـد هو توقيع اللواء عبد الرؤوف، وأن ذلك يعطيه الحق في التصرف في هذه الأموال كأنها أمواله الشـخصية و أضاف قائلا: " إننا نعرف في إدارة المخابرات الكثير عن اللواء عبد الرؤوف مما لا يعرفه الفريق الشاذلي. (7) لقد أمرت يا سيادة الرئيس بإجراء تحـقيق في هذا الموضوع وسأعرضه عليكم خلال أيام". وفيما يتعلق بإدارة المخـابرات تكلم بغموض وعدم تحديد فقال إنه يوافق على أن يقوم بإخباري بما يجري في إدارة المخابرات، ولكن هذا لايعني بالضرورة انه يتحتم عليه أن يأخذ رأيي في كل شئ حيث إن هذا يعني فرض حدود على حريته في العمل. وفيما يتعلق بإدارة شئون الضباط قال إن من حقه اعتماد قرارات لجنة شئون الضباط وانه لم يمارس حقه في تعديل هذه القرارات إلا مرة أو مرتين (8) رددت عليه" إن المسالة مسـالة مبدأ إذا كان لك أن تنقض قرار لجنة مكونة من 15 ضابطا كبيرا فيجب أن تكون هناك أسباب قوية، أسباب أقوى من مجرد معـرفتك الشخصية لهذا الضابط. إن مستقبل الضباط يجب ألا يترك في يد شخص واحد"! وعلى الرغم من شعوري بأن ما أقوله كان منطقيـا فقد حاول صادق أن يستـخدمه ضدي وصاح قائلا شوف يا سيادة الرئيس سعد الشاذلي عايز يحرمني من سلطاتي!!" (9) وفيما يتـعلق بقصـة الدبابات ت 62 أتهمني صـادق بأني اقف دائما ضده وفى صف المستشارين السوفيت. لقد مكثنا مع الرئيس حوالي ثلاث ساعات ولم يتخذ الرئيس أي قرار حاسم بخصوص الموضوع. كل ما قاله هو بعض النصائح العامة. قال موجها كلامه لصادق "لا يا محمد لازم تقول لسعد على كل حاجة في المخـابرات وتستشيره في تعيينات وتنقلات الضباط الراجل مشترك في المسئولية!"، وقال موجها كلامه لي "شوف يا سعد، لازم تأخذ بالك، الروس حيخدعوك، كل الناس بتكرههم حا يحاولوا يستغلوك حتكون أنت الخسران!". كان واضـحا من كلام الرئيس أن صادق نجح في أن يزرع الشكوك في نفسه على اعتبار إني صديق للروس. ولكـني رددت بحدة "سيـادة الرئيس.. إذا تصادف وكانت أرائي أحيانا متطابقة مع آراء الروس، فليس معنى ذلك أني أتعاون معهم ضد أي شخص. إني أقول دائما وبصراحة ما اعتقد انه الحق وانه في مصلحة بلادي، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتمشى مع إنسان ما أو يتعارض معه". وهنا علق الرئيس قائلا: إني اعرف انك رجل وطني وانك لا يمكن أن تقوم بعمل ضد وطنك ولكن أخشى أن يخدعوك وان يجروك إلى الاتجاه الخاطئ". وهكذا غادرنا منزل الرئيس دون أن نحل أية مشكلة. سـارت الأمور في هدوء ويسـر لمدة أسابيع قليلة ثم ارتدت مرة ثانية إلى طبيعتها السابقة. (10)
ولكي يثبت الفريق صادق أن اللواء عبد الرؤوف لم يكن أهلا ليؤتمن على ما يقرب من مليون جنيـه إسترليني، فإنه أمر بتشكيل لجنة تحـقيق لبحث أية مخالفات ماليـة يكون قد ارتكبها أثناء قيامه بعمله كرئيس أركان بالنيابة للقيادة العربية الموحدة، وكان رئيس هذه اللجنة هو اللواء طلعت حسن علي الذي عينه صادق ليحل محل اللواء عبد الرؤوف. (11) كان قرار مجلس التحقيق مخيبا للآمال، فقد وجه اللوم إلى اللواء عبد الرؤوف لارتكابه بعض الأخطاء المالية التافهة مثال ذلك استخدامه الهاتف الرسمي في مكالمة خـاصة مع ابنته في أمريكا دون أن يدفع ثمنها، وقيامه بشراء قلم حبر من الأموال العربية لا المصرية لاستعماله الخاص، وغير ذلك من المخالفات التافهة. (12)
ومع أنني شخصيا لا أؤيد أية مخالفة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة فإنني أود أن أعلن أن هناك أخطاء جسيمة ترتكب يوميـا من قبل كبـار الشخصيـات المصرية، أخطاء تزيد في جسامتها مئات المرات على تلك الأخطاء التي نسبت إلى اللواء عبد الرؤوف، ما قـيمة مكالمة هاتفيـة إلى أمريكا إذا قورنت بهاتف خـاص ذي خط خاص إلى جميع بلاد غرب أوروبا؟ ما قيمـة ثمن قلم حبر إذا قورنت باستخدام طائرة تملكها الدولة وتتسع لأكثر من 100 راكب من قبل فرد واحد في تنقلاته وأحيانا زوجته وأولاده؟ لماذا عندما يسافر بعض المصريين للخارج- وإلى لندن بالذات- يصرف لبعضهم بدل سفر يومي 10 جنيهات إسترلينية بينما بعض المحظيين يكون لهم حساب مفتوح، وينفق بعضهم حوالي مائتي جـنيه إسترليني في اليوم؟ هناك الكثير من المخـالفات المالية ولكن لم يأت بعد وقت الحساب. عموما فإن هذا هو المنطق السائد في مصر.. منطق القول عندما يكون الشخص في السلطة فإن كل ما يقوم به من عمل هو صحـيح وقانوني، فإذا سقط فإن من في السلطة يستطيع دائما أن يبحث، وان يستخرج الكثير من الأخطاء. لقد حاكم السادات وشوه سمعة الكثيرين ممن خدموا في عهد عبد الناصر. و هاهم هؤلاء رجاله يرتكبون أضعاف أضعاف ما نسب إلى رجال عبد الناصر، ألا يعلم هؤلاء الناس أن عجلة الزمن تدور دون توقف وأنه سيأتي اليوم الذي يحاسبون فيه؟!