للنقاء رمز و للشموخ رمز و للمظلومية رمز و..هو رمز ..سعد الدين الشاذلي

مذكرات الفريق / سعد الدين الشاذلي (2)

الفصل السابع عشر: قصة الخلاف بيني وبين صادق،
أعمدة السلطة الثلاثة:
لقد كانت القوات المسلحة المصرية هي أداة التغيير في ثورة 23 يوليو عام 52. وقد كانت الثورة تعتبر ولاء القوات المسلحة من أهم أهدافها، وقد كان تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة يهدف في المقام الأول إلى تأمين القوات المسلحة وضمان ولائها.
كانت وظيفة القائد العام للقوات المسلحة هي وظيفة جديدة خلقتها الثورة، وهي وظيفة غير موجودة إطلاقا لا في التنظيم الغربي ولا في التنظيم الشرقي، حيث يعتبر(ر.ا.ح.ق.م.م) في كل من الكتلتين الشرقية والغربية هو قمة الجهاز العسكري ويتبع وزير الحربية الذي يمثل القيادة السياسية. أما في مصر فإن إدخال هذا النظام قد خلق تنازعا على السلطات وأضاع المسئولية بين القيادة السيـاسية والقيادة العسكرية، فبينما لا يوجد خـلاف حول. شخصية(ر.ا.ح.ق.م.م) من حيث كونه رجلا عسكريا فهناك جدل كبير حول شخصية وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة. هل هو رجل عسكري أم مدني؟ هل أي خطأ يرتكبه يعتبر خطأ للقيادة السياسية أم لا؟ هل أي قرار يتخذه يعتبر هو المسئول عنه كقائد عسكري أم أن مسئوليته تتوقف عند القرار السياسي.
وفي سبيل أن يضمن عبد الحكيم عامر ولاء القوات المسلحـة جعل ثلاث إدارات تتبع له تبعية مباشرة بحيث لا يكون لرئيس أركان حرب القوات المسلحة أي سلطات عليها، اللهم إلا من ناحية الشكل فقط وهذه الإدارات هي إدارة المخابرات الحربية، وإدارة شئون الضباط وهيئـة الشئون المالية. إنه عن طريق إدارة المخابرات الحربية يستطيع أن يحدد من هم الموالون ومن هم السـاخطون. وهو عن طريق إدارة شئون الضـباط يستطيع أن يقصر القيادات والمناصب الحسـاسة على العناصر الموالية له، وعن طريق الهيئة المالية والحسابات السرية يستطيع أن يغدق عطائه على المخلصين والتابعين. وبعد ذهاب المشير عامر حل محله الفريق فوزي فحافظ على التراث وقننه. كان عبد الحكيم عامر يستمد قوته وسلطاته من الشرعية الثورية بحكم انتمائه إلى الثورة وكونه عضوا بارزا في مجلس قيادة الثورة، فلم يكن في حاجة إلى قانون أو قرار جمهوري يحدد له سلطاته، بل العكس هو الصحيح. فمنذ أوائل الستينيات كان قد اصبح في استطاعته أن يتحدى سلطات رئيس الجمهورية. فلما ورث الفريق محمد فوزي هذا المنصب لم يكن يطمع في تحدي سلطات رئيس الجمهورية ولكنه كان يطمع في كل ما هو دون ذلك، فاستصدر من رئيس الجمهورية قرارا جمهوريا يعطي له سلطات ضخمة وكانت جميع هذه السلطات طبعا على حساب سلطات ر.ا.ح.ق.م، وبذلك اصبح الفريق محمد فوزي يمارس سلطاته طبقا لقرار جمهوري. ثم جـاء من بعده الفريق محمد صادق فوجد هذه السلطات فبدا يمارسها بالأسلوب نفسه الذي كان يمارسها به عبد الحكيم عامر ومحمد فوزي.
لقد كان هذا هو الوضع عندما تسلمت عملي كـ ر.ا.ح.ق.م. وجدت نفسي مبعدا تماما عن تلك الإدارات الثلاث لم تكن لدى أية رغبة في أن أقحم نفسي في مشكلات السلطة، فقد كانت أمامي مجالات كثيرة للعمل يمكن أن تستنفد طاقاتي كلها، ولكن تتابع الأحداث جرفني لكي أجد نفسي في قلب المشكلة.
كنت اجلس في أحد الأيام في نادي هليوبوليس الرياضي ومعي أحد الضبـاط القدامى الذي كان قد ترك القوات المسلحة في أوائل الخمسينيات وعين في وزارة الخـارجية ووصل إلى درجة سفير بها، ثم تقاعد بعد ذلك. اشتكى لي بأنه لا يستطيع الحصول على تأشيرة خروج من مصر إلا إذا حصل على موافقة من القوات المسلحة لأنه كان ضابطا يوما من الأيام، على الرغم من انه ترك القوات المسلحة منذ اكثر من 18 عاما. تعجبت من هذه الأوامر التعسفية ووعدته بان ابحث الموضوع. طلبت مدير المخابرات الحربية وبحثت معه الموقف فاتضح أن ما قاله السيد السفير كان صحيحا. فطلبت إليه إلغاء هذه التعليمات ولكنه طلب منى بأدب أن ابحث الموضوع مع السيد الوزير. بحثت الموضوع مع السيد الوزير فوجدته يرى ضرورة الإبقاء على هذا النظام! (1) لماذا؟ لأن بعض الضباط القدامى مقيدين في القائمة السوداء التي بموجبها لا يصرح لهم بمغادرة البلاد. قلت له "لماذا لا ترسلون القائمة السوداء إلى إدارة الجوازات وبذلك تعفون آلاف الضباط غير المقيدين في تلك القائمة من تلك القيود البيروقراطية ؟" قال لأننا لا نريد أن يعرف من هو في القائمة السوداء انه مقيد عندنا وذلك لأغراض الأمن! " ولعلم القارئ فإن الاصطلاح "لأغراض الأمن " هو الاصطلاح الذي يمكن به إنهاء أية مناقشة، وتحت ستار هذا الاصطلاح تتعاظم سلطة الحاكم ومعاونيه في النظم الاوتوقراطية وتمتهـن الديمقراطية وتنتهك الحرمات، أي أمن هذا؟! كيف تحافظ إسرائيل على أمنها وهي في الوقت نفسه تمارس الديمقراطية وتحترم حرية الفرد اليهودي إلى ابعد الحدود!!
كانت إدارة شئون الضباط في وضع مختلف. فقد كنت بحكم وظيفتي أعتبر رئيسا للجنة شئون الضباط التي تتكون من حوالي 15 ضابطا من رتبة لواء، وتختص هذه اللجنة بالنظر في شئون الضباط من ترقية وطرد وعقاب ولكنها لا تختص بشئون التعيين في وظائف القيادة أو النقل من وظيفة إلى أخرى، حيث أن ذلك يتم بتعليمات مبـاشرة من الوزير إلى مدير إدارة شئون الضباط. كنا نجتمع في هذه اللجنة في المساء وكان اجتماعنا يمتد إلى ما بعد منتصف الليل لعدة ليال متتالية لكي نقوم بهذا العمل بما يرضي الله والضمير. كنا نستمع إلى جميع الآراء ثم نجرى التصويت. ويكون القرار دائما طبقا لرأى الأغلبية. وبعد كل هذا العناء كان يتحتم عرض قرار اللجنة على السيد الوزير. كنت أظن أن تصديق الوزير هو أمر شكلي إذ لا يعقل أن يبحث الوزير في خلال خمس دقائق ما قام به 15 ضابطا كبيرا في ثلاثيين ساعة عمل ( أي 450 رجل ساعة)!! ولكني كنت مخطئا في تصوري! إن الوزير يقوم بشطب أي قرار لا يعجبه ويضع بدلا منه قراره هو فإذا ناقشته في ذلك فإنه يقول "أنا أعرف هذا الضابط اكثر منكم،، قلت له "لماذا إذن أضيع وقتي ووقت 14 جنرالا معي في عمل يمكن أن يشطب بجرة قلم منك؟ لماذا لا تقوم أنت بالعمل كله وتعفينا من هذا العناء".
لقد كـان صادق هو أحد رجال الانقلاب الذي قام به السادات في مايو 71، وكانت هذه الصفة بالإضافة إلى كونه وزيراً للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة تعطيه سلطات واسعة على المستويين السياسي والعسكري. كان الجميع يعرفون قوة صادق بما فيهم أنا طبعا. ولكنه مع ذلك- كبشر- كان أحيانا يحب أن يستعرض هذه القوة وفي ساعة من ساعات التجلي كنت في مكتبه أتناقش معه في بعض الموضوعات قبل سفره إلى السعودية في طائرة بوينج خاصة تنتظره في المطار، فاخرج من جيبه كتابا ناولني إياه وقال لي أقرا، كان الكتاب في ظرف غير مغلق وهو معنون باسم الملك فيصل، وموقع من قبل الرئيس السادات، وفيه يقول السادات للملك فيصل: "أن الفريق صادق هو موضع ثقتي الكاملة، أن أي شيء يقوله أو يعد به هو باسمي تستطيع أن تتكلم وتتعامل معه كما لو كنت تتعامل معي". (2)
قاتل الله السلطة التي تجمع بصاحبها فتدمره لقد أخذت سلطات صادق تتعاظم يوما بعد يوم حتى دمرته. لقد ارتكب صـادق أخطاء من سبقوه نفسها. أنه يبطش بأي ضابط يعترض طريقه ويغدق العطاء على من يسير في ركابه. ويضيق صدره إذا سمع رأيا يختلف عن رأيه. لقد بدأت السلطة تجمح به في أواخر عام 1971 وبدا الخلاف بيني وبينه يظهر ولم نكن قد عملنا معا سوى ستة أشهر. لقد كان صادق صديقا عزيزاً لي منذ أيام شبابنا. وأنا مازلت احبه وأقدره إني اختلف معه في كثير من الآراء ولكني مازلت اعتقد انه عنصر وطني يمكن أن يخطئ وأني اقف بجانبه ضد الاتهامات الباطلة التي يوجهها إليه السادات اليوم دون أن يعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه. أن كل ما ألوم صادق عليه هو انه خضع للسلطة فجمحت به حتى اصبح لا يطيق أن يسمع رأيا يخالف رأيه. انه الضعف الإنساني. لم يكن صـادق أول هؤلاء ولن يكون قطعا أخرهم أني اشعر أن من واجبي أن أظهر هذه الحقائق عسى أن يستفيد منها بعضهم فلا يقعوا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه أسلافهم.
الخلاف أثناء اجتماع مجلس الدفاع المشترك:
وقع أول تصادم بيني وبين صادق في أواخر نوفمبر 71 خلال فترة انعقاد مجلس الدفاع العربي المشترك. (3) كنت اعرض مشروعا جديدا على المجلس بصفتي الأمين المساعد العسكري للجامعة العربية" بينما كان هو يحضر الاجتماع مندوبا عن مصر بصفته وزيرا للحربيـة. لم يعجـبه الخط الذي كنت أسير فيه فجـاء يلومني خلال فترة الاستراحة بين الجلسات ويطلب إليّ تغيير المسار لكي يتفق مع وجهة نظره فرفضت قائلا " أنك بصفتك وزيرا للحـربية في مصر تستطيع أن تصدر إليّ التوجيهات بصفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، أما بصفتي الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية فإنه ليس من حقك أن تصدر إليّ أية توجيهات انك تمثل مصر وتستطيع أن تتكلم باسم مصر كيفما تشاء ويستمع إليك الآخرون ويناقشونك أما أنا فإنني أتكلم باسم جميع رؤساء أركان حرب القوات المسلحة العربية،، فرد غاضبا بنبرة لا تخلو من التهديد "ولكنك تعلم أن وظيفتك أمينا عسكريا مساعدا للجامعة العربية هي نتيجة لكونك (ر.ا.ح.ق.م.م)، فأجبت نعم اعرف ذلك ولكنـي لن أساوم على حريتي في العمل أمينا مساعدا للاحتفاظ بوظيفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، وهذه الحقيقة يجب أن تعرفها جيدا".
الخلاف حول سلطات (ر.ا.ح.ق.م.م):
حاول صادق أن يتوسع في سلطاته في شئون القوات المسلحة كما لو انه ليس هناك من يشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م، وكان علىّ أن أقف ضده كان يعتقد انه بصفته وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة فإنه هو وحده الذي له سلطة اتخـاذ القرار وأنه يتحتم علي أن أخطره بكل شيء وألا اتخذ أي قرار، قلت له "إنك تريدني أن أقوم بأعمال مدير مكتب وليس ر.ا.ح.ق.م.م وهذا ما لا أقبله!". فما كان منه إلا أن اخرج من مكتبه القرار الجمهوري الذي استصدره سلفه الفريق فوزي وقال لي"تفضل واقرأ هذا القرار وأنت تعرف أني اعمل في حدود سلطاتي!". لقد كان القرار غامضاً في بعض النواحي ولكنه كـان على العموم يعطي سلطات واسعة للقائد العام للقوات المسلحة الذي قام هو نفسه بتحريره والتصديق عليه من رئيس الجـمهورية دون أيـة دراسة من الأجهزة الفنية المتخصصة. إن هذا هو أحد من الدروس التي يجب أن نتعلمها في مصر من أخطاء الماضي. "عندما يكون شخص ما في السلطة فإنه يقوم باستصدار قانون أو قرار جمهوري يخدم أغراضه ويقنن تصرفاته".
ولإصلاح هذا الوضع بالنسبة للأجيال القادمة دعوت لجنة لدراسة هذا الموضوع، تتكون من اللواء عمر جوهر رئيس هيئة التنظيم واللواء محـمد عبـد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات وآخرين. وقد كـان رأي الجميع دون استثناء هو أن تكون هناك شخصيـة سياسية هي شخص وزير الحربية وتختص باتخاذ القرار السيـاسي والقرار الاستراتيجي، أما جميع القرارات ما دون ذلك بما في ذلك- إدارة العمليات الحـربية والسيطرة والإدارة اليومية للقوات المسلحة- فإنها تكون من اختصاص وظيفة عسـكرية هي رئيس أركان حرب القوات المسلحة. وحتى لا يكون هناك أي إحراج لأحد، اقترحت أن يطبق هذا النظام بعد تغيير كل من وزير الحربية الحالي ورئيس أركان الحرب الحـالي حتى لا يتهمني أحـد بأنني أبحث عن السلطة. ولما عرضت هذه الاقتراحات على الوزير رفضها.
الخلاف حول توزيع الدبابات ت 62:
في خلال المفاوضات بين مصر والسوفيات في فبراير 72 وافق الجـانب السوفيتي على إمدادنا بعدد من الدبابات ت 62. وفي يوم 26 من فبراير اجتمعت لجنة برئاسة الوزير لبحث طريقة استيـعاب وتنظيم هذه الدبابات. لقد كان رأي الوزير ومعه رئيس هيئة العمليات ورئيس هيـئة التنظيم هو أن نسلم هذه الدبابات إلى اللواءين المدرعين المستقلين، وأن تحل الدبابات ت 54 و ت 55- التي كـانت أصلا ضـمن تنظيم هذين اللواءين- مـحل الدبابات ت 34 في التشكيلات الأخـرى. أما أنا فقد عارضت هذا الرأي وطالبت بتسليم الدبابات ت 62 إلى الفرقتين المدرعتين بدلا من اللواءين المسـتقلين. وقد بنيت رأيي على أساس أن وجود هذه الدبابة القوية ذات المدفع 115 مم ضمن الفرق المدرعة وفي احتياط القوات المسلحة يجعلنا قادرين على توجيه ضـربة قوية وحاسمة في الاتجاه الذي قد يظهر لنا أثناء المعركة.(4) أما
توزيعها على الألوية المدرعة المستقله فسوف يترتب عليه ان تستخدم هذه الألوية في الأغراض الأولى من المعركة وفي اتجاهات قد لا تكون ذات أهمية كبيرة وقد وافقني الفريق عبد القادر حسن على هذا الرأي.
في اليوم التالي اجتمعنا مرة أخرى لبحث الموضوع نفسه ولكن في هذه المرة بعد أن انضم إلينا الجنرال اوكينيف وبعض المستشارين السوفيت. قام السيد الوزير بصفته رئيسا للمؤتمر طلب رأي الحـاضرين واحدا بعد الآخر. أيد الجمسي وعمر جوهر رأيهم السابق وعدل عبد القادر حسن رأيه لكي ينضم أليه. أما أنا فقد قمت بتأكيد رأيي الذي أعلنته في اليوم السابق، وبذلك أصبحت المعارض الوحيد لوجهة نظر الوزير. استمعنا بعد ذلك إلى رأي المستشارين فكانوا جميعا ذوي رأي واحد يتطابق مع وجهة نظري. وهنا علق الوزير موجها كلامه إلى كبير المستشارين بأسلوب لا يخلو من الغمز "أرى انك تتفق تماما مع الفريق الشاذلي "! (5)
وقد عرفت فيما بعد أن السبب الحقيقي الذي دفع صادق للوقوف ضد اقتراحي هو انه كان يشك في ولاء العميد عادل سوكه الذي كان قائدا لإحدى الفرق المدرعة. وان تسليم 100 دبابة جديدة ت 62 إليه قد يخل بالتوازن الأمني الداخلي الذي تضعه القيادة السياسية المصرية دومـا في مقدمـة المتطلبات العسكرية للمعركة. وهكذا اتخذ الوزير القرار بتسليم الدبابات ت 62 إلى كل من اللواءين المدرعين المستقلين 15 و25
موضوع اللواء عبد الرؤوف:
كان يوم 20 من أبريل 72 هو قمة الخلاف بيني وبين الفريق صادق، وذلك عندما اتخذ صادق إجراء تعسفيـا ضد اللواء عبد الرؤوف كان اللواء عبد الرؤوف يعمل في تصفية أعمال القيادة العربية الموحدة وكان البند الثامن من قرارات مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة التي انعقدت في القاهرة ما بين 27 و30 نوفمبر 71 ينص على "تخصيص مبلغ مليون ونصف المليون جنيه إسترليني من الرصيد المتبقي لدى القيادة العربية الموحدة لشراء لنشي مساحة، على أن تقوم جمهورية مصر العربية بتدبير الفنيين اللازمين لتشغيل هذين اللنشين وعلى أن تلتزم بعملية المسح الهيدروغرافي لجميع السواحل العربية طبقا للأسبقية التي يضعها مجلس الدفاع المشترك" .لقد وافقت جميع الدول العربية بالإجماع -بما فيها مصر- على هذه القرارات وكنت بحكم وظيفتي أمينا مسـاعدا عسكريا للجامعة العربية مسئولا عن تنفيذ هذا القرار. وبعد القيام بالدراسات الأولية قررت إرسال اللواء عبد الرؤوف إلى لندن للقيام بالإجراءات النهائية والتوقيع على العقود اللازمة. وفى يوم سفر اللواء عبد الرؤوف قام الفريق صادق بإجراء تعسفي عنيف ضده أثناء قيامه بتنفيذ هذه المهمة.
لقد أمر صادق رجـال مخابراته بإيقافه في المطار أثناء تحركه في اتجاه الطائرة وعومل في المطار معاملة غير كريمة وكأنه طفل هارب !! لقد كـان خطا كبيرا من صادق لا يليق بجمهورية مصر العربية! إنني لم ارغب في إثارة هذا الموضوع على المستوى العربي حينذاك خوفا من أن يؤثر ذلك على العلاقات والتعاون الذي يربط مصر- بصفتها الدولة المضيفة لمنظمات جامعة الدول العربية- بباقي الدول العربية. أما الآن وبعد أن مضى اكثر من سبع سنوات على هذا الحادث، فإن من حق الدول العربية أن تعرف هذه الحقيقة حتى تعمل على ضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل، لذلك فأنى أثير السؤال التالي أمام العرب كله:
"هل من حق السلطات المصرية أن تتخذ إجراءات تعسفية ضد المصريين الذين يعملون في الجامعة العربية بطريقة تمنعهم من تنفيذ قرارات اتخذتها الجـامعة العربية ومنظماتها المختلفة؟ إذا كانت الإجـابة من الناحية النظرية هي"لا"، فما الضمانات التي تكفلها الجامعة العربية لموظفيها حتى يمكنهم أن يحتفظوا بحريتهم في العمل وعدم خضوعهم للإرهاب الذي قد تمارسه السلطات المصرية ضدهم كما حدث للواء عبد الرؤوف"؟
لقد قضيت نهار يوم 20 من أبريل 72 في الجيش الثـالث، حيث كانت الفرقة الرابعة المدرعة تقوم بإجراء مشروع تدريبي. وعندما وصلت إلى مكتبي حوالي السـاعة 1730 علمت بالحادث المحزن الخاص باللواء عبد الرؤوف. وفى الساعة 2000 قابلت الوزير في مكتبه. لقد كانت مقابلة صاخبة. وقد قلت له "لا يمكن أن تسير الأمور بهذا الشكل، يجب أن نقابل رئيس الجمهورية ليحكم بيننا" وعندما قلت له ذلك ثار غضبه وكأن عقربا قد لدغه وصاح قائلا "فكرة كويسة. لازم نروح لرئيس الجمهورية. سوف أقول لرئيس الجمهورية يجب أن يختار يا أنا يا سعد الشاذلي في القوات المسلحة!". كانت الساعة حوالي التاسعة من مساء يوم الخميس عندما غادرت مكتب الوزير على أمل أن نقابل الرئيس يوم السبت التالي. إن صادق الرجل القوي الذي لم يكن ليخشـى رئيس الجمهورية لم يضع الوقت سدى،فاصدر أمرا بعزل اللواء عبد الرؤوف من منصـبه وعين اللواء طلعت حسن علي بدلا منه. وتحت مختلف أساليب القهر والتهديد أرغم اللواء عبد الرؤوف على إرسال برقية إلى لندن لاسترجاع الأموال التي حولها البنك الأهلي المصري لتكون تحت تصرف اللواء عبد الرؤوف واللجنة المرافقة له. وهكذا خلال يوم الجمعة- وهو عطلة رسمية- أتم صادق تنفيذ ما يريده، وعند عرض الموضوع على الرئيس فإنه سوف يجد نفسه أمام الأمر الواقع Fait accompli. في تمام الساعة 1130 من يوم 23 من أبريل ذهبت أنا وصادق إلى منزل الرئيس في الجيزة. وفي حضور صادق أخبرت الرئيس بكل شئ، أخبرته بقصة اللواء عبد الرؤوف. أخبرته بقصـة توزيع الدبابات ت 062 أخبرته كيف ينفرد صادق بالسلطة في المخابرات الحربية وشئون الضباط و أضفت قائلا" سيادة الرئيس تحت هذه الظروف حيث لا سلطان لي على إدارة المخابرات الحربية ولا على إدارة شئون الضباط فأني لا يمكن أن أكون مسئولا عن أمن القوات المسلحة(6) ! كان دفاع الفريق صادق لتبرير تصرفاته عنيفا من وجـهة نظري على الأقل.
فيما يتعلق بقصة اللواء عبد الرؤوف ذكر أن المبالغ المحولة إلى لندن كان من الممكن صرفها من البنك بتوقيع واحـد هو توقيع اللواء عبد الرؤوف، وأن ذلك يعطيه الحق في التصرف في هذه الأموال كأنها أمواله الشـخصية و أضاف قائلا: " إننا نعرف في إدارة المخابرات الكثير عن اللواء عبد الرؤوف مما لا يعرفه الفريق الشاذلي. (7) لقد أمرت يا سيادة الرئيس بإجراء تحـقيق في هذا الموضوع وسأعرضه عليكم خلال أيام". وفيما يتعلق بإدارة المخـابرات تكلم بغموض وعدم تحديد فقال إنه يوافق على أن يقوم بإخباري بما يجري في إدارة المخابرات، ولكن هذا لايعني بالضرورة انه يتحتم عليه أن يأخذ رأيي في كل شئ حيث إن هذا يعني فرض حدود على حريته في العمل. وفيما يتعلق بإدارة شئون الضباط قال إن من حقه اعتماد قرارات لجنة شئون الضباط وانه لم يمارس حقه في تعديل هذه القرارات إلا مرة أو مرتين (8) رددت عليه" إن المسالة مسـالة مبدأ إذا كان لك أن تنقض قرار لجنة مكونة من 15 ضابطا كبيرا فيجب أن تكون هناك أسباب قوية، أسباب أقوى من مجرد معـرفتك الشخصية لهذا الضابط. إن مستقبل الضباط يجب ألا يترك في يد شخص واحد"! وعلى الرغم من شعوري بأن ما أقوله كان منطقيـا فقد حاول صادق أن يستـخدمه ضدي وصاح قائلا شوف يا سيادة الرئيس سعد الشاذلي عايز يحرمني من سلطاتي!!" (9) وفيما يتـعلق بقصـة الدبابات ت 62 أتهمني صـادق بأني اقف دائما ضده وفى صف المستشارين السوفيت. لقد مكثنا مع الرئيس حوالي ثلاث ساعات ولم يتخذ الرئيس أي قرار حاسم بخصوص الموضوع. كل ما قاله هو بعض النصائح العامة. قال موجها كلامه لصادق "لا يا محمد لازم تقول لسعد على كل حاجة في المخـابرات وتستشيره في تعيينات وتنقلات الضباط الراجل مشترك في المسئولية!"، وقال موجها كلامه لي "شوف يا سعد، لازم تأخذ بالك، الروس حيخدعوك، كل الناس بتكرههم حا يحاولوا يستغلوك حتكون أنت الخسران!". كان واضـحا من كلام الرئيس أن صادق نجح في أن يزرع الشكوك في نفسه على اعتبار إني صديق للروس. ولكـني رددت بحدة "سيـادة الرئيس.. إذا تصادف وكانت أرائي أحيانا متطابقة مع آراء الروس، فليس معنى ذلك أني أتعاون معهم ضد أي شخص. إني أقول دائما وبصراحة ما اعتقد انه الحق وانه في مصلحة بلادي، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتمشى مع إنسان ما أو يتعارض معه". وهنا علق الرئيس قائلا: إني اعرف انك رجل وطني وانك لا يمكن أن تقوم بعمل ضد وطنك ولكن أخشى أن يخدعوك وان يجروك إلى الاتجاه الخاطئ". وهكذا غادرنا منزل الرئيس دون أن نحل أية مشكلة. سـارت الأمور في هدوء ويسـر لمدة أسابيع قليلة ثم ارتدت مرة ثانية إلى طبيعتها السابقة. (10)
ولكي يثبت الفريق صادق أن اللواء عبد الرؤوف لم يكن أهلا ليؤتمن على ما يقرب من مليون جنيـه إسترليني، فإنه أمر بتشكيل لجنة تحـقيق لبحث أية مخالفات ماليـة يكون قد ارتكبها أثناء قيامه بعمله كرئيس أركان بالنيابة للقيادة العربية الموحدة، وكان رئيس هذه اللجنة هو اللواء طلعت حسن علي الذي عينه صادق ليحل محل اللواء عبد الرؤوف. (11) كان قرار مجلس التحقيق مخيبا للآمال، فقد وجه اللوم إلى اللواء عبد الرؤوف لارتكابه بعض الأخطاء المالية التافهة مثال ذلك استخدامه الهاتف الرسمي في مكالمة خـاصة مع ابنته في أمريكا دون أن يدفع ثمنها، وقيامه بشراء قلم حبر من الأموال العربية لا المصرية لاستعماله الخاص، وغير ذلك من المخالفات التافهة. (12)
ومع أنني شخصيا لا أؤيد أية مخالفة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة فإنني أود أن أعلن أن هناك أخطاء جسيمة ترتكب يوميـا من قبل كبـار الشخصيـات المصرية، أخطاء تزيد في جسامتها مئات المرات على تلك الأخطاء التي نسبت إلى اللواء عبد الرؤوف، ما قـيمة مكالمة هاتفيـة إلى أمريكا إذا قورنت بهاتف خـاص ذي خط خاص إلى جميع بلاد غرب أوروبا؟ ما قيمـة ثمن قلم حبر إذا قورنت باستخدام طائرة تملكها الدولة وتتسع لأكثر من 100 راكب من قبل فرد واحد في تنقلاته وأحيانا زوجته وأولاده؟ لماذا عندما يسافر بعض المصريين للخارج- وإلى لندن بالذات- يصرف لبعضهم بدل سفر يومي 10 جنيهات إسترلينية بينما بعض المحظيين يكون لهم حساب مفتوح، وينفق بعضهم حوالي مائتي جـنيه إسترليني في اليوم؟ هناك الكثير من المخـالفات المالية ولكن لم يأت بعد وقت الحساب. عموما فإن هذا هو المنطق السائد في مصر.. منطق القول عندما يكون الشخص في السلطة فإن كل ما يقوم به من عمل هو صحـيح وقانوني، فإذا سقط فإن من في السلطة يستطيع دائما أن يبحث، وان يستخرج الكثير من الأخطاء. لقد حاكم السادات وشوه سمعة الكثيرين ممن خدموا في عهد عبد الناصر. و هاهم هؤلاء رجاله يرتكبون أضعاف أضعاف ما نسب إلى رجال عبد الناصر، ألا يعلم هؤلاء الناس أن عجلة الزمن تدور دون توقف وأنه سيأتي اليوم الذي يحاسبون فيه؟!
 
الفصل الثامن عشر: أبريل 72.. أكتوبر 72
وأخيراً تم التوقيع على الصفقة:
في يوم 27 من أبريل سافر الرئيس إلى موسكو للمرة الثانية خـلال فترة اقل من ثلاثة شهور وعاد في 10 من مايو، فكانت بذلك أطول زيارة قضاها في الاتحاد السوفيتي. وفي 14 من مايو-أي بعد عودة الرئيس السادات بأربعة أيام فقط- وصل المارشال جريشكو. وفي اليوم نفسه قام المارشال جريشكو والسفير السوفيتي في الساعة السابعة مساء بزيارة السيد الرئيس، ولم يحضر هذه الزيارة أي من الفريق صادق وزير الحربية أو السيد مراد غالب وزير الخارجية. لقد كانت الترتيبات تقضي بان المارشال جريشكو ستسـتمر زيارته للرئيس لمدة ساعة يقوم بعدها بزيارة مجاملة للفريق صادق في منزله ثم يحضر الوزيران إلى نادي الضباط بالزمالك لحضور حفل العشاء الذي يقام على شرف المارشال جريشكو. ولكن زيارة المارشال جـريشكو للرئيس امتدت حتى السـاعة الحادية عشـرة وعندما وصل المارشال أخيرا إلى منزل صادق بادره قائلا "ليس لدى شئ أعطيه لك، لقد اخذ الرئيس كل ما كـان في جيوبي"، ورد عليه صادق "أرجو أن يكون الرئيس قد اخذ من جيوبك كل ما نريده". وفي خلال حفل العشاء تم الاتفاق على أن يقوم الفريق عبد القادر حسن بالتوقيع صباح اليوم التالي على الاتفاقية.
وفي صباح اليوم التالي كنت مع الفريق صادق في مكتبه ننتظر زيارة مجاملة يقوم بها المارشال جـريشكو إلى السيد الوزير. فسألته عن الأصناف التي تم الاتفاق عليها، فـاقسم يمينا مغلظا بأنه لا يعرف. واستدعينا الفريق عبد القادر حسن الذي كان مجـتمعا مع الجانب السوفييتي لسؤاله فقال إن الجانب السوفييتي يعرض:
- 16 طائرة سو 17
- 8 كتائب بيتشورا (سام 3)
- 1 فوج كوادرات يتم تسليمه عام 73
- 200 دبابة ت 62 يتم توريد نصفها خلال عام 72 والنصف الباقي خلال عام 73.
- قطع غيار مختلفة.
سالت الفريق عبد القادر حسن عن الأثمان فقال انه لم يصل معهم بعد إلى هذه النقطة. ولكنه سيقوم بإخطارنا عندما يعرف هو ذلك. بعد خروج الفريق عبد القادر حسن قلت لصادق. لماذا لا تتصل بالرئيس لتسأله عما تم الاتفاق عليه وتخطر به عبد القادر حسن. ان لم تفعل فإنك تترك عبد القادر حسن في موقف صعب للغاية"، وهنا طلب الوزير الرئيس هاتفيا.
وفي أثناء المكالمة حـاول صادق ان يلفت نظري إلى ما يقوله السـادات على الطرف الآخر وذلك بأنه تعمد تكرار ما يقوله السادات: "لا تناقش الأسعار.. لا تناقش توقيتات التوريد. فيما يتعلق بالدبابات لقد اتفقنا ان يتم توريد 60 دبابة خلال شهر يوليو ، 60 دبابة خلال 72، 80 خلال 73، فوج الكوادرات يتم توريده خلال 72". وبعد انتهاء الحديث التفت إلىّ وقال "لقد سمعت المحادثة. انك الشاهد الوحيد أمام الله وأمام التاريخ. سوف أوقع الاتفاقية دون مناقشة الأسعار ودون مناقشة توقيتات التوريد. ومع ذلك فإني سوف أمارس بعض الضغط بغرض الحصول على جميع الأصناف قبل نهاية عام 73، ولكن إذا لم يوافق الجانب السوفيتي فسوف أوقع على الاتفاقية"، فقلت له "تأكد أنني أقول الصدق دائما". وبعد خروجي من مكتب الوزير قمت بتسجيل ما دار من حـديث في مذكرتي الخاصة.
إنني لا اعرف ماذا دار بين السادات والقيادة السياسيـة السوفيتية خلال زيارته الأخيرة ولكني أتصور انه قال لهم وسمع منهم ان صـادق هو العقبة الكؤود في سبيل تحسين العلاقـات بين روسيـا ومصر، ولا أستبعد ان يكون قد وعدهم بأنه سيطرده وأن قيام السادات باستبعاد صادق من المفاوضات الخـاصة بالصفقة الأخيرة كان الغرض منه هو ان يثبت للجانب السوفيتي انه هو وحده الرجل القوي في مصر، ومن ناحية الاتحاد السوفيتي فأنه كان يرمي إلى الوصول إلى اتفاق مع مصر حول هذه الصفقة، حتى يمكنه ان يحضر مؤتمر قمة بريجنيف- نيكسون، الذي كان مزمعا عقده في موسكو في 20 من مايو 72 من موقع قوة.
مؤتمر الرئيس في القناطر الخيرية 6 من يونيو 72:
في 6 من يونيو 72 اجتمعنا في استراحة الرئيس في القناطر الخيرية. كان اجتمـاعا مصغرا ولا يشمل سوى الدائرة الصغرى من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحـة. وقد حضر هذا المؤتمر كل من: صادق، الشاذلي، محمد علي فهمي محمود علي فهمي، المسيري، محرز، الجمسي، علي عبد الخبير، عمر جوهر، حسن الجر يدلي (للسكرتارية). وبناء على تكليف من صادق اخذ الجمسي يقرأ تقريرا عن موقف القوات المسلحة تم إعداده خلال فترة زيارتي للعراق (26 من مايو- 2 من يونيو)، كما أشير أيضا إلى تقرير أعده اللواء أحمد إسماعيل بصفته مدير المخابرات العامة وبه يؤكد ان القوات المسلحة ليست في وضع يسمح لها بالقيام بعملية هجومية؛ وبعد ذلك فتح باب المناقشة طبقا لما يلي:
الرئيس:
يجب ان نفرق بين رجال السياسة ورجال الحرب ويجب ان تركزوا على المعركة القادمة.أنا والفريق صادق يشاركني الرأي انه يجب ألا نعمل إلا بعد تكوين قوة الردع أي أن يكون عندنا طيران يستطيع ان يضـرب عمق العدو " ولكن يجب ان نفكر "ما هو العمل إذا اضطرنا الموقف السياسي إلى بدء المعركة قبل الانتهاء من بناء قوة الردع؟ ".
الشاذلي:
إن ما ورد في التقرير حقائق لا يمكن إنكارها والمجادلة في صحتها، ولكن السؤال الآن هو: "ما العمل؟ ما هو الممكن عمله ؟" إن ربط المعركة بإعداد القوات البرية المصرية يعنى تأجيل المعركة سنوات أخرى لا يعلم أحد مداها. إن الفجوة التي بين القوات الجوية الإسـرائيلية والقـوات الجوية المصريـة تميل إلى الاتسـاع لا إلى الضيق. إن الاستراتيجية الأمريكية المعلنة والمنفذة في المنطقة هي الإبقاء على إسرائيل قوية بحيث تكون- قواتها أكـثر قوة من القوات الجوية للدول العربيـة مجتمعة. إننا لم نحصل بعد على طائرة ردع يمكن مقارنتها بطائرات الفانتوم التي يملكها العدو، وحتى لو حصلنا الآن على طائرة مماثلة فإن قدرتنا على استيعـاب هذه الطائرة ستحـتاج إلى فترة طويلة تكون إسرائيل قد حصلت مثلها على طائرة أخرى اكثر تقدما، وهكذا فإني لا أرى أملا في إغلاق أو تضييق الفجوة التي بيننا وبين إسرائيل في القوات الجوية في المستقبل القريب. لذلك فإني أرى انه يجب علينا أن نخطط لمعركة هجومية محدودة في ظل تفوق جوي معاد، ويمكننا ان نعتمد في تحدينا للتفوق الجوي خلال تلك المعركة على الصواريخ المضادة للطائرات سام.
المسيري:
أوافق تماما على كل ما قاله الفريق الشاذلي.
الرئيس (مازحـا):
والله يا مسيري إذا ما كنتم تحـاربوا كويس لأربطك في شجرة في الجنينة دي وأشنقك كمان.
رحلة صادق إلى موسكو يونيو 72:
سافر الفريق صادق إلى الاتحاد السوفيتي في الفترة ما بين 8 و13 يونيو 72. وفي يوم 20 من يونيو دعا الوزير إلى مؤتمر مصغر حضره- بالإضافة إلى الوزير- أنا وقائد القوات الجوية وقائد الدفاع الجـوي وقائد البحرية وقائد الجيش الثاني وقائد الجيش الثالث ومدير إدارة المخابرات الحربية. وقد افتتح صادق المؤتمر بان طلب إلـى مدير المخابرات أن يقرأ تقريرا كان قد سبق إعداده وقد جاء في التقرير أن وفدا من الصحفيين السوفيت زار بعض الوحدات الميدانية وكان يوجـه الأسئلة الآتية "ان إسرائيل لديها أسلحة حـديثة ومتقدمة. وعندما نقوم بأمدادكم بأسلحة متقدمة فإنكم تكتشفون ان إسرائيل قد أصبحت لديها أسلحة اكثر تقدما فتطلبون منا أسلحة أخرى اكثر تقدما وهكذا. ان الفجوة بينكم وبين إسرائيل قد تبقى كما هي بل قد تزيد، فهل يعني هذا أنكم لن تقاتلوا لتحرير أرضكم؟ لماذا يقاتل الفيتناميون أمريكا بالأسلحة نفسها التي معكم، يقاتلون الرأس أما انتم فتواجهون الذنب ؟".
وهنا علق الفريق صادق قائلا "إن هذا هو نفس كلام سعد الشاذلي".
الوزير:
شرح الوزير تفاصيل زيارته وتتلخص أقواله فيما يلي:
1- رأي المارشال جريشكو:
(أ) يجب تجهيز القوات المسلحة والدولة والشعب لمعركة طويلة الأمد.
(ب) يجب ان تحصلوا على ما تحتـاجون إليه من أسلحـة هجومية بالأعداد التي تطلبونها لضمان كسب المعركة. (5)
2- رأي المستر بريجنيف:
أ- إن الموقف الداخلي في مصر غير مستقر. مازال هناك أفراد من الجيل القديم يحاولون إرجـاع الماضي. هناك في مصـر من ينظر إلى الشرق ولكن هناك أيضـا من ينظر إلى الغرب.
ب- إن الموقف في الشرق الأوسط بالغ التعقيد. إن إسرائيل تعرض حلولا لا يمكن قبولها من قبل مصر ولا يمكن قبولها من قبلنا.
ج- أننا نؤمن بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وإننا متضامنون معكم ونؤيدكم في نضالكم.
د- يجب ان نعمل معا في المحافل الدولية اعتمادا على قرار مجلس الأمن 242.
هـ- إن تحرير الأرض يتطلب أولا بناء الجيش الدفاعي لمنع العدو من توسيع رقعة الأرض التي يحتلها، وبعد ذلك يجري بناء الجيش الهجومي الذي يقوم بتحرير الأرض. ولكن قبل بناء الجيش الهجومي يجب التأكد مما إذا كان هذا الجيش سيحارب أم لا؟ فقد لا يحارب الجيش بعد هذا كله. (6)
و- إن الإبقاء على المستشارين السوفيت في مصر ضرورة دولية. (7)
ز- لن نقوم بعقد اتفاقية مع أمريكا على حساب مصر.
ح- أنت من واجبك (الكلام موجه إلى صادق) تحرير الأرض ومسـاعدة أصدقائكم في سوريا.
3- انطباع الفريق صادق:
انتقل صادق بعد ذلك إلى ذكر انطباعاته عن هذه الزيارة فقال:
أ- إن السوفيت مهتمون جدا بالجبهة الداخلية، بل انهم طلبوا تنحية الأشخاص الذين تتعارض سياستهم مع الاتجاه السوفيتي.
ب- إنه لا تغيير في السياسة السوفيتية بعد مؤتمر قمة بريجنيف- نيكسون.
ج- إن السوفيت يريدون تهدئة الموقف في المنطقة إلى ان ينجح نيكسون في الانتخابات في نوفمبر القادم، وبعد نجاحه فانهم سوف يماطلون في إمدادنا بالسـلاح لتمييع القضية، بأمل الوصول إلى حل سلمي للقضية.
تامين الأهداف الحيوية ضد العمليات الإرهابية:عند بحث الإجـراءات المضادة التي نتخـذها في مواجهة العمليات الإرهابية، كان هناك اقتراح بان تقوم القوات المسلحة بالتعاون مع الشرطة في توفير الحماية للأهداف المدنية. وقد أوضحت أنه يكاد يكون من المستحيل تدبير القوات اللازمة لتوفير الحماية لجميع الأهداف، وإننا سوف نكون ضعفاء في كل مكان. إننا لا نستطيع ان نحمي جـميع الفنادق والمدارس والنوادي ودور السينما ومكاتب الحكومة وآلافا غيرها من الأهداف. ولمقابلة هذا التهديد فإنه يجب ان نوفر قدرا من الدفاع الذاتي لكل هدف من هذه الأهداف مع الاحـتفاظ بقوة خفيفة الحركة يمكن دفعها فورا إلى المكان الذي يكون هدفا للهجوم.
ولتحقيق هذه الفكرة فإن ذلك يتطلب توزيع بعض الأسلحة على المدنيين الذين يعملون في تلك الأمكنة، ولكن هذه الفكرة كانت مرفوضـة تماما لأنها- كما يقول رجال الأمن- تعرض الأمن الداخلي للخطر. وكحل بديل اقترحت ان يسمح لضباط القوات المسلحة بان يحملوا أسلحتهم معهم أينما ذهبوا، لأن هذا الإجراء سيوفر لنا بصفة مستديمة حوالي 10000 رجل مسلح خارج المعسكرات منتشرين في طول البـلاد وعرضها. فإذا وقع اعتداء على أي هدف من أهدافنا المدنية فإن هؤلاء الرجـال المسلحين يستطيعون القيـام بما يستطيعون إلى ان تصل إليهم النجدة من القوة الاحتيـاطية المخصصة لنجدة هذا الموقف. وعندما عرضت هذه الفكرة على الوزير في 3 من يوليو 72 أخبرني بأنه سيقوم بإبلاغ ذلك إلى الرئيس.
في 5 من يوليو 72-أي بعد فترة امتدت أكثر من شهر تصورت خلالها ان الاقتراح قد رفض- أخطرني الوزير بأن الرئيس قد وافق على ان يسمح للضباط بحمل السلاح خارج معسكراتهم، والآن فإن المرء ليتساءل ما الذي دفع الرئيس إلى ان يتردد طوال هذه المدة؟ هل هناك علاقة ما بين هذا القرار وقرار طرد المستشارين والوحدات السوفيتية الذي كان قد بدأ يتبلور في رأس السادات؟
مغامرة النقيب عيد:
في حوالـي الساعة 1845 يوم 12 من أكتوبر 72 رن جرس الهاتف في منزلي وكان المتكلم هو الفريق سعد الدين الشريف كبير الياوران بالنيـابة. أخطرني الفريق بان عددا من الدبابات قد دخلت القاهرة وإنها تعصي أوامر الشرطة العسكرية، وقال ان هذا الموقف يهدد أمن وسلامة الرئيس ويشكل خطورة على موكب الرئيس المزمع تحـركه الليلة لحضور اجتماع مجلس الأمة الاتحادي في مصر الجديدة كما أخبرني بأنه اخطر الفريق صادق بهذا الحـادث قبل ان يتصل بي مبـاشـرةتحركت فورا إلى مكتبي حـيث علمت ان الشـرطة العسكرية
قد قبضت على قائد تلك القوة وأخذته إلى قيادة المنطقة المركزية فتحركت على الفور إلى هـناك حيث وجدت الفريق صادق قد حضر قبلي بدقائق، وبعد أقل من نصف ساعة حضر اللواء عبد الخبير قائد المنطقة العسكرية المركزية، وقد ظهر أن قائد القوة الذي قبضت عليه الشرطة العسكرية هو النقيب على حسني عيد وهو قائد سرية مشاة ميكانيكية ضمن لواء مدرع يتمركز شرق القاهرة بحوالي 20 كيلومترا.
تتلخص رواية النقيب عيد فيما يلي: "لقد كانت سريتي مكلفة بواجب القضاء على أية جماعات منقولة جوا قد يقوم العدو بإسقاطها في المنطقة. وقد رأيت ان أقوم بتدريب رجالي على تنفيذ المهمة التي كلفنا بها واختبار مدى كفاءتهم في تنفيذها، وفي الساعة 1400 بدأ المشروع التدريبي وبعد الانتهاء من التدريب فكرت في أن نقوم بأداء صلاة المغرب في جامع الحسين بالقاهرة. وعند وصولنا إلى الجامع تركنا عرباتنا في ميدان الحسين ودخلنا الجامع، حيث صلينا وبعد الانتهاء من الصلاة فوجئنا بالشرطة العسكرية تحيط بنا وتقبض علينا.
كان الفريق صادق يتولى التحقيق بنفسـه بينما كنت أنا واللواء علي عبد الخبير نستمع إلى أقوال النقيب المذكور والشهود ونتدخل من وقت لآخر لتوجيه سؤال أو لاستيضاح نقطة غامضة. (9) لقد كانت قصة النقيب عيد غير منطقيـة وليست هناك إجابة مقبولة للعديد من الأسئلة. لماذا أشرك النقيب عيد معه أفرادا ومركبات أخرى من الكتيبة، مع أنهم ليسوا ضمن تنظيم السرية التي يقودها هو؟، لماذا لم يخطر قائد كتيبته مسبقا بأنه ينوي القيام بإجراء مثل هذا المشروع حتى يمكن اتخاذ إجـراءات الأمن الداخلي المعتـادة؟ لماذا لم يمتثل لأوامر الشرطة العسكرية التي تقف على مدخل مدينة القاهرة لمنع أية قوات مسلحـة من دخول القـاهرة إلا إذا كان ذلك طبعا لتصديق كتابي مسـبق ومبلغة صورة منه إلى الشـرطة العسكرية؟ هل من المعتاد أن يذهب المرء إلى الجامع راكبا دبابة أو عربة قتال مدرعة؟
ومن أقوال ضباط الصف والجنود اتضح ان النقيب عيد أخطر أفراد كتيبته بأنه سيقوم بمشروع تدريبي، وانه تحرك من منطقة تضعه في 12 عربة قتـال مدرعة مجنزرة (6 مركبات من سريته، و6 مركبات من باقي سـرايا الكتيبة)، وبعد أن غادر منطقة معسكرات هاكستب تحوّل إلى طريق القاهرة ثم مر خلال نقطة الشرطة التي عند مدخل القاهرة (علامة الكيلو 14,5) بالقوة وقد استطاعت 7 مركبات أن تتـبعه ولكن الخمس الأخريات امتثلت لأوامر الشرطة وتوقفت عند هذه النقطة. اندفـع النقيب عيد داخـل شوارع القـاهرة بتلك المركبات السبع بسرعة عالية وأخذ يصدر باللاسلكي أوامر وتعليمـات غير واضحة وبعض الآيات القرآنية. بدا الشك يخـامر نفوس بعضهم فـتوقفت أربع مركبـات أخرى في منتصف الطريق داخل شوارع القاهرة وهي لا تدري ماذا تفعل. وصل النقيب ومعه ثلاث مركبات إلى ميدان سيدنا الحسين حيث ترجلوا ودخلوا المسجد للصلاة.
في أثناء استجواب النقيب كان يظهر شيئا من عدم الاتزان والتعصب الدينـي ويتهم المجتمع المصري بأنه نسي الله ونسي دينه، وكان يتوقف عن الإجابة في كثير من الأحيان لكي يتمتم بآيات من القرآن الكريم. وبعد انتهاء التحقيق أخطرني صادق بأنه سوف يقوم بإبلاغ نتـيجة التحقيق بنفسه إلى الرئيس. أعلن بعد ذلك أن النقيب عيد مجنون وأرسل للمستشفى، وبالتالي لم يحاكم على هذه المغامرة المثيرة.
- لقد قام الرئيس السادات بطرد الفريق صادق بعد أسبوعين من هذا الحادث ومهما قال الرئيس في أسباب هذا الطرد فإن مغامرة النقيب عيد لابد أنها كانت أحد الأسباب الرئيسية. وقد أكد لي هذا الشعور ما قاله لي السادات بعد ذلك بأنه لم يصدق ما قاله له صادق بأن النقيب عيد هو شخص مريض وغير متزن العقل.
مؤتمر الرئيس يوم 24 من أكتوبر 72:
كان يوم 24 من أكتوبر 72 يوما حـافلا بالأحداث السريعة والمتلاحقة، فقد بدأت في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم مؤتمري الشهري المعتاد ولكني فوجئت بان الوزير يطلب الاجتمـاع بي وبأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحـة في الساعة الثانيـة عشرة مما اضطرني إلى إنهاء مؤتمري حوالي الساعة 1130. كـان الهدف من مؤتمر الوزير هو الاستماع إلى رأي القادة عن الموقف العسكري وذلك قبل حضورنا اجتماعا آخر في الساعة 2030 من اليوم نفسه بمنزل الرئيس بالجيزة تكلم كل من أعضاء المجلس عن موقف قواته وعن المتاعب والمشكلات، التي مازالت تواجهه. وفي نهاية الحديث علق الوزير كما يلي"إن كل ما أريده هو ان يقوم كل منكم بإعطاء صورة حقيقية عن موقف قواته أمام الرئيس هذا المساء. إن الرئيس يعتقد إنني أبالغ في ذكر المشكلات ولذلك فإنه يريد ان يسـمعها منكم شخصيا"، فأجاب الجميع بأنهم سيفعلون ذلك. وان ما قالوه أمام الوزير سوف يقولونه أمام الرئيس.
لقد بدأنا نتوافد على منزل الرئيس بالجيزة اعتبارا من الساعة 2030 وبدأ الاجتماع في الساعة التاسعة مساء وامتد حتى منتصف الليل. وقد بدأ الرئيس باستعراض الموقف وتطور العلاقات بينه وبين السوفيت منذ توليـه الحكم وحتى هذا التاريخ، وكان أهم مـا جرى في حديثه هو ما يلي:
1- إن رحلاتي إلى الاتحاد السوفيتي في مارس 71 وأكتوبر 71 وفبراير 72، كانت بناء على طلبي، أما رحلاتي في أبريل 72 فكانت بناء على طلب القيادة السياسية السوفيتية.
2- أخطرت القيادة السوفيتيـة في إبريل 72 بان القضية لن تتحرك سياسيا إلا إذا أمكن تحريكها عسكريا. وقلت لهم أن إعداد الهند للقيام بحربها ضد باكستان قد استغرق منكم ستة شهور ويمكنكم أيضا ان تفعلوا الأمر نفسه مع مصر. إني اتفق معكم على العمل على إعادة انتخـاب نيكسون في انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة في نوفمبر 72 حيث إنه سيكون افضل من رئيس جديد يصل الى الحكم وتحكم تصرفاته رغبته في البقاء في الحكم لفترة ثانية. (11)
3- عندما حضر المارشال جريشكو في مايو 72 أرسلت معه كتابا الى القيادة السيـاسية السوفيتية طلبت فيه توردنا بطائرات ميج 25 ومعدات وأجهزة الحـرب الإلكترونية. وقد أخبرتهم صراحة بأنني لا اقبل بقاء أية وحدات سوفيتية في مصر ليست تحت القيادة المصرية.
4- في يوم 6 من يوليو قيل لي أن السفير السوفيتي يطلب مقابلتي، ولكني حددت يوم الزيارة ليكون يوم 8 يوليو، وعندما مقابلتي للسفير وجدت الرسالة لم تتعرض للرد على رسالتي المرسلة لهم. وبعد انتهاء السفير من قراءة الرسالة قلت له إن الرسـالة مرفوضة ثم أبلغته بقراري الخاص بإنهاء عمل المستشارين والوحدات السوفيتية. (12)
5- قبل إعلان قراري في 17 من يوليو 72 أرسلت عزيز صدقي-رئيس الوزراء- إلى موسكو ليشرح لهم الموقف وليعرض عليهم إصدار بيان مشترك حول هذا الموضوع، ولكنهم لم يوافقوا. قالوا ان السادات اتخذ هذا القرار من جانب واحد لذلك فإن الإعلان أيضا يجب أن يكون من جانب واحد. لقد كانوا يظنون أنني لا أعني ما أقول ولكن عزيز صدقي أكد لهم إننا جادون في تنفيذ ذلك.
6- بعد الاجتماع بنيكسون في موسكو في مايو 72 وصل الروس والأمريكيون الى وفاق، بل عناق وانتهت الحرب الباردة نهائيا، وينتظر ان يستمر هذا الوفاق لمدة عشرين سنة على الأقل. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لكي اتخذ قراراتي في يوليو 72 حتى أقف على أرض صلبة. ومنذ ذلك التـاريخ اتصل بي الأمريكيون والإنجليز والفرنسيون والإيطاليون.القضية ابتدأت تتحرك لأننا أصبحنا أولياءأمورأنفسنا. (13)
7- حاول الروس الاتصـال بي مرة أخرى في 31 من يوليو 72، ولكني تعمدت أن امكث شهرا قبل أن أرد عليهم في 31 من أغسطس 072 (14)
8- تدخل الرئيس حافظ الأسد لتحسين العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي وسافر سرا إلى الاتحاد السوفيتي فوجد منهم استعدادا طيبا لتحسين العلاقات سافر على اثر ذلك عزيز صدقي إلى موسكو ودخل معهم في مناقشات عنيفة أكدوا بعدها ان سيـاستهم تجاه مصر لم ولن تتغير على الرغم من قرار السيد الرئيس بإنهاء عمل المسـتشارين الروس في مصر.
وكانت حصيلة هذه الزيارة هي إدخال الروس في الفورمة حـتى تكون علاقتهم معنا في المرحلة القادمة على أساس عدم التدخل في شئوننا وقد وعدوا عزيز صدقي بإمدادنا بالأسلحة التالية:
- سرب ميج 23 في الربع الثالث من عام 73.
- سرب سوخوى 20 في الربع الثالث من عام 73.
- وحدة صواريخ سطح سطح SSM مداه 300 كيلومتر ويتم إبلاغنا في أوائل 73 عن تواريخ التوريد
9- ويمكنني أن ألخص الموقف العام على ضوء ما سبق في أن أمريكا حـاولت أن تقوم بتحويل مبادرتي لكي تصبح حلا جزئيا يشمل انسحاب إسرائيل وعبور قواتنا للقناة على أن يخـضع الانسحـاب الكامل لمرحلة أخرى من المفاوضـات. لقد أخبرت الفريق صادق منذ الصيف الماضي بأنه يجب ان تتحرك القضية عسكريا قبل ان ندخل الجولة الثانيـة مع إسرائيل بعد الانتخابات الأمريكية. كان ذلك يعتبر قرارا أبلغكم به وليس لأخذ رأيكم، حيث إن هذا الموقف يعتبر اختبارا للقوات المسلحة. وإذا لم نقم بعمل عسكري قبل نهاية هذا العام فإن القضية سوف تنتهي ويفقد المصريون والعرب ثقتهم بأنفسهم.
10- تكلم الرئيس بعد ذلك عن التصنيع العسكري، وعن ضرورة تصنيع الطائرة المقاتلة والحوامة والزوارق والعربات المجنزرة وأجهزة الحرب الإلكترونية، واتهم من سبقوه بالسفه لأنهم لم يفهموا قيمة الجنزير في حرب الصحراء ولم يشتروا العربات المجنزرة التي كانت تباع بعد الحرب الثانية بتراب الفلوس.
11- عندما تكلم الرئيس عن موقف السوفيت من المعركة كان كلامه متناقضا، ففي بعض الأحيان قال إن الاتفاق الودي بين روسيا وأمريكا هو أساس الاستراتيجية السوفيتية لمدة 10-25 سنة، وانهم لذلك لا يرغبون في قيام حرب جديدة بيننا وبين إسرائيل، حيث أن ذلك قد يجرهم إلى نوع من التدخل والاشتراك، فإنهم لذلك يفضلون الوصول إلى حل سلمي للمشكلة. وفي أحيان أخرى قال أن السوفيت ليست لديهم الثقة بعزمنا على القتال، وانهم لذلك يترددون في إمدادنا بالسلاح. وقد علق الرئيس على هذه النقطة قائلا "كـان الروس فيما مضى يشيرون إلينا بأسلوب خفي بأنه يجب علينـا أن نبدأ القتال أما هذه المرة فقد قالوها بصراحة لعزيز صدقي. قالوا له لو إننا في مثل موقفكم لقاتلنا لتحرير أرضنا حتى لو لم يكن لدينا سوى البنادق! وأني واثق أنهم كانوا يودون لو أنهم قالوا اكـثر من ذلك لأني اعرف ما قاله الرئيس بودجورنى عنا في تركيـا بعد هزيمة 67". وفي مناسبة ثالثة قال الرئيس : إن الروس قد أخطروا عزيز صدقي خلال زيارته الأخيرة بان علاقاتهم معنا والتزامهم بإمدادنا بالسلاح لن يتأثر نتيجة الاتفاق الودي الذي عقد بينهم وبين أمريكا.
- وبعد هذأ الاستعراض للموقف فتح باب المناقشة والأسئلة.
الجمسي:
ما موقف سوريا وليبيا من المعركة؟
الرئيس:
الرئيس حافظ الأسد سيشترك معنا عن قناعة إنه مقتنع تماما بان أي عمل نقوم به سوف يكون أفضل مما نحن فيه الآن مهما كانت التضحيات. سوف يسافر الفريق صادق قريبا إلى سوريا للتنسيق بين الجبهتين، أما ليبيا فإنها تضع ما لديها كله للمعركة. إن ليبيا لديها خمسون طائرة ميراج جاهز منها للمعركة سرب واحـد، وكذلك عندها 24 مدفعا 155 مم ذاتي الحركة و 100 عربة مدرعـة لنقل المشاة وعدد من الهاونات 120 مم المحملة على عربات جنزير.
عبد المنعم واصل:
إن التدريب والروح المعنوية على مستوى عال، ولكن يجب ان نعلم انه إذا قمنا بالهجوم في ظل الأوضاع الحالية فيجب علينا ان نتوقع خسـائر كبيرة. إن الساتر الترابي الذي أقامه العدو على الضفة الشرقية قد اصبح متصلا وبارتفاع يصل في بعض أجزائه إلى 20 مترا. إن العدو يراني ويكشف موقعي لمسافة طويلة وأنا لا أراه ولا اعرف ما يدور خلف هذا الساتر. وتحت هذه الظروف فإنه يستطيع ان يحدث خسائر كبيرة في قواتنا المهاجمة. يجب ان نزيد من ارتفاع الساتر الترابي من ناحيتنا حتى يصل إلى ارتفاع سـاتر العدو او يزيد، وبذلك نستطيع ان نكشف العدو ونحرمه من فرصة التدخل ضد قواتنا المهاجمة.
الشاذلي:
سيادة الرئيس، هل ستقوم سيادتكم بتحرك عربي لتعبئة القوى العربية، أم ان المعركة ستكون مقصورة على دول الاتحاد؟
الرئيس:
ستكون المعركة مصرية أساسا، وسوف يقف العرب موقف المتفرج (17) في البداية، ولكنهم سوف يجدون أنفسهم في موقف صعب أمام شعوبهم فيضطرون في النهاية إلى أن يغيروا من موقفهم.
الوزير:
يجب أن نأخذ في حسابنا قدرة العدو الضرب في العمق، وأنه من المحتمل جدا أن تقوم إسرائيل-بتشجيع من الولايات المتحدة وآخرين لا أريد تسـميتهم- بهجوم مفاجئ على مصـر. إنهم جميعا يتآمرون على مصر بهدف تدمير قواتها المسلحة التي تشكل تهديا خطيرا لإسرائيل.
الرئيس:
أني أوافق تماما، قد تبدأ إسرائيل ضربتها قبل 7 من نوفمبر القادم، وفي هذه الحالة سوف ينسى العالم المشكلة الأصلية ويبدأ في الحديث عن وقف إطلاق النار.
علي عبد الخبير:
إن القوات المسلحـة لم يتم تدعيمها بأية أسلحة جديدة تزيد من قدراتها الهجومية، بل العكس هو الصحيح. إن الاستهلاك العادي في أسلحتنا يجعل قوتنا في تناقص وليس في تزايد. إن ضعف قواتنا الجوية مازال كما هو، ألا تكفي هذه العوامل المهمة كلها لكي نفكر جيدا قبل أن نقرر الدخول في حرب نتحمل فيها خسائر جسيمة؟
الرئيس:
لو أنني أجريت حـساباتي على هذا الأساس لما اتخـذت قراري بطرد الروس في 8 من يوليو. إن المشكلة الآن هي "To be or not to be" يجب ألا نلقي باللوم كله على الروس. لقد قام الروس بإمدادنا بأسلحة مكنتنا من تسليـح جيشين ميدانيين، بصرف النظر عن أنهم هم الذين يختارون السلاح الذي يمدوننا به.
علي عبد الخبير:
إذا كنا نقول "نكون أو لا نكون " فإنه يجب علينا أن نعبئ مواردنا لإمكاناتنا كلها للمجهود الحربي كما تفعل الدول الأخرى عندما تقرر الدخول في حرب.
الرئيس:
إن تعبئـة موارد الدولة للمجهود الحربي هي مسئوليتي وليست مسئوليتك، الكثير من الناس لا يصدقون انه ستكون هناك حرب. وإذا بقينا كما نحن الآن فسوف تنهار الجبـهة الداخلية، يجب ان نقبل المخاطرة المحسوبة.
علي عبد الخبير:
المخاطرة المحسوبة؟ لماذا لانعمل على تلافي الخطر؟
نوال السعيد:
هل المقصود هو تحرير الأرض أم تنشيط العمليات لإعطاء الفرصة للحل السياسي؟
الرئيس:
لقد سبق أن قلت ذلك للفريق صادق منذ أغسطس وهو "كسر وقف إطلاق النار".
عبد القادر حسن:
قد نبدأ بمعركة محدودة ولكنها قد تتطور إلى حرب شاملة.. قد ننجح في المراحل الأولى من المعركة ولكننا سوف نتحول في النهاية إلى اتخـاذ موقف دفاعي. ستبقى إسرائيل في شرم الشيخ وفي معظم سيناء وستكون في موقف افضل من موقفها الحالي، وقد يدفـعها ذلك إلى أن تدعي حقـوقا في تلك الأراضي التي تكون مازالت في قبضتها.. يجب أن نضع في حسابنا قدرة العدو على ضرب العمق عندنا وعند سوريا اكثر، لأن سوريا لم تستكمل دفاعها الجوي. لا يصح ان ندفع أنفسنا إلى وضع قد يضطرنا إلى ان نصرخ طالبين النجدة من الاتحاد السوفيتي مرة أخرى ونقول له "ولّعْ".
الرئيس (بغضب):
يا عبد القادر دي تاني مرة تغلط فيها. أنا مسئول عن استقلال البلد، وأنا اعرف ماذا اعمل. يجب ألا تتدخل فى شئ ليس من اختصاصك أنت رجل عسكري ولست رجـلا سياسيّا!
محمود فهمي (محاولا تلطيف الجو):
إننا جميعا نؤمن بأن المشكلة لن تحل سلميا، وان الحرب هي الأسلوب الوحيد لحلها، وإذا كان هناك رأي او سؤال فإن المقصود منه هو الحرص على مصر ومصلحتها.
الرئيس (بغضب):
هل تدافع عن عبد القادر حسن؟ كل واحد لازم يتكلم في حدوده أنا لا اقبل من أحد ان يفهمني واجبي.
الرئيس (في صوت هادئ وبعد فترة صمت طويلة):
إننا اليوم نواجه تحديا صعبا To be or not to be. هناك حل جزئي معروض علي وينتظر موافقتي ولكني لم اقبله، قد يقبل شخص آخر هذا الحل الجزئي أما أنا فإني لن اقبله، وان عليكم بالتخطيط الجيد، والتغلب على نواحي النقص الموجودة في قواتنا المسلحة وفقكم الله. وانتهى الاجتماع بعد منتصف الليل بقليل.
غادرت منزل الرئيس بعد منتصف ليل 24 من أكتوبر بقليل، وبينما كنت أهم بركوب عربتي لحق بي أحـد معاوني الرئيس وأخبرني بان الرئيس يطلبني فلما عدت وجـدته ينتظرني في مكتبه بالطابق الأرضي فقال لي "لقد أبلغوني أنك ستقوم بتزويج إحدى بناتك وانك ترغب فى دعوتي لحضور حفل عقد القران" فقلت له نعم يا سيـادة الرئيس ولكني وجـدت أن الوقت غير مناسب للحديث في مثل هذا الموضوع الليلة بعد هذا الاجـتماع الصاخب"، فقال "لا لا مش مهم. متى سيكون تاريخ عقد القران؟"، فأجبته بأنني لم احدده بعد انتظارا لمعرفة التواريخ المناسبة لسيادته، وبعد مناقشة قصيرة تحدد يوم 9 من نوفمبر ليكون تاريخ عقد القران.
الفصل التاسع عشر: تعيين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية
خلفيات الخلاف بين أحمد إسماعيل و الشاذلي:
لم اكن قط على علاقة طيبة مع احمد إسماعيل. لقد كنا شخصيتين مخـتلفتين تماما لا يمكن لهما أن تتفقا. وقد بدا أول خلاف بيننا عندما كنت أقود الكتيبة العربية التي كانت ضمن قوات الأمم المتـحدة في الكونجو عام 1960. كـان العميد أحمد إسماعيل قد أرسلته مصر على راس بعثة عسكرية لدراسة ما يمكن لمصر ان تقدمه للنهوض بالجيش الكونجولي. وقبل وصول البعثة بعدة أيام سقطت حكومة لومومبا التي كانت تؤيدها مصـر بعد نجاح انقلاب عسكري دبره الكولونيل موبوتو الذي كان يشغل وظيفة رئيس أركان حرب الجيش الكونجولي، وقد كانت ميول موبوتو والحكـومة الجديدة تتعارض تماما مع الخط الذي كانت تنتهجه مصر، وهكذا وجدت البعثة نفسها دون أي عمل منذ اليوم الأول لحضورها، وبدلا من أن تعود البعثـة إلى مصر أخذ أحمد إسماعيل يخلق لنفسه مبررا للبقاء في ليوبولدقيل على أساس ان يقوم بإعداد تقرير عن الموقف.. وتحت ستـار هذا العمل بقي مع اللجنة ما يزيد على شهرين. وفي خلال تلك الفترة حاول ان يفرض سلطته على باعتبار انه ضابط برتبة عميد بينما كنت أنا وقتئذ برتبة عقيد، وبالتالي تصور أن من حقه ان يصدر إلي التعليمات والتوجيهات. رفضت هذا المنطق رفضا باتا وقلت له إنني لا اعترف له بأية سلطة عليّ أو على قواتي. وقد تبادلنا الكلمات الخشنة حتى كدنا نشتبك بالأيدي. وبعد ان علمت القاهرة بذلك استدعت اللجنة إلى القاهرة وانتهى الصراع في ليوبولدقيل ولكن آثاره بقيت في أعماق كل منا. كنا نتقابل في بعض المناسبات مقابلات عابرة ولكن كان كل منا يحاول ان يتحـاشى الآخر بقدر ما يستطيع. واستمر الحال كذلك إلى ان عين اللواء أحمد إسماعيل رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية في مارس 69.
وبتعيين اللواء احمد إسماعيل ر.ا.ح.ق.م.م اختلف الوضع كثيرا، إذ لم يعد ممكنا أن أتحاشى لقاءه وألا يكون هناك أي اتصال مباشر بيني وبينه. ان وظيفته هذه تجعل سلطاته تمتد لتغطي القوات المسلحـة كلها، لذلك قررت ان استقيل. وبمجرد سماعي بنبأ تعيين احمد إسماعيل رئيسا للأركان تركت قيادتي في انشاص وتوجهت إلى مكتب وزير الحربية حيث قدمت استقالتي وذكرت فيها الأسباب التي دفعتني إلى ذلك ثم توجهت إلى منزلي. مكثت في منزلي ثلاثة أيام بذلت فيها جهود كبيرة لإثنائي عن الاستقالة ولكني تمسكت بها، وفي اليوم الثالث حضر إلى منزلي أشرف مروان زوج ابنة الرئيس وأخبرني بأن الرئيس عبد الناصر قد بعثه لكي يبلغني الرسالة التالية: "إن الرئيس عبد الناصر يعتبر استقالتك كأنها نقد موجه إليه شخصيا حيث إنه هو الذي عين أحمد إسماعيل "ر.ا.ح.ق.م.م ".
أوضحت وجهة نظري في احمد إسماعيل وأنني لا أعني مطلقا أن أنتقد الرئيس، ولكني لا أستطيع أن اعمل تحت رئاسة أحمد إسماعيل، ولأن الثقة بيني وبينه معدومة. نقل اشرف مروان إجابتي إلى الرئيس عبد الناصر ثم عاد مرة أخرى ليقول "إن الرئيس تفهم جيدا وجهة نظرك. إنه يطلب إليك ان تعود إلى عملك وأنه يؤكد لك أن أحمد إسماعيل لن يحتك بك". وبناء على هذا الوعد عدت إلى عملي في اليوم الرابع. وهنا يجب أن أؤكد أن جمال عبد الناصر قد وفى بما وعدني به. ففي خـلال الأشهر الستة التي قضاها اللواء احمـد إسماعيل في وظيفتـه ر.ا.ح.ق.م.م ، لم تطأ قدماه قط قاعدة انشاص حيث كانت تتمركز القوات الخاصة التابعة لي، كما انه لم يحاول قط ان يحتك بي.
ومنذ أن قام الرئيس عبد الناصر بعزل احمد إسماعيل من منصب ر.ا.ح.ق.م.م في سبتمبر 69، فإني لم أره قط إلى ان قام الرئيس السادات باستدعائه من التقاعد في 15 مايو 71، لكي يعينه رئيسا لهيئة المخـابرات العامة. وهكذا بينما كنت أنا أشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م كان أحمد إسماعيل يشغل منصب رئيس هيئة المخابرات العامة، وبالتالي أخذنا نتقابل احيانا في بعض المناسبات الرسمية او الاجتماعية وكنا نتبادل التحيات الشكلية ولكن علاقاتنا بقيت باردة.
كيف عين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية:
في منتصف يوم 26 أكتوبر72 أبلغني مكتب الرئيس أن الرئيس يطلب حضوري إلى منزله في الجيزة في تمام الساعة 1530 من اليوم نفسه، وفي هذه المقابلة أبلغني الرئيس انه قرر إقالة وزير الحـربية وانه يعتبرني منذ هذه اللحظة قائدا عاما للقوات المسـلحة بالنيابة، ونظر في ساعته. سألته عما إذا كان قد اخطر صادق بهذا القرار فقال لا، سألته عما إذا كان ينوي إخطاره بذلك أم انه سيترك لي ذلك؟ أجاب بأنه سيرسل له سكرتيره الخاص بعد حوالي ساعتين من لقائه معي لكي يعطي لي الفرصة لاتخاذ بعض الإجراءات الأمنية.
أخطرني الرئيس بعد ذلك بقراره بطرد كل من اللواء عبد القادر حسن واللواء علي عبد الخبير، ولم أستطع ان أجادله فيما يتعلق بهذا القرار، حيث انه كان يعتبر هذا القرار تأمينا شخصيا له، بـاعتبـارهما من مؤيدي الفريق صادق. ولكنه عندما أخبرني بمقالة كل من اللواءين محمود فهمي قائد البحرية، وعبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث، تدخلت أملا أن أنقذهما فوجه إلى الرئيس كـلامه مندهشا "كيف تقول ذلك؟ ألم تسمع ما قالاه في مؤتمر أمس الأول؟ لقد كنت أظن ان عبد المنعم واصل ضابط ممتاز وأنه "راجل"! ولكن هل سمعت ما قال؟". فقلت :"إن عبد المنعم واصل "راجل" وضابط ممتاز. أن كل ما قاله هو إبداء قلقه من الخسائر المحـتملة. كان ما قاله عن الساتر الترابي هو حقيقة يجب ان ندخلها في الاعتبار. أني أرجو سيادتكم أن تعطوه الفرصـة لكي يثبت ذاته..أما بخصوص اللواء محـمود علي فهمي فهو من أكفأ ضباط البحرية لدينا وان طرده سيكون خسارة كبيرة لنا".
أجاب الرئيس بشيء من الحدة " قد تكون على معرفة بعبد المنعم واصل لأنه ضابط جيش مثلك. اما محمود فهمي فأنا أعرفه اكثر منك أنه من هذا الطراز الذي يحب الإطراء والتفخيم مثله في ذلك مثل صادق. لقد اكتشف صادق هذه الصفات في محمود فهمي كما ان محمود فهمي قد اكتشف ذلك في صادق فأخذ كلاهما يكيل المديح للاخـر إلى ان صدق كل منهما ما يقوله الآخر. أنى اعرفهما أكثر منك".
وبعد فترة سكون قال الرئيس "والآن لنفكر معا فيمن سيكون وزيرا للحربية". لم أعلق. واستمر الرئيس" إني أفكر في احمد إسماعيل "! لقد فوجئت بالاسم وعلقت بطريقة فورية سيادة الرئيس إن هناك تاريخا طويـلا من الخلافات بيني وبـين احمد إسماعيل يمتد إلى حوالي 12 سنة مضت منذ ان تقابلنا في الكونجو عام 60، وأن علاقاتنا حـتى الآن تتسم بالفتور و البرود. واعتقد أن التـعاون بيننا سيكون صعبّا". قال الرئيس إني اعلم تماما بتاريـخ هذا الخلاف وتفاصيله، ولكني أؤكد لك ان علاقته بك ستكون افضل بكثير من علاقتك بصادق". كررت وجهة نظري وأبديت مخاوفي من ان هذه العلاقة قد تؤثر على الموقف العسكري بينما نقوم بالإعداد للمعركـة التى سوف تحدد مصير بلدنا لعدة سنوات قادمـة، ولكنه كرر وجهة نظره وأكد لي انه لن يحدث شئ من هذا الذي أتخوف منه. لقد كان الموقف يتطلب مني قرارا فوريا: إما ان أقبل و اما ان استقيل.
لقد كان علي أن أجري في ذهني تقديرا سريعا للموقف وان اصل الى قراري بهذا الخصوص اثناء تلك المقابلة. لقد كنا قائمين بالإعداد لمعركة المصير، ولقد بذلت مجهودا خلال عام ونصف العام كرئيس للأركان العامة ولقد مضت الأيام الصعبة، وأن الأيام المقبلة لن تكون مثل الأيام الماضية. وإنه ليصعب علي أن استقيل واترك خلفي الجهد والعرق اللذين بذلتهما دون أن استمتع بنصر تحققه القوات المسلحة بعد هذا العناء كله. قلت لنفسي: قد تتحقق تأكيدات الرئيس بأنه لن يحدث خلاف بيننا كما تحققت تأكيدات الرئيس عبد الناصر عام 69. وعموما فإذا لم تتحقق تأكيدات السادات فإنه يمكنني أن أستقيل عندئذ. وعلاوة على ذلك فلو أنني استقلت الآن فإن هذه الاستقالة سوف تفسر على إنها تضامن مع صادق في الاستقالة. وقد يفسرها بعضهم بأني لا أريد دخول الحـرب في حين أن الحقيقة هي عكس ذلك تماما. وهكذا أقنعت نفسي بعدم الاستقالة، وانصرفت من منزل الرئيس بعد ان امتدت مقابلتنا الى حوالي الساعة.
في منتصف يوم 26 أكتوبر وبينما أنا في مكتبي تلقيت أول مكالمة هاتفيـة من أحمد إسماعيل في حوالي السـاعة 2230 يخطرني فيها بأن السيد الرئيس قد استدعاه الى منزله وعينه وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. وفي المكالمة نفسها أبلغني بقرار الرئيس بطرد اللواء محمود فهمي قائد البحرية وتعيين اللواء زكرى بدلا منه.
لماذا اختار السادات الفريق أحمد إسماعيل:
أن طرد صادق وتعيين احمد إسماعيل في مكانه كانا خطوة مهمة اتخذها السادات لتدعيم مركزه كما قلت فيما سبق. فقد كان صادق هو أحد الرجال الثلاثة الذين أعتمد عليهم السادات في انقلاب 15 مايو 71، ونتيجة لذلك فقد كان صادق يشعر بأنه يجب أن يكون له نصيب أكبر في ممارسـة السلطة. حيث كان يعبر عن آرائه بصراحة وعلنية حتى وإن كانت هذه الآراء تتعارض مع آراء السادات كان صادق بالإضافة الى ذلك شخصية محبوبة نتيجة اللمسات الاذسانيـة والخدمات التى يؤديها للكثيرين من الضباط والجنود كتحسين الرواتب والمعاشات وتوزيع الأوسمة، وإيفاد بعضهم في رحلات ترفيهية إلى الخارج، والإغداق على بعض المحيطين به بالأموال والامتيازات الخ. وان شخصية بهذه المواصفات لابد إنها تنازع رئيس الجمهورية سلطاته وتعارض الهدف الذي كان يعمل السـادات من اجله، والذي كان يرمي إلى أن يجعل من نفسه حاكما مطلقا لا ينازعه في السلطة أحد. وقد وجد السادات في احمد إسماعيل الصفات جميعها التى يبحث عنها في شخص يعينه وزيرا للحـربية وقائدا عاما للقوات المسلحة، وكان أهم هذه الصفات ما يلي:
1- كراهيته الشديدة لعبد الناصر:
كان احمد إسماعيل يكره عبد الناصر كراهية شديدة لأنه قام بطرده من القوات المسلحة مرتين. كـانت المرة الأولى في أعقاب هزيمة يونيو 67، حيث كان احمد إسماعيل يشغل منصب رئيس أركان جبهة سيناء، ولكن عبد الناصر أعاده إلى الخدمة بعد ان تدخل بعض الأصدقاء لديه لكي يعفو عنه. ثم قام بطرده من القوات المسلحة للمرة الثانية في سبتمبر 69 بعد ان شغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م لمدة ستة اشهر فقط وقد جـاء الطرد هذه المرة في أعقاب عملية إغارة ناجحة قام بها العدو في منطقة البحر الأحمر. ففي صباح يوم 9 من سبتمبر 69 عبر العدو خليج السويس بقوة بحرية برمائية وانزل في منطقة الزعفرانة قوة تتكون من 10 دبابات وعدد من العربات المجنزرة، وقامت هذه القوة بمهاجمة عدة أهداف في المنطقة ثم انسحـبت بعد حوالي عشر ساعات من نزولها دون أي تدخل من القيادة العامـة للقوات المسلحة، بل حتى دون ان يعلم ر.ا.ح.ق.م.م بهذه الإغارة إلا بعد انسحابها!! وكان العدو قد قام بعمليـة إغارة في الليلة السابقة دمر لنا خلالها قاربين من قوارب الطوربيد التى كانت تتمركز في المنطقة. وهكذا قام العدو بتنفيذ إغارته دون أي تدخل من جانب قواتنا الجوية او البحرية.
2- ولاؤه المطلق للسادات:
بعد ان بقي احمد إسماعيل متقاعدا لمدة تزيد على عشرين شهرا، قام الرئيس السادات باستدعائه إلى الخدمة وعينه رئيسـا لهيئة المخابرات العامة، و ها هو ذا -بعد ثمانية عشر شهرا- أخرى يعينه وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. لقد كان ذلك اكثر مما يستطيع أحمد إسماعيل أن يحلم به. لقد كان يعتقد ان حياته العملية قد انتهت في سبتمبر 69، ولكن ها هو ذا السادات يبعث فيه الحياة من جديد. لقد كان ينظر الى السادات على انه سيده وولي نعمته. وبالتالي فلا يجوز له ان يعارضه او يعصي أمرا من أوامره.
3- شخصيته الضعيفة:
لقد كان لطرد أحمد إسماعيل من الخدمة في القوات المسلحة مرتين خلال عهد جمال عبد الناصر اثر كبير على أخلاقه، حـيث اصبح بعد ذلك يخشى المسئولية واتخـاذ القرارات، وأصبح يفضل أن يتلقى الأوامر وينفذها على أن يصدرها، وقد زاد في ترسيخ هذه الصفات الحادث الذي يتعلق بقيام العدو بسرقة محطة رادار كـاملة من منطقة البحر الأحمر في ديسمبر 69. ومع ان هذه الواقعة حدثت بعد عزله من منصب ر.ا.ح.ق.م.م بثلاثة اشهر، فإن أسمه كان قد ذكر في أثناء التحقيق في هذا الحـادث على أساس انه اتخذ قرارا نتج عنه إعطاء الفرصة للعدو لتنفيذ هذه العملية.
لقد وقع حـادث سرقة الرادار خلال فترة حرب الاستنزاف، وكان العدو خلال النصف الثاني من عام 69 يستخدم قواته الجوية في قصف وتدمير أهدافنا الحيوية بصفـة عامة وأهداف ومواقع الدفاع الجوي بصفة خاصة. ورغبة منا في امتصاص بعض هجمات العدو الجوية، فقد أقمنا بعض المواقع الهيكلية لمواقع الرادارات والدفاع الجوي، ولكن هذه المواقع الهيكلية لم تخدع العدو ولم يحدث قط ان قام بقصفها بينما استمر في قصف مواقعنا الأصلية. لقد كـان أهم ما ينقص المواقع الهيكلية هو مظاهر الحيـاة التى لا يمكن توفيرها إلا بالرجال (1). كان موقـع الرادار الأصلي يشغله حوالي 300 رجل (فنيون، وأطقم رشاشات ومدافع مضادة للطائرات، وعناصر إدارية، الخ)، بينما كان الموقع الهيكلي ليس به فرد واحد. وهنا فكر أحـد القادة المحليين في منطقة البحـر الأحمر لماذا لا ننقل الرادار الأصلي ومـعه عشرة أفراد فقط، لتشغيله إلى الموقع الهيكلي بينما ننقل الرادار الهيكلي إلى الموقع الأصلي؟ لقد اعتقد هذا -الضابط- أنه بفكرته هذه سوف ينجح أيضا في خداع وسائل استطلاع العدو الإلكترونية التى تحدد مواقع راداراتنا نتيجـة النبضات التى ترسلها اثناء التشـغيل اعتمادا على ان المسافة بين الرادار الأصلي والرادار الهيكلي حوالي كيلو متر واحد. وان هذه المسافة التى تعتبر قصيرة نسبيا يمكن ان تنخـدع بها وسائل الاستطلاع الإلكتروني. ولاسيما إنما كانت نتائجها تتعارض مع ظواهر الحياة الأخرى التى يحصل عليها العدو نتيجة التصوير الجوي. وكأية أفكار جديدة فقد أرسلت الفكرة إلى القيادة العامة للحصول على موافقة رئيس أركان حرب القوات المسلحـة فوافق على الفكرة. لم ينخـدع العدو بهذه الإجراءات وقام بعملية إغارة ليليـة على الرادار المنعزل الذي كان هدفا مثاليا لعملية إغارة ناجحة. فطبعا نظام الخدمة والراحة لم يكن مستيقظا لحراسة الرادار سوى فردين. بينما كان الثمانية الآخرون نائمين. قام العدو بهجوم ليلى مفاجئ اشترك فيه 60 رجـلا فقتل الحارسين وقتل واسر باقي أفراد الطاقم ثـم سرق الرادار وعاد به، وقد حدث ذلك كله في سكون وهدوء لم يتنبه له الموقع الأصلي الذي كان يبعد عن موقعه كيلومترا واحدا!!
4- كان رجلا مريضا:
لقد كان احمد إسماعيل رجلا مريضا وكان السادات يعلم ذلك. لقد مات أحمد إسماعيل بمرض السرطان في ديسمبر 74 في مستشفي ولنجتون في لندن، وقد سجل الأطباء في تقريرهم الطبي ان إصابته بهذا المرض لابد إنها كانت واضحة وظاهرة قبل ذلك بثلاث سنوات على الأقل. وفي إحدى خطب الرئيس عام 1977، اعترف بأنه كان يعلم بمرض احمد إسماعيل قبل و اثناء حرب اكتوبر 73، وان الأطباء أخطروه بأن حالته الصـحية لا تسمح له باتخاذ القرارات أن مثل هذا الموقف يجب ألا يمر دون مناقشـة جادة. إن الصحة هي هبة من الله يشكر أصحابها ربهم على ما آتاهم به من فضله وكرمه، ولا يجوز لأحد ان يتباهى بها على غيره من المرضى. ولكن هل يعني ذلك أن نكلف المريض بما لا يستطيع ولاسيما إذا كان خطؤه نتيجـة مرضه قد تعرض للخطر حياة الآخرين؟ إننا لكي نمنح رخصة قيادة سيارة خاصة لأحد الأفراد نقوم بإجراء الكشف الطبي عليه للتأكد من سلامة نظره وقدرته على قيـادة السيارة حتى لا تعرض حياة الآخرين الذين يسيرون على الطريق العام للخطر فكيف - والحال هكذا- نقوم بتعيين رجل مريض لا يستطيع ان يتخذ قرارا، قائدا عاما للقوات المسلحة؟! إن أي خطأ يرتكبه هذا الرجل لن يؤثر على حياة آلاف المواطنين فحسب بل انه قد يؤثر أيضا على تاريخ ومستقبل أمة! ان اعتراف السادات بتعيين احمد إسماعيل قائدا عاما- وهو يعلم بمرضـه- يعتبر جريمة كبرى يرتكبها في حق الشعب والوطن لا لشيء إلا لكي يصون مصالحه الشخصية ونزعته الدكتاتورية.
5- كان شخصية غير محبوبة:
كانت شخصية احمد إسماعيل من الشـخصيات غير المحبوبة بين أفراد القوات المسلحة. كانت مناقشاته مع الضـباط والجنود تتسم بالخشونة والغلظة. كان لا يعير اهتماما للعوامل النفسية والمشكلات العائلية للأفراد، في الوقت الذي يهتم فيه هو شخصيا بمشكلاته العائلية ويقبل الوساطة من الوزراء ورجال الدولة الأقوياء، ولقاء ذلك يطلب أيضا وساطتهم لخدمة أفراد عائلته، فكان ذلك يبعده عن قلوب الضباط والجنود.
6- كان على خلافات مع (ر.ا.ح.ق.م.م):
كان الخلاف بين احمد إسماعيل وبين سـعد الدين الشاذلي أيضا من الأسباب القوية التى تدعو السـادات إلى تعيينه وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. لقد كـان السادات يطبق مبدأ "فرق تسد" الذي مارسه الحكام الطغاة منذ فجر التاريخ.
ولهذه الأسباب كلها فاني اقرر أن تعيين احمد إسماعيل وزيرا للحربية وقائدا عاما كان قرارا خاطئا.
تعيين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية ، صفحه رقم 110
كان قرارا لا يـخدم مصالح مصر بل يخدم مصالح السادات وطموحه فقط. لقد كان في استطاعتنا أن نحقق خلال حرب اكتوبر 73 نتائج أفضل بكثير مما حققناه في هذه الحرب لو ان هناك قائدا عاما اكثر قوة وأقوى شخصية من الفريق أحمد إسماعيل. لو تيسر هذا لكان في إمكاننا أن نكبح جماح الرئيس السادات ونرفض تدخله في الشؤون العسكرية البحتة. لو تيسر هذا لما كان في استطاعة العدو أحداث ثغرة الدفرسوار. ولو افترض وحدثت الثغرة لكان في استطاعتنا أن تقضي عليها فور وقوعها، لو تيسر قائد عام قوي يستطيع معارضة السادات لاستمر القتال طبقا للأسلوب الذي نريده وليس طبقا للأسلوب الذي يختاره العدو.
أني اشعر بالأسف وأنا أتكلم بمثل هذه الصراحة على رجل ميت ولكنه السادات هو الذي دفعني إلى ذلك. إنه يريد أن يخفي الحـقائق عن الشعب فيدعي ان سبب الثغرة هو أنني ضيعت ليلة كاملة لكي أشكل فيها قيادة أنافس بها غريمي احمد إسماعيل، وهو إدعاء باطل لا أساس له من الصحة. (2)وبالإضافة الى ذلك فإن ما قلته هو حقائق وهو ملك التاريخ، تاريخ مصر وتاريخ العرب. وأنى أرجو الله تعالى ان تتعلم الأجيال المصرية والعربية القادمة من تلك الأخطاء التى ارتكبها أسلافهم.
أحمد إسماعيل والمحسوبية:
أني أومن بضرورة تكافؤ الفرص، وأومن بأن الحصول على وظيفة أو الترقي إلى درجة أعلى يجب ان يخضع لكفاءة وقدرات الفرد دون ان يكون للوسـاطة والقرابة اعتبار في ذلك. وتطبيقا لهذا المبدأ فإنه لم يحدث مطلقا أنني قمت بدفع أحد أفراد عائلتي الى أي منصب أو أية ترقية. وإن مثل هذا التصرف يعتبر أمرا غريبا في مصر حيث الوساطة والقرابة هما من الأمور المعترف بهما في التعامل بين الأفراد على الرغم من كل ما يقال خلاف ذلك. ولتغطية مثل هذه الأفعال فإن الأشخاص ذوي السيطرة والقوة يتبادلون الخدمات فيما بينهم، فيقوم كل منهم بتأدية الخدمـات والوساطات لعائلة الآخر وبذلك ينكر الجميع ان أيا منهم قد أدى خدمة لأحـد أقربائه بطريق مباشـر، وتأييدا لذلك فإنه يندر ان تجد أحدا من أبناء هذه الفئة المحظوظة لا يشغل منصبا ممتازا.
بعد تعييني رئيسا للأركان وجدت نفسي هدفا لكثير من الوساطات، ولكن حيث أني لم أكن انتظر أية وساطة من أحد فقد كنت ارفض كل وساطة غير قانونية. كنت ادرس كل موضوع على حدة وأخذ فيه القرار الذي يرضى ضميري، و يتمشى مع العدل وروح القانون، ونتيجة لذلك فقد رفضت الكثير من الوساطات مما أثار ضدي بعضـا من الشخصيات القوية، وكان من بين الحالات التى رفضتها ابن إسماعيل فهمي الذي كان وقتئذ وزيرا للسياحة.
لقد كـان ابن إسماعيل فهمي جنديا في القوات المسلحة، وفي أحد الأيام عرضت على مذكرة من هيئـة التنظيم والإدارة تقترح إنهاء خدمة الجندي المذكور حيث انه مطلوب للعمل في هيئة المخابرات العامة فرفضت، فقيل لي إنه ابن إسماعيل فهمي، فقلت لهم حتى ولو كان ابن السادات فأني لن أخالف القانون. حاول رئيس هيئة التنظيم ان يقنعني بأن هذه الحالة في حدود القانون اعتمادا على مادة في قانون التجنيد تعطي وزير الحـربية الحق في إعفاء أي فرد او مجـموعة أفراد من الخدمة العسكرية الإجبـارية إذا كان يقوم بعمل من الأعمال المهمة التى تساعد في المجـهود الحربي، وحيث ان المخابرات العامة تعتبر من الأجهزة المهمة في الدولة التي تساعد في المجهود الحربي فإن حالة هذا الجندي تعتبر في حدود القانون. لم اقتنع بهذا التفسير وقلت له كان هذا إسراف في التفسير ولا يتمشى مع روح القانون.. ما هو هذا الدور المهم الذي سوف يلعبه ابن إسماعيل فهمي في المجهود الحربي؟ لماذا لم نوافق على التماس وزير الكهرباء إعفاء مهندسي الكـهرباء، على الرغم من انه لم يحدد اسما معينا، وعلى الرغم من انهم مطلوبون لإدارة شبكة الكهرباء التي هي في الواقع جـزء مهم من المجهود الحربي؟ لماذا لم نوافق على التماس وزير التربية والتعليم إعفاء المدرسين على الرغم من ان عدم إعفائهم سوف يؤثر على عدد الفصول التعليمية الجديدة التى سوف يقوم بافتتـاحها في العام الدراسي الجديد؟ لم اقتنع بأن عدم إعفاء ابن إسماعيل فهمي قد يؤثر على المجهود الحربي للدولة، وبالتالي اشّرت على المذكرة"لا أوافق" ووقعت على ذلك.
وبعد حوالي يومين اتصل بي اللواء أحمد زكي وكيل وزارة السياحة، وهو زميل قديم كان قد ترك القوات المسلحة منذ سنتين فقط، وكـان قبل ذلك رئيسا لهيئة التنظيم والإدارة في القوات المسلحة ويعرف قانون التجنيد معرفة جيدة كلمني احمد زكي في موضوع ابن إسماعيل فهمي فكررت له وجهة نظري وكرر هو نص المادة التى تعطي لوزير الحربية الحق في إعفاء من يتأثر المجهود الحربي نتيجة عدم إعفائهم، فقلت له "حـسنا يمكن للوزير أن يعفيه " فرد قائلا "ولكنك وضعت الوزير في مأزق بوضع رأيك هذا" ثم اقترح أن تعاد كتابة مذكرة جديدة وتعرض عليّ من جديد فإذا كنت ما أزال غير مقتنع بالموافقة فإني أفوض الأمر للوزير وبذلك اترك له الباب مفتوحاً، ولكني رفضت هذا الاقتراح.
وقد علمت فيما بعد أن مذكرة أخرى بالموضوع عرضت على الوزير مباشرة دون أن تمر علي، وان احمد إسماعيل- الذي كان يعلم بالقصة من أولها إلى آخرها- صدق على إنهاء خدمة الجندي ابن الوزير إسماعيل فهمي حيث أن بقاءه في الخدمة وعدم نقله إلى المخابرات العامة سوف يؤثران على المجهود الحربي للدولة. وبعد فترة وجيزة من نقل ابن إسماعيل فهمي إلى المخابرات العامة قامت المخابرات العامة بإنهاء خدمته بها وتمكن والده من أن يجد له وظيفة في نيويورك
أكثر راحة وأوفر مالا! وهكذا بينما كان أبناء مصر يقتحـمون قناة السويس في أكتوبر 73 ويموتون وهم يهتفون "الله اكبر"، كان ابن إسماعيل فهمي وغيره من أبناء الطبقة المحظية في مصر يتسكعون في شوارع نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية والأوروبية. لم يكن احمد إسماعيل ليقدم هذه الخـدمة إلى إسماعيل فهمي دون مقابل. لقد كانت صفقة مشتركة كانت نتيجتها أن عين ابن احمد إسماعيل أيضا ضمن وفد مصر في الأمم المتحدة في نيويورك.
لم أخلق من مشكلة ابن إسماعيل فهمي موضوع خـلاف ومجـابهة بيني وبين أحـمد إسماعيل، فقد كانت هناك موضوعات أخرى اكثر أهمية واشد خطورة تستحوذ على تفكيري وجهودي، وهي إعداد القوات المسلحـة للحرب، وكل ما هو دون ذلك يمكن التغاضي عنه ولو مؤقتا.
علاقتي مع أحمد إسماعيل في أثناء الحرب وبعدها:في خلال الأحد عشر شهرا التي قضاها احمـد إسماعيل وزيراً للحربية قبل حرب أكتوبر 73 لم تكن هناك خلافات تذكر بيننا. كان كل منا يحاول أن يتحاشى هذه الخلافات بقدر ما يستطيع. لقد استمر في ممارسة سلطاته المباشرة على إدارة المخابرات الحربية وإدارة شئون الضباط، شأنه في ذلك شان جميع من سبقوه في هذا المنصب.أما بخصوص العمليات فلم يكن هناك إلا القليل لكي نناقشه، كـانت لدينا خططنا التي أدخلنا عليها-بـالتأكيد- بعض التعديلات الطفيفة نتيجة للتطور المستمر في قوات العدو وفي قواتنا،ولكن جوهرها بقى كما هو في أثناء الحـرب كان الموقف مخـتلفا. لقد قاسيت الكثير من كل من الرئيس السادات والفريق احمد إسماعيل. كانا يعترضان على كل اقتراح أتتقدم به وعندما يكتشفان بعد يومين او ثلاثة ان وجهة نظري كانت سليمة يكون الوقت قد فات. استمر الوضع على هذا الحال منذ 13 من اكتوبر 73 وحتى وقف إطلاق النار، بل حتى بعد ذلك. لابد ان السادات اقتنع بعينه وبين نفسه انه هو ووزير الحربية كـانا على خطأ في قراراتهما الخاصة بإدارة العمليات الحـربية وأنني كنت على صواب. ولاشك ان السادات قد اقتنع بأنه لو عرفت الحقائق لاهتز موقفه ولأصبح الفريق الشاذلي شخصية شعبية تهدد سلطانه وجيوشه. وهنا عمد بعد الحرب الى ان يكيل إليّ اتهامات باطلة هو اول من يعلم ببطلانها لأنه هو خالقها. وسكت ولم أرد، لا عزوفا عن ذكر الحقيقة، حيث أن هذه الحقائق ملك للتاريخ وليس من الأمانة أخفاها، ولكنى صمت لأن الوقت لم يكن مناسبا لكي أتكلم. لم اكن أريد ان أحكي كيف خدع السادات أشقاءنا السوريين؟ لم اكن أريد ان أعطيه الفرصة ليتهمني بأنني أعرقل جهوده للحصول على السلم المشرف الذي كان ينادي به، وهو الانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية، اما الآن -و بعد أن سقطت جميع الأقنعة- فقد حان الوقت لكي أقول كلمة الحق للشعب العربي الكريم.
كان أحمد إسماعيل أقل سوءا من السادات إنه لم يخف قط كراهيته لي في مقابلاته الخاصة ولكنه لم يهاجمني قط بطريقة علنية. لقد حكى لي أحد النقاد العسكريين الإنجليز قصة طريفة عن هذا الموضوع، بينما كنت سفيرا لمصر في لندن. لقد ذهب هذا الرجل - لا أريد ان أذكر اسمه الآن- لمقابلة احمد إسماعيل لمناقشته في بعض الأمور التى تتعلق بالحرب وقد نصحه المصريون الذين رتبوا المقابلة بالا يذكر اسم سعد الشاذلي مطلقا خلال المقابلة، وكما قال لي هذا الناقد الإنجليزي اخـذ يتحـاشى ذكر أسمي، ولكنه وجد ذلك مستحيلا. فاستخـدم منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) كبديل عن ذكر أسمي. وعلى الرغم من ذلك فقد تجهم وجه احمد إسماعيل وهاجمني بما فيه الكفاية. ومع ذلك كله فإن الله كبير ذو اقتدار يمهل ولا يهمل ولابد ان يظهر الحق مهما طال الظلام.
وإليكم القصة التالية التي تظهر قوة الخالق وعظمته:
بينما كنت سفيرا لمصر في لندن حضر احمد إسماعيل الى لندن للعلاج خلال عام 74، وقد قمت بزيارته في المستشفى عددا من المرات وفي زيارتي الأخيرة له كانت حالتـه قد تدهورت ولابد انه شعر بقرب منيته، وأراد ان يطهر نفسه من الأوزار التى ارتكبها ضدي فقال "إنني أعلم انك كنت هدفا لهجوم شـرس وظالم، ولكني أريد أن أؤكد لك أنني لست أنا الذي وراء ذلك. إنه الرئيس والرئيس شخصيـا. وحتى الفيلم التسجيلي الذي أعددناه عن البشرية اما الصراع غير الشريف والادعاء الباطل على الخصوم فهما عملان لا أخلاقيان سوف يحاسب الفرد عليهما في دنياه وفي اخرته. اللهم لا شماتة، اللهم أنت القوي الأكبر، اللهم وفقني لأن أقول كلمة الحق وألا اظلم أحدا أبدا. نظرت الى الرجل المريض وهو على فراش الموت وقلت له "الله اعلم بالحقائق والأسرار كلها. انه يعلم أيضا ما نجهر به وما نخفي، الله يجازي كل فرد منا بقدر ما يعلمه عنه" هل نسي السادات الذي يطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن انه سيرقد يوما ما على فراش الموت وانه سوف يمر أمام نظره شريط من الأخطاء والمظالم التى اقترفها في حياته وأن التوبة لن تقبل منه وهو على فراش الموت ؟!. إن الإيمان هو علاقة بين المرء وخـالقه ولا يمكن ان يكون بقرار جمهوري يصدره الحاكم ليضيف لنفسه لقبا جديدا. ان الإيمان الحقيقي هو صفة لا يعلمها إلا الله عز وجل حيث انه هو الذي يعلم ما في أعماق قلوبنا.
 
الفصل العشرون: ماذا بعد أقالة صادق
إنشاء 30 مصطبة جديدة:
بعد أيام قليلة من تعيين احمد إسماعيل وزيرا للحربية، تم تخصيص 23 مليون جنيه مصري من ميزانية الطوارئ لإتمام التحصـينات، وإن الأمانة التاريخية تقتضي ان اقرر هنا ان الفريق صـادق قد سبق له ان طلب اعتماد هذا المبلغ للغرض نفسه ولكنه لم يوفق في الحصول على التصديق المالي. لقد كنا نطلب هذا المبلغ لإنشاء مصاطب على الضفة الغربية ولتعلية الساتر الترابي الذي في ناحيتنا، وكان هذا هو الذي دفع اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث إلى إثارة هذا الموضوع اثناء اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 24 من أكتوبر 72، و أثار غضب الرئيس السادات. وبعد ان حصلنا على الاعتماد المالي بدأنا فوراً في العمل الجـار لتنفيذ هذه التحصـينات. وقبل نهاية عام 72 كنا قد بنينا 30 مصطبة يصل ارتفاع كل منها إلى 22 مترا، وتحتوي الواحدة منها على 180000 متر مكعب من الأتربة. كانت هذه المصاطب تشكل أحد التجـهيزات الهندسية المهمة لخدمة الخطة الهجومية، فقد كنا نستهدف ان نحتل هذه المصـاطب بواسطة الدبابات والأسلحـة المضـادة للدبابات الموجهة ATGWS وذلك لتقديم الـعون اللازم لمشاتنا أثناء عمليـة الاقتحام وتدمير الدبابات المعادية التي تحاول الهجوم المضاد عليها. وعلاوة على ذلك فقد كانت هذه المصاطب توفر لنا مراقبة جيدة لكل ما يجري في الجانب الآخر.
ضابط ينتقد الرئيس السادات:
بعد إقالة صادق وقع حادثان مهمان يبينان انه كـان هناك ضبـاط آخرون يشـاركون صادق آراءه فيما يتعلق بالحـرب. وقع الحادث الأول يوم 29 من أكتوبر، أي بعد يومين فقط من الإقالة، إذ أخبرني اللواء سعيد الماحي قائد المدفعيـة -هو حاليا كبير ياوران الرئيس السادات- في الساعة الخامسة بعد ظهر ذلك اليوم أن أحد ضباط المدفعية انتقد علنا رئيس الجمهورية. لقد وقع هذا الحـادث في مدرسة المدفعية عندما كان قائد المدرسـة يقوم بتوعية الضباط عن الأحداث الأخيرة (1). وأثناء قيام قائد مدرسة المدفعية بالتلقين علق الضابط قائلا"طيب وهو رئيس الجمهورية يعرف حاجة". وقد شكل مجلس تحقيق للتحقيق مع الضابط المذكور فيما نسب إليه ولكنه أنكر- أو بمعنى أصح أوحى إليه ان ينكر- حتى يمكن حـصر الموضوع في أضيق نطاق، وقد قبل إنكار الضـابط ولم يحاول المجلس التـعمق في البـحث والاستقصاء عن حقيقة ما قاله، وهكذا حفظ الموضوع.
إنشاء انقلاب فاشل بقيادة اللواء علي عبد الخبير:
اما الحادث الآخر فقد وقع بعد الأول بأقل من أسبوعين ولكنه كان أكثـر خطورة وأبعد أثرا. لقد كان محاولة انقلاب كاملة اشترك فيها بعض كبار الضباط وبعض ضباط المخابرات الحربية. فقد حدث ان ضابطا برتبة نقـيب من المخابرات الحربية وقع على معلومات جعلته يشك في أن هناك بعض ضباط من المخابرات يتعاونون مع المتآمرين، فأبلغ شكوكه إلى أحد أصدقائه الذي قام بدوره بإبلاغها إلى الرئيس. وبعد أن استمع السـادات إلى قصـة هذا النقيب ازدادت شكوكـه بإدارة المخابرات الحربيـة وأخذ يعتمد اكثر فأكثر على المخابرات والمباحث العامة. وقد أكدت المراقبة أن ضباطا من المعروفين بولائهم لصادق يجتمعون ولكن اجتماعاتهم ومقابلاتهم كانت تتم تحـت إجراءات أمن مشـددة، ولم تستطـع المخابرات أو المباحث العامة ان تعلم بما يدور داخل هذه الاجتماعات. لقد زادت هذه المعلومات من شكوك الرئيس فرأى عدم الانتظار حـتى يتم الحصول على قرائن تدل على التآمر وقرر أن يضرب التنظيم المشتبه فيه قبل أن يستفحل الأمر.
في الساعة 1745 يوم 11 من نوفمبر 72 ذهبت لمقابلة السيد الرئيس في منزله بالجيزة بناء على طلبه، وبعد حوالي نصف سـاعة انضم إلينا ممدوح سالم وزير الداخلية (2) " وبعد حوالي نصف ساعة أخرى أنضم إلينا عزت سليمان نائب مدير المخابرات العامة. (3) وقد قرأ علينا عزت سليمان المعلومات المتيسرة لديهم عن تنظيم سري في القوات المسلحـة يسمى "إنقاذ مصر".
قبل أن أحكي قصة هذا الانقلاب الفاشل يجب أن أؤكد مرة أخـرى ان آراء صادق التي أوضحها في اجتماع 24 من أكتوبر و أيده فيها كل من الفريق عبد القادر حسن واللواء علي عبد الخبير، كان يؤمن بها الكثيرون من ضـباط القوات المسلحة. لقد كانوا يعتقدون أن هناك قوة سـياسية خـفيـة تريد ان تدفع القوات المسلحـة المصرية إلى الحـرب قبل أن تسـتكمل استعداداتها بهدف تدميرها. فإذا دمرت القوات المسلحة فسوف يسقط النظام الحاكم وتعم الفوضى البـلاد وبذلك يصبح الجو ملائما لانتشـار الشيوعيـة في مصر ومنها إلى العالم العربي. لقد سمعت هذا الرأي من صادق عدة مرات قبل مؤتمر 24 من أكتوبر 72 ولم أقبله قط وكان ذلك من نقاط الخلاف الرئيسيـة بيني وبينه. ومع ذلك فإني لم اشك مطلقا في شجاعته ووطنيته. أو أنه كان يقوم بهذه اللعبة لحساب جهة أجنبيه أخرى. لذلك فقد حزنت كثيرا عندما سمعت السادات يتهمه أمامي بأنه ألعوبة في يد الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية وعميل له.
ولقد اندفع الرئيس إلى ابعد من ذلك فقال إنه ليحصل على المال والذهب والهدايا الثمينة من الملك السعودي وفي مقابل ذلك فإنه يقوم بتنفيذ كل ما يـأمره به، وقد أيد ممدوح سالم ما يقوله السادات وعلق على ذلك قائلا: "ألم أقل لك هذا منذ زمن يا سيادة الرئيس"!. لم اكن في وضع يسـمح لي بأن أؤيد او أنفي ما يقولون، فكنت استمع وأنا صـامت ولكني كنت اشعر بالحزن والأسى. إني اعرف صادق منذ ان كنا في العشرينيات من عمرنا، وعلى الرغم من خلافاتنا في الرأي ونحن في الخمسينيات من عمرنا فإني لا أتصور مطلقا أن يكون صادق عميلا. وبينما كان السادات يكيل الاتهامات له خلال هذا اللقاء تذكرت فجأة الكتاب الذي كـان السادات قد أرسله إلى الملك فيصل قبل ذلك بعـام وكان يقول فيـه له إنه يثق بصادق ثقة مطلقة. لم يكن السادات يعلـم ان صادق قد أطلعني على هذا الكتاب. ولم أشأ أن أثير هذا الموضوع في مثل هذا الجو الصاخب ولكني كنت أشعر في قرارة نفسي بالأسى والاشمئزاز من هذا الأسلوب الرخيص في مهاجمة الخصوم.
كـانت الساعة العاشرة مساء عندما غادرنا نحن الثـلاثة- ممدوح سالم وأنا وعزت سليمان- منزل الرئيس في الجيزة بعد أن تلقينا تعليمات الرئيس بالقبض على المشتبه فيهم واستجوابهم. ذهبنا إلى مبنـى هيئة المخابرات العامة باعتبارها صـاحبة الخيط الرفيع، وعلى أساس الاعتقاد بأن إدارة المخابرات الحربية هي نفسها متورطة في العـملية وقد مكثنا في المخابرات العامة طوال الليل حيث استدعيت إلى هناك المدعي العسكري العام وأصدرت عددا من الأوامر بالقبض على المشتبه فيهم، وكانت الساعة الخامسة صباحا عندما انتقلت من المخابرات العـامة إلى مكتبي لكي أحـصل على ساعتين من النوم قبل أن أستـأنف عملي في الصبـاح. وفي هذا اليوم نفسـه أصدر الرئيس السـادات أمرا بطرد اللواء محـرز مدير إدارة المخابرات الحربيـة. وباستمرار التحـقيق خلال يوم 12 نوفمبر ظهرت الحاجة لاستجواب أسماء جديدة وبالتالي إصدار أوامر جديدة للقبض على عدد آخر من الضباط.
اضطررت للسفر إلى الكويت بعد ظهر يوم 13 من نوفمبر لحضور اجتماع اللجنة المشكلة من عدد من أعضاء مجلس الدفاع المشترك، وعدت بعد ظهر يوم 15 من نوفمبر دون انتظار انتهاء أعمال اللجنة. لقد كان استجواب أفراد تنظيم "إنقاذ مصر" مازال مستمرا. وفى خلال ليلة 15/16 من نوفمبر طلب إلى المدعى العسكري العام ان اصدر امرا بالقبض على اللواء على عبد الخبير الذي كان قائدا للمنطقة العسكرية منذ أسبوعين فقط نظرا لأن التحقيقات قد أظهرت ارتباطه بهذه العملية وتورطه. وفى تلك الليلة تم القبض على "عبد الخبير" كما تم القبض على عدد آخر من القادة من بينهم العقيد عمران وهو قائد فرقة مشاة ميكانيكية، والعقيد احمد عبد الوهاب وهو رئيس أركان فرقة ميكانيكية، والمقدم عادل وهو ضابط أركان حرب يعمل فى وزارة الحربية، والمقدم عصام وهو قائد مجموعة صاعقة. لقد اتسع التحقيق واتضح لنا مدى خطورة الموقف من حيث عدد الضباط من ذوي الرتب الكبـيرة والمناصب الحساسة الذين كانوا يعدون لهذا الانقلاب.
بعد طرد اللواء محـرز من وظيفته كمدير لإدارة المخابرات الحربية يوم 12 من نوفمبر انتقل التحقيق من المخابرات العامة إلى المخـابرات الحربية، حـيث إن المقبوض عليهم كلهم كـانوا من العسكريين كـمـا ان المحقق هو المدعي العسكري العـام. وبعد ظهر يوم 16 من نوفمبر قمت بزيارة مكان التحقيق لكي ألم بآخر التفاصيل. وهناك اطلعت على اعتراف كامل كان قد أدلى به اللواء على عبد الخبير والمقدم عادل. لم أكن أصدق عيني وأنا أقرأ اعترافات علي عبد الخبيـر التى وقع عليها بإمضائه الذي كنت أعرفه جيدا فطلبت ان أقـابله شخصيا، فلما حضر أمامي سـألته بأسلوب أخوي" هل قمت يا علي بالإدلاء بهذه الأقوال والتوقيع عليها بمحض إرادتك ودون أى ضغط أو تهديد؟!، فقال نعم. لقد كان علي عبد الخـبير رجلا شهما في اعترافه، ولقد أراد ان يتحمل المسئولية كلها ليعفي الآخرين جميعهم من المسئولية. وعلى الرغم من خلافنا فى الرأي فقد كنت أنظر إليه كصديق وزميل، وزادني موقفه الشجاع أثناء التحقيق احتراماً له. اختليت بالمدير العسكري العام وقلت له إني رأيت بنفسي على عبد الخـبير وأن منظره لا يدل على وقـوع أي اعتـداء جسماني عليه، ولكنى أريد أن أؤكد أنه لا يجوز أيضا استخدام التهديد أو الوعيد، وانه هو وزملاءه يجب معاملتهم بمنتهى الاحترام والتقدير اللذين تمليهما رتبهم العسكرية. أكـد لي أنه هو شخصيا يؤمن بكل كلمة قلتها وأنه على استعداد لأن يحضر أي شخـص آخر لكي أتأكد بنفسي أنه لم يمارس الضغط على أحد، ولكنى اكتفيت بأقواله. لقد كانت الاعترافـات واضحة وتبين عملية انقلاب محبوكة الأطراف. كانت خطتهم هي أن يقوموا بالعملية ليلة 9 من نوفمبر، وقد اختاروا هذه الليلة بالذات لأنها كانت الليلة المحددة لعقد قران ابنتي ناهد. وكانت الخطة تقضى بأن تهاجم وحدة منهم مكان عقد القران فتعتقل الموجودين كلهم، ولابد ان يكون من بينهم رئيس الجمهورية ووزير الحربية ورئيس الأركان والكثيرون من الوزراء وكبار الضباط. ولكنهم فوجئوا باحتياطات أمن مشددة لحراسة المنطقة مما جعلهم يؤجلون تنفيذ العملية الى وقت أخر.
كنت مدعواً في مساء يوم 16 من نوفمبر لحضور حفل زفاف السيد عبد المنعم الهونى وهو أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة الليبية، كـان الحفل يجرى فى نادى الرماية بالهرم وكان الرئيس السادات يحـضر هذا الاحتفال. انتحيت بالرئيس جـانبا و أخبرته بآخر التفصيلات والاعترافات بخصوص الانقلاب الفاشل، وبعد حوالي ساعتين هم الرئيس بالانصراف فنزل معه المضـيف لتوصيله الى عربته، بينما بقيت أنا فى الدور العلوي أعد نفسي للرحيل وانتظر عودة الداعي لكي أسلم عليه. وبينما أنا واقف أتحدث الى بعض المدعوين إذا بأكثر من شخص يصرخ "سيادة الرئيس عايزك ". فنزلت الى الدور الأرضي وعند وصولي إلى الباب كان الرئيس قد غادر المكان تاركـا من يبلغني بأن اتبعه مباشرة الى منزله فى القبة. وفجأة وجدت نفسي داخل عربة من عربات الحراسة، ألاحق ركب الرئيس فوصلت عقبه، وبينما كان يصعد سلم منزله كنت قد لحقت به.
قال الرئيس" أنت شغلتني قوى يا سعد بالكلام اللي قلته "ـ لقد بدا يشعر بأبعاد المؤامرة ولكنى طمأنته و أكدت له انه قد تم القبض على جميع الرؤوس المدبرة. وعلى الرغم من ان اسم الفريق صادق لم يرد ذكره مطلقا على لسان أي من الذين جرى التحقيق معهم إلا أنه كان واضحـا ان المقبوض عليهم جميعهم يدينون بأفكاره نفسها وأنهم كـانوا ينوون القيام بانقلابهم لأنهم كانوا يعتقدون انهم بذلك يؤدون عملا وطنيا لبلادهم. قال الرئيس لا لقد كان صادق يخدعني فيما يتعلق بالأشخاص وكان يزرع رجاله فى المناصب المهمة ويستبعد من يختلف معه فى الرأي، ما رأيك فى عادل سوكه ؟،، فقلت له أنه ضابط جيد، فقال طيب ابعت هاتة من تركيا، بكره تبعت تجيبه، (5) "فقلت له سيادة الرئيس إذا قبلت نصيحتي فإني اقترح تأجيل ذلك، فاستوضح الرئيس "لماذا؟"، فقلت له "كان الفريق صادق للأسف يتهم كل من يختلف معه فى الرأي بأنه شيوعي، لقد قاسيت أنا نفسي من هذه التلميحـات فإذا نحن أحضرنا عادل سوكه في مثل هذه الظروف فقد يجري تفسير هذا التصـرف فى القوات المسلحة تفسيرا خاطئا"، فهز الرئيس رأسه موافقا وقال "اعتقد أنك على حق. أجل هذا الموضوع الآن " ناقشنا بعض الموضوعات الأخرى التى تتـعلق بتـأمين القوات المسلحـة واستغرقت مناقشتنا لهذه الموضوعات حوالي نصف السـاعة، عدت بعدها مرة أخرى إلى نادي الرماية لكي آخذ زوجتي وننصرف من الحفل.
 
الفصل الحادي والعشرون: التعاون المشوب بالحذر
تسهيلات الأسطول السوفيتي فى الموانئ المصرية:
في الساعة 2000 يوم 19 من مايو 71 اجتمع وفد عسكري سوفيتي مع وفد عسكري مصري لبحث التسهيلات البحرية التي يطلبها الجانب السوفيتي في الموانئ المصرية. كان الوفد السوفيتي برئاسة الجنرال يفيموف Yeflmov وعضوية الأدميرال فاسيلىVassily والجنرال اوكينيف OKUNEV، وكان الوفد المصري برئاسة الفريق صادق وزير الحربية وعضويـة اللواء الشاذلي (ر.ا.ح.ق.م.م) والعميد أمير الناظر الأمين العام لوزارة الحـربية. وكان الجانب السوفيتي يطلب زيادة في التسهيلات البحرية التي كان يمارسها فعلا، وكانت هذه الطلبات الجديدة تشمل ما يلي:
مرسى مطروح:
1- تعميق الميناء ثمانية أمتار أخرى.
2- بناء او تأجير أماكن لإيواء الأفراد بحيث تكون قريبة من المينـاء، وبحيث تكفى لإيواء 2000 رجل و 160 عائلة.
3- بناء مطار على مسافة 35-40 كيلومترا غرب الميناء.
4- رفع كفاءة المطار الحالي في مرسى مطروح بحيث يصبح قادرا على استيعاب لواء جوي سوف يتم إرساله من الاتحاد السوفيتي لتامين الميناء.
5- بناء محطة رادار على مسافة 100 كيلومتر شرق مرسى مطروح، وأخرى على مسافة مماثلة غربها.
الإسكندرية:
طلب الجانب السوفيتي تدبير مبنى واحد كبير او مجموعة من المباني المتجاورة حتى يمكنهم ان يجمعوا فيها عائلات رجال بحريتهم المتناثرة داخل مدينة الإسكندرية، وكان المطلوب هو تدبير مكان مجمع يتسع ل200 عائلة، وقد اقترحوا الحصول على فندق سان ستيفانو. أجاب الفريق صادق بان هذه الطلبات لها جانب سياسي وأنه لا يستطيع البت فى هذه الأمور قبل بحث الموضوع مع السيد الرئيس، وسيكون جاهزا للرد على هذه التساؤلات بعد حوالي أسبوع. وبعد انتهاء اللقاء طلب مني الوزير أن أشكل لجنة برئاستي لبحث هذه المطالب، وكان بين أعضاء هذه اللجنة اللواء بغدادي قائد القوات الجوية واللواء محمود فهمي قائد القوات البحرية. وبعد عدة لقاءات تقدمنا بالاقتراحات التالية:
1- الموافقة على إعطاء البحرية السوفيتية تسهيلات في ميناء مرسى مطروح تشابه التسهيلات الممنوحة لها في كل من الإسكندرية وبور سعيد.
2- عدم تخصيص أية منطقة محددة لخدمة الوحدات السوفيتية حتى لا يأخذ ذلك شكل قاعدة سوفيتية.
3- الموافقة على تمركز لواء جوي سوفيتي في مرسى مطروح شريطة ألا تقتصر مهمته على الدفاع عن القاعدة البحرية، بل تمتد مسئوليته لكي تشمل الدفاع عن الأراضي المصرية ما بين غرب الإسكندرية وحتى الحدود المصرية الليبية. وان يكون اللواء الجوي السوفيتي تحت القيادة المصرية.
4- يكون تمركز اللواء الجوي السوفيتي في مرسى مطروح بصفة مؤقتة وإلى أن تصبح القوات الجوية المصرية قادرة على تحمل مسئولية الدفاع الجوي عن المنطقة غرب الإسكندرية وتقوم بتخصيص لواء جوي مصري لكي يعفي اللواء الجوي السوفيتي من هذه المهمة.
قمت بتسليم مقترحات اللجنة إلى السيد الوزير الذي عرضها بدوره على السيد الرئيس ثم عاد إلينا ليقول إن الرئيس وافق على تلك المقترحات وأوصى بان تكـون الاتفاقية لمدة 5-10 سنوات.
اجتمع الوفد العسكري السوفيتي والوفد العسكري المصري مرة أخرى يوم 27 من مايو، وكان رئيس الوفد السوفيتي في هذه المرة هو الجنرال PAVLOVSKY وهو أحد أفراد وفد الرئيس بودجورنى الذي كـان في زيارة رسميـة لمصر ما بين 25 و 28 من مـايو 71.
أخبرنا الجانب السوفيتي "أن الرئيس السادات شخصيا كان قد طلب خلال زيارته الأخيرة لموسكو ان نستخدم ميناء مرسى مطروح وان الفريق فوزي وزير الحربية السابق كان معه في هذه الزيارة، و أكد الطلب وان كل ما نطلبه الآن هو وضع ترتيبات أسلوب إعاشة الأفراد الذين يستخدمون هذه الميناء وتامين راحتهم. وان الدفاع عن اللواء الجوي أثناء تواجده على الأرض يستلزم وجود لواء صواريخ مضاد للطائرات" قدم الجانب السوفيتي مقترحاته وقدمنا مقترحاتنا المضادة وطالت المفاوضات والأخذ والرد واستغرقت يومي 27 و 28 من مايو دون الوصول الى أي اتفاق، وفي يوم 29 من مايو عاد الوفد العسكري السوفيتي إلى بلاده دون التوقيع على أي اتفاق.
ضبط شبكة أمريكية تتجسس على السوفيت في مصر:
في خلال الأسبوع الأول من سبتمبر 71 تمكنت المخابرات المصرية من القبض على شبكة تجسس أمريكية، وكان المتهم الرئيسي في هذه الشبكة هو طناشى راندوبولو وهو مصري الجنسية من اصل يوناني، اما العنصر الأمريكي في الحلقة فقد كانت الآنسة سوأن هاريس وهي أمريكية الجنسـية وكانت تعمل في قسم رعاية المصالح الأمريكية في القاهرة. (2) أدلى طناشى بعد القبض عليه باعتراف كامل اظهر فيه ان المعلومات جميعها التى حصل عليها كانت من أفراد سوفيت من بين أصدقائه العديدين في قاعدة جاناكليس الجوية، وأنه كان يقوم بإبلاغ تلك المعلومات الى الآنسة سو في السفارة الأمريكية. وقد بدأت علاقته مع المستر بيليكوف BELEKOV الذي خدم بـالقاعدة من سنـة 69 حتى 71 وبعد عودته إلى الاتحاد السوفيتي أرسل له كتابا يقدم فيه خلفه فكتور VICTOR وتوطدت صداقة متينة بين فكتور وطناشى إلى أن تم القبض عليه، وعن طريق فكتور تعرف على يورى (مساعد فكتور) واصبحوا يتزاورون فقام هو بدعوتهما إلى العشاء في منزله عدة مرات، كما انهما قاما بدعوته إلى العشاء في القاعدة وقد تجول داخل القاعدة بما في ذلك غرفهم الخاصة.
كان من بين اعترافات طناشى ما يلي:
1- انه زار أحد ملاجئ (هناجر) الطائرات الخـرسانية وكـانت مصر اول دولة في العالم تقوم ببناء هذه الملاجئ الخرسانية وذلك لوقاية طائراتنا من أي هجوم جوي مفاجئ بعد أن دمرت قواتنا الجوية وهي على الأرض مرتين: المرة الأولى من قبل بريطانيا أيام الاعتداء الثلاثي عام 1956، والمرة الثانية من قبل إسرائيل عام 1967.
2- إنه حضر فيلما عن الجاسوسية مع جميع أفراد القاعدة.
3- إن لديهم في روسيا رادارات افضل بكثير من الرادارات الروسية الموجودة في مصر.
4- إن المصريين غير مستعدين وغير جاهزين للحرب الآن، وقد يمر وقت طويل قبل ان يصبحوا قادرين على استئناف القتال من جديد.
5- إن هناك أسرابا جوية سوفيتية أخرى في مصر غير تلك التي في قاعدة جاناكليس وأن تلك القواعد مدافع عنها بصواريخ سام 4 وسام 6 أما قاعدتهم في جاناكليس فمدافع عنها بصواريخ سام 2 وسام 3.
ولقد قرر الرئيس السادات الا نضخم هذا الموضوع، وان يكتفي بإبلاغ السوفيت بذلك. وفي يوم 13 من سبتمبر استدعيت كـبير المستشارين السوفيت في مصر و أبلغته القصة كاملة، وطلبت منه ان يلفت نظر جميع الضباط والجنود السوفيت بضرورة مراعاة احتياطات الأمن، والعمل على تلافي وقوع مثل هذا الحادث مستقبلا- واضفت قائلا " إننا على يقين من أن جميع المعلومـات التى سلمهـا طناشى بابادويلو الى الآنسـة سوآن هاريس سوف تجد طريقها الى إسرائيل. ورغبة في الحفاظ على العلاقات الطيبة بين بلدينا نقية وخالية من أية شوائب فقد أمر السيد الرئيس بطي الموضوع تاركين لكم حرية التصـرف في اتخـاذ الإجراءات المناسبة ضد الأفراد السوفيت الذين تسببوا في تسرب تلك المعلومات، كما نرجو أن تتخذوا الإجراءات المناسبة التى تضمن عدم تكرار مثل هذا الحادث مستقبلا".واستمرت الدراسة عدة ايام. وبعد ان اتفقنا على ما هو مطلوب جهزت كشفا بذلك وقدمته إلى الفريق صادق.
في 21 من سبتمبر 71 سـافر اللواء عبد القادر حسن واللواء عمر جوهر الى موسكو لعقد المباحثات الأولية مع الجانب السوفيتي بخصوص صفقة أسلحة في حدود 130 مليون روبل. وفي 8 من اكتوبر سافر الفريق صادق على راس وفد عسكري لإجـراء المباحـثات النهائية والتوقيع على الاتفاقية. وعاد من موسكو يوم 16 من اكتوبر (3) وفي يوم 17 من اكتوبر عقد الفريق صادق مؤتمرا أعلن فيه ان الاتحاد السوفيتي سيقوم بإمدادنا بالأسلحة التالية:
10 طائرات تى يو 16 مجهزة بصواريخ جو ارض ذات مدى 150 كيلومترا.
100 طائرة ميج 21. يتم تسليم نصف هذا العدد خلال عام 71 والباقي خلال 72.
20 طائرة ميج 23 خـلال عام 72 بطياريها السوفيت الى ان يتم تدريب الطيـارين المصريين على قيادتها.
فوج كوادرات (صواريخ مضادة للطائرات خفيفة الحركة تعرف في الغرب سام 6).
كتيبة مدفعية 180 ميللمتر.
كتيبة هاون 240 ميللمتر.
ثلاثة كبارى PMP
وفي مجـال إنتاج الأسلحـة أشار الوزير الى ان الاتحاد السوفيتي سوف يقدم جميع المساعدات ليجعلنا قادرين على إنتاج الأصناف التالية:
المدفع 122 مم دى 30
الرشاش 23 مم المزدوج (ذو ماسورتين).
البندقية الآلية AKM.
القاذف الصاروخي RPG.
التعاون المشوب بالحذر، صفحه رقم 121
وفي مجال إنتاج الذخيرة يقوم الاتحاد السوفيتي بتقديم المساعدة ليجعلنا قادرين على إنتاج الذخيرة اللازمة للأسلحة التالية:
23 ميللمتر مضادة للطائرات.
82 ميللمتر للمدفع عديم الارتداد ب 10.
122 ميللمتر للمدفع ام 30 والمدفع دى 30.
130 ميللمتر للمدفع ام 46.
152 ميللمتر هاوتزر.
120 ميللمتر هاون.
القاذف الصاروخي RPG.
القنبلة اليدوية RKG.
وفي مجـال إنتاج الأسلحـة أشار الوزير الى ان الاتحاد السوفيتي سوف يقدم جميع المساعدات ليجعلنا قادرين على إنتاج الأصناف التالية:
المدفع 122 مم دى 30.
الرشاش 23 مم المزدوج (ذو ماسورتين).
البندقية الآلية AKM.
القاذف الصاروخي RPG.
وفي مجال المعدات وقطع الغيار يقوم الاتحاد السوفيتي بإنشاء المصانع التالية:
مصنع لإنشاء قطع الغيار اللازمة للطائرات ميج 21 والميج 17 والسوخوي.
7 مصنع لإنتاج التانكات الاحتياطية للطائرات DROP TANKS.
مصنع لإنتاج الرادار ب 15.
مصنع لإنتاج الأجهزة اللاسلكية 123 R والأجهزة 124 R التي تستخدم في الدبابات.
مصنع لإنتاج الطابات والبوادي.
وفي مجـال تنظيم التعاون بين الطرفين في النواحي العسكرية وافق الجانب السوفيتي على أن تمتد مسئولية اللواءين الجويين السوفيتي المتمركزين في مصر إلى خط وهمي يقع على بعد 20 كيلومترا غرب القناة لكي يشاركا في الدفاع الجوي (كان القائد المحلي الروسي يريد أن يلتزم بالدفاع حتى خط طول 32 والذي كان يقع غرب ذلك بكثير).
ذكر الوزير أيضا ان الجانب السوفيتي سيسعى لإنجاز الورش الرئيسية وورشة العمرة التي كان بصدد إنشائها لصالح قواتنا الجوية في أسرع وقت ممكن، ولكنه رفض الاستجابة لطلب الفريق صادق بإنشاء مصنع لإنتـاج طائرة الهيليكوبتر مى 24 ووعد ببحث هذا الموضوع فيما بعد.
السوفيت وسنة الحسم:
في يوم 25 من ديسـمبـر 71 وصل المارشال جـريشكو الى القاهرة حيث أمضى 24 ساعة فقط قبل أن يغادرها إلى موسكو. لم تكن زيارة جريشكو زيارة رسمية و إنما كانت مرورا عابرا في طريق عودته من مقديشو (حيث كان في زيارة رسمية للصومال) إلى موسكو. لقد كانت الزيارة في أعقاب الحرب الهندية الباكستانية التي انتهت بانتصار الهند واستقلال باكستان الشرقية تحت اسم بنجلاديش. وبالطبع كانت تلك الزيارة الى الصومال في ذلك الوقت ذات معنى سياسي في لعبـة الأمم، فقد كان السوفيت يساعدون الهند في حربها ضـد باكستان، كما كـانت لهم علاقات طيبة مع الصومال. وهكذا كان الاتحـاد السوفيتي يتمتـع بموقف ممتاز في المحيط الهندي على شاطئيه الشرقي والغربي. كان المارشال جريشكو في قمة السعادة خلال حفل العشاء الذي أقامه السفير السوفيتي على شرفه في هذه الليلة. كان يمزح ويضحك من أعماقه وهو يقول لي تصور أنني أنا والوفد الذي يرافقني سبحنا أمسى في المحيط الهندي، كـانت المياه دافئة والجو جميل لاشك أنها كانت مناسبة سـعيدة للسوفيت ان يسبحـوا في مياه المحيط الهندي الدافئة التى تراود أحلامهم منذ ايام القياصرة !!
لقد تحسنت العلاقات السوفيتية المصرية بعد اتفاقية اكتوبر 71 بعض التحسن، ولكنه كان واضحا انهم لا يشجعوننا على القيام بالهجوم قبل نهاية عام 71 كما كان السادات يعلن دائما. وكـان السفير السوفيتي قد قابل الرئيس السـادات يوم 20 من ديسمبر وابلغه بان الاتحاد السوفيتي قد علم بما يلي:
1- قامت إسرائيل بإدخال قوات جديدة في سيناء.
2- حصلت إسرائيل على ضمانات جديدة من أمريكا لتأييدها في حالة استئناف القتال.
3- يحتمل ان تقوم إسرائيل بمهاجمة أكثر من دولة عربية في وقت واحد.
وزير الحربية يهاجم السوفيت:
كان الفريق صادق لا يخفي انتقاده وعدم ثقتـه بالاتحاد السوفيتي في أحاديثه كلها ولكن هذه الأحاديث وتلك الآراء كانتا دائما على المستويات العليا، وقد بدا يخـرج عن هذه القاعدة اعتبارا من يناير 72. وفي يوم 24 من يناير 72 خطب صادق في اجـتماع عقد في المنطقة المركزية حضـره عدة آلاف من الضباط من جميع الرتب وهاجم الاتحاد السوفيتي هجوما عنيفا، و أعلن ما يلي:
1- إن الروس لم يقوموا بتوريد الأسلحة المطلوبة، وانهم بذلك هم الذين يحولون دون تحقيق رغبتنا في الهجوم.
2- إذا لم يصل الرئيس إلى اتفاق في لقائه معهم في نهاية يناير و أوائل فبراير، فإننا سنقوم بشراء السلاح الذي نحتاج إليه من أية جهة أخرى.
3- إن الروس ينشرون شائعاتهم بين صغار الضـباط والجنود والطلبة بان القوات المسلحة لديها الأسلحة الكافية التى تمكنها من القيام بالهجوم ولكن كـبار القادة هم الذين لا يرغبون فى القتال. وان هذه الشائعات المسمومة غير صحيحة.
 
الفصل الثاني والعشرون: قرار الاستغناء عن الوحدات السوفيتية
رحلة السادات الى موسكو في فبراير 72:
سافر الرئيس الى الاتحاد السوفيتي يوم 2 من فبراير، بينما بدأت أنا رحلتي الى الجزائر والمغرب وليبيا يوم 6 من فبراير، والتي عدت منها يوم 14 من فبراير 72، وقد علمت يوم 15 فبراير ان الاتحاد السوفيتي قد أكد للرئيس التزامه باتفاقية اكتوبر 71 لتوريد الأسلحة و إقامة الصناعات العسكرية وانه وعد علاوة على ذلك بإمدادنا بما يلي:
200 دبابة ت 62 يتم تسليم عشر منها خلال شهر مارس لإجـراء تدريب الأطقم عليها على ان يتم توريد باقي الدبابات خلال عام 72.
20 طائرة TU 22 يتم توريد اثنتين منها خـلال شهر مارس لتدريب الأطقم عليها، ويتم توريد الباقي خلال عام 72.
25 طائرة ميج 17 يتم تسليمها فورا كهدية.
تدعيم وزيادة طاقاتنا في الحرب الإلكترونية.
اعتذر الجانب السوفيتي عن عدم قيامه بإمدادنا بالطائرات ميج 21 في التوقيتات السابق تحديدها في اتفاقية أكتوبر، ولكنه وعد بتعويض ذلك بان يورد لنا 70 طائرة في النصف الأول من عام 72 والثلاثين الأخـرى في النصف الثاني من عام 72، كما أكد إمكان تصنيع الطائرة ميج 21 MF تصنيعا كاملا في مصر عام 1979.
وصل المارشال جريشكو يوم 18 من فبراير في زيارة رسمية لمصر تستغرق ثلاثة أيام. لقد كانت الزيارة سياسية في مضمونها وكـان الهدف منها هو تليين الفريق صادق حتى يخفف من حدة هجومه عليهم. وقد حضرت مع الوزيرين عدة لقاءات, ولكن هذه اللقاءات لم تخفف- إن لم تكن قد زادت- من حدة المرارة التى يشعر بها كل طرف تجاه الآخر.
وقد بودلت اثناء هذه اللقاءات بعض الجمل والتعليقات الخشنة، وفي الليلة السابقة لسفر المارشال جريشكو دعاه الفريق صادق الى عشاء خاص وطلب مني حضور هذا العشاء، فاعتذرت لكي أعطى لهما الفرصـة لكي يصفيا ما بنفسيهما. وبعد سفر جريشكو سالت صادق عما يشعر به الآن بعد تلك الزيارة فوجدت ان موقفه لم يتغير، وانه مازال على اعتقاده بان الروس غير مخلصين وغير جادين في التعاون معنا.
صفقة الأسلحة في مايو 72:
سافر الفريق عبد القادر حسن في شهر مارس الى موسكو للتوقيع على الاتفاقية بالأصناف التى تم الاتفاق عليها بين الرئيس السادات والقيادة السياسية السوفيتية في فبراير. ولكنه عاد يوم 19 من مارس دون ان يوقع على البندين الخاصين بالدبابات ت 62 والطائرات TU 22. دعا الفريق صـادق المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى اجتماع عاجل في اليوم نفسـه وهاجم الاتحـاد السوفيتي هجوما عنيفا، لأنه طلب ان يتم دفع ثمن هذين الصنفين كاملا وبالعملة الصعبة.
ولكي يستطع القارئ ان يتفهم معنى دفع الثمن كاملا وبالعملة الصعبة فسوف اشرح بالتفصيل أسلوب الدفع بين مصر والاتحاد السوفيتي فيما يتعلق بثمن الأسلحة والمعدات الحربية. كان جمال عبد الناصر قد اتفق مع السوفيت على ان يتم دفع ثمن الأسلحة والمعدات التى تشتريها مصر من الاتحاد السوفيتي طبقا لما يلي:
1- يقوم الاتحـاد السوفيتي بخـصم 50% من ثمن السلاح، وبالتالي فإن السلاح يباع بنصف الثمن فقط.
2-يقوم الاتحـاد السوفيتي بإقراض مصر قرضّا يغطى ثمن السلاح الذي نشـتريه( أعني ال50% التي يجب على مصر ان تدفعها) ويتم دفع هذا القرض على أقساط سنوية لمدة 10- 15 سنة بفائدة 2%، و يبدأ القسط الأول بعد فترة سماح طويلة.
ونظرا لأن السـلاح السوفيتي- دون أي حسم من ثمنه الكامل- يعتبر رخـيصـا جدا بالنسبة للسلاح الغربي ويمكن القول بأنه في حالة تعادل الخصائص بين السلاح السوفيتي والسلاح الغربي فإن السلاح السوفيتي يكون ثمنه 50% من ثمن مثيله الغربي. فإذا خصمنا 50% من هذا الثمن، فإن ذلك يعني أن الثمن الذي تدفعه مصر ثمنا للسلاح الروسى يعادل 25% من ثمنه في السوق العالمية. وعلاوة على ذلك فإنه يدفع بالجنيه المصري وبالتقسيط المريح. وتطبيقا لذلك فقد كنا نشتري الطائرة ميج 21 بمبلغ 250000 جنيه مصري وكنا نشترى الدبابة ت 55 بمبلـغ 25000 جنيه مصري. كان الوفد المكلف بعقد الصفقـة يسافر إلى موسكو وليس معه دولار واحد، فيوقع مثلا على صفقة من الأسلحة تبلغ قيمتها- طبقا للأسـعار العـالمية- 1000 مليون دولار، ثم يوقع على قرض بحوالي 250 مليون دولار، يدفع بالتـقسـيط على 10- 15 سنة بفائدة 2% وبعد فترة سماح طويلة. ويتم التسـديد بالجنيه المصري وبأية أصناف يمكن لمصر تصديرها.
وهكذا فإن الاتحاد السوفيتي عندما أخطر عبد القادر حسن خـلال شهر مارس 72 بان يتم دفع الثمن كاملا وبالعملة الصعبـة كان يعني عدم خصم نسبة إلى 50% المعتادة وان يتم تسديد الثمن بالعملة القابلة للتـحويل !! وانه- طبقا لذلك- أصـبح ثمن الدبابة ت 62 حوالي 250000 دولار والطائرةTU 22 أصبح ثمنها 5,6 مليون دولار، وهذه الأثمان- وإن كانت لا تزال تعادل حوالي 50% من ثمن مثيلتها الغربية كـانت تعتبر من وجهة نظرنا عملا غير مقبول، بل يكاد يكون عدائيا. (1)
في خلال شهري أبريل ومايو دارت عدة مناقشات ولقاءات- كـما سبـق ان ذكرنا في الباب الثالث/ الفصل الثـامن عشر انتهت بالتوقيع يوم 15 من مايو 72 على اتفـاقية تشمل ما يلي:
16 طائرة سو 17 يتم تسليم 4 منها في شهر يوليو والبـاقي يتم تسليمه قبل نهاية عام 72.
8 كتائب صواريخ بتشورا (سام 3) يتم تسليمها خلال عام 73.
1 فوج كوادرات يتم تسليمه عام 73.
200 دبابة ت 62 يتم توريدها خلال عام 72.
قرار الاستغناء عن الوحدات السوفيتية ، صفحه رقم 125
مصر تعلن ملكيتها لطائرة الميج 25:
في يوم 15 من مايو وبحـضور الرئيس السادات والمارشـال جريشكو جرى استـعراض جوي في مطار غرب القاهرة اشتركت فيه الطائرة ميج 25 والطائرة سو 17. كما حضر هذا العرض أيضا المارشال كوتاكوف KOTAKOV قائد القوات الجوية السوفيتية. وبعد انتهاء العرض الجـوي منح الرئيس السادات المـارشال جريشكو وسـام نجمـة الشرف، كـما منح المارشال كوتاكوف وسام النجمة العسكرية. وفي المساء أمر الرئيس بإصدار بيان وزع على الصحف يعلن امتلاك مصر لطائرة سرعتها 3000 كيلو متر في الساعة وتطير على ارتفاع 24 كيلومترا وامتلاكها أيضا لطائرات قاذفة مقاتلة بعيدة المدى. كان هذا البيان كاذبا تماما: فلم تكن مصر تملك شيئا مما ذكر في البيان، كان الروس يمتلكون 4 طائرات ميج 25 وكانت هذه الطائرة تعتبر أفضل ما أنتجته الصناعة السوفيتية وبالتالي فقد كـانت من الأسرار العسكرية المهمة ولم تعرض قط للبيع، وكان يقوم بتشغيلها طيارون سوفيت. كـما ان الطائرة سو 17 لا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال طائرة قاذفة مقاتلة بعيدة المدى. هذه هي صورة أخرى تبين كيف يخدع السادات الشعب المصري وبعض العرب بهذه البيانات الكاذبة. انه قطعا لا يستطيع ان يخدع أمريكا او إسرائيل حيث أن لديهما الوسائل والإمكانات التى تمكنهما من معرفة الحقائق. بل على العكس قد يخدم بذلك إسرائيل إعلاميا فتتمادى في تظاهرها بالضعف وانها كالحمل الوديع الذى تحـيط به الذئاب العربية التى تتربص به لافتراسه من كل جانب وبذلك تكتسب عطف الراى العام العالمي وتجد المبرر للمطالبة بالمزيد من السلاح.
ولكي يقوم السادات بحبك التمثيلية، قامت طائراتا ميج 25 سوفيتيتان برحلة استطلاعية فوق سيناء مبتدئة من بور فؤاد شمالا وحتى راس محمد جنوبا بعمق 10-30 كم داخل سيناء قام العدو باعتراض الطائرتين بطائرتي من طراز فانتوم أقلعتا من مطار المليز (في وسط سيناء) وطائرتي أخريين من مطار راس نصراني الذى يقع في الطرف الجنوبي من سيناء. ونظرا لأن طائرة الميج 25 تتفوق على طائرة الفانتوم تفوقا كثيرا من حيث السرعة والقدرة على الارتفاع فإن اعتراض العدو والصواريخ جو جو التي أطلقها عليها لم يكن لها أي تأثير عليها وسقط أحد هذه الصواريخ سليما في أيدينا في المنطقة الواقعة غرب القناة، وبفحص هذا الصاروخ اتضح أنه الصاروخ جو جو الأمريكي طراز سبارو Sparrow وقد ذكرنا هذا الموضوع ضمن التقرير اليومي الذي يرسل إلى الرئيس عن الأحداث المهمة في القوات المسلحـة، وعندما اطلع الرئيس على التقرير يوم 17 من مايو امر بتسليم الصاروخ Sparrow إلى الخبراء السوفيت الذين كانوا في غاية الفرح بالغنيمة الأمريكية.
تدهور العلاقات:
خلال النصف الأول من عام 72 كان يبدو ان الفريق صادق هو العدو رقم واحـد للسوفيت في مصر، بينما كان السادات يحاول ان يظهر بمظهر الصديق لهم. وبينما كان السادات يقوم بأطول زيارة له للاتحاد السوفيتي خلال الفترة ما بين 27 من ابريل و 10 من مايو 72 وقع حادثان مهمان كان بطلهما الفريق صادق.
في أوائل شهر مايو أخطرنا الجانب السوفيتي بان بحريتهم في البحر الأبيض سوف تقوم بمشروع تدريبي وانها تطلب السماح لها ان تنزل بعض أفرادها في منطقة مرسى مطروح يوم 8 من مايو على ان يتم سحبهم في اليوم التالي، وذلك كجزء من المشـروع التدريبي ولكن صادق رفض هذا الطلب.
أما الحادث الآخر فهو اتهام بعض الأفراد الروس بتهريب الذهب كانت الساعة الخامسة مساء يوم 8 من مايو 72 عندما جاءني كبير المستشارين السوفيت في قيادة المنطقة المركزية، حيث كنت أدير مشروعا لتدريب قيادة المنطقة. قال الجنرال اوكينيف بلهجة ملؤها الحزن والأسى، ان بعض الجنود السوفيت الذين تقترب عودتهم الى الاتحاد السوفيتي بعد انتهاء مدة خدمتهم في مصر قد جرى تفتيش اثنين منهم في مطار القاهرة بطريقـة استفزازية، مما أثار سخط الآخرين فرفضوا التفتيش وهم الآن في صالة الجمرك. قد يكون بعضهم قد اشترى "دبلة" أو خاتما أو سواراً لكي يهديها لخطيبته او صديقته. وإن مثل هذه الأشياء التافهة ذات الصفة الشخصية البحتة لا يمكن اعتبارها تهريبا كما يريد المسئولون في المطار أن يصوروها"، اتصلت هاتفيا بمدير المخابرات الحربية فـاشار إلى أن المعلومات التى لديهم تفيد بأنهم يحملون كميات كبيرة من المهربات، وانهم كانوا يراقبونهم منذ عدة أسابيع وهم يشترون الذهب بكميات كبيرة وأمام هذا التضارب في الأقوال قررت الذهاب إلى مكتبي حيث يمكن الاتصال بالجهات المختصة كلها وبحث الموضوع بطريقة افضل.
لم أكد أصل إلى مكتبي حـتى وصل وزير الحربيـة وفي أعقابه اللواء حسن الجريدلى الأمين العام للوزارة, كان من الواضح أن وصول الوزير الى المكتب في هذا الوقت لم يكن مجرد مصادفة و إنما كان لكي يتأكد من ان موضوع التهريب يسير في الطريق الذي رسمه. ولهذا السبب، فقد تنحيت جـانبـا عن الموضوع وجلست أتفرج على ما يدور بين الوزير والجنرال اوكينيف. كان صادق يقول للجنرال اوكينيف "أنا ليست لدى أية سلطة على رجال الجمارك. إنهم تابعون لوزير الاقتصاد. إنهم يفتشون الوزراء ."، ولكنه همس لي أنا واللواء حسن الجريدلى "إن المعلومات التي لدينا تؤكد ان معهم 80 كيلوجراما من الذهب .", اقترح صادق على أوكينيف ما يلي: "يقوم كل فرد بملء تصريح للجمرك يسجل فيه ما يتحمله من ذهب او خلافه ويقوم بتسليمه إلى الجمرك. يوقع اوكينيف على إقرار يفيد أنه مسئول عن إحضار كل من يطلب من هؤلاء الأفراد من قبل المحكمة. سوف يتدخل صادق بعد ذلك وبعد أن تهدا نفوس رجال الجمارك لحفظ هذا الموضوع بحيث لن يطلب أحد للمحكمة"، وقد رفض أوكينيف هذا الاقتراح قائلا "ليس لدى الأفراد اى شىء ليصرح لهم به.. لابد ان أي فرد سوف ينتابه غضب شديد إذا نحن طلبنا منه ان يسلم "دبلة" أو خاتما اشتراه للذكرى بعد ان خدم في مصر عاما كاملا أو اكثر".
اخذ الكلام يدور بين صادق واوكينيف في حلقة مفرغة الى أن دق جرس الهاتف في مكتب الوزير، وكان الوزير يناديه باسم "محمد" (2). بعد هذه المكالمة اظهر الوزير بعض المرونة ولكنه لم يتخذ أية إجراءات إيجابية لحل الموضوع. وبعد اقل من نصف ساعة رن جرس الهاتف مرة أخرى وكان المتحدث هذه المرة هو "محمد" أيضا بعد تلك المكالمة الثانية تغيـر موقف صادق تغييرا جذريا وطلب إليّ أن اذهب إلى المطار لكي احل الموضوع ولكني اعتذرت.. لماذا يسألني الآن؟ إنه هو صاحب هذا الموضوع. انه هو الذى خلقه. وهو الذى عقده وهو الذى يحـاول الآن أن يجد له حلا. فليحله هو وحده. ذهب اللواء حسن الجريدلى الى المطار مندوبا عن الوزير لحل الموضوع. كانت مجموعة المستشـارين والخبراء السوفيت تقيم حفلا ساهرا في مساء هذا اليوم احتفالا بعيد النصر وكنت مدعوا لهذا الاحتفال الذى يبدأ في الثامنة مسـاءا ولكنى شعرت بأن العلاقات بيننا كانت تخيم عليها الكآبة ففضلت أن أعود مرة أخرى إلى المنطقة المركزية لكي اتابع المشروع التدريبي الذي كنت قد انقطعت عنه لمدة ساعتين شـاهدت فيهما أحد فصول هذه القصة المثيرة. اننى لا أحب أن أمثل دورا لست مقتنعا به وقد وجدت ان ذهابي لحضور حفل الأصدقاء الروس في مثل هذه الظروف لا يحمل المعنى المقصود من الدعوة فقررت الاعتذار.
وفي صباح اليوم التالى سألت عن موضوع التهريب وكيف تم حله فاتضح ان 71 فرداً سوفيتيا سافروا بعد ان سمح لهم أ ن يأخذوا معهم الهدايا التى اشتروها، وانه قد تم حصر جميع هذه الهدايا فكان بيانها كما يلي: 26 سلسلة، 45 خاتما، 75 دبلة، 41 قرطا، 7 غوايش، 3 بروش.
كان الوزن الإجمالي لهذه الأصناف جميعها هو حوالي 1200 جرام من الذهب أي بمعدل 17 جراما لكل فرد!
قرار الاستغناء عن الوحدات السوفيتية:
في يوم الأحد 9 من يوليو 72 كنت مدعوا في سفارة المملكة العربية السعودية لحضور مأدبة عشـاء أقامها السـيد السفير السعودي على شرف الأمير سلطان وزير الدفاع السعودي. (3) وفي أحد أركان السـفارة همس الفريق صادق في أذني بقرار الرئيس بخصوص طرد المستشـارين والوحدات السوفيتية. كان يقف معي الفريق عبد القادر حسن عندما اخبرنا الوزير بهذا الخبر وطلب إبقاءه سرا حيث أن الرئيس طلب منه الا يخبر أحدا، وقد قص علينا صادق ما يلي "اتصل الرئيس بي هاتفيا في منزلي صباح يوم الجـمعة وسألني ماذا أفعل هذا اليوم فقلت له لا شىء سوى أني سـأقوم بتأدية صلاة الجـمعة في الجـامع عندما يحل وقت الصلاة، فقال لي: لماذا لا تحـضر الى استراحـة القناطر وتؤدي الصلاة هنا فأجبته بأنني سأحضر. وعندما وصلت الى هناك أخبرني بأنه قرر طرد جميع المستشارين السوفيت والوحدات السوفيتية المتمركزة في مصر. وطلب مني ألا أخطر أحدا إلى ان يـعلن هو ذلك في الأيام القليلة القادمة.
وفي خلال اليومين الماضيين كنت أغالب نفسي لكي انفذ تعليمات الرئيس بعدم إخطار أحد ولكني قررت اليوم ان أخبركما، ولاسيما بعد ان شعرت بان الرئيس قد اخطر غيري بهذا الخبر. قلت له "ولكنك تعلم مدى خطورة هذا القرار، إنه سوف يؤثر تأثيرا كبيرا على قدراتنا القتالية. أن الروس يسهمون إسهاما فعالا في مسـئوليـة الدفاع الجوي، إن لديهم لواءين جويين وفرقة صواريخ ارض جو والعديد من وحدات الحرب الإلكترونية". أجاب صادق" أني أعلم ذلك وقد حاولت اثناء الرئيس عن قراره ولكني لم افلح فقد قال لي أني دعـوتك لكي أخطرك بالقرار وليس لمناقشته،. وللحقيقة فإنه على الرغم من اتجاهات صادق المعادية للسوفيت فقد كان يبدو عليه القلق وعدم الاطمئنان لهذا القرار، وقد أضاف قائلا "لقد كنت أنادي دائما بضرورة ممارسـة الضغط على الاتحاد السوفيتي للحصول على ما نحتاج أليه" ولكنني لم أتصور مطلقا ان نذهب الى هذا المدى" كان الفريق عبد القادر حسن هو الآخر في غاية الضيق والقلق لهذا القرار.
إذا أعدنا قراءة ما قاله الرئيس بريجنيف للفريق صادق خـلال زيارته لموسكو في يوليو 72 (الباب الثالث/ الفصل الثامن عشر) فسوف يلفت نظرنا قوله "ان وجود المستشارين السوفيت في مصر هو ضرورة دولية". وأني لا اعتقد ان بريجنيف قد قال هذه الجملة بطريقة عفوية. لابد أن الروس قد علموا بان هناك تفكيرا في هذا الموضوع، وان بريجنيف بقوله هذا كـان يريد أن يوضح الأمور. وإذا كـان هذا الافتراض سليما فمن هم الأشـخاص الذين أسهموا في خلق هذه الفكرة في ذهن الرئيس السادات وتشجيعه على إخراجها الى حيز الوجود؟ والنقطة التى تثير التساؤل أيضا هي لماذا يحـاول السادات الادعاء بأنه اخطر السفير الروسى بقراره يوم 6 من يوليو في حين انه أخطره فعلا يوم 8 يوليو؟ ان ما قاله السادات في كـتابه من انه أخطر السفير الروسي بقراره يوم 6 من يوليو لا يمكن ان يكون خطأ مطبعيا لأنه كان مقرونا بمعلومات تؤكد ان الخطأ مقصود وهو قوله للسفير "وسأعلم وزير الحربية غدا بهذا الأمر" (4) في حين أن الحقيقة هي أن الرئيس اخطر وزير الحربية يوم الجمعة 7 من يوليو أي قبل أن يخطر السفير. إن هذا يعنى دون شك أن قرار السادات بطرد المستشـارين والوحدات السوفيتية لم يكن قرارا عفويا، لقد شاركت فيه عناصر في الداخل والخارج يحرص الرئيس على أخفائها. أن وصول الأمير سلطان وزير الدفاع السعودي إلى القاهرة قادما من أمريكا واتصاله بالسادات قبل ان يقوم السادات بإبلاغ الفريق صادق يوم 7 من يوليو بقراره بطرد المستشارين والخبراء والوحدات السوفيتية، يوحي إيحاءاً قويا بأن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة قد لعبتا دورا هاما في دفع السـادات لاتخاذ قراره هذا. وأن حرص السادات على إخفاء تلك الضغوط السعودية الأمريكية عليه، هو الذي دفعه إلى الادعاء بأنه ابلغ السفير السوفيتي بقراره يوم 6 من يوليو وليس يوم 8 من يوليو كما حدث فعلا.
أخطرنا الوحدات بقرار الرئيس بعد ظهر يوم 16 من يوليو على أساس ان يبدأ التنفيذ اعتـبارا من صباح اليوم التالي، وفي صباح يوم 17 من يوليو اجتمع الفريق صادق وأنا وكبير المستشارين لمناقشة الخطوط العريضة لتنفيذ قرار الرئيس. كان الاقتراح المصري بهذا الشان يتضمن ما يلي:
1- إنهاء عقود الخدمة بجميع المستشارين.
2- إنهاء العقود الخاصة بالخبراء (6) فيما عدا الأشخاص الذين يطلب الجـانب المصري الاحتفاظ بهم.
3- القوات الصـديقة (7) التي تقوم بتشغيل أسلحة ومعدات مصرية تقوم بتسليم هذه الأسلحة والمعدات الى الجانب المصري في خلال أسبوع من الآن.
4- القوات الصـديقة التى تقوم بتشغيل أسلحة ومعدات من ممتلكات الاتحاد السوفيتي - نظرا لأنه ليس لدينا الأفراد القادرون على تشغيلها- فقد اقترحنا بقاء هذه الوحدات في مصر شريطة ان تكون تحت القيادة المباشرة للقيادة المصرية. وينطبق ذلك بصفة خاصة على وحدات الحرب الإلكتروني وفوج الكوادرات.
5- جميع الأفراد الذين تنطبق عليهم شروط الترحيل يجب أن يغادروا الأراضي المصرية قبل اول أغسطس إذا تيسرت وسائل النقل اللازمة لذلك، اما الأفراد الذين لم يتمكنوا من مغادرة الأراضي المصرية قبل هذا التاريخ لعدم توافر وسائل النقل، فإنه يتحتم عليهم التوقف عن ممارسة اى عمل عسكري اعتبارا من هذا التاريخ.
وافق الجنرال اوكينيف على هذه الاقتراحات جميعها فيما عدا البند الرابع الخاص ببقاء الوحدات السوفيتية، فقد أشار الى ان التعليمات التى لديه هي أن يسحب جميع الأفراد وجميع الأسلحة والمعدات السوفيتية، ووعد بأنه سينقل هذه الرغبة الجديدة الى موسكو ثم يقوم بإخطارنا بمجرد ان يتلقى الجواب.
كانت الأيام والأسابيع التالية أياما عصيبة ومشحونة بالأعمال الخاصة بترحيل الوحدات الروسيـة. كنت أتلقى كل يوم عشـرات المكالمات الهاتفية من القوات الجوية والدفاع الجوى على أحداث متعددة "الروس يقومون الآن بفك الرادار الموجود في بني سويف! الروس يقومون الآن بفك الرادار الموجود في بير عريضة ، وسوف يترتب على ذلك ايجاد ثغرة في التغطية الرادارية! الروس يقومون الآن بنقل عدة اطنان من قطع الغيار من الوحدات الصديقة التى سوف يسلمونها لنا، الخ.. ". وفي الوقت نفسه يحضر الجنرال اوكينيف ليقول "بينما كانت قواتنا تقوم بتكديس الأصناف التى سيتم ترحيلها الى الاتحاد السوفيتي اختفي أحد الصواريخ الحديثة غير المستخدمة في القوات الجوية المصرية! من الذي سرق هذا الصاروخ ولمصلحة من يعمل؟" إلى غير ذلك من عشرات الحوادث.
لقد كـانت أوامرنا صريحـة وهي تقضي بان للسوفيت كامل الحق في سحب معداتهم وأنهم غير مطالبين إلا بتسليم الأسلحة والمعدات التي هي ملك مصر طبقا للعقود الرسمية الموقعة عليها من الطرفين. وأني عندما انظر الى الوراء لأرى كيف تمت هذه العملية دون أية حوادث خطيرة فإنه لا يسعني الا ان أثني على كل من القيادة المصرية وكبير المستشارين السوفيت وتعاونهما الصادق للتغلب على المشكلات التي أثارها الضباط الأصاغر والجنود من الطرفين، الذين كانوا اقل قدرة على التحكم في عواطفهم. عرضنا على الاتحاد السوفيتي المساعدة بتوفير الطائرات والمراكب اللازمة لترحيل الوحدات السوفيتية ولكنهم اعتذروا عن قبول هذه المساعدة وقد أوقفنا الدراسة في الكلية الحربية في الفترة ما بين 28 من يوليو و 1 من أغسطس حتى يمكن استخدامها كمنطقة تجمع للأفراد السوفيت الذين يبقون في مصر بعد اول أغسطس انتظارا لوسائل النقل المختلفة.
كان إجمالي الأفراد المرحلين هو 7752، وتفصيلهم كما يلي:
1000 مستشار وخبير.
6014 إجمالي الأفراد في الوحدات الصديقة.
738 عائلات المستشارين.
7752 إجمالي.
وبنهاية شهر يوليو كان قد تم ترحيل 2590 ، تم ترحيل 1973 منهم بواسطة الطائرات، و 617 تم ترحـيلهم بواسطة النقل البحري. وبذلك كـان الباقي هو 5163 (539 من المستشارين وعائلاتهم، 4633 من الوحدات الصديقة)، وقد تم ترحيلهم جميعا خلال النصف الأول من شهر أغسطس 72، وذلك فيما عدا فوج الكوادرات فقد تم ترحيله في نهاية أغسطس.
كانت الوحـدات الصديقة التى تعمل بمعدات سوفيتية لم يسبق لنا التعاقد على مثلها تشمل الوحدات التالية:
- رف طائرات ميج 25.
- سرب استطلاع و إعاقة إلكتروني.
- وحدة سمالطا وهي وحدة إلكترونية يمكنها ان تعوق جهاز التوجيه في الصواريخ الهوك.
- وحدة تاكـان وهي وحدة إلكترونية يمكنها ان تعوق أجهزة التوجيه في الطائرات المعادية.
وقد قام السوفيت بسحب هذه الوحدات ورفضوا منذ البداية إبقاءها في مصر لأنهم كانوا يعتبرون هذه المعدات على درجة عالية من السرية.
اما بخصوص الكوادرات فقد كان الموقف مختلفا، حيث انه سبق لنا ان تعاقدنا على فوجي كوادرات ولكن لم نكن قد انتهينا من تدريب الأفراد اللازمين لتشغيل هذه الصواريخ. عرض الروس أن يسلموا الفوج لنا كواحد من الفوجين المتعاقد عليهما فرفضنا. (9) عرض الرئيس السادات أن يبقى أفراد الفوج في مصر حتى نهاية عام 72 شريطة الا يقوموا بأية مهمـة قتالية فرفضوا. واستغرقت هذه المناقشات الكثير من الوقت الى ان أتصل بى قائد المنطقة الجنوبية يوم 29 من أغسطس واخطرني بان الروس قد بدأوا يسـحبون الفوج. اتصلت بالجنرال أوكينيف فأكد بأنه قد وصلته تعليمات بسحب الفوج وإعادته إلى الاتحاد السوفيتي. اتصلت يوم 30 من أغسطس بالرئيس وأبلغته بقرار السوفيت النهائي بخصوص الفوج فعلق قائلا"مع السـلامة" وهكذا انسحب الفوج. ومعه 18 قطعة شيلكا و 48 ستريلا (سام 7).
الفصل الثالث والعشرون: تحسنت العلاقات.. ولكن الشكوك بين الطرفين ظلت قائمة
رحلة عزيز صدقي إلى موسكو:
تدهورت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي بعد قرار الاستغناء عن المستشارين السـوفيت على الرغم من المظاهر الشكلية التي كان كل طرف يقوم برسمها وفي 4 من اكتوبر طلبت السلطات السوفيتية الإذن لثلاث ناقلات جنود بالتمركز مجددا في بور سعيد التي كانت قد غادرتها منذ شهرين. اتصلت بالرئيس واقترحت عليه ان نوافق حتى يساعد ذلك على تحسين الجو وخلق فرص طيبة لإنجـاح رحلة الدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء إلى موسكو. فقال الرئيس "لا مانع، أن اتفاقية التسهيلات تعتبر سارية المفعول حتى مارس 73، وإذا لم تنجح رحلة عزيز صدقي فسوف أنهي هذه التسهيلات واصدر قرارا بإخراجهم". وفي يوم 5 من اكتوبر دخلت الناقلات الثلاث ميناء بور سعيد فكانت اول ظاهرة عملية على بدء تحسن العلاقات بين الدولتين.
سافر الدكـتور عزيز صدقي إلى موسكو يوم 12 أكتوبر وحققت رحلته نجاحا كـبيرا، ووعده القادة السوفيت بإمداد مصر بأسلحة متقدمة لم يسبق إمدادنا بها قبل ذلك، ويشمل ذلك ما يلي:
- سرب ميج 23 يتم توريده في الربع الثالث من 1973.
- سرب سوخوي 20 يتم توريده في الربع الثالث من 1973.
- لواء صواريخ سطح سطح SSM ذات مدى 300 كيلومتر، ويتم إبلاغنا في أوائل عام 73 عن تواريخ التوريد.
صفقة أسلحة جديدة في مارس 73:
وفي 5 فبراير 73 وصل الى القاهرة وفد عسكري سوفيتي برئاسة الجنرال لاشنكوف LASHENKOV وعادت اللجنة الى موسكو يوم 12 فبراير بعـد ان قامت بدراسة احتياجاتنا. وفي مارس 73 سافر وزير الحربية لتوقيع اتفاقية جديدة شملت الأصناف الرئيسية التالية:
- سرب ميج 23 (يتم إرسال الطيارين المصريين إلى الاتحاد السوفيتي للتدريب خلال شهري مايو و يونيو هذا العام).
- لواء صواريخ R-17-E يتم توريده خلال الربع الثالث (1) من عام 73
- فوج كوادرات.
- 200 عربة قتال مدرعة ب.م.ب (2) يسلم جزء منها فورا لأغراض التدريب ويسلم الباقي خلال الربع الثالث من عام 1973.
- 50 مالوتكا يتم توريدها فورا.
- العديد من قطع مدفعية الميدان بما في ذلك المدافع 180 مم.
اخبرني الفريق احمد اسماعيل بعد عودته من موسكو في رحلة مارس 73 أن الاتحاد السوفيتي وعده بأنه سيعيد تمركز طائرات الميج 25 الأربع وسرب الاستطلاع والإعاقة الإلكتروني في مصر، إلا أنه لم توقع أية اتفاقية مكتوبة بخصوص هذا الموضوع. كانت اتفاقية مارس 73 تتويجا للرحلة التي قام بها الدكتور عزيز صدقي في أكـتوبر72، فقد قام السوفيت بتنفيذ وعودهم للدكتور عزيز صدقي كلها وزادوا عليها، وذلك فيما عدا استبدال سرب السوخوي 20 بفوج كوادرات. كانت الصفقة تشمل ثلاثة أسلحة جديدة لم يسبق إدخالها ضـمن القوات المسلحة هي ميج 23 وصواريخ R-17-E وعربة القتال المدرعة BMP.
وفي يوم 9 من يوليو اتصل بي السيد حافظ اسماعيل مستشـار رئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي وأخطرني بأنه سيقوم برحلة إلى الاتحاد السوفيتي، وسـألني عن الموضوعات التي يمكنه إثارتها مع القيادة السياسية السوفيتية بخصوص القوات المسلحة، فطلبت منه أن يستعجل إرسال الأصناف التالية:
- لواء الصواريخ R-17-E ضمن اتفاقية مارس 73.
- سرب الاستطلاع والإعاقة الإلكتروني.
- 4 طائرة ميج 25.
في يوم 12 من يوليو اتصل بي الجنرال ساماخودسكى. وهو كبير ضبـاط الاتصال بالسفارة السوفيتية، و أخطرني بأن الجنرال سـابكوف SAPKOV ومعه خمسة ضـباط سيصلون صباح اليوم التالي لإجراء الترتيبات اللازمة لاستقبال معدات اللواء R-17-E . وفي خلال8-10 أيام سوف يصل 63 خبيرا سوفيتيا يعود منهم 26 خبيرا بعد تسليم معدات اللواء، ويبقى في مصـر ال 37 الآخرون لتدريب الأفراد المصـريين. وفي يوم 14 اجتمع في مكتبي الجنرال SAPKOV لبحث الخطوط العريضة لتنظيم وتدريب اللواء الجديد. كان علينا ان نتفق أولا على تنظيم اللواء ثم نقرر الأمكنة اللازمة لتمركزه والمغر اللازمة للتحفظ فيها على الصواريخ ثم تدبير الضباط والجنود اللازمين طبقا للتنظيم. وفي خلال 48 ساعة تم وضع التنظيم الخاص باللواء على الورق وبدأت المشكلة الحقيقية وهي التشكيل.
عقدت مؤتمرا موسعا مع جميع الأفرع المختصة في مكتبي يوم 17 من يوليو وأخبرت المجتمعين أن تشكيل هذا اللواء الذي ليس لدينا أي خبرة سابقة به يعتبر تحديا لنا ويجب أن نقبل هذا التحدي، وكان التجاوب رائعا من جميع الحاضرين، وفي خلال أسبوعين كان اللواء قد تم تشكيله، وأصبح جاهزا للتدريب. وبينما كان تشكيل اللواء يجري على قدم وساق كان الخبراء السوفيت يقومون باستلام المعدات وتخزينها في المغـر التي اختيرت لذلك. وفي الأول من أغسطس بدا اللواء تدريبه الفني تحت إشراف الخـبراء السوفيت، وفي يوم 23 من أكتوبر 73- قبل وقف إطلاق النـار ببضع دقائق- احـتفل اللواء بانتهاء تدريبـه بأن أطلق ثلاث قذائف على العدو في منطقـة الدفرسوار. إن تشكيل هذا اللواء في خـلال أسبوعين وإتمام تدريبه في أقل من ثلاثة أشـهر يعتبر مفخـرة لدقة التنظيم وقوة التحدي لدى أبناء مصر.
تحسنت العلاقات.. ولكن الشكوك بين الطرفين ظلت قائمة، صفحه رقم 133
أما سرب الميج 23 الذى نص عليه في اتفاقيـة مارس 73 فهو السلاح الوحـيد الذى لم يشترك في معركـة أكتوبر 73 حيث إنه عند قيام الحرب كان الطيـارون مازالوا قيد التدريب في الاتحاد السوفيتي، أما الأصناف الأخرى جميعها فقد تم استيعابها و إشراكها في الحرب، بما في ذلك عربات القتال المدرعة BMP التي كانت تدخل قواتنا المسلحة لأول مرة فقد تمكنا من تجهيز كتيبتين بهذه المركبات قبل 12 من سبتمبر 73، وانتهينا من تجهيز ثلاث كتائب أخرى قبل اول أكتوبر 73.
إخفاء نوايانا عن السوفيت:
كـان تخطيطنا وتحـضـيرنا للهـجـوم يتمان في سـرية تامـة دون أي إخطار للاتحـاد السوفيتي. وقبل المعركة بأسبوع أمر الرئيس السادات بأن نقوم أخطار الجانب العسكري السوفيتي باحتمال قيام العمليات ولكن بشكل عام لا يبدو منه نيتنا بالهجوم. وهكذا كلف مدير المخابرات الحربية بأن يقوم بإبلاغ الجنرال ساماخودسكى (3) يوم 2 من اكتوبر بأنه قد وصلتنا معلومات تفيد بان إسرائيل سوف تقوم بعملية إغارة على الأراضي المصرية ولكننا لم نعلم متى وأين ستكون هذه الإغارة ثم يطلب إليه ان يحاول الاتحاد السوفيتي التحقق من هذه المعلومات وفي اليومين الثالث والرابع من اكتوبر يقوم بتصعيد هذه الأخبار فيقول له ان لدينا معلومات مؤكدة بان إسرائيل ستقوم بعملية إغارة واسعة النطاق، وقد تقوم خلالها بضربة جوية مركزه وهكذا سارت الأمور كما هو مخطط لها على الرغم من مظاهر الاستعدادات للهجوم، والتي ما من شك قد أثارت اهتمام الخـبراء السوفيت الذين كانوا مازالوا يعملون في مصر، وبعضهم كان يعيش داخل بعض وحداتنا العسكرية.
لابد ان الخبراء السوفيت قد قاموا بإخطار قياداتهم بالاستعدادات غير العادية التى يرونها تتم داخل الوحدات، ولاشك ان الاتحاد السوفيتي قد أكدت له أقماره الصناعية بأن هناك استعدادات غير عادية تتم على الجبهتين المصرية والسورية مما يؤكـد تقارير الخبراء من رجاله. كما انه من المحتمل ان يكون الرئيس السادات او الرئيس حافظ الأسد قد قام بإخطار القيادة السوفيتية بأننا سنقوم بالهجوم. (4) ان تصرف الاتحاد السوفيتي ليلة 4/5 أكتوبر توحي بأنه كان يعلم او- على الأقل- يحس ويشك بأن الحرب وشيكة الوقوع. ففي خـلال هذه الليلة أرسل 4 طائرات نقل كبيرة لإجـلاء معظم الخبراء الذين كانوا مازالوا يعملون في مصر، وقبل منتصف نهار الجمعة 5 اكتوبر كان قد أجلى جميع من يريد إجلاءهم من الخبراء والعائلات لماذا اقدم الاتحاد السوفيتي على هذه الخطوة ؟ ان القول بأنه أراد ان يغسل يديه مسبقا من أية مسئولية تترتب على هذه الحرب قول غير مقنع لعدة أسباب: أولا ان الإجلاء لم يكن شاملا فقد بقى عدد ليس بالقليل من الخبراء السوفيت دون إجلاء.
ومنهم خبراء R-17-E ولو أن الاتحاد السوفيتي سحب خبراء R-17-E ليلة 4/5 أكتوبر لما استطاع اللواء ان يتم تدريبه ويطلق قذائفه يوم 22 اكتوبر كما حدث ثانيا أن ارتباط الاتحاد السوفيتي بالحرب ونتائجها هو حقيقة تفرضها الاستراتيجية العالمية، وسواء تواجد بافراد ام لا فإنه بالتأكيد يتأثر بنتيجة المعركة ان نصرا أو هزيمة سواء أعلن عن ذلك أم لم يعلن. وثالثا لماذا يسحب الاتحاد السوفيتي خبراءه من مصر ولا يسحبهم من سوريا؟ إني اعتقد أن هناك أسبابا أخرى وراء أقدام الاتحاد السوفيتي على إرسال 4 طائرات نقل من طراز انتنوف 22 ليلة4/5 أكتوبر 73 !
وكما أخفينا عن الروس نوايانا في الهجوم، فقد أخفينا عنهم المعلومات التفصيلية كلها خـلال سير العمليات لم نكن نخطرهم مطلقا بما ننوي عمله في الأيام المقبلة، ولم نكن نخطرهم بنتائج المعارك الماضية. لم يكن يسمح للجنرال ساماخودسكى بدخول غرفة العمليات وقد كان يحصل على المعلومات من خـلال أحد ضباط المخابرات بحيث لا تزيد المعلومات التى تسلم إليه على المعلومات التي تصدر في البيانات الرسمية. وفي خلال الفترة من 16-22 اكتوبر عندما كان موقف العدو غرب القناة يتطور يوما بعد يوم، كانت بياناتنا الى الجنرال ساماخودسكى دائما مضللة ولا تعطي صورة حقيقية للموقف كان هذا خطأ جسيما وعملا معيبا، كان الأسلوب الذى نتعامل به مع السوفيت بصفته حليفنا الرئيسي يختلف اختلافا كبيرا عن الأسلوب الذي تتعامل به إسرائيل مع حليفتها أمريكا. يقول الجنرال اليعازر -رئيس أركان حرب القوات المسلحة الإسرائيلية خلال حرب اكتوبر 73- في مذكراته انه بمجرد اندلاع الحرب أجرى الاتصال المباشر مع وزارة الدفاع الأمريكية واخذوا يطلعونهم على خططهم ويطلبون نصيحتهم وحرصوا ان يظل هذا الاتصـال مباشرا طوال مدة الحرب لاشك ان هذا التعاون الإسرائيلي الأمريكي على مستوى القيـادات العسكرية العليا هو الأسلوب الصحيح للتعاون بين الحلفاء إذ كيف يستطيع الحليف ان يقدم العون الى حليفه أن لم يكن يعرف حقيقة موقفه؟ ومع ذلك- و للاسف الشديد- فقد كانت تعليمات الرئيس السادات تقضي بالا يعرف حلفاؤنا السوفيت اكثر مما يعلن في الصحف والبيانات الرسمية.
وكما كان الاتصال مقطوعا بين القيادتين العسكريتين فقد كـان التعاون بين القيادتين السياسيتين في مصر والاتحاد السوفيتي يكاد يكون معدوما. لقد رفض السادات جميع العروض التى تقدم بها السوفيت لوقف إطلاق النار. ان السـادات يقول انه رفض طلبـات الروس المتكررة لوقف إطلاق النار وقال لهم انه لن يوافق علـى وقف إطلاق النار إلا بعد إتمام المهام التى تتضمنها الخطة.
والذي لم يقله السـادات هو أن الاتحاد السوفيتي- كحليف مشترك معنا في المشكـلة-أرسل سفيره إليه يوم 9 من أكتوبر يستفسر عن الهدف العسكري الذي تعمل القوات المسلحة المصرية على تحقيقه. فماذا قال السادات؟ نظر الى السفير وقال "انك تتكلم مع القائد الأعلى للقوات المسلحـة.. ان سؤالك هذا سؤال سياسي لا يوجه الى القائد الأعلى ولذلك فسـأعتبر نفسي وكأني لم اسمع هذا السؤال الذي وجهته. إذا كان لديك سؤال سياسي فيمكنك ان تذهب إلى الدكتور محمود فوزي وتوجهه إليه !!؟" (5).
هل يمكن أن يكون هناك تعاون بين القيادتين السياسيتين المصرية والسوفيتية إذا كانت القيادة السـياسية السوفيتية لا تعرف ماذا تريد القيادة السياسية المصرية؟؟ ما الذي كان يقصـده السادات عندما طلب من السفير الروسي أن يتصل بـالدكتور محمود فوزي فيما يتعلق بالشئون السـياسية ؟ هل بلغ استهزاء السادات بعقول الناس هذا الحد. وهل يستطيع الدكتور محمود فوزي الإجابة حقا عن هذا السؤال ؟ وبعد انتهاء الحرب وفك الاشتباك الثاني في سبتمبر 1975، تكلم السادات ولأول مرة بان هدف القوات المسلحة من حرب أكتوبر 73 كان هو"احتلال شريحة من الأرض بعمق حوالي 10 كيلومترات شرق القناة".
لماذا إذن أمرت يا سادات بتطوير الهجوم نحو الشرق يوم 14 من أكتوبر على الرغم من معارضـة القادة جميعهم. ولماذا إذن رفضت يا سادات وقف إطلاق النار وقد حـققت القوات المسلحة هذا الهدف اعتبارا من يوم 7 أكتوبر ونجحنا في صـد الهجمات المضـادة جميعها خلال يومي 8 و 9 من أكتوبر؟ هناك أسئلة كثيرة يجب ان يجيب عنها السادات إذا كان هذا هو هدف القوات المسلحة، فلمـاذا إذن اخذ يضلل القيادة السيـاسيـة السوفيتيـة ويرفض نصائـحها عندما كانت قواتنا المسلحة في وضـع ممتاز؟ وبعد أن حـدثت الثغرة لماذا يقلل السادات من أهميتها ويرفض الحلول العملية للقضـاء عليها ثم يطلب وقف إطلاق النار وهو في موقف ضعف ويأمر قواته بعدم اتخاذ أي إجـراء مسبق لمنع محاصـرة الجيش الثالث؟ إنها جريمة كبرى يجب الا تترك دون تحقيق نزيه حتى يمكننا معرفة هذه الأمور الغامضة.
 
الفصل الحادي والعشرون: تقييم المساعدات العسكرية السوفيتية
حجم الأسلحة السوفيتية:
ليس من الصواب ان نقلل من أهمية المساعدات السوفيتية العسكرية لمصر من ناحية الكم والكيف، حيث ان الأرقام وحدها كفيلة بإثبات خطأ هذا الادعاء. لقد ذكرت في هذا الباب ما حصلت عليه مصر في الفترة من اكتوبر 71 الى اكتوبر 73 (أنظر اتفاقيات اكتوبر 71 ومايو 72 ومارس 73) من الأصناف الرئيسية. قد يطول الموقف لو أننا استعرضنا ما حصلت عليه مصر من الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية منذ ان كسر جمال عبد الناصر احتكار السلاح عام 1955، ولكننا سنكتفي بذكر حجم الأسلحة التي كانت تحت تصرف مصر قبل اكتوبر 73 متناسين ما خسرته مصر في حربين سابقتين هما حرب عام 1956 وحرب عام 1967. لقد كان حجم القوات المسلحة المصرية صباح يوم 6 اكتوبر 73 كما يلي:
القوات البرية:
19 لواء مشاة راكب (عربات ذات العمل).
8 ألوية مشاة ميكانيكية (عربات جنزير).
10ألوية مدرعة.
3 ألوية جنود الجو.
لواء برمائي.
لواء صواريخ ارض ارض R-17-E
وكان مع هذه القوات حوالي 1700 دبابة، 2000 عربة مدرعة. 2500 مدفع وهاون، 700 قاذف صاروخي موجه، 1900 مدفع مضاد للدبابات، 5000 رب.ج RPG عدة آلاف من القنبلة اليدوية المضادة للدبابات رب ج 43.
القوات الجوية:
305 طائرات قتال (إذا أضيفت إليها الطائرات المخصصة للتدريب فإن العدد يرتفع الى ما يزيد على 400 طائرة).
70 طائرة نقل.
140 طائرة هيليوكوبتر.

قوات الدفاع الجوي:
150 كتيبة صواريخ SAM.
2500 مدفع مضاد للطائرات من عيار 20 مللمتر فما فوق.
القوات البحرية:
12 غواصة.
5 مدمرات.
3 فرقاطات.
12 قناصا.
17 قارب صواريخ.
30 قارب طوربيد.
14 كاسحة الغام.
14 قارب إنزال.
ان حجم السلاح الذى كان تحت يدنا قبل حرب اكتوبر كان يفوق ما لدى الكثير من دول حلف وارسو وحلف الناتو، وقد يدهش الكثيرون اذا علموا ان قواتنا البرية واكـرر البرية وليس الجوية او البحرية- كانت تتفوق على القوات البرية في كل من بريطانيا وفرنسا!
ولكن يجب ألا ننسى أيضا ان أمريكا كانت تمد إسرائيل بأسلحة متقدمة وبكميات وفيرة حتى جـعلت منها ترسانة من الأسلحة. كانت سياسة أمريكا- وما تزال- هي ان تضمن لإسرائيل التفوق على جيرانها مجتمعين. لقد كانت القوات الجوية الإسرائيلية مـتفوقة تفوقا كبيرا على القوات الجوية المصرية والسورية مجتمعتين ولقد لعب التفوق الجوي الإسرائيلي دورا كبيرا وفعالا في إسكات واحتواء قواتنا البرية والبحرية. وإذا أخذنا المعونة السوفيتية لمصر والمعونة الأمريكية لإسرائيل كأساس للمفاضلة في مدى صداقة كل منهما لحليفه كان واضحا ان صداقة أمريكا لإسرائيل كانت أقوى بكثير من صداقة روسيا لمصر. ان هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن ذلك قد يثير لنا سؤالا اخر وهو هل هناك دولة أخرى في العالم اجمع تستطع ان تعطى السلاح لمصر بالكم والكيف وأسلوب الدفع الذي كان يقدمه الاتحاد السوفيتي؟ أعتقد أن الإجابة هي لا. وان هذه الإجابة أيضا هي بديهية ولا يختلف فيها اثنان. ومن هنا فإنه يمكن القول بأمانة "ان الاتحاد السوفيتي لم يكن الصديق المثالي ولكنه كان افضل صديق في الساحة العالمية".
لقد ذكرنا حجم الأسلحة السوفيتية التي كانت في أيدي أبناء مصر قبل حرب اكتوبر 73، أما إذا حاولنا حصر الأسلحة التي قام الاتحاد السوفيتي بإمداد الدول الغربية بها خلال الثماني عشرة سنة التى سبقت هذه الحرب فسوف نجد أرقاما تكـاد تكون خرافية (حوالي 7000 دبابة، حوالي 1800 طائرة حوالي 18000 ألف مدفع من مختلف الأعيرة حوالي 150 قطعة بحرية، واكـثر من مليوني قطعة سلاح صغيرة من بنادق ورشاشات و ر.ب.ج. الخ) . وإن هذا الحجم من السلاح يوضح لنا مدى قدرة الاتحـاد السوفيتي كدولة عظمى على التأثير في الأحداث في منطقة الشرق الأوسط.
الإمدادات السوفيتية أثناء حرب أكتوبر 73:
وفي خلال الحرب قام الاتحاد السوفيتي بإقامة اكبر جسر جوي في تاريخه الحربي إلى كل من مصر وسوريا. لقد قام بتنفيذ 900 رحلة بواسطة طائرات انتنوف 12 وانتنوف 22 (1) نقل خلالها 15000 طن من المعدات الحربية. فإذا علمنا أن هذا الكوبري الجوي لم يكن مخططا له، وانه قد بدئ به بعد ثلاثة ايام من بدء الحرب، اتضحـت لنا المشكلات والثغرات التي يمكن ان تظهر نتيجة لهذه الظروف. وعلى سبيل المثال فقد كانت معدلات الاستهلاك خـلال حرب اكتوبر مختلفة تماماً عن معدلات استهلاك الحروب السابقة والتي بنى على أساسها حجم وأوزان الأصنـاف التى ترسل بواسطة الكوبري الجوي، فهناك أصناف من الذخيرة كـان استهلاكنا منها أقل بكثير من مما قدرناه وفي الوقت نفسه كان استهلاكنا من بعض الأصناف الأخرى اكثـر بكثير مما قدرناه وكان علينا ان نسرع بإخطارالاتحاد السوفيتي بهذه المعلومات لكي يجري التعديلات اللازمة في النقل الجوي حتى تتمشى مع احتياجاتنا الفعلية، ولكن هذا لم يمنع أن تصل احيانا بعض الأصناف التي لا نحتاج إليها فى حين كنا نعاني النقص فى صنف أخر. ومع ذلك فإن هذه الأخطاء لا يمكن ان تقلل من تقديرنا للكفاءة والسرعة اللتين تم بهما هذا الكوبري الجوي. إن هذا الكوبري يعتبر مفخرة للاتحاد السوفيتي من حيث الحجم والسرعة في التخطيط والتنفيذ، ومفخرة لسوريا ومصر من حيث السرعة في التفريغ والفرز والدفع الى الجبهة بالنسبة لهذا الحجم الكبير من الإمدادات.
لاشك ان هذا الكوبري الجوي السوفيتي يعتبر متواضعا اذا قورن بالكوبري الجوي الأمريكي إلى إسرائيل. لقد نقل الأمريكيون خلال 566 رحلة 22395 طنا من الإمدادات مستخدمين الطائرات سى 5 ،سى 141 (2) وقد قامت شركة العال الإسرائيلية بنقل 5500 طن أخرى وبذلك أصبح أجمالي الجسر الجوي إلى إسرائيل هو 27895 طنا (3).
فإذا أدخلنا في حسابنا أن المسافة من أمريكا الى إسرائيل هي 7000 ميل والمسافة من الاتحـاد السوفيتي إلى مصر وسوريا هي 2000 ميل اتضح لنا ان الكوبري الجوي الأمريكي الإسرائيلي يساوي 6,5 مرة الكوبري الجوي السوفيتي على أساس وحدة الطن/ ميل وذلك طبقا لما يلي:
كوبري شركة العال: 5500 طن× 7000 ميل= 38500000 طن ميل.
الكوبري الجوي الأمريكي: 22395 طن × 0 0 0 7 ميل= 0 0 0 156765 طن ميل.
الإجمالي الأمريكي الإسرائيلي: 27895 طن ×0 0 0 7 ميل= 0 0 0 195265 طن ميل.
الكوبري الجوي السوفيتي: 15000 طن × 2000 ميل= 30000000 طن ميل.
النسبة على أساس طن ميل: 0 0 0 195265- 30000000= 6,5 مرة.
كان الكوبري الجوي الأمريكي يشمل طائرات الفانتوم وطائرات الهليوكوبتر 53 CH53. الدبابات M60 واحدث أنواع المعدات الخاصة بالحرب الإلكترونية (4) اما الكوبري الجوي السوفيتي فقد شمل الدبابات (للجبهة السورية فقط)، وسائل الدفاع الجوي والذخائر. وقد ارسل أكثر من نصف الكوبري الجوي إلى الجبهة السورية.
وعلاوة على الكوبري الجوي فقد قام السوفيت أيضا بعملية نقل بحري واسعة النطاق بلغت- حتى وقت وقف إطلاق النار- 63000 طن. وقد وجه مجهود النقل البحري الرئيسي إلى الجبهة السورية. (5)
نشاط الأسطول السوفيتي في البحر الأبيض:
اما الأسطول السوفيتي في البحر الأبيض فقد اخذ يزداد بأقصى سـرعة تسـمح بها معاهدة مونترو 1936 والتي تحدد عدد القطع الحربية التي تعبر المضـائق في وقت واحد كما تتطلب إخطار تركيا قبل عبور أية قطعة بحرية بثمانية ايام على الأقل. وهكذا عندما بدأت الحرب كان للسوفيت في البحر الأبيض 20 قطعة قتال بحرية. وبنهاية شـهر اكتوبر وصل هذا العدد الى 40 سفينة قتال بينما وصل إجمالي السفن عموما إلى 85 سفينة.
الإنذار السوفيتي:
وبالإضافة إلى المساعدات التي قدمها الاتحاد السوفيتي إلى مصر فقد وقف يوم 23 أكتوبر موقفا حازما كان له اثر واضح في كبح جماح إسرائيل وإرغامها على احترام وقف إطلاق النار (6). كانت إسرائيل قد تجاهلت قرار وقف إطلاق النار الذي كانت قد قبلته مساء يوم 22 اكتوبر واستأنفت عمليـاتها صباح يوم 23 أكتوبر و أكملت حصار الجـيش الثالث الميداني. كان هجوم إسرائيل يوم 23 أكتوبر يتم بتنسيق تام مع كيسنجر الذي اغمض عينيه عما تقوم به إسرائيل بهدف الوصول إلى موقف معـين يمكن منه فرض شروط الصلح على مصـر.
أما الاتحـاد السوفيتي فقد اتخذ موقفا يختلف تماما عن الموقف الأمريكي. فعلى الصعيد العسكري قام برفع درجة الاستعداد لعدد 6 فرق جنود جـو قوامها 43000 رجل وأخذت طائرات النقل تتجمع لنقل هذه القوة في مناطق تحشدها. وعلى الصعيد السياسي قام الرئيس بريجنيف يوم 24 أكتوبر بإرسال كتاب إلى الرئيس نيكسون قال فيه: "سأقولها بصراحة: إذا لم يكن في استطاعتكم ان تعملوا معنا في هذا المجال فسوف نجد أنفسنا أمام موقف يضطرنا إلى اتخـاذ الخطوات التى نراها ضرورية وعاجلة. إن إسـرائيل لا يمكن أن يسمح لها بالاستمرار في تجاهل وقف إطلاق النار".
كـان العالم كله يقف على شـفـا الحرب يوم 24 أكتوبر. فقد ردت أمريكا على الإنذار السوفيتي بأن رفعت درجة استعداد جميع القوات المسلحة الأمريكية في جميع أنحاء العالم. وقد أثار هذا القرار الأمريكي غضب وقلق حلفاء أمريكا اكثر مما أثار قلق الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية. لقد شعر أعضاء حلف الناتو أن أمريكا تعرض السلم العالمي للخطر لكي تحقق بعض المصالح الإقليمية لإسرائيل، وفي سبيل ذلك فإنها مستعدة للتضحية بمصالح حلفائها الغربيين فى حلف الناتو. لقد احدث رفع درجة استعداد الوحدات النووية الأمريكية فى دول حلف الناتو دون أخطار هذه الدول، جرحا غائرا فى العلاقات الأمريكية-الأوربية احتاج إلى عام كامل لكي يلتئم. وبينما كانت أمريكا تتخذ هذا الموقف المتشدد فى مواجهة الإنذار السوفيتي، فإن الإنذار السوفيتي أقنعها بان العدوان الإسرائيلي قد تجاوز الخط الأحمر الذي قد لا يستطيع الاتحاد السوفيتي ان يتحمله، ومن هنا بدأت أمريكا فى ممارسة الضغط الحقيقي على إسرائيل واضطرتها الى قبول وقف إطلاق النار.
السادات وادعاءاته الباطلة:
من مساوئ السادات انه اذا غضب على صديق فإنه لا ينسى فضـائل هذا الصديق كلها فحسب، بل أنه يحاول أن يبدل حسناته بسيئات يبتكرها من عنده. وكما يطبق السادات تلك المبادئ في علاقاته مع الأفراد فإنه يطبقها أيضا في علاقاته مع الدول. فإذا رجعنا إلى خطبه في الأعوام 71 و 72 و 73 وجدناه يكيل المديح الى الاتحاد السوفيتي ولكنه انقلب عليه اعتبارا من عام 74. وهو حر في أن يمدح من يشاء ويهجو من يشاء ولكن ذلك لا يعطيه الحق في ان يزور التاريخ من اجل نواته، يقول السادات أن مصر صنعت 60% من الكباري والمعديات التي استخدمتها قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس كان ال 40% الباقية هي التي أمدنا بها الاتحاد السوفيتي وهي كباري قديمة من ايام الحرب العالمية الثانية. (7)
وإن الأمانة التاريخية تفرض على ان أعطي الأرقام الحقيقية لوسائل العبور. قبل أكتوبر 73 كان لدينا 12 كوبري ثقيل (8) كان اثنان منهما فقط من اصل غرب من طراز بيلى. اما العشرة الأخرى فهي سوفيتية الصنع منها 3 من نوع PMP و 7 من نوع TPP وان نوع TPP ولو إنه اقل كفاءة من PMP ،كان افضل بكثير من نوع البيلى
لقد قمنا فعلا بتصنيع خمسة كباري هيكلية بهدف اجتذاب قصف العدو الجوي وبذلك نخفف هجوم العدو الجوي على الكباري الرئيسية ولكي نبعث الحـياة في هذه الكباري جعلناها قادرة على تحمل عبور مركبات لا يزيد وزنها الإجمالي على 4 اطنان، واستخدمنا عددا من عربات الجيب لكي تعبر عليها ولكننا لم ندخلها قط ضمن حساباتنا في عملية العبور. وفي خـلال حرب اكتوبر قام السوفيت بإمدادنا بكوبري PMP،أخر ضمن الكوبري الجوي الذي أقامه الاتحاد السوفيتي بعد إقامة الحرب بثلاثة أيام. إننا فخورون بما استطعنا تصنيعه محليا لإكمال بعض القصور في وسائل العبور ولكن هذا الفخر يجب الا يتحول الى غرور كاذب أن الشعور بالعزة صفة حميدة اما الادعاء بالباطل فهو صفة مرذولة. ان 90% من دباباتنا وعرباتنا قد عبرت على كبارى ومعديات سوفيتية الصنع وهذه حقيقة لا تقلل من شأننا حيث إننا نحن الذين عبرنا فوقها. لقد استخدمنا مضخات مياه إنجليزية وألمانية الصنع في فتح الثغرات في الساتر الترابي، فهل يذهب فخر هذا العمل الذى قمنا به الى من صنعوا هذه المضخات ام إلى من استخدموها؟ انه لا يضيرنا مطلقا ان نعترف بان الكباري كانت سوفيتية وان المضخات كانت إنجليزية وألمانية. إننا نحن أبناء مصر الذين خططنا وعبرنا وانتصرنا.
لقد كذب السادات أيضا عندما ادعى ان الاتحـاد السوفيتي لم يكن يمدنا قط بأية صور جوية من تلك التى يلتقطها بواسطة طائراته الميج 25 أو أقماره الصناعية. لقد كان الاتحاد السوفيتي يمدنا بمثل هذه الصور وان لم يكن ذلك بصفة دورية منتظمة. كانت صور الأقمار الصناعية تصل من موسكو برفقة ضابط خاص لكي تعرض علينا ونأخذ منها ما نحتاج إليه شريطة الا نعيد تصويرها، وقد عرضت هذه الصور على السادات مرتين- على الأقل- قبل الحرب وعندما حضر كوسيجين الى القاهرة خلال الحرب في الفترة من 16- 19 اكتوبر عرض على الرئيس شخصيا صورا تؤكد حجم الاختراق الإسرائيلي غرب القناة وبعد وقف إطلاق النار في 24 أكتوبر 73 كانت صور الأقمار السوفيتية هي المصدر الرئيسي للمعلومات عن العدو.
الأخطاء السوفيتية:
إن المساعدات العسكرية الضخمة التي قدمها الاتحاد السوفيتي الى مصر لا تعني ان السوفيت ملائكة وانهم دون أخطاء لقد كانت لهم أخطاء وكنا نختلف معهم في كثير من الأحيان وسوف اركز هنا على مشكلتين رئيسيتين بصفتهما أساس المشكلات الأخرى كلها. المشكلة الأولى هي القيود المفروضة على السلاح والمشكلة الأخرى هي الأخلاق والطبـاع السوفيتية.
السلاح السوفيتي:
كان السوفيت هم الذين يحددون حجم ونوعية وتاريخ التوريد بالنسبة للسلاح الذي يتم توريده الى مصر. لقد كان المفاوض المصري يستطيع ان يطلب ويناور ويحاول إقناع الجانب السوفيتي بحجم ونوعية السلاح الذي نطلبه. وقد ينجح احيانا ولكن نجاحه يتوقف على درجة استعداد الجانب السوفيتي لقبول وجهة النظر المصرية. كان الجانب السوفيتي هو صاحب الكلمة الأخيرة في القبول أو الرفض.
كان هذا الموضوع يمكن ان يكون مجال حديث طويل ولكننا نود ان نلفت النظر الى الحقائق التالية:
1- أن سياسة الاتحاد السوفيتي في تأييده للدول العربية واضحة تماما، وهي مبنية على أساس مساعدة الدول العربية في استعادة أراضيها التي أحتلت بعد عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية. وهو لا يوافق مطلقا على تدمير دولة إسرائيل. وعن طريق سيطرته على الإمداد بالسلاح فإنه يستطيع ان يؤثر على سير الأحداث بحيث لا تخرج عن المسار الذي رسمه.
2- ان الصراع العربي الإسرائيلي ليس مجرد مشكلة محلية إقليمية. إنها تدخل ضمن الاستراتيجية العالمية وتوازن القوى بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. وقد وقف العالم على شفا الحـرب مرتين بسبب هذا الصراع. كانت الأولى عام 1956 عندمـا ارسل السوفيت إنذارهم الشهير الى كل من بريطانيا وفرنسا لوقف اعتدائهما على مصر. وكانت الأخيرة يوم 24 اكتوبر 73 عندما ارسل السوفيت إنذارهم الى أمريكا للضغط على إسرائيل وإرغامها على احترام وقف إطلاق النار. أضف الى ذلك الكـتاب العنيف الذي أرسله كوسيجين الى الحكومة الأمريكية في يناير 70 لكي توقف إسرائيل غاراتها على العمق المصري. وهكذا نجد ان الاتحاد السوفيتي هو عضو أساسي في المشكلة. ومن هنا فإنه يعتقد ان من حقه ان يسيطر على سير الأحداث في المنطقة.
3- إن الاتحاد السوفيتي دولة غير غنية اذا ما قورنت بالولايات المتحدة وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يغدق العطاء على مصر بالقدر نفسه الذي تغدق به أمريكا على إسرائيل. ان أمريكا كانت تغدق على إسرائيل قبل عام 1973 بما يوازى 1500 مليون دولار سنويا وقد رفعت هذا المبلغ بعد 73 الى ما يوازى 3000 مليون دولار سنويا، وكانت هذه المبالغ تفوق بكثير طاقة الاتحاد السوفيتي في التبرع وطاقة مصر في الدفع كـثمن للسلاح الذي تريده.
4- إن الأسلحة الحديثة هي أجهزة بالغة التعقيد ويحتاج استيعابها الى مستويات ثقافية عالية والى وقت طويل. وعلى الرغم من ان مصر كانت تعمل بأقصى طاقتها منذ عام67 لرفع كفاءة قواتها المسلحة، إلا إنها كانت تجد صـعوبة كبيرة فى استيعاب الأسلحة الحديثة كلها التى تقدم لها. وقد اضطرها هذا الموقف إلى الاستعانة بافراد سوفيت لتشغيل بعض هذه المعدات كما حدث عام 1970 حيث اشترك ما يزيد على 6000 فرد روسي فى تشغيل معدات فنية معقدة لا تتوافر الأيدي المصرية لتشغيلها. وقد كانت هذه الصورة ظاهرة بشكل واضح فى القوات الجوية وفى وحدات الحرب الإلكترونية. وبعد إنهاء خدمة الوحدات السوفيتية كـان عدد طائرات الميـج 21 التي لدينا يفوق عدد الطيارين الذين يستطيعون قيادتها.
5- هناك حقيـقة أخرى وهي تخلف التكنولوجيا السـوفيتية عن التكنولوجيـا الأمريكية في مجـال الأسلحة التقليدية بصفة عامة وفي مجال الطيران بصفة خـاصة. في أوائل الستينيات كانت أمريكا تسبق الاتحـاد السوفيتي بحوالي جيل كامل. (9) وقد أخذت هذه الفجوة تضيق حتى أغلقت في أوائل السبعينيات. وحيث إن سياسـة الاتحاد السوفيتي هى الا يعطى أفضل ما عنده لأية دولة أجنبية رغبـة منه في المحافظة على أسرار أسلحـته. فإن أفضل أصـدقائه لا يمكن أن يطمح لأكـثر من الرقم الثاني في أفضلية السلاح، وقد يحصل الأصدقاء العاديون على الرقم الثـالث او الرابع تبعا لقوة صداقتهم مع الاتحاد السوفيتي. اما أمريكا فإنها تعطي أفضل مـا عندها من سلاح إلى إسرائيل، إذ ان الأسلحة الحـديثة تدخل في خدمة القوات المسلحة الإسرائيلية والقوات المسلحة الأمريكية في وقت واحـد. وتطبيقا لهذه المبادئ فقد كانت الأسلحة المتـاحة لإسرائيل خلال الستينيات تتقدم جيلين عما هو متيسر في أيدي العرب، وقد ضاقت هذه الفجوة لتصبح جيـلا واحدا خلال السبعينيات وإذا أستـمر تقدم التكنولوجيا السوفيتية بهذا المعدل فمن المحـتمل ان تتسـاوى الأسلحـة التى بين أيدي العرب وإسرائيل في الثمانينيات.
الخشونة في المعاملة:
كانت الأخلاق والطبائع الروسية مثار كثير من الخلافات. كانت أحاديثهم فيها خشونة وغلظة. وكانوا أحيانا يوجهون انتقاداتهم بشكل مثير. مثال ذلك " إنكم تطلبون من الاتحاد السوفيتي ان يمدكم بالأسلحـة وتلوموننا اذا تأخرنا في توريد هذه الأسلحة، علمـا بأن الاتحاد السوفيتي يتحمل نصف ثمنها ويمدكم بقرض لتمويل النصف الثاني، ومع ذلك فانتم لا تعبئون مواردكم كلها للحرب كما تفعل الدول التى في حالة حرب وكـما فعلنا نحن خلال الحرب الوطنية الكبرى (10) ان من يسر في شوارع القاهرة لا يمكن ان يشعر بأن مصر في حالة حرب. إن الشوارع مليئة بالعربات الفاخرة والحوانيت مليئة بالبضائع وبالذهب والجواهر". كانت هذه الآراء وغيرها يتبادلها المستشارون والخبراء السوفيت الذين يتواجدون في الوحدات مع نظرائهم المصريين كانت هذه الآراء السوفيتية تجـد تجاوبا وقبولا لدى بعض الأفراد ولكنها كانت تسبب إزعاجا كبيرا للقيادة السياسية لأنها كانت تعتبرها حضا على انتقاد السلطة وتشجيعا لانتشار الشيوعية في مصر.
وفي حالات أخرى كانوا يعرضون رأيهم وكأنه هو الراي الوحيد الصحيح وليس مجرد راى يقبل المناقشة والجـدل. وقد مررت أنا شخصيا بعدد من مثل هذه الحـالات ولكنى سأقص قصة واحدة كان بطلها هو الجنرال لاشنكوف LASHNEKOV خلال زيارته لمصر في نوفمبر 1973. لقد كان الجنرال لاشنكوف يعمل كبيرا للمستشارين السوفيت في مصر خلال عامي 68-69 وخلال هذه الفترة لم يكن بيني وبينه أي اتصـال مباشر. كنت في خلال هذه الفترة اشغل منصب قائد القوات الخاصة وكنت التقى به احيانا في أحد المشاريع التدريبية او البيانات
العملية ونتبادل التحية وبعض الكلمات وبعدما توليت منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) في مايو 71 شاهدت الجنرال لاشكنوف مرتين، مرة عندما كان مرافقا للمارشال جريشكو في إحدى زياراته والأخرى عندما حضر الجنرال لاشنكوف رئيسا للجنة عسكرية سوفيتية خلال شهر فبراير 73. وفي النصف الثاني من شهر نوفمبر 73 حضر على راس وفد لدراسة الموقف فكان هذا هو لقاؤنا الثالث وأنا اشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م.
في يوم 19 من نوفمبر كان هناك اجتماع مصغر في غرفة العمليـات في المركز 10 (مركز عمليـات القوات المسلحة المصرية)، وقد حضر هذا الاجتماع الوزير وأنا واللواء سعد مأمون وحضر معنا الجنرال لاشنكوف. عندما تكلمت عن خبرتنا في الدفاع ضد الدبابات, أثنيت على المالوتكا وعلى ر.ب. ج 7 ولكني انتقدت المدافع عديمة الارتداد ب 10، ب 11 (11) لأنها ثقيلة وصعبة التداول بواسطة أفراد المشاة المترجلين. حيث ان المدى المؤثر لهذه المدافع هو 600- 800 متر ومخصصـة أساسا لكي تغطى الأرض الميتة للمقذوفات الموجـهة المضادة للدبابات (مالوتكا) (12) والتي تصل الى 500 متر. وهنا اقترحت ما يلي "لو أن العلماء السوفيت استطاعوا ان يطوروا المالوتكا بحيث تصبح الأرض الميتة 300 متر فقط أو طوروا ر.ب.ج بحيث يصبح مداه المؤثر 600 متر مثلا لأصبح في استطاعتنا الاستغناء عن المدفعين ب 10 وب 11، وان يكون اساس الدفاع المضاد للدبابات لوحدات المشـاة هو المقذوفات المضادة للدبابات الموجهة (المالوتكا أوأي جيل يظهر بعد ذلك) والقاذف الصاروخي ر.ب. ج 7" كنت اعتقد أنني بهذه الأفكار أؤدي خدمة الى الأصدقاء الذين أعطونا السلاح. فهم صنعوا هذا السلاح ولكنهم لم يقاتلوا به، اما نحن فقد كنا اول من استخدم هذه الأسلحة ضـد عدو حسن التنظيم والتجهيز. ولكني فوجئت بالجنرال لاشنكوف يقول "إن السلاح الروسي هو افضل سلاح في العالم. وان العلماء الروس يحسبون كل شىء ولا اعتقد انهم في انتظار سماع هذه الأفكار". كان ردى عليه فوريا وبروح التحدي نفسها وقلت له "أولا أنا لم اقل أن السلاح الروسى رديء، لقد حاربنا وعبرنا وانتصرنا بالسلاح الروسي وإنما أقول عن خبرة قتال لكي نعمل على تحسين مواصفات بعض هذه الأسلحة. لقد صنعتم انتم هذه الأسلحة ولكنكم لم تقاتلوا، بها اما نحن فقد قاتلنا بهذه الأسلحة واكتسبنا نتيجة ذلك خبرات قتالية. وإذا كنتم تعرفون كل شيء، فلماذا حضرتم لتسألونا عن تلك الخـبرة القتالية التى اكـتسبناها في هذه الحرب، وهنا أسرع الفريق احمد إسماعيل بالتدخل لتلطيف الجو و إعطاء تفسيرات هادئة لما قال الجنرال لاشكنوف وما قلته أنا، وقبل ان ننتقل الى موضوع آخر.
وعندما جاء دور الجنرال لاشنكوف في التعليق على سير العمليات وبدا يتكلم عن دور القوات الجوية المصرية قال "ان مصر لم تستخدم قواتها الجوية بأسلوب جيد كما فعلت سوريا. كان عدد الطلعات التى قامت بها القوات الجوية المصرية خلال فترة القتال تعتبر قليلة جداً إذا قورنت بعدد الطائرات المتيسرة، ولهذا فإن خسائركم في الطائرات تعتبر قليلة جدا اذا ما قورنت بخسائر سوريا في الطائرات. وان هذا يدل على أن رئيس أركان حرب القوات المسلحة لم يخصص المهام الكافية للقوات الجوية لكي تقوم بتنفيذها. وقد رددت عليه قائلا " انني سعيد بما تقول. أن ما تعتقد أنت خطأ اعتبره أنا صوابا. ان سلامة قواتنا الجوية وبقاءها بعد نهاية الحرب سليمة وقوية هو مفخرة اعتز بها. وبعد نهاية المؤتمر جاءني اللواء سعد مأمون وسألني على انفراد عما اذا كان هناك خـلاف سابق بيني وبين الجنرال لاشنكوف، فأجبت بالنفي وقلت له أن هذه هى المرة الأولى التى أتعامل فيها مع هذا الرجل، فقال متعجبا، لقد دهشت عندما سمعتكما تتناقشان، وتصورت انه لابد أن تكون هناك خلافات قليلة بينكما"!
هناك قصة اخرى تبين أيضا أسلوب السوفيت في توجيه النقد وإن كنت لست طرفا في هذه القصة ولكني كنت أحد شهودها. كـان بطلا هذه القصة الرئيس السـادات والمارشال جريشكو. بدأت القصة بأن تقدم السادات في إحـدى زياراته إلى موسكو بكشف مبينا به كميات الذخيرة التي نطلبها، وفي أثناء إحـدى الجلسات علق المارشـال جريشكو على هذا الكشف قائلا: "لماذا تطلبون هذه الذخيرة كلها؟ إن لديكم كذا مليون طلقة ذخيرة. بما يزيد على اكثر من 1000 طلقة لكل جندي إسرائيلي!". كـان الرقم من وجهة نظر السادات رقما كبيرا ولم يستطع ان يجادل في هذا الموضـوع ولكنه قام بكتابة الرقم الذي ذكره المارشال جريشكو عن عدد ملايين الطلقات الموجودة في قواتنا المسلحة في سجله الخاص اعتقادا منه أنه قد حصل على معلومة مهمة.
وفي أحد اجـتماعات الرئيس مع المجلس الأعلى للقوات المسلحـة دون أن نكون على علم بهذه القصة، التفت إلىّ حيث كنت أجلس على يساره وسألني"كم عدد الطلقات الموجودة في القوات المسلحة؟". اعتقدت أن الرئيس يمزح فابتسمت وقلت له لا أعرف. كان رد فعل الرئيس يدل على انه لم يكن يمزح، وانه كان يعني ما يقول فقد علق قائلا "كيف- وأنت رئيس أركان حرب القوات المسلحة- لا تعرف عدد الطلقات الموجودة في القوات المسلحة؟". فأجبت " سيادة الرئيس.. على مستوى القيادات العليا في القوات المسلحة فإننا لا نحسب كـمية الذخـيرة بالطلقة بل إننا نحسبها بالوحدة النارية (13) وعدد أيام القتال التى يمكن أن تسـتنفد فيها الذخيرة". أجـاب الرئيس غاضبا كيف تقول ذلك والمارشال جريشكو يعرف عدد الطلقات التي لدينا وأخبرني بالرقم وهو كذا مليون طلقة!" أجبت قائلا "سيـادة الرئيس.. إن هذه البيانات يمكـننا الحصول عليها بواسطة العقل الإلكتروني (الكمبيوتر) في أي وقت تشاء". فقال الرئيس غاضبا "بصفتك رئيس الأركـان يجب ان تعرف هذه البيانات" ورغبة في تهدئة الموقف وعدم إحـراجه اكثر من ذلك، قلت له "سوف أقوم بإعداد هذا البيان وعرضه على سيادتكم".
لاشك أن السادات قد أحس بان المارشـال جريشكو قد غرر به وسخـر منه عندما ذكر له عدد الطلقات الموجودة في القوات المسلحة المصرية , لأن الرئيس السادات لم يطلب مني قط هذه البيانات بعد هذا اللقاء.
 
الفصل الخامس والعشرون: المشاريع الاستراتيجية
أداء يمين الولاء للجامعة العربية:
في يوم 30 من يوليو 1971 وفـي اجتماع عادي لمجلس الجامعة العربية في القاهرة أديت اليمين القانونية بصفتي الأمين العام المساعد للجامعة العربية للشئون العسكرية. وبموجب هذا المنصب فإني اصبح رئيسا للجنة الاستشارية العسكرية للجامعة العربية والتي تتكون من رؤسـاء أركان حرب القوات المسلحـة في جميع الدول العربيـة، و أقوم بتقديم توصيات اللجنة الاستشارية الى مجلس الدفاع في الدول العربية. وقد بدأت عملي في هذا المنصب بأن قمت بدراسـة دقيقة لمعاهدة الدفاع المشترك ولجميع المحاضر والقرارات التي اتخذت منذ عقد هذه المعاهدة، وقد خرجت من هذه الدراسة بأربع نقاط رئيسية. كانت النقطة الأولى هي التحمس الواضح والخطب الرنانة التي كـانت تلقى خلال هذه الاجتماعات من جميع الأعضـاء، ثم القرارات القوية التي يتخذها المجلس حتى ليتصور المرء ورجل الشارع العربي ان كل شىء يسير على احسن ما يكون. وكانت النقطة الثانية هي أن الدول العربية - سواء كانت من دول المواجهة ام من غير دول المواجهة- كانت تنظر الى الدعم العربي على أنه معونة مالية فحسب، فقد كان كل ما تطلبه دول المواجهة هو الدعم المالي، وكانت الدول العربية الأخرى تعتقد أنها بتقديم الدعم المالي لدول المواجهة قد أدت دورها النضالي نحو القضية العربية. وكانت النقطة الثالثة هي عدم فاعلية قرارات مجلس الدفاع المشترك. فعلى الرغم من ان قرارات مجلس الدفاع المشترك- طبقا لمعاهدة الدفاع المشترك- تعتبر ملزمة لجميع الأعضاء، إذا اتخـذ القرار بأغلبية ثلثي الأصوات، الا ان هذه القرارات ولاسيما ما يتعلق منها بالدعم المالي كانت تبقى معطلة وكان يتوقف تنفيذها أو تنفيذ جـزء منها على مدى النشاط والزيارات التي يقوم بها المسئولون في دول المواجـهة إلى الدول العربيـة الأخرى. اما النقطة الرابعة والأخيرة فهي ان مؤتمرات القمة العربية (الملوك والرؤساء) هي المؤتمرات الوحيدة التي يتحقق فيها شىء من النجاح، لأن الملوك والرؤساء هم الأشخاص الوحيدون الذين يمسكون بزمام السلطة في البلاد العربية.
قومية المعركة تتطلب عدالة توزيع الأعباء:
قمت بإجراء دراسـة تشمل الدخل القومي والإنفاق العسكري في كل من الدول العربية وإسرائيل، فكانت الأرقام تثيرالدهشة حقا. كان أجمالي الدخل القومي للدول العربية ذات ال 110 ملايين نسمة، هو26000 مليون دولار، بينما كـان الدخل القومي لإسـرائيل (2,822000 نسمة) هو 3672 مليون دولار، وهذا يعني ان متوسط دخل الفرد العربي في العام هو 236 دولارا بينما متوسط دخل الفرد الإسرائيلي هو 1300 دولار في العام (1) فإذا نظرنا الى كيفية توزيع الثروة في المنطقة العربية فإننا نجد تباينا واضحا. ففي بعض الدول العربية نجد أعلى متوسط لدخل الفرد في العالم، وفي دول عربية اخرى نجد اقل مستويات الدخل في العالم.
واكثر من ذلك فإن جميع الدول ذات الحدود المشتركة مع إسرائيل والتي تتحمل العب الأكبر من التهديد الصهيوني هي من مجموعة الدول العربية الفقيرة , اما الدول العربية الغنية فإنها تقع بعيدا عن إسرائيل وبالتالي فإنها لا تشعر بالتهديد الصهيوني والخطر الصهيوني بالقدر نفسه الذى تشعر به وتتحمله الدول الفقيرة المتاخمة لها. وبدراسة حـجم الإنفاق العسكري في الدول العربية اتضح لي أن مصر التي كـان متوسط دخل الفرد فيها هو 303 دولارات كانت تنفق 21,1% من دخلها القومي على شئون الدفاع، بينما كانت هناك دول اكثر غنى لا يصل إنفاقها العسكري الى 3% من دخلها القومي.
كانت الأرقام مفجعة ومثيرة للتساؤل. هل حقا المعركة قومية وانها مسئولية العرب جميعا ام أنها مسئولية دول المواجهة؟ إذا كانت الإجابة بان المعركة قومية كما ينادي الجميع فهل قام العرب بتوزيع أعباء هذه الحرب بأسلوب عادل؟ هنا يجب ان تكون الإجابة لا ثم لا. إذا نحن راعينا العدل الاجتماعي في توزيع الأعباء فالمفروض ان تتحمل الدول الغنيـة أكثر مما تتحمله الدول الفقيرة ولكن الواقع كان يصرخ ويقول ان العكس هو الصحيح. كانت الدول الفقيرة،- وفي مقدمتها مصـر- هي التي تدفع أكثر والدول الغنية- او على الأقل معظمها- هي التي تدفع اقل. قد يتصور بعضهم ان مؤتمر الخرطوم المنعقد عام 1967 قد حل هذا التناقض وذلك عندما تعهدت بعض الدول العربية الغنية بان تخصص مبلغا من المال لتدعيم دول المواجهة، ولكن الحقيقة هي غير ذلك. (3) لاشك ان مقررات مؤتمر الخرطوم هي اول خطوة عملية في اتجاه التضامن العربي، وان الدول الثلاث التي أسهمت في هذه المعونة لها ان تفخر بأنها كانت أولى الدول التي حاولت أن تخطو خطوة عملية لمساعدة الأشقاء في معاناتهم بدلا من مجرد كلمات التشجيع الجوفاء ولكن هل كـانت هذه الخطوة كافية؟ وهل يعني ذلك قومية المعركة ؟ كلا، ثم كلا. ان قومية المعركة تعني اشتراك الدول العربية جميعها - ليس ثلاثا منها فقط - كل في حدود إمكاناته البشرية والمالية. أن قومية المعركة تعني أن تقوم الدول الغنية بتخصيص نسبة من دخلها القومي للمعركة تكون اكبر من النسبة التي تخصصها الدول الفقيرة وكلا هذين الشرطين قد أهمل في مقررات مؤتمر الخرطوم. حاولت أن أطبق شعار قومية المعركة مستعينا بالأرقام. استخدمت أرقام الدخل القومي لكل دولة عربية ومتوسطة دخل الفرد السنوي فيها. استخدمت أرقام الأنفاق العسكري في كل بلد عربي وما تتطلبه المعركة من اعتمادات مالية,الخ.
وفي النهاية تبلور في ذهني مشروع متكامل يحدد ما يجب ان تخصصـه الدول العربية لشئون الدفاع عنها. كان المشروع يتكون من النقط الرئيسية التالية:
الدولة التي متوسط دخل الفرد السنوي فيها بالدولار
من----------إلى النسبة التي تخصصها سنويا من دخلها القومي لشئون الدفاع
100----------200 10%
200----------500 15%
500----------1000 20%
1000----------2000 25%
2000----------فأكثر 30%
2- ينشأ صندوق قومي للمعركة في الجامعة العربية يتولى توزيع هذه الاعتمادات على جميع الدول حسب احتـياجـات الدفاع بحـيث لا يقل ما يخصص لدول المواجهة مع إسرائيل عن 50% من تلك الاعتمادات ويخصص الباقي للدول العربية الأخرى جميعها.
3- النسب المذكورة أعلاه هي الحـد الأدنى للإنفاق العسكري في كل دولة عربية طبقـا لمتوسط دخل الفرد. ولكن ليس هناك حد أقصى لمن يريد ان يخصص أكثر من ذلك.
كنت أرى في هذا المشروع تجسـيدا لقومية المعركة وتكافلا اجتماعيـا بين الدول العربية و تصحيحا للتناقضات الموجودة في العالم العربي حيث يتحمل الفرد في الدول الفقيرة اكثر مما يتحمل الفرد في الدول الأغنى. وعندما أخذت أناقش هذه الآراء مع بعض المصريين والاخوة العرب لم أجد أحدا على استعداد لأن يقبل ذلك. كانوا يظنون إنها خطوة تقدمية اكثر من اللازم قد تفسر تفسيرات خاطئة. فأحجمت عن تقديم المشروع الى مجلس الدفاع المشترك بصفة رسمية. ومع ذلك فأني انتهزت فرصة اول اجتماع لي مع رؤساء أركان حرب القوات المسلحة في الدول العربية فبينت لهم بالأرقام حجم الإنفاق العسكري في كل دولة ونسبته الى الدخل القومي لكي أبين لهم مدى التناقض الكبير بين ما تنفقه الدول الفقيرة وما تنفقه الدولة الغنية. وطالبت بتعديل هذه الأوضاع المقلوبة، ولكن لم اقترح تلك النسب التصاعدية في الإنفاق العسكري.
قرارات مجلس الدفاع المشترك:
عندما اجتمع مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة في المدة من 27- 29 نوفمبر 71 تقدمت أليه بمشروعين. كان المشروع الأول يرمي إلى تعبئة الإمكانات العسكرية الفعلية في الدول العربية، وهذا يعني بحث موقف القوات المسلحة في كل دولة عربية وتحديد حجم القوات التي تشارك بها في المعركة، وهكذا فأنه بدلا من ان تطلب دول المواجهة دعما ماليا من أشقائها العرب فإنها تطلب منهم دعما عسكريا. وقد كنت أرمي من وراء ذلك الاقتراح ان أحقق ثلاثة أهداف: الهدف الأول هو ان أجنب دول المجابهة هوان طلب المال، فقد كان طلب المال ينظر إليه كنوع من الاستجداء وليس بصفته فريضة على جميع الدول العربية. وثانيا، فقد كنت أرمي ان أجعل الدول العربية التي ليست من دول المواجهة، تشعر بالكبرياء وتشعر بالذنب في وقت واحد. تشعر بالكبرياء إذ تسهم في المعركة بصورة إيجابية، وفي الوقت نفسه تشعر بالذنب عندما تقارن بين حجم مساعداتها العسكرية وحجم القوات التي تسهم بها دول المواجهة.أما الهدف الثالث فهو توفير الوقت. إن النقود لا تقاتل، وأن تحويل هذه النقود الى قدرات قتالية على شكل لواء مدرع او سرب طائرات الخ قد يحتاج الى سنتين او ثلاث (4). لذلك فإن الوحدة المدرعة لمن يريد ان يقاتل تعتبر افضل بكثير من مجرد التبرع بالمال. أن الإسهام بسرب من المقاتلات افضل بكثير من التبرع بخمسين مليونا من الدولارات.
واقتناعا مني بهذا الخط اقترحت ان تقوم الدول العربية التالية بتدعيم دول المواجهة بالتعزيزات التالية:
الجمهورية العرا قية:
سربي هوكر هنتر 11 [ الجبهة الأردنية].
ثلاثة اسراب ميج 21 [ الجبهة السورية ]
سرب ميج17 [ الجبهة السورية ]
فرقة مدرعة [الجبهة الأردنية ]
فرقة مشاة [الجبهة الأردنية ]
المشاريع الاستراتيجية، صفحه رقم 150
المملكة العربية السعودية:
سربي ليتننج [الجبهة الأردنية]
الجمهورية الليبية:
سرب ميراج 3 [الجبهة المصرية]
الجمهورية الجزائرية:
سربي ميج 21 [الجبهة المصرية]
سربي ميج 17 [الجبهة المصرية]
المملكة المغربية:
سرب اف 5 [الجبهة المصرية]
لواء مدرع [الجبهة المصرية]
(تم تحديد هذه القوات بعد زيارتي للمملكة المغربية في فبراير 71)
لم اخطر الفريق صادق بهذا المشروع قبل ان اعرضه على مجلس الدفاع المشترك، إذ أنني لم اكن أرى سببا واحدا يدعوني الى ان اخطر وزير الحربية المصري قبل ان اخطر وزراء حربية الدول العربية الأخرى. وعندما كنت أقدم المشروع أمام المجلس لم أذكر أهدافي من هذا المشروع كما ذكرتها في تلك المذكرات ولكني ركزت فقط على عامل الوقت وان الاعتمادات المالية لن تتحول الى قدرات قتالية قبل مرور2-3 سنوات في حـين أن تلك الوحدات يمكن الاستفادة منها فورا او بعد أشهر قليلة. فوجئ صادق بالمشروع وبتعليقاتي التي كنت اشرح بها المشروع وأسبابه وأهدافه فأرسل لي ورقة كتب فيها"ان هذا الخط الذي تسير فيه يتعارض مع مصالح مصر". بعد ان قرأت ما في الرسالة استرسلت في الخط نفسه الذي كنت أنادى به وكـان شيئا لم يحدث كنت ومازلت اعتقد بأن ذلك كان في مصلحة العرب ومصلحة مصر على السواء.
وفي خلال فترة الراحة انتحى بي الوزير جـانبا وقال لي كـيف تطلب قوات بدلا من المال؟ إننا في مصر محتاجون الى المال ؟. قلت له "أنا لا امثل مصر في هذا المجلس أنت الذي تمثل مصر ولك ان تتكلم وتطلب باسم مصر ما تشاء". فقال غاضـبا " لماذا لم تخطرني بهذا المشروع قبل ان تعرضه؟". فقلت له "ولماذا اعرضه عليك؟ وأني اعرضه على المجلس بصفتي الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية. وليس بصفتي ر.ا.ح.ق.م.م"، وتطور الحديث بيننا إلى ان قال "سأقوم بإخطار الرئيس بتصـرفاتك هذه" فقلت له وتستطيع ان تفعل ما تشاء". وافق مجلس الدفاع المشترك على المشروع بالإجماع بما في ذلك مصر. وطلب المجلس مني أن أقوم بزيارة الدول التي أوصى القرار بأن تقوم بتدعيم دول المواجـهة بالوحـدات لتأكيد هذا القرار وللتأكد من مستوى كفاءة هذه الوحدات.
كان المشروع التالي الذي تقد مت به هو مشروع رسم خرائط عن أعماق البحار المحيطة بالسواحل العربية. لقد اتضح لي أن السواحل العربية للدول الأعضـاء في جامعة الدول العربية في ذلك الوقت تبلغ 16480 كـيلومترا، وهي تأتي بعد الاتحاد السوفيتي الذي يبلغ طول سواحله 19860 كـيلومترا وقبل الولايات المتحدة التي يبلغ طول سواحلها 15530 كـيلومترا. وعلى الرغم من أننا نقف في المركز الثاني في العالم من حيث طول سواحلنا العربية إلا انه لم تكن لدينا خريطة عن أعماق البحار حول هذه الشواطئ!! كانت أساطيلنا تعتمد على الخرائط التي قامت البحرية البريطانية والبحرية الفرنسية بوضعها عن بعض السواحل العربية. وحيث ان مثل هذه الخرائط تعتبر من الأسرار الحربية التي لا يجوز للدولة صاحبة الشان ان تعتمد على دولة أجنبية في عملها فقد رأيت أن نقوم بوضع هذه الخرائط لقد كانت لدينا الخبرة الفنية لرسم هذه الخرائط وكان كل ما ينقصنـا هو السفينة والمعدات اللازمة لتنفيذ هذا العمل. وبدراسة الموقف اتضح انه يمكن شراء السفينة والمعدات الفنية المطلوبة من بريطانيـا في حدود مبلغ مليون ونصف المليون جنيه إسترليني. وكـان المبلغ المطلوب موجودا وبذلك لم تكن هناك أية مشكلة.
كانت الدول العربية قد تبرعت منذ عدة سنوات بمبالغ مالية باسم القيادة العربية الموحدة وكانت هذه القيـادة قد جمدت ولكن بقي في حوزتها مبلغ 3 ملايين جنيه إسترليني كانت مودعة في البنك الأهلي المصري باسم تلك القيادة وعندما علمت بوجود هذا المبلغ اقترحت أن نأخذ منه مليونا ونصف المليون لهذا المشروع، وعندما عرضت المشروع على مجلس الدفاع المشترك، صدق المجلس عليه بالإجماع، كما صدق على سحب مبلغ المليون ونصف المليون جنيه إسترليني من الرصيد المتبقي باسم القيادة العربية. وعلى الرغم من أهمية هذا المشروع ومن توافر الإمكانات الفنية والاعتمادات المالية لتنفيذه إلا انه لم ينفذ لمجرد أن وزير الحربية المصري راى ان يعرقل تنفيذه!! (5)
الرئيس لا يوافق على زيارتي للجزائر والمغرب:
لكي أقوم بزيارة دول الدعم العسكري (6) تنفيذا لتوصيات مجلس الدفاع المشـترك كان على أن أستأذن السيد الرئيس في السفر إلى تلك البلاد. كانت العلاقـات. بيني وبين وزير الحربية قد ساءت ولم أكن أدرى كيف ينظر السادات إلى هذا الموضوع، ماذا قال له صادق؟ وهل تأثر بكلام صـادق أم لا؟ وإذا كـان قد تأثر بكـلام صادق فلابد انه لا يشعر نحوي بالارتياح، فكيف يمكنني أن أعالج هذا الموضوع؟ قررت الا أثير موضوع خلافي مع صادق أمام الرئيس إلا اذا سألني شخصيا عن هذا الموضوع، كما قررت الا أتعجل موضوع سفري إلى البلاد العربية واكتفيت بان أرسلت مذكرة إلى السيد الرئيس أخطره فيها بتوصـية المجلس واطلب منه الإذن بالسفر.
مضت عدة أسابيع دون أن أتلقى أي رد على مذكرتي إلى السيد الرئيس، ولم أحاول أن أساله عن هذا الموضوع في المناسبات التي كنت أقابله فيها إلى أن جاء يوم 27 من يناير 72، وكان قد مضى ما يقرب من شهرين دون ان يتخـذ الرئيس أي قرار سواء بالرفض أم الموافقة، سألته عن قراره بخصوص هذه الزيارة فقال، لا أوافق أنها مضيعة للوقت ولن تكون هناك أية نتـائج مفيدة لهذه الزيارة.. إني أوافق على ان تزور ليبيا والسعودية لأن هاتين الدولتين فقط علـى استعداد حـقا لتقديم العون أما الدول الأخرى- الجـزائر والمغرب والعراق- فإنها لن تعطي شيئـا. إنهم يزايدون فقط . سوف يسـتفيدون دعائيا من زيارتك ولكنهم لن يعطوا شيئا للمعركة". قلت له وسوف يكون سفري إلى هذه البلاد بصفتي الأمين العام المسـاعد العسكري للجـامعة العربية وليس بصفتي (ر.ا.ح.ق.م.م) "، قال الرئيس "إن سفرك بصفتك الأمين العام المسـاعد العسكري للجـامعة العربيـة لن يلغي صفـتك(ر.ا.ح.ق.م.م) وسوف يستغلون صفتك هذه في دعاياتهم إلى ابعد الحدود ". قلت له "سيادة الرئيس، ان علاقة مصر مع تلك الدول سيئه فإذا نجحت زيارتي في الحصول على أي شيء لمصر فهو مكسب وإذا لم تستطع زيارتي أن تحقق أي نجاح فليس هناك شىء نخسره. وهنا ثار الرئيس وقال غاضبا " شوف يا سعد أنت راجل عسكري محترف ولا تفهم في السياسة. إني اعمل في السياسة و أتعامل مـع هؤلاء الناس منذ عشرين عاما واعرفهم جيدا. انهم يزايدون احيانا، وينتقدون احيانا، و أحيانا يعرضون مساعدتهم بعد ان يفرضوا شروطا غير مقبولة. ليس هناك أي أمل يرجى من هؤلاء الناس. كيف تقوم بزيارة دول تقوم يوميا بالتهجم علينا وانتقاد سياستنا؟ " أجبت بهدوء "سيادة الرئيس- قد تكون لك تجربة سابقة مع بعض الناس جعلتك تفقد الثقة بالناس جميعا، ولكن اسمح لي يا سيادة الرئيس بان أذكرك بقول رسول الله " أحبب حبيبك هونا ما عسى ان يكون بغيضك يوما ما. وابغض بغيضك هونا ما عسى ان يكون حبيبك يوما ما"، أنصت الرئيس الى الحديث النبوي الشريف وطلب مني أن أعيد قوله مرة اخرى ففعلت عاد الهدوء إليه وقال ضاحكا "الله يجازيك يا سعد أنا لم اسمع بهذا الحديث قبل ذلك ولكن كلماته محبوكة ومنطقية. فعلا يجب الا ندمر الجسور بيننا وبينهم يمكنك ان تزورهم وسوف نرى ما سوف تتمخض عنه هذه الزيارة. بدأت في الإعداد للزيارة مع سفراء المغرب والجزائر وليبيا وبعد التنسيق معهم جميعا تقرر أن أغادر القاهرة يوم 6 من فبراير الى الجزائر ومنها الى المغرب ثم الى ليبيا ومنها الى القاهرة.
زيارة الجزائر:
قابلت الرئيس هوارى بومدين صباح يوم 7 من فبراير، أخبرته عن طبيعة مهمتي وأفكاري بخصوص تعبئة الموارد العربية للمعركة، تطبيقا لشعار قومية المعركة. أنصت الرئيس بومدين إلى ما كنت أقوله وعبر عن تحمسه للاشتراك بكل جندي وكل قطعة سلاح تستطيع الجزائر أن تقدمهما للمعركة ولكنه أعرب عن شكوكه في جدية العزم على استئناف القتال و أضاف قائلا "اذا قامت الحرب فيجب ان تتأكد ان الجزائر ستقوم بإرسال كل ما عندها لكي يقاتل الجزائريون جنبا الى جنب مع إخوانهم المصريين ".
قلت "سيادة الرئيس.. أني أتفهم شكوكك في انه ليست هناك جدية لإثارة الحرب من جديد- في مصر أيضا هناك الكثيرون ممن يعتقدون انه لن تكون هناك حرب اخرى وان الكلام عن الحرب هو للاستهلاك المحلي. (7) ولكن عندما تقع الحرب فلن يكون هناك وقت لإرسال القوات الجزائرية الى الجبهة والاستفادة منها في المعركة. وبالإضافة الى ذلك فإنه لا يمكننا إدخال القوات الصديقة في الخطة الهجومية ما لم تكن هذه القوات الصديقة موجودة فعلا في الجبهة. لا يمكن ان ندخل ضمن خطتنا وحدات غيبية قد لاتصل لأي سبب كان، فتترتب على ذلك ارتباكات كبيرة" أبدى الرئيس بومدين اقتناعه برأيي ولكنه لفت نظري الى المشكلات المعنوية والإدارية والاجتماعية التي تترتب على إرسال قوات جزائرية الى مصر حيث تبقى سنة أو اكثر في انتظار حرب قد تقوم وقد لا تقوم وعلق قائلا " نحن الجزائريين دماؤنا ساخنة، إذا كانت هناك حرب فإننا نقاتل. أن رجالنا عندما نرسلهم للحرب فإنهم سوف يكونون ذوى معنويات عالية وعلى أهبة الاستعداد لها، فإذا طالت المدة دون ان تكون هناك حرب فإنهم سيثيرون المشكلات لكم ولنا وسوف تزداد المشكلات الإدارية: سوف يطلبون ان ترحل لهم عائلاتهم، وسوف يطالبون بإجازات دورية ليقضوها بين عائلاتهم و أهلهم بالجزائر، الخ. أن هذه المشكلات كلها يمكن تلافيها اذا نحن أرسلنا الدعم العسكري الجزائري بعد ان يتحدد ميعاد المعركة،. كان واضحا ان وصول الدعم العسكري قبل ميعاد المعركة بوقت طويل هو أمر غير مستحب كما ان إرسالهم عند قيام الحرب او قبلها بأيام هو امر غير مستحب أيضا،. وكحل وسط اتفقنا على ان ترسل الإمدادات الجزائرية الى الجبهة بناء على طلبنا بحيث نضمن ان الحرب سوف تشتعل في أي وقت وبحد أقصاه 90 يوما من تاريخ طلب هذه القوات، ويتم سحب هذا الدعم أما من قبل الرئيس السادات شخصيا او من قبلي.
وفي أثناء لقائي مع الرئيس بومدين، تحدث الرئيس بمرارة عن القيادات السياسية المصرية وعن السادات أنه لم يستعمل قط لفظ القيادة السياسية في مصر، كذلك لم يذكر قط اسم السادات ولكن قصده كان واضحا عندما يقول "انتم في مصر، فقد قال لي الرئيس بومدين "إنكم في مصر تهاجمونني باستمرار وتقولون أنني أريد أن انصب نفسي زعيما على العرب بعد موت عبد الناصر. هذا غير حقيقي وأني أريد أن تفهموا في مصر إنني لم أفكر في ذلك مطلقا. أني أريد ان أضع يدي في أيديكم بنية صادقة لطرد الإسرائيليين من أراضينا المحتلة. انه من المهانة ان نرى هذه الدولة التوسعية تستمر في احتلال الأراضي العربية دون ان نستطيع نحن العرب ان نقوم بردعها".
قضيت اليومين التاليين في زيارة الوحدات العسكرية والوحدات الجوية الجزائرية، وقد أدركت مدى المشكلات والتحديات التي واجهت الجزائر منذ استقلالها. لقد حققت الجزائر تقدمـا كبيرا منذ استقلالها قبل عشر سنوات مضت في جميع المجالات. لقد ابتدأت من الصفر. لم تكن هناك حكومة او جهاز أداري. لم تكن هناك قوات مسلحة نظامية. لم يكن هناك نظام اقتصادي. وأكثر من ذلك لم تكن هناك لغة. كانت فرنسا قد قضت على اللغة العربية و أحلت محلها الفرنسية التي اخذ الجزائريون يستخدمونها بينهم. وبعد عشر سنوات تغير كل شىء وكان أهم ما فتنني هو إصرار الدولة على إعادة تعريب الجزائر بعد فرنستها لمدة تزيد على قرن من الزمان.
زيارة المغرب:قابلت جلالة الملك الحسن الثاني في الرباط يوم 9 من فبراير 72، وكانت إجراءات ومظاهر المقابلة مثيرة للغاية. لقد تحركت أولا إلى مبنى وزارة الحربية حيث استقبلني الجنرال أوفقير (8) الذي رافقني إلى القصر الملكي، وفي مدخل القصر كان هناك حرس شرف بالملابس العربية، وعلى مدخل باب غرفة الملك كان يقف المعلن ومعه عصاه التقليدية. وبينما كنت أخطو الى داخل المكتب ضرب المنادي الأرض بعصا. ليلفت الأنظار ثم أعلن بصوت جهوري "الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، (9) كان الملك يقف في نهايـة الغرفة بجوار مكتبه ويدير به عدد من مستشاريه. لقد أوحى لي هذا الاستقبال بان الملك يحاول ان يحافظ على التقاليد العربية بعد ان ادخل عليها بعض اللمسات الغربية وفي خلال الأيام القليلة التي قضيتها بعد ذلك في المغرب ازددت اقتناعا بحقيقة ذلك. ان المغرب هي- في الحقيقة- مزيج غريب من الشرق والغرب" ففي بعض المظاهر قد تبدو شرقية اكثر من أي بلد عربي، وفي مظاهر أخرى قد تبدو المغرب وكأنها غربية اكثر من أي بلد عربي آخر.
حضر مقابلتي مع الملك الجنرال اوفقير ورئيس الديوان الملكي. أنصت الملك الى كلامي ثم علق في النهاية "ان القوات المسلحة المغربية جميعها تحت تصرفك ان كل فرد في المغرب سوف يكون سعيدا عندما يرى قواتنا المسلحة تقاتل من اجل القضية العربية". قلت "يا صاحب الجلالة قبل ان احضر الى هنا كانت لدى فكرة عامة عن القوات المغربية من حيث الحجم والتنظيم، وأني أود أن تتاح الفرصة لزيارة تلك الوحدات للتعرف على مستواها التدريبي وقدراتها القتالية"، قال الملك واعتبارا من باكر يمكنك ان تزور أية وحدة ترغب في زيارتها. وبعد ان تنتهي من زياراتك كلها تعالى لمقابلتي مرة اخرى وقل لي ماذا تريد", ثم أضاف قائلا "لا تشغل نفسك طوال الوقت حاول أن توفر بعض الوقت لكي تزور بلادنا،. بعد ان تحدثنا عن هذا الموضوع الرئيسي الذي حضرت من اجله وبعد ان أعطى الملك تعليماته الى الجنرال اوفقير بان يقوم بترتيب بعض الزيارات الترفيهية لي، انتقل إلى موضوع آخر هو موضوع العقيد معر القذافي. لقد تكلم الملك بمرارة عن موقف القذافي وقال "ان القذافي يخصص ساعة كل يوم في الإذاعة الليبية لكي يهاجم المغرب انه يشتمنا ويتهمنا باتهامات باطلة. ماذا يريد منا القذافي؟ ماذا فعلنا لكي يهاجمنا هذا الهجوم. هل من مصلحة العرب ان نستنفد جهودنا في مهاجمة بعضنا بعضا بدلا من ان نوجهها الى عدونا المشترك؟ أن القذافي صديقكـم في مصر وقد تستطيعون ان تنصحوه لكي يقلع عن هذه التصرفات و أرجو ان تقوم بإبلاغ ذلك الى السادات عسى ان يؤثر على صديقة القذافي لكي يعدل موقفه منا".
قضيت اليومين التاليين في زيارة عدد من الوحدات المغربية حيث قمت ببحث موقفها من حيث التنظيم والتسليح والتدريب وبعد ان انتهيت من هذه الزيارات قابلت الملك للمرة الثانية وطلبت ان تشمل الإمدادات المغربية ما يلي:
- سرب اف 5.
- لواء دبابات.
وافق الملك وسألني عن ملحوظاتي عن الوحدات التي زرتها فذكرت له وجهة نظري بأمانة. ثم ناقشت معه أسلوب نقل هذه الوحدات الى الجبهة وبعض التفصيلات الأخرى وقبل أن اتركه قال بحماس "يا اخ شاذلي قد تكتب مذكراتك في يوم من الأيام ولسوف تكتب ان شاء الله فيها: لقد وعد الملك الحسن فأوفي بوعده، فقلت له "ان شاء الله " وفي يوم 11 من فبراير غادرت المغرب الى ليبيا.
زيارة ليبيا:
في يوم 12 من فبراير 72 قابلت الرئيس معمر القذافي في مكتبه بمجلس قيادة الثورة وقد حضر هذه المقابلة المقدم أبو بكر يونس ر.ا.ح.ق.م الليبية، والرائد مصطفي الخروبي مساعد ر.ا.ح.ق.م والرائد عبد السلام جلود رئيس الوزراء، والرائد عبد المنعم الهوني وزير الداخلية وجميعهم أعضاء مجلس قيادة الثورة الليبية. كانت القوات المسلحة الليبية محدودة ولم يكن هناك ما يمكن الاستعانة به-في ذلك الوقت- للمعركة إلا القليل، ولكن القذافي كان يضع قواته المسلحة كلها في خدمة المعركة. كان أهم ما عنده هو طائرات الميراج 3 الفرنسية التي كانت تصله بأعداد لا تستطيع ليبيا استيعابها فكان يستعين بمصر للتغلب على ذلك. كنا نقوم بإرسال الطيارين المصريين وهم يحملون جوازات سفر ليبية إلى فرنسا حيث يتلقون تدريبا أوليا على الطائرة قبل أن يعودوا بها إلى ليبيا. كان في ليبيا في ذلك الوقت سربان عاملان أحدهما كان يقوده طيارون ليبيون مازالوا قيد التدريب أما السرب الآخر فكان يقوده طيارون مصريون وكان متمركزا في ليبيا وجاهزا للتحرك إلى مصر إن دعت الحاجة إلى ذلك، وقد تم ذلك كله بناء على اتصالات ثنائية مباشرة بين مصر وليبيا، وهكذا كانت رحلتي إلى ليبيا تختلف في طبيعتها عن رحلتي إلى الجزائر والمغرب. لقد كان التعاون العسكري بين مصر وليبيا تعاونً كاملا، فقد كانت مدارسنا العسكرية مفتوحة على مصراعيها لتأهيل الضباط وضباط الصف الليبيين من مختلف التخصصات وكان لدينا في ليبيا مئات من الضباط وضباط الصف المصريين لتدريب الوحدات الليبية وتقديم الخبرة الفنية لها، وعلاوة على ذلك فقد كانت بعض الوحدات الميدانية المصرية تتمركز في ليبيا، وكان المصريون يقومون بتشغيل العديد من الأسلحة والمعدات الليبية التي لم يكن في استطاعة ليبيا تدبير الأطقم اللازمة لتشغيلها. ونتيجة لهذا الموقف فقد كان الهدف الأساسي من زيارتي إلى ليبيا هو إطلاع الرئيس القذافي على نتيجة رحلتي إلى الجزائر والمغرب ثم انتهز الفرصة بعد ذلك لكي أصور الوحدات المصرية، التي كانت متمركزة في القواعد الليبية.
في مكتب متواضع وبعيدا عن جميع مظاهر الأبهة، اجتمعنا مساء ذلك اليوم. كان الجميع يلبسون "الأوفرولات" البسيطة حتى خيل إلي وكـأني في اجتماع ميداني في أحد مواقعنا النائية في الصحراء أخطرت المجلس بنتيجة لقائي بكل من الرئيس هواري بومدين والملك الحسن ولكني لم أخطرهم بشكوى الملك من هجوم القذافي على النظام الملكي في المغرب؛ وبعد أن انتهيت علق القذافي قائلا بأنه لا يعتقد أن الملك الحسن سوف يبعث بقواته إلى الجبهة كما وعد، ولكني قلت له أنني اعتقد أنه سيبعث بها، تدخل القذافي قائلا ما الذي يجعلك تقول هذا؟"، فأجبت، إنني أتعامل مع الرجال منذ اكثر من ثلاثين عاما واعتقد أن لدي الخبرة الكافية لكـي اعرف من يعني ما يقول ومن لا يعني ما يقوله، أدار القذافي وجهه إلى أعضاء المجلس وقال "إذا فعل الحسن ذلك فإن ذلك يعني أنه يخشى على نفسه من جيشه وأنه لذلك يريد أن يرسلهم خارج البلاد لكي يتخلص منهم ويتفادى تهديدهم لعرشه".
تدخلت بسرعة لكيلا أعطى الفرصة لأحد من أعضاء المجلس ان يعلق على ما قاله القذافي وقلت له "سيادة الرئيس لنفترض ان ما تقوله حقيقي، هل يغير ذلك شيئا بالنسبة لك أو بالنسبة لنا مادامت هذه القوات سوف تشترك في المعركة؟، هز القذافي رأسه وقال "حقا ما تقول.. انه لن يغير شيئا"ـ وبنهاية الجلسة كان القذافي سعيدا جدا بنتائج رحلتي وقال وهو في قمة السعادة موجها كلامه الى أعضاء مجلس قيادة الثورة "أيها الاخوة. يبدو ان قومية المعركة التي طالبنا بها قد بدأت تظهر نتائجها".
قضيت اليومين التاليين في زيارة بعض الوحدات الليبية والمصرية وعدت الى مصر يوم 14 من فبراير. وفي مساء اليوم نفسه حضرت حفل عشاء كان يقيمه الرئيس السادات تكريما لرئيس الوزراء البلغاري الذي كان في زيارة رسمية لمصر. وفي كلمتين قصيرتين خلال حفل الاستقبال قلت له "كانت الرحلة ناجحة".
وبعد أيام قليلة قدمت تقريرا كاملا عن الرحلة الى الرئيس. وبعد حوالي ثلاثة أسابيع كنت اجلس مـع السادات لمناقشة تقريري عن الرحلة. كنت اعتقد انه سيكون سعيدا بهذه النتائج ولكنه قال "ضحكوا عليك وجعلوك تبرئهم بتصريحاتك أنا كنت اتابع تصريحاتك وأنت هناك. الملك الحسن سبق ان أعطى وعودا مماثلة أمام الملوك والرؤساء (10) ولكنه لم ينفذها قط اما بخصوص بومدين فإن الشروط التي يضعها شروط غير مقبولة. كيف يمكننا ان نقول له أن الحرب سوف تبدأ بعد ثلاثة اشهر؟ "حاولت بقدر ما أستطيع أن أوضح ما دار من حديث بيني وبين كل من الملك الحسن والرئيس هواري بومدين ولكن كان يبدو لي انه غير مقتنع بما أقول وانه كان مقتنعا تماما بأنهما لن يقوما بإرسال أي دعم إلى الجبهة وان ما قالاه هو مجرد أقوال".
انتقل الحديث بعد ذلك الى موقف الأردن فهاجم السادات الملك حسين هجوما عنيفا وقال انه غير مخلص ولا أمل يرجىّ منه. وانه قد باع نفسه للأمريكان والاستعمار الغربي وبالتالي فإننا لا يمكن ان نتعامل معه. ورفض رفضا باتا ان اقبل دعوة الأردن لزيارته.
وعلى الرغم من التعليقات المتشائمة التي أدلى بها السادات عن رحلتي الى الجزائر والمغرب، فأن هذه الرحلة قد نجحت في هدم الحواجز التي كانت تقف بين مصر وبين تلك الدولتين، لقد كنت اول شخصية مصرية كبيرة تزور هاتين الدولتين منذ سنوات، وبعد بضعة اشهر من زيارتي تلك قام وزير خارجية مصر بزيارتهما، وبعد ذلك قام السادات نفسه بزيارة لهما.
 
الفصل السادس والعشرون: الدورة الثالثة عشرة لمجلس الدفاع العربي المشترك
لجنة الكويت:
لقد كان ضمن قرارات مجلس الجامعة في دورته رقم 58 المنعقدة بالقاهرة في المدة من 9 إلى 13 من سبتمبر 72، تأليف لجنة من وزراء الخارجية والدفاع في دول المواجهة والكويت والسعودية لتقييم الموقف من جميع نواحيه ووضـع الأسس لخطة عمل عربي مشترك محدد الوسائل والالتزامات لمواجهة العدوان الإسرائيلي. كما تقرر ان تجتمع هذه اللجنة في الكويت في 15 من نوفمبر 72. (1) بعد ان وصل عدد الدول المشتركة في هذه اللجنة إلـى 13 دولة من مجموع 19 دولة هي الدول الأعضاء في الجامعة العربية في ذلك الوقت أصبحت اللجنة وكأنها اجتماع محدود لمجلس الدفاع المشترك.
تقدمت أمام اللجنة في الكويت بتقرير يعتبر اكثر صراحة من التقرير الذي تقدمت به أمام مجلس الدفاع المشترك في نوفمبر 71. وفي الحقيقة فإن كل ما قلته في نوفمبر 72 كان في ذهني في نوفمبر 71 ولكني أحجمت عن ذكره في ذلك الوقت ويتلخص ما ورد في التقرير فيما يلي:
1- أن قومية المعركة أفعالاً وليست أقوالاً. وأن الدول العربية التي ليست من دولة المواجهة لا تشارك في المعركة بالقدر الكافي، وأن المساعدات التي تقدمها إلى دول المواجهة هي مساعدات محدودة لا يمكن ان ترقى الى مستوى المشاركة في الأعباء. وللتدليل على ما أقول قدمت لهم الأرقام التالية:
أ- أنفقت مصر على قواتها المسلحة منذ 1967 حتى 1972، 4125 مليون جنيه، فإذا أضفنا الى ذلك خسائرنا في الممتلكات ارتفع الرقم الى حوالي 4500 مليون جنيه ولا يدخل ضمن هذا الرقم خسائرنا نتيجة إغلاق قناة السويس وفقدان أبار البترول في سيناء مما يصل بهذا الرقم الى حوالي 6000 مليون جنيه.
ب- بلغت خسائر مصر في الأرواح نتيجة أعمال العدو خلال هذه الفترة 2882 شهيدا علاوة على 6285 جريحا.
ج- حصلت مصر خلال هذه الفترة على دعم مالي من السعودية والكويت وليبيا يبلغ 566 مليون جنيه. أي ما يعادل حوالي 9% مما تنفقه مصر دون حساب للأرواح التي تستشهد من اجل القضية العربية.
د- إن الدخل القومي المصري يمثل 36% من أجمالي الدخل القومي العربي، ومع ذلك فإن مصر تتحمل 50% من الإنفاق العسكري العربي. (2)
2- وقد أخبرت اللجنة انه يجب ان تكون لدينا سياسة بعيدة المدى وسياسة اخرى لمجابهة الموقف في الحاضر والمستقبل القريب، وقد اقترحت أن تشمل سياسة المستقبل القريب ما يلي:
أ- كل دولة عربية يجب ان تلتزم بان تخصص 15% على الأقل من دخلها القومي كميزانية عسكرية مع إعطاء الأولوية للقوات الجوية والدفاع الجوي. لا يمكن أن نقبل المناداة بقومية المعركة، بينما إحـدى الدول العربيـة تخصص 22,7% من دخلها القومي للإنفاق العسكري ودولة اخرى تخصص 3% فقط من دخلها القومي للإنفاق العسكري.
ب- إذا كانت إحدى الدول العربية غير قـادرة على إنفاق نسبة 15% من دخلها القومي لشئون الدفاع نتيجة النقص في عدد الأفراد أو الفنيين فإنها تقوم بتحويل هذا الفائض الذي لا يستطيع استيعابه الى صندوق قومي يطلق عليه "صندوق المعركة" يخصص لدعم دول المواجهة مع إسرائيل.
3- اما السياسة البـعيدة المدى فيجب ان تشـمل ضرورة اعتمادنا على أنفسنا في إنتاج أسلحتنا بأنفسنا، وقدمت لهم الأمثلة التاريخية التي تؤيد أن الدول التي تصنع أسلحتها تستطيع في النهاية أن تهزم عدوها الذي لا يقوم بتصنيع أسلحته.
أ- أجريت مقارنة بين الإنتاج الحربي في إسـرائيل والدول العربية ووضعت أمـامهم الأرقام التالية:
الإنتاج الحربي في إسرائيل والدول العربية (ملايين الدولارات)

عام 1966
عام 1972
إسرائيل
90
428
الدول العربية (مصر)
70
93
ب- طالبت بإنشـاء مؤسسة للإنتاج الحربى تسهم فيها كل دولة عربية بنسبة 2% من دخلها القومي لمدة 5 سنوات متتالية وذلك لتكوين راس مال الشركات التي تنتج مختلف أنواع الأسلحة.
ج- طالبت بان تكون هذه المؤسسة العربية للإنتاج الحربي مستقلة تماما عن الدول العربية جميعها وان تعتمد المؤسسة على المبادئ والأسس الاقتصادية السليمة بحيث يمكنها أن تقوم بإمداد الدول العربية باحتياجاتها من الأسلحة المتطورة بأسعار لا تزيد على الأسعار العالمية مع توزيع الأرباح على المساهمين فيها. (3) هذا ويجب مراعاة توزيع المصانع التابعة لهذه المؤسسة على الدول العربية بحيث يخضع هذا التوزيع إلى العوامل الاستراتيجية والفنية والاقتصادية.
4- أوضحت لهم مدى الضعف العربي و أخبرتهم أن القوات الجوية الإسرائيلية بما لديها من طائرات وطيارين تستطيع ان تقصف أهل المواجهة بما يعادل 2500 طن يوميا من القنابل في حين أن طاقة القوات الجوية المصرية والسورية مجتمعة تعادل 760 طنا من القنابل يوميا. وقد أكدت في اكثر من مجال ان الدول العربية يجب ان تعمل جاهدة لزيادة مقدرة قواتها الجوية ودفاعها الجوي.
اجتماع رؤساء أركان حرب الجيوش العربية (الهيئة الاستشارية لمجلس الدفاع المشترك):
في يوم 13 من ديسمبر 1972 اجتمع رؤساء أركـان حرب القوات المسلحـة العرب في القاهرة وفي هذا الاجتماع التاريخي دارت مناقشات قوية وبناءه (4) " انتهت بالتوصيات التالية:
1- تستمر الدول العربية في تقد يم الدعم العسكري طبقا لمقررات مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة فيما عدا التعديلات التالية:
أ- تقوم المملكة العربية السعودية بتقديم سرب ليتننج إلى الجبهة المصرية الآن. وتقوم بتقديم سرب ليتننج آخر عام 74.
ب- تقوم دولة الكويت بتقديم سرب ليتننج للجبهة المصرية الآن وتقوم بتقديم سرب آخر في وقت يتم الاتفاق عليه فيما بعد.
ج- تقدم ليبيا سربي ميراج الآن، وسوف تعمل على تقديم سرب اَخر يتم الاتفاق عليه فيما بعد، وعلاوة على ذلك فإن ليبيا تلتزم بوضع كافة إمكاناتها العسكرية لخدمة المعركة.
2- توصى الهيئـة بأن تلتزم كل دولة عربية بتخصيص 15% على الأقل من دخلها القومي لتطوير ورفع الكفاءة القتالية لقواتها المسلحة مع إعطاء الأسبقية الأولى في التطوير والدعم للقوات الجوية والدفاع الجوي، وإذا كانت ظروف الدولة لا تتيـح لها إنفاق هذه النسبة على قواتها المسلحة نتيجة نقص في الأفراد والخبرات فعلى هذه الدولة ان تدعم دول المواجهة بالأموال التي تستكمل بها هذه النسبة.
3- إن الهيئة الاستشارية وهي تؤمن بأهمية بناء قاعدة صناعية حربيـة متطورة داخل الوطن العربي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات الحربية للقوات المسلحـة العربية والصمود أمام الاحتكارات العالمية في مجال توريد الأسلحة توصى بضرورة الإسراع في إنشاء
مؤسسة عربية للإنتاج الحربي تسهم فيها كل دولة بنسبة 2 % على الأقل من دخلها القومي ولمدة خمس سنوات. ويجب الا تخضع هذه المؤسسـة لسلطة أي بلد عربي بل تكون لها حرية العمل على أسس اقتصادية وتجارية بحتة. وتوضع النقط التالية موضع الاعتبار عند إنشاء المؤسسة:
أ- يشرف على المؤسسة مجلس إدارة من الدول الأكثر اشتراكا في راس المال والأكثر تعاملا مع المؤسسة.
ب- يتم توزيع المصانع التـابعة لهذه المؤسسة على الأراضي العربيـة جميعـها، على أن يوضع في الحسبان التوزيع الإستراتيجي والاقتصادي ومصادر المواد وتوفيـر الخبرات والأيدي العاملة.
ج- يجوز للمؤسسة أن تشتري المصانع الحربية القائمة فعلا على الأراضي العربية من الدول صاحبة الشأن وذلك إذا توافرت فيها الشروط الفنية والاقتصادية التى تحقق أهداف المؤسسة.
د- لا تقوم المؤسسة بتوزيع أرباح عن الأسهم عن السنوات الخمس الأولى.
اعتقد ان توصيات الهيئة الاستشارية في دورتها الثالثة عشرة تعتبر أهم وأخطر قرارات اتخذها رؤساء الأركان العرب. حقيقة ان قراراتهم في هذا الشأن لا تعدو أن تكون توصيات وان التنفيذ يتوقف في النهاية على مدى رغبة كل دولة في تنفيذ التزاماتها. ولكن هذه التوصيـات عندما تصدر من القمة العسكرية في العالم العربي فلابد ان يكون لها أثر بعيد حتى ولو لم تظهر هذه النتائج مباشـرة. إن التوصية بان تلتزم كل دولة بإنفاق 15% من دخلهما على قواتها المسلحة- كما جاء في البند رقم 2- تعتبر تجسيدا لقوميـة المعركة. لقد مضت ست سنوات على هذا القرار وقد تغيرت نسب الإنفاق العسكري في بعض الدول ولم تتغير في دول أخرى، ولكن- على الأقل- اصـبح هناك مقيـاس يحسب على أساسـه مدى جدية كل دولة في المساهمة الفعالة في المعركة، كذلك فإن قرار إنشاء المؤسسة العربية للإنتاج ولو انه لم يخـرج إلى حيز التنفيذ، فإنه أنار الطريق أمام بعض الدول، فقد قامت مصر والسعودية وقطر والإمارات العربية بالاشتراك في إنشاء مؤسسة خاصة بها.
لي تحفظات كثيرة حول هذه المؤسسة. وبصفة عامة يمكن القول إن الدعاية التي تصاحب هذه المؤسسة تفوق بكثير حقيقة ما قامت به او ما سوف تقوم به.
إن الخطوط التى تسير عليها تختلف تماما عن الخطوط التي كنت أتصورها وارسمها في خيالي عن المؤسسة وأهدافها. إنني إذا نظرت إلى ما حققته تلك المؤسسة التي أسست عام 1975 براس مال قدره 1040 مليون دولار، وجـدت أنها لم تحـقق شيئا يذكر في مجـال الإنتاج الحربي الحقيقي. إنها تعاقدت لإنتاج محركات لطائرات تدريب وعربات جيب وطائرات مروحـية (هيلوكوبتر)LYNX وجميع هذه الأصناف لا يمكن ان تضـيف شـيئـا إلى قوة العـرب في الميدان، وليست هناك أية قيود في الدول الغربية على بيع هذه الأصناف.
إنني أريد ان نصنع الأصناف المتطورة التى تفرض الدول التي تصنعها قيودا علـى بيعها، وكنت أريد أن أعتمد على شـراء العقول والخبرة لتحـقيق ذلك، وليس مجـرد التعـاقد مع الدول لتصنيع هذه الأصناف لأنني اعلم مسبقا ان تلك الدول لن تساعدنا في إنتاج السلاح المتطور. لن تساعدنا في إنتاج طائرة قتال متطورة او دبابة متطورة او صواريخ متطورة. ان الشيء الوحيد الذى يمكن ان نعترف بان هذه المؤسسة قد قامت به هو التعاقد على تصنيع المقذوفـات الموجهة سوينج فاير Swing fire مع العلم بأن هذا الصـاروخ لم يتم إنتاجه في مصانع المؤسسة حتى الآن (يوليو 1979)0 إن فكرة التضامن لإنتاج السـلاح هي فكرة صحيحة اما الأسلوب الذي اتبعته تلك المؤسسة والنتائج التي حققتها خلال أربع سنوات من عمرها فتعتبر نتائج محزنة. (5)
عندما قابلت السادات يوم 13 من ديسمبر 72 أخبرته بتوصيات رؤساء الأركان العرب الخاصة بإنشاء الصناعات الحربية، وقلت له "طبقا لتقديراتي فإن راس مال هذه المؤسسة سوف يصل في نهاية السنوات الخمس الى 3000 مليون دولار" فرد السادات " أنك متفائل جدا. إذا استطعنا ان نحصل على 10% فقط من هذا المبلغ فإننا نستطيع ان ننشئ صناعات حربية حقيقية".
قرارات مجلس الدفاع المشترك:لم يجتمع مجلس الدفاع المشترك في دورته الثالثة عشرة خلال شهر ديسمبر 72 كما كان مقررا و إنما انعقد في الفترة من 27-30 يناير 73. وكانت قرارات المجلس تنحصر في تأكيد التزامات كل دولة من الدول التي ليست من دول المواجهة بتقديم الدعم العسكري السابق تحديده بواسطة اللجنة الاستشارية التي تتكون من رؤساء أركان الحرب في الدول العربية جميعها.
 
مذكرات الفريق / سعد الدين الشاذلي (3)

الفصل السادس والعشرون : الدعم العراقي
صدام حسين في القاهرة:
قام العراق بإرسال وفد عراقي على مستوى عال الى القاهرة ما بين 26- 28 من مارس 72 وكان يرأس الوفد السيد صدام حسين الرجل الثاني في العراق وأحد الأعمدة الرئيسية التي يرتكز عليها النظام العراقي، وكان هذا يشير إلى مدى الأهمية التي يعلقها العراق على هذا اللقاء العراقي المصري. كان هذا اللقاء بناء على مبادرة عراقية إذ تلقت السلطات المصرية إخطارا من بغداد يفيد ان وفدا عراقيا على مستوى عال سوف يصل الى القاهرة يوم كذا لإجراء مباحثات مهمة. قامت مصر بتشكيل وفد مصري من الدكتور محمود فوزي نائب رئيس الجمهورية، وحافظ إسماعيل مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي، وممدوح سالم وزير الداخلية، ومراد غالب وزير الخارجية. والفريق سعد الدين الشاذلي ر.ا.ح. ق.م.م وعبد المنعم النجار سفير مصر في العراق. في يوم 23 من مارس اجتمع الوفد المصري برئاسة الدكتور فوزي اجتماعا تمهيديا بقصد دراسة الموضوعات التي يحتمل ان يثيرها الوفد العراقي، ثم طلب رئيس الوفد الكلمة من الأعضاء.
استمعنا إلى تقرير من السفير المصري في العراق، وكان يتلخص فيما يلي:
1- العراق حريص على تحسين علاقته مع مصر وانه لا يريد ان يتم ذلك على حساب العلاقات المصرية السورية. انه يهدف الى أقامة محور بغداد- القاهرة بحـيث يمر المحور خلال دمشق.
2- سواء أكان حزب البعث السوري وحزب البعث العراقي جسمين براس واحد او جسمين برأسين، فإنه من الممكن ان يتعايش النظامان مع بعضهما.
3- أن العراق على استعداد للمشاركة في المعركة بقواته المسلحة بالحجم الذي يراه الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية.
4- أن العراق مستعد للمشاركة في عملية التصنيع العسكري العربي.
5- ان العراق يؤيد قيام الوحدة العربية. وإذا كان ذلك غير ممكن في الظروف الحالية فإنه يؤيد أي إجراء يقرب هذه الوحدة.
ونصح السفير بان تقوم مصر بتشجيع هذه الخطوة ومباركتها حيث أن رجال الحكم في العراق مخلصون في أيمانهم بالقومية العربية.
تكلم الأعضاء الآخرون فأظهروا شكوكهم في تلك المبادرة وتراوح رأيهم بين الحذر والتخوف وبين الرفض الصريح، الا ان أحد الأعضاء أعلن رفضه بطريقة لا تخلو من الاتهام حين قال: "لا اعتقد أنهم يرغبون في أي نوع من الاتحاد او الوحدة العربية مهما قالوا ذلك. ولا اعتقد انهم سوف يشاركون بأية قوات عسكرية في المعركة ضد إسرائيل مهما قالوا ذلك. ان المبادرة العراقية ليست سوى مناصرة حزبية". (الطبعة الرابعة: كان المتكلم هو ممدوح سالم).
وعندما جاء دوري في الكلام أوصيت بأن نقوم بتشجيع المبادرة العراقية وأدليت بالنقاط الرئيسية التالية:
1- لا يجب ان نتجاهل القوة العسكرية العراقية وأثرها على المعركة ضد إسرائيل. أن العراق من وجهة نظري تعني 250 طائرة قتال، 4 فرق مشاة وفرقتين مدرعتين. فإذا استطعنا بأية وسيلة كانت ان نشرك تلك القوات او جزئا منها في المعركة ضد إسرائيل في الجبهة الشرقية فإن ذلك سوف يضيف أبعادا جديدة للمعركة.
2- أني اعتقد ان العراق سوف يثير مشكلة القيادة بالنسبة لقواته التي تشترك مع سوريا ولكن كـمبدأ عام فإن قوات الدعم العراقية يجب أن تخضع للقيادة العامة السورية باعتبارها الدولة المضيفة.
3- قد يقول العراق بأنه سوف يرسل قواته العسكرية الى جبهة القتال عند قيام الحرب ولكن يجب أن نوضح له أن عامل الوقت لن يسمح بأن تكون هذه القوات ذات تأثير فعال على المعركة ما لم تتمركز في الجبهة السورية قبل المعركة بوقت كاف.
4- قد يذكر العراق أن سبب أحجامه عن إرسال جزء من قواته الجوية والبرية الى الجبهة السورية الآن، هو ضعف الدفاع الجوي في سوريا، ونتيجة لاتصالاتي بالجـانب السوري فإننا نستطيع ان نؤكد له بان سوريا ترحب بأن يقوم العراق ببناء مطارات متقدمة له في سوريا وان يجهزها بالدفاع الجوي المناسب قبل ان يرسل قواته الى سوريا.
وفي نهاية الجلسة اتفقنا على ان يخضـع اتجاه الوفد في مناقشاته مع الجانب العراقي للاعتبارين التاليين:
1- المساعدات التى يمكن للعراق ان يقدمها للمعركة.
2- إن تمركز القوات العراقية في سوريا يخضع في النهاية لقرار الحكومة السورية. اجتمعنا مع الوفد العراقي وأخذنا ندور في حلقات مفرغة. كان الدكتور محمود فوزي يتكلم باسم الوفد المصري. وكان الدكتور فوزي صاحب مدرسة في الدبلوماسية التي تعتمد على الكلمات المرنة والمعاني الواسعة. كان يتكلم لمدة سـاعة او اكثر دون ان يستطيع مستمعوه أن يفهموا حقيقة ما يعنيه، وبالتالي فانه يترك الباب مفتوحـا للمناورة والمراوغة. (1)
كان الوفد المصري حريصا على الا يخطو أية خطوة في اتجاه العراق حـتى لا يؤثر ذلك على العلاقات المصرية السورية. وكان لا يأخذ الضمانات والتأكيدات التي يقدمها الوفد العراقي مأخذ الجدية، وانتهت المباحثات دون الوصول الى أي حل وعاد الوفد العراقي الى بلده في 28 من مارس. كانت النتيجة الإيجابية الوحيدة هي إصرار صدام حسين على ان أقوم بزيارة رسمية للعراق وان أصور التشكيلات والوحدات العراقية أسوة بما فعلته في الجزائر والمغرب.
زيارتي للعراق:
عارض الرئيس السادات ان أقوم بزيارة العراق. لقد كان رأيه في الرئيس حسن البكر لا يقل سوءا عن رأيه في الرئيس هواري بومدين والملك الحسن الثاني، ولكنه وافق في النهاية على ان أقوم بهذه الزيارة في 26 من مايو الى 2 من يوليو 72. كان قيامي بهذه الزيارة الرسمية للعراق يعني الكثير بالنسبة لمصر وبالنسبة للعراق، فقد كانت اول زيارة رسمية تقوم بها شخصية مصرية كبيرة الى بغداد منذ سنوات عديدة لذلك فإنه كان ينظر الى هذه الزيارة على إنها بداية لإعادة فتح الجسور بين القاهرة وبغداد. في بغداد كانت البصمات الثقافية المصرية واضحة في جميع المجالات. كان هناك عدة آلاف من المدرسين والأساتذة المصريين وكان ارتباط الشعب العراقي بأخبار مصر وفنونها يشكل ظاهرة ملفتة للنظر. كان برنامـج زيارتي حافلا فقد زرت الكثير من الوحدات العراقية البرية والجوية في أقصى المناطق الجبلية في الشمال، حيث تنخفض درجة الحرارة في هذا الوقت من السنة الى حوالي الصفر. كمـا زرت الوحدات التي تتمركز في أقصى الجنوب، حـيث ترتفع درجة الحرارة في الظل إلى حوالي 45 درجـة مئوية. زرت مناطق الأكراد ومناطق الحدود الـعراقيـة الإيرانية وقمت برحلة بحرية داخل شط العرب المتنازع عليه بين العراق وإيران. (2)
قابلت الرئيس حسن البكر وعددا من الزعامات العراقيـة. وكانت آراء الجانب العراقي تتلخص في النقاط التالية:
1- إن العراق تواجه مشكلتين رئيسيتين، الأولى هي التنازع مع جـارته إيران حول الحدود ولاسيما ما يتعلق منها بشط العرب، والمشكلة الثانية هي ثورة الأكراد في الشمال، وإن هذا التهديد الذي يأتي من اتجاهين مختلفين يرغم العراق على الاحتفاظ بقواتها قريبة من هذه المناطق.
2- إن العراق تمثل الجناح الأيمن للأمة العربية وهـي لذلك يجب ان تكون قوية في تلك المنطقة حتى تستطيع ان تحمي المصالح العربية من أي هجوم إمبريالي.
3- عندما تبدأ المعركة ستقوم العراق بإرسال جزء من قواتها المسلحة إلى الجبهة الشرقية بحيث لا يؤثر على موقفها في الجبهة الإيرانية والجبهة الكردية.
4- إنهم سيقومون بإصلاح وتجديد الطائرات هوكرهنتر، ولكنهم يفضلون إرسـالها بعد تمام تجهيزها إلى الجبهة المصرية بدلا من الجبهة السورية أو الجبهة الأردنية.
ذوبان الثلوج بين بغداد والقاهرة:
كانت رحلتي الى العراق محدودة النجاح. كانت هناك وعود عراقية بدعم الجبهة الشرقية (جبهة سوريا) ولكن هذا الدعم كان مشـروطا بالموقف على الجبهة الإيرانية وموقف الأكراد في الشمال كما انه كان مشروطا بقيام حرب فعلية، وبالتالي فإن الجبهة الشرقية لاتستطع أن
تدخل في حساباتها القوات العراقية أو جزءاً منها كعنصر أساسي عند التخطيط للمعركة. كان هذا على صعيد العلاقات العربية، اما على صعيد العلاقات المصرية-العراقية فقد فتحت الزيارة الأبواب بين بغداد والقاهرة مؤذنة ببدء مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين.
بعد عودتي إلى القاهرة بأربعة ايام فقط وصل اللواء عدنان عبد الجليل مسـاعد وزير الدفاع العراقي إلى القاهرة وأخبرني بان صدام حسين سوف يقوم بزيارة فرنسا في المدة ما بين 14-16 يوليو 72 وأن السلطات العراقية تود ان تعرف الأصناف التي ترغب مصر في أن تشتريها من الغرب بصفة عامة ومن فرنسا بصفة خاصة، حتى يمكنها أن تتعاقد عليها وذلك كنوع من الدعم المادي لمصر. لقد بدأت العلاقات المصرية العراقية تأخذ مظهرا من مظاهر التعاون. وهذا التعاون -وان كان محدودا- فإنه كان خطوة كبيرة نحو تفاهم افضل. لقد فتحنا مدارسنا العسكرية لاستقبال بعض الطلبة العراقيين. كما أرسلنا عددا من الخبراء العسكريين المصريين الى العراق. وقامت الحكومـة العراقيـة من جانبها بوضع 7 ملايين جنيه إسترليني باسم وزارة الحربيـة المصرية في أحد مصارف لندن حتى يمكن الإنفاق منها على شراء بعض الأصناف التكميلية الغربية التي قد نحتاج إليها.
وفي 12 من فبراير 73 وصل الفريق عبد الجبار سنشل -رئيس أركان حـرب القوات المسلحة العراقية- في زيارة رسمية لمصر تسـتغرق أسبوعا، قام خلالها الفريق سنشل بزيارة الكثير من الوحدات والمنشآت العسكرية واطلع على كل ما يريد الإطلاع عليه، وبهذه الزيارة التي تمت بعد 9 اشهر من زيارتي لبغداد كانت العلاقات المصرية العراقية قد وصلت إلى ما لم تصل إليه من قبل، وبعد حوالي شهر من زيارة الفريق سنشل بدا السرب العراقي من طراز هوكر هنتر يصل الى مصر، حيث بقي بها إلى ان قامت حرب أكتوبر 73 واشترك فيها. (3)
ويجدر لي بهذه المناسبة ان أشيد بالسرب العراقي وبالطيارين العراقيين، فقد كان أداؤهم في ميدان المعركة رائعا مما جعلهم يحوزون ثقة وحداتنا البرية، ففي اكثر من مناسبة كانت تشكيلاتنا البرية عندما تطلب معاونة جوية ترفق طلبها بالقول " نريد السرب العراقي"، أو "نريد سرب الهوكر هنتر" إن هذا في حد ذاته يعتبر خير شهادة لكفاءة السـرب العراقي وحسن أدائه خلال حرب اكتوبر.
لم يقتصر الدعم العراقي على الجبهة المصرية ولكنه اسهم إسهاما فعالا في الجبهة السورية، فبمجرد اندلاع حرب أكتوبر 73 قام العراق بإجراء سريع يهدف إلى تأمين جبهته مع إيران ويسمح له بإرسال جزء من قواته إلى الجبهة السورية، وقد أشـرك العراق في القتال 4 أسراب جوية، وفرقة مدرعة، وفرقة مشاة، فكانت قواته في الترتيب الثـالث بعد مصر وسوريا من ناحـية الكم والكيف. لقد اشترك اول سربين جويين في القتال يوم 8 من اكتوبر، كما ان العناصر المتقدمة من القوات البرية قد بدأت تصل الى الجبـهة يوم 11 من أكتوبر. ولو ان تلك القوات العراقية كانت متمركزة في سوريا قبل بدء القتال لتغيرت نتائج القتال على الجبهة الشرقية، وهذا درس يجب ان نستفيد منه في المستقبل.
 
الفصل الثامن والعشرون : الدعم العسكري من دول عربية أخرى
الدعم الليبي:
منذ ان وصل القذافي إلى الحكم في الفاتح من سبتمبر 69 وهو يقوم بمجهود كبير لبناء قوات مسلحة ليبية حديثة. ولكن مشكلتهم في ليبيا أن طموحهم يفوق قدراتهم. انهم يملكون المال ولكنهم يفتقدون الكثير بعد ذلك. إذ أن النقص في عدد الأفراد بالنسبة لاتساع الإقليم، والنقص في الخبرة الفنية والمستوى الثقافي بين الأفراد يشكلان تحديا كبيرا لطموح القذافي ورفاقه. وعلى الرغم من هذه التحديات كلها الا ان ليبيا بذلت مجهودا ضخما لبناء قواتها المسلحة في السنوات الأربع التي سبقت حرب اكتوبر 73، وقد اعتمدت في ذلك على معونة مصر الفنية اعتمادا كبيرا. قامت ليبيا بإرسال عدة آلاف من طلبتها الى مراكز التدريب والمدارس العسكرية في مصر، كما استقدمت مئات من الضباط وضباط الصف المصريين لتدريب الضباط والجنود الليبيين في ليبيا.
وعندما اشترت ليبيا صفقة طائرات الميراج عام 1970 من فرنسا اعتمدت اساسا على الطيارين المصريين الذين كانوا يحملون جوازات سفر ليبية. وفي خلال عامي 71 و 72 ازداد التعاون بين مصر وليبيا الى الحد الذى بدا وكأنه وحدة قائمة غير معلنة. وقد حاول القذافي أن يجعل من هذه الوحدة القائمة على الممارسة الفعلية وحدة رسمية بوثيقة رسمية ولكنه لم يجد تشجيعا من السادات، فحاول ان يفرض الوحدة على مصر، ونظم مسيرة شعبية ما بين طرابلس والقاهرة خلال شهر يوليو 73، وقد انضم الى هذه المسيرة عدة آلاف من راكبي السيارات وحطموا بوابة الحدود التي تفصل بين البلدين باعتبارها آثرا من آثار الاستعمار الذي خلق هذه الحدود الوهمية بين الدول العربية. كانت ليبيا قيادة وشعبا تصرخ مطالبة بالوحدة، ومع ذلك فقد رفض السادات قبول تلك الوحدة فكان ذلك خطأ تاريخياً جسيماً.
وعند قيـام حرب اكتوبر 73 كانت القوات الليبية المتمركزة في مصر عبارة عن سربي ميراج (أحدهما يقوده طيارون ليبيون، والآخر يقوده طيارون مصريون) ولواء مدرع. إن حجم هذه القوات يجعل ليبيا في المركز الثالث بين الدول العربية التي ليست من دول المواجهة، من حيث الدعم العسكري الذى قدمته للمعركة، وهى تأتي بعد العراق والجزائر.
الدعم السعودي:
لم تكن لي أية علاقات مباشرة مع المملكة العربية السعودية سواء على المستوى الثنائي بصفتي ر.ا.ح.ق.م.م. أم على المستوى العربي بصفتي الأمين العام المسـاعد العسكري للجامعة العربية. لقد كانت الاتصالات مع السعودية تتم على مستويات خـاصة:الرئيس السادات، سكرتيره الخـاص الدكتور اشرف مروان، وزير الحربية الفريق صادق ومن بعده الفريق أحمد إسماعيل. أما أنا فلم يحدث قط ان زرت السـعودية او تفاوضت مع أحد المسئولين فيها طوال الفترة التي شغلت فيها منصب ر.ا.ح.ق.م.م لذلك فإني سأذكر هنا ما اعرفه على وجه اليقين، وإني لا استبعد مطلقا ان تكون السعودية قد قدمت بعض المعونات المالية إلى مصر دون ان يكون لدي اي علم بها.
كنت قد اقترحت في اجتماع مجلس الدفاع المشترك- كما سبق ان ذكرت في الفصل الخامس والعشرين (الباب السـادس) - أن تسهم السعودية بسربي ليتننج لتدعم الجبـهة الأردنية، وأقر المجلس ذلك في دورتيه الثانية عشرة والثالثة عشرة وقد كنت أنوي زيارة المملكة العربية السعودية بعد عودتي من زيارة الجزائر والمغرب، ولكن السلطات المصرية أبلغتني ان اسقط من حسابي زيارة السعودية، حيث إنه سيتم تنظيم الدعم العسكري المطلوب منها على مسـتوى الاتفاق الثنائي بينها وبين مصر وكـان الاتصال وقتذاك يتم بواسطة الوزير صادق بالتنسيق مع الرئيس السادات مباشرة. (1)
أخبرني الفريق صادق بان السلطات السـعودية لا توافق على إرسال الطائرات ليتننج بطيارين سعوديين ولكنها على استعداد لإرسالها إلى الجبهة المصرية على ان يقوم طيارون مصريون بقيـادتها ولذلك فإنه يجب علينا ان نرسل عددا من الطيارين المصـريين إلى السعودية، حيث يجري تدريبهم هناك على قيادة هذه الطائرات، ثم يعودون بها إلى مصر. كان ذلك نقيض فكرتي تماما. لم نكن نشكو قط من النقص في عدد الطائرات. لقد كان عدد الطائرات عندنا يزيد على عدد الطيارين. لقد كان الطيار المدرب هو المشكلة الحقيقية. لقد كان هناك ما يقرب من 100 طيار سوفيتي يقودون 75 طائرة ميج 21، فكيف يمكن ان ندير 10-15 طيارا لإرسالهم إلى السعودية؟
لم ترق لي هذه الفكرة و أظهرت اعتراضي عليها، ولكن كـما هي العادة دائما فان القرارالسياسي يفرض نفسه في النهاية. في 2 من مايو 72 أرسلنا الدفعة الأولى إلى السعودية وكانت تتكون من 7 طيارين و33 ميكانيكيا وبعد وصول هذه المجموعة الى السعودية بدأت تظهر الكثير من المشكلات: درجة الصلاحية في الطائرات لا تسمح بتدريب الطيارين الذين أرسلوا للتدريب عليها، عدم توافر المدربين الذين يقومون بتدريب الطيـارين، المشكلات الإدارية الخاصـة بالتدريب… الخ. وبعد حوالي عام من المحاولات لم نصل إلـى شئ. عاد الطيارين والميكانيكيون دون الطائرات ليتننج ولم تشترك تلك الطائرات في معركة أكتوبر 73 لا بطيارين مصريين ولا بطيارين سعوديين.
في تمام السـاعة 1830 يوم 9 من يوليو 73 اتصل بي الدكتور أشرف مروان وأخذ يكلمني في أمور غريبة بالنسبة لي، وليس لدي أي علم بها، فلما أخبرته بأنني لا اعلم شيئا عن هذه الموضوعات قال لي: إن حسني مبارك يعلم بذلك. وكـان مما قاله الدكتور اشرف مروان ما يلي:
1- بخصوص عقد الطائرات Sea King
مطلوب الانتهاء من العقد غدا حتى يمكن تسليمه إلى العقيد عبد الرؤوف الذي سيسافر به إلى السعودية يوم الخميس 12 من يوليو، أما بخصوص الصواريخ والأصناف التكميلية التى لم يكن قد تم الاتفاق النهائي عليها مع الجانب البريطاني فيجري إدراجها ضمن عقد آخر لاحق. (2)
2- موضوع 32 طائرة ميراج:
إن كمية الذخـيرة المطلوبة لعقد طائرات الميراج كـبيرة جدا وتصل قيمتها إلى 35 مليون دولار، ومطلوب تخفيض هذه الكمية.
3 -طائرة هيليكوبتر هدية للرئيس:
إن الملك فيصل قرر إهداء الرئيس السادات طائرة هيليكوبتر ومطلوب إرسـال طيارين مصريين إلى السعودية لاستلامها.
4- لدى السعودية 1000 طلقة عيار 155 مم، ومطلوب تحديد الوقت اللازم لاستلامها.
5- مطلوب تحرير كـشف بقطع الغيار المطلوبة للمدافع 155 مم، لتسليمه إلى العقيد عبد الرؤوف قبل سفره إلى السعودية يوم الخميس القادم،
6- الطائرات سى 130 السعودية مطلوب سفرها إلى السعودية كل 15 يوم لإجراء الصيانة ولأغراض سـياسية. ويمكن الاستفادة من هذه الطلعات في نقل الأصناف المرسلة من مصر إلى السعودية وبالعكس.
7- اعتبارا من اليوم فإن الاتصال بين السعودية ومصر يتم على مستوى الملك فيصل والرئيس السادات، ويجب ألا يتم على اتصال بين وزير الحربيـة المصري ووزير الحربية السعودي بخصوص هذه الموضوعات (كـان وزير الحـربية في زيارة رسميـة إلى الصومال وأثيوبيا من7-16 من يوليو 73).
قمت بالبت في البنود أرقام 4 و5 و 6 المدرجة أعلاه اما البنود 1 و 2 و 3 فقد أحلتها إلى حسني مبارك الذي أفادني بأنه لم يطلب ذخيرة في عقد الميراج، كما أفادني بأنه بمعاينة طائرة الهيليكوبتر التي يريد الملك فيصل أن يهديها إلى الرئيس السادات اتضح إنها من نوع أوجستابل 13 (Augusta Bell) ذات محرك واحد وزلاجات وهي متواضعة جدا وأوصى بأن يعتذر الرئيس عن عدم قبولها.
الدعم السوداني:
إن مشاركة السودان في تقديم الدعم العسكري للجبهة المصرية كانت تتوقف أولا وأخيرا على العلاقات الثنائية التي تربط مصر بالسودان والتي كانت في الأعوام 71-73 متغيرة، فتارة حسنة وتارة سيئة، دون أية أسباب واضحة.
كانت العلاقة بين مصر والسودان على احسن ما يرام بعد ثورة مايو 69 في السودان ووصول النميرى إلى الحكم. وإظهارا لروح التعاون بين البلدين قام السودان بإرسال لواء مشاة للتمركز في جبهة قناة السويس. وعندما وقع انقلاب مضاد في السودان في 19 من يوليو 71 وقفت مصـر بجانب نظـام النميرى ورفعنا درجة استعداد لواء المظلات ولكن استبعد التدخل العسكري بعد أن ترامى إلينا أن الثوار قد سيطروا على الموقف سيطرة تامة.
طلب القادة الجـدد سحب لواء المشاة السوداني وبدأنا في ترحـيله وكانت آخر كتـائبه تغادر القاهرة يوم 24 يوليو، وقبل ان تغادر الكتيبة الأخيرة القاهرة انهار الانقلاب فجأة بعد أن نجحت ليـبيا في القبض على عدد من زعمائه أثناء سفرهم في طائرة مدنيـة من لندن إلى الخرطوم عبر طرابلس. بعد عودة النميري إلى السلطة بمعاونة أشخاص جـدد- ليسوا من جماعة خـالد عباس (4)- قام بتحـديد سلطات خـالد عباس وأخذت سلطاته كوزير للدفـاع تتلاشى شيئا فشيئا حتى اصبح منصبا دون أية سلطة ثم أبعد نهائيا من تلك الوظيفة. سّبب إبعاد اللواء خالد عباس من السلطة فتورا في العلاقات بين السادات و ألنميري. واستمر ذلك إلى أن نشطت الثورة في جنوب السـودان و أصبحت الحكومة المركزية في الخـرطوم عاجزة عن السيطرة على الموقف فطلبت بعض المعونات الفنية من مصر في نوفمبر 71.
استجاب السادات لطلب النميري وصدرت التعليمات يوم 13 نوفمبر بإرسال كميات من قنابل الطائرات وكذلك 400 صـاروخ جو-ارض تستخدم بواسطة طائرات الهيليكـوبتر، وقد بلغت في مجموعها حوالي 100 طن، واعتبارا من يوم 15 نوفمبر قامت طائراتنا من طراز انتنوف 12 بنقل هذه الأصناف ومعها بعض الفنيين إلى جوبا في جنوب السودان. كـانت مسـاعدتنا للسـودان في قمع الثورة في الجنوب ذات اثر مبـاشر في تحـسين العلاقات بين البلدين، وهكذا بدأ لواء المشاة السوداني يعود إلى الجبهة المصرية خلال ربيع عام 72. ولكن لم تكد تمضي ستة اشهر حتى بدأت العلاقات بين السادات والنميرى تتدهور مرة أخرى، وفي يوم 27 من سبتمبر حضر إلى مكتبي العميد سعد بحـر قائد لواء المشاة السوداني ومعه المسـتشار القانوني للسفارة السودانية في مصر، وأبلغني أنه قد تلقى أمرا بالاستـعداد للعودة إلـى السودان ولكنه لا يعرف متى. وفي يوم 5 من اكتوبر تأكدت لديه الأوامر وبدأ اللواء السوداني ينسـحب من الجبهة على ثلاث دفعـات أيام 5 و 12 و 19 من أكتوبر 72. قمت بإخطار السيد الرئيس و بدأنا في تقديم المساعدات اللازمة لترحيل الإخوان السودانيين للمرة الثانية (5). وبينما كنا نقوم بترحيل اللواء السوداني إلى الخرطوم وصلتنا معلومات بان منشـآتنا التعليمية التي كـانت متمركزة في السودان بدأت تعاني بعض المضايقات من السلطات السودانية، فاتخذت القاهرة قرارا بتاريخ 14 من أكتوبر بسحب جميع أفرادها العسكريين من السودان، وبدأت عملية الإخلاء جوا وبرا وبحرا اعتبارا من 17 من أكتوبر ولمدة أسبوعين، وتدهورت العلاقات مرة اخرى بين السادات والنميرى.
وفي أثناء اجتماع الهيئة الاستشـارية ومجلس الدفاع المشترك في دورته الثالثة عشرة وعد السودان أن يدعم الجبهة المصرية بلواء مشاة عند قيام الحرب. وهكذا بعد اندلاع حرب اكتوبر 73 بدا لواء المشاة السوداني يعود إلى الجبهة المصرية للمرة الثالثة. ولكنه لم يستطع ان يصل إليها إلا بعد وقف إطلاق النار.
الدعم الجزائري:
كانت العلاقات بين مصر والجزائر قد تدهورت بعد هزيمة يوليو 1967، وقامت الجزائر على اثر ذلك بسحب لواء المشـاة الجزائري الذي كان قد ارسل إلى مصر عند قيـام الحرب. وقد ساعدت زيارتي الأولى للجزائر التي قمت بها في فبراير 72 على إعادة فتح الجسور بين البلدين، وفي أثناء زيارتي تلك أخبرني المسئولون الجزائريون بأنهم عندما سحبوا لواء المشاة الجزائري فإنهم سحبوا الأفراد ومعهم أسلحتهم الخفيفة فقط، أما باقي الأسلحة الثقيلة التابعة للواء فقد تركت في مصر وانهم لا يرغبون في استعادة هذه الأسلحة"إنما يطلبون إخطارا بتسلمها حتى يمكنهم تسوية ذلك في قيودهم، فوعدتهم بتنفيذ ذلك بمجرد عودتي إلى القاهرة حيث لم يكن لدي علم مسبق بهذا الموضوع. وفعلا فور عودتي للقاهرة أصدرت تعليماتي إلى مدير إدارة الأسلحة بإرسال وثيقة إلى الجزائر تثبت تسلمنا تلك الأسلحة. وقد قابل الجزائريون هذا التصرف بالشكر والتقدير. وفي ديسمبر من العام نفسه أرسلوا إلينا 24 قطعة مدفعية ميدان فقبلناها شاكرين.
في يوم 16 من سبتمبر 73 سافرت تحت اسم مستعار إلى الجـزائر، وقابلت الرئيس هوارى بومدين صباح 17 من سبتمبر 0أخطرت الرئيس بقرارنا بدخول الحرب سألني عن توقيتها فأجبت بأنه لم يتحدد بعد ولكن من المؤكد انه سيكون قبل مرور الأشهر الثلاثة المتفق عليها. سألني عن كفاءة القوات المسلحة فأجبت بأنها لم تكن في يوم ما أفضل مما هي عليه الآن. سألني عن مستوى كفاءة القوات السورية فقلت له أنني اعتقد إنها تقريبا في مستوى القوات المصرية، فعلق قائلا: "إذا كان الموقف هكذا فبماذا تفسر الأسباب التي جعلت القوات الإسرائيلية تسقط 12 طائرة سورية في المعركة الجوية التي وقعت منذ أربعة ايام ؟" فأجبت "ان القوات الجوية الإسرائيليـة متفوقة على القوات الجوية العربيـة سواء في ذلك السوريـة أو المصرية، ويجب علينا ان نعمل تحت هذه الظروف. ومع ذلك فأني أوافق سيـادتكم على انه ما كـان يجب علينا ان نسمـح للعدو بان يحـقق تلك المكاسب في معركة جوية واحدة وفي اعتقادي أن إخواننا السوريين لابد انهم ارتكبوا بعض الأخطاء ولابد أنهم وقعوا في كمين جوي نصبه لهم العدو بمهارة وعموما فهذا مثل للأخطاء التي يمكن أن ترتكب اثناء القتـال، وعلينا ان نتقبلها ونتعلم منها". لقد تحدثنا طويلا ولمدة ساعة ونصف الساعة حول المعركة. وإني اذكر جيدا ما قاله" إن قرار الحرب هو قرار صعب، ولكن اصعب منه ان نبقى- نحن العرب- في الوضع المهين الذى نحن فيه الآن". وقبل أن أغادره وعدني بأنه سيتصل بالرئيس السادات بخصوص هذا الموضوع.
بمجرد اندلاع الحرب قامت الجزائر بإرسال الدعم التالي إلى الجبهة المصرية:
سرب ميج 21 - سرب سوخوى 7 - سرب ميج 17 - وصلت ايام 9 و 10 و 11 من أكتوبر 73
لواء مدرع وصل يوم 17 أكتوبر 73
وتعتبر الجزائر في المركز الثاني بين الدول العربية التي ليست من دول المواجهة من حيث الدعم العسكري الذي قدمته للمعركة ويأتي ترتيبها بعد العراق.
وعلاوة على الدعم العسكري الذي قدمته الجزائر، فقد سافر الرئيس هوارى بومدين الى موسكو في نوفمبر 73 حيث دفع للاتحاد السوفيتي 200 مليون دولار ثمنا لأية أسلحة أو ذخائر تحتاج إليها كل من مصر وسوريا وذلك بمعدل 100 مليون دولار لكل منهما.
الدعم المغربي:
غادرت الجزائر الى المغرب بعد ظهر يوم 17 من سبتمبر ووصلت الدار البيضاء ليلا حيث كان السفير المصري في انتظاري. انطلقنا من الدار البيضـاء الى الرباط حيث كان في انتظارنا الكولونيل الدليمى وتناولنا معه العشاء في منزله (6)، وفي أثناء تناول العشاء أخبرت الكولونيل الدليمى بأني قادم لمقابلة الملك في مهمة سرية وعاجلة ورجوت ان تتم الزيارة بعيدا عن وسائل الإعلام والمظاهر البروتوكولية.
في الساعة السادسة من بعد ظهر يوم 18 من سبتمبر كنت ادلف أنا والكولونيل الدليمى إلى مكتب الملك وبعد ان دعاني الملك للجلوس انسحب الكولونيل الدليمى واغلق الملك الباب من خلفه بالمزلاج ثم عاد الى مكتبه. كنت اعلم قبل سفري الى المغرب انه قد حدث الكثير من المتغيرات في الفترة الأخيرة مما سوف يؤثر دون شك على اتفاقنا السابق. كنت اعلم ان معظم طياري السرب اف 5 الذي كان مقررا أن يدعم الجبهة المصرية قد اشترك في الانقلاب الفاشل ضد الملك، وان طياري السرب اما مقبوض عليهم او هم ممنوعون من الطيران. كنت اعلم ان لواء الدبابات الوحيد لدى المغرب قد أرسل منذ عدة أسابيع الى الجبهة السورية.
أخبرت الملك بقرار الحرب دون ذكر التاريخ وسألته إذا كان يستطيع ان يخصص وحدات إضافية لتدعيم الجبهة المصرية. وهنا أجاب "يا أخ شاذلي- إن ما سمعته منك الآن من أخبار هو افضل ما سمعت طوال حياتي. أنا سعيد بان اسمع إننا- نحن العرب- سوف نتحدى عدونا وسوف نتخلص من الموقف المهين الذى نحن فيه. إننا سوف نشارك في المعركة بقوات اكثر من القوات التي وعدتك بها في لقائنا السابق. أنت تعلم إننا أرسلنا لواء الدبابات الى سوريا ولكننا على استعداد لإرسال لواء مشاة أخر الى الجبهة المصرية".
قضيت يوم 19 من سبتمبر في بحث تنظيم وتجهيز لواء المشاة الذى سوف يرحل الى الجبهة المصرية وخطة نقله بحرا الى الإسكندرية. عندما قابلت الملك في اليوم التالي اقترحت أن يتم تجهيز اللواء خلال 7-10 أيام وان يغادر المغرب في أول أكتوبر، ولكن الملك عقب قائلا "إننا سوف نحتاج الى وقت أطول لإعادة تنظيمه وتجهيزه، ثم إننا نحب ان نمنح الضباط والجنود إجازات ليزوروا فيها أهلهم قبل السفر، وسوف يدخل علينا رمضان بعد أيام، لذلك فإنني افضل ان يقضى اللواء هذا شهر رمضـان وعيد الفطر ويكون جـاهزا للترحيل في النصف الثاني من نوفمبر". لم أحاول الإصرار على ميعاد اقرب من ذلك حتى لا أكشف يوم بدء القتال.
عندما علم الملك بأنباء الحرب من وكالات الأنباء قرر إرسال لواء المشاة فورا ودون أي انتظار، وقد استخدم في ذلك جميع وسائل النقل الجوي المتيسرة في المغرب جميعها بما في ذلك شركة الخطوط الجوية المغربية، وعندما حضر الكولونيل الدليمى الى مصر لزيارة الوحدات المغربية زارني في المركز 10 يوم 27 من أكتوبر وقال لي "إن جلالة الملك يهنئك على الأداء الرائع الذي قمتم به ويتمنى لكم التوفيق، وقد طلب مني ان أقول لك لو انك قلت له أن الحرب قريبة الى هذا الحد لأرسل اللواء معك". فشكرته وقلت له "أرجو ان يقدر جلالة الملك دقة موقفي بخصوص هذا الموضوع".
إن الدعم الذي قدمه المغرب للجبهتين السورية والمصرية يجعله يحتل المركز الخامس بين الدول العربية التي ليست من دول المواجهة ويأتي بعد العراق والجزائر و ليبيا والأردن.
السلاح العربي ضد السلاح العربي:
في أواخر سبتمبر 72 اندلعت الحرب الأهلية بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي، وفي 30 من سبتمبر اتصل بي الدكتور اشرف مروان وأبلغني بأن الرئيس امر بأن ندعم اليمن الشمالي بخمس طائرات ميج 17 وطائرتي اليوشن 28، ولكن دون طيارين على ان نقوم بتسليم الطائرات في مطار عبد الناصر في ليبيا اليوم.
اتصلت بالرئيس السادات لتأكيد معلومات تسليم الطائرات قبل تسليمها في ليبيا فأشار الرئيس إلى ما يلي:
أ- يتم ترحيل طائرات الإليوشن 28 بواسطة طيارينا يوم 4 من أكتوبر عن طريق جدة لا يجوز لطيارينا الاشتراك في العمليات فواجبهم هو توصيل الطائرات فقط ولكن لا مانع من قيامهم ببعض الطلعات التدريبية لتدريب الطيارين اليمنيين.
ب- طائرات الميج 17 يتم تسليمها إلى ليبيا، وستتولى ليبيا مع اليمن إرسالها الى هناك. في يوم 3 من أكتوبر أمر الرئيس بزيادة طائرات الاليوشن الى أربع بدلا من اثنتين، وفي حديث اَخر مع الرئيس في اليوم نفسه أبلغته بأنه تم تسليم 5 طائرات ميج 17 الى ليبيا يوم من اكتوبر وان طائرات الإليوشن 28 الأربع ستصل ميناء الحديدة يوم 5 من أكتوبر عن طريق جدة.
وفي يوم 15 من اكتوبر 72 اتخذ الرئيس قرارا سياسيا آخر بتدعيم اليمن الشمالي ب 22 دبابة ت 34 على ان تسلم أيضا عن طريق جدة وقد تحركت الدبابات بالقطار يوم 18 من اكتوبر الى قنا ومنها الى سفاجة حيث تم تحميلها يوم 3 من نوفمبر و أقلعت بها الباخرة يوم 4 من نوفمبر من سفاجة في طريقها إلى جدة، وبعد وصول الدبابات إلى جدة طلب إبقاء السائقين مع الدبابات فصدق الرئيس على ذلك.
وأني أحكي هذه القصة لا لشيء الا لأبين لهؤلاء الذين عندما يقارنون بين قوة العرب وإسرائيل يحسبون الأسلحة العربية جميعها مقابل الأسلحة الإسرائيلية، وهذا خطأ جسيم، لأن جزءا كبيرا من السلاح العربي يأكل بعضه بعضا.
 
الفصل التاسع والعشرون: تقييم الدعم العسكري العربي
وإذا نحن حسبنا إجمالي الدعم العسكري الذي قدمته الدول العربيـة إلى دول المواجهة سواء قبل بدء حرب اكتوبر 73 أم بعدها يتضح لنا ان إجمالي هذه القوات كان كما يلي:
الجبهة المصرية:
سرب ميج 21
جزائري
سرب سوخوى 7
جزائري
سرب ميج 17
جزائري
سربي ميراج
ليبيـين واحد يقوده طيارون ليبيون وآخر يقوده مصريون
سرب هوكر هنتر
عراقي
لواء مدرع

جزائري
لواء مدرع


ليبي
لواء مشاة


مغربي
لواء مشاة


سوداني
كتيبة مشاة


كويتية
كتيبة مشاة


تونسية
الجبهة السورية:



ثلاثة أسراب ميج 21


عراقية
سرب ميج 17


عراقي
فرقة مدرعة


عراقية
فرقة مشاة


عراقية
لواءين مدرعين


أردنيين
لواء مدرع


مغربي


الجبهة الأردنية: لواء مشاة سعودي
وإذا نحن قارنا بين وحـدات الدعم العسكري هذه وبين مقررات مجلس الدفاع المشـترك العربي في دورتيه الثانية عشرة والثالثـة عشرة نجد ان هناك وحدات دعم لم ترسل إلى الجبهات طبقا لتلك القرارات وبيانها كما يلي:
- سرب ليتننج سعودي.
- سرب ليتننج كويتي.
- سرب ميج 17 جزائري. (1)
- سرب F-5 مغربي. (2)
وبصرف النظر عن الأسباب التي منعت تلك الدول من إرسال وحـدات الدعم هذا سواء أكانت ضعف مستوى التدريب ام عدم صلاحية الطائرات ام عدم توافر الطيارين، فإن ذلك لا يقلل مطلقا من مظهر التعاون العربي الذي ظهر في أجمل صورة له خلال حرب اكتوبر 73 والذي يمكن أن يكون نموذجا لأي عمل عربي مشترك في المسـتقبل، بعد أن نتحـاشى طبعا الأخطاء التي ارتكبت عند حشد هذه القوات وبعد ان نسـتوعب الدروس التي تعلمناها نتيجة لهذه التجربة.
لقد قامت تسع دول عربية بتقديم الدعم العسكري لدولتي المواجهة، وإذا رغبنا في تقييم هذا الدعم من ناحية قوة التأثير فإنه يمكن ترتيب هذه الدول تبعّا للأسبقية التالية. (3)
المركز الأول
الجمهورية العراقية
150
المركزالثاني
الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
70
المركز الثالث
الجمهورية العربية الليبية
50
المركز الرابع
المملكة الاردنية
20
المركز الخامس
المملكة المغربية
15
المركز السادس
المملكة العربية السعودية
5
المركز السابع
جمهورية السودان الديمقراطية
5
المركزالثامن
دولة الكويت
1
المركز التاسع
الجمهورية التونسية
1
هناك 7 دول عربيـة اخرى لم تسهم في المعركـة بقوات عسكرية وهي: الإمارات العـربية المتحدة، دولة البحرين، سلطنة عمان، دولة قطر، الجمهورية اللبنانية، الجمهورية العربية اليمنية، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. (4) ولعل عدم اشتراك هذه الدول في تقديم الدعم العسكري لا يعني أحجاما منها عن ذلك وإنما يعني أنه لم يكن لديها ما تستطيع أن تقدمه للمعركة.
وهكذا يمكن القول إن التـعاون العربي خـلال حرب اكتوبر كان أفضل صورة ظهر بها العرب منذ إنشـاء دولة إسرائيل. ولكن يجب أن نعترف بأخطائنا وان نتعلم منها، فقد كان الخطأ الأول هو التأخير الواضح في إرسال هذا الدعم العسكري إلى الجبهات المخـتلفة مما جعل الكثير من وحـدات الدعم تصل في وقت متأخر لا يسمح بان يكون لها تأثير كبير على سير المعركة والخطأ الآخر هو أن بعض وحدات الدعم كـان مسـتوى تجـهيزه وتدريبه لا يسمح له بان يدخل في معركة ضد القوات الإسرائيلية التي كانت على مسـتوى عال من التجهيز والتدريب.
ولكي نتعلم من أخطاء الماضي فإني أوصى الدول العربية بما يلي:
1- تقوم دول المواجهة ببناء نظام دفاع جوي قوي يستطيع الدفاع عن قواتها المسلحة وعن منشـآتها الحيوية والمدنية، وعلاوة على ذلك يستطيع أن يوفر الدفاع الجـوي المؤثر لقوات الدعم العربي التي تصل قبل بدء العمليات الحربية مع العدو وبعدها.
2- تقوم دول المواجـهة ببناء أعداد إضافية من المطارات تزيد على حاجـتها الفعليـة بحيث تسـتطيع هذه المطارات ان تستـوعب أسراب الـدعم العربي عندما يتقـرر حشـدها في الجبهة.
3- تلتزم كل دولة عربية بتنفيذ توصيات رؤساء أركان حرب القوات المسلحة للدول العربية في الدورة الثالثة عشرة المنعقدة بالقاهرة في 13 من ديسمبر، بأن تخصص 15% من دخلهـا القومي لتطوير ورفع الكفاءة القتالية لقواتها المسلحة مع إعطاء الأسبقية الأولى في التطوير والدعم للقوات الجوية والدفاع الجوي، ثم القوات المدرعة بعد ذلك. إن الحرب القادمة مع إسرائيل سوف تعتمد أساسا على الطائرات والدبابات. ويجب أن نعلم ان الكيف هو اساس النجاح في المعركة وان الكم يمكن ان يؤثر على المعركة إن كان فارق الكيف ليس كبيرا، اما إذا كان فارق الكيف كبيرا فلن يجدي التفوق في الكم شيئا.
أن الشجاعة والروح المعنوية تلعبان دورا مهما في إحراز النصر ولكن يجب ان نعلم ان قائد الطائرة F-5 مهما كان شجاعا فإنه لن يستطيع ان يسقط طائرة الفانتوم أو طائرة F16 أو F15 ومن هنا يجب ان يعلم العرب كيف ينتقون أسلحتهم، فإما أن يشـتروا السلاح الذي يستطيع أن يواجه السلاح الإسرائيلي أو يوفروا أموالهم ولا يشتروا به أي سلاح متخلف تستطيع إسرائيل ان تدمره في أي وقت تشاء. إن دول المواجهة لا يعوزها فرد المشاة وإنما تعوزها الطائرة والدبابة والصواريخ الموجهة ضد الدبابات والصواريخ الموجهة ضد الطائرات إلى غير ذلك من الأسلحة المتقدمة والمتطورة ومن هنا يجب على كل دولة عربيـة ترغب في أن تقدم دعما عسكريا حقيقيا، ان تشـرع فورا في تطوير قواتها المسلحة ورفع مستواها إلى المستويات العالمية.
4- مرة أخرى أنادي بان تتعاون الدول العربية في خلق صناعة حربية متطورة طبقا لما جاء في توصيـات رؤساء أركان حرب القوات المسلحة للدول العربية في ديسـمبر 72 نظرا، لأن إقامة صناعات عسكرية تحتاج إلى أموال وخبرة فنية وسوق للسلاح لا يمكن توافره في دولة واحدة أما إذا اجتمعت الدول العربية في مجموعة واحدة- أو حتى في مجموعتين- فإنها تستطيع ان تشكل بذلك ظروفا مثالية للإنتاج الحربي.
5- وأخيرا يجب ان تتمركز وحدات الدعم العربي في دول المواجهة قبل بدء العمليات بوقت كاف حتى يمكن الاستفادة منها على الوجه الأكمل.
الدعم المالي العربي:
لقد ذكرت فيما سبق ان الدعم العسكري العربي لدول المواجهة يفوق في أفضليته الدعم المادي، حيث إنه يزيد من قوتها وقدراتها القتالية بصفة مباشرة، اما الدعم المادي فإنه يحتاج إلى وقت لكي تظهر نتـائجه. وإني لم أتعرض في هذه المذكرات إلى الدعم العربي المادي، الا في حالات ثلاث وهي: مقررات مؤتمر الخرطوم 67، والمعونة المالية العراقية لمصر، والمعونة الجزائرية لمصر عام 73. ولا يعني هذا أن هذا هو كل ما قامت به الدول العربيـة من دعم مادي لمصر أو دول المواجهة، وإنما يعني أن تلك هي المعونات الثابتة والمسجلة والتي كنت أنا على علم بها، وإننا نسمع الآن كلامـا كثيرا عن معونات مالية كبـيرة دفعت إلى مصر، ولكن للأسف الشديد ليست هناك مراجع رسمية تؤكد وتحدد هذه المعونات.
يقول الأستاذ هيكل في كتابه "الطريق إلى رمضان" إنه خلال الأيام الأولى لحرب أكتوبر 73 تبرعت ليبيـا بمبلغ 40 مليون دولار، 4 مـلايين طن من الزيت، وإن المملكة الـعربيـة السعودية تبرعت بمبلغ 200 مليون دولار وإن دولة الإمارات تبرعت بمبلغ 100 مليون دولار. قد تكون هناك تبرعات اخرى من هذه الدول أو من دول عربية أخرى قبل حرب اكتوبر وأثناءها.
ولكي نقيم المسـاعدات المالية تقييما عادلا، فقد قمت بعمل دراسـات تبين تكاليف إنشاء الوحدات المختلفة وأدامتها بالنسبة لأسعار ما قبل عام 1973، فاتضح لي أن كل عشرة ملايين دولار تتبرع بها أية دولة من غير دول المواجهة تعادل نقطة واحدة وبالتالي فإن من يتبرع بمائة مليون دولار فكأنه ساهم في المعركة بعشر نقاط ومن تبرع بآلف مليون دولار فإنه يحـرز مائة نقطة في قومية المعركة، وهكذا. فإذا نحن عرفنا على وجه اليـقين الأموال التي تبرعت بها كل دولة عربية فإنه يصبح في إمكاننا إعادة النظر في الترتيب الذي ذكرناه.
 
الفصل الثلاثون: الهدوء الذي يسبق العاصفة
الاجتماع المصري- السوري في الإسكندرية أغسطس73:
في تمام الساعة 1400 يوم 21 من أغسطس 73 دخلت ميناء الإسكندرية باخـرة ركاب سوفيتية وعليها 6 رجال سوريين كان يتوقف على قرارهم مصير الحـرب والسلام فى منطقة الشرق الأوسط. كـان هؤلاء هم اللواء طلاس وزير الدفاع، واللواء يوسف شكور (ر.أ.ح. ق. م. س)، واللواء ناجى جـميل قـائد القوات الجوية والدفاع الجوى، واللواء حكمت الشهابي مدير المخابرات الحربية، واللواء عبد الرزاق الدردري رئيس هيئة العمليات، والعميد فضل حسين قائد القوات البحرية. كانوا جميعا بملابسهم المدنية ولم يخطر وسائل الإعلام فى مصر او فى سوريا بأي شىء عن هذا الموضوع سواء قبل وصـول الوفد ام بعده. كنت أنا فى استقبـالهم على رصيف الميناء حيث خرجنا دون أية مراسم إلى نادى الضباط حيث أنزلوا خلال فترة إقامتهم بالإسكندرية.
وفي الساعة 1800 من اليوم نفسه اجتمع الوفدان المصري والسوري فى مبنى قيادة القوات البحرية المصرية فى قصر رأس التين بالإسكندرية. كان الوفد المصري يتكون من الفريق اول احـمد إسماعيل وزير الحـربية، والفريق سعد الدين الشاذلى (ر.ا.ح.ق.م.م)، واللواء محمد على فهمي قائد الدفاع الجـوى، واللواء حسنى مبارك قائد القوات الجوية، واللواء فؤاد زكرى قـائد القوات البحرية، واللواء عبـد الغنى الجمسى رئيس هيئـة العمليات، واللواء فؤاد نصار مدير المخـابرات الحربيـة. كان هؤلاء الرجـال الثلاثة عشـر هم المجلس الأعلى للقوات المصرية والسورية المشتركة، وكان يقوم بأعمال السكرتارية لهذا المجلس اللواء بهى الدين نوفل.
كان الهدف من اجتماع هذا المجلس هو الاتفاق على ميعاد الحرب. وحيث إن قرار الحرب هو في النهاية قرار سياسى وليس قرارا عسكريا فقد كانت مسئوليتنا تنحصر فى إعطاء الإشارة للقيادة السياسية فى كل من مصر وسوريا بأننا جاهزين للحرب فى حدود الخطط المتفق عليها، وأن نحدد لهم افضل التواريخ المناسبة من وجهة نظرنا استمرت اجتـماعاتنا خلال يوم 22 من أغسطس، وفي صباح يوم 23 من أغسطس كنا قد اتفقنا على كل شيء وأخـذنا نعد الوثائق الرسميـة لهذا الاجتماع التاريخي. وكـان قرارنا يتلخص في أننا مستعدين وجاهزون للحرب وفيما يتعلق بتاريخ الحرب فقد اقترحنا توقيتين أحدهما خلال الفترة من 7 ألى 11 من سبتمبر والثاني خلال الفترة من 5 ألى 11 من أكتوبر 73. وعلاوة على ذلك فقد اقترحنا افضل الأيام داخل كل مجموعة من التوقيتية وقد طالبنا للقيادة السياسية بأن تخطرنا بالقرار الخاص بتوقيت الحرب قبل بدء القتال بخمسة عشر يوما، وقد حرر محضر الاجتماع من صورتين وتم التوقيع عليهما من قبل كل من ر.ا.ح.ق.م السوري والمصري (اللواء يوسف شكورعن الجانب السوري، والفريق سعد الدين الشاذلي عن الجانب المصري). كان انتخاب توقيت سبتمبر يعنى أن القيادة السياسية يتحتم عليها اتخاذ القرار و إخطارنا به قبل يوم 27 من أغسطس أي بعد 4 أيام على الأكثر من تاريخ انتهاء المؤتمر، فلما جاء يوم 28 دون أن نخطر بشيء بدا واضحا أن الحرب ستكون في 5 من أكتوبر او بعد ذلك بقليل.
فرض قيود مشددة لإخفاء نوايانا:
تم في اجتماع الإسكندرية تنسيق الخطط المصرية السورية الخاصة بـالسرية والأمن والخداع التعبوي والإستراتيجي والسياسي، وأني أذكـر تلك اللحظة التي انتحى فيها بي اللواء يوسف شكور جانبا وقال هامسا" يجب أن تفرض احتياطات أمن مشددة حول هؤلاء الضباط الأربعة عشر الذين حضروا اجتماع الإسكندرية. يجب ألا يسافر أي منهم إلى خارج البلاد يجب ألا يركب أحدهم أية طائرة حتى في الخطوط الداخـلية. إن اختطاف أحـدهم قد يتسبب لنا مشكلات كبيرة !!" ولم يكن ما همس به اللواء يوسف شكور إلا بعضا من عشرات الإجراءات التي اتخذت لتأمين السرية والخداع والأمن بالنسبة للقوات والقادة و إخفاء نوايانا عن العدو.
بدأ أعضاء الوفد السوري في العودة إلى بلادهم اعتبارا من يوم 24 من أغسطس، ولكن بأسلوب مختلف تماما عن أسلوب حضورهم. فمنهم من عاد جوا عن طريق السعـودية، ومنهم من عاد بطريق البحـر، ومنهم من بقي عدة أيام أخرى ، واعتبارا من 21 من سبـتمبر بدأ العد التنازلي نحو حرب أكتوبر. كان علينا أن نقوم بالكثير خلال تلك الأيام الخمسة عشر لكي نتخذ أوضاع الهجـوم النهائية: حشد وحدات المدفعية، حشد وحـدات المهندسين التعبئة واستدعاء الاحتياطي، تحرك الغواصـات واتخاذ أوضاعها، الخ.. وكنا قد اعددنا جدولا محددا يشمل جميع هذه الإجراءات وما يجب أن يتم في كل ليلة وعلى طول امتداد فترة العد التنازلي. وفي الأول من أكتوبر 73 أخطرنا قائدي الجيش الثاني والثالث بان تمام الاستعداد لتنفيذ الخطة بدر هو يوم 6 من أكتوبر، وقد فرضـنا عليهما أن يجري تبليغ قادة الفرق يوم 3 من أكتوبر فقط وقادة الألوية يوم 4 من أكتوبر وقادة الكتائب والسرايا يوم 5 من أكتوبر وقادة الفصائل وضباط الصف والجنود بتمام الاستعداد قبل بدء الهجوم بـ 6 ساعات فقط لقد كـانت عملية إخفاء أخبار الحرب عن رجـالنا عملية شـاقة حقا فهناك بعض الأفعال والتصرفات التي يمكـن للجندي المحترف أن يفسرها بسهولة على إنها الحرب حتى دون أن يخطره أحد بذلك، مثـال ذلك التصرفات التي تتم خـلال فترة العد التنازلي: فتـح القوات واتخاذ أوضاع الهجوم بدلا من أوضاع الدفاع، الخ.... ومن هنا كـان من الواجب علينا ان نجد تفسيرات أخرى لمثل هذه التصرفات، وقد اعددنا خطة لذلك واعتـقد أننا نجحنا إلى حد كبير في حجب قرار الحرب وتوقيتها عن رجالنا حتى المواعيد المحددة لذلك والتي سبق لي أن ذكرتها.
ولكي أعطي صورة لمدى السرية التي فرضت على رجـالنا فأني سـوف أحكي القصـة التالية: لقد تحركت يوم الجمعة 5 من أكتوبر إلى الجبهة حيث زرت كلا من الجيشين الثاني والثالث للتأكد من تمام الاستعداد و إن كل شيء يسـير طبقا للجدول الزمني السابق تحديده وبينما كنت في الجـيش الثاني جال بخاطري أن ألقي نظرة أخيرة على مواقع العدو شرق القناة فتحركت ومعي اللواء سعد مأمون إلى نقطة ملاحظة لنا لا يفصلها عن مواقع العدو سوى اقل من 200 متر.
كان كل شيء هادئا تماما ولا توجـد أية مظاهر تدل على أن العدو قد شعر باستعداداتنا وانه يقوم بتحضيرات مضادة التفت إلى سعد مأمون وقلت له: "يبدو أن العدو لا يشعر بشيء مما يدور في جانبنا، ولكن ترى ماذا يعتقد رجالنا؟ هل يفسرون تصرفاتنا على أنها الحرب أم انهم يصدقون تفسـيراتنا؟ فأجاب سعد مأمون: "نعم هناك الكثير ممن يعتـقدون أن الحرب وشـيكة ولكنها مجرد شكوك لم تصل إلى درجـة اليقين، وحتى من تم إخطارهم بتـمام الاستعداد فإنهم مازالوا متشككين. لقد حضر إلي أمس أحد قادة ألوية المشاة وقال لي هامسا: هل هي الحرب أم أنه مجرد تنفيذ مشـروع تدريبي كما قيل لنا، فأجبته بان يتم استعداده في التوقيتات المحددة له كما لو كانت الحرب فعلا.
أما بخصوص خداع العدو عن نوايانا بالهجوم فقد كـانت لدينا خطة متكاملة تشمل الخداع التكتيكي والتعبوي والإستراتيجي والسياسي. وقد تم تنسـيق خططنا للخداع مع خطط الجانب السوري خلال مؤتمر الإسكندرية في أغسطس 73. كانت الخطة تعتمد على سلسلة من الأحداث تقع في عدة تواريخ محددة على المسـتويين العسكري والسياسي مما يعطي انطباعا بأن الحرب ليست متوقعة في الوقت الذي حددناه لها. وفي هذا المقام يجب إلا ننسى إجراءين مهمين لعبـا دوراً أساسيا في عملية الخداع، وكـان أولهما قد بدأ منذ عدة سنوات وأما الثاني فكان قد بدأ اعتبارًا من أكتوبر 1973. كنا قد حشـدنا للدفاع عن قناة السويس 7 فرق (5 فرق مشاة + فرقتين مدرعتين). كانت فرق المشاة الخمس تحتل النسق الأول في الدفاع (النسق الأول يعني الخط الأول. وكانت مواقع هذه الفرق تبدأ من الحـافة الغربية للقنـاة وتستمر بضعة كيلومترات إلى الغرب)، وكـانت الفرقتان المدرعتـان تحتلان النسق الثاني للدفاع وكانت تتجمع خلف فرق المشـاة وعلى مسـافة 20 إلى 25 كيلومترا غرب القناة كانت خطتنا الهجومية تعتمد على أن تقوم فرق المشاة الخمس هذه باقتحام قناة السويس، كل واحدة في حـدود قطاع معين يدخل ضمن حـدود القطاع الذي كانت مكلفـة بالدفاع عنه. وقد كـان حشد قواتنا بهذا الأسلوب يسمـح لنا بالاستـغناء عن الكثير من التحركات التي يحتّمها حشد القوات لاتخاذ أوضاع الهجوم (1). أما الإجراء الثاني فقد كان تعديل نظام التعبئة في القوات المسلحة المصرية اعتبـارا من شهر يوليو 72، كـما سبق أن بينت في الباب الثاني. لقد كان أول استدعاء طبقا للنظام الجديد هو 5 إلـى 10 من أكتوبر 72، وتوالت بعد ذلك الاستدعاءات بأشكال مختلفة حتى بلغت 22 استدعاء قبـل أكتوبر 73. وكان الاستدعاء رقم 23 هو الاستدعاء للحرب، فاعتقد العدو أن هذا الاستدعاء لا يختلف عن غيره من الاستدعاءات الأخرى.. وهكذا فإن المفاجأة التي حـققناها يوم 6 من أكـتوبر 73 كانت نتيجة سلسلة من الإجراءات المتعددة التي كان يجري تنفيذها ضمن خطة محـبوكة الأطراف تم وضع أسسها قبل بدء الحرب بمدة طويلة.
عدت من رحلتي السرية إلى الجزائر والمغرب في السـاعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليل 21/22 من سبتمبر، وفي الساعة التاسعة صباحـا كنت احضر المؤتمر الشهري مع القادة لقد كان مؤتمري السادس والعشرين. كنت أحس بشعور غريب خلال هذا المؤتمر. لم يبق سوى 14 يومـا على بدء الحرب وهاأنذا أجتمع بالقادة الميدانيين وكـبار ضباط القـيادة العامة للقوات المسلحة جميعهم. هؤلاء الرجال الذين وضعت مصر ثقتها بهم.. هؤلاء الرجال الذين سوف يقودون اصعب عمليـة عبور في التـاريخ. لقد كنت أشـعر بالثقة بأننا سوف ننتصر. لقد أعددنا العدة لكل شيء وقدرنا الاحتمالات جميعها فلماذا لا ننتصر؟ إن كلا من هؤلاء القادة-بل والمستويات الأقل منهم- يعلم دوره في العملية الهجومية والإجراءات التي يتحتم عليه القيام بها، بتفاصيلها كلها منذ بدء الهجوم وحتى 24 سـاعة بعد ذلك بتفاصيل التفاصيل وبالساعة والدقيقة والمكان.
إنهم يعلمون أيضا تفـاصيل الإجراءات التي يقومون بها قبل بدء الهجـوم. إن كل ما ينقصهم هو معرفة يوم الهجوم وساعته وعندئذ تدور عجلة الحرب الرهيبة التي يشترك فيها بصفة مباشرة ما يقرب من 400000 رجل من أبناء مصر ( قوات برية وجوية ودفاع جوي وبحرية) بينما يحمي خطوط مواصلاتهم وقواعدهم ومنشآتهم حوالي 800000 رجل آخر، ومن ورائهم يقف 35 مليون مصري. لقد جـال ذلك بخاطري وأنا أقف أمام هؤلاء الرجال الذين ستكتب أعمالهم تاريخ مصر. لقد قلت لهم في بعض مؤتمراتي السابقة: عندما ننجح في عبور القناة وتحطيم خط بارليف سوف يسجل هذا العمل كأعظم عمل عسكري في تاريخ الحروب، وسيكون مجال فخر لكل رجل عسكري أن يذكر بكل اعتزاز لأبنائه وأحفاده أنه خدم في القوات المسلحة المصرية خلال تلك الفترة (2) أما في ذلك اليوم 22 من سبـتمبر فلم أذكر أية كلمة عن الحرب واحتمالاتها وحبست شعوري إلى أن أنتهي مؤتمرنا في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر ذلك اليوم.
وفيما بين السـاعة 1900 و 2200 من اليوم نفسه حضرت اجتماعًا برئاسة الوزير وحضـر معنا اللواءات: حسنى مـبارك، ومحـمد على فهمي، و الجـمسى ، ونوفل، وحسن الجر يدلى وقد استمعنا خلال هذا اللقاء إلى التعديلات الأخيرة التي أدخلت على خطة القوات الجوية السورية.
في الأيام التالية وحتى بدء القتال وزعت وقتي بين مهام العمليات والعمل الروتيني. لقد كنت حريصا ألا أقوم بإلغاء أي التزام اجتماعي أو روتيني حتى لا يستطيع أحد أن يستنتج شيئـا. لقد كانت زوجتي هي الأخرى أحـد أهدافي في عملية الخداع وقد أعددت العدة لذلك قبل بدء القتال بفترة طويلة. لقد عودتها طوال الفترة التي اشغل فيها منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) أن تتلقى فجأة هاتفا من مكتبي يخطرها بأنني أقوم بزيارة الوحدات، وأن أتغيب لمدة أسبوع دون أن اتصل بها. وهكذا أمكنني أن أقوم برحلتي السرية إلى الجزائر والمغرب ما بين 16 و 22 من سبتمبر دون أن تعرف إنني خـارج القطر، وعندما انتقلت إلى المركز 10 اعتبارا من أول أكتوبر وانقطعت أخباري عن المنزل لم يكن ذلك شيئا غريبا عليها، إذ أنها تعودت على ذلك، إلى أن استمعت إلى أخبار الحرب من الإذاعة والتليفزيون مثلها في ذلك مثل أية مواطنة مصرية عادية.
كانت الأمور تسير في مجراها الطبيعي، ففي يوم 27 من سبتمبر دعا وزير الحربية رفاقه من الوزراء لزيارة القيادة العـامة للقوات المسلحـة حيث شـرح لهم تنظيم القيـادة وأسلوب عملها. وكان أكثر ما شـد انتباههم هو الماكينات المكتبيةOffice machines التي كانت قد وصلتنا منذ عدة أشهر فقط (3). وفي صباح 27 من سبتمبر رافقت الوزير ومعنا عدد من ضباط القوات المسلحة لزيارة قبر الرئيس عبد الناصر ثم حضرنا حفل تأبين له في القيادة العامة حضره عدة مئات من الضباط من مختلف فروع القوات المسلحة. وفى المساء حضرت الحفل الذي أقامه الاتحـاد الاشتراكي بمناسبـة ذكرى الرئيس الراحل عبد الناصر، وقد ألقى الرئيس السادات خطابا بهذه المناسبـة ولكن كان خطاباً معتدلا بعكس خطاباته السابقة كلها التي كان يدق فيها طبول الحـرب. وبين تلك المناسبات الاجتماعية كنت ألتقي بأحد القادة أو أحضر مؤتمرا من مؤتمرات العمليات لتدقيق خطة أو بحث مشكلة طارئة. كانت الحلقة الأخيرة من سلسلة الإجراءات الخداعية هي الإعلان المسـبق بقيامنا بإجراء المشروع الإستراتيجي السنوي في المدة ما بين أول أكتوبر وحتى 7 من أكتوبر، وتحت هذا الستار كنا سنقوم باستدعاء الاحتياطي وننتقل من مراكز القيادة العادية إلى مراكز القيادة الميدانية (4). وفي خلال تلك الفترة كنت اركز مجهودي على ثلاثة مواضيع رئيسية: الأول هو عملية استدعاء الاحتياط طبقا للتـخطيط المسبق، والثاني هو استمرار عملية حـشد القوات ولاسيما عناصر المدفعية ومعدات العبور التي كانت مؤجلة حتى آخـر وقت ممكن، والأخير هو مراقبة مدى نجـاح خطة الخداع وتقييم أعمال العدو، حتى يمكننا أن نستنتج من تلك الأعمال ما إذا كان قد اكتشف نوايانا للهجوم أو لا. وإلى جـانب ذلك كانت هناك عشرات المواضيع الأخرى الأقل أهمية. مثال ذلك اختبار خطة المواصلات، تنظيم واختبار خطة الدفاع عن المركز10. مراجعة البيانين الأول والثاني اللذين ستصـدرهما القيادة العامة للقوات المسلحة بعد بدء العمليات الخ...
اللمسات الأخيرة قبل المعركة:في الأول من أكتوبر اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحت رئاسة الرئيس السادات. قام كل قائد بإعطاء الإشـارة أمام الرئيس بأنه مستعد وقادر على تنفيذ المهمة المكلف بها،واتبع ذلك بعض الكلمات المشجـعة من الرئيس، وانتهى الاجتماع بعد ساعتين فقط (5). وفي يوم 3 من أكتوبر سافر الوزير إلى سوريا ومعه اللواء نوفل وبعد عودته قال لي"لقد كان السوريون يريدون أن يؤجلوا يوم ى (يوم بدء القتال) لمدة 48 ساعة ولكني قلت لهم إن هذا لا يمكن الآن، إن مثل هذا التأجيل قد يضيع عامل المفاجأة، فكروا في موقف الفريق الشاذلي على الجبهة المصرية وما يمكن أن يسببه ذلك له من مشكلات، لا اعتقد أنه يمكن أن يوافق على هذا التأجيل، وقد وافقوا في النهاية على أن
يبقى يوم ى كما هو وأن تكون ساعة س هي 1400 يوم 6 من أكتوبر 73 ، لقد كان فعلا من المستحيل إيقاف عجلة الحـرب أو تأجيلها لقد كـانت الحرب قد بدأت فعـلا بالنسبة لبعض الوحـدات. لقد أبحرت بعض غواصاتنا يوم الأول من أكتوبر لتتخذ أوضاع القتال وتقوم بتنفيذ المهام المتخصصة لها في التوقيتات المحددة لذلك، ولأغراض الأمن والسرية فقد فرضنا صمتا لاسلكيا ولم تكن هناك أية وسيلة للاتصال بهذه الغواصات إلا بعد بدء العمليات الفعلية. وقد تذكرت في تلك اللحظة اللواء زكرى قائد البحـرية عندما اتصل بي قبل أن تخرج الغواصات إلى البـحر وقـال "ستخرج الغواصات إلـى البحـر الآن، إني أؤكد لك مرة أخرى انه ليس هناك من وسـيلة للاتصال بهم لإجراء أي تعديل في التوقيت. هل أعطي لهم الأمر بالخروج؟ قلت له نعم لا تغيير في أي شيء".
وفي يوم 4 من أكتوبر وقع حادث مهم كـان من الممكن أن يكشف نوايانا للهجوم، ففي هذا اليوم قامت شـركة مصر للطيران بإلغاء رحلاتها وبدأت تقوم بتنفـيذ خطة إخـلاء لطائراتها، وعندما علمنا في القيادة بهذا التصرف الغريب واستفسرنا عن أسبابه قيل لنا إنه تم بناء على تعليمات من وزير الطيران، وقد اتصل وزير الحربية بزميله وزير الطيران وطلب منه إلغاء تعليماته السـابقة والعودة إلى الحـالة العادية، وصباح يوم الجمعة 5 من أكتوبر كان العمل في شركة مصر للطيران قد عاد إلى حالته الطبيعية (6).
الله أكبر.. الله أكبر:
في صباح يوم الجمعة تحركت إلى الجبهة لكي أتأكد بنفسي من أن كل شيء كان يسير على ما يرام، دخلت على اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثـالث في مركز قيادته فوجدته يراجع الكلمة التي سوف يلقيها على جنوده عند بدء القتـال، فعرضها عليّ وطلب رأيي فيها. كانت كلمة قوية ومشجعة حقا قلت له لا إنها ممتازة ولكني لا أتصور أن أحدا سوف يسمعها. إن هدير المدافع والرشاشات وتساقط القتلى والجرحى لن يسمح لأحد بأن يستمع أو ينصت لأحد، فما بالك بهذه الخطبة الطويلة ؟"، ثم لمعت في ذهني فكرة بعثها الله تعالى لتوها ولحظتها "إن أفضل شيء يمكن أن يبعث الهمم في النفوس هو نداء الله أكبر، لماذا لا نقوم بتوزيع مكبرات للصوت على طول الجبهة وننادي فيها الله أكبر، الله أكبر… سوف يردد الجنود بطريقة آلية هذا النداء وسوف تشتعل الجبهة كلها به؟ إن هذه هي أقصر خطبة و أقواها. وافق على الفور ولكنه أخبرني بأنه ليس لديه العدد الكافي من مكبرات الصوت التي يستطيع بها أن يغطي مواجهة الجيش الثالث، ومن مكتب اللواء عبد المنعم واصل اتصلت بمدير إدارة الشئون العامة وقلت له "أريد منك أن تدبر 50 مكبر صوت ترانزيستور وإن تسلم 20 منها إلى الجيش الثالث و30 للجيش الثاني على أن يتم ذلك قبل الساعة العاشرة صباح غد، حتى لو تطلب تنفيذ هذا الأمر سحب مكبرات الصوت جميعها من وحدات القوات المسلحة التي ليست ضمن تنظيم الجيشين الثاني والثالث " وطلبت إليه آن يعاود الاتصال بي بعد حوالي ساعتين في قيادة الجيش الثاني.
بعد أن اطمأننت على الجيش الثالث تحركت إلى الجيش الثاني حيث قابلت اللواء سعد مأمون. الذي اشتكى من أن وحدات المهندسين التي كان يتحتم دفعها حتى ليلة أمس لم تصل إليه كاملة واحضر أمامي رئيس المهندسين في الجـيش ليدلي بشكواه اتصلت فورا بمدير إدارة المهندسين للقوات المسلحة وتم حل الموضوع، وبينما كنت مع سعد مأمون اتصل بي مدير إدارة الشئون العامة وأعلمني بأنه سوف يكون قادراً على تنفيذ التعليمات التى أصدرتها بخصوص تدبير مكبرات الصوت وتسليمها في التوقيتات التي حددتها له فشكرته على ذلك وأخبرت اللواء سعد مأمون بموضوع مكبرات الصوت التي سوف تسلم له وهتاف الجنود في أثناء اقتحام القناة بالله أكبر. عدت إلى المركز 10 وأنا أكثر اقتناعا بأننا سننتصر. لم يبق على بدء المعركة سوى أقل من 24 ساعة وجميع المظاهر تؤكد أن العدو لم يشعر بتحضيراتنا وهذا في حد ذاته يعتبر مكسبا كبيراً. إن إسرائيل تحتاج إلى 72 ساعة لإتمام المرحلة الأولى من تعبئتها (تعبئة القوات المسلحة) وتحتاج إلى 96 ساعة أخرى لإتمام المرحلة الثانية من التعبئة والتي تشمل تعبئة موارد الدولة بأكملها للحرب، فلو فرضنا وعرفت إسرائيل الآن بنوايانا فلن يسعفها الوقت لتعبئة قواتها بشكل مؤثر (7).
شعوري وأفكاري قبل بدء المعركة :
وبنهاية يوم الجمعة قررت أن أنام مبكراً لكي آخذ أكبر قسط من الراحة قبل أن تبدأ العمليات ويصبح من الصعب الحصول على فرصة للنوم أو الراحة. تناولت عشاء خـفيفا وأويت إلى فراشي الذي يقع في غرفة ملاصقة لغرفة العمليـات حاولت النوم ولكن دون جدوى. كان سيناريو SENARIO عملية اقتحام قناة السويس وحصار وتدمير خط بارليف يمر في خيالي، وكلما انتهى عرض هذا الفيلم عاد ليعرض نفسه من جديد. وهنا بـدأت حواراً مع نفسي حـول تصوير المعركة. كنت أناقش مـع نفسي فكرتين: إحداهما تنادي بتصوير معركة العبور، والأخرى كانت تعارض الفكرة الأولى. ونظرا لوجاهة الأسباب التي كانت تؤيد كل فكرة فسوف أعرض مزايا وعيوب الفكرتين تاركًا للقارئ حرية الحكم على أفضلية كل منهما (8).
فكرة تصوير الفيلم عن معركة العبور:
أ- إذا قمنا بتصـوير فيلم عن معركـة العبور فإن قيمته السوقية يمكن أن تزيد على 100 مليون دولار، أما قيمته التاريخية فإنها لا تقدر بثمن. ولكن كـيف يمكن تصوير هذا الفيلم دون أن يكون مخرج الفيلم على علم مسبق بالسيناريو والمواقف والتوقيتات كلها. إن هذا يعني إذاعة أسرار الخطة للمخرج في الوقت الذي حـجبنا فيه هذه المعلومات عن كثير من القادة، وحـتى القادة فإن كلا منهم يعرف فقط ما يخص القوات التي تحت قيادته ولا يعرف عن عمل باقي القوات الأخرى إلا بالقدر الذي يتيح له التعـاون معها. أما هذا المخرج فيجب أن يعرف كل شيء لكي يمكنه القيام بواجبه على الوجه الأكمل.
ب- صباح غد سوف يعلم عشرات الألوف من الضباط والجنود بنبأ الحرب، فماذا لو عرف أيضا مخرج الفيلم؟ يمكنك أن تدعو أحد المخرجين صباح غد وتكلفه بالمهمة.
أ- ماذا تقول؟ غدا هذا مستحيل. لن يكون لديه الوقت الضروري لتنفيذ المهمة. إن مخرج الفيلم يحتـاج إلى يوم كامل لفهم السيناريو. ثم يحـتاج إلى 3 أو 4 أيام لتجهيز نفسه لعملية التصوير.
ب- من قال لك ذلك ؟
أ- لا أحد، ولكني اعتقد ذلك. إن هذا هو التفكير المنطقي.
ب- الوقت ليس متأخراً كما تعتقد. ما عليـك إلا أن تستدعي المخرج صباح غد وتكلفه بالمهمة ثم تستمع إلى ما يقول.
أ- ربما يطلب مني طائرتي هليوكوبتر على الأقل لكي يستخدمهما في التصوير وهناك احتمال ان يقوم رجالنا بإسقاطهما على اعتبار أنهما طائرتان معاديتان، وحتى لو أصدرنا تعليمات مشددة بعدم إطلاق النار على هاتين الطائرتين فلا يمكن لأحد أن يضمن وصول هذه التعليمات إلى الأفراد جميعا وعلاوة على ذلك فان إصدار مثل هذه التعليمات للجنود لتأمين طائرتي تصوير الفيلم قد يخلق لدى الجنود نوعا من التردد في إطلاق النار على طائرات الهليوكوبتر المعادية ظنا منهم أنها طائرات صديقة.
ب- أن المزايا التي يمكن الوصول عليها نتيجة تصوير هذا الفيلم تفوق بكثير المخاطرة باحتمال إسقاط طائرتي هليوكوبتر. لقد تعودنا أن نسمع منك في كثير من المناسبات عبارة "المخاطرة المحسوبة" لماذا لا ندخل هذا العمل ضمن "المخاطرة المحسوبة"؟
أ- هذا شيء مختلف أن هذا العمل لن يكون له أي اثر مباشر أو غير مباشر على نتيجة الحرب انه فقط للتسجيل التاريخي.
ب- إن تسجيل التاريخ هو عملية مهمة. إن من حق أبنائنا وأحفادنا أن يعرفوا ما قام به آباؤهم وأجدادهم لكي يفخروا به ويستفيدوا ويتعلموا منه.
أ- إني مقتنع بما تقول ولكني مقتنع أيضا بأن إذاعة سيناريو العبور بكامله أمام مخرج الفيلم قبل بدء العمليات الحربية هي مخاطرة كبيرة ليس هناك ما يسوغها.
وبهذه المناسبة يجب أن اقرر هنا أن الصور التي نشرت في الصحافة الوطنية والصحافة العالمية والتي كانت تمثل دباباتنا وهي تعبر فوق الكباري والمعديات وجنودنا المشاة وهم يركبون القوارب التي يرفرف عليها العلم المصري في أثناء العبور، كلها صور مزيفة لم يتم تصويرها في أثناء المعركة.أنها صور قــام الإعلام المصري بالتقاطها بعد المعركة لأغراض الدعاية وقام بتمثيلها جنود كومبارس وأخذت لهم تلك الصور بعيدا عن قصف المدافع ولعلعة الرشاشات. وأني أعلن أنه لم يدخل مصور وأحد إلى منطقة القتال إلا بعد ظهر يوم 8 من أكتوبر أي بعد بدء القتال بأكثر من 48 ساعة. أني لا أقول هذا لكي ألوم أحدا من المصورين، فلم يطلب من أي مصور الذهاب إلى الجبهة ورفض، ولكن أقول ذلك لأنه الحقيقة، وقد اكتشفت ذلك عندما زرت الجبهة يوم 8 من أكتوبر. فأمرت بإلحاق بعضهم بالوحدات فقاموا بتنفيذ ذلك اعتبارا من بعد ظهر يوم 8 من أكتوبر. لم يكن يهمني أن أقول هذه الحقيقة لو أن الصور التي التقطت تمثل حقا الجندي المصري الشجاع وهو يقتحم القناة ولكني صدمت عندما شاهدت هذه الصور في الصحف الأجنبية. إن بعض هذه الصور يمثل جنودا يعبرون بصورة غوغائية ينعدم فيها الضبط والربط والنظام الدقيق الذي كان مفروضا في أثناء عملية العبور. إنها صور لا تمثل مطلقا الجندي المصري الذي عبر القناة كم اشـعر الآن بتأنيب الضمير لأنني لم استمع إلـى النداء الذي كان يطلب مني أن نقوم بتصوير هذا العبور ورفضت ذلك من اجل المحافظة على السرية.
ماذا يقصد السوفيت بسحب خبرائهم؟
لابد أني غفوت قليلا بعد هذا الصراع الفكري بيني وبين نفسي حول تصوير فيلم عن عبورنا لقناة السـويس، ولكن هذه الغفوة كانت قصيرة كان ذهني متيقظا وكانت حواسي كلها متيقظة أيضا: كـان ذهني يبقى مستيقظا عندما ترقد عيناي قليلا. كـانت أقدام جنود الحراسـة التي تروح وتغدو أمام غرفتي لا تسمح لي بالنوم العميق فكنت أغفو لفترات قصيرة ثم استيقظ فتطول فترة الاستيقاظ نتيجة تزاحم الأفكار. كل فكرة تريد أن تفرض نفسها، ومن بين الأفكار التي شغلتني هذه الليلة قرار السوفيت بسحب خبرائهم من مصر.
أ - ماذا يعني قيام السوفيت بسحب خبرائهم وعائلاتهم قبل بدء المعركة بحوالي 24 ساعة؟
ب- لابد انهم لا يريدون أن يتورطوا في هذه الحرب، ولكي يظهروا للعالم اجمع أن أياديهم نظيفة من هذه العملية.
قد يعنـي أيضا انهم لا يوافقون على الخطوة التي اتخـذناها، وأن ما قاموا به هو في الواقع احتجاج صامت. أضف إلى ذلك قرارهم بسحب سفنهم الثلاث التي كانت راسية في ميناء بور سعيد.
أ- حقا. إننا لسنا في حاجـة إلى مساعدتهم العسكرية ولكننا في حـاجة إلى مسـاعدتهم وتأييدهم السـياسيين. لابد أن هذا الموقف قد أصاب الرئيس السادات بقلق كبـير. ترى كيف يفكر الآن ؟
ب- قد يصدر قرارا بإيقاف الحرب.
أ- مستحيل؟
ب- لماذا مستحيل؟ أمن أجل الغواصـات التي في عرض البحـر ولا يمكن إيقافها عن تنفيذ مهامها؟ إن العالم مستعد لأن يضحي بإغراق باخرة أو باخرتين كثمن لتجنب الحرب.
أ- وإذا كان ذلك مقبولا على المسـتوى العالمي، فكيف يقبل على المستوى الوطني؟ لقد تم شحن رجالنا بروح القتال والرغبة في الانتقام من العدو الذي هزمهم عام 67، وان لديهم الآن فرصة كبيرة لتحقيق النصر بعد سلسلة من الهزائم التي هزت ثقتهم بأنفسهم. إذا لم نعط رجالنا هذه الفرصة فقد تموت فيهم روح القتال لعدة أجيال قادمة.
ب- انك تتكلم كجندي محترف. أن السياسيين يفكرون بأسلوب مختلف هل نسيت ما قاله لك السادات ألم يقل لك انك لا تفهم في السياسة؟
أ- نعم أذكر ذلك، ولكن هذا لا يعني أن الرئيس على حق. إذا كان الرئيس يعني بالرجل السياسي أن يكون من طراز ميكافيللي فإني أكره أن أكون كذلك. أنا أؤمن بالصدق والصراحة والأمانة ولا أؤمن بالكذب والخديعة. أنا اعلم أن قرار الرجل السياسي العاقل هو القرار الذي يدخل في اعتباره العوامل كلها مهما كانت متعارضة. إن القرار السليم هو في النهاية عبارة عن محصلة لتلك العوامل جميعها التي بينها دون شك الروح المعنوية للشعب والعزة والكرامة والشعور بالفخر والكبرياء إن الفرد هو أغلى عنصر في الثروة البشرية للدولة. أن الفرد المقهور الذي لا يملك ثقته بنفسه لا يمكنه أن يقدم شيئا لبلاده، ولو في أي مجال آخر.
ب- انك مازلت تفكر بعقلية الجندي المحترف هناك سؤال يجب أن تفكر فيه الآن: ماذا سنفعل لو أن الرئيـس أمر بإيقاف وإلغاء العملية الهجومية ؟
أ- هذا سؤال سخيف لن أجيب عنه.
ب- أنت تخشى أن تجيب عن هذا السؤال.
أ- نعم. أني أريد أن أنام. أن لدينا عملا كبيرا ينتظرنا غدا ويحب أن آخذ قسطا من الراحة. كان نومي طوال هذه الليلة هو سلسلة من الغفوات والاستيقاظات وفي كل مرة استيقظ فيها كنت ابحث مشكلة حتى وكأني بحثت جميع مشكلات القوات المسلحة في تلك الليلة واستيقظت في الصباح وأنا اشعر بنشاط كبير.
رقيب يرفض القتال:
في الساعة العاشرة من صباح يوم السبت 6 من أكتوبر أبلغني أحد قادة الجيوش هاتفيا بان لديه ضابط صف برتبة رقيب يرفض القتال عندما أخطر بمهمته في القتال في صباح ذلك اليوم قال لقائدة " أن القتل والعنف ليسا من طبيعتي كما انهما يتعارضان مع معتقداتي وأنا لا أستطيع أن أقوم بتنفيذ هذه المهمة"، وقد حاول أصدقاؤه وقادته أن يثنوه عن هذه الفكرة ولكنه أصر على رأيه. كان قائد الجيش في ذروة الغضب وهو يبلغني بهذا الخـبر.
و أضاف قائلا بأنه سوف يأمر بتشكيل مجلس عسكري عال لمحاكمة الرقيب المذكور. ولكني أخذت الموقف بمنتهى البساطة وقلت له "لا علينا إنه مجرد فرد واحد من 100,000 سوف يقتحمون القناة بعد ساعات قليلة. إني اعلم أن نسبة الذين يرفضون القتال في الجـيوش الأخرى أعلى من ذلك بكثير. لا تشغل نفسك بهذا الموضوع أرسله تحت الحراسة إلى السجن الحربي وسوف نبحث موضوعه فيما بعد".. كنت أعرف أن محاكمة هذا الشخص بمجلس عسكري عال وصدور الحكم والتصديق عليـه لم تكن لتستغرق نصف ساعة. إن المتهم يرفض القتال ويعترف بذلك والإعدام هو الجزاء المنتظر لذلك، ومن الممكن أن ينفذ فيه حكم الإعدام أمام أفراد وحدته. لقد جال هذا الشريط بسرعة في خيالي فاستبعدته. لم أكن أريد أن أبدا عمليتنا الهجومية بإعدام لأحد رجالنا. قد يقال فيما بعد إن المصريين لم يعبروا القناة إلا بعد أن رأوا راس زميلهم معلقا في الهواء، وبذلك يسـتطيع أعداؤنا أن يشوهوا سمـعة الجندي المصري. لا لن نعطيهم الفرصة لذلك سوف نقدمه للمحكمة فيما بعد. سوف نحاول دراسة نفسيته لكي نعرف كـيف تتولد هذه الأفكار وكيف يمكن التغلب عليها (9). قد يخجل بعض المصريين الشرفاء من سماع هذه القصة ولكنى أطمئنهم بان هذه الحالات تحدث في الجيوش الأجنبية بنسبة أعلى من ذلك بكـثير. لقد اشترك في حرب أكتوبر بطريق مـباشر حوالي 400,000 رجل عبر منهم حوالي 100,000 رجل، فهل يضير الشـرف العسكري المصري أن يتخلف منهم رجل واحد؟.
 
الفصل الحادي والثلاثون: معركة العبور
بدء العمليات الحربية:
في الساعة 1300 يوم 6 من أكتوبر وصل رئيس الجمهورية ومعه وزير الحـربية إلى المركز 10 ودخلا غرفة العمليات حيث كان كل فرد في مكانه منذ الصباح. كان الوقت المحدد لعبور الموجـة الأولى من المشاة هو الساعة 1430 ولكن كان هناك الكثير من المهام الأخرى التي يجري تنفيذها قبل ذلك. ولعل أهم هذه المهام هو قيام قواتنا الجوية بتوجيـه ضربة جوية إلى مطارات العدو ومراكز قيادته ومناطق حشد مدفعيه في سيناء وقد اشترك في هذه الضربة الجوية اكثر من 200 طائرة عبرت خـط القناة على ارتفاع منخـفض جدا في الساعة 1400. وبمجرد عبور قواتنا الجوية لخط القنـاة بدأت مدفعيتنا عملية القصف التحضيري المكثف على مواقع العدو شرق القناة وفي الوقت نفسه تسللت عناصر استطلاع المهندسين وعناصر من الصاعقة إلى الشاطيء الشـرقي للقناة للتأكد من تمام إغلاق المواسير التي تنقل السائل المشتعل إلى سطع القناة.
وبينما كانت تلك الأعمال جميـعها تتم بنجاح كان الجميع ينتظرون أخبار عبور المشاة حيث إن ذلك هو الذي سيحدد مصير المعركة (1). وبينما كنا ننتظر وكان على رءوسنا الطير وصلت المعلومات بتمام عبور الموجة الأولى ودوت مكبرات الصوت داخل المركز 10 تعلن الخبر المهم الذي بعث الفرحـة والسكينة في نفوس الجميع. أخذت المعلومات عن عبور الموجات التالية للمشاة تتوالى وفي توقيتات تتطابق تماما مع توقعاتنا (2). وبعد أن اطمئن الرئيس بهذه الأخبار السارة انسحب هو ووزير الحربية من غرفة العمليات للراحة، وحوالي السابعة مساء غادر الرئيس المركز 10 عائدا إلى قصر القاهرة.
وفي الساعة 1830 من يوم 6 أكتوبـر كان قد عبر إلى الشاطيء الآخر 2000 ضابط و 30,000 رجل من خمس فرق مشاة واحـتفظوا بخـمسة رءوس كـباري قاعدة كل منها تتراوح بين 6 و 8 كيلومترات وعمق كل منها يتراوح بين 3 و5 كيلومترات. كان المهندسون مازالوا يعملون بجد في فتح الثغرات في السـاتر الترابي ولكنهم لم يكونوا قد انتهوا بعد من هذا العمل، وبالتالي لم تكن لدينا دبابات أو مركبات على الجانب الآخر، وذلك فيما عدا اللواء البرمائي الذي عبر البحيرات المرة ما بين 1400 و 1500 في قطاع الجيش الثـالث وقد بدا يعمل في عمق العدو وكان معه 20 دبابة برمائية و 80 مركبة برمائية توباز، وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت هناك أعداد محدودة أخرى من المركبات البرمائية التي عبرت بحيرة التمساح لكي تعمل في قطاع الجيش الثـاني. كانت دبابات اللواء 130 البرمائي هي الدبابة ت 76 وهي تشكل قوة نيران كبيرة إذا استخدمت ضـد وحدات العدو الإدارية ومراكز قيادته والمواقع غير الحصينة ولكن خـفة تدريعها وصغر عيار مدفعها يجعلانها ليست ندا لدبابات العدو المتوسطة بأنواعها كلها والتي كانت مسلحـة بالمدفع 105 ملليمتر. لذلك كنت انتظر بفارغ الصبر بتمام عملية فتح الثغرات في السـاتر الترابي للعدو. إن فتح هذه الثغرات هو الذي سيمكننا من البدء في عملية نقل دباباتنا إلى الضفة الشرقية سواء عبر المعديات أو عبر الكباري.
في الساعة 1830 وصلت المعلومات عن فتح أول ثغرة وتشـغيل أول معـدية في قطاع الجيش الثاني، ثم توالت الأخبار خلال الساعة التالية عن فتح المزيد من الثغرات، وبالتالي بدأ تشغيل المعديات التي أخذت تنقل دباباتنا إلى الشاطيء الآخر بإعداد محدودة، وفي الساعة2030 كان قد تم بناء أول كوبري ثقيل على القناة، وفي الساعة 2230 كـان قد تم بناء 7 كباري ثقيلة أخرى، وكانت دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة تتدفق نحو الشرق مستخدمة 7 كباري ثقيلة و 31 معدية.
خطة العدو شوفاخ يونيم:
كانت خطة العدو شوفاخ يونيم SHOVACH YONIM تتلخص فيما يلي :
1- تقسيم جبهة قناة السويس إلى ثلاثة قطاعات رئيسية تمثل ثلاثة اتجاهات رئيسـية: القطاع الشمالي ويدافع عن الاتجـاه القنطرة -العريش، والقطاع الأوسط ويدافع عن الاتجـاه الإسـماعـيليـة -ابو عجـيلة، والقطاع الجنوبي ويدافع عن الاتجـاهات السويس- الممرات.
2- يتم الدفاع على شكل نسقين واحتياط:
أ - النسق الأول: خط بارليف ويحتله لواء مشاة يتقوقع داخل 35 حصنـا ونقطة قوية بينها فواصل مجهزة بمرابض نيران للدبابات بمعدل مربض كل 100 متر (3).
ب- النسق الثاني: على مسافة 5-8 كـيلومترات وتحتله 3 كتائب دبابات قوامها 120 دبابة.
ج. يتجمع الاحتياط وقوامه ثلاثة ألوية عدا ثـلاث كتائب على مسافة 25-30 كيلومترا شرق القناة، وقوامه 240 دبابة.
3- في حـالات رفع درجات الاستعداد يندفع النسق الثاني لتدعيم النسق الأول ويندفع الاحتياط ليحتل أمكنة النسق الثاني، وبذلك تنضم 120 دبابة إلى خط بارليف (بعضها يدخل ضمن النقط القوية وبعضها الآخر يحتل الفواصل فيما بينها).
4- كان في تقديرنا أن العدو سوف يقوم بهجـمات مضادة بقوة سرايا أو كتائب دبابات في حدود 15-30 دقيقة من بدء العبور، وان يقوم بهجمات مضادة بقوة حوالي لواء مدرع بعد حوالي ساعتين من بدئه.
كيف تصـارعت الخطة بدر مع الخطة شوفاخ يونيم ساعة بعد سـاعة، وكيف انتصرت الخطة بدر؟ هذا ما سوف نقصه في الصفحات القليلة القادمة. إن عملية عبور القوات المسلحة المصرية لقناة السويس يوم 6 أكتوبر 73 تمثل سيمفونية رائعة اشترك فيها عشرات الآلاف من البشر، وكان عمل كل منهم ذا أهمية خاصة في إنجاحها. وإن قيامي بذكر بعض الأحداث في عملية العبور لا يعني مطلقا التقليل من أهمية الأحـداث الأخرى، وإنما يعني استحالة تسجيل تلك الأحداث جميعها.
ليلة 5 و 6 من أكتوبر:
قامت عناصـر من المهندسين بالتسلل إلى الشاطيء البعيد حيث قامت بإغلاق فتحات الأنابيب التي تنقل السائل الملتهب إلى سطح مياه القناة.
تسللت بعض دورياتنا إلى مؤخرة العدو.
سعت 1400 يوم 6 أكتوبر:
عبرت حوالي 200 طائرة قناة السويس على ارتفاع منخفض جـدا يكاد يلامس الساتر الترابي للعدو في الضفة الشرقية للقناة وقامت بتوجيه ضربة جوية مركزة ضد مطارات العدو في سيناء ومراكز قيادته ومحطات الرادار والإعاقة الالكترونية ومواقع الهوك وبعض مواقع المدفعية.
وبعد عبور طائراتنـا لخط القناة بحوالي 5 دقائق بدأت مدفعيتنـا تصب نيرانها فوق حصون خط بارليف. اشترك في هذا التمهيد الناري حوالي 2000 مدفع هاون وكان كل منها له واجب خاص يحدد له الهدف الذي يقصفه وعدد الطلقات التي يطلقها.
وتحت ستر نيران المدفعية تسللت عناصر من المهندسين إلى الشاطئ البعيد للتأكد من أن مواسير نقل السائل الملتهب التي أغلقت في اليوم السابق كانت ماتزال مغلقة.
وتحت ستر نيران المدفعية عبرت بعض عناصر من الصاعقة لكي تسبق العدو في احتلال الموقع والمصاطب التي تقع خلف خط بارليف بحوالي كيلومتر إلى كيلومترين.
بدا اللواء 130 برمائي عبوره للبحيرات المرة من طرفها الجنوبي بقوة 20 دبابة ت 76 و 80 مركبة توباز.
بدأت سرية مشاة في عبور بحيرة التمساح مسـتخدمـة في ذلك حوالي 10 مركـبات برمائية.
سعت 1420 يوم 6 أكتوبر:توقفت المدفعية ذات خط المرور العالي عن قصف النسق الأمامي لخط بارليف ونقلت نيرانها إلى العمق حيث مواقع النسق الثاني للعدو.
قامت المدفعية ذات خط المرور المسطح بالضرب المباشر على مواقع العدو في خط بارليف وذلك بهدف إسكات أية نيران يطلقها العدو على مشاتنا وهي تعبر القناة.
بدأت الموجة الأولـى من المشاة بركوب القوارب وأخذت تجـدف نحو الشاطـىء الشرقي للقناة وتهتف مع كل ضربة مجداف "الله اكبر" كان قوام هذه الموجة 4000 رجل يركبون 720 قارب مطاط.
لقد نجحنا في تحقيق المفاجأة التكتيكية أيضا. إن العدو لم يتمكن من رفع درجة استعداد قواته في منطقة القتال إلى الحالة القصوى قبل أن نبدأ هجومنا. لقد بدأ يدفع دباباته التي تحتل النسق الثـاني لتدعيم خط بارليف حوالي السـاعة 1420. ولكـن قواتنا من رجـال الصاعقة كانت قد سبقته في احـتلال عدد من المصاطب التي كان قد أعدها لنفسه لتكون مرابض نيران له واشتبكت معه ودمرت عددا من دباباته بينما كان يتقدم غربا. كما أن دباباتنا وصواريخنا المضـادة للدبابات التي كانت على الشاطئ الغربي أخـذت تدمر دباباته المتحركة الواحدة بعد الأخرى.
نجحت سرية المشاة في عبور بحيرة التمساح بمركبات التوباز.
سعت 1430 يوم 6 أكتوبر:
لقد وصلت الموجـة الأولى من المشاة إلى الشاطئ الشرقي للقناة واحـتلت بعض أجزاء الساتر الترابي الذي يقع بين حصون خط بارليف. كان كل قارب يحمل معه سلالم حـبال وعلامة إرشاد كبيرة تحمل رقم القارب. قام أفراد هذه المجموعة بفرد سلالم الحبال وتثبيتها على الساتر الترابي (1440 سلما)، كما قاموا بتثبيت علامات الإرشاد التي تبين رقم القارب (رقم مسلسل من 1 إلى 720)، كانت تلك الأرقام تحدد أمكنة وصول القوارب وقد روعي أن تكون المسافات بينها كما يلي:
25 مترا فاصل بين كل قارب داخل سرية المشاة.
200 متر فاصل بين كل سرية وأخرى.
400 متر فاصل بين كل كتيبة وأخرى.
800 متر فاصل بين كل لواء وآخر.
وكانت المسافة بين كل فرقة مشاة وأخرى حوالي 15 كيلومترا. بدأت عناصر المهندسين العمل في فتح الثغرات في الساتر الترابي باستخدام ضغط المياه وقد اشترك في هذا العمل 70 فصيلة مهندسين معهم 350 مضخة مياه. كـان المهندسون يقومون بفتح هذه الثغرات في الفواصل التي بين الوحـدات الفرعيـة (الألوية والكتـائب والسرايا) التي ذكرناها سابقا.
لقد بدأت القوارب التـي نقلت الموجة الأولى من المشاة تعود مرة أخـرى إلى شاطئنا لكي تنقل الموجات الأخرى، وكان في كل قارب رجلان من وحدات المهندسين.
المعركة بالنيران مستمرة بين العدو وبين قواتنا وكانت المعركة الرئيسية تدور بين دباباتنا وأسلحتنا المضادة للدبابات التي تحتل موقعها غرب القناة وبين دبابات العدو التي تحاول أن تشق طريقها نحو القناة. وفي الوقت نفسه فإن المعركة بين رشاشاتنا وجميع أسلحتنا ذات خط المرور المسطح، كانت مستمرة بهدف إسكات المواقع الحية في خط بارليف.
طائراتنا التي قامت بتنفيذ الضربة الجوية تعود إلى قواعدها خـلال ممرات جوية محددة تم الاتفاق عليها بين قيادة القوات الجوية وقيادة الدفاع الجوي من حيث الوقت والارتفاع. وقد خسرنا في هذه الضربة 5 طائرات كانت هي خسائرنا كلها خلال معركة القناة (حتى صباح يوم 7 أكتوبر).
سعت 1445-1530 يوم 6 أكتوبر:
عبرت الموجة الثانية من المشاة القناة (حوالي 1445) وتلتها الموجات الأخـرى بمعدل حوالي 15 دقيقة بين كل موجة وأخـرى. وبنهاية الموجة الرابعة كان قد عبر لنا 20 كتيبة مشاة قوامها 800 ضابط و 13500 جندي ومعهم الأسلحة التي يستطيعون حملها أو جرها. وقد بدا مشاتنا على الجانب الآخر يتحملون نصـيبا اكـبر في المعركـة ضد هجمات العدو المضادة. لقد بدا مشاة الموجة الأولى المعركـة ضد دبابات العدو منذ أن وضعوا أقدامهم على الشاطئ الآخر سعت 1430، ولكن الدور الرئيسي للمعركة في ذلك الوقت كان يقع على دباباتنا وأسلحتنـا المضادة للدبابات التي تقع على الشاطئ الغربي. ومع استمرار وصول الموجات المتتالية اخذ العبء الرئيسي للمعركـة ينتقل شيئا فشيئا إلى المشاة التي عبرت. وحتى الساعة 1530 لم تكن مشاتنا قد تقدمت اكثر من 200 متر شرق الساتر الترابي.
المدفعية مستمرة في ضرب الأهداف في عمق العدو وقد اصبح من الممكن توجيه نيرانها بدقة بفضل ضـباط المدفعية الذين يرافقون المشاة شرق القناة ويقومون بتصـحيح النيران وتحديد الأهداف.
المهندسون مسـتمرون في عملهم لفتح الثغرات في السـاتر الترابي، بينما وحـدات المهندسين المكلفة بتشغيل المعدات وبناء الكباري قد تم إنذارها لكي تكون جاهزة للتحرك من مواقع تجمعها إلى النقاط المحددة.
لقد بدأ العدو يقحم قواته الجـوية في المعركة حوالي الساعة 1500 ودخل معـه دفاعنا الجوي في المعركة وتمكن من إسقاط 7 طائرات.
سعت 1530-1630 يوم 6 أكتوبر:
موجات المشاة مستمرة في العبور وقد عبرت حتى هذا الوقت 8 موجات، وبحلول الساعة 1630 كان قد اصبح لدينا في الجانب الآخر خمسة رؤوس كباري، كل منها قاعدته 6-8 كيلومترات وعمقه كيلومتران، وكانت تحـتل رؤوس الكباري هذه ثلاثون كتيبة مشاة قوامها 1500 ضابط و 22000 رجل.
وخلال تلك الفترة اشتد ضغط مشـاتنا على حصن خط بارليف ونقطه القوية وسقطت بعض مواقع العدو في أيدي رجالنا. كما تم إسكات مواقع أخرى.
قواتنا مستمرة في صد هجمات العدو المضادة التي يقوم بها ضد قواتنا، لقد اصبح العبء الأكبر في صد الهجمـات المضادة يقع الآن على عاتق المشاة التي عبرت وليس على الأسلحة المضادة للدبابات التي كانت ماتزال على الشاطئ الغربي.
قوات المهندسين تعمل بنشاط في فتح الثغرات.
وحدات الكباري تصل إلى النقاط المحدد ة لها وتنزل معداتها في الماء وتبدا المرحلة الأولى من بناء الكباري.
وحدات المهندسين المكلفة بتشغيل المعدات تتحرك إلى الأمكنة المحـدد ة لها وتبدأ في الاستعداد والتحضير انتظارا لإتمام فتح الثغرات .
المدفعية مستمرة في الاشتباك ضد الأهداف التي تحددها المشاة.
الدفاع الجوي مستمر في الاشتباك مع الطائرات المغيرة.
سعت 1630-1730 يوم 6 أكتوبر:
لقد أتمت الموجة الثانية عشرة من المشاة عبورها وبحلول الساعة 1730 كان قد اصبح لنا في الشاطئ الآخر 45 كتيبة مشاة قوامها 2000 ضـابط و30000 رجل. لقد اصبح عمق رؤوس الكباري للفرق حوالي 3-4 كيلومترات لكل منها.
مشاتنا تهاجم مواقع خط بارليف وتستولي على بعض النقاط.
قوات الشرطة العسكرية التي عبرت بالقوارب مع المشـاة بدأت تقوم بعملهـا الخاص بتحديد الطرق وترقيمها وتمييزها لمساعدة الدبابات والمركبات التي سوف تعبر على المعدات وعلى الكباري في التـعرف على اتجاهها حتى لا تضل الطريق عند تحركها للانضـمام إلى الوحدات الأم التي سوف تقوم بتدعيمها.
لقد بدأت النيران التي تنبعث من خط بارليف تخف وتضـعف نتيجة احتلال بعض المواقع وإسكات بعضها الآخر، ولكن مازال هناك الكثير من المواقع التي- وإن كانت غير قادرة على إطلاق نيران مؤثرة- كانت قادرة على توجيه وإدارة نيران المدفعية والطيران للعدو.
قوات المهندسين مستمرة في العمل على فتح الثغرات.
وحدات الكباري مستمرة في تنفيذ المرحلة الأولى من مراحل البناء.
وحدات المعديات مستمرة في تنفيذ مرحلة التجهيز والاستعداد.
معركة المدفعية مستمرة.
وحدات الدفاع الجوي مستمرة في الاشتباك مع طائرات العدو المغيرة.
من سعت1730-1830 يوم 6 من أكتوبر:
لقد وصلت رؤوس كباري الفرق إلى عمق حوالي 5 كـيلومترات، وقد أصبحت معظم أجزاء خط بارليف محاصرة من قبل قواتنا.
قوات المهندسين مستمرة في فتح الثغرات وتجهيز المطالع على الجانب الآخر، وفي حوالي الساعة 1830 فتحت أول ثغرة في الساتر الترابي، أي بعد 4 ساعات من بدء عبور المشاة. أتمت الوحدات المكلفة بتشغيل المعدات تحضيراتها، وأخذت تنتظر انتهاء الوحدات المكلفة بفتح الثغرات في الساتر الترابي.
وحدات المهندسين المكلفة ببناء الكباري انتهت من المرحلة الأولى، وأصبحت تنتظر الانتهاء من فتح الثغرات حتى يمكنها أن تبدأ المرحلة الثانية والأخيرة من اجل بناء الكباري.
دبابات ومركبات الأسبقية الأولى التي كان محددا لها أن تعبر على المعديات تتقدم في اتجاه المعابر المحددة لها.
في حوالي السـاعة 1730 تم إبرار 4 كتائب صاعقة بواسطة طائرات الهليوكـوبتر في عمق العدو في أمكنة متفرقة داخل سيناء.
من سعت 1830-2030 يوم 6 من أكتوبر:
المشاة تعزز مواقعها على الشاطئ الشرقي، وتقوم بإرسال ضبـاط اتصال إلى مخارج المعديات والكباري لاستقبال الدبابات والمركبات وتلقينها واجباتها تبعا لآخر موقف عمليات. تم خلال هذه الفترة فتح معظم الثغرات في الساتر الترابي.
بدا عبور الدبابات والأسلحة الثقيلة عبر المعديات بمجرد إتمام فتح الثـغرات وبحلول الساعة 2030 كان قد أصبح لنا 31 معدية تعمل بين الشاطئين الغربي والشرقي للقناة.
تم بناء أول كوبري ثقيل على القناة الساعة 2030.
كانت الدبابات والعناصر ذات الأسبقية الأولى - والتي كـان مقررا لها أن تعبر على الكباري (4)- تتحـرك في اتجاه الكباري تبعا لمدى التقدم الذي يحرزه المهندسـون في بناء الكباري المختلفة.
استمرار التراشق المتقطع بالمدفعية.
استمرار الدفاع الجوي في التصدي للطائرات المغيرة.
سعت 2030-2230 يوم 6 من أكتوبر:قوات المشاة تستمر في تعزيز مواقعها في رؤوس الكباري شرق القناة.
أتم المهندسون فتح الثغرات وتشغيل معظم المعديات والكباري (5). وبحلول الساعة 2230 كان المهندسون قد أتموا إنجاز الأعمال الهندسية التالية:
أ- فتح 60 ثغرة في الساتر الترابي وذلك بتجريف 90000 متر مكعب من الرمال.
ب- إتمام بناء 8 كباري ثقيلة.
ج- إتمام بناء 4 كباري خفيفة هيكلية.
د- إتمام بناء وتشغيل 31 معدية.
كانت دباباتنا ومركباتنا تعبر فوق الكباري والمعديات فور تجهيزها وقد بلغت ذروتها في الساعة 2230 عندما كانت وسائل العبور الثقيل جميعها تعمل بأقصى طاقة لها وذلك فيما عدا قطاع الفرقة 19 مشاة حيث ظهرت مشكلات غير متوقعة بخصوص طبيعة التربة.
استمرار التراشق بالمدفعية.
العدو يقوم بغارات على الكباري ويتعرض لـه دفاعنا الجوي فيسقط مزيدا من الطائرات وبحلول الساعة 2230 كان قد بلغ ما أسقطه دفاعنا الجوي منذ بدء القتال 27 طائرة.
قامت الدبابات والأسلحة الثقيلة بالانضمـام إلى المشاة في رؤوس الكباري ما بين الساعة 2230 يوم 6 من أكتوبر والساعة 100 يوم 7 من أكتوبر.
قامت المشاة مدعمة بالدبابات وأسلحة الدعم الأخرى بدفع رؤوس الكباري إلى عمق 8 كيلو مترات.
قام العدو خلال الليل بهجمات مضادة وقد نجحت قواتنا في صدها جميعا، ولكن العدو تمكن في حالتين من الوصول إلى خط المياه واستخدام دباباته في تعطيل كوبريين اثنين وتدمير بعض وسائل العبور الأخرى، ولكن الصراع بين مشاتنا وبين دباباته التي نجحت في اختراق مواقعنا استمر طوال الليل واستخدمت فيه ألقواذف RPG والقنابل المضادة للدبابات. وقبل الصباح كان قد تم تدمير الدبابات التي نجحت في اختراقها خلال الليل ولم تنج منها إلا أعداد قليلة جدا شوهدت في الصباح وهي تهرب بأقصى سرعة نحو الشرق.
المهندسون يقومون بإصلاح الكباري التي تتعطل نتيجة قصف المدفعية والطيران ويعيدون تشغيلها بعد فترة وجيزة.
معركة القناة:
بحلول الساعة الثامنة من صباح يوم الأحد 7 من أكتوبر 73 كانت قواتنا قد حـققت نجاحا حاسما في معركة القناة، فقد عبرت اصعب مانع مائي في العالم وحطمت خط بارليف في 18 ساعة، وهو رقم قياسي لم تحققه أية عملية عبور في تاريخ البشرية، وقد تم ذلك بأقل خسائر ممكـنة. فقد بلغت خسائرنا 5 طائرات و20 دبابة و280 شهيدا (6). ويمثل ذلك 2,5% في الطائرات و 2% في الدبابات و 3,.% في الرجال. أما العدو ففقد 30 طائرة و 300 دبابة وعدة آلاف من القتلى وخسر معهم خط بارليف بكامله. لقد تم سحق ثلاثة ألوية مدرعة ولواء مشاة كانت تدافع عن القناة وأصبحت أسطورة خط بارليف التي كـان يتغنى بها الإسرائيليون في خبر كان.
 
الفصل الثاني والثلاثون: الهجوم المضاد الرئيسي للعدو
الموقف يوم 7 من أكتوبر:
لقد كان يوم الأحد 7 من أكتوبر يوم فرح وسعادة بالنسبة لنا. لقد انتصرنا في معركة العبور واصبـح لنا على الشاطئ الشرقي خمس فرق مشـاة بكامل أسلحتها الثقيلة ومعها حوالي 1000 دبابة، بينما العدو في تلك المنطقة قد اصبح في حالة فوضى عارمة وقد أبيدت قواته تمامـا. ولكن لم تكن هذه الصورة الوردية للموقف صـباح يوم 7 من أكتوبر لتنسينا الحقائق التي كانت تفرض نفسها في رؤوسنا. لقد نجـحنا في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية وبالتالي فإن العدو لم يقم بإجـراء التعبئة الشاملة، إذن فإن المعارك الكبرى مع قوات العدو الرئيسية كانت لم تبدأ بعد.
لقد كان تقدير مدير المخابرات الحربية أن العدو سيقوم بالهجوم المضاد بقواته الرئيسية بافتراض قيامه بإتمام تعبئة قواته قبل بدء الهجوم بعد 6- 8 ساعات من بدء هجومنا. وحتى صـباح يوم الأحـد أي بعد 18 ساعة من بدء القتـال- لم تكن هناك أية ظواهر تدل على أن قوات العدو المعبأة قد دخلت المعركـة في الجبهة المصرية. وكان السؤال الذي يدور في رؤوسنا في ذلك الوقت هو "متى يقوم العدو بالهجوم المضاد الرئيسي؟ يوم 8 أم يوم 9 من أكتوبر؟". لقد كان يوم 7 من أكتوبر هو يوم سباق بينا وبين العدو استعدادا للمعركة التالية. لقد دفع العدو إلى جبهة سينـاء بخمسـة ألوية مدرعة جديدة كما دفع ب300 دبابـة أخرى لتعويض خسائر الألوية المدرعة الثلاثة التي كانت موجودة أصلا. وبحلول صباح يوم 8 من أكتوبر كان العدو قد حشد أمامنا ثمانية ألوية مدرعة منظمة في ثلاث فرق: فرقة من ثلاثة ألوية مدرعة في القطاع الشمالي تحت قيادة الجنرال برن أدان، فرقة من ثلاثة ألوية مدرعة في القطاع الأوسط تحـت قيـادة الجنرال شارون ، فرقة من لواءين مدرعين في القطاع الجنوبي تحت قيادة الجنرال ألبرت ماندلر.
ومن ناحيتنا فقد قمنا بالاستفادة من يوم 7 أكتوبر في إنجاز ما يلي:
1- قامت الدبابات والأسلحة الثقيلة الخاصة بالفرقة 19 مشاة بالعبور على كباري الفرقة السابعة.
2- قامت فرق المشاة بتوسيع رؤوس الكباري وسد الثغرات التي بينها وبين الفرق المجاورة داخل كل جيش. وبحلول صباح يوم الاثنين 8 من أكتوبر كانت رؤوس كبـاري الفرق الخمس قد أدمجت في رأسي كوبريين في جيشين كان راس كوبري الجيش الثاني يمتد من القنطرة شمالا إلى الدفرسوار جنوبا،(1) وراس كوبري الجيش الثـالث يمتد من البحـيرات المرة شمالا حتى بور توفيق جنوبا. وكان راس كوبري كل جيش يصل في عمقه إلى حوالي 10 كيلو مترات. كان ما يزال هناك ثغرة تفصل بين رأسي الكوبري للجيشين، وكان طولها حوالي 30-40 كيلومترا، وكانت هذه الثغرة لا تدخل ضمن مظلة الدفاع الجوي، وبذلك فإن قدرتنا على التحرك داخل هذه المنطقة كانت محدودة جدا، وبهذا الموقف كانت حصون ومواقع خط بارليف جميعها قد سقطت في أيدينا، وذلك فيما عدا موقعين، أحدهما في أقصى الشمال، والآخر في أقصى الجنوب، وإن كان الموقع الجنوبي قد تم حصاره حصـارا تاما، واصبح سقوطه في أيدينا مسالة وقت فقط.
3- وفي خلال يوم 7 أكتوبر قامت قواتنا الخاصة التي تعمل في مؤخرة العدو بعدة إعمال نشطة، كـان لها اثر كبير في إرباك قيادات الـعدو، وتعطيل تحـرك احتياطياته نحو الجبهة. قامت عناصر من اللواء 130 مشاة الأسطول (برمائي) بالتقدم خلال ممري متـلا والجدي، حـيث قامت بمهاجمة مركز رئاسة القطاع الجنوبي ومحطات الرادار والمعسكرات، وقد تقدمت إحدى سرايا اللواء خلال ممر الجدي حتى وصلت إلى مطار تمادا، الذي يقع على مسافة حوالي 80 كيلومترا شرقي القناة في الوقت نفسه كانت عناصر الصاعقة التي تم إبرازها بطائرات الهليوكوبتر قبل آخر ضوء يوم 6 من أكتوبر، تعبث بمؤخرة العدو، وتقوم بمهاجمة قواته التي تتحرك نحو الجبهة، مما أثار الذعر بين صفوفه، وأرغمه على التحرك ببطء وحذر، وبالتالي تأخر وصوله إلى الجبهة.
4- لقد استفدنا أيضا من يوم 7 من أكتوبر في تحسين الموقف الإداري، الذي كان في حاجة ماسـة إلى دفعة قوية. إن النجاح الذي أحـرزناه في معركة العبور كان على حساب التضـحية بـالموقف الإداري. لقد كان كل جندي يحـمل تعيينا لمدة يوم واحد، وتعـيينا مخفضـا من المياه لمدة يوم واحد (2)، وأقصى ما يستطيع حمله من الذخيرة لقد كان شعارنا-كما سبق أن ذكرت- "أقصى ما يمكن من السلاح والذخيرة، اقل ما يمكن من المطالب الإدارية الأخرى"، وعلى الرغم من أن معظم العربات والوحدات الإدارية كانت قد عبرت قبل صـباح يوم 7 من أكتوبر، إلا أن الخسائر التي وقعت في تلك العربات نتيجـة تدخل العدو، والتأخير غير المتوقع في وسائل العبور في قطاع الفرقة 19، قد حرمنا من بناء احتيـاطي معقول من الاحتياجـات الإدارية شرق القناة، وهكذا كان لابد من بذل مجهود إداري كـبير لتعويض ما استهلك خلال معركة العبور، وبناء احتياطي إداري استعدادا للمعركة القادمة.
مقارنة بين قواتنا والقوات المعادية يوم 8 من أكتوبر:
إذا قارنا بين حجم القوات البرية المصرية والإسرائيلية في جبهة القناة صباح يوم 8 من أكتوبر، نجد أنها تكاد تكون متساوية. لقد كان لدى العدو 8 ألوية مدرعة قوامها 960 دبابة ما بين سنتوريان ، م48، م 060 أما نحن فكان لدينا حوالي 1000 دبابة ما بين ت 62، ت 55، ت 34، ت 76. ومع أن عدد الدبابات كاد يكون متساويا فقد كان هناك عاملان مهمان يمكن أن يكون لهما تأثير حاسم على المعركة، إذا ما حدثت المجابهة بين الدبابات وحدها دون إدخال الأسلحة الأخرى في المعركة، كان العامل الأول هو التسليح، والعامل الآخر هو التجميع.
كانت دبابات العدو جميعها مسلحة بالمدفع 105 ملليمتر، وكانت مجـهزة بوسائل جيدة لتقدير المسافة والتسديد. أما دباباتنا فكان توزيعها كما يلي:
- 200 دبابة ت 62 مجهزة بالمدفع 115 مم.
- 500 دبابة ت 54، ت 55 مجهزة بالمدفع 100 مم.
- 280 دبابة ت 34 مجهزة بالمدفع 85 مم.
- 0 2 دبابة ت 76 مجهزة بالمدفع 76 مم.
من هنا يمكن القول إن تسليـح دبابات العدو كـان أفضل من تسليح دبـاباتنا، لكن هذا التفوق النوعي في التسليح يمكن التـغلب عليه إذا نحن أحسنا استخدام الأرض وتحـاشينا الدخول مع العدو في معركة دبابات في ارض مفتوحة، حيث يصبح مدى المدفع هو السلاح الحاسم في المعركة.
كان العامل الآخر هو أسلوب الطرفين في تجميـع واستخدام دباباته، حيث كانت دباباتنا مربوطة بالأرض، وكان نصفها ضمن الهيكل التنظيمي لألوية المشـاة على شكل كتـائب دبابات وكان تدريبها مقصورا على تعاون المشاة في الهجوم والدفاع، لكـنها لم تكن مدربة على القيام بالدخول في معارك الدبابات حيث يكون عنصر القتال الرئيسي هو دبابة ضد دبابة. أما النصف الآخر من دباباتنا فقد كان موزعا على فرق المشاة بمعدل لواء مدرع لكل فرقة، وذلك لرفع قدراتها القتالية في صد هجمات العدو المركزة بواسطة الدبابات. لم تكن لدينا الفرصة إذن في أن نناور بدباباتنا من مكان لآخر من الجبهة إلا في حدود ضيقة جدا. أما العدو فقد كانت ظروفه افضل منا بكثير، فلم تكن دباباته ملزمة بأن ترتبط بالأرض للدفاع عن المشاة كما في حالتنا وكان لديه العمق الكافي الذي يسمح له بالمناورة وتحريك ألويته المدرعة من قطاع إلى قطاع بحرية تامة، وخلال ساعات قليلة.
وخلاصة القول. فقد كان العدو يستخدم دباباته الاستخدام الصحيـح، أي انه كان يستخدمها كدبابات أما نحن فقد كنا نستخدمها كمدافع مضادة للدبابات ذاتية الحركة،أكثر من استخدامها كدبابات.
ولم يكن ذلك جهلا منا بأصول استخدام الدبابة، بل كان بسبب الظروف التي فرضت نفسها علينا. إذ أن ضعف تسليح دباباتنا، وضعف قواتنا الجوية، كانا يفرضـان علينا أن نستخدم دباباتنا بأسلوب دفاعي، ويدعواننا إلى تحاشي الدخول في معارك دبابات بحتة، وقد أثبتت الأيام التالية أننا كنا على صواب عند اتباع هذا الأسلوب، وان استخدامنا للدبابات ضمن تشكيلات المشاة قد حقق نتائج مبهرة، وعندما قمنا بتغيير هذا الأسلوب في 14 أكتوبر- بناء على قرار سياسي كما سيأتي فيما بعد- تمكن العدو من أن يدمر لنا 250 دبابة في اقل من ساعتين.
زيارتي الأولى إلى الجبهة يوم 8 من أكتوبر:
في الصباح الباكر من يوم 8 من أكتوبر تحركت إلى الجبهة، لمناقشة الموقف على الطبيعة مع القادة الميدانيين. وبدأت رحلتي بزيارة اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثـاني- ثم تحركت إلى الفرقة الثانية مشاة ومنها إلى قيادة الجيش الثالث، ومنها إلى الفرقة السابعة مشاة، ثم عدت في نهاية النهار إلى المركز 10 لقد سعدت جدا بهذه الزيارة حيث شاهدت الضباط والجنود وهم في قمة السعادة ويتمتعون بروح معنوية عالية، على الرغم من المجهودين الذهني والجسماني اللذين تحملوهما خلال ألـ 42 ساعة الماضية، التي تخـللتها ليلتان متتاليتان دون نوم، كان الكثيرون منهم يهتفون عند رؤيتي "التوجيه رقم 41 كان ممتازا. كان خير دليل لنا!!".
قابلت العميد حسـن أبو سعده- قائد الفرقة الثانية مشاة- في مركز القيادة المتقدم للفرقة، كان يستـعد لملاقاة الهجوم المضاد المنتظر من العدو. كان يتمتع بروح معنوية عالية، وكـان واثقا من انه سوف ينجح في صد العدو. بعد أن تركت حسن أبو سعده توجـهت لزيارة أحد مواقع خط بارليف المواجه لمدينة الإسماعيلية، كان هذا الموقع حصينا منيعا، ولم يسقط في أيدينا إلا فجر يوم 8 من أكـتوبر، أي قبل ساعات قليلة من زيارتي له. كان هو الموقع نفسه الذي نظرت إليه يوم الجمـعة الماضي قبل بدء العمليات بـ 24 سـاعة، بغية التعرف على ما إذا كان العدو قد أحس باستعداداتنا للهجوم، أم لا. ما أغرب هذا الشعور الذي أحس به و أنا ادخل الحصن كان حصنا شامخا ومنيعا كغيره من حصون خط بارليف، وظن بنو إسرائيل أن حصونهم ستحميهم من أيدينا، وهانحن أولاء قد دمرنا حصونهم بفضل الله، وهانحن أولاء ندخل حصونهم مرفوعي الرأس والكرامة، ولا شـعوريا وجدت نفسي انطق وأنا ادخل هذا الحصن "الحمد لله.. والله اكبر".
بعد أن زرت هذا الحصن أخذت أتجول في ميدان المعركـة، فوقع بصري على منظر حزين، منظر أربع دبابات مصرية محترقة يواجه بعضها بعضـا، على مسافة تقل عن 500 متر، لقد دمرت بعضـها بعضـا خطأ، ويظهر من برج إحداها رجل متفحم يشير بيده إلى الدبابات التي في مواجهته. إن مثل هذه الحـوادث تحدث بكثرة في الحرب، ولا يمكن تجنبها بتاتا، وإن كـان من الممكن الإقلال منها، والشـعور بالذنب الذي يستولي على الرجال الذين يقتلون زملائهم خطا خلال الحرب قد يحولهم إلى حطام، ما لم يجر علاجهم علاجا نفسيا ومساعدتهم على التخلص من تأنيب الضمير الذي يلازمهم. لقد سبق أن قلت إن فرق المشاة كانت تقوم بتوسـيع رؤوس الكباري وسد الثغرات التي بينها. وفي فجر يوم 8 من أكتوبر كانت فصيلة دبابات من الفرقة الثانية مشاة تتحرك جنوبا، بينما كانت فصيلة دبابات أخرى من الفرقة 16 مشاة تتحـرك شمـالا، بهدف التلاقي وإكـمال حـصـار موقع العدو في الإسماعيلية شرق (4) " وبعد أن عبرت الدبابات الثـلاث المتقدمـة شمالا أحـد التلال فوجئت بالدبابات الثلاثة الأخرى المتقدمة جنوبا. كـان وقع المفاجأة عنيفا على الطرفين، وتصرف كل منهما بما تمليه الغريزة في ميدان القتـال، فأطلقت كل فصيلة النار على الأخـرى، وكانت النتيجة تدمير دبابتين من كل فصيلة من الطلقة الأولى. لم يطلق سوى أربع طلقات وكانت خسائرنا أربع دبابات و أربعة أطقم. لقد وقفت خاشعا أمام دباباتنا المحطمة، لكنني لم أستطع أن اكتم شعورا داخليا بـالفرحة لمستوى الجندي المصري، من حيث الروح القتالية ومستوى التدريبي مهما كانت الأسباب لهذا الحادث المحزن فإنه يشهد لأصحابه بأن المفاجئة لم تشل تفكيرهم وانهم أطلقوا نيرانهم في وقت واحد، وان تسديدهم كان دقيقا للغاية.
عند وصولي إلى قطاع الفرقة السابعة مشاة وجدت الطريق المؤدي للكوبري مزدحما، مما دفعني إلى الترجل والسير بضع مئات من الأمتار للوصول إلى الكوبري، وهناك وجدت قائد الفرقة العميد بدوي يقف بجوار الكوبري، عبرنا الكوبري سيرا على الأقدام حيث ركبنا عربة قائد الفرقة التي كانت تنتظره شرق القناة وأخذنا نقوم بجولة على القوات داخل راس كوبري ألفرقه لم تكن الأمور قد استقرت تماما في قطاع الفرقة فقد عثرنا على ملازم ومعه ثلاث دبابات في مكان منعزل دون أن يعرف مكان وحدته الأم. كان الموقف الإداري ليس جيدا، فقد شاهدت بعض الجنود وهم يعبرون إلى الشاطئ الغربي، ومعهم صفائح فارغة لملئها بالمياه (5).
لقد كان اكثر ما أزعجني خلال تلك الزيارة هو موقف الكباري، لقد بلغت خسـائرنا ما يعادل في مجموعه ثلاثة كباري ثقيلة، وقد كان ذلك يمثل حوالي 25% من مجموع الكباري التي بدأنا بها الحرب قد يبدو هذا الرقم مقبولا بالنسبة لعملية عبور بهذا الحجم، لكنني كنت أفكر فيما قد يحدث بعد أسابيع أو اشهر، ماذا يمكن أن يحدث لو أن العدو ركز مجهوده الجوي ومدفعيته البعيدة المدى على الكباري سوف نسقط له العديد من طائراته ما في ذلك من شك لكن في الوقت نفسه سوف يتمكن من تدمير عدد إضافي من الكباري، ويخلق لنا موقفا صعبا، وهنا برزت في ذهني فكرة بناء كباري صماء من الرمل والحجارة بدلا من الكبـاري العائمة التي نستخدمها، إن مثل هذه الكباري لا تستطيـع الطائرات أن تدمرها بسهولة، إننا نستطيع دائما أن نصلح الحفر التي تحدثها قنابل الطائرات المغيرة في هذه الكباري، بأن نردم تلك الحفر بمزيد من الرمل والحجارة فكرت مليا في هذه الفكرة وأخذت اقلبها بيني وبين نفسي في أثناء عودتي من الفرقة السابعة، متجها إلى قيادة الجيش الثالث. وفيما يلي الحوار الذي دار بيني وبين نفسي، وكأننا شخصان يتحدثان:
أ-أنها فكرة جيدة لكن هل من الممكن تنفيذها من الناحية الهندسية؟ .
ب- اعتقد أن ذلك ممكن. أنها لن تكون اصعب من السد العالي
أ- إن بناء السد العالي استغرق 10 سنوات، فهل تريد أن ننتظر عشر سنوات؟
ب- بالتأكيد لا.. أني أريد أن تكون جاهزة خلال أسبوعين ، أو ثلاثة، أو أربعة على الأكثر. إني لا أريدها سدا مسـتديما مثل السد العالي. إني أريدها سدا مؤقتـا. إني أتصور أن نقوم بردم جزء من القناة، بإلقاء الرمل والحجارة في المجرى المائي، ثم نمهد الجزء العلوي لكي يتحمل مرور الدبابات والنقل الثقيل، لا خرسانة ولا حديد ولا شيء من هذا القبيل، وبمجرد انتهاء الحرب يتم رفعها، وتطهير مجرى القناة من بقاياها.
اسأل المهندسين. إنهم هم الذين يستطيعون أن يقولوا إذا كانت مثل هذه الفكرة ممكنة أم لا.
ب- بالتأكيد.. سوف اسأل المهندسين، بل سوف أسأل اكثر من مهندس، لأن المهندسين كثيرا ما تختلف آراؤهم.
لم ارغب في الانتظار حتى عودتي إلى المركز 10، لكي ابحث مع مدير المهندسين فكرتي عن بناء كـباري صماء فوق القناة وصممت أن أسـتشير أول مهندس أقابله، وفي أثناء وجودي في قيادة الجيش الثالث استدعيت رئيس المهندسين بـالجيش، وانتحيت به جـانبا، حيث أطلعته على الفكرة، وسألته عن رأيه من الناحية الفنية. أجاب دون تردد بان ذلك ممكن من الناحية الهندسية. وعندما سـألته عن الوقت اللازم لإنشاء 3 كباري من هذا النوع. أجاب قـائلا: "لكي أجـيب عن هذا السـؤال هل لي أن أعرف أولا من الذي سيقوم بإنشـاء هذه الكباري، وهل سـيتم ذلك بإمكانات القوات المسلحة وحدها، أم أن ذلك سوف يتم بإمكانات الدولة كلها؟ ". قلت له إنه بمجرد أن يتخـذ القرار
بخصـوص هذا الموضوع فسوف توضع إمكانات الدولة في خدمة المشروع. فأجاب قائلا: "في هذه الحالة يمكن بناء هذه الكباري الثلاثة في إسبوع"، "إسبوع؟ الست تغالي في هذا التقدير؟" صـرخت في وجهه صراخا مفعما بالدهشة والفرح. لكنه عاد يؤكد لي مرة أخرى بأن هذا ممكن. وأضـاف قائلا: إنها عملية بسيطة جدا، إننا سوف نحتاج فقط إلى بولدوزرات، اما الرمال التي سوف تردم بها القناة فإنها هناك في مكان العمل، ولن نحتاج إلى نقلها".
بعد عودتي من الجـبهة إلى المركز 10 في نهاية ذلك اليوم، أخبرت الوزير بالفكرة، لكنه كان مترددا للـغاية. أوضحـت له خطورة الموقف وما يمكن أن يحدث لو أن خسـائرنا في الكباري اسمترت بهذا المعدل، فاضطر في النهاية أن يقول انه سيخطر الرئيس فيما بعد. لم أرغب في أن أضيع وقتي واقف ساكنا إلى أن يأذن أو لا يأذن الرئيس لي بذلك، وقررت أن اتخـذ بعض الخطوات الإيجابيـة في هذا الاتجاه بحـثت الفكرة مع اللواء جـمال على مدير المهندسين، فنصح بأن نناقش الموضوع كله مع كل من الدكتور بدران وزير الإصلاح الزراعي، والمهندس مشهور احمد مشهور رئيس هيئة قناة السويس، والمهندس عثمان احمد عثمان مدير شركة المقاولين العرب وفى الساعة 2100 من اليوم نفسه كان جميعهم ومعهم اللواء جمال علي في مكتبي في المركز 10 لبحث هذا الموضوع. شرحت الأسباب التي دفعتني إلى ذلك وسألتهم العون والمشورة كان رد الفعل لدى المهندس عثمان احمد عثمان سريعا ومؤيدا، ومد يده إلي مصافحا وهو يقول: "سيادة الفريق.. أهنئك على هذه الفكرة، لقد فكرت فيها أنا شخصيا وكنت أفكر في أن أتقدم بها إلى القوات المسلحة، إنها فكرة رائعة ويمكن تنفيذها بسهولة. آما بخصوص الوقت اللازم لإتمام هذه الكباري فأني احتاج إلى بعض الوقت لإنجاز الحسابات اللازمة لذلك". أما فيما يتعلق بالمهندس مشهور أحمد مشهور فقد أصيب بدهشة وخيبة أمل كبيرتين بما سمع مني، وعلق قائلا: "كيف تفكر في ردم القناة ، علما بان الرئيس اتصل بي اليوم وأخبرني بان اعد العدة والخطة لتطهير القناة، وإعادة فتحها للملاحة؟" (6) قلت له: " إنني لا اردم القناة أنني أريد أن ابني عليها الكباري التي تحقق لنا النصر، ثم أننا لن نبدأ العمل في هذا المشروع إلا بعد الحصول على تصديق رئيس الجمهورية وسوف يقوم وزير الحربية بالاتصال به وطلب الإذن منه بذلك" قام المهندس عثمان احمد عثمان بطمأنة المهندس مشهور، وقال له انه يستطيع أن يرفع هذه الكباري من مجرى القناة في خلال أيام قليلة بعد انتهاء الحرب وفى نهاية المؤتمر اتفقنا على أن يتولى المهندس عثمان احمد عثمان تنفيذ المشروع، على أن تضع هيئه قناة السويس ووزارة الإصلاح الزراعي إمكاناتها جميعها في خدمته.
لقد كانت الساعة 2300 عندما خرج الرجال الأربعة من مكتبي في طريقهم إلى مكتب عثمان احمد عثمان، لإجراء الدراسات الخاصة بالمشروع.
وفي مساء 9 من أكتوبر كانت مجموعة العمل قد انتهت من دراسة المشروع، وتقدم المهندس عثمان احمد عثمان بتقريره. الذي كان يشمل النقاط التالية:
1- انه من الصعوبة بمكان إنشاء كوبري من هذا النوع في الشط أو في أي مكان في قطاع الجيش الثالث، حيث أن سرعة تيار المياه في هذا القطاع تجعل إنشاء كوبري أصم في هذه المناطق عملية باهظة التكاليف.
2- إن منطقة الدفرسوار والفردان والقنطرة هي أفضل الأمكنة لإنشاء هذه الكباري. وتعتبر الدفرسوار أفضلها جميـعا، حيث أن سرعة التيار في هذه المنطقة تصل إلى الصفر تقريبا.
3- بمجرد إصدار الأمر بالبدء في التنفيذ فإنه يحتاج إلى سبعة أيام، لحشد ونقل المعدات إلى مناطق العمل، ثم يحتاج إلى 9 أيام أخرى لإنجاز العمل (المجموع 16 يوما).
4- إن إنجاز المشروع في الوقت المذكور يعتمد على أن يقوم المقاولون العرب بسحب البلدوزرات والمعدات الميكانيكية التي تعمل في مشاريع لهم في ليبيا، وهم يلتمسون أن نتصل بالسلطات الليبية لاستئذانها في ذلك.
حاولت الضغط مرة أخرى للحصول على موافقة الرئيس، وفي النهاية جاءت موافـقته مساء يوم 10 من أكتوبر وشرعت فورا في اتخاذ الخطوات التنفيذية، لكن نجاح العدو في اختراق مواقعنا عند الدفرسوار يوم 16 من أكتوبر سبب إسقاط مشروع بناء الكوبري في تلك المنطقة.
استمر العمل في بناء كوبري في منطقـة الفردان، وآخر في منطقة القنطرة وبعد سلسلة من المتـاعب والمشكلات الهندسية تم بناء الأول في الأول من ديسمبر، والآخـر في 9 من ديسمبر 73 (7). والغريب حقا.. أن يتبنى العدو الفكرة نفسها التي جالت بخاطري، وان يقوم ببناء كوبري أصم في المكان نفسـه الذي حـددناه لذلك. وقد انتهى العدو من إنشـاء هذا الكوبري في منطقة الدفرسوار، وافتتحه في 7 من ديسمبر 1973.
فشل الهجمات المضادة التي قام بها العدو:
نعود مرة أخرى إلى هجوم العدو المضاد الذي كنا نتوقعـه يوم 8 من أكتوبر، فقد كنا نتوقع أن يقوم باستغلال حرية المناورة التي يتمتع بها، ويقوم بحشد دباباته في اتجاه أحد القطاعات ويوجه له ضربة قوية تمكنه من الحصول على نتائج حاسمـة. لكننا فوجئنا بأنه يتصرف عكس ما توقعناه تماما، فقد استخـدم دباباته في توجيه ضربات متفرقة، وفي عدة اتجاهات مما ترتب عليـه فشل هذه الهجمات جميعا. ففي صباح يوم 8 من أكتوبر هاجم العدو الفرقة 18 مشاة بأحد ألويته المدرعة في اتجـاه القنطرة، وفي الوقت نفسه هاجم لواء مدرع آخر الفرقة الثانية مشاة في اتجاه الفردان، وقد تمكنت قواتنا من صد الهجومين.
وبعد ظهر اليوم نفسـه قام العدو بهجوم آخر أشرك فيه ثلاثة ألوية مدرعة، اثنان منهما كانا يهاجمان الفرقة الثـانية مشاة في اتجاه الفردان، بينما اللواء الثالث يهاجم الفرقة 16 مشاة في اتجاه الإسماعيلية، وقد نجحت الفرقة الثانية مشاة في إبادة أحد الألوية إبادة تامة، بينما انسحب اللواء الآخر بعد أن تكبد خسائر كبيرة. كذلك نجحت الفرقة 16 مشاة في صد هجوم العدو، وإرغامه على الانسحاب.
وفي اليوم التالي (الثلاثاء 9 من أكـتوبر) عاود العدو هجومه مرة أخـرى واستخدم هذه المرة لواءين مدرعين ضد الفرقة 16 مشاة ولكن العدو فشل مرة أخرى في إحراز أي نجاح، ولم يقم العدو بعد هذا التاريخ بأية هجمات قوية. وبالتالي يمكن القول إن هجـومه المضاد الرئيسي قد تم صده يومي 8 و 9 من أكتوبر.
في يوم 10 من أكتوبر حوالي الساعة 1645 أبلغتنا الفرقة الثانية مشـاة بأن العدو قد هاجم جناحها الأيسر بقوة تقدر بكتيبة دبـابات مدعمة بعناصر من المشاة في عربات مدرعة وان هذه القوة تمكنت من اختراق مواقع الفرقة إلى عمق حوالي كيلومترين، ولكن هذه القوة أرغمت على الانسحاب خلال الليل.(8)
الطيران المعادى يشتت لواء المشاة الأول:
في خلال يوم 10 من أكتوبر قامت عناصر من لواء المشاة الأول بالتقدم جنوبا واحتلت مواقع عيون موسى (9)، وفي خلال ليلة10/11 من أكتوبر تلقينا إشارة خطيرة أثارت القلق والانزعاج. كانت الإشـارة تقول "لقد فقد لواء المشـاة الأول 90% من رجالـه وأسلحتـه ومعداته ". كانت المعلومات التي تصل إلينا من الجـيش الثالث ومن الفرقة 19 مشاة تدل على فقدان الاتصال تماما بين اللواء الأول والقيادات جميعها، وبالتالي فـلا أحد يعرف على وجه التحديد ماذا حدث لهذا اللواء. أرسلت ضابط اتصـال برتبة كبيرة إلى الجبهة بمهمة جمع الحقائق عن هذا اللواء لقد كان اللواء الأول مكلفا بالتحرك ليلا إلى الجنوب واحتلال منطقة سدر، ولكن قائد اللواء فكر في أن يبدأ تحركه قبل غروب الشمس ببضع ساعات وقد كانت القوات الجوية الإسرائيليـة تراقبة عن كثب فتركته يتقدم جنوبا إلى أن خرج تماما من تحت مظلة دفاعنا الجوي وأصبح يعبر أرضا ضيقة لا تسمح له بالانتشار إذا ما هوجم من الجو، وهنا انطلقت القوات الجوية الإسرائيلية في هجومها الشرس على اللواء الذي لم تكن لديه الوسيلة الفعالة للدفاع ضد هذا الهجوم. إن هذه المعركة تعتبر مثالا لما يمكن أن تحققه القوات الجوية المجـهزة بالصواريخ جـو-أرض ضد قوة برية لا تملك دفاعا جويا مؤثرا وخـفيف الحركة. لم تشترك أية قوات أرضية معادية في المعركة، ومع ذلك فقد نجح طيران العدو في تشتيت اللواء (10). وقد أمكن خلال الأيام التالية جمع الكثيرين من أفراده وإنقاذ الكثير من معداته مما جعل خسائره اقل بكثير من رقم 90% الذي جاء في أول بلاغ ولكن الحقيقة الثابتة هي أن اللواء خرج من المعركة وفقد الاعتبار كقوة مقاتلة لعدة أيام إلى أن تمت إعادة تنظيمه وتعويض خسائره.
زيارتي الثانية للجبهة:
لقد كان واضحا من هجمات العدو المضادة يومي 8 و 9 من أكتوبر أن العدو يركز هجومه على اتجاه القطاع الأوسط محور الطاسه -الاسماعيليه الذي يقع في حدود الجيش الثاني. لذلك قررت أن ازور الجيش الثاني مرة أخرى .
في صباح يوم الخميس 11 من أكتوبر تحركت إلى الجبهة للمرة الثانية فوجدت الموقف فيها مطمئنا وكنا جميعا مقتنعين بأن قواتنا قادرة على صد أي هجوم مدرع آخر ولتعزيز دفعاتنا ضد أية هجمات أخرى قررت صرف 10000 لغم مضاد للدبابات فورا لتعزيز الدفاع.
لقد عدت من تلك الزيارة الثانية وأنا اكثر اقتناعا بقدرتنا على صد أي هجوم مضاد آخر، ولكن اكتشفت نقطة ضعف خطيرة لم تكن قد ظهرت في أثناء رحلتي الأولى تلك هي مدى السيطرة على الكباري ووسائل العبور المختلفة. لقد كانت تعليماتي خلال مرحلة العبور تقضى بان يكون رئيس أركان كل فرقة هو المسئول الأول عن تنظيم العبور والسيطرة عليه ومن هنا تمت عملية العبور بنظام وتحت سيطرة حازمة واستمر ذلك خلال فترة زيارتي الأولى. أما بعد ذلك فقد ترك رؤساء أركان الفرق هذه المسئولية لبعض صغار الضباط وضباط الصف، ومن هنا بدأت الفوضى تظهر في منطقة الكباري لم يكن من الممكن أن نحرم فرق المشاة من رؤساء أركانها بصفة دائمة لكي يشرفوا على تنظيم المعابر، ولكن لم يكن أيضا من المقبول أن نترك هذه المسئولية في أيدي صغار الضباط. لذلك قررت أن أقوم بتشكيل قيادة خاصة لهذه المهمة، وقد عينت اللواء صالح أمين قائدا للمجموعة التي تعمل في خدمة الجيش الثاني، والعميد منير سامي قائدا للمجموعة التي تعمل في الجيش الثالث، ومع كل منهما عددا من الضباط من ذوي الرتب الكبيرة.
الفصل الثالث والثلاثون: ثغرة الدفرسوار
القرار السياسي الخاطئ:
بعد عودتي من الجبهة يوم الخميس 11 من أكتوبر فاتحني الوزير في موضوع تطوير هجومنا نحو ألمضائق. ولكني عارضت الفكرة للأسباب نفسها التي سبق أن ذكرتها سابقا (1). وأضفت قائلا "مازالت القوات الجوية الإسرائيلية قوية وتشكل تهديدا خطيرا لأية قوات برية تتحرك في العراء دون غطاء جوي. يجب أن نأخذ درسا من التجربة القاسية التي مر بها اللواء الأول مشـاة أمس". وبدا لي وكأنه اقتنع بهذا واغلق الموضوع. ولكنه عاد وفاتحني في الموضوع مرة أخرى في صباح اليوم التالي مدعيا هذه المرة أن الهدف من هجومنا هو تخفيف الضغط على الجبهة السورية. عارضت الفكرة مرة أخرى على أساس أن هجومنا لن ينجح ولن يخفف الضغط على الجبهة السورية وأضفت قائلا: " إن لدى العدو 8 ألوية مدرعة أمامنا ولن يحتاج إلى سحب قوات إضافية من الجبهة السورية حيث أن هذه القوات قادرة على صد أي هجوم نقوم به. ليس لدينا دفاع جوي متحرك إلا أعدادا قليلة جدا من سام 6 لا تكفي لحماية قواتنا. وقواتنا الجوية ضعيفة ولا تستطيع تحدى القوات الجوية الإسرائيلية في معارك جوية وبالتالي فإن قواتنا البرية ستقع فريسة للقوات الجوية الإسرائيلية بمجرد خروجها من تحت مظلة الدفاع الجوي أي بعد حوالي 15 كيلومترا شرق القناة. إذا نحن قمنا بهذه العملية فإننا سوف ندمر قواتنا دون أن نقدم أية مساعدة لتخفيف الضغط على الجبهة السورية". وحوالي الظهر تطرق الوزير لهذا الموضوع للمرة الثالثة خلال 24 ساعة. وقال هذه المرة: "القرار السياسي يحتم علينا ضرورة تطوير الهجوم نحو المضائق، ويجب أن يبدا ذلك صباح غد 13 من أكتوبر!!". وحوالي الساعة 1330 كانت التعليمات الخاصة بتطوير الهجوم قد تم أعدادها وتحرك اللواء غنيم إلى الجيش الثاني واللواء طه المجدوب إلى الجيش الثالث حاملين معهم تلك الأوامر إلى قائدي الجيشين.
وحوالي الساعة 1530 كان اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني يطلبني على الهاتف وقد قال بغضب "سيادة الفريق أنا مستقيل. أنا لا أستطيع أن أقوم بتنفيذ التعليمات التي أرسلتموها مع اللواء غنيم"، ولم يمض بضع دقائق حتى كان اللواء عبد المنعم واصل هو الآخر على الخط الهاتفي وأبدى معارضة شديدة لتلك التعليمات التي وصلته مع اللواء طه المجدوب. وفي محادثتي مع كل من اللواءين سعد مأمون وعبد المنعم واصل لم أخف عنهما أنني أنا أيضا قد عارضت هذه التعليمات ولكني أجبرت عليها. فاتحت الوزير مرة أخرى في الموضوع وتقرر استدعاء سعد مأمون وعبد المنعم واصل لحضور مؤتمر بالقيادة في الساعة 1800 من اليوم نفسه، وفي خلال هذا المؤتمر الذي امتد حتى الساعة 2300 كرر كل منا وجهة نظره مرارا وتكرارا، ولكن كان هناك إصرار من الوزير على أن القرار سياسي ويجب أن نلتزم وكل ما أمكن عمله هو تأجيل الهجوم إلى فجر يوم 14 بدلا من فجر يوم 13 كما كان محددا.
لقد كان هذا القرار هو أول غلطة كبيرة ترتكبها القيادة المصرية خلال الحرب وقد جرتنا هذه الغلطة إلى سلسلة أخرى من الأخطاء التي كان لها اثر كبير على سير الحرب ونتائجها، ولكي نطور هجومنا للشرق مع المحافظة على رؤوس الكباري قوية ومؤمنة كان لابد لنا من أن ندفع الأنساق الثانية إلى المعركة. وفى خلال ليلة 12/13 وليلة 13/14 عبرت الفرقة 21 مدرعة من خلال الفرقة 16 مشاه بينما عبرت الفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء مدرع من خلال رأس كوبري الجيش الثالث.
كانت خطتنا في الهجوم تشمل استخدام 4 ألوية مدرعة ولواء مشاة ميكانيكيا في أربعة اتجاهات مختلفة طبقا لما يلي:
- لواء مدرع في اتجاه ممر ممتلا (القطاع الجنوبي).
- لواء مشاة ميكانيكي في اتجاه ممر الجدي (القطاع الجنوبي).
- لواءآن مدرعان في اتجاه الطاسة (القطاع الأوسط).
- لواء مدرع في اتجاه بالوظة (القطاع الشمالي).
لقد خسر العدو خلال قتال يومي 8 و 9 من أكتوبر حوالي 260 دبابة وكان خلال هذين اليومين يستخدم دباباته في اقتحام مواقع المشاة بالأسلوب القديم نفسه الذي كان يعتمد على سرعة التحرك وأحداث الصدمة النفسية لدى جندي المشاة نتيجة اقتحـام المدرعات. ولكنه سرعان ما اكتشف أن المشاة المصريين بما لديهم من أسلحة مضادة للدبابات، وبما يتمتعون به من روح معنوية عالية قادرون على سحق المدرعات التي تستخدم هذا الأسلوب.
واعتبارا من يوم 10 من أكتوبر بدا يستخدم دباباته بأسلوب حذر يعتمد على التحرك البطيء والاستفادة من الأرض والسواتر الطبيعية، ونتيجة لذلك انخفضت خسائره في الدبابات انخفاضا ملحوظا. وقام العدو بتعويض الجزء الأكبر من خسائره في الدبابات بحيث وصل عدد الدبابات التي في ألويته المدرعة الثمانية التي أمامنا يوم 13 من أكتوبر إلى 900 دبابة .
كان علينا يوم 14 من أكتوبر أن نهاجم 900 دبابة معادية في المكان الذي يختاره العدو لهذا اللقاء وتحت سيطرة جوية معادية بقوة 400 دبابة مصرية فقط هل كان هذا القرار نتيجة الجهل أم المقامرة أم الخيانة؟ مازال هناك كثير من الغموض يحيط بهذا الموضوع. لقد نجح العدو في استدراج ألويتنا المهاجمة إلى مناطق قتال اختارها بعناية، ونجح في تدمير معظم دباباتنا. لقد فقدنا في هذا اليوم الأسود 250 دبابة، وهو رقم يزيد على مجموع خسائرنا في الأيام الثمانية الأولى للحرب وحول ظهر يوم 14 انسحـبت قواتنا مرة أخرى إلى داخل رؤوس الكباري شرق القناة (2).
في الساعة 1100 من يوم 14 من أكتوبر حاولت الاتصال هاتفيا باللواء سعد مأمون ولكن قيل لي انه في الراحة، لم يكن هذا بالأمر العادي إذ انه لا يجوز للقائد أن يكون في الراحة بينما تكون قواته مشتبكة في معركة كبيرة ولكني تصورت أنه لابد أن يكون في غاية الإرهاق لكي يتصرف مثل هذا التصرف.
وفي حوالي الساعة 1300 وصل الرئيس إلى المركز 10 بعد أن اخبره الوزير بالموقف. أمرني الرئيس بأن أتحرك إلى الجبهة لرفع معنويات الجنود وفى الساعة 1400 كنت في طريقي إلى الجبهة للمرة الثالثة، وفي الساعة 1600 كنت في مركز قيادة الجيش الثاني. لم يكن اللواء سعد مأمون في غرفة العمليات وعندما سالت عنه عرفت الأسباب الحقيقية لأول مرة. لقد كان لأخبار هزيمة قواته صباح اليوم ذاته اثر كبير عليه فانهار، وكان معاونوه يعتقدون أنه بعد عدة ساعات من النوم سوف يستعيد نشاطه ولذلك حجبوا هذه المعلومات عن القيادة العامة. ذهبت إليه في غرفته حيث كان مستلقيا فـي فراشه ويجلس بجواره الطبيب الذي يشرف على علاجه. حاول أن يجلس في سريره عند دخولي عليه، ولكن الطبيب منعه من ذلك، وفي حديث خاص بيني وبين الطبيب خارج غرفته اخبرني أن حالته تستدعي رعاية خـاصة لا يمكن توافرها في المنطقة الأمامية وانه يجب إخلاؤه إلى الخلف. وعندما أبلغت اللواء سعد مأمون بأننا سنخليه إلى مستشفى المعادى انزعج كثيرا ورجاني أن لا أفعل ذلك مدعيا انه يشعر بأنه يسترد صحته بسرعة وانه يستطيع أن يمارس مسئولياته فورا. وأمام إصراره قررت أن نؤجل إخلاؤه إلى القاهرة إلى صباح اليوم التالي انتظارا لما قد تسفر عنه حالته. وقد اتفقت مع الطبيب أن يتصل بي صباح اليوم التالي ليطلعني على حالته (3).
بعد أن غادرت غرفة اللواء سعد مأمون اجتمعت مع ضباط قيادة الجيش الثاني، وبحثت معهم الموقف كما قمت بالاتصال بقادة الفرق جميعهم وأبلغتهم بتحيات الرئيس وتشجيعه. صممت أن ازور الفرقة المدرعة 21، حيث أنها كانت التشكيل الذي تحمل العبء الأكبر من المعركة صباح هذا اليوم. ولكن العميد عرابي قائد الفرقة نصحني بألا افعل ذلك، حيث أن الظلام قد بدا يهبط وسوف يكون التحرك ليلا في ميدان المعركة عملية بالغة الخطورة وعلى الرغم من تحذيرات عرابـي صممت على الذهاب إليه، وبدأ تحركـي الساعة 1700 في اتجاه معابر الفرقة 16 مشاة كان أحد الكـباري مدمرا فتحركت إلى الكوبري الآخر فوجدته مرفوعا من مكانه ليتفادى التدمير بواسطة مدفعية العدو التي كانت مستمرة في الضرب. لقد خيم الظلام تماما واصبح التحرك بطيئا نتيجة احتياطات الأمن المفروضة على التحركات الليلية فقررت العودة مرة أخرى إلى قيادة الجيش الثاني. وأثناء العودة كـانت منطقة الكوبري المدمر تقـع تحت نيران المدفعية فعبرنا المنطقة بسرعة عالية لنقلل فرصة التعرض إلى اقل وقت ممكن. لقد كنت أتحرك في عربتين كنت اركب العربة الأولى وكان يركب العربة الثانية جماعة من الحراس. وقد مرقت عربتي من المنطقة المضروبة بالمدفعية دون أن تصاب بأذى. أما العربة التالية فقد أصيبت ببعض الشظايا وأصيب أحد أفراد الحراسة إصابة تستلزم إخلاءه إلى المستشفى.
وأخيرا وصلت إلى قيادة الجيش الثاني مرة أخرى حوالي الساعة 2000، حيث اتصلت مرة أخرى بالعميد عرابي وأخطرته بالموقف وبعد أن أخلينا الجندي المصاب إلى أحد مستشفيات الجيش الثاني تحركت عائدا إلى المركز 10 فوصلته حوالي الساعة 2300، حيث أبلغت الوزير بالموقف. وحوالي منتصف الليل اتصل بي الرئيس وسألني عن الموقف فأعدت على مسامعه ما رايته كله وما فعلته كله.
لقد كثر الكلام وتعددت الآراء حول الأسباب التي منعت المصريين من تطوير هجومهم إلى الشرق فور نجاحهم في عملية العبور، وقد انتشرت شائعات كثيرة تقول بأنني كنت من أنصـارالاندفاع السـريع نحو الشرق سواء يوم 14 من أكتوبر أم قبل ذلك بكثير، وقد امتنعت القوات المسلحة عن التعليق على هذه النقطة بالتأييد أو بالنفي سواء على المستوى الإعلامي أم على المستوى العلمي (4)، وهكذا بدأت وسائل الأعلام العالمية تؤكد تلك الشائعات. لقد وصفوني بأنني رجل مظللي قوي، عنيد هجومي، مقدام، الخ.. وانه لما يسعدني أن استمـع إلى هذا المديح ولكني لا أود أن نربط بين تلك الصفات الجميلة وبين قرار تطوير الحرب ضد الشرق. إني على استعداد دائم لأن أضحي بحياتي في سبيل وطني ولكني لا أستطيع أن أقامر بمستقبل بلادي لقد كنت دائما ضد فكرة تطوير الهجوم نحو الشرق سواء كان ذلك في مرحلة التخطيط أم في مرحلة إدارة العمليات الحربية للأسباب الكثيرة التي سبق لي أن ذكرتها. وقد أبديت رأيي هذا بصراحة تامة أمام كثيرين ممن ما يزالون أحياء يرزقون.
بماذا يبرر السادات خطاه؟:
أما بخصوص ادعاء السادات بأن هجومنا يوم من 14 أكتوبر كان يهدف إلى تخفيف الضغط عن سوريا فهو أيضا ادعاء باطل، الهدف منه هو تسويغ الخطأ الذي ارتكبته القيادة السياسية المصرية، وذلك للأسباب التالية:
1- كان بعد القوات المصرية في جبهة قناة السويس عن قلب إسرائيل (حوالي200 كيلومتر من ارض سيناء المفتوحة) وكان تفوق القوات الجوية الإسرائيلية تفوقا ساحقا يجعل إسرائيل قادرة على احتواء الجبهة المصرية بالقليل من القوات مع حشد الجزء الأكبر من قواتها ضد الجبهة السورية وقد حذرت من هذا الموقف في خلال اجتماعي مع الهيئة الاستشارية العسكرية العربية (التي تتكون من رؤساء أركان حرب القوات المسلحة بالدول العربية)، وكذلك خلال اجتماعات مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة في نوفمبر 1971، وقد قلت أن الجبهة المصرية لا تستطيـع أن تمنع إسرائيل من حسم المعركة ضد الجبهة الشرقية في خلال أسبوع واحد (5)، وان ما قلته عام 71 كان ما يزال قائما عام 73، وسوف يستمر طالما كانت سيناء محتلة أو منزوعة السلاح وطالما بقيت القوات الجوية المصرية على ضعفها.
2- لقد كان أمام الجبهة المصرية 8 ألوية مدرعة، وقد كانت اكثر من كافية لصد أي هجوم مصري في اتجاه الشرق. وبالتالي فإن قيامنا بالهجوم لن يرغم إسرائيل على سحب جزء من قواتها من الجبهة السورية إلى الجبهة المصرية.
3- لقد استقر الوضع في الجبهة السورية يوم 12 من أكتوبر، فقد وصلت العناصر المتقدمة من فرقتين عراقيتين (فرقة مدرعة+ فرقة مشاة ميكانيكيـة) إلى الجبهة السورية واشتركت في القتال يوم 11. كذلك دفع الأردن لواءين مدرعين إلى الجبهة السورية، وقد وصل أولهما يوم 13 من أكتوبر، ووصل اللواء الآخر بعد ذلك بأيام. وهكذا فان موقف الجبهة السورية لم يكن بالصـورة التي يحاول السادات أن يصورها لكي يجد لنفسه مخرجا من تبعات قراره السياسي الخاطئ.
4- إذا كان دفع الفرقة المدرعة 21 والفرقة المدرعة الرابعة قد تم لتخفيف الضغط عن سوريا، فلماذا لم تسحب الفرقتان إلى الغرب بعد أن فشل الهجوم وصرف النظر نهائيا عن موضوع تطوير الهجوم نحو الشرق؟
أهمية الاحتفاظ باحتياطي من القوات
إن نجاح القوة المهاجـمة في اختراق الخط الدفاعي للخصم والنفاذ إلى مؤخرته هو حلم كل قائد مهاجم، لأن الوصول إلى مؤخـرة الخصم سوف تمكن المهاجم من تدميـر النظام الإداري للقوات المدافعة وتدمير وسائل القيادة والسيطرة وعزل القوات المدافعة عن مناطق إعاشتها وبالتالي يجعل مهمة تدمير تلك القوات المحاصرة مسألة وقت فقط ويمكن للمدافع أن يمنع عدوه المهاجم من تحقيق هذا الهدف بطريقين: الاحتفاظ بقوة احتيـاطية، والمناورة بالقوات.
من المسلم به في العلم العسكري أنه لا يوجد ما يسمى بالخط الدفاعي الذي لا يمكن اختراقه. فأي خط دفاعي- مهما كانت تحصيناته وتجهيزاته- من الممكن اختراقه بواسطة الخصم الذي يملك التصميم والعزيمة على النصر مهمـا كان الثمن. لقد اخـترق الألمان خط ماجينو الفرنسي في الحرب العالمية الثانية 1940، وقد اخترق الحلفاء خط زيجفريد الألماني عام 1945، وقد اخـترق المصريون خط بارليف الإسرائيلي عام 01973 إن أي خط دفاعي لابد أن تكون فيه بعض نقاط الضعف لأنه من المستحيل أن يكون المدافع قويا في كل مكان. وحيث إن المهاجم يتمتع بحرية اختيار المكان الذي يخـترق فيه الخط الدفاعي لخصـمه فإنه عادة ينتخب هذه النقـاط، حيث تكون فرص نجاحـه أفضل. ومن هنا كـان من الواجب أن يحتفظ المدافع بقوة احتياطية خلف مواقعه تكون مستعدة لضرب أية قوات معادية تنجح في اختراق مواقعه، ويختلف حجمها تبعا لعوامل كثيرة، وتتراوح عادة ما بين الثلث والخمس بالنسبة لحجـم القوات ولا يجوز أن يقل حجمها عن 20% إلا في حالات الضرورة القصوى ولفترة قصيرة.
وبينما كنا نعد خططنا لعبور القناة فأننا لم نستبعد مطلقا أن يقوم العدو باختراق مواقعنا سواء في مراحل ما قبل العبور أم في أثنائه أو بعد نجاحه. بل تصورنا أيضا المناطق التي يحتمل أن يعبر منها. وحددنا ثلاث نقاط محتملة كانت الدفرسوار إحداها (6) ووضعنا الخطط اللازمة لضرب هذه. الاختراقات فور حدوثهما وحددنا القوات التي تقوم بتنفيذها ودربنا تلك القوات على تنفيذ هذه الواجبات.
ولكي نستطيع أن نسحق أي اختراق في مراحله الأولى فقد حشدنا معظم دبـاباتنا في المنطقة الأمامية. كان مجموع ما نملك من الدبابات عند بداية الحرب هو 1700 دبابة حشدنا منها 1350 في اتجاه القناة ووزعنا 100 أخرى في منطقة البحر الأحمر وأماكن أخرى متفرقة في مصر واحتفظنا بالباقي، وهو 250 دبابة كاحتياطي استراتيجي (7) ، وكان يدخل ضمن الاحتياطي الاستراتيجي اللواء المدرع المكلف بحراسة رئاسة الجمهورية وبه 120 دبابة، وقد كان طبقا للخطة أن يعبر الجيش الثاني والثالث بحوالي 1020 دبابة، وان يتم الاحتفاظ ب 330 دبابة غرب القناة بحوالي 20 كيلو مترا، وكانت تلك الدبابات ضمن تشكيل الفرقتين المدرعتين 21 التي كانت تحمي ظهر الجيش الثاني والرابعة التي كانت تحمي ظهر الجيش الثالث (8) . أن بقاء هاتين الفرقتين في أماكنهما غرب القناة كفيل بان يسحق أي اختراق يقوم به العدو على طول الجبهة.
كان قرار تطوير الهجوم الذي اتخذ مساء يوم 12 من أكتوبر، وما ترتب عليه من دفع الفرقتين المدرعتين 21 والرابعة عدا لواء مدرع، خطا كبيرا كما سبق أن بينته واعتبارا من فجر يوم 14 من أكتوبر لم يكن لدينا غرب القناة في منطقة الجيشين الثاني والثالث سوى لواء مدرع واحد.وهنا اختلت الموازين واصبح الموقف مثاليا لكي يقوم العدو بمحـاولة لاختراق مواقعنا.
طائرة استطلاع أمريكية فوق مواقعنا:
في حوالي الساعة 1330 يوم 13 من أكتوبر ظهرت طائرة استطلاع فوق منطقة القتال ولم تكتف بتغطية الجبهة بالكامل بل طارت فوق الدلتا قبل أن تخرج نهائيا من مجـالنا الجوي دون أن تصاب بأي أذى كنت أراقب تحرك الطائرة على شاشة الدفاع الجوي في غرفة العمليـات في المركز 10 وأتعجب كيف استطاعت أن تبقي في الجو طوال هذه المدة دون أن يتمكن رجال دفاعنا الجوي من إسقاطها حيث أنها كانت تطير فوق مناطق مكتظة بصواريخ SAM طلبت اللواء محمد علي فهمي هاتفيا وسألته عن السبب في عدم إسقاط هذه الطائرة فقال إنها تطير على ارتفاع خارج مدى صواريخنا. وقد عرفنا من ارتفاعها وسرعتها أنها لابد أن تكون الطائرة الأمريكية SR-71-A التي تطير على ارتفاع 30 كيلومترا وبسرعة 3 مآخ (9). كان معنى هذا أن إسرائيل أصبحت تعلم بموقف قواتنا شرق القناة وغربها على وجه اليقين وانه لم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه على العدو، وانه يجب علينا أن نفترض أن إسرائيل تعرف موقعنا تماما.
لماذا رفضت القيادة السياسية سحب الفرقتين المدرعتين إلى الغرب؟
في صباح يوم 15 من أكتوبر اقترحت إعادة تجميع الفرقة 21 مدرعة والفرقة الرابعة المدرعة في غرب القناة حتى يمكننا أن نعيد الاتزان إلى موقعنا الدفاعي، ولكن الوزير عارض الاقتراح على أساس أن سحب هذه القوات قد يوثر على الروح المعنوية للجنود وقد يفسره
العدو على انه علامة ضعف فيزيد من ضغطه على قواتنا، ويتحول الانسحاب إلى ذعر (10). لم اكن لأوافق على هذا الرأي كنا نتكلم بلغتين مختلفتين ولا يستطيع أي منا أن يقتنع بما يقوله الآخر. كان هناك أيضا سبب أخر لعدم سحب القوات ولكنه كان سببا سياسيا. لقد كان مقررا أن يلقي السادات خطابا سياسيا مهما أمام مجلس الشعب المصري، وكان السادات يريد أن يسمع صوته لأمريكا و إسرائيل من موقع قوة
وفي خلال يوم 15 من أكتوبر قامت الطائرة SR-71-A برحلة استطلاعية أخرى فوق الجبهة والمنطقة الخلفية، وبذلك تحقق للعدو خلو المنطقة غرب القناة من الدبابات تقريبا. كان من الممكن أن تكون هذه الطلعة الاستطلاعية إنذارا للقيادة المصرية بأن العدو يمكنه أن يقوم باختراق الجبهة وهو مطمئن تماما، وانه يتحتم علينا أن نسحب الفرقة 21 مدرعة والفرقة 4 مدرعة إلى غرب القناة ولكن هذا لم يحدث للأسف الشديد، لا جهلا أو إهمالا من القادة العسكريين ولكن مقامرة وغرورا من القيادة السياسية. لم يضع العدو الوقت وبدأ عملية اختراق مواقعنا خلال ليلة 15/16 من أكتوبر.
اختراق العدو ليلة 15/16 من أكتوبر:
على مستوى القيادة العامة للقوات المسلحة وصلتنا المعلومات الأولى عن اختراق العدو صباح يوم 16 من أكتوبر. كانت المعلومات مكتضة ولا تثير أي انزعاج. وكان البلاغ يقول لقد نجحت جماعات صغيرة من العدو في العبور إلى الضفة الغربية ويقوم الجيش باتخاذ الإجراءات اللازمة للقضاء عليها(12). وعلى الرغم من هذه المعلومات المطمئنة فقد رفعت درجة استعداد اللواء المدرع 23 الموجود في القاهرة وأصدرت إليه أمرا إنذاريا بأن يستعد للتحرك إلى الجبهة في قطاع الجيش الثاني، وفي خلال نهار يوم 16 بدأت المعلومات تصل إلينا بأن عددا من كتائب الصواريخ المضادة للطائرات قد هوجمت بواسطة دبابات العدو وكانت بعض هذه الكتائب تقع على عمق حوالي 15 كيلومترا غرب القناة لقد كان الموقف مائعا وعجزت قيـادة الجيش عن تحديد حجم ومكان القوة المعادية. كانت دبابات العدو تظهر فجـأة بقوة 7-10 دبابات بالقرب من أحد مواقع تلك الكتائب، ثم تشـتبك مع الموقع من مسـافة 1500-2000 متر فتقوم بتدميره أو إسكاته، ثم تنسحب فجأة لتظهر في مكان آخر وهكذا. لم تكن كتائب الصواريخ المضادة للطائرات لديهما الأسلحة التي تستطيع أن ترد بها على مثل هذا الهجوم وبالتالي فإن دبابات العدو كانت تنسـحب بعد تنفيذ المهمة بها دون أن تتلقى أي عقاب (13).
الصدام بيني وبين الرئيس حول تصفية الثغرة:
عقد مؤتمر بالقيادة بعد ظهر يوم 16 لبحث الموقف واتفقت مع الوزير علـى أن نقوم بتوجـيه ضربة قوية ضد العدو في منطقة الاختراق صباح يوم 17، ولكننا اختلفنا مرة أخرى على طريقة توجـيه هذه الضربة. لقد كـانت نظريتي في ضرورة إعادة الاتزان إلى مواقعنا الدفاعية بسحب جزء من قواتنا في الشرق إلى غرب القناة مازالت قائمة ولكن مع تعديل في الأسلوب طبقا للموقف الجديد. لقد اقترحت في اليوم السابق سـحب الفرقة 21 مدرعة والفرقة 4 مدرعة أما اليوم فلم يعد من السهل أن نقوم بسحب الفرقة 21 مدرعة في الوقت الذي تتعرض فيه لضغط العدو.
لذلك اقترحت أن نقوم بسحب الفرقة 4 مدرعة، واللواء المدرع 25 من قطاع الجـيش الثالث خلال الليل. وان نقوم فجـر باكر بتوجيه الضربة الرئيسيـة ضد قطاع الاختراق بقوة لواءين مدرعين من غرب القناة وفي اتجاه شمال شرقي، وفي الوقت نفسه يقوم اللواء116 مشاة بتوجيه ضربة ثانوية من الغرب إلى الشرق، بينما تقوم الفرقة 21 مدرعة بتوجيه ضربة من مواقعها شرق القناة في اتجاه جنوبي بهدف إغلاق الطريق المؤدي للثـغرة من الشرق (14).
كان الوزير مـازال ضد أية فكرة لسـحب القوات من الشرق إلى الغرب وبالتالي رفض سحب الفرقة الرابعة المدرعة وقرر أن يقوم اللواء المدرع 25 بتوجيه ضربة من شرق القناة في اتجاه من الجنوب إلى الشمال لكي يلتقي مع هجوم الفرقة 21 مدرعة وأن يقوم اللواء 116 مشاة بتوجيه ضربة ثانوية من الغرب إلى الشرق. كـأن هناك إذن خلاف بيني وبين الوزير، فبينما كنت أريد أن تكون ضربتنا الرئيسية موجهة إلى الثغرة من غرب القناة مع توجيه ضربة ثانوية ضد فتحة الثـغرة شرق القناة كان الوزير يرى العكس تماما، فقد كان يرى أن تكون الضربة الرئيسية من شرق القناة وان تكون الضربة الثانوية من غرب القناة كانت المزايا التي يمكن-أن تحققها الخطة التي تقدمت بها ما يلي:
1- اللواء المدرع 25 كان من ضمن الواجـبات التي تدرب عليها قبل بدء القتـال تدمير العدو إذا نجح في الاختراق في منطقة الدفرسوار، وبـالتالي فإن ضباط وجنود اللواء كانوا على إلمام تام بطبيعة الأرض التي تقع غرب القناة ويعرفون كل ثنية أرضية التي سوف يقاتلون عليها، وتلك ميزة عظيمة يجب ألا نضحي بها.
2- إن سحب الفرقة المدرعة الرابعة واللواء المدرع من شرق القناة إلى غربها سوف يـعيد الاتزان إلى مواقعنا الدفاعية ويجعلنا اكثر قدرة على مقابلة أي تهديد يقوم به العدو للوصول إلى مؤخرة قواتنا.
3- إن قيامنا بتوجيه الضربة الرئيسية غرب القناة يضمن لنا إتمامها تحت مظلة الدفاع الجوي سـام، أما إذا قمنا بها من الشرق فسوف تتم خارج هذه المظلة ويمكن أن تقع قواتنا فريسة للهجوم الجوي المعادي. وإن حـادث تدمير اللواء الأول مشاة بواسطة طيران العدو لم يكن قد مضى عليه سوى خمسة أيام فقط.
4- إن توجيه الضربة الرئيسية بقوة لواءين مدرعين من غرب القناة يحقق لنا قوة الصدمة التي يمكن أن نوجهها للعدو بالإضافة إلى توفيـر القوات اللازمة لتأمين قاعدة الهجوم وأجنابه. أمـا إذا قام بها اللواء المدرع 25 من الشرق فإن الضربة ستكون ضعيفة وسوف تكون قاعدة هجومه وجانبه الأيمن معرضين للخطر.
وعلى الرغم من وضوح تلك النقاط بشكل صارخ لأي قـائد عسكري فقد رفض الوزير رفضا باتا سحب اللواء المدرع 25 إلى الغرب. وفي حديث هاتفي مع اللواء عبد المنعم واصل لتبادل الرأي في هذا الموضوع أفاد بأنه يفضل أن يتم سحب اللواء المدرع 25 وان يقوم بتوجيه ضربته ضد الثغرة من الغرب وابلغني بان قائد اللواء المدرع 25 يشاركه هذا الرأي، وعلى الرغم من وجود هذا الإجـماع بين القادة العسكريين إلا أن الوزير رفض هذا الاقتراح (15).
وبعد ساعات قليلة وصل الرئيس إلى المركزي10 . لقد كان مازال هناك متسع من الوقت وفكرت أن استعين برئيس الجمهورية لكي ينقض قرار الوزير وان يوافق على وجهة نظري فيما يتعلق بسحب بعض القوات من الشرق وان نقوم بتوجيه ضربتنا الرئيسية ضد الثغرة من الغرب (16). شرحت الاقتراحـات السابق ذكرها، ولكن الرئيس لم يمهلني لكي أتم مقترحاتي وثار ثورة عارمة وفقد أعصابه واخذ يصرخ في وجهي بعصبية "أنا لا أريد أن اسمـع منك مرة ثانية هذه الاقتراحات الخـاصة بسحب القوات من الشرق، إذا أثرت هذا الموضوع مرة أخرى فإني سوف أحاكمك". حاولت أن اشرح له بأن المناورة بالقوات شيء والانسحاب شيء آخر ولكنه كان في ثورة عارمة لا يريد أن يسمع ولا يريدني أن استرسل في الكلام (17). لقد أصابني كلام السادات بجرح عميق. جال بخـاطري أن أستقيل، ولكن سرعان ما استبعدت هذا الخاطر. كـيف اترك القوات المسلحة في أوقات الشدة؟ ماذا سيقول عني الخصوم؟ هرب عند وقوع أول أزمة؟ لا لن اقبل ذلك على نفسي. لقد عشت مع القوات المسلحة فترة مجد، ويجب أن اقف معها وقت الشدة حـتى لو لم أستطع أن أنقـذ ما أريد إنقاذه كله. ابتلعت كبريائي والتمست العذر للسادات وقلت لنفسي "لابد أن السادات أعصابه متوترة، حتى انه لم يستطع أن يواجه الموقف. يجب أن أتحمله ولو مؤقتا من اجل مصر (18)". وهكذا قمنا بإصدار التعليمات الخاصـة بعمليات يوم 17 طبقا للقرار الذي اتخذه الوزير والرئيس كما سبق شرحه (19).
وحوالي منتصف الليل أويت إلى فراشي ولكن ضـابط العمليات المناوب أيقظني في الساعة 300. وأخبرني بان اللواء عبد المنعم واصل يطلب محادثتي بصفة عاجلة. أخبرني بان اللواء المدرع 25 لن يستطيع التحرك في هذا اليوم لأسباب فنية. كـان واضحا أن اللواء عبد المنعم واصل وقائد المدرع 25 يتوقعان وقوع كارثة بالنسبة لهذا اللواء وانهما يريدان خلق المشكلات التي قد تؤدي إلى منع قيامـه بهذه العملية الانتحـارية. لقد كنت أشـعر في قرارة نفسي بصدق وإحساس كل كلمة يقولها اللواء عبد المنعم واصل ولكن مسئوليتي في ذلك
الوقت كانت تحتم على أن أعارض عبد المنعم واصل. كمبدأ عام يمكن للقادة أن يختلفوا عند إبداء وجهة نظرهم قبل اتخاذ القرار، أما بمجرد اتخاذ القرار، فيجب أن يعمل كل منهم قدر طاقته لتنفيذه سواء كان يتفق مع وجهة نظره أم لا. وقد تم اتخاذ القرار ولا سبيل إلى التراجع عنه الآن، وبعد حديث طويل مع عبد المنعم واصل قال لي بيأس شديد "لاحول ولا قوة إلا بالله. سوف أقوم بتنفيذ هذه الأوامر ولكني أقولها مسبقا، سوف يدمر هذا اللواء".
كانت قوات العدو أمام الجبهة اعتبارا من فجر يوم 17 من أكتوبر هي 8 ألوية مدرعة ولوائي مشاة ميكانيكيين وكان توزيعها كما يلي (20):
- فرقة تقوم بتـامين راس الكوبري في منطقة الدفرسوار، وكان لهذه الفرقـة لواء مدرع ولواء مشاة غرب القناة وتحتفظ بلواء مدرع آخر لتامين الثغرة من الشرق.
لواء مدرع ولواء مشـاة يقومان باحتواء الفرقة 21 مدرعة (لواءان مدرعان) التي تؤمن الجناح الأيمن للجيش الثاني.
- لواء مدرع يحتوي مواجهة الجيش الثاني بكامله (الفرقة 18، الفرقة 2، الفرقة 16، ومعها لواءان مدرعان، 12 كتيبة دبابات) (21).
- لواء مدرع يحتوي مواجهة الجيش الثالث بكامله ( الفرقة 7، الفرقة 19، لواء المشاة الأول، الفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء مدرع، اللواء المدرع 25، وكـان مجموع المدرعات داخل راس كوبري الجيش الثالث 3 ألوية مدرعة و 10 كتائب دبابات).
فرقة من ثلاثة ألوية مدرعة تتجمع شرق القناة بحوالي 20 كـيلومترا مستعدة للعبور إلى الغرب بمجرد أن يتم تركيب الكوبري على القناة في منطقة الدفرسوار (22).
وأني لأشعر بالخجل وأنا اذكر أوضاع قواتنا فجر يوم 17 من أكـتوبر. ولكن من اجل مصر ومن أجل أن نتعلم من أخطائنا ومن أجل أن يعرف العرب من هم الذين تآمروا على القوات المسلحة لأغراض سياسية خفية. من اجل ذلك كله يجب أن أتكلم. إن أية فرقة مشاة مصرية كان يدخل ضمن تنظيمهـا 4 كتائب دبابات: كتيبة BMP وكتيبة مقذوفات مضادة للدبابات موجهة مالوتكا، وكتيبة مدفعية مضادة للدبابات، و 11 كتيبة مدفعية ميدانية يمكن استخـدامها وقت الضرورة كأسلحة مضادة للدبابات، علاوة على ذلك يوجـد ضمن تنظيم الفرق 90 قطعة سـلاح مضـادة للدبابات ب 10، ب 11 للقتال القريب مع الدبابات 450 قطعة سلاح RBG مضادة للدبابات للقتال المتلاحم. لقد روعي عند تنظيم فرقة المشاة جعلها قادرة- دون أي دعم خارجي- على أن تصد أي هجوم مدرع يقوم به العدو بقوة تقدر بفرقة مدرعة قوامها ثلاثة ألوية مدرعة. وعلى الرغم من ذلك إلا أننا دعمنا كـل فرقة- لأهداف العبور- بلواء مدرع إضافي وبأعداد إضافـية من المقذوفات الصاروخية الموجهة مالوتكا قمنا بسحبها من التشكيلات الأخرى التي لا تشترك بصفة مباشرة في عملية العبور. وكان المفروض أن نقوم
بسحب هذه التدعيمات بمجرد أن يسـتقر الموقف على الضفة الشرقية، فتعود المالوتكا إلى وحداتها الأصلية وتعود الألوية المدرعة أو- على الأقل- الجزء الأكبر منها إلى غرب القناة لكي نشكل احتياطيات مدرعة تستطيع أن تواجه وتتحدى ضربات العدو. ولكن للأسف الشديد فقد حدث العكس تماما. فبدلا من أن نسحب هذه القوات من الشرق إلى الغرب دفعنا يوم 13، 14 الفرقة 4 المدرعة والفرقة 21 المدرعة إلى الشرق. وعندما طالبت بإعادة هاتين الفرقتين إلى الغرب رفض الوزير وثار السادات كما سبق أن بينت. لقد كان لدينا في الجبهة يوم 17 أكتوبر 8 ألوية مدرعة، وهو عدد يماثل ما لدى العدو، ولكن أوضـاع هذه الألوية صباح يوم 17 من أكتوبر كانت تدعو إلى الرثاء كانت أوضاعها كما يلي:
- 4 ألوية مدرعة لا تقوم ياي عمل، وهي مربوطة بالأرض في منطق الفرقة 18 مشاة، الفرقة 2 مشاة الفرقة 7 مشاة الفرقة 19 مشاه.
- اللواء المدرع 25 يتحـرك من داخل راس كـوبري الجيش الثـالث شرق القناة في اتجـاه الشمال ولمسافة تصل إلى حوالي 30 كيلومترا خارج مظلة الدفاع الجوي وخارج مدى أية معاونة من مدفعيتنا وفي منطقة تتواجد بها 4 ألوية مدرعة للعدو ويتمتع فيها العدو بسيطرة جوية كاملة (23).
- يقوم لواءان من الفرقـة 21 مدرعة التي أنهكت في القتال خلال الأيام الثـلاثة الماضية بالهجوم جنوبا بهدف إغلاق الطريق المؤدي إلى الثغرة من الشرق.
- لواء آخر يحرس المنطقة الخلفية للجيشين الثاني والثالث.
لقد كان معنى ذلك أن القيادة العامة للقوات المسلحة تحشد لمعركـة الدفرسوار 3 ألوية مدرعة (بما في ذلك اللواء المدرع 25 الذي كانت هناك شكوك في إمكان وصـوله إلى منطقة المعركـة) ولواء مشاة في حين أن العدو كان يحتفظ في المنطقة نفسها 6 ألوية مدرعة ولوائي مشاه وهكذا كان للعدو التفوق الساحق في منطقة المعركـة. لقد كان هذا القرار هو ثالث خطا كبير ترتكبه القيـادة المصرية (24)، وقد ترتبت على تلك الأخطاء الكبيرة سلسلة أخرى من الأخطاء مما سوف نشرحه بالتفصيل فيما بعد.
كيف سارت معركة الدفرسوار يوم 17 من أكتوبر:
1- تحـرك اللواء 116 مشـاة من الغرب إلى الشرق في اتجـاه راس الكوبري الذي كـانت قاعدته حوالي 5 كيلومترات ونجح في تدمير عدد من الدبابات أثناء تقدمه. عندما وصل إلى بعد حـوالي كيلومترين من القناة وقع تحت نيران كثيفة من العدو اضطرته إلى التقهقر بعد أن أصيب بخسائر كبيرة.
2- نجـحت الفرقة 21 مدرعة في قطع الطريق المؤدي إلى ثغرة الدفرسوار من الشرق ولكنها عجزت عن إحراز أي تقدم جنوب هذا الطريق وبالتالي ظل الطريق الذي يقود إلى الثغرة من الجنوب والجنوب الشرقي مفتوحا.
3- تقدم اللواء المدرع 25 ونظرا لما يتمتع به العدو من تفوق ساحق في المدرعات في تلك المنطقة فقد وجه العدو فرقة مدرعة من ثلاثة ألوية مدرعة لمواجهة هذا اللواء (كانت هذه الفرقة تتمركز في الاحتياط وعلى بعد 20 كم شرق القناة). قامت فرقة العدو المدرعة بتخصيص أحد ألويتها لكي يسد طريق تقدم اللواء 25 إلى الشمال بينما تحرك اللواءان الثاني والثالث ليتخذا مواقع إلى اليمين وإلى المؤخرة بالنسبة لاتجاه تقدم اللواء المدرع 25، وعندما دخل اللواء المدرع 25 منطقة الكمين هوجم بالنيران من ثلاثة اتجاهات وتم تدميره تدميرا تاماً، كما سبق أن توقعت أنا واللواء عبد المنعم واصل وقائد اللواء (25).
تدفق قوات العدو إلى الغرب:
وفي خـلال ليلة 17/18 من أكـتوبر نجح العدو في بناء أول كوبري له في منطقة الدفرسوار وعبر عليه لواءان مدرعان من فرقة برن، وبحلول فجر يوم 18 من أكتوبر كانت للعدو غرب القناة فرقتان مدرعتان، كانت إحداهما بقيادة الجنرال شارون وتتكون من لواء مدرع ولواء مشاة وكانت الثانية بقيادة الجنرال برن وتتكون من لواءين مدرعين وضد هذه القوات كلها وجهت القيـادة المصرية اللواء المدرع 23 ليوجه ضربة إلى العدو غرب القناة وكانت النتيجة طبعا هي فشل الهجوم وخسران اللواء عددا كبيرا من دباباته، وبتدمير اللواء المدرع 23 الذي كـان يمثل الاحتياطي الاستراتيجي أصبحت الضـفة الغـربية عارية من الدبابات، اللهم إلا من لواء مدرع خلف الجيش الثاني والثالث ولواء الحرس الجـمهوري في القاهرة وبحلول ظهر يوم 18 عبر لواء مدرع آخر للعدو وانضم إلى فرقـة برن واصبح للعـدو غرب القـناة 4 ألوية مدرعة ولواء مشـاة (فرقة برن : 3 ألوية مـدرعـة، فرقة شارون: لواء مدرع+ لواء مشاة). لم يفهم رئيس الجمهورية ووزير الحربية أهمية المناورة بالقوات إلا بعد ظهر يوم 18 من أكتوبر، وبعد أن أصبحت قواتنا مهددة بالتطويق، وبعد أن دمر العدو الكثير من مواقع صواريخنا سام وبعد أن أصبحت القوات الجوية المعادية قادرة على العمل بحرية من خلال الثغرة التي أحدثتها في دفاعنا الجـوي وحتى عندما فهما أنني كنت على حق في المطالبة بسحب جزء من قواتنا من الشرق فإنهما لم تكن لديهما المقدرة على تصور ما يمكن أن يحدث بعد يومين أو ثلاثة. كانا يفكران فيما سوف نفعله غدا مفترضين أن العدو سيبقى كما هو خلال تلك الفترة وهذا خطا جسيم. لقد اتخذ أخيرا قرار بسحب الفرقة الرابعة المدرعة ليلة 18/19 من أكـتوبر، وقد كنت أريد أن اسحـب هذه الفرقة هي واللواء المدرع 25 ليلة 16/17، ولو تم ذلك لتغير الموقف. أما الآن فإن سحـب الفرقة الرابعة المدرعة وحدها لن يجعلنا قادرين على استعادة الموقف. لقد أصبحت للعدو فرقتان مدرعتان غرب القناة وقد تصبح ثلاث فرق مدرعة قبل فجر غد 19 من أكتوبر!
 
الفصل الرابع والثلاثون: القتال غرب القناة
القيادة السياسية تخفي الحقائق:
لقد كان لستار السرية الذي فرضته القيادة السياسية على الموقف غرب القناة آثار سيئة للغاية. إنه لم يخدع الشعب المصـري فقط عن حقيقة الموقف بل خدع أيضا أفراد القوات المسلحة. لقد كانت الوحدات الإدارية ووحدات الدفـاع الجوي ومراكز القيـادة غرب القناة تفاجـأ بظهور دبابات تطلق النار عليها دون أن تدري هوية هذه الدبابات. وفي الوقت نفسه تكتشف فيه حقيقة الموقف تكون هذه الوحدات قد تم تدميرها أو أسرها. كـانت العربات والأفراد الذين يتحركون في الضفة الغربية للقناة، وهم يعتقدون بصحة البلاغات المصرية التي تصور أن العدو ليست له سوى 7 دبابات تختبيء في الأشجار في منطقة الدفرسوار، كانوا يفاجأون بمن يظهر أمامهم ويطلق النار عليهم فيقتل فريقا ويأسر آخر. لقد قتل المئات من الجنود وأسر الآلاف دون أن يقاتلوا لأن أحدا منهم لم يكن يتوقع وجـود العدو في هذه الأمكنة، لقد كـان هذا النوع من القتـال هر ما تريده إسـرائيل لأغراض الدعاية. إنهم لم يستطيعوا أن يأسروا جنديا واحدا في الضفة الشرقية إلا إذا وقع في أيديهم وهو جريح لا يستطيع أن يقاتل أو يدافع عن نفسه. أما في الضفة الغربية للقناة فهاهم يأسرون المئات دون أي قتال وذلك لأن القيادة المصرية قد خدعت رجالها واخفت عنهم الحقائق.
وقد كان لتدمير العديد من كتائب صواريخ سـام اثر كبير على سير المعركة في الضفة الغربية. فقد دخلت القوات الجوية المعادية المعركة و أصبحت تقدم المعاونة الأرضية للقوات المهاجمة ،بينما كانت قواتنـا الجوية عاجزة عن التدخل ضـد القوات البرية المعادية لصعوبة التمييز بين الصديق والعدو نظرا لميوعة الموقف. ومما زاد من صعوبة الموقف ضعف إمكانات الدفاع المضـاد للدبابات بالنسبة للتشكيـلات والوحدات التي في غرب القناة. وكما سبق أن قلت، كنا قد سـحبنا وحدات الصواريخ المضـادة للدبابات الموجهة (المالوتكا) من التـشكيلات التي لا تشترك في العبور لكي ندعم بها التشكيلات المكلفة به. وهكذا فقد كانت هناك كتيبتا مالوتكا في الشرق: واحدة منها تخص الفرقة الثـالثة مشاة ميكانيكية والأخرى كانت تخص فرقة المظلات، ودون هاتين الكتيبتين فإن قدرات هاتين الفرقتين في صد المدرعات تنخفض انخفاضا كبيرا. وحيث أن الرئيس والوزير كانا يعارضان سحب أي سلاح من الشرق فقد قررت أن اسحب هاتين الكتيبتين (المالوتكا) دون أن أخطرهما بذلك.
وباتفاق سري بيني وبين اللواء سعيد الماص قائد المدفعية قررت أن اسحب تلك الكتيبتين، وتم فعلا سحب بعض منهما يومي 17 و 18 دون علم الوزير، على الرغم من معارضة قادة التشكيلات التي كان قد تم تدعيمها بهما. إذ قال لي أحد قادة فرق المشاة عندما طلبت إليه
إخلاء سرية الصواريخ المضادة للدبابات (مالوتكا) التي كانت قد ألحقت به لأهداف العبور: "إن الموقف الدفاعي للفرقة سيتعرض للخطر إذا انسحبت مني هذه السرية!!". إني اعلم من خبرتي السابقة أن ما قاله قائد الفرقة هو تسجيل موقف يمكن أن يستخدمه للدفاع عن نفسه فيما لو فشل فعلا في صد هجوم العدو ووجد نفسه موضع تسـاؤل. لقد كان اهتمامي بإنقاذ الموقف في غرب القناة أهم بكثير من أي شيء أخر، ولذلك قلت له "أنا المسئول عن كل شيء، أرسل السرية فورا هذه الليلة". إن هذا الحديث يبين بوضوح أن أبعاد الموقف وخطورته لم يكونا معروفين حتى على مستوى قادة الفرق.
زيارتي الرابعة للجبهة:
في حوالـي الساعة 1400 يوم 18 من أكتوبر وصل رئيس الجمهورية إلى المركز 10 واستمع إلى تقرير عن الموقف من الوزير. لم يسألني الرئيس ولم أبادر أنا بالكلام، وبعد ذلك طلب مني أن أتحرك إلى الجيش الثاني لكي اعمل على رفع الروح المعنوية وابذل ما أستطيع لمنع تدهور الموقف. وقد أبلغت بأن الفرقة الرابعة المدرعة التي تعمل خلف كل من الجيشين الثاني والثالث تعمل بأوامر من القيادة العامة (المركز 10) وليس للجيش الثاني أي سلطان عليها، وهذا يعني أن الجيش الثاني لم تكن لديه دبابة واحدة غرب القناة وجنوب ترعة الإسماعيلية. تحركت من المركز 10 حوالي الساعة 1445 يوم 18 من أكتوبر فوصلت قيادة الجيش الساعة 1730 من اليوم نفسه. (1)
قواتنا:
عند وصولي إلى قيادة الجيش الثاني مساء يوم 18 من أكتوبر كانت أوضـاع الجناح الأيمن للجيش الثاني كما يلي: (انظر الخريطة رقم 5)
1- لقد اضطرت الفرقة 21 مدرعة إلى الارتداد للخلف (في اتجاه الشمال) بعد أن وقعت تحت النيران التي يطلقها عليها العدو من مواقعه في غرب القناة، وقد اصبح الخط الذي تحتله يتحاذى مع سرابيوم على الضفة الغربية للقناة.
2- اللواء 150 مظلات يعمل غرب القناة جنوب ترعة الإسماعيلية ويحاول منع انتشار العدو شمالا في اتجاه الإسماعيلية.
قوات العدو:
كانت قوات العدو في الضفة الغربية مع اَخر ضوء يوم 18 من أكتوبر كما يلي:
1- خلال فترة ما بعد ظهر يوم 18 من أكتوبر عبر إلى الضفة الغربية لواء مدرع اَخر وبذلك وصلت قوات العدو غرب القناة في منطقة الدفرسوار غرب القناة إلـى 5 ألوية مدرعة ولواء مشاة وكانت هذه القوة مشكلة من فرقتين مدرعتين: فرقة بقيادة الجنرال شارون وتتكون من لواءين مدرعين ولواء مشاة وتواجه الشمال، وفرقة أخرى بقيادة الجنرال برن وتتكون من 3 ألوية مدرعة وتواجه الغرب والجنوب.
2- يسيطر العدو سيطرة تامة على مسافة 5 كيلومترات شمال الدفرسوار ويحتل المصاطب التي في هذه المنطقة بقواته. بينما يسيطر بالنيران على بضعة كيلومترات أخرى شمال ذلك.
قوات العدو:
كانت قوات العدو في الضفة الغربية مع اَخر ضوء يوم 18 من أكتوبر كما يلي:
1- خلال فترة ما بعد ظهر يوم 18 من أكتوبر عبر إلى الضفة الغربية لواء مدرع اَخر وبذلك وصلت قوات العدو غرب القناة في منطقة الدفرسوار غرب القناة إلـى 5 ألوية مدرعة ولواء مشاة وكانت هذه القوة مشكلة من فرقتين مدرعتين: فرقة بقيادة الجنرال شارون وتتكون من لواءين مدرعين ولواء مشاة وتواجه الشمال، وفرقة أخرى بقيادة الجنرال برن وتتكون من 3 ألوية مدرعة وتواجه الغرب والجنوب.
2- يسيطر العدو سيطرة تامة على مسافة 5 كيلومترات شمال الدفرسوار ويحتل المصاطب التي في هذه المنطقة بقواته. بينما يسيطر بالنيران على بضعة كيلومترات أخرى شمال ذلك.
القرار:
بعد وصولي إلى قيادة الجيش الثاني استمعت إلى قرار اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش، وكان يتلخص فيما يلي:
1- يتم سحب اللواء المدرع 15 من الضفة الشرقية للقناة إلى الضفة الغربية كان تحت قيادة الفرقة 18 مشاة ويتمركز في المنطقة شمال ترعة الإسماعيلية ويعمل كاحتياطي للجيش.
2- يقوم اللواء 150 مظلات بالدفاع النشيط عن الضفة الغربية جنوب ترعة الإسماعيلية ويقوم أيضـا بتأمين مؤخرة الفرقة 21 مدرعة والفرقة 16 مشاة المتمركزة فـي الضفة الشرقية.
3- تقوم كلتا الفرقتين 21 مدرعة و 16 مشاة بالضغط جنوبا في محاولة لإعادة إغلاق الطريق المؤدي إلى الدفرسوار.
4- تتمسك كلتا الفرقتين 2 و 18 مشاة بمواقعهما شرق القناة.
5- تقوم مدفعية الجيش بتركيز نيرانها على منطقة الدفرسوار.
6- القيام بأعمال الإغارة على قوات العدو المتمركزة في منطقة الدفرسوار بواسطة وحدات الصاعقة.
لقد كان للعدو في منطقة الدفرسوار في تلك الليلة فرقتان مدرعتان، كما سبق أن قلت. وكانت فرقة شارون تضغط على قواتنا في اتجاه الشمال بهدف الوصول إلى الإسماعيلية وتطويق الجيش الثاني، ولم يكن لدينا للتصدي له سوى اللواء 150 مظلات. لم يكن قائد الجيش ينتظر المعجزات من لواء المظلات لذلك أمر بنسف الكباري التي على ترعة الإسماعيلية جميعها لكي يمنع العدو من عبور هذه الترعة فيما لو نجحت قواته في التغلت على مقاومة لواء المظلات صدقت على قرار قائد الجيش فلم يكن هناك ما يمكن عمله بالنسبة للقتال خلال تلك الليلة ونهار اليوم التالي اكثر من ذلك.
معارك الجيش الثاني 18-20
بدا لواء المظلات يتقدم جنوبا ليلة 18/19 واحتل عددا من المصاطب إلى أن وصلت عناصر منه إلى مكـان تستطيع منه أن ترى الكوبري الذي أقامه العدو في الدفرسوار، وقد ساعدنـا في تصحيح نيران المدفعية إلى أن حددنا مكان الكوبري بدقة.
ومنذ ذلك الوقت أخذت مدفعيتنا تصب عليه النيران دون هوادة طوال الليل وطوال نهار اليوم التالي، وقد تنبه العدو إلى دقة نيران المدفعية التي تقوم بتوجيهها العناصر المتقدمة من لواء المظلات فقام بهجوم مضاد واحتل المصطبة التي كنا ندير منها نيران المدفعية. وعلى الرغم من أن لواء المظلات عجز عن استرداد تلك المصطبة وعلى الرغم من أنه لم تكن هناك مصطبة بديلة يمكن منها أن نوجه نيران المدفعية ضد الكوبري، فقد كانت المعلومات التي حصلنا عليها من اشتباكاتنا السابقة كافية لأن نستمر في الضرب كانت الإشارات الملتقطة من العدو نتيجة ضرب مدفعيتنا مشجعة للغاية وتفيد بأن العدو قد تحمل خسائر فادحة. وبمجرد أن وصلتنا المعلومات بقيام العدو بنصب كوبري أخر شمال الكوبري الأول وجهنا نيران مدفعيتنا على الكوبري وأصبناه بخسائر فادحة (2)0 إن الدفاع المستميت الذي قام به لواء المظلات وكتيبتان من الصـاعقة خلال ليلة 18/19 والأيام التالية كان له الأثر المباشر في منع تقدم العدو شمالا وإفشـال محاولته في تطويق الجيش الثاني. يقول الجنرال هوتزوج في كتابه: THE WAR OF ATONEMENT في صفحة 245 ما يلي :-
"لقد قوبلت فرقة شارون المدرعة ولواء المظلات (الإسرائيلي) بمقاومة عنيفة من المشاة والمدفعية (المصرية) وتحملت خسائر فادحة. لقد كانت مهمة شارون هي احتلال الإسماعيلية ولكن المقاومة التي قام بها الكوماندوز المصريين أوقفت تقدمهم". (3)
الموقف مساء يوم 20 من أكتوبر:
عدت إلى المركز 10 مساء يوم 20 من أكتوبر بعد أن قضيت حوالي 44 ساعة مع الجيش الثاني. وبعد أن اطلعت على كافة تقارير المخابرات ظهرا أمامي الموقف العام التالي:-
ا- موقف العدو:
أ- كان للعدو غرب القناة 5 ألوية مدرعة ولواء مظلي، وكانت هذه القوة مشكلة في فرقتين مدرعتين: فرقة بقيادة الجنرال شارون وتتكون من لواءين مدرعين ولواء مظلي وتضغط في اتجاه مؤخرة الجيش الثاني، وفرقة مدرعة أخرى تتكون من ثلاثة ألوية مدرعة بقيادة الجنرال برن وتضغط في اتجاه مؤخرة الجيش الثالث.
ب- كان للعدو فرقتان مدرعتان أخريان شرقي القناة تتكون كل منهما من لواءين مدرعين ولواء مشاة ميكانيكي تقوم بتثبيت قواتنا شرق القناة.
ج- بعد أن نجح العدو في تدمير أو إسكات كتائب صواريخ سام التي تتمركز غرب القناة حتى عمق 15 كيلومترا تقريبا، اصبح في إمكانه -ولأول مرة منذ بدء القتال- أن يستخدم قواته الجوية في تقديم المعاونة الجوية لقواته البرية في أثناء قيامها بعمليات تعرضية.
2- كان موقف الجيش الثاني كما يلي:
أ- في الشرق توجد 3 فرق مشاة وفرقة مدرعة ولواء مدرع.
ب- في الغرب وجنوب ترعة الإسماعيلية يوجد لواء مظلي وكتيبتا صاعقة.
ج- في الغرب وشمال ترعة الإسماعيلية يوجد لواء مدرع.
3- كان موقف الجيش الثالث كما يلي:
أ- في الشرق توجد فرقتا مشاة ولواء مدرع ولواء مشاة ولواء برمائي.
ب- في الغرب لواء مشاة ميكانيكي (4).
4- النسق الثاني للجبهة:
الفرقة الرابعة المدرعة، وتأخذ مسئولية الدفاع عن المنطقة الممتدة من ترعة الإسماعيلية شمالا حتى جبل عتاقة جنوبا، وتعمل بأوامر من القيادة العامة.
5- الاحتياطي الإستراتيجي:
لواء الحرس الجمهوري المدرع ويتمركز في منطقة القاهرة.
المطالبة بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق:
كان من الواضح أن توزيع قواتنا لا يتماشى مطلقا مع متطلبات المعركة. إن مسئولية كل قائد هو أن يحشد قواته وإمكاناته في المعركة، لا أن يترك جزءا من قواته تقاتل تحت ظروف سيئة بينما تقف باقي القوات موقف المتفرج واللامبالاة لقد أصبحت خطة العدو واضحة وضوح الشـمس: إنه يهدف إلى تطويق الجـيشين الثـاني والثالث، حـيث إنه يقوم بتوسيع الثغرة في منطقة الدفرسوار كل يوم، ويجب ألا ننتظر المعجزات من قواتنا التي تقاتل غرب القناة. إن لواء مظليـا مصريا يخـوض معركـة مريرة ضد فرقة مدرعة من لواءين مدرعين ولواء مظلي إسرائيلي، قد يسـتطيع المقاومـة 3 أو 4 أيام أخرى، ولكن لا يمكن أن تستمر مقـاومته إلى الأبد. كان جـدول مقارنة القوات بيننا وبين العدو يصرخ بالانتقاد. إن نظرة واحدة من رجـل مدني لا يفهم في الشئون العسكرية لكفيلة بأن تقنعه بأن هذا التوزيع خاطئ وانه إذا لم يتم إصلاحه فورا فقد تحدث الكارثة.
ومع ذلك فإني لم استطع أن أقنع لا وزير الحربيـة ولا الرئيس السادات بتعديل هذه الأوضاع. كان جـدول توزيع القوات في جبهة قناة السويس مساء يوم 20 من أكتوبر كما يلي (5):
توزيع القوات
شرق القناة
غرب القناة
إجمالي

لواء مشاة------لواء مدرع
لواء مشاة----لواء مدرع
لواء مشاة----لواء مدرع
العدو
2----------------4
1----------------5
3----------------9
قواتنا
18----------------4
2----------------3
20----------------7 (6)
بحثت الموقف مع احمد إسماعيل وقلت له إنه إذا لم نعد توزيع قواتنا لمقابلة التهديد القائم فقد تحدث كارثـة في خلال ثلاثة أيام أو أربعة، وأن العدو يستطيع أن يدفع بفرقة مدرعة جديدة هذه الليلة إلى الغرب دون أن تكون هناك أي خطورة على مواقعه في الشرق، وإنه ليست هناك خطورة كـبيرة من إمكان تطويق الجيش الثـاني نظرا لوجود ترعة الإسماعيلية واللواء المدرع 15 شـمال الترعة واللواء 150 مظلات الذي يمكنه أن يقاتل لمدة 3 أو 4 أيام أخرى، ولكن الخطورة الكبرى تقع في الجنوب بالنسبـة للجـيش الثالث، حـيث إن الأرض مناسبة لعمل المدرعات وقد أصبح في إمكان العدو أن يستخـدم قواته الجوية ضـد قواتنا البرية اليوم ولأول مرة منذ بدء القتال. وإذا قام العدو بنقل فرقة مدرعة أخرى إلى الغرب فسوف يصبح له في القطاع الجنوبي غرب القناة فرقتان مدرعتان تدعمهما القوات الجوية الإسرائيلية مقابل فرقة مدرعة واحدة من جـانبنا، ولهذا الموقف يجب أن نسـحب ألويتنا المدرعة من الشرق لمقابلة التهديد في الغرب (7). كان في رأيي أن سـحب هذه الألوية الأربعة من الشرق في خلال الأربع والعشرين ساعة التـالية لن يؤثر على سلامة خطوطنا ومواقعنا في الشرق وسوف يزيد من قدرتنا على مقابلة تهديد العدو لنا في الغرب.
استدعاء رئيس الجمهورية إلى المركز 10:
بعد أن فشلت في إقناع الوزير بوجهة نظري، أفضيت لبعض مساعدي بقلقي على الموقف وأفضيت لهم بأنه إذا لم نسحب جزءا من قواتـنا من الشرق إلى الغرب فسوف تقع كارثة لا يعلم أبعادها إلا الله، وهنا اقترح علي اللواء سعيد الملحي قائد المدفعية أن أدعو الرئيس وأشـرح له الموقف. لم أتحمس أول الأمر لهذا الاقتراح لأني أعرف وجـهة نظر الرئيس السـادات منذ الخـلاف الذي وقع بينـي وبينه في غرفـة العمليـات يوم 16 من أكـتوبر، ولاعتقادي بأن احمد إسماعيل -هو رجل عسكـري قبل أن يكون سياسيا- ما كـان ليقبل مثل هذا الموقف لولا أنه تحت ضغط سياسي، ولكن بعد أن فكرت قليلا وجدت أن استدعاء السادات وشـرح الموقف أمامه سوف يضعه أمـام مسئوليته التـاريخية. ذهبت إلى أحمد إسماعيل في غرفته وقلت له "إن الموقف خطير ويجب أن يحضر الرئيس للاستـماع إلى وجهة نظر القادة" (8). حـاول أن يثنيني عن رأيي وقال إن الوقت متـأخر ولا داعي لإزعاج الرئيس الآن. ولكني أصـررت على ضرورة حـضور الرئيس إلى المركز 10 فورا. لأنها مسئوليـة تاريخية ويجب أن يستمع الرئيس إلى الموقف العسكري بأمانة. لم أخرج من عند الوزير إلا بعد أن وعدني بأنه سيتصل به فورا.
عدت إلى غرفة العمليات وبعد دقائق حضر الوزير وأخبرني بأنه اتصل بالرئيس وقد وعد بأنه سيحضر فورا. اتفقت مع الوزير على أن يحضر هذا اللقاء مع الرئيس كل من أحمد إسماعيل، وسعد الشاذلي، ومحمد علي فهمي. وحسني مبارك، وعبد الغني الجمسي، وسعيد الماحي، وفؤاد نصار. وصل رئيس الجمهورية ومعه المهندس عبد الفتاح عبد الله (9) إلى المركز 10 حوالي الساعة 2230 يوم 20، وتوجه فورا إلى غرفة احـمد إسماعيل حيث بقي معه ما يقرب من ساعة، بينما كنت أنا مجتمعا مع باقي الأعضاء في غرفة المؤتمرات الملاصقة لغرفة العمليات نتبادل وجهات النظر حول الموقف.
وفي النهاية دخل علينا الرئيس ومعه احمد إسماعيل والمهندس عبد الفتاح عبد الله. طلب الرئيس الكلمة من المجتمعين واحدا بعد الآخر. وقد قام كل منهم بشرح موقف القوات بأمانة تامة، وبعد أن استمع إليهم جميعا لم يطلب مني الكلمة وعلق قائلا:" لن نقوم بسحب أي جندي من الشرق ". لم أتكلم ولم اعلق. غمزني المهندس عبد الفتاح عبد الله وهمس في أذني:"قل شيئا" ولكني تجاهلت نصيحته. مـاذا أتكلم، وقد اتخذ الرئيس القرار ولا يريد أن يسمعني إنني أريد أن اسحب 4 ألوية مدرعة من الشرق وهو يعارض سحب جندي واحد. إنه لم يتخذ هذا القرار عن جهل، بل عن معرفة تامة بالموقف. إنه لا يسـتطيع أن يدعي بعد ذلك بأنه كان يعتقد أن العدو لديه 7 دبابات في الغرب. انه يعرف الحـقائق كلها عن الموقف وهذا هو قراره.
يدعي السادات في مذكراته (الصفحة 348) بأنني عدت من الجبهة منهارا يوم 19 من أكتوبر وأنني طالبت "بسحب قواتنا في شرق القناة لأن الغرب مهدد ويؤسفني بأن أقول إن هذا كذب رخيص. لقد كنا تسعة أشـخاص مات واحد ومـازال الثمانية الآخـرون أحياء وإني أتحدى إذا كان أحد من هؤلاء الأحياء يستطيع أن يشهد بصدق ما يدعيه السادات. لقد طالبت حقا بسحب جـزء من قواتنا من الشرق إلى الغرب وكانت مطالبتـي بهذه العملية يوم 20 من أكتوبر خامس محاولة جادة لإنقاذ الموقف. وكانت هذه المحاولات الخـمس كما يلي:
1- عارضت دفع الفرقتين المدرعتين 21 و 4 من الضفة الغربية إلى الضفة الشـرقية يومي 12 و 13 من أكتوبر.
2- طالبت يوم 15 من أكتوبر بإعادة الفرقتين المدرعتين 21 و 4 إلى الضـفة الغربيـة بعد فشل هجومنا يوم 14 من أكتوبر.
3- طالبت يوم 16 من أكتوبر بسـحب الفرقة 4 المدرعة واللواء المدرع 25 من الضفـة الشرقية إلى الضفة الغربية، وثار الرئيس في وجهي ثورة عارمة كما سبق أن بينته.
4- سحبت دون علم الوزير والرئيس يومي 17 و 18 من أكتوبر وحدات فرعية من كتيبتين قواذف صاروخية موجهة "مالوتكا"، كانتا تخصان تشكيلاتنا في الغرب، وسحبت منها قبل بدء العمليات لكي ندعم بها فرق المشاة المكلفة بالعبور.
5- طالبت يوم 20 من أكتوبر بسحب 4 ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب (10)
مسئوليه السادات عن حصار الجيش الثالث:
إن شرف القوات المسلحـة المصرية وتاريخها الرائع الذي كـتبته بدمائها في أكتوبر 73 يتطلبان منا أن نحـدد من هو المسئول الحقيقي عن حدوث الثغرة ولماذا لم تدمر في حينها ، ومن هو المسئول الحقيقي عن حصار الجيش الثالث. إن حصار الجيش الثالث جريمة لا تغتفر وإني لاتهم السادات بأنه هو المسئول الأول عنها. يقول السادات في مذكراتـه صفحة 353 إنه أمر قائد الجيش الثالث بالا يسمح للعدو بتحقيق أي تقدم نحو الجنوب وأن قائد الجيش الثالث أهمل تنفيذ ذلك. هذا كلام غريب لا يعتمد على المنطق أو العلم العسكري. كيف يستطيع قائد الجيش أن يمنع العدو من التقدم جنوبا في الوقت الذي لا يستطيع فيه أن يسحب جنديا أو أية بندقية من الشرق ولا يملك في الغرب سوى لواء مشاة مقابل فرقتين مدرعتين للعدو. لا أعتقد أن عاقلا يمكنه أن يلوم قائد الجيش الثالث على ذلك.
ومن الغريب حقا أن السادات يعترف في مذكراته (صفحـتا 350 و 351) بأنه قرر في هذه الليلة أن يطلب وقف إطلاق النار ولكنه يعطي لذلك أسبابا ومسوغات غريبة. فلو أنه أخذ برأيي أيام 13 و 15 و 16 أكتوبر لما ظهر موقف يوم 20 أكتوبر، ولو اخذ برأيي يوم 20 أكتوبر لما كانت له حـاجة إلى طلب وقف إطلاق النار ولأصبح في إمكاننا أن نقـاتل ونمنع العدو من حصار الجيش الثالث وندمر قوات العدو غرب القناة بدلا من أن يطلب وقف إطلاق النار وهو في موقف ضعف. لقد رفض السـادات وقف إطلاق النار عندما كنا في موقف قوة وطلب وقف إطلاق النار عندما أصبحنا في موقف ضعف. إن هذا يدل على انه لايستطيع أن يرى أو يتصور المستقبل. انه يعيش حاضره ومـاضيه فقط، وليس هذا من صفات الرجل السياسي المحنك لقد كان اقتراحي الخاص بسحب 4 ألوية مدرعة من الشرق ليلة 20/21 من أكتوبر هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ الشرف العسكري المصري. لقد فقـدنا المبادرة نهائيا بعد ذلك وحتى نهاية الحرب.
حصار الجيش الثالث ومدينة السويس:
في خلال ليلة 20/21 من أكتوبر والليلة التالية دفع العدو بفرقة مدرعة ثالثة إلى الغرب بقيـادة الجنرال ماجن MAGEN ومن ثم كـانت فرقـة شارون تضغط شمالا في اتجـاه الإسمـاعيلية وفى مواجهتها اللواء المظلي 150، وإلى الغرب والجنوب كـانت فرقتا برن وماجن تضـغطان على الفرقة الرابعة المدرعة بقيـادة قابيل. كان قابيل يقاتل تحت ظروف سيئة جدا، حيث كانت المواجهة واسعة جدا والأرض مناسبة للمدرعات مما يسمح لمدرعات العدو بالتسرب وتفادي المواقع التي تريد أن تتفاداها، كما كانت القوات الجوية الإسرائيلية تقدم معاونة فعالة للوحدات المدرعة وكـانت تسيطر على سماء المعركـة غرب القناة. وعندما دفعنا بقواتنا الجـوية لاعتراض طائرات العدو في منطقة المعارك غرب القناة يوم 20 من أكتوبر، قامت القوات الجوية الإسرائيلية بإسقاط تسع عشرة طائرة لنا في معركـة جوية واحدة. وبالإضافة إلى هذا التفوق الجوي الساحق فقد كان العدو يتفوق أيضا في المدرعات غرب القناة بنسبة تزيد على 1:2.
وعلى الرغم من تلك الظروف السيئة كلها إلا أن العدو لم يكتسب الكثير من الأرض خلال قتـاله في الأيام 20 و21 و22. ففي الشمال لم تستطع فرقة شارون الوصول إلى تـرعة الإسماعيلية، وفي الجنوب توقفت فرقة برن عند جنيفة، وإلى الغرب والشمال منها فرقة ماجن، وإلى الغرب وصلت دبابات العدو إلى حوالي 15 كـيلومترا غرب القناة لم يكن العدو يسيطر على هذه المنطقة و كان ما يزال بداخلها بعض وحدات المشـاة وكتائب سـام التي تفادتها القوات المدرعة وبالتالي فلم تكن هناك خطوط دفاعية. إن وحداتنا التي تركها العدو خلفه تتحكم في خطوط مواصـلات دباباته، وفي الوقت نفسـه فإن دبابات العدو أصـبحت تتحكم في خطوط مواصـلات وحداتنا التي تركتها الدبابات المعادية في الخلف. كان هذا هو الموقف عندمـا اصـبح وقف إطـلاق النار نافذ المفعول السـاعة 1852 يوم 22 أكتوبر 1973 (11).
وقبل وقف إطلاق النار ببضع دقـائق أطلقنا 3 قذائف من صواريخنا SCUD R- 17-E على العدو في منطقة الدفرسوار، وقد تم إطلاق هذه القذائف بناء على أوامر من السادات وأعلن لوسائل الإعلام بأنها "القاهر" الذي تم تصنيعه في مصر. كان السادات يريد أن يوهم إسرائيل بان لديه الأسلحة التي يستطيع بها أن يضرب العمق الإسرائيلي. وقد كرر هذا القول في مذكراته في صفحة 0280 إذ قال إنه عندما قابل كيسنجر يوم 13 من ديسمبر 1973 قال له: "كـان في إمكاني أن اضرب في عمق إسـرائيل وهي تعلم ذلك وتعلم أنت أن لدي السلاح الذي يقوم بذلك". (12)
ولكي يفاوض الإسرائيليين من موقف قوة ولكي يملوا شروطهم على السادات استأنفوا القتال صباح يوم 23 من أكتوبر بهدف إتمام حصار الجيش الثالث وبحجة أن الجيش الثالث انتهك قرار وقف إطلاق النار. لقد اعتمدت عملياتهم يوم 23 من أكتوبر على عنصر المفاجأة والعامل النفسي الذي يدفع الفرد إلى التراخي بعد فترة مرهقة من القتال المستمر لعدة أيام متتالية، وفوق هذا وذاك على تفوقهم العسكري الواضح في الدبابات وفي الطيـران في المنطقة التي اختاروها لقتالهم. لقد ثبتوا الفرقة الرابعة المدرعة بأحد ألويتهم المدرعة واندفعوا جنوبا بثلاثة ألوية مدرعة ضد لا شيء.. ضد وحدات إدارية ومعسكرات نقاهه، إلخ. قاموا بتطويق مدينة السويس واستمروا في اندفاعهم جنوبا على خليج السويس حتى وصلوا إلى ميناء الأدبـية التي تقع جنوب مدينة السويس بـ 15 كيلومترا فوصلوها منتصف الليل. كانت الدبابات تضيء كشافاتها وكأنها في طابور استـعراض ليلي. كان الجنود المصريون في بعض المواقع المنعزلة يتفرجون على هذا القول من الدبابات وهو يسيـر على طريق الإسفلت على شكل قطار فردي (دبابة وراء أخرى) و أنوارها مضاءة و لا يتصور أي منهم أن تلك دبابات معادية، فلا هي تطلق النار على أحـد ولا أحد يطلق عليها النيران. إن الإسـرائيليين يصفون هذه العملية في كتبهم التي نشرت بعد الحـرب بـ "الاندفاع المدرع الجـري" نحو الجنوب.. أية شجـاعة وأية جرأة هذه؟ أين كانت هذه الجرأة قبل ذلك إن فرقـة شارون المدرعة ومعها لواء مظلي ظلت تقاتل لواء مظليا مصـريا لمدة أسبوع كـامل ولم تستطع أن تكسب اكثر من عشرة كيلومترات، وفرقة برن هي الأخرى تقاتل منذ إسبوع وانضمت إليها فرقة ماجن منذ يومين ولم تستطع الفرقتان المدرعتان أن تتقدما اكـثر من 20 كيلومتراً إلى الجنوب من الدفرسوار. وبعد أن يعلن وقف إطلاق النار فإن الجـرأة والإقدام يحـلان بالإسرائيليين فجأة فيتقدمون حوالي 35 كيلومترا في يوم واحد هو يوم 23 أكتوبر!.
إن من يريد أن يقوم بأي عمل فإنه يستطيع دائما أن يجـد المسوغ لذلك. لقد ادعت إسرائيل عام 1967 أننا بدأنا القتـال ولم يكن ذلك صحيحا. وادعت مصـر عام 1973ان إسرائيل هي التي بدأت القتال ولم يكن ذلك صحيحا أيضا، وقد اعترف كل منا بالحقيقة بعد ذلك. ولذلك فإني لا ألوم إسرائيل على ادعائها يوم 23 من أكتوبر بأنها استأنفت القتال مدعية كذبا بان الجيش الثالث كسر وقف إطلاق النار، ولكني ألوم الجنرال دايان على استمراره في هذا الادعاء البـاطل وذلك في مذكراته التي نشرت عام 1975. إن الأمـانة التاريخـية كانت تفرض عليه أن يقول الحقيقة ولكنه لم يقلها. ومع ذلك فإن في مـذكرات دايان ما يفضح بطلان إدعائهم حيث يقول دايان "أنه طالب الجنرال بارليف قائد الجبهة الجنوبية صباح يوم 22 من أكتوبر بضرورة احتلال جبل عتاقة قبل وقف إطلاق النار". (13)
ويقول أيضا "وبوصول قواتنا إلى ميناء الأدبية واشتراك قواتنا البحرية في إغلاق الممر المائي إلى السويس، تم حصار الجـيش الثالث ومدينة السويس من هذا الاتجاه" لقـد كان الهدف إذن هو حصـار الجيش الثالث قبل وقف إطلاق النار حتى يمكن التفاوض والمساومة من موقف قوة فلما لم تتمكن القوات الإسرائيلية من تنفيذ ذلك قبل وقف إطلاق النار يوم 22 من أكتوبر كان لابد من تنفيذ المهمة حتى بعد وقف إطلاق النار.
فوجئت الحامية البحرية في الأدبية بدخول الدبابات عليها فنشبت معركة قصيرة غير متكافئة بين رجال البحرية وبين دبابات العدو، وتمكنت الزوارق السريعة من الهرب، وبعد أن اتضحت صورة الموقف قرر قائد قطاع بير عديب القيام بهجوم مضاد فجر يوم 24 من أكتوبر لاسترداد القاعدة وفي الصباح قامت قوة تقدر بسرية مشاة تدعمها 7 دبابات ت 34 بمهاجمة القاعدة، وعلى الرغم من صغر حجم هذه القوة المهاجـمة إلا أن العدو- الذي يحتل الميناء- طلب معاونة جـوية. هاجم طيران العدو القوة المهاجمة أصاب دباباتنا السبع إصابات مبـاشرة أصيبت سرية المشاة بخسائر جسيمة. عندما زرت هذا المكان بعد أيام قليلة وقفت خاشعا أمام تلك الدبابات المحترقة التي تشهد بشجـاعة وإقدام الجندي المصري التي ظهرت بأعلى صورها خلال حرب أكتوبر 73.
وبحلول يوم 24 من أكتوبر اصبح الموقف سيئـا للغاية، فقد أتم العدو حصـار قوات الجيش الثالث الموجود شرق القناة وعزلها عن مركز قيادة الجيش الثالث غرب القناة، وقد هاجمت دبابات العدو مركز قيادة عبد المنعم واصل ودمرته ونجا هو بأعجوبة. لقد أصبحت فرقتـا مشاة مدعمتان قوامهما حوالي 45000 ضابط وجندي ومعهم حوالي 250 دبابة ومن خلفهم مدينة السويس، أصبح هؤلاء كلهم محاصرين حصارا تاما . وقد أصبحت هذه القوة كـلها خارج إمكـانات شبكة الدفـاع الجوى SAM وبالتالي أصبحت مهددة بالقصف الجوي المعادي دون أية فرصة لردع الطائرات المهاجمة. لم تكن لدينا في الغرب القوات الكافية التي تسمح لنا بفك الحصار. كان العدو يعلم هذه الحقائق كلها فقامت القوات الجوية المعادية يوم 24 من أكتوبر بهجوم مركز على الجيش الثـالث وقامت خـلال هذه الغارات بتدمير وسائل العبور جميعها من كباري ومعـديات كانت ماتزال في منطقة الجيش، وبذلك قضت نهائيا على أية فرصة لانسحاب هذه القوات.
لقد كان القضاء على الثغرة يوم 16 من أكتوبر سهلا ميسورا لو لم يثر السادات في وجهي وكـأني ارتكبت حماقة، وفي يوم 20 من أكتوبر كان الموقف ما يزال تحت سيطرتنا ويمكن القضاء على الثغرة لو أن السادات اخذ برأيي ولم يرفض سحب جزء من قواتنا في الشرق. إن في ذلك لعبرة ودرسا لمصر وأبنائها. أنه درس قاس دفعت مصر والعرب ثمنا غاليا له، ولكنه درس على أي حـال. إن السادات هو أحد مئات من حكام مصر الذين حكموا هذه البلاد عبر 7000 عام سيذهب ويجئ من بعده مئات آخرون، وستبقى مصر شامخة عزيزة الجانب وسيشهد التاريخ أن حرب أكتوبر 73 قد أبلى فيها الجندي المصري احسن بلاء وأن الضباط والجنود جميعا قد بلوا جهدهم وأدوه أروع أداء، إلا أن حاكم مصر في ذلك الوقت المتعطش إلى السلطة وحب الظهور- قد أجهض انتصارهم
الإنذار السوفيتي:
بينما كانت إسرائيل تدفع بفرقتين مدرعتين صباح يوم 23 أكتوبر لإتمام حصار الجيش الثالث، كان كيسنجر وزير خارجية أمريكا يغمض عينيه وكـأن طائرات الاستطلاع والأقمار الصناعية الأمريكية قد فقدت بصرها. كان كيسنجر يهدف من وراء ذلك مساعدة أبناء شعبه في إسرائيل كي يصلوا إلى موقف يستطيعون منه أن يفاوضوا من موقف قوة وهكذا لم يجد السـادات من يلجأ إليه في ذلك الوقت سوى الاتحـاد السوفيتي. ومن ثم لجـأ السادات إلى الاتحاد السوفيتي مرة أخرى بعد أن لجا إليه يوم 21 من أكتوبر، وبعد أن كان يرفض وساطته منذ بدء القتال وحتى يوم 18 أكتوبر. لجا يطلب منه العون فاستجاب له الاتحاد السوفيتي وفي صباح يوم 24 من أكتوبر انتقد الاتحاد السوفيتي إسرائيل وهاجم أمريكا بصفة علنية في الأمم المتحدة واتهمها بأنها بينما تتظاهر بأنها تؤيد قرار وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة فإنها تشجع إسرائيل في اعتداءاتها وتمدها بأسلحة بلغ ثمنها 2200 مليون دولار. (14)وفي اليوم نفسه رفع الاتحاد السوفيتي درجة الاستعداد لـ 6 فرق جنود مظلات قوامها 45000 رجل وسلمت رسالة إلى نيكسون من بريجنيف وصفها بعضهم بالإنذار ووصفها آخرين بالعنف الشديد. وعلى الرغم من أن الرسالة لم تنشـر بكاملها إلا أنه عرف بعض محتوياتها وفيها يقول "سوف أقولها بصراحة.. إذا لم يكن من الممكن أن تعملوا معنا في هذا الموضوع، فقد نجـد أنفسنا أمام موقف يضطرنا إلى اتخـاذ الخطوات التي نراها ضرورية وعاجلة. لا يمكن أن يسمح لإسرائيل بان تستمر في عدوانها هكذا".
وبعد وصول هذه الرسالة الشديدة اللهجة قام نيكسون برفع درجة الاستعداد في القوات المسلحة الأمريكية في جميـع أنحاء العالم، وبدا الموقف وكان الدولتين العظميين على وشك المجابهة وأصيب العالم بالذعر وكانت الحرب العالمية الثالثة على وشك الحـدوث، وبضغط خفيف من أمريكا- وبعد أن أتمت إسرائيل حصار الجيش الثـالث- قبلت إسرائيل إيقاف إطلاق النار مساء يوم 24 من أكتوبر، ولكنها عارضت الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 339 لأنه ينص على أن تنسحب القوات المتحـاربة فورا إلى خطوط يوم 22 أكتوبر، وكـانت معارضة إسرائيل لهذه النقطة بالذات هي بحـجة أنها لا تعرف بالضبط ولا يمكن لأحد أن يحدد بالضبط أين كـانت خطوط يوم 22 من أكتوبر مرة أخـرى فأنا لا ألوم إسرائيل على ادعائها بأنها لا تعرف أين كانت خطوط يوم 22 أكتوبر ولا ألوم أمريكا أيضـا عن سكوتها على هذا الادعاء إن ذلك كله هو جزء من قواعد اللعبة السياسية.. اللعبة التي لا تعتمد إلا على القوة.
وعلى الرغم من إعلان إسرائيل قبولها وقف إطلاق النار الثـاني الذي اصبح سـاري المفعول اعتبارا من مساء 24 من أكتوبر، إلا أنها استمرت في عملياتها ضد قوات الجيش الثالث ومدينة السويس طوال الأيام 25 و 26 و 27 أكتوبر. كان الإسرائيليون يأملون بذلك أن يستسلم الجيش الثالث المحاصر وأن يدخلوا مدينة السويس قبل أن تصل قوات الأمم المتحـدة، ولو قدر لهم أن يحققوا ما كـانوا يهدفون إليه لادعوا أنهم استولوا على الجيش الثالث يوم 22 من أكتوبر. وهذا يفسر مرة أخرى لماذا ادعت إسرائيل في الأمم المتحدة يوم 24 أكتوبر بأن خطوط وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر لم تكن معروفة.
وهكذا قام الإسرائيليون بهجـمات جوية مكثفة ضد وحـدات الجيش الثالث المحـاصرة والتي كانت قد أصبحت خارج مظلة دفاعنا الجوي، واستخدم الإسرائيليون لأول مرة أنواعا جديدة من صواريخ جو-ارض لم تكن لديهم عند بداية الحرب. لقد توالت البـلاغات بأن بعض الدبابات المخندقة أصيبت إصابات مباشرة بواسطة الصواريخ جو- ارض. وهنا ثبت لنا أن العدو قد بدا يستخدم الصـواريخ الأمريكية الحـديثة مافريك MAVERICK التي وصلت إليه ضمن الجسر الجوي الأمريكي، ولكن تلك الهجمات الجوية لم تؤثر في معنويات الوحدات المحاصرة فقد سبق لها أن تعودت عليها خلال فترة حرب الاستنزاف 68-70، وصمدت وحدات الجيش الثالث ولم تستطع إسرائيل أن تحقق هدفها.
العدو يحاول احتلال مدينة السويس:وفي يوم 24 من أكتوبر هاجم الإسرائيليون مدينة السويس مسـتخدمين في ذلك ثلاثة ألوية مدرعة ولواء مظليـا، ولكن مدينة السـويس -التي لم تكن بها أية وحدات عسكرية- قاومت الهجوم وصدته. لم تكن بالمدينة أية وحدات عسكرية ولكن بعض الجنود الشاردين نتيجـة القتال الذي دار في يوم 23 من أكتوبر توافدوا إلى المدينة وليس معهم سوى أسلحتهم الشخصيـة من بندقية أو رشاش خـفيف أو ر.ب.ج. وبمبادرة من العميد يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 مشاة التي كانت شرق القناة، وبالتعاون مع محافظ مدينة السويس قام الطرفان بتجـهيز المدينة للمقاومة خـلال يوم 23 من أكتوبر. لقد تم تجميع الجنود الشاردين وتنظيمهم في مجموعات صغيرة وتم توزيع السلاح على الأهلين المدنين وقام العميد يوسف عفيفي بسحب بعض جماعات اقتناص الدبابات من الشرق ونقلها إلى المدينة في الغرب، وقبل فجر يوم 24 من أكتوبر كانت المدينة قد جهزت نفسها للقاء العدو.في حـوالي السابعة من صبـاح يوم 24 من أكتوبر وبعد قصف مكثف من المدفعيـة والطيران بدا العدو هجومه على مدينة السويس. لواء مدرع يتقدم من الشمال على محور الاسماعيلية السـويس، لواء مدرع مدعم بكتيبة مظلات يتقدم على محور القاهرة السويس، لواء مدرع يتقدم من اتجاه الزيتية (إتجاه جنوب وجنوب شرق)، فشل هجوم اللواء المدرع الذي على المحور الشمالي ولم يستطع دخول المدينة. بينما نجحت دبابات العدو التي تهاجم على المحورين الغربي والجنوبي في الدخول إلى شوارع المدينة ودار قتـال عنيف مع العدو كان السلاح الرئيسي فيه هو ر.ب.ج RPG والأسلحة الصغيرة وخسر العدو الكثير من الدبابات واضطر إلى الانسحاب من المدينة قبل حلول الظلام تاركـا خلفه دباباته المحطمة ومجموعة كبيرة من المظليين المحاصرين داخل المدينة، وقد حاول العدو سـحب هذه القوة المحاصرة خلال الليل تحت ستار عنيف من قصف المدفعية فافلت بعضـهم وسقط الكثير قتلى. لقد خسر العدو في محاولته احتلال السويس 100 قتيل وحوالي 500 جريح، وعلى الرغم من انه استخدم فرقة مدرعة من ثلاثة ألوية مدرعة ولواء مظلي إلا أن سكان السويس وحفنة من الجنود الشاردين صدوا هجومه. إن ملحمة السويس هي شهادة أخرى للمواطن المصري ومدى قدرته على التحمل والتحدي وقت الشدائد. ولكي يغطي العدو خيبة الأمل التي أصيب بها بعد فشل هجومه على السويس أطلق على المدينة الباسلة قواته الجوية ومدفعيته واستمر يقصفها طوال الأيام 25 و 26 و 27 أكتوبر.ولم يتوقف القصف إلا صباح يوم 28 من أكتوبر بعد وصول قوات الأمم المتحدة إليها. لقد بلغت خسائر الجيش الثالث ومدينة السويس نتيجة قصف الطيران والمدفعية خلال الفترة من24-27 أكتوبر حوالي 80 شهيد و42 جريحا.
 
الفصل الخامس والثلاثون: مأساة الجيش الثالث
صدام آخر بين أحمد إسماعيل و الشاذلي:
في الساعة 1100 يوم 25 من أكتوبر اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة السيد الوزير لأول مرة منذ اندلاع القتال وكان الموضوع الرئيسي للمناقشة هو كيف يمكن إعادة فتح الطريق إلى الجيش الثالث. وقد تكلم المجتمعون كلهم بإخلاص تام، ولكننا لم نستطع الوصول إلى أي حل وانفض الاجتماع على أساس إجراء الدراسات اللازمة حول هذا الموضوع (انظر الخريطة رقم 7).
في الساعة 1100 يوم 26 من أكتوبر حضر العميد قاببل قائد الفرقة الرابعة المدرعة إلى المركز 10 ليعرض نتيجة دراسته، وكان تقرير العميد قابيل- يؤيده في ذلك اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث- هو أن الفرقة الرابعة المدرعة لا تستطيع أن تقوم بتنفيذ هذه المهمة. كان كلام قابيل وعبد المنعم واصل كلاما منطقيا يعتمد على قواعد وأصول العلم العسكري ولم اكن أنا شخصيا أتوقع غير ذلك منذ يوم 23 أكتوبر. ولكن الوزير اخذ يحاور قابيل محاورات غريبة. وهنا قال قابيل "إنني وضباط وجنود الفرقة جميعنا مستعدين للقيـام بهذه العملية الانتحارية، ولكني لا اعتقد أننا سننجح في فتح الطريق إلى القوات المحاصرة بعد ذلك كله. وإذا دمرت هذه الفرقة فسيكون الطريق مفتوحا أمام العدو إلى القاهرة".
قال الوزير "إذن نعدل المهمة من فتح طريق السويس إلى حماية قوات إدارية تتحرك من القاهرة إلى الجيش الثالث عبر المسالك والطريق الثانوية كدت أصعق وأنا استمع إلى الوزير وهو يدلي بهذا القول. لأن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من شخص بكامل قواه العقلية نظرا لأنه كلام غير منطقي إطلاقا فكيف يصدر من وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة؟
1- إن الحد الأدنى لمطالب الجندي من التعيينات والمياه وقت الحصار هو 3,5 كيلوجرام في اليوم، وهذا يعني أن القوات المحاصرة -عدا المدنيين الموجودين في مدينة السويس- تحتاج إلى 150 طنا يوميّا لكيلا يموت الجنود جوعا وعطشّا.
2- إن استخدام المسالك والأرض المفتوحة يتطلب عربات ذات جنازير حتى يمكنها عبور الأراضي المفتوحة ومجاري السيول، ولو حملت كل من هذه العربات 1,5 طن فإننا نحتاج إلى حوالي 100 عربة مجنزرة على الأقل لتنقل احتياجات يوم واحد بفرض أنها جميعا ستصل سليمة ولن ينجح العدو في تدمير أي منها.
3- أن العدو يتمتع بالسيطرة الجوية في تلك المنطقة ويستطيع أن يكشف أية تحركات كبيرة بالحملة عبر هذه المسالك ويقوم بتدميرها.
4- إن مخارج هذه الأراضي المفتوحة جميعا يجب أن تمر في النهاية خلال المنطقة ما بين جبل عتاقة وجبل جنيفة او ما بين جبل جنيفة والبحيرات المرة، وهي مناطق يسيطر عليها العدو.
5- من غير المعقول أن نقوم بهذه المغامرة من اجل إرسال احتياجات يوم واحد، فلو فرضنا إمداد القوات المحاصرة باحتياجات سبعة ايام فإننا نحتاج إلى 700 مركبة مجنزرة للقيام بهذه المهمة الإدارية، وهذا رقم كبير غير متيسر. ولو تيسر لنا هذا العدد من المجنزرات واستخدمناها بهذا الأسلوب الساذج لكان سبة في جبيننا.
6- إذا كانت الفرقة الرابعة المدرعة لا تستطيع أن تفتح الطريق وحدها فكـيف نحملها مسئولية عبء ثقيل وهو حماية 700 مركبة تحمل مطالب إدارية؟
7- هل نترك الباب مفتوحا إلى القاهرة بينما تكون الفرقة الرابعة المدرعة مشـغولة بهذه العملية؟
عارضت الوزير ولكنه أصر وطلب إلى أن اصدر أمرّا كتابيا إلى قائد الفرقة بتنفيذ هذه المهمة فرفضت وقلت له "لن أوقع بإمضائي على هذه المهمة، يمكنك أن توقع على هذا الأمر وحدك ان شئت". وهنا لجـا الوزير إلى مناقشات غير منطقية الهدف منها تسجيل مواقف فقال "أنا لا افهم ماذا تريد بالضبط ؟ هل تريد لهؤلاء الرجال المحاصرين أن يستسلموا؟" فأجبت "بالطبع لا أريد ذلك، ولكن في الوقت نفسه لا أريد أن نفقد الفرقة الرابعة المدرعة دون أن يتغير الموقف في شيء" ، فقال يجب الا تقول هذا الكلام في حضور قائد الفرقة المكلف بهذه المهمة""، (1) قلت "إنني ابدي رأيي بصراحة تحتمها عليّ مسئوليتي، وعموما هناك تقرير مكتوب من قائد الجيش الثالث يتفق مع وجهة نظري". قال الوزير "إذا لم توقع على الأمر للفرقة الرابعة لتنفيذ هذه المهمة فسوف أقوم بإخطار الرئيس بذلك"، أجبت بهدوء "يمكنك أن تفعل ذلك بكل تأكيد". قام الوزير بتوقيع الأمر بعد ذلك وسلمه إلى العميد قابيل (2). ولكن المهمة الغيت بعد ذلك ولم تنقذ قط ربما لأن الوزير لم يستطع أن يتحمل وحده مسؤولية هذه العملية الطائشة.
السادات في قبضة كيسنجر:
في الساعة 2300 من يوم 26 من أكتوبر وصلت إلى القاهرة الدفعة الأولى من قوة الطوارئ الدولية وكان عددها 50 فردا. واعتبارا من الساعات الأولى من يوم 27 من أكتوبر وضعت الأطراف جميعها أوراقها على المنضدة ذهب الوزير لمقابلة الرئيس في الساعة الرابعة صباحا وعاد حوالي السادسة، وأدلى بالتعليمات التالية:
1- لقد تلقى الرئيس رسالة من الرئيس نيكسون يخطره بأنه سوف يكون هناك حل مشرف لمشكلة الجيش الثالث.
2- يجب أن نوقف النشاطات العسكرية جميعها اعتبارا من الساعة 1300 اليوم
3- يدفع اليوم رتل من الحملة يحمل المطالب الإدارية للجيش الثالث. يتحرك ألرتل في الساعة 1300.
4- تبدأ المفاوضـات اليوم الساعة 1500 عند علامة الكيلو 101 طريق مصر- السويس ويرأس الوفد المصري اللواء عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات.
ومنذ هذه اللحظة- من الناحية الواقعية منذ 23 من أكتوبر- أصبح الجيش الثالث رهينة في يد إسرائيل وفي يد كيسنجر. لقد اصبح مصير الجيش الثالث مرتبطا بمدى المطالب التي تطلبها إسرائيل وأمريكا ومدى خضوع السـادات لهذه المطالب. وقد استغلت كل من إسرائيل وأمريكا هذه الرهينة احسن استغلال كما سوف نرى.
مفاوضات الكيلو 101:
كان المصريون يستعجلون الأمور، وكان الإسرائيليون يعلمون ذلك فيتعمدون تأخير كل شيء وتعطيل كل شيء لقد أصبحت المعركة الآن معركة سياسية واصبـح من بيده إمداد الجيش الثالث بكسرة خبز واحدة هو كيسنجر. كان كيسنجر يعلم تلك الحـقيقة وكان يعلم أيضا ان السادات هو الآخر يعلمها، ولكنه كان يريد أن يذكر السادات بهذه الحقيقة باستمرار حتى يستطيع أن يسيطر عليه سيطرة تامة.
كانت الخطة التي وضعها كيسنجر مع إسرائيل تتلخص فيما يلي:
1- كلما طالت مدة حصار الجيش الثالث كـان ذلك افضل، حيث إن ذلك سيعطي إسرائيل وأمريكا فرصة أفضل لتحقيق مطالبهما.
2- يتم إمداد الجيش الثـالث فى أضيق الحدود بحيث يكون دائما "من اليد إلى الفم" وليس لديه أي احتياطي من التعيينات او الاحتيـاجات. ومن هنا يصبح كل يوم يمر عنصر ضغط سياسي على السادات وكأنه يقول له " توافق على هذا الطلب ام نمنع مرور قول التموين إلى الجيش الثالث؟ ".
3- إن مصر يجب ان تدفع- بسـخاء- لكل من إسرائيل وأمريكا ثمنا لإنقاذ الجيش الثالث. كان الثمن الذى تريده أمريكا هو طرد النفوذ السوفيتي من المنطقة، وإلغاء الحظر الذي فرضتـه الدول العربية على إمداد أمريكا والدول الغربية بالوقود. أما إسرائيل فكانت مطالبها كثيرة ومتعددة كما سوف نرى، وكان أهم ما فيها هو اتفاقية يناير 74 الخاصة بفض الاشتبـاك الأول والتي تعهدت فيها مصر بسحب قوات الجيشين الثاني والثالث من المنطقة شرق القناة وذلك فيما عدا 7000 جندي و30 دبابة فقط.
بدأت مرحلة ابتزاز النظام المصري واستغلال وجـود الجيش الثالث كرهينة اعتبارا من صباح يوم 27 من أكتوبر. ففي هذا اليوم وبناء على اتفاق السـادات وواشنطن تحرك قول إساري من القاهرة لإمداد الجيش الثالث. كـان القول الإداري مكونا من 109 عربات تحمل 1000 طن من الاحتياجـات من مواد الإعاشة وكان معه 20 عربة إسـعاف لإخلاء الجرحى. ولكن الإسرائيليون رفضوا السماح له بالمرور. كذلك ذهب الجـمسي إلى الكيلو 101 طريق السويس ولكنه عاد لأنه لم يجد أحدا يريد اسـتقبـاله. واهتزت أسلاك الهاتف بين القاهرة وواشنطن وتل أبيب، ثم قيل للجـمسي اذهب مرة أخـرى وميعاد المقـابلة هو منتصف الليل، وذهب الجـمسى إلى الكيلو 101 مرة أخرى ولكنه عاد أيضا دون ان يقـابله أحد، واهتـز الهاتف مرة اخرى بين القاهرة وواشنطن. وبعد سلسلة من التأجيـلات وافق الجـانب الإسرائيلي على استقبال الجمسي عند علامة الكيلو 101 الساعة 1200 يوم 29 من أكتوبر 73.
أما بخصوص إمداد الجيش الثالث فقد أثاروا الكثير من العقبات وفرضوا الكثير من القيود التي قبلها الجانب المصري بأكملها لأنه لم تكن لديه أية فرصة للمساومة.
أ- قالوا إنهم لن يسمحوا إلا بمرور الإمدادات الطبية فقط وبعد مناقشات مطولة وافقوا في الساعة 1700 يوم 29 من أكتوبر على إمداد القوات المحاصرة بثلاثين طناً فقد من الاحتياجات (20 طن مياه و 8 أطنان تعيينات و 2,5 من المواد الطبية).
ب- كانوا يجرون تفتيشاً دقيقاً ومهيناً للعربات التي تحمل تلك الاحتياجات الإدارية.
مأساة الجيش الثالث، صفحه رقم 233
ج- رفضوا السماح للسائقين المصريين أن يتقدموا بتلك العربات بعد علامة الكيلو 101 وأصروا على أن يقودها سائقون إسرائيليون أو سائقون تابعون للأمم المتحدة خلال الرحلة ما بين الكيلو 101 والقوات المحاصرة وقبل المفاوض المصري، وعلى الرغم من هذه التنازلات المهينة كلها إلا أن نسبة كبيرة من إمداداتنا إلى القوات المحاصرة كان ينهبها الإسرائيليون خلال الطريق.
كانت مفاوضات الكيلو 101 غريبة فى طبيعتها. لقد كانت عبارة عن تلقي تعليمات الجانب الإسرائيلي يومياً كثمن لإمداد الجيش الثالث باحتياجاته. في أول يوم للاجتماع طلب الجانب الإسرائيلي الإفراج عن جاسوس إسرائيلي كان فى قبضتنا أسمه أفيدان Avidan وكان قد حكـم عليه بالسجن بحكم محكمة وكـان حينئذ يقضـي العقوبة في أحد سجوننا. وافق الرئيس وفي اليوم التالي كان أفيدان يرافق الجمسي في عربته إلى الكيلو 101 ليسلمه بنفسه إلـى الجانب الإسرائيلي. كان أفيدان هو المقدمة ثم تبع ذلك المطالبة بتسلـيم الجواسيس الإسرائيليين كلهم الذين يقضون أحكاما في السجون المصرية بما فيهم الجاسوس المصري باروخ مزراحي وهو يهودي مصري اختفى قبل ذلك من مصر ثم ضبط فى إحدى الدول العربية تحت اسم آخر وكان يتجسس لحساب إسرائيل. طالبوا بعد ذلك بتبادل أسرى الحرب كانت وجهة نظر مصر أن يؤجل تبادل أسرى الحرب إلى ما بعد التوقيع على اتفاقية فض الاشتباك. رفضت إسرائيل. فعدلت مصر طلبها بأن يكون تبادل الأسرى بعد انسحاب الإسرائيليين الى خط 22 من أكتوبر فرفضت إسرائيل وأعلنت جولدا مائير فى الكنيست في 14 من نوفمبر 73 "لن يمر كيلو جرام واحد من الاحتياجات إلى الجيش الثالث إلا بعد أن يصل إلينا رجالنا الأسرى الذين في يد المصريين "، وأذعن السادات وبدأ تسليـم الأسرى اعتبارا من يوم 15 من نوفمبر واستمر حتى 22 من نوفمبر. وعندما اشتد البرد حاولنا إرسال البطانيات والملابس الصوفية إلى رجالنا ولكن الجانب الإسرائيلي رفض السماح بمرور هذه الأصناف.
كيسنجر يستغل حصار الجيش الثالث:
وعندما اشتكت القاهرة الى واشنطن من التعنت الإسرائيلي، وصلت رسالة من الدكتور كيسنجر الى وزير الخارجية المصري في 4 من ديسمبر 73 تتضمن النقاط التالية:
1- يجب ان تستأنف مفاوضات الكيلو 101 على اساس تبادل المصالح (5).
2- ان مقترحات ياريف YARIV(نظير الجمسي ورئيس الوفد الإسرائيلي في مفاوضات الكيلو 101) يوم 23 من نوفمبر يمكن ان تكون اساسا لمؤتمر سلام (6).
3- ان عدم رفع قيود البترول قبل انعقاد مؤتمر السلام قد يجعل أمريكا غير قادرة على اتخاذ موقف مؤثر.
ها هو ذا كيسنجر قد بدأ يساوم هو الآخر لصالح أمريكا. إن إمداد الجيش الثـالث بالتعيينات والمياه يجب أن يقابله إمداد أمريكا والغرب بالوقود. إن طبيعة سلاح البترول هو أن قوة تأثيره لا تظهر الا بعد بضعة أشهر. وفي الوقت الذي بدأت فيه أمريكا والدول المؤيدة لإسرائيل تشعر بالأثر الاقتصادي نتيجة للحظر الذي فرضته الدول العربية. أقول في هذا الوقت وضع كيسنجر سلاح البترول في كفة الميزان وإنقاذ الجيش الثالث في الكفة الأخرى. كان على السادات أذن أن يلتمس من الإخوان العرب أن يقوموا بوقف استخدام هذا السلاح وهذا ما حدث فعلا. كان السادات هو اكثر الزعماء العرب تحمسا لإلغاء الحظر البترولي ضد أمريكا والدول المؤيدة لإسرائيل. مرة أخرى أقول أني لا ألوم كيسنجر على هذه السياسة فمن واجبه أن يخدم مصالح أمريكا، ولكني ألوم السادات لأنه هو الذي تسبب في حصار الجيش الثالث ولم يتصور ما يمكن أن يجره ذلك من مصائب.
وللاستفادة من حصار الجـيش الثالث أرغمتنا إسرائيل على إعلان فك الحصار البحري عنها. كنا قد ألغينا هذا الحصار البحري عمليا يوم أول نوفمبر عندما سمحنا لناقلة بترول تحمل 123000 طن بأن تدخل البحر الأحمر وتتجه شمالا إلى إسرائيل تحت نظرنا وفي مرمى صواريخنا. كان إغراق هذه الباخرة يعني التضحية بالجيش الثالث. كانت إسرائيل تعرف هذه الحقائق وتعرف أن غواصاتنا ولنشات صواريخنا التي تعمل في جنوب البحر الأحمر كان في استطاعتها أن تغرق هذه الباخرة ولكننا سمحنا لها بالمرور ثمنا لإمداد الجيش الثالث. ولكن هذا لم يكن ليكفي غرور إسرائيل التي كانت تستغل حصار الجيش للقيام بعملية ابتزاز فظيعة، وأرادت أن يكون إلغاء الحصار البحري بطريقة علنية يعلم بها العالم أجمع، وهكذا أعلنت ان الباخرة الإسرائيلية بيرسبع ستتحدى الحصار البحري وستدخل مضمور باب المندب يوم 2 أو 3 من ديسمبر وتتجه شمالا إلى إسرائيل، ودخلت السفينة ومرت أمام قطعنا البحرية وهي تتهادى، بينما ينظر إليها رجالنا في غيظ وحنق مكظومين.
السادات يكذب على الشعب:
وبينما كانت هذه الإجراءات المهينة تجري على المستوى السياسي والعسكري. كان الشعب المصري كالزوج المخدوع اَخر من يعلم. لم يكن يدري بما يحدث، كان يسمع ما يقال له وما يكتب له بواسطة وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، وكم من مرة ومرات خدع حكام مصر هذا الشعب و أخفوا عنه الحقائق؟‍‍ ولكن إخفاء حصار جيش يتكون من 45000 رجل ومدينة كاملة لم يكن بالأمر الهين، إذ ان مئات الألوف من أقارب وأصدقاء هؤلاء الرجال بدأوا يتشككون في الموقف ونجح بعضهم في التقاط بعض الإذاعات الأجنبية، وهنا ظهرت الصحف يوم 30 من نوفمبر بعناوين ضخمة " أن قواتنا تسيطر سيطرة تامة على الضفة الغربية تماما ما بين الدفرسوار والسويس. إن معابر الجيش الثالث جميعها سليمة وان الإمداد يتم بانتظام". وفي حديث للرئيس السادات أمام مجلس الشعب في فبراير 74 نفى أن الجيش الثالث قد حوصر‍‍‍‍‍‍‍‌‌!! أني لا أتصور ان يكذب رئيس دولة -يدعي بان نظامه نظام ديمقراطي- بهذه الصورة ثم لا يجد من يسأله أو يراجعه لقد طرد الشعب الأمريكي الرئيس نيكسون لأنه كذب على الشعب الأمريكي كذبة صغيرة لو قيست بأكاذيب السادات لبدت وكأنها لا تدخل ضمن تعريف الكذبة وفي خلال اجتماع مجلس الشعب قام الرئيس السادات بإخراج تمثيلية ليقنع بها الأعضاء أن هذه التمثيلية مازالت عالقة بالأذهان وقد قام بعضهم بتسجيلها على الفيديو كجزء من تاريخ السادات استدعى الرئيس السادات اللواء بدوي الذي كان قائدا للقوة المحصورة ويشغل الآن منصب (ر.ا.ح.ق م.م) واخذ يوجه له أسئلة ويتلقى أجوبة تثبت ان الجيش الثالث لم يكن محاصرا هل هذا معقول ؟ وهل يصل الاستهتار بعقول الشعب أن يتمادى الحاكم في الكذب إلى هذا الحد؟!
اتفاقية فض الاشتباك:
في يوم 18 من يناير 1974 تم التوقيع على الاتفاقية الأولى لفض الاشتباك بين مصر و إسرائيل، وكانت بنودها الرئيسية تشمل ما يلي:
1- تقوم إسرائيل بسحب قواتها إلى خط يقع شرق قناة السويس بحوالي 30 كيلومترا.
2- تقوم مصر بسحب قواتها جميعها من شرق القناة وذلك فيما عدا قوة صغيرة لا يزيد عددها على 7000 رجل وبحيث لا يكون معهم سوى 30 دبابة وألا يتجاوز وجودها شرق القناة اكثر من 10 كيلومترات.
3- تبقى قوات الأمم المتحدة في المنطقة العازلة بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية وعرضها حوالي 20 كيلومترا.
4- لا تعتبر هذه الاتفاقية معاهدة سلام ولكنها تعتبر مجرد خطوة على الطريق للوصول إلى معاهدة سلام طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 338 وداخل إطار مؤتمر جنيف للسلام (8).
إسرائيل تنهب الأرض المحتلة:
لقد احتلت إسرائيل مساحة في الضفة الغربية لقناة السويس بلغت حوالي 1500 كيلومتر مربع، وبقيت تحتل هذه البقعة لمدة تزيد على ثلاثة اشهر إلى أن انسحبت منها خلال شهر فبراير 74 بناء على اتفاقية فصل القوات. وفي خلال تلك المدة انتهكت إسرائيل جميع قواعد القانون والعرف الدوليين ومبادئ الأخلاق. حيث ردموا ترعة المياه الحلوة التي تنقل المياه من الإسماعيلية إلى مدينة السويس والجيش الثالث. وفكوا مصنع تكرير الوقود ومصنع السماد اللذين كانا يقعان خارج مدينة السويس ونقلوهما إلى إسرائيل، أما الأجزاء الثقيلة التي لا يمكن نقلها فقد نسفوها عن اَخرها قبل أن يغادروا المكان. لقد فكوا المواقع والمعدات من ميناء الأدبية وأخفوها معهم ثم نسفوا ما لا يستطيعون نقله. وفكوا خطوط أنابيب المياه وأنابيب البترول التي كانت تمر في المنطقة. ونهبوا واستولوا على المواشي والمحاصيل التي كانت في حوزة الفلاحين الذين كانوا يسكنون تلك المنطقة. لم تكن عملية النهب والسلب عملية محلية يرتكبها الجنود والقادة المحليون كما هي العادة دائما بالنسبة لجيوش الاحتلال، وإنما كانت عملية منظمة تتم بناء على تعليمات من الحكومـة الإسرائيلية وتأييدها، وهذا هو الجرم الأكبر. لقد انسحب الإسـرائيليون من تـلك المنطقة بعد ان تركوها خرابا تشهد لهم بأنهم قد فاقوا القبائل المنغولية التي اجتاحت اَسيا وأوربا خلال القرن الثالث عشر الميلادي.
أني أتهم:
ما أغلى الثمن الذي دفعته مصر نتيجة حصار الجيش الثالث يوم 23 من أكتوبر لقد أجهض حصار الجيش الثالث انتصارات اكتوبر المجيدة و أجهض سلاح البترول. و أجهض الحصار البحري الفعال الذي فرضته مصر على إسرائيل. وافقد القيادة السياسية المصرية القدرة على الحركة والمناورة وجعلها ألعوبة في يد إسرائيل وأمريكا. وفي سبيل إنقاذ الجيش الثالث كانت مصر ترى إسرائيل وهي تنهب وتسلب ثرواتها وتقف مكتوفة الأيدي لا تستطيع الرد ولا حتى مجرد الاجتماع. وهنا يبرز السؤال مرة اخرى: من هو المسئول عن حصار الجيش الثالث؟ إذا رغبت مصر في أن تغسل شرفها العسكري من الشوائب التي أصابته نتيجة حصار الجيش الثالث فإنها يجب أن تبحث عن المسئول عن هذه الكارثة. وأني أتهم السادات بهذه الجريمة ولدي الوثائق التي تؤيد هذا الاتهام (انظر خطاب الفريق الشاذلي الى النائب العام في 21 من يوليو 79 والذي يطلب فيه تقديم السادات للمحاكمة).
 
مذكرات الفريق / سعد الدين الشاذلي (4)

الفصل السادس والثلاثون: قصة إقالتي من منصب (ر.ا.ح.ق.م.م)
البيانات العسكرية المصرية وحقيقتها:
لقد اتفقت مع أحمد إسماعيل قبل الحرب على أن تكون بلاغاتنا العسكرية دقيقة وصادقة وأن نذكر الحقائق كلها مجردة من أية مبالغات أو أكاذيب كما كان الحال في حربنا السابقة مع إسرائيل. وقد التزمت القيادة هذا الخـط إلى أن جاء يوم 14 من اكتوبر 73 الذى خسرنا فيه حوالي 250 دبابه مقابل خسـائر محدودة من العدو. ونظرا لما كـان يحس به السادات وأحمد إسماعيل من شعور بالذنب- لأنهما هما اللذان أصرا على هذا الهجوم على الرغم من معارضتي أنا وقادة الجـيوش كما سبق أن ذكرت- فقد صـدر البيان العسكري، ولأول مرة منذ بداية الحرب، وفيه تزوير للحقائق. ثم جاء بعد ذلك اختراق العدو في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 من أكتوبر فكان عاملا جديدا في استمرار بياناتنا العسكرية في أكاذيبها.
في خلال الأيام الأولى من الاختراق نفت البيانات العسكرية نفيا قاطعا وجود أي اختراق للعدو غرب القناة وبعد أن تطورت قوة العدو في الغرب إلى الحد الذي أصبح معه مستحيلا إخفاء وجود هذه الاختراقات عمدت البيانات إلى التقليل من أهمية هذا الاختراق.
وأني أذكر كيف كان أحمد إسماعيل يتصل هاتفيا من غرفة العمليات بالدكتور حاتم نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام لكي يشرح له الموقف، ومن بين تلك المحـادثات مكالمة هاتفـية يوم 18 من اكتوبر، قبل أن أتحرك إلى الجيش الثـالث ظهر هذا اليوم. كانت قوة العدو في ذلك الوقت تقدر بأربعة ألوية مدرعة ومع ذلك كان أحمد إسماعيل يقول للدكتور حاتم "إن للعدو 7 دبابات فى الغرب وإنهم يتبعون أسلوب حرب العصابات. إذ يظهرون فجأة حيث يضـربون ثم يهربون ويخـتفون في الأشجـار ولذلك فإننا نجد صعوبة فى اكتشافهم وتدميرهم!! ‍‍‍". ومع أني لم أكن اسمع ما يقوله الدكتور حـاتم من الجانب الآخر من الخط إلا أني كنت أستنتج انه لا يسـتطيع أن يتقبل هذا التفسير السـاذج، مما كـان يضطر أحمد إسماعيل إلى ان يعيد ويكرر ما سبق أن قاله مرات ومرات.
وعندما كنت أناقش هذا الموضوع مع الوزير وأطالبه بضرورة إعلان الحقائق فإننا كنا نصطدم معا كعقليتين وعقيدتين مختلفتين تماما. فقد كان يقول إن إذاعة هذه المعلومات السيئة سوف تكون لها اثر سيئ على الروح المعنوية للقوات المسلحة وعلى الشعب. وكنت أقول إن المعلومات السيئة تستحدث الهمم وتولد عند كل مواطن روح التحدي للعدو وتدفعه لأن يقدم لوطنه أقصى ما يستطيع أن يقدمه. كما أن إعلانها للقوات المسلحـة سيدفع التشكيـلات والوحدات غير المشتركة في القتال لكي تكون اكثر تعاونا واستعدادا لتقديم المساعدة والدعم للقوات المشتركة في القتال. نظريتان مختلفتان تماما. والنتيجة هى أن الوزير استمر في إصدار البيانات العسكرية الكاذبة- ويعلم السادات بكذبها- طوال مدة الحرب.
مقابلة مع مندوب مجلة نيوزويك الأمريكية:
في الساعة 1700 يوم 5 من ديسمبر 73 أجريت مقابلة صحـفية مع المسـتر أرنولد بورشجـريف محرر مجلة نيوزويك الأمريكية، وقد تكلمت معه بمنتهى الحرية والصراحة وأجبت عن أسئلته كلها وذلك فيما عدا المعلومات التي قد يستفيد العدو من إذاعتها. وقد منعت الرقابة المصرية المستر بورشجريف من إرسال هذا الحديث الصحفي إلى مجلته، وقامت بترجمة الحديث إلى اللغة العربية وأرسلته إلى المخابرات الحربيـة للموافقة على النشر، فقامت المخابرات الحربية بعرض الأمر على السيد الوزير. سألني الوزير عما إذا كنت قد قلت هذا الكلام فأجبت بالإيجاب. قال كان يجب عليك ان تعرضها على المخابرات الحربية قبل إرسالها إلى الصحافة. قلت له "كيف أطلب من المخابرات الحـربية وهي إدارة مرؤوسة لي أن تراجع ما أقول". أنا أعرف ما هو سر وما هو ليس سراً أكثر من مدير المخابرات لأن لدي قدرة تصور أوسع واتصالات عالمية اكثر. لماذا نخفي شيئا يعرفه العالم أجمع إلا شعب مصر؟.. إنني لم أقل شيئا يستطيع العدو أن يستفيد منه. وعلى سبيل المثال فقد امتنعت عن الإجابة عندما طلب مني أن أقارن بين قوتنا وقوة العدو قبل 6 من اكتوبر والآن. لأن الإجابة عن هذا السؤال قد تضطرني إلى إذاعة بعض المعلومات التي ليست معروفة على المسـتوى الدولي حتى الآن. مثال ذلك خسائرنا في الحرب والإمدادات التي وصلتنا حتى الآن. أما أنت ففي حديث لك مع الأسـتـاذ حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام، أذعت بيـانا عن خسـائرنا في الحرب. ولو استطاع العدو ان يعرف الإمدادات التي وصلت إلينـا بعد 6 من أكتوبر وحتى الآن فإنه يستطيع ان يعرف قوتنا على وجه التحديد. لقد كانت مناقشة حادة حقا. طلب مني الوزير أن استدعي بورشجريف وأن اسحب منه ما قلت فرفضت.
جريدة الأهرام تذيع خبرا كاذبا:
في صباح يوم 11 من ديسمبر 73 فوجئت بعنوان ضخم في جريدة الأهرام "قواتنا في الشرق والغرب تتقدم عشرة كيلومترات "، وكانت الجريدة تنسب الخبر إلى قيادة قوة الطوارئ الدولية في القاهرة لقد كان الخبر صورة أخرى من صور التزوير لواقع الأمر. حاولت معرفة مصدر هذا الخبر. اتصلت بقيادة قوة الطوارئ الدولية فنفت نفيا باتا إنها اصدرت بيانا عن ذلك اتصلت بإدارة المخابرات الحربية فنفت هي الأخرى أي علم بمصدر أو مؤلف هذا الخبر. كان الوزير يجلس بجواري في غرفة العمليات وأنا أجري هذه الاتصالات دون أن يعلق بشيء. مما جعلني اشك أنه هو مصدر هذا الخبر. قلت بصوت عال وبغضب دون أن اوجه كلامي لأحد هذا جنون. ليس هذا هو الأسلوب الصحيح للأعلام. يجب أن نعرف من هو الشخص الذي وراء هذا الخبر ويجب أن يعاقب. وهنا تدخل الوزير قائلا "لماذا تغضب هل أنت وزير الإعلام؟ قد يعتقدون أن إصدار هذا الخبر في مصلحة الوطن". سألت "من هم الذين يعتقدون؟" قال "لا أعرف، ولكني أود أن أقول لك لا تتدخل في عمل المخابرات أو في عمل الإعلام". فأجبته بأنني سوف أتدخل.
وفي اليوم نفسه صممت على أن التقي بالدكتور حاتم. وفي الساعة 1300 كـنت في مكتبه في وزارة الإعلام. حكيت له رأيي في الإعلام عموما ثم تطرقنا إلى الخبر الذي نشر في جريدة "الأهرام " صباح ذلك اليوم وقلت له "لقد اتصلت بجميع الجهات التي يمكن أن تكون مصدرا لهذا الخبر وجميعها نفت علمها بهذا الموضوع. هناك شخصان أشتبه فيهما: الشخص الأول هو الأستاذ حسنين هيكل رئيس تحرير "الأهرام"، والشخص الثاني هو وزير الحربية. وحيث أنه ليست لدي أية سلطة لكي استجوب أياً منهما فإني أرجو أن تحقق سيادتكم عن مصدر هذا الخبر". ذكر لي الدكتور حاتم أن الخط الإعلامي للدولة كان مرتبطا بالبلاغات العسكرية التي تصدرها القيادة، وأنه على الرغم من عدم قناعته الشخصية بها إلا انه كان ملتزما بها. أما بخصوص الخبر الذي نشر في جريدة "الأهرام " صباح ذلك اليوم فقد أكد لي عدم علمه بمصدره ووعد بالبحث لمعرفة الحقيقة.
وفي صباح يوم 12 من ديسمبر ظهرت جريدة "الأهرام"، وفيها تصحيـح للخبر وإعتذار عن الخطأ وأعطت بعض التبريرات لهذا الخطأ. لقد بلغ التحدي بيني وبين السلطة السياسية مداه. إن بقائي سوف يفسد الألاعيب التي يقومون بها. لقد تحملوا مني الكثير وكان لابد ان يتخلصوا مني، وفي مساء يوم 12 من ديسمبر 73 أقالني السادات من منصبي كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة المصرية.
كيف علمت بخبر الإقالة؟!
لم اذهب إلى منزلي منذ اول اكتوبر حتى 13 من ديسمبر إلا مرة واحدة لمدة سـاعتين لإحضار بعض الملابس الإضافية وللاستحمام بالماء الساخن. وحوالي منتصف نوفمبر كانت الأمور قد استقرت واصبح الموقف لا يتطلب أن أكون بصـفة دائمة في المركز 10 او بين القوات كما كان الحال فترة العمليـات، وفي منتصف نوفمبر استأنفت القيام بتدريباتي الرياضية اليوميـة واكتشفت أنني فقدت من وزني 5 كيلوجرامات خـلال تلك الفترة الماضية، وعلى الرغم من أنه كان في استطاعتي أن أعود إلى منزلي الذي لم يكن يبعد أكثر من بضعة كيلومترات عن مركز القيادة فإني لم أفعل ذلك. كنت أشعر بالأسى بالنسـبة لرجال الجيش الثـالث المحـاصرين، كـيف يمكنني أن أذهب إلى منزلي وهناك 45000 رجل من رجـالنا محاصرون؟ حقا إن يدي نظيفتـان من مسئولية حصـارهم ولكن ليس هذا هو وقت تحديد المسئولية. إنهم أولا وأخيرا أبناء مصر، ويجب أن أشاركهم أحزانهم وقلقهم. صـممت ألا أعود إلى منزلي إلا بعد أن يعود هؤلاء الرجال إلى ديارهم.
كان يوم 13 من ديسمبـر هو عيد زواجي فأقنعت نفسي مسـاء يوم 12 من ديسمبر ان أقضي ليلة بالمنزل. وحيث إني أشك فيما يدور حولي كله فقد أخذت معي قبل أن أغادر المركـز 10 أوراقي كلها ومذكراتي الخاصـة. لم يدر بخلدي قط وأنا اترك المركز 10 في السـاعة 1700 يوم 12 من ديسمبر 1973، أن تلك السـاعة هي نهاية خدمتي بالقوات المسلحة المصرية. ومع ذلك فإن الحاسة السادسـة قد دفعتني إلى أن آخذ معي أوراقي المهمة ومذكراتي جميعها. وقد صدق حدسي حـيث إني بعد أن ذهبت إلى مكتبي بعد ذلك بأيام لأجمع باقي أوراقي وجدت أن إدارة المخابرات الحربية قد قامت بواجبها على الوجه الأكمل، فقد اخـتفت جميع هذه الأوراق بما فيها برقيات التهاني التي كـانت قد وصلتني من الأهلين ومن رؤساء أركان الجيوش العربية. كنت في قمة السعادة لأنهم لم يستطيعوا الحصول على ما كانوا يبحثون عنه.
وفي حوالي السـاعة 2000 من يوم 12 من ديسمبر 73 وبينما كنت في منزلي رن جرس الهاتف وكان الوزير على الطرف الآخر. أخبرني بأنه يحدثني من مكتبه بالوزارة ويود لو أستطيع أن أحضر لمقابلته. وبعد حوالي نصف ساعة كنت أدخل عليه مكتبه، وعند دخولي عليه وجدت عنده الجـمسي وسعد مأمون، وبعد دخولي عليهم قطع الوزير الحديث وطلب من الجمسي وسعد مأمون ان ينسحبا ويتركانا على انفراد. اخذ الوزير يدور ويلف إلى أن دخل في صلب الموضوع الذي استدعاني من أجله ودار بيني وبينه الحديث التالي:
الوزير:
لقد قرر رئيس الجمهورية إنهاء خدمتكم كـرئيس أركان حرب القوات المسلحـة وأصدر قرارا جمهوريا بتعيينكم سفيرا في وزارة الخـارجية، وعليكم التوجه اعتبارا من الساعة الثامنة صباحا إلى وزارة الخارجية في ميدان التحرير.
الشاذلي:
أشكر الرئيس على هذا التـعيين وأرجو أن تقوم بإبلاغه بأنني اعتذر عن قبول منصب السفير وافضل أن أبقى في منزلي.
الوزير:
هل تعني أنك ترفض إطاعة امر الرئيس الذي يقضي بذهابك إلى وزارة الخارجية؟
الشاذلي:
سيادة الوزير.. يمكنك أن تفسرها كما تشاء. إذا كان الرئيس يعتبر أن هذا التعيين خدمة لي فمن حقي أن اقبل الخدمة أو ارفضـها. وإذا كان المقصود بهذا التعيين هو العقاب فأنا ارفضه وافضل أن يكون هناك تحقيق ومحاكمة حتى تظهر الحقائق.
الوزير:
إن ما تقوله شيء خطير.. هل أقوم بإبلاغ الرئيس بما قلته؟
الشاذلي:
طبعا.. الهاتف بجوارك ويمكنك أن تبلغه الآن وفوراً.
الوزير:
حاول الوزير بعد ذلك أن يقنعني بطريق اكثر تهذيبا بأن أقبل هذا المنصب السامي، حيث إن رفضي سوف يغضب الرئيس وانه يقدر عملي ومجهودي اللذين قدمتهما للقوات المسلحة الخ.. الخ..!
الشاذلي:
إني أصـر على الرفض وأفضل ان يكون عزلا وليس نقلا الى وزارة الخـارجيـة، وهذا اعتذار رسمي عن عدم قبول منصب السفير (وحررت له الاعتذار كتـابة وسلمته إليه). ماذا سيفعل الرئيس بعد أن يعلم أني رفضت منصب السفيرة هل سيأمر بمحاكمتي؟ إني أفضل ذلك وأنا على أتم الاستعداد له.
وبعد حوار دام حوالي نصف الساعة غادرت مكتب الوزير بعد أن أكدت له أنني لن أذهب غدا لا إلى وزارة الخارجية ولا إلى المركز 10، وأنني سأبقى في منزلي.
بعد أن عدت الى منزلي أخبرت زوجتي بما دار بيني وبين الوزير من حوار وقلت لها "الحمد لله الذي جعلهم يتخذون هذه الخطوة. ان كل شيء كان يسـير مؤخـرا في عكس الاتجاه الذي أريده. لم يكن يسعدني البقاء ولكن لم لكن أستطيع ان أتقدم بالاستقالة في مثل هذه الظروف الصعبة". استقبلت زوجتي الخـبر بشجاعة وأيدت موقفي في رفض منصب السفيـر وقالت "الحمد لله انك تترك القوات المسلحة بعد أن عبرت بهم القناة ولم يكن أحد يصدق أن هذا عمل ممكن. الحمد لله الذي تترك القوات المسلحة ونحن في صحـة جيدة. لو حسبت الوقت الذي قضـيته في منزلك منذ أن تزوجنا فانـه لن يزيد على ربع تلك السنين. لنسترح ونسـتمتع بما بقي لنا من عمر". ضحكت وتعجبت لقد كنت أسمع أن خبر التقاعد هو أصعب خبر تتلقاه الزوجات وهاهي ذي زوجتي تتلقى الخبر بفرح وارتيـاح. إن الخبر بالنسبة لها هو استعادة للزوج الذي كانت قد فقدته لأنه أعطى وقته واهتمامه كلهما للقوات المسلحة على حساب بيته وعائلته. ضحكنا وأخذنا نتجاذب الحديث وننتظر حضور المستر بورشجريف مراسل جـريدة النيوزويك الأمريكية الذي كنت قد وعدته باستقباله في منزلي تلك الليلة.
بورشجريف أول من يعلم بخبر الإقالة:كان بورشجريف قد اتصل بي صباح ذلك اليوم وأخطرني بأنه سوف يغادر القاهرة في اليوم التالي، وأنه يرغب في لقائي قبل سفره ليعبر لي عن شكره على الحديث الذي أدليت به له، فوعدت بأن استقبله في منزلي في مساء اليوم نفسه. ولم تكد تمر 15 دقيقة على عودتي إلى المنزل حتى وصل بورشجريف هو وزوجته. قلت له: مستر بورشجريف.. إنك صحفي محظوظ. سوف أقول لك خـبرا لم يعرفه أي صحفي في العالم حتى الآن. وحكيت له قصة مقابلتي مع الوزير ورفضي لمنصب السفير الذي عرض عليّ. لم يكن بورشجريف وزوجته يصدقان ما أقول وكانا يعتقدان أنني أمزح وعندما أكدت له ذلك اكثر من مرة قال: فإن الطريقة التي تتكلم بها أنت وزوجتك تدل على انك سعيد بهذا ولا يبدو عليك أو على حرمك أي حزن أو أسف". فقلت له هذه فلسفتي. "لو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك الا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمع أهل الأرض على ان يضروك بشيء ما ضروك بشيء كتبه الله لك، جفت الأقلام وطويت الصحف".. وقد جال بخاطر بورشجريف أن يكون حديثي معه هو السبب في إعفائي من منصبي فقال لي على استحياء: "أرجو ألا أكون سببا فيما أصابك؟" ، فقلت له "لا أعتقد ذلك. أنني على خـلاف معهم في أمور كـثيرة وأن موضوعك يعتـبر واحداً منها ولكنه يكاد يكون ابسطها"، ولكنني شعرت من كثرة تساؤلات بورشجريف حول هذا الموضوع أنه كان يشعر بأنه أحد الأسباب الرئيسية. وعموما فإذا كانت مقابلة بورشجريف يوم 5 من ديسمبر وتكذيب الخبر الذي نشر في جريدة الأهرام يوم 11 من ديسمبر هما من الأسبـاب المباشرة الظاهرة فإنهما لا يعدوان أن يكونا القشة التي قصمت ظهر البعير.
لقد كانت الساعة قد بلغت الحادية عشـرة مساء عندما غادر منزلي بورشجريف، وهو لا يكاد يصدق ما رآه بعينه وسمعه بأذنيه.
زيارة غير متوقعة من حسني مبارك:
بعد حوالي 15 دقيقة من مغادرة بورشجريف منزلي، رن جرس الهاتف. كان المتحدث هو اللواء حسني مبـارك، حيث قال لي إنه يريد ان يقابلني لأمر مهم. لم أكن أعرف إذا كان قد علم بخبر إقالتي أم لا فحاولت أن أؤجل المقابلة إلى الغد على اعتبار انه إذا لم يكن يعرف الآن فسوف يعرف غدا وينتهي الموضوع، ولكنـه أصر على المقابلة. قلت له "لا داعي لهذه المقابلة حيث إني لم أعد رئيس أركان حرب القوات المسلحة". فأجاب لا أنا اعرف ذلك، ولذلك أريد ان أقابلك. إني احمل رسالة لك من السيد الرئيس،. فأجبت "أهلا وسهلا". وفي حوالي الساعة 2330 وصل حسني مبارك. كان ملخص رسالة الرئيس السادات ما يلي:
أ- إن الرئيس يقدر تمـاما ما قمت به من أعمال في خـدمة القوات المسلحة وقت السلم و الحرب.
ب- إن الخلافات المستمرة بينك وبين الوزير قد تفاقمت وقد أصبح من الخطورة أن تستمر بهذا الشكل.
ج- إن تعيينك سفيرا لا يعني تنزيلا من درجـتك فسوف تستمـر بدرجة وزير وتنال راتب وبدل تمثيل الوزير.
د- إن الرئيس ينوي إرسالك سفيرا إلى لندن، وهو أسمى منصب دبلوماسي يطمع فيه إنسان.
هـ- ولكي يؤكد الرئيس ان هذا التعيين لا يعني أي تنزيل من مقامك فإنه يرقيك إلى رتبة فريق اول.
و- وإن الرئيس يتعشم أن تقبل هذا المنصب.
كانت خـلاصة أقوالي لحسني مبارك ما يلي "لو أن الرئيس استدعاني وقـال لي هذا الكلام لقبلت، ولكن أن يكلف احمد إسماعيل - وهو يعلم جـيدا ما بيني وبينه- بإبلاغي الخبر وبالصورة التي قالها، فإن هذا يعني أن الرئيس يصـدق ما يقوله أحمد إسماعيل ويؤيد موقفه. لذلك فإني ارفض مرة أخرى قبول العرض"، ثم كررت على مسامعه ما سبق أن قلته لأحمد إسماعيل قبل ساعات قليلة "إذا كان الرئيس يعرض علي هذا المنصب مكافـأة لى فأرجو إبلاغه شكري واعتذاري عن عدم قبول المنصب، وإذا كـان هذا المنصب عقابا لي فلنضع النقاط على الحروف ولنناقش هذا الموضوع بطريقة علنية. لن أقبل هذا المنصب ولن يستطيع أحد أن يرغمني على قبوله".
غادر حـسنى مبارك منزلي بعد منتصف الليل دون أن يستطيع إقناعي بقبول المنصب. وفى صباح يوم 13 من ديسمبر ظهرت صحف الصبـاح وفيها نبأ تعيين الجمسي رئيسا للأركان دون أي ذكر لمصير الفريق سعد الدين الشاذلي. هل أقيل ؟ هل استقال؟ هل عين سفيرا؟ هل مات؟ لا شيء على الإطلاق.
مقابلة الرئيس في أسوان:
على الرغم من عدم ذهابي إلى وزارة الخـارجية او قيامي باستـلام أي عمل فإن الإجراءات الخاصة بتعييني في الخارجية استمرت في سيرها كالمعتاد، وبعد عدة أيام كتبت بعض الصحـف أنني عينت سفيرا في لندن. وهنا اتصلت بـالرئاسة وطلبت مقـابلة الرئيس لكي أوضح موقفي ولكي أؤكد له أنني أبلغت رفضي لهذا المنصب إلى كل من أحمد إسماعيل وحسني مبارك وأنني مازلت مقيما في منزلي. وبعد بضعة ايام من طلبي المقابلة اتصل بي مكتب الرئيس وأبلغني بأنه سوف يستقبلني في أسوان يوم 6 من يناير 74. وعلى الرغم من ان القرار الجمهوري الخاص بتعييني سفيرا بالدرجة الممتازة كان قد صدر قبل ذلك، إلا أنني لم أكن حتى ذلك الوقت اعترف بهذا القرار الجمهوري، وبالتالي سافرت إلى أسوان على حسابي الخاص ودون أن أخطر وزارة الخـارجـيـة بذلك. عندما وصلت طائرتي إلى أسوان كـان ما يزال أمامي ساعتان قبل أن يحـل موعد مقابلة الرئيس فذهبت إلى فندق الكتراكت لكي أقضي بعض الوقت. وهناك قابلت حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام. أخذنا نتجاذب أطراف الحـديث في موضوعات شتى اغلبها يدور حول حرب أكتوبر إلى أن حان ميعاد ذهابي إلى الرئيس فتركته وذهبت للقاء الرئيس.
كان حديث الرئيس ظريفا طيبا، واخذ يسألني عن أحوال زوجتي والعائلة الخ. ثم فاتحني في الموضوع الرئيسي. بدأ الرئيس حديثه بنبرة عتاب ولكنه من نوع العتاب الضاحك الباسم فقال "لا لا لا.. أنا زعلان منك. إزاي تعمل كده؟ أنت اتجننت؟ أبعت لك حـسني مبـارك برسالة مني فترفض الرسالة. أنا لما قال لي حسني إنك رفضت، قلت أبعث أجـيبك وأكلمك بنفسي لكن حسني قال لي بلاش دلوقت. ده مصمم وراكب دماغه. قلت طيب بعدين". قلت له "سيادة الرئيس.. أنا لست منزعجا من أن أترك القوات المسلحة. إن كـل ضابط يجب عليه أن يترك القوات المسلحة في يوم ما ليخلي الطريق لغيره، وهذه هي سنة الحيـاة ولكن ما ضايقني هو الأسلوب الذي أبلغتني به هذا القرار. سيادتك تعلم جـيدا ما بيني وبين أحـمد إسماعيل، ومع ذلك طلبت من احمد إسماعيل أن يقوم بإبلاغي بهذا القرار". قال الرئيس أنا أعرف ما بينك وبين احمد إسماعيل وعلشـان كده لما أبلغني أحمد إسماعيل بأنك رفضت المنصب وقال لي الكلام الذي قلته له، اعتقدت ان احمد إسماعيل يبالغ فقررت أن ارسل لك حسني مبـارك فرفضت أيضا. وعندما قلت أحضرك أمامي وأبلغك بنفسي، حسني قال لي بلاش دلوقت ". وأضـاف ضاحكا "لازم حسنـي بيخاف منك قل لي ماذا تعمل لكي تجعل مرؤوسيك يخافونك ويخشونك؟". - استرسل الرئيس في حـديثه فـأثنى عليَّ وأفاض في ذلك كـثيرا وقال أنني مـازلت موضع ثقـته وأن كل ما حدث هو أنه ينقلني من مجال عمل إلى مجـال عمل آخر وإن ما أضطره إلى ذلك هو الخلاف الشديد الذي يسود العلاقات بيني وبين أحمد إسماعيل. وحكى لي كيف ولماذا أعفي الدكتور محمود فوزي من رئاسة الوزراء فقال "كان فوزي يشتكي لي كل يوم ويقول لي الوزير فلان والوزير فلان ما بيسمعوش كلامه. أنا مش فاضي علشان اعمل قاضي بين كـبار الموظفين. واستطرد بعد ذلك "وفيما يتعلق بك أنت واحمد إسماعيل كـان لازم واحـد منكم يمشـي. وأنا فكرت ووجـدت انه من الأفضل انك أنت اللي تمشي وعرضت عليك افضل المناصب عندنا. وإذا اخترت لك لندن ليس لمركزها الأدبي فحسب بل لأني محتـاج لأن يكون لنا رجل ذو خبرة عسكرية كبيرة في لندن. إننا على اتصال الآن مع ألمانيا الغربية وستقوم ألمانيا بإمدادنا بأسلحة متطورة ومتقدمة. وإن سفيرنا في ألمانيا رجل مدني اسمه محمد إبراهيم كامل. كان معي في السجن وأنا عينتـه في الخارجية وبعد ذلك هو الآن سفير في ألمانيا، إنما طبعا لا يفهم في الشـئون العسكرية ولا يستطيع ان يتابع عمليات المباحثات والعقود العسكرية. وأنا أهدف إلى أنك من لندن تقوم برحلات مستمرة إلى ألمانيا للإشـراف على هذا الموضوع. ان وظيفتك كسفير في لندن ستكون موضوعا ثانويا بالنسبة للوظيفة الأولى وهي تسليح الجـيش المصري. وليس لدينا من هو افضل منك للقيام بهذه المهمة" وأفاض في حديثـه... حتى اعتبرت ان ما قاله هو ترضية كـافية وأن منصب سفير مصر في لندن هو امتداد لمسئوليتي في خدمة القوات المسلحة المصرية وتقويتها وقبلت المنصب. انتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن العلاقات المصريـة البريطانيـة والمصريين الذين يعيشون في المملكة المتحدة وموضوعات اخرى. وكانت السـاعة قد بلـغت الواحدة والنصف بعد الظهر عندما غادرت استراحة الرئيس في أسوان.
عدت مرة أخـرى إلى فندق الكتراكت لكي أتناول الغداء وانتظر الطائرة التي سـأعود بها إلى القاهرة وهناك التقطني الأستاذ حسنين هيكل مرة أخرى. وكما كـان بورشجريف أول صحفي في العـالم يعلم بإعفائي من منصبي ورفضي قبول منصب سفير. كان هيكل اول صحفي في العالم يعرف نتيجـة مقابلتي مع الرئيس في أسوان، ولكن لم اخبره بموضوع تسليح الجـيش المصري عن طريق ألمانيـا الغربية حـيث أن هذا الموضوع- كـما ذكـر لي الرئيس- كان يتم على مستوى عال من السرية.
السفر إلى لندن:
بعد أن أذيع خبر تعييني سفيراً لمصر في لندن بدأ الناس يتهامسون ويقولون إن تعييني في لندن لا يقصد به إبعادي من القاهرة فحسب بل إنه جزء من مؤامرة لقتلي. إن المخابرات الإسرائيلية والمتطرفين الصهاينة يستطيعون اغتيالي في لندن دون أن يتركوا من ورائهم أثرا يكشف دورهم. إنهم يعتبرونني العدو رقم 1 بالنسبة إليهم. وبدا بعض الناس ينصحونني بعدم الذهاب إلى لندن حفاظا على حياتي، ولكني لم استمع إلى هذه النصـائح والتحذيرات وقلت لنفسي "لقد كانت حياتي سلسلة من المخاطرات. وان خدمتي في لندن لن تكون سوى امتداد لهذه الحياة التي تحـيط بها المخاطر دائما. إنني لا أخشى الموت الآن. وفي الحقيقة فإني أحيانا أتعجب كيف عشت طوال هذه السنين على الرغم من المخاطر كلها التي مررت بها. لو أنني مت اليوم فإني سوف أموت سعيدا. لقد أعطيت بلادي كل ما أستطيع ان أعطيه وقد رأيت ثمرة كفاحي. رأيت جنود مصر بعد أن هزمتهم إسرائيل في ثلاث حروب سابقة. رأيتهم وهم يعبرون قناة السويس ويحطمون خط بارليف ويهتفون الله اكبر. ماذا أريد بعد ذلك كله ؟ لا شيء. أيها الموت أهلا بك فإني لا أخشاك إن الأعمار بيد الله سبحـانه وتعالى ولن يستطيع أحد أن يقدم أجلي أو يؤخره عن الوقت الذي حدده الله ولو بثانية واحدة". وقبل سفري إلى لندن بعدة ايام طلبني اللواء رفعت حسنين نائب رئيس المخابرات العامة وأخبرني بأن لديهم معلومات تفيد بان مجموعة من المتعصبين الإسرائيليين سوف يسافرون إلى لندن لاغتيالي وأن المخابرات الإنجليزية لديها المعلومات نفسها ولذلك يطلب مني أن أكون حذرا وأن أتحاشى بقدر الإمكان الإعلان المسبق عن تحركاتي. ولذلك فأن ميعاد سفري إلى لندن يجب أن يبقى سراً وألا أبوح به لأحد وعملا بنصـيحة المخابرات العامة، سافرت سراً من القاهرة إلى لندن يوم 13 من مايو 74. وبعد وصولي ببضعة اشهر بدأت تثور شكوكي حول السادات وأهدافه فيما يتعلق بشخصي. فقد بدأ يصعد هجـومه علي ويوجه إليّ اتهامات باطلة، ومـن هنا بدأت اعد العدة للمجابهة التي لابد أنها ستقع بيننا يوما مـا. وبينما كنت اقدر الموقف استعدادا لهذه المجابهة توصلت إلى نتيجة هي أن السـادات له مصلحة في التخلص من حياتي أكثر من مصلحة المتعصبين الإسرائيليين. إن حياتي تشكل خطراً كبيراً عليه. لذلك يجب أن احتاط ولقد تذكرت كيف مـات الفريق أليثي ناصف بطريقة غامضة في لندن في أغسطس 73 وكيف قيدّت حادثة وفاته على إنها انتحار بينما يثور كثير من الجدل والتسـاؤلات حول وفاته. وبطريقة سرية لم يعلم بها أحد من رجال السفارة المصرية أو الليبية حصلت على جواز سفر ليبي لي وآخر لزوجتي ولكن بأسماء مستعارة.
الفصل السابع والثلاثون: السادات يبحث عن كبش فداء
اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 21 من نوفمبر73:
لابد أن مسئولية ثغرة الدفرسوار وحصار الجيش الثالث كانت تقلق السادات وتدفعه للبحث عن شخص لكي يلقي عليه بهذه المسئولية. هذه هي طبيعة السادات وقد اعترف بها في مذكراته في أكثر من موضع. انه لكي يبرئ نفسه من أية تهمة لا يتردد في أن يتهم شخصا أخر بتهمة لم يرتكبها. لقد روى لنا في مذكراته -دون حياء في الصفحات من 88 إلى 94- كيف انه ادعى كذبا على القاويش وكيل النيابة، وعلى مأمور السجن، وعلى سعيد الجزار، بأنهم كانوا يعذبونه عندما كان في المعتقل، وذلك لكي يفسد القضية ويبرئ نفسه.
وقد بدا السادات يكشف عن نواياه لأول مرة في يوم 21 من نوفمبر 73 اثناء اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. في هذا الاجتماع قال بطريقة عفوية وهو يستعرض أحداث الحرب "إنها ليلة واحدة هي السبب في المشكلات كلها التي حدثت، تلك هي ليلة 18/19 اكتوبر. لو إننا عملنا بحسم وقوة خلال تلك الليلة لقضينا على الثغرة إنها تلك الليلة التي كنت فيها يا سعد في الجيش الثاني" (1) لقد فهمت بسرعة ماذا يقصد الرئيس من وراء هذا وتعجبت لماذا يختار هذه الليلة بالذات وهل يعتقد الرئيس انه بمجرد ان يقول ان هذا كان ممكنا يوم 18 فإن الناس جميعا يجب ان يصدقوا ما يقول. الا يعرف ان هناك علما عسكريا يقرر ما هو ممكن وما هو غير ممكن في كل يوم وفي كل ساعة طبقا للظروف المحيطة؟ تدخلت بسرعة قائلا "سيادة الرئيس. لقد بذل رجال الجيش الثاني أقصى ما يمكن عمله خلال تلك الليلة". فرد قائلا "بعد أن تنتهي الحرب سوف نقوم بتحقيق لتحديد المسئولية عن عملية اختراق الدفرسوار" فقلت له بصوت لم استطـع أن أخفي ما فيه من ثقة وتحد "فعلا. يجب أن نحدد من هو المسئول ؟" (2)
بعد أن انتهى الاجتماع رافقته أنا والوزير إلى عربته كما هي العادة وبعد أن غادر الرئيس مبنى القيادة وفي أثناء عودتنا إلى الداخل قال لي الوزير وكيف تخاطب الرئيس بهذا الشكل ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ولماذا تأخذ كلام الرئيس على أنه اتهام لك؟ هل أنت قائد الجيش الثاني؟ إذا كانت هناك مسئولية فهي مسئولية الجيش الثاني". قلت له "إن مجرد وجودي في الجيش الثاني يجعلني مسئولا عن كل ما يقوم به الجيش من أعمال. لقد وافقت وشاركت في كل قرار اتخذ في الجيش خلال الفترة التي عشتها معهم ". وبعد أن انفض الاجتماع استدعيت اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني وقلت له "يا عبد المنعم أني أشم رائحة الخيانة والغدر. يبدو انهم يبحثون عن شخص يلقون عليه أضرار أخطائهم كلها. كن حذرا وحافظ على وثائق الجيش حتى لا يقوم أحد بسرقتها أو تزويرها".
في خلال اجتماع المجلس الأعلى للقوات اثار الرئيس موضوعاً مهماً وركّز عليه طويلا وهو موضوع الجيش والسياسة. قال الرئيس "إن القوات المسلحة يجب أن تلتفت إلى عملها وألا تتدخل في السياسة. إن عملية الفصل بين القوات هي عملية سياسية. وسواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا فإن هذا لا يعنيكم في شئ . وعليكم أن تهتموا فقط بأعمالكم، ومن خبرتنا الطويلة في القوات المسلحة فإن مثل هذه التصريحات لا يمكن أن تصدر من رئيس الجمهورية، الا اذا كانت ردا على شائعة أو كان المقصود منها إبلاغ شخـص ما برسالة أو إنذارا بطريقة مستترة من هم يا ترى الأشخاص الذين يعنيهم الرئيس بهذا الكلام؟ من هم اكثر الناس إلماما بأسرار حرب اكتوبر وخفاياها وبعد ثلاثة أسابيع من هذا اللقاء جاء الرد على هذا التساؤل. لقد أقال الرئيس كلا من الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة واللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني واللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث من مناصبهم، وفي وقت لاحق أقيل أيضا سعد مأمون الذي قاد الجيش الثاني حتى يوم 14 اكتوبر. لقد عرض الرئيس علينا نحن الأربعة مناصب سامية: حيث عرض علي منصب سفير في لندن بدرجة وزير، وعين عبد المنعم واصل محافظا مدنيا بدرجـة نائب وزير، وعين عبد المنعم خليل مساعداً لوزير الحربية، وعين سعد مأمون في وقت لاحق محافظا مدنيا هو الآخر. ولكن هذه الوظائف السامية لم تستطيع أن تخفي الحقيقة وهي أن السادات تخلص من اكثر الناس إلماما بأسرار الحرب.
يشتمني في زفة ويصالحني في عطفة:
وعندما ذهب السادات إلى مجلس الشعب في فبراير 74 لكي يحتفل بتنفيذ الاتـفاقية الأولى للفصل بين القوات. وأخـذ يوزع الأنواط والأوسمة على القادة الذين حـاربوا خلال حرب اكتوبر حدثت همهمة بين الناس واخذوا يتساءلون فيما بينهم: أين الشاذلي؟ أين عبد المنعم واصل؟ أين سعد مأمون؟أين عبد المنعم خليل؟ كانت تساؤلات خافتة لا يستطيع أحد أن يجاهر بها في ظل نظام أوتوقراطي، ثم إنها كانت مناسبة سعيدة للاحتفال بانتصار أكتوبر ولا أحد يريد أن يثير الجدل حول أي موضوع حتى لا يؤثر في هذا الجو المرح السعيد. ومن سخرية القدر أنه بينما كان مجلس الشعب يحتفل بانتصار حرب اكتوبر كان سعد الدين الشاذلي يتابع هذا الاحتفال على شاشة التليفزيون في منزله. قامت زوجتي بإغلاق التليفزيون وقالت "ما هذا التهريج؟ إن هي إلا تمثيلية سخيفة". ولكني طلبت منها إعادة فتح التليفزيون وقلت لها "إنها حقا تمثيلية ولكنها جزء من تاريخ مصر ويجب أن نشاهدها". وفكرت في هذه اللحظة ما سبق ان قاله سعد مأمون قبل الحرب "اذا فشل العبور فسوف تطير ثلاثة رؤوس في الهواء" لم يكن يتصور سعد مأمون وهو يقول هذا الكلام أن الرؤوس الثلاثة نفسها سوف تطير أيضا لو نجح العبور.
ولكي يثير السادات الشكوك حول مسئولية الثغرة فان اسمي لم يذكر بين أسماء القادة الذي جرى تكريمهم في مجلس الشعب وسـلمت إليهم "الأنواط والأوسمة"، ولكن بينما السادات -وأقول السادات وليس مصر- تعمد إسقاط دوري في حرب أكتوبر فإن العرب بصفة عامة وسوريا بصفة خاصة أخذوا يشيدون بالنصر الذي قمت به في هذه الحرب. ففي الحفل الكبير الذي أقامته سوريا لتكريم أبطال حرب أكتوبر لم ينس السوريون دور الفريق سعد الدين الشاذلي وانعموا علي بأعلى وسام عسكري سوري. كان حفل تكريم أبطال الحرب السوريين يذاع على الهواء وكان الكثيرون من الأهلين في مصر يستمعون إليه. عندما ذكر أسمي والوسام الذي منـح لي -وعلى الرغم من عدم وجودي بينهم- ضجت القاعة بالتصفيق لمدة طويلة حتى ظن معظم المستمعين المصريين أنني في دمشق. لقد كان التصرف السوري صفعة شديدة للسادات, لقد أراد الأخوة السوريون أن يوضحوا للعالم العربي والمصري أن السادات يتكلم عن الوفاء ولكنه ليس وفيا لأحد، وانه يدعو الناس لئلا يحقدوا على أحد، وهو الحقود الذي يجري الحقد في دمائه. أراد السادات أن يصلح خطأه تجاهي فارتكب خطأ أخر. ففي خلال عام 1974 -وبينما كنت سفيرا لمصر في لندن- حضر إلى مكتبي ذات يوم الملحق الحربي المصري وهو يكاد ينهار خجلا. كان مترددا ومتلعثما وهو يحاول أن يتكلم إلى أن شجعته على الكلام فقال "سيادة الفريق. أني لا اعرف كيف أبدأ الحديث في هذا الموضوع، وكم كنت أتمنى ألا أجد نفسي أبدا في هذا الموقف ولكنها الأوامر صدرت إلي وأنت اعلم بما يجب أن أقوم به لتنفيذها. لقد طلب إلي أن اسلم إليكم نجمة الشرف التي انعم عليكم بها رئيس الجمهورية ". استلمت منه الوسام في هدوء وأنا واثق ان مصر -وليس السادات حاكم مصر- سوف يكرمني في يوم من الأيام بعد أن تعرف حقائق وأسرار حرب أكتوبر. ليس التكريم هو أن أمنح وساما في الخفاء ولكن التكريم هو أن يعلم الشعب بالدور الذي قمت به. سوف يأتي هذا اليوم مهما حاول السادات تأخيره ومهما حاول السادات تزوير التاريخ. أنه لن يستطيع لأنه لا يصح إلا الصحيح.
كان ما قاله السادات خلال اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 21 من نوفمبر 73 من أن ليلة 18/ 19 من اكتوبر هي سبب كارثة الدفرسوار هو بداية الحملة التي رسمها السادات في خياله ليحملني مسئولية الثغرة ثم جاء بعد ذلك اجتماع مجلس الشعب لتكريم أبطال الحرب وغيابي عن حضور التمثيلية التي أخرجها السادات ثم بدأ بعد ذلك يصعد حملته شيئا فشيئا على شكل أحاديث صحفية وتليفزيونية الخ. وتركته يتكلم ويناقض نفسه بنفسه شهراً بعد شهر وعاما بعد عام إلى أن نشر مذكراته في مايو 1978، فكـانت هذه المذكرات ذات فائدة مزدوجة لي. كانت الفائدة الأولى هي استخدام الاعترافات التي وردت على لسان السادات في هذه المذكرات كوثيقة اتهام ضده أما الفائدة الثانية فإنها قد أعطت لي المبرر كي أنشر مذكراتي وأرد فيها على الأكاذيب التي ملا بها مذكراته.
التاريخ الحقيقي لإقالتي:
يدعي السادات في مذكراته (صفحة 341) بأنه عزلني يوم 19 من أكتوبر 73. ولو أنه قال بدلا من ذلك نويت أن أعزله لكان اقرب إلى الصدق منه إلى الكذب لأن العزل معناه الا يمارس الشخص أي عمل بعد عزله، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك فقد مكثت أمارس عملي حتى 12 من ديسمبر 73. قد يتعجب بعض الناس لماذا أقول هذا الكلام ؟ وقد يرى الأذكياء منهم أنه خير لي ألف مرة أن أرحب بهذا الادعاء لأن القوات المسلحة لم تحقق شيئا بعد يوم 19 من اكتوبر، بل على العكس توالت المصائب بعد هذا التاريخ. فبعد هذا التاريخ تم حصار الجيش الثالث، وبعد هذا التاريخ فقدنا المبادرة نهائيا على المستويين العسكري والسياسي. ولهؤلاء أقول أن الأمانة في كتابة التاريخ هي التي تفرض على أن أقول كل شئ.
لقد كان بقائي عنصر ضغط وتأثير على القرارات حتى لو لم يؤخذ بوجهة نظري. وإذا كان بقائي حتى 12 من ديسمبر لم يحقق شيئا سوى إنقاذ الفرقة الرابعة المدرعة من التدمير و إبقائها سليمة للدفاع ضد أي هجوم معاد لاحتلال القاهرة فإن هذا وحده يكفيني ويجعل من بقائي فائدة لمصر. إن رفضي التوقيع على الأمر هو الذي أرغم الوزير على التراجع. لابد أن الرئيس قد نوى أن يعزلني قبل يوم 19 من أكتوبر بكثير. إن السادات إذا أراد أن يتخلص من أحد فإنه يرسم ويخطط لذلك ويحاول أن يخلق أو يدعـي أسبابا أبعد ما تكون عن الأسباب الحقيقية. فقد فعل ذلك مع الفريق الليثي ناصف، والفريق محمد صادق والدكتور عزيز صدقي، وجاء دوري، ثم جاء من بعدي ممدوح سالم، ثم عبد الغني الجمسي ومحمد علي فهمي، والبقية تأتي. وأني أنصح هؤلاء الذين مازالوا يتعاملون مع السادات أن يأخذوا حذرهم منه وأن يتعظوا مما فعله مع أعوانه السابقين. أعود وأقول انه لابد أنه عزم على إقالتي اعتبارا من يوم 12 من اكتوبر 73 للأسباب الآتية:
1- بعد النجاح الرائع الذي حققته القوات المسلحة المصرية في عبور قناة السويس ركزت الصحـافة العربية والأجنبية كلها على النصر الكبير الذي قام به الفريق سعد الدين الشاذلي ر.ا.ح.ق.م.م. ولقد بلغ الأمر أن صورتي كانت تعلق داخل البيوت في مصر والبلاد العربية، وظهرت كصورة غلاف على كثير من المجلات الأجنبية. لقد وصل ذلك كله إلى السادات فدبت الغيرة والحقد في قلبه.
2- وفي يوم 12 من اكتوبر عارضت دفع الفرقتين المدرعتين 21، 4 وأصر السادات. وفي 15 من اكتوبر طالبت بإعادة نفس الفرقتين إلى الضفة الغربية ورفض السادات وفي يوم 16 من اكتوبر اختلفت مع السادات والوزير في أسلوب القضاء على الثغرة، وثار السادات وفقد أعصابه كما سبق أن بينت (الفصل الثالث والثلاثون).
من هنا نرى أن النية في إقالتي لابد أنها بدأت تتكون في فكر السادات منذ الأيام الأولى للحرب نتيجة لعنصر الغيرة ثم أخذت الفكرة تختمر اعتبارا من يوم 12 من أكتوبر نتيجة ما كنت أبديه من معارضة لآدائه وقد كانت ثورته العارمة يوم 16 من أكتوبر دليلا قاطعا على انه اصبح لا يطيق وجودي ولو أن هجومنا في تصفية الثغرة نجح يوم 17 من اكتوبر طبقا للخطة التي وضعها أحمد إسماعيل ووافق عليها السادات لأعلن بعد الحرب انه عزلني يوم 16 من اكتوبر، ولكن فشل الهجوم كما توقعت اثبت أني كنت على حق، وبالتالي أصبح يوم 16 من اكتوبر ليس يوما مناسبا لإعلان العزل.
ادعاءات السادات الباطلة ضدي:
1- لم يبدأ السادات في مهاجمتي إلا في أبريل عام 1974 . ففي حديث أجراه مع الأستاذ سليم اللوزي رئيس مجلة الحوادث ونشر في المجلة المذكورة يدعو أنه أمرني يوم 16 من أكتوبر بما يلي: "عليك أن تكون بعد ساعة ونصف الساعة في الإسماعيلية وتضرب طوقا حول الدفرسوار، بحيث نترك اليهود يدخلون إلى هذه المنطقة بعدها تصبح القوة الإسرائيلية كلها في يدي.. ". وليس لدي تعليق على هذا الكلام سوى أن أقول أنه كلام مصاطب قد تحكيه جدة عجوز لطفل ريفي لتساعده على النعاس كما كانت جدة الرئيس تحكي له وهو طفل قصة زهران. ليس هكذا تدار الحرب وليس هكذا تخصص المهام العسكرية. أني اخجل ويخجل معي كل مثقف أن يِنسب إلى رئيس جمهورية مصر هذا الكلام. وبعد ذلك كله فلم يحدث أن أمرني السادات أن اذهب إلى الجبهة يوم 16 ولم اذهب الا يوم 18 من اكتوبر وسجلات الحرب المكتوبة تثبت ذلك. إن السادات بهذه القصة تحاشى أن يذكر قصة المواجهة التي دارت بيني وبينه بخصوص تصفية الثغرة كما سبق أن ذكرته.
2- يدعي السادات بأنني طالبت يوم 19 من أكتوبر بالانسحاب الكامل من سيناء وهذه كذبة كبيرة اخرى سبق أن شرحتها بالتفصيل (الفصل الثالث والثلاثون). إن كل ما طالبت به يوم 20 هو سحب 4 ألوية مدرعة وكان سيبقى لنا بعد سحبها 90000 رجل في الشرق. وشتان ما بين حجم هذه القوات وبين حجم القوات التي حددتها اتفاقية فض الاشتباك الأولى، والتي كان بموجبها لا يسمح لمصر بأن تحتفظ شرق القناة بما يزيد على 7000 رجل و30 دبابة.. شتان ما بين ما أمكن أن يحصل عليه السادات بالسياسة، وما كان يمكن أن نحصل عليه بالحرب. فلو أنه قال أنه أقالني لأنني طالبت بسحب 4 ألوية مدرعة وانه سيبقى لنا في الشرق بعد ذلك 90000 رجل ومعهم اكثر من 3500 قطعة سلاح مضاد للدبابات (500 دبابة+ 350 مالوتكا+ حوالي 150 مدفعا 85 ملليمتر+ 2500 مدفع مضاد للدبابات ذو مدى قصير ب 10/ ب 11/ ر.ب.ج) علاوة على حوالي 700 قطعة مدفعية ميدان يمكن استخـدامها وقت الضرورة كأسلحة مضادة للدبابات+ حوالي 250 هاونا ثقيلا 120/ 160 مم (4). لو قال السادات هذه الحقائق لظهرت ادعاءاته بشكل لا يمكن لعاقل أن يقبله. لذلك ابتكر السادات كذبة كبيرة فربط بين الإقالة وبين سحب القوات كلها من سيناء. وأني أتحدى أن يذكر أحد شهود هذا الاجتماع-وهم ستة أشخاص علاوة على الرئيس والوزير وأنا- أنني طلبت انسحاب القوات كلها من سيناء,وفي الحديث السابق نفسه يتحدث السادات
عن نفسه فيقول: "أنني استطعت أن أوقف القتال على خط 22 أكتوبر"، ولم يقل لنا السادات لماذا لم يستطع التمسك بخط 22 أكتوبر. إن من يوقف عدوه عند خط معين يجب أن يكون قادرا على التمسك بهذا الخط إن عدم قدرتنا على التمسك بهذا الخط عندما بدأ العدو هجومه يوم 23 من اكتوبر هو دليل قاطع على ضعف قواتنا العسكرية في هذا الخط ولو أن السادات وافق على اقتراحي بسحب هذه الألوية الأربعة (ثلاثة من الجيش الثاني في الشرق وواحد من الجيش الثالث في الشرق) في ليلة 20/21 أكتوبر لظهر أثر ذلك في القتال اعتبارا من صباح يوم 21 من أكتوبر ولكان في إمكاننا ضرب الثغرة يومي 21 و22 وفي أسوأ الظروف كان يمكن تضييقها. ولو حدث وتوقف القتال وتلك الألوية الأربعة حول الثغرة لما استطاع العدو أن ينتهك وقف إطلاق النار يوم 23 اكتوبر، ولو انتهكه لكنا قادرين على صده وتدميره.إن مسئولية حصار الجيش الثالث يوم 23 اكتوبر تقع أولا وأخيراً على الرئيس السادات وهو يحاول أن يهرب منها. ولكن هيهات هيهات.
3- أما ادعاؤه بأني عدت منهاراً من الجبهة يوم 19 من اكتوبر فإن هذا قول رخيص. فلست أنا الذي انهار ولم يحدث أن انهرت في حياتي حتى الآن والحمد لله. أنا رجل مظلات يعرفني رجالي ويعرفني أصدقائي جيدا ولا أحد يستطيع أن يصدق ما يدعيه السادات؟ أما السادات فله تاريخ طويل من الانهيار والأمراض النفسية وهذا بنيان بعضها:
(أ) اعترف في حديث له مع همت مصطفى (الإذاعة المصرية) بمناسبة 15 مايو 1977 بأنه أصيب بمرض عصبي نتيجة القبض عليه في الساعة الثالثة صباحا في برد الشتاء القارص في كل من عامي 42، 46 وأن هذا المرض لازمه لمدة سنة ونصف السنة. وقد أضاف السادات قائلا بأنه شفي، وقد أكد هذه القصة بشكل مخفف في مذكراته صفحـة 104. ولكن الذي لا يريد أن يعترف به السادات هو أنـه مازال مريضا وأن هذه الحالة حدثت له اكثر من مرة بعد خروجه من السجن عام 1946.
(ب) يقول في مذكراته صفحـة 228 عن الحالة التي انتابته بعد هزيمة عام 1967 "استولى عليّ ذهول غريب لم اعد أستطيع معه أن أتبين الزمن أو المسافات أو حتى المكان نفسه في بعض الأحيان ".
(ج) يقول في مذكراته في الصفحة 264 عن الحالة التي انتابته بعد وفاة عبد الناصر "بعد ان أصبحت الجنازة على وشك الابتداء أصبت بانهيار مفاجئ فحملوني الى مجلس قيادة الثورة وأعطاني الأطباء خمس حقن لم أفق منها الا حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر.
(د) يقول في مذكراته في الصفحة 357 عن حالته النفسية يوم 12 ديسمبر "أصبت بنزيف لمدة 4 ايام، وقال لي الأطباء إن هذا النزيف بسبب التوتر النفسي" ويقول في الصفحة نفسها "كنت في حالة نفسية مرهقة ".
(هـ) هناك حالة اخرى شهدها كل من الرئيس معمر القذافي والأخ عبد السلام جلود ولن أتعرض لذكرها.
إن للسادات تاريخا طويلا في الأمراض النفسية. أما أنا فأني أحمد الله واشكره لأني لم اصب طوال حياتي بأي مرض عصبي أو أي حالة نفسية. اللهم لا شماتة وإنما أشكرك على ما أنعمت به علي وأقول أن السادات - وهو الرجل المريض- يرى في غيره ما يحس هو به، فيتهم كل من يختلف معه في الرأي بأنه انهار. ولست أنا أولهم ولن أكون اَخرهم. فإذا كان السادات قد أتهمني بهذا الاتهام الباطل، فإنه قد اتهم من بعدي وزيرين للخارجية بالاتهام نفسه. لقد اتهم إسماعيل فهمي وزير الخارجية الذي رفض أن يسافر معه الى القدس بالتهمة ذاتها وقال عنه في الصفحة رقم 407 من مذكراته "مسكين، لم تستطع أعصابه أن تتحمل المبادرة واستقال". وبعد أن رفض محمد إبراهيم كامل (وزير الخارجية الذي حل محل إسماعيل فهمي) التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد واستقال احتجاجـا على ذلك، اتهمه السادات في تصريحاته بالاتهام نفسه. إن السادات له تاريخ طويل وثابت يؤكد انه يعاني أمراضا عصبية ونفسية، وهو في مرضه هذا يتصور نفسه وكان جميع الناس مرضى وانه هو وحده الذي لا يعاني هذه الأمراض، وهذا هو أخطر حالات المرض.
الخاتمة:
هذه هي القصة الكاملة والحقيقية لحرب اكتوبر 1973 وهي تختلف كثيرا عن كل ما صدر عن هذه الحرب من كتب. إن هذا هو الكتاب الأول الذي يكتب عن هذه الحرب من وجهة النظر العربية، دون أن يكون تحت أي ضغط من أصحاب السلطة في مصر أو في غيرها. لقد سردت الأحداث بصراحة تامة لم يألفها المصريون حتى ليبدو للكثيرين منهم أني قد أذعت "أسرارا حربية" ما كان يصح لي أن أبوح بها.
ولكي نوضح هذه النقطة يحب أن نتفق أولا على المعنى المقصود من تعبير "أسرار حربية". إن التفسير المنطقي لذلك هو "إذاعة معلومات عن القوات المسلحة الوطنية لم يكن العدو يعرفها، ونتيجة معرفته لهذه المعلومات فإنه يستطيع ان يهدد أمن وسلامة الوطن". إن حجب المعلومات التي لا ينطبق عليها التفسير السابق عن الشعب المصري والعربي تحت شعار السرية هو إسراف في تفسير تعبير "أسرار حربية" وهو محاولة يائسة من السادات ونظامه لكي يحجب الحقائق عن الشعب المصري، لكي ينقذ نفسه من مسئولية الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها في حق مصر وقواتها المسلحة.
ان العدو يعرف جيدا إننا قمنا بدفع الفرقتين المدرعتين 4 و 21 من غرب القناة إلى شرقها ليلتي 13,12 أكتوبر، ويعلم جيدا إننا قمنا بهجوم فاشل يوم 14 من أكتوبر خسرنا فيه 250 دبابة، ويعلم كذلك أنه عبر في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 من أكتوبر بقوة لواء مشاة ولواء مدرع، ويعلم جيداً بخطتنا للهجوم على الدفرسوار يوم 17 من أكتوبر وانه دمر اللواء المدرع 25 بكامله، ويعلم جـيداً انه مساء يوم 18 اكتوبر كان له غرب القناة خمسة ألوية مدرعة ولواء مشاة إن العدو يعلم جيدا أنه حاصر الجيش الثالث يومي 23 و 24 أكتوبر وانه عند وقف إطلاق النار يوم 24 من اكتوبر كان له ثلاث فرق مدرعة غرب القناة مقابل فرقة مدرعة مصرية واحدة. إن مالا يعرفه العدو هو"لماذا يتصرف المصريون بمثل هذه الحماقة، ومن هو المسئول الرئيسي عن هذه القرارات الخاطئة؟". ليس هناك إذن معلومات سرية يستطيع العدو أن يستفيد منها ضد مصر وإنما هناك أسرار يريد السادات أن يحجبها عن الشعب العربي. وهذه هي مشكلة الديمقراطية في مصر. إن السادات لايريد أن يسمح لشعب مصر أن يقرأ ألا ما يريد له السـادات أن يقرأ. انه لا يريد لأحـد من أبناء مصر أن يكتب إلا إذا كـان ما يكتبه معبرا عن وجهة نظر حـاكم مصر. ومن هنا يكون هذا الكتاب تحديا خطيرا لهذه القواعد القمعية و اللاديمقراطية التي يمارسـها نظام السادات في مصر.
إن هذه الحرب مليئة بالدروس والعبر، لعل أبرزها أكثرها تأثيرا على سير العمليات هو الصراع بين القادة العسكريين والسياسيين ذلك الصراع الذي يعد مشكلة كل وقت وزمان، ولكنها لم تكن قط بهذه الصورة التي ظهرت بها خلال حرب أكتوبر 73 على المسـتوى المصري.
لقد كان في استطاعتنا أن نحقق الكثير لولا تدخل السادات المستمر واصدار سلسلة من القرارات الخاطئة التي كانت تجهض قدراتنا العسكرية. والآن وقد أذيعت الأسرار كلها التي كـان يحرص السادات على إخفائها، فقد آن الأوان لكي نجري في مصـر حوارا نناقش فيه أخطائنا ونحدد المسئول عن كل خطأ حتى نعرف من هم أبطال هذه الحـرب الحقيقيين ومن هم الأبطال المزيفون.
ملحق
نص الخطاب الذي وجهه الفريق سعد الدين الشاذلي إلى النائب العام المصري .. وفيه يطلب محاكمة السادات
السيد النائب العام:
تحية طيبة.. وبعد
أتشرف أنا الفريق سـعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في الفترة ما بين 16 من مـايو 1971 وحتى 12 ديسمبر 1973، أقيم حاليـا بالجمهورية الجـزائرية الديمقراطية بمدينة الجزائر العاصمة وعنواني هو صندوق بريد رقم 778 الجزائر- المحطة B.P 778 ALGER. GARE بان اعرض على سيادتكم ما يلي:
أولا:
إني أتهم السيد محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربيـة بأنه خلال الفترة ما بين أكتوبر 1973 ومايو 1978، وحيث كان يشغل منصب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية بأنه ارتكب الجرائم التالية:
1- الإهمال الجسيم:
وذلك انه وبصفته السابق ذكرها أهمل في مسئولياته إهمالا جسيما واصدر عدة قرارات خاطئة تتعـارض مع التوصيات التي أقرها القادة العسكريون، وقد ترتب على هذه القرارات الخاطئة ما يلي:
(أ) نجاح العدو في اختراق مواقعنا في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 أكتوبر 73 في حين انه كان من الممكن ألا يحدث هذا الاختراق إطلاقا.
(ب) فشل قواتنا في تدمير قوات العدو التي اخترقت مواقعنا في الدفرسوار، فى حين أن تدمير هذه القوات كان في قدرة قواتنا، وكان تحـقيق ذلك ممكنا لو لم يفرض السادات على القادة العسكريين قراراته الخاطئة.
(ج) نجاح العدو في حصار الجيش الثالث يوم 23 من أكـتوبر 73، في حين أنه كان من الممكن تلافي وقوع هذه الكارثة.
2- تزييف التاريخ:
وذلك انه بصفته السابق ذكرها حاول و لا يزال يحاول أن يزيف تاريخ مصر، ولكي يحقق ذلك فقد نشر مذكراته في كتاب اسماه (البحث عن الذات) وقد ملأ هذه المذكرات بالعديد من المعلومات الخاطئة التي تظهر فيها أركان التزييف المتعمد وليس مجرد الخطأ البريء.
3- الكذب:
وذلك انه كذب على مجلس الشعب وكذب على الشعب المصري في بياناته الرسمية وفي خطبه التي ألقاها على الشعب أذيعت في شتى وسائل الإعلام المصري. وقد ذكر العديد من هذه الأكاذيب في مذكراته (البـحث عن الذات) ويزيد عددها على خمسين كذبة، اذكـر منها على سبيل المثال لا الحصر مايلي:
(أ) ادعاءه بـان العدو الذي اخـترق في منطقـة الدفرسوار هو سبعة دبابات فقط واستمر يردد هذه الكذبة طوال فترة الحرب.
(ب) ادعاءه بأن الجـيش الثالث لم يحاصر قط في حين أن الجيش الثالث قد حـوصر بواسطة قوات العدو لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.
4 -الادعاء الباطل:
وذلك انه ادعى باطلا بأن الفريق الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية قد عاد من الجبهة منهارا يوم 19 من اكتوبر 73، وانه أوصى بسحب جميع القوات المصرية من شرق القناة، في حين انه لم يحدث شيء من ذلك مطلقا.
5- إساءة استخدام السلطة:
وذلك أنه بصفته السابق ذكرها سمح لنفسه بان يتهم خصومه السياسيين بادعاءات باطلة، واستغل وسائل إعلام الدولة في ترويـج هذه الادعاءات الباطلة. وفي الوقت نفسه فقد حرم خصومه من حق استخـدام وسائل الإعلام المصرية -التي تعتبر من الوجـهة القانونية ملكا للشعب- للدفاع عن أنفسهم ضد هذه الاتهامات الباطلة.
ثانيا:
إني أطالب بإقامة الدعوى العمومية ضد الرئيس أنور السادات نظير ارتكابه تلك الجرائم ونظرا لما سببته هذه الجرائم من أضرار بالنسبة لأمن الوطن ونزاهة الحكم.
ثالثا:
اذا لم يكن من الممكن محـاكمة رئيس الجمهورية في ظل الدستور الحـالي على تلك الجرائم، فإن اقل ما يمكن عمله للمحافظة على هيبة الحكم هو محاكمتي لأنني تجرأت واتهمت رئيس الجمهورية بهذه التهم التي قد تعتقدون من وجهة نظركم انها اتهامات باطلة. إن البينة على من ادعى وإني أستطيع- بإذن الله- أن أقدم البينة التي تؤدى إلى ثبوت جميع هذه الادعاءات وإذا كان السادات يتهرب من محاكمتي على أساس أن المحاكـمة قد تترتب عليها إذاعة بعض الأسـرار، فقد سقطت قيمة هذه الحجة بعد أن قمت بنشر مذكراتي في مجلة "الوطن العربي" في الفـترة ما بين ديسمبر 78 ويوليو 1979 للرد على الأكاذيب والادعاءات الباطلة التي وردت في مذكرات السـادات. لقد اطلع على هذه المذكرات واستمع إلى محتوياتها عشرات الملايين من البشر في العالم العربي ومئات الألوف في مصر.
 
الفصل الثامن والثلاثون: أسرار الدولة وأسرار الحكومة
لم أفش أي أسرار عسكرية:
إن اتهامي أمام محكمة عسكرية بأنني أفشيت أسرارا عسكرية في كتابي الذي نشرته عن حرب اكتوبر سنة 1979. هو اتهام باطل لا يستند إلى أي دليل. أني أتحدى من يدعي بغير ذلك أن يذكر معلومة محددة يعتقد انها- من وجهة نظره- تعتبر معلومة عسكرية سرية.
لقد جاء في تعليق مدير إدارة القضاء العسكري الذي نشر في مجلة المجلة بتاريخ 24 أكـتوبر 93 "أن الفريق الشـاذلي بصفته العسكريـة كرئيس للأركان قد أفشى أسرارا عن اسلحة ومعدات وخطط ومعلومات عن تشكيلات وتحركات وافراد وعتاد واستراتيجيات وتكتيكات القوات المسلحة المصرية. وذلك من خلال ما كتبه في الخارج من مقالات نشرت في مجلة الوطن العربي بالإضافة إلى كتـاب صدر في باريس تحت عنوان حـرب اكتوبر، دون إذن خطي من السلطات العسكرية المختصة كـما يوجب القانون " وأرى أن الجملة الوحيـدة الصـادقة في كل هذا التصريح هي أنني لم احصل على تصريح كتابي من وزارة الدفاع بنشر كتـابي عن حرب اكتوبر. أما كل مـا جاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري من اتهامات اخرى فهي ادعاءات باطلة لا تستند إلى أي دليل.
نعم لم أطلب تصـريحـا من وزارة الدفاع لأني أرى أن أي قرار أو قانون يفرض على الأشخاص ضرورة الحصول على إذن مسبق من القيادة العامة للقوات المسلحة، قبل إجراء أي حديث أو قبل نشره هو إجـراء غير دستوري ويتعارض مع مبدأ حرية الرأي التي كفلها الدستور لكافة المواطنين. وان كل مـا تستطيع السلطة التنفيذية عمله- إذا افترضنـا احترامها للدستور- هو أن ترفع الدعوى ضد من تعتقد أنه أفشى اسرارا عسكريـة. ثم يترك الأمر بعد ذلك للقضاء للفصل في الدعوى.
نعم لم اطلب تصـريحا من وزير الحـربية لأنني على قناعة بأني لست اقل منه علما أو وطنية عند تقييمي لما اكتب، من حيث أن ما اكتبه يمكن أن يستفيد منه العدو في تهديد أمن وسلامة وطني. وإذا علمنا بالكـم الهائل من المقالات والكتب التي يتحتم عرضها على وزارة الحربيـة لاحتوائها على موضوعات عسكرية. وان الوزير وكـبار معاونيه لا يستطيـعون مراجعة كل هذه المقالات والكتب. وان الأمور عادة ما تنتهي بإحالة هذه الكتب والمقالات إلى ضباط ينقصهم العلم والخبرة، اتضـحت لنا خطورة النتائج التي يمكن أن تسفـر عنها مثل هذه الرقابة. والتي عادة ما تتمسك بالشكل دون المضمون. والتي قد تخضع احيانا لعوامل شخصية وتصفية حسابات قديمة. أو قد تتأثر بموقف انتهازي من الضابط الرقيب إذا شعر أن رفضه التصـريح بنشر كـتاب لمؤلف مـا، قد يرضى رئيسه، نظرا لما يعلمه من وجود خلافات سابقة بين المؤلف وبين رئيس الضابط الرقيب.
نعم رفضت طلب التصريح بالنشر من وزير الحربيـة، لأن كتابي عن حرب أكـتوبر كان مليئا بالنقد اللاذع لرئيس الجمهورية ولوزير الحربية. ولأنـني طالبت في هذا الكتاب بإلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة، وإبعاد وزير الحربية عن القرارات العسكرية.
نعم كنت ومازلت أطالب من أجل مصر بان يصبح رئيس الأركان هو الرجل العسكري الأول، وبأن يصبح وزير الحربية شخصية سياسية تختص فقط باتخاذ القرار السياسي وتحديد الهدف الاستراتيجي دون التدخل في أسلوب التنفيذ. ولم يكن من المعقول أن يوافق وزير الحربية على التصريح بنشر كتابي إذا أنا طلبت منه ذلك (راجع الفصل السابع عشر).
ولو أننا أخذنا بما جاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري عن مفهومه الفضفاض للأسرار العسكرية (تكتيكات، استراتيجيات، تحركات، أسلحة ومعدات، خطط تم تنفيذها) لأصبح الزاما علينا أن نوقف إصـدار مجلة الدفاع وأي مجلة عسكرية أخـرى تصدرها أفرع القوات المسلحـة الرئيسية واسلحة الجـيش المختلفة، وألا نتحـدث في الصحف عن المناورات العسكرية التي تقوم بها قواتنا، وألا نقبل في مـعاهدنا العسكرية طلبة أجانب حتى لا يدرسوا ما لدينا من تكتيكات واستراتيجيـات.. الخ، وأن نمنع المجلات العالميـة التي تعالج الشـئون العسكرية من دخول مصر.. والتي من ضمنها الكتب التي يصدرها المعهد الدولي للدراسات ألاستراتيجية THE INTERNATIONAL INSTITUTE FOR STRATEGIC STUDIES (IISS والكتب التي يصدرها SLPRI … والكتب التي تصدرها JANES .. حيث أن هذه الكتب تتحـدث عن حجم وتنظيم الوحدات والتشكيـلات ومواصفات الأسلحة والمعدات وكل ما جـاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري على أنه من الأسرار، ولأصبح الزاما علينا أن نمنع اقمار التـجسس التي تعبر فضـاءنا الجوي في كل يوم وتقوم برصد كل تحـركاتنا العسكرية، أو على اقل تقدير نحتج على مرورها.
الأسرار في عصر الأقمار الصناعية:لقد لعبت اقمار التجسس دورا مهما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء من ناحية مراقبة كل من الولايات المتحدة والاتحـاد السوفيتي لبعضهما البـعض، أما من ناحية تزويد بعض الدول الصـديقة لأي منهما بالمعلومات التي تفيدها في صراعها ضـد الدول الأخرى المعادية. يقول المستر كيسىCASEY مدير وكالة المخابرات الأمريكية الأسبق C.I.A "من الصور التي تلتقطها أقمارنا الصناعية، نستطيع أن تعد جميع الدبابات السـوفيتية. وبتكرار التصـوير على فترات، نستطيع أن نعرف إذا ما كـانت هذه الدبابات صـالحـة للاستخدام من عدمه. وتستطيع وسائل الإنذار المبكر أن تسجل أي تحركات تقوم بها القوات السوفيتية، أو أي مشروع دفاعي كبير يكون في مرحلة التطوير صفحة رقم 221 من كتاب THE SECRET WARS OF THE CIA للكاتب الصحـفي بوب ودورد BOB WOODWARD النسخة الإنجليزية، الطبعة الأولى 1987).
ويقول المستر جون Mr John Lehman -الذي كان يشغل منصب وزير الحربية في إدارة الرئيس الأمريكي ريجان مابين 81-1987- "إن الولايات المتحدة زودت بريطانيا بمعلومات مهمة خلال حرب الفولكلاند عام 1982، وإن هذه المعلومات كانت بطريقة سرية، وكانت خافية حتى على كثير من كـبار المسئولين في الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، وانه بدون هذه المساعدة ما كان باستطاعة بريطانيا أن تنتصر في هذه الحرب. بل إن بعضا من كبار المسئولين البريطانيين الذين كانوا على علم بتلك المعلومات التي قدمتها إليهم أمريكا - ويشاركهم في ذلك ليمان نفسه- يعتـقدون أن بريطانيا كانت ستهزم في تلك الحرب لو لم تحصل على تلك المعلومات " مذكرات ليمان صحيفة الجارديان بتاريخ 4/1/89).
وعن القمر الصناعي KH-11 ، يقول كيسى "أطلق أول قمر من هذا النوع في ديسمـبر1976، فكان ذلك اهم انجازات السبعينيات في هذا المجال. فقد كان في استطاعة هذا القمر أن يرسل إلى الأرض ما يلتقطه من صور باشارات تلفزيونية فور تصويرها. وكان ذلك على عكس الجيل السابق من الأقمار الصناعية التي كانت تقوم بقذف الأفلام إلى الأرض بعد استكمال التصوير، حيث كان التقاط هذه الأفلام وتفريغها ثم توزيعها على الجهات المعنية يحتاج إلى الكثير من الوقت الذي قد تصبح فيه هذه المعلومات غير حديثة. أما بواسطة القمر الصناعي KH-11 فإنه اصبح في استطاعتنا في وكالة المخابرات والبنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) والقادة الميدانيين أن يشاهدوا حركة الدبابات السوفيتية فور حدوثها.
كان القمر الصناعيElectro Optical Kh -11 Imaging Satellite يعتمد على التصوير. وكان ذلك يعني عدم قدرته على إرسال الصور الواضحة في الليل في الأيام الغائمة، ثم ظهر بعد ذلك الجيل المتطور من هذه الأقمار التي تستطيع التصوير ليلا، وذلك بتكثيف ضوء النجوم، ثم ظهر الجيل الثالث من الأقمار الصناعية الذي يعتمد على التصوير الراداري، حيث إن الإشـارات الرادارية لا تتاثر بالظلام والسحب. وهكذا ظهر مشـروع قمر لاكروس وقد وضع اول قمر لاكروس Lacrosse في الفضـاء يوم 3 ديسمبر1988. (ص 30 من المرجع السابق).
وعندما اسقط الاتحاد السـوفيتي طائرة الركاب الكورية التي انتهكت الأجواء السوفيتية اثناء رحلتها رقم 7.. في ليلة 31 اغسطس أول سبتمبر 1983على أساس أنها كانت تقوم برحلة تجسسية لحساب امريكـا سخر الخبراء الأمريكيـون من هذا الادعاء وقالوا إن الصور التي تلتقطها اقمارهم من ارتفاع 160 كيلومترا، اظهرت أحد الأشـخاص وهو يقرأ صحيفة برافدا في أحد شوارع مدينة تقع في شمال الاتحاد السوفيتي. وقالوا إن عنوان الصـحيفة كـان ظاهرا ويمكن قراءته من الصورة (نيويورك تايمز، هيرالد تربيون 12/9/83).
وفي لقاء مع عدد من طلاب الجامـعات المصرية في افتتاح إسبوع أنشطة الجامعات في الإسماعيلية، قال الرئيس حسني مبارك "إن المناورات المشتركة مع امريكا لا تضيف شيئا إلى معلومات امريكا عن قواتنا المسلحة. ذلك انهم يعلمون كل شيء عنا، فهم يبيعون لنا السلاح وقطع الغيـار. كما أنهم يمتلكون أجهزة دقيقة للتصـوير والتجسس تمكنهم من معرفة أدق الأسرار. وقد ابلغوا الحكومة المصرية مؤخرا أن هناك 60 جنديا مصـريا على الحدود مع إسرائيل زيادة على اتفاقية كامب ديفيد" (مجلة المستقبل 29 من سبتمبر 1987).
ويعتقد أن الولايات المتحدة كانت اكثر تقدما من الاتحاد السوفيتي في مجال الاستطلاع بالأقمار الصناعية. ولكن الاتحاد السوفيتي لحق بها في منتصف السـتينيات وقد علم الأمريكان بذلك عندما لفت السوفيت نظرهم بأنهم قاموا بتمويه مرابض صواريخ مينيتمانMiinuteman في منطقة مونتـانا، وان ذلك يتعارض مع معاهدة سولت-1 ، وقد أنكر المفاوضون الأمريكيون هذا الاتهام اول الأمر. ولكنهم اكتشفوا بعد ذلك أن الفنيين قد قاموا بتغطية هذه المرابض و حمايتها من الصقيع عندما هبطت الحرارة إلى درجة الصفر. وبعد أن علم المفاوضون الأمريكيون بذلك أمروا برفع هذه الأغطية واعتذروا للسوفيت. ولكن هذا الحـادث أكد لهم أن الاتحـاد السوفيتي لابد أن يكون قد أحرز تقدما كـبيرا في مجـال الاستطلاع بالأقمار الصناعية.
وفي خلال حرب اكـتوبر 73، استخدم الإسرائيليون الصور التي كانت اقمار التجسس العسكرية الأمريكية تلتـقطها لمدينة السويس. فعرفوا منها الشوارع التي كـانت تخلو من القوات المصـرية والشعبيـة. وبناء على هذه المعلومات أخذت قيـادة الجـبهة الجنوبيـة (الإسرائيلية) توجه القوات الإسرائيلية التي كانت محاصـرة في مكتب شرطة السويس للإفلات خلال ليلة 24/ 25 أكتوبر.
يقول السادات في الصفحة رقم 375 من كتابه "البحث عن الذات" وهو يتحدث عن حرب 1967، ما يلي "كان جونسون (الرئيس الأمريكي) يسـتحث الإسـرائيليين على المبـادرة بالهجـوم على سيناء، بعد ان قدم لهم صور القمر الصناعي الأمريكي عن أوضـاع القوات المصرية في سيناء سـاعة بعد ساعة"، وعندمـا كان السادات يتحدث عن حـرب اكتوبر 73، فإنه قال في الصفحة 346 من نفس المرجع السـابق ما يلي "ولكن القمر الصناعي الأمريكي والبنتاجون كـانوا يوافون إسرائيل بالموقف ساعة بعـد ساعة دون أن تطلب ذلك. وأخبرهم بنقل الفرقة 21 المدرعة من الغرب إلى الشرق" .
ومرة أخرى يكتب السادات في الصفحة رقم 387 من كتابه "البحث عن الذات" عن لقائه مع وزير الخـارجيـة الأمريكي (كان هذا اللقاء يوم 7 نوفمبـر 73) ومطالبته بضـرورة انسحـاب إسرائيل إلى خط 22 أكـتوبر، فـيقول ما يلي "خط 22 أكتوبر سنة 1973 وهو الخط الذي كـان قـائما وقت وقف إطلاق النار، وتعرفه امريكا وروسـيـا بأقمارهما الصناعية". كان هذا يعني اعترافا صريحا آخر من رئيس الجمهورية بقـدرة الأقمار الصناعية في اكتشاف وتوزيع مواقع القوات المتحاربة.
بعد هذا العرض لإمكانات الأقمار الصناعية. وبعد اعتراف السادات بان امريكا كانت تمد إسرائيل بكل المعلومات التي كانت تحصل عليها عن تحركـات قواتنـا بواسطة اقمارها الصناعية. فهل يمكن لعاقل أن يتصور أن المخابرات الإسرائيلية كانت في حـاجة ماسة إلى معرفة تحركات قواتنا من كتاب الفريق الشاذلي وبعد أن كان قد مضى أكثر من 5 سنوات على تلك الحرب.
العلم العسكري والسر العسكري
الحرب علم وفن، والمكتبـات العـامة تزدحم بمئات الكتب والمجلات التي تعالج الحـرب بجـميع فروعها. ولعل اقدم هذه الكتب- والذي مازال يدرس في الكثير من الأكاديميات العسكرية- هو كتاب "فن الحرب الذي ألفه الصيني Sun Tzu عام 500 قبل الميلاد أما أحدثها فهو الكتاب الذي نشره الجنرال شوارتزكوف عام 1992 عن الحرب التي قادها ضد العراق عام 90/91. وبين هذين الكتابـين صدرت الاف الكتب التـي تتحـدث عن التكتيك، والاستراتيجية، والتحركات، ومبادىء الحـرب والتنظيم، والخسائر البشرية والمادية لكل حرب، والخلافات بين القيادات السياسية والقيادات العسكرية، الخ. ولم يقل أحد قط- إلا في مصر وفي حـالة الفريق الشاذلي بالذات- إن ما ورد في هذه الكتب يعتبر افشاء للأسرار العسكرية!!
وبهذه المناسبة نذكر بما قاله الرئيس حسني مبارك يوم 12/8/92 في أثـناء توديعه للقوة المصـرية المسافرة إلى سراييفو. فقد قال "إن حرب اكـتوبر تدرس الآن في جـميع المعاهد العسكرية وغير العسكرية". وانه لفخر لمصر أن تقوم كلية القيادة والأركان الأمريكية بتدريس حرب اكتوبر لطلبتها. وهنا علينا أن نتساءل: من اين حصلت امريكا على المعلومات التي تقوم بتدريسها للطلبة العسكريين. إن كان المرجع هو كتاب الفريق الشـاذلي فهذا فخر للعسكرية المصـرية. إذ يصبح أحد ابنائهـا صاحب كتـاب يصل به إلى العالمية. أما إذا كانت المعلومـات التي تدرس في الأكاديميات العسكرية الأمريكية مصدرها شىء آخـر، فإن هذا يعني ويؤكد أن امريكا حصلت على هذه المعلومات- إذا افترضـنا سريتها- من مصادر أخرى. وبذلك تلقي التهمة المنسوبة إلى الفريق الشاذلي فيما يتعلق بافشاء اسرار عسكرية. وبالإضـافة إلى الكتب العسكرية فهنـاك مئـات المجلات العسكرية التي تصدر بطريقة دورية. بعضها يصدر اسبوعيا وبعضها يصدر شهريا أو سنويا. ولعل أشهر هذه المجلات على المستوى العالمي هي تلك التي تصدر عن الجهات التالية:
(أ) معهد الدراسات الاستراتيجية الدولي International Institute for Strategic Studies
(ب) المعهد الملكي للأسلحة المشتركة لشئون الدفاع Royal United Services for Defence Studies
(ج) مؤسسة جينز Janes
وعن طريق هذه المطبوعات يمكن معرفة ميزانية الدفاع في كل دولة. وما تمتلكه كل دولة من قوات مسلحـة. ويشمل ذلك: عدد الأفراد، وعدد الأسلحة الرئيسية، واسلوب تنظيم هذه الأسلحة في تشكيـلات، ومواصفات وخصائص كل سـلاح ومعدة. كـما تتضـمن دراسات وبحوثا عن المشاكل التكتيكية والاستراتيجية الحاضرة والمستقبلية.
إن تطور أجهزة الرصـد وتنوعها وإقدام الدول الغربية على نشر المعلومات الوفيرة عما تملكه من اسلحة وعما يملكه الآخرين من اسلحة وعتاد، قد جعل كافة الدول عارية تماما من كل سر يتعلق بالقدرات القتالية، و اصبـحت كل دولة على معرفة تامة بما تملكه جاراتها من اسلحة وقدرات قتالية، وأصبح على كل طرف أن يبني خططه على أساس أن عدوه المحتمل يعلم عنه كل شيء فيما عدا النوايا التي يخفيها في صدره ومع أن هذه النوايا يمكن تخمينها بواسطة القادة العسكريين في الطرف الآخر، إلا أنها- مع ذلك- تبقى هي السر الوحيد الباقي إلى أن تبدأ العمليات الحربية، وبمجرد بدء العمليات وتنفيذ النوايا على أرض المعركة تصبح الحرب تاريخا وتصبح خططها جزءاً من هذا التاريخ. وعلى هذا الأساس خططنا لحرب أكتوبر، حيث كنا على علم عن إسرائيل كل شىء. وكنا نفترض طبعا اتها تعلم عنا كل شيء. وكما يقول السادات في الصفحة رقم 333 من كتابه "البحث عن الذات":"كانت كل من مصر وإسرائيل تمتلك من أساليب الحرب الالكترونية ما يمكنها من رصد كل ما يحدث على الجانب الآخر".
كانت خططنا للعبور وتدمير خط بارليف هي الشيء الوحيد الذي نحرص على إخـفائه وبنجاح خطة العبور والمام إسرائيل بها فقدت الخطة سريتها.
لمن يكون الولاء؟
نعم لمن يكون الولاء للشـعب والدولة؟ أم للحكم والحكومة؟ الإجابة عن هذا السؤال قد حُسمت في الأنظمة الديموقراطية. فالشعب هو الذي يختار الحاكم والحكومة دون تدخل من الحكومة التي تشرف على الانتخابات والشعب هو الذي يحدد اخـتصاصـات الحـاكم والحكومة، وهو الذي يسقطهم إذا وجـد منهم انحـرافا عن الحدود والاختصاصـات التي رسمها لهم. ولذلك فإن الولاء الأول يكون للشعب. أما ولاء الشخص للحاكم والحكومة فهو ولاء مشروط وهذه الشروط هو ألا يتعارض هذا الولاء مع ولائه للشعب. وفي بريطانيا التي تعتبر أعرق الديمقراطيات في العالم المعاصر، تأكد هذا المفهوم من خـلال قضية Ponting عام 85 وقضية Wright عام 1987.
أما القضية الأولى فقد كانت تتعلق بموقف حكومـة المسز تاتشر من إخفاءها بعض المعلومات التي تتعلق بحرب الفولكلاند التي جرت بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982. فقد أدلت حكومـة تاتشر أمام مجلس العموم البريطاني بان الغواصة البريطانية كـونكيرور Conqueror أغرقت البارجة الأرجنتينية بلجرانو يوم 2 مايو 82، لأنها كانت تشكل خطورة على أمن وسلامة الأسطول البريطاني في المنطقة. وانه عندما صدر القرار السياسي بأغراق البارجة الأرجنتينية لم تكن مسز تاتشر قد علمت بعد بمشروع الاتفاق الذي تقدمت به دولة بيرو لحل النزاع بين بريطانيا والأرجنتين. ولكن المستر بونتنج- الذي كان يشغل منصـبا كبيرا في وزارة الدفـاع- سرب إلى حزب العمل المعارض للحكومة وثيقة تؤكد أن الحكومة قد كذبت على مجلس العموم في نقطتين مهمتين، الأولى هي أن القرار السيـاسي قد صدر بإغراق البارجة بعد 24 ساعة من إبلاغ الحكومة البريطانية بمشروع الحل السياسي. والأخيرة هي انه عندما صدر الأمر بإغراقها، كـانت بلجرانو على مسافـة 200 ميل من الأسطول البريطاني، وبالتالي فإنها لم تكن تشكل أي خطورة على الأسطول البريطاني.
قدمت الحكومة البريطانية المستر بونتنج للمحاكمـة بتهمة إفشاء أسرار عسكرية (محكمة عادية بالتأكيد، حيث إنه في بريطانيا لا تقام الدعوى ضد المدنيين أمام محاكم عسكرية). وفي أثناء المحاكمة دار الحوار بين الادعاء والدفاع حول سؤال مهم هو: لمن يكون الولاء للشعب أم للحكومـة؟ فالدفاع كـان يقول إن إذاعة هذه الأسرار كان بناء على نداء الضمير نحو حق الشعب في معرفة الحقائق. وإنه إذا تعارضت مصلحـة الشعب مع مصلحة الحكومـة، فإن ولاء الموظف يجب أن يكون للشعـب. أما الإدعاء فكان يتمسك بان المستر بونتنج قد انتهك القانون الخاص بالأسرار الرسميـة عندما أذاع أسرارا كانت بعهدته إلى أشـخاص غير مسئولين. وإنه ليس هناك تناقض بين مصالح الدولة ومصالح الحكومة، حـيث إن مصالح الحكومة القائمة هي مصالح الدولة نفسها.
وفي 11 من فبراير 85 صدر الحكم بتبرئة المسـتر بونتنج من تهمة إذاعة اسرار الدولة. وجاء في الحكم أن مصالح الحكومة ليست دائما متطابقة مع مصالح الدولة. وأن الموظف العام لا تمكن إدانته إذا هو أذاع معلومات في حوزته لا تهدد أمن وسلامة الدولة، ولاسيما إذا اتضح له أن الحكومة تحـجب حـقائق مهمة عن الشعب. وقد هلل الشـعب البريطاني لهذا الحكم وعلق عليه السكرتير العام لموظفي الدولة قائلا "إن هذا الحكم يعتبر انتصـارا عظيما للحريات المدنية. أرجو أن يدفع ذلك الحكومات إلى التوقف عن محاكمة موظفي الدولة الذين تكون كل جريمتهم هي انهم يضعون ولائهم للشعب في المقام الأول".
أما القضية الثانية فهي قضية المستر رايت Wright.الذي كان يعمل ضـابطا بالمخابرات البريطانيـة. وبعد تقاعده هاجر إلى استراليا واصدر كتـابا عن الأعمال القذرة التي تقوم بها المخابرات البريطانية والتي كان من بينها التصنت غير القانوني على محادثات الأفراد وسرقة منازلهم. وقتل المستر جيتسكيل Gaitskell زعيم حزب العمال بان دسوا له ميكروب مرض إستوائي قاتل في شـراب من الويسكي. والتآمر لاغتيال الرئيس المصري جمـال عبد الناصر والزعيم القبرصي اليوناني جريفاس.. إلخ. وقد قام رايت بنشر كتابه الذي أسماه- قناص الجواسيس Spy Catecher- في أمريكا، ولكن القضاء البريطاني فرض حظر النشر في بريطانيا باغلبية ثلاثة ضد اثنين. وقد وقف الشعب البريطاني ضد هذا الحكم. ولجأت بعض الصـحف إلى نشر اجـزاء من الكتـاب. وذهب توني بن Tony Benn -أحد زعماء حزب العمال- إلى حديقة هايد بارك ومعه نسخة من الطبـعة الأمريكية للكتاب واخذ يقرا منها على الجماهير الشعبية التي وقفت تستمع إليه. وكتبت صحيفة الديلي ميرور في 31 من يوليو 87 تقول "لقد نشر كتاب رايت في أمريكا وتمت قراءته في كل مكان. والانجليز وحدهم هم الذين لا يستطيعون قراءته. إن القضاة الأغبياء قد أصدروا حكما لا يمكن أن يحترم أو يعيش" أما صـحيفة الديلي ميل فقد نشـرت في 1/8/87 تقول "لو قبل الشعب البـريطاني بان الحريات التي يتمتع بها هي تلك التي تسمح بها السلطات (يقصد السلطة التنفيذية والسلطة القضائية)، فإن ذلك يعني أننا بدأنا السير على طريق الشمولية"
أما في الأنظمة الاوتـقراطية والشموليـة. فإن الأمور تسير في عكس هذا الاتجاه تماما. فالولاء للحـاكم هو السبيل الوحـيدة لشغل المناصب الـعليا. وفي هذه الأنظمة يشيع النفاق ويتقدم الانتهازيون الصفوف. أما القلة التي ترفض السير في ركب المنافقين وتتمسك بالقيم والمبادئ فإنها تتعرض لحملات ظالمة من وسائل الإعلام التي تملكها الدولة أو تسيطر عليها عن طريق وسائل اخرى متعددة وفي ظل هذه الظروف الصعبة فلا غرابة أن يسود في تلك البلاد شعار يطالب الفرد بان يكون ولاؤه للحاكم والحكومة حتى لو تعارض هذا الولاء مع ولائه لله وللأمة والوطن.
أما المؤمنون والمؤمنات فولاؤهم الأول والأخير لله سبحانه وتعالى مهما سبب لهم ذلك من مشاكل ومتاعب. واما الحاكم فطاعته مشروطة بما جـاء في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير واحسن تأويلا)" (النساء/ 59).
وقد جرى الخلفاء الراشدين على هذا النهج. فقد قال أبو بكر مخاطبا الناس بعد أن تمت له البيعة (إني وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم). وعندما ولي عمر بن الخطاب ردد نفس ما قاله أبو بكر الصديق. فقال له رجل وهو شاهر سيفه "والله يا امير المؤمنين لو رأيناك معوجا لقومناك بسيوفنا" فرد عليه عمر "رحمكم الله الذي جعل فيكم من يقوم عمر بسيفه". هذا هو الحاكم المسلم حـقا. وهذا هو الشعب المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يخشى إلا الذي خلقه وخلق السماوات والأرض وما بينهما.
من الذي يحدد أسرار الدولة؟
تعريف السر: في الأنظمة الديمقـراطية تقوم السلطة التشريعية بتعريف السر تعريفا حقيقيا قبل تجريمه. وتصـدر السلطة القضائية حكمها في الدعوى التي ترفعهـا السلطة التنفيذية أو أي جهة اخرى ضد من يرتكب جريمة إفشاء السر. وحيث إنه لا يمكن لأي سر أن يبقى سرا إلى الأبد. وحيث إن وسائل الرصد والحصول على المعلومات تتطور عاما بعد عام، فإن ما كان يمكن أن يعتبر سرا من اسرار الدولة منذ مائة عام أو منذ خمسين عاما، فإنه لا يمكن اعتبـاره اليوم من أسرار الدولة، نظرا لاستحالة إخـفائه عن سمع و انظار الأعداء في عصر الأقمار الصناعيـة. بل إن قدرات الأقمار الصـناعية تتعاظم عاما بعد عام بحيث أصبح اليوم في استطاعة القائد العسكري أن يشاهد حـركة الدبابات والتشكيـلات المعادية على شاشـة تليفزيونيـة وهي على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات. وفي ظل هذه المتغيرات السريعة، فإن أفضل تعريف للسر العسكري، هو ما جاء في منطوق حكم المحكمة البريطانية التي برأت المستر بونتنج من تهمة افشاء أسرار عسكرية، في 11 فبراير 1985، فقالت إن "السر العسكري أو سر الدولة هو ذلك السر الذي يترتب على افشائه تهديد أمن و سلامة الدولة".
ومع أن هذا التعريف البريطاني صدر عام 1985. ومع أن كتابي عن حرب أكتوبر نشر عام 1979، إلا أن مفهومي للسر العسكري كان يتطابق تماما مع مفهوم التعريف البريطاني. ويؤكد ذلك ذكر خصائص الصواريخ جو- ارض التي كانت لدينا والتي نوقشت خلال مؤتمر انشاص في 19 من نوفمبر 71 (ص 149 حرب أكتوبر الطبعة الثالثة). ففي خـلال هذا المؤتمر تحدث الجنرال أوكينيف عن الصواريخ جو- ارض التي قرر الاتحـاد السوفيتي إمدادنا بها. وتحدث كذلك عن مواصفات تلك الصواريخ التي يمكن استخـدامها بواسطة القاذفات TU-16. ولكنني لم أتطرق في كتابي لمواصفات تلك الصواريخ عندما تبين لي أن مواصفاتها لم تكن قد ظهرت بعد في كتب ومجلات جينس Janes .ويبين هذا التصرف العلاقة بين السر والزمن. فما كنت اعتبره سرا عام 79، لا يمكن اعتباره اليوم سرا. حيث إن مواصفات تلك الصواريخ نشرت بعد ذلك في مطبوعات جينس اللاحقة.
وإذا نحن قبلنا بما تدعيه السلطة التنفيذية في مصر -وتأخذ به المحاكم العسكرية- بأنها هي صاحبة الحق المطلق في تقدير ما هو سر وما هو غير سر. فإن ذلك لابد أن يؤدي إلى إهدار العدالة. وذلك نتيجة تجميع السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) في يد شخص واحد هو الحاكم أو من يكلفه بذلك فالكل يعلم أن وزير الحربية في مصر هو الذي يعين القضـاة العسكريين ويعزلهم ويرقيهم ويحيلهم إلى التقاعد، وبالتالي فإنهم جزء من السلطة التنفيذية. فإذا قبلنا بأن وزير الحربية هو صاحب الحق في توصيف أي كتاب أو مقال ينشر بأنه يحوي أسرارا عسكرية. فإن ذلك يعني أن الحكم قد صدر مسبقا بمجرد تقديم المتهم للمحكمة العسكرية. حيث تصبح مهمة القاضي العسكري في هذه الحالة هي إصدار الحكم على المتهم بناء على شهادة مقدمة من وزارة الحربية بأن ما جاء في كتاب أو مقال المتهم هو إفشاء للأسرار العسكرية.
ونتيحه لهذه السلطات الواسعة وعدم وجود أية ضوابط لتعريف ما هو سر، حدثت تناقضات مؤسفة. فمن كان بالأمس هو صاحب السلطة في إعطاء التصريح للضباط المتقاعدين بنشر كتبهم أو عدم نشرها على أساس أن هذا سر وهذا غير سر. إذا هو -بعد تقاعده- يجد من بين تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه من يرفض التصريح له بنشر مذكراته على أساس أنها تحوي أسرارا عسكرية. وفي كـثير من الحالات كـان رفض التصريح للقادة القدامى بنشر مذكراتهم يخضع لما يسمى تصفية حسابات بين القادمة القدامى والقادة الجدد. أو قد يلجا القادة الذين في السلطة إلى هذا التصرف إرضاء للحاكم إذا استشعروا منه عدم الرضى عن القائد المتقاعد، حتى وإن لم يطلب الحاكم منهم ذلك صراحة.
ففي عام 1970 قام اللواء متقاعد صلاح الحديدي بتأليف كـتاب عن حرب اليمن. واتفق مع أحد الناشرين اللبنانيين على طبعه ونشـره في بيروت دون اخـذ إذن بذلك من وزارة الحربيـة. ولكن المخابرات الحربية علمت بذلك قبل أن يصدر الكتاب، فأبلغت الفريق أول فوزي وزير الحربية. فاستدعى الوزير اللواء صـلاح الحديدي وطلب إليه إلغاء التعاقد وعدم نشر الكتاب. وأذعن صلاح الحديدي لقرار الوزير، لأن البديل لذلك كان هو تقديمه للمحاكمة بتهمة إفشاء أسرار عسكرية. فإذا علمنا أن صلاح الحديدي كان قبل ذلك بسنوات هو مدير المخابرات
الحربيـة، وأنه كان- بحكم هذا المنصب- هو الشخص الذي يحـدد- باسم وزير الحربية- ما هو سر لا يجـوز نشره وكـان هو الشخص الذي يصـدق على ما تنشـر في وسـائل الإعلام (كتـاب وزارة الحربيـة رقم 7/ 4/ 1/ 1/ 1/ 11562 بتـاريخ 13/ 4/ 83 والذي اعتمد عليه المدعي العسكري العام في تقديم الفريق سعد الشاذلي للمحاكمة العسكرية بتهمة إفشـاء أسرار عسكرية، يقول إن ما نشره الفريق الشاذلي في كتابه عن حرب أكتوبر يحوي معلومات سرية محظور نشرها إلا بتصديق مسبق من مدير المخابرات الحربية). فهل يعقل أن صـلاح الحديدي الذي كان هو الرقيب الأول عندمـا كان في الخدمة، يصـاب فجأة بالعته عندما يتقاعد حتى انه لا يستطيع أن يميز بين ما هو سر وما هو ليس بسر؟!.
وإذا علمنا أن كتاب صـلاح الحديدي نشر بعد ذلك بسنوات، بعد أن تغير موقف القيادة السياسيـة من حرب اليمن. اتضح لنا أن أصحاب السلطة في مصر ينظرون إلى السر على أساس انه سر الحـاكم وسر النظام، ثم يدعون ظلما وعدوانا انه سـر من أسرار الدولة. وما حدث مع اللواء الحديدي حدث مع الفريق أول متقاعد محسن مرتجي، عندما رفض الجمسي - عندما كان وزيرا للحربية- التصريح له بنشر مذكراته. ثم تكرر نفس الشيء عام 1983، عندما اتهمت وزارة الحربية الفريق أول متقاعد محمد فوزي بأن كتابه عن حرب الاستنزاف -الذي نشره حـينئذ- يحوي أسرارا عسكرية. أي أن الفريق أول محمد فوزي الذي أرغم صلاح الحديدي على عدم نشر كتابه عام 1970، شرب هو من الكأس نفسـها عام 1983 عندما اتهم بأنه لا يستطيع أن يفرق بين ما هو سر وما هو ليس بسر!!
والأنكى من ذلك أن وزارة الحربية تكيل بمكيالين وربما اكثر من ذلك فيما يتعلق بمن تتهمهم بأنهم أذاعوا أسرارا محظور نشرها قبل حصولهم على إذن مسبق.
وفي حديث أدلى به الفريق سعيد إلماحي -الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة- للصحفية سوسن أبو حسين، يقول الماحى "استدعاني الرئيس السادات ذات يوم في استراحة القناطر الخيرية وقال لي هل قرأت كتاب الفريق سعد الشاذلي عن حرب أكتوبر، فقلت له لا يا سيادة الرئيس. فأعطاني النسخة الصادرة باللغة الإنجليزية وقال لي أنا عايزك تقرأ هذا الكتاب كويس وتقدم لي عنه تقريرا وافيا وهل يتضمن أسرارا عسكرية أم لا. لأنه اذا كان الأمر كذلك حتما سنقدمه للمحاكمة العسكرية. وبعد يومين عدت إليه وقلت له إن الكتاب يخلو تماما من أية اسرار عسكرية ولاداعي للمحاكمة. لأن تقديم القادة للمحاكمة العسكرية قد يؤدي في النهاية إلى إضافة صفة الأبطال عليهم. وبالفعل أنا كنت صادقاً تماما مع الرئيس السادات ولم أجامل الفريق الشاذلي وقتها في هذه الشهادة".
وعن توصيفه للاسرار العسكرية قال الماحي "الأسرار العسكرية العامة هي كل ما يمكن أن يحصل عليه العدو ويستفيد منه ليستخدمه في الحفاظ على امنه والإضرار بمصالح وأمن بلادنا". ولذلك فأنا ارى من الأهمية أن تأخذ بعض الوقائع العسكرية طابع الاحتفاظ بالسرية لمدة طويلة حتى لا نعطي فرصة الاستفادة للعدو خاصة في القضايا الاستراتيجـية العامة. وفي الوقت نفسه نتمكن من كتابة الحقيقة الكاملة دون تخوف من محاذير استفادة العدو والتاثير على مصالح الدولة. ومن ناحية اخرى لا يجب على الإطلاق أن نحجب الحقائق عن الشعب، لأن من حقه أن يعرف كل ما يريد معرفته. خاصة أن العالم من حولنا اصبح قرية صغيرة وان ما لم يعرفه الفرد عن بلاده في الداخل فإنه من الممكن أن يحصل عليه من خارجها. وهو الأمر الذي يحدث فجوة كبيرة في الثقة بين الحاكم والمحكوم. ويدفع الأخير إلى الاستجابة إلى الشائعات الكاذبة التي لا تتصل مع الحقيقة في شيء. وقد تسيء هذه الشائعات ايضا إلى أمن وسلامة البلاد.
تنويم القوانين وايقاظها:
في 13/ 4/83 أرسل أمين عام وزارة الدفاع خطابا رقم 7/4/1/1/1/1/11562 إلى المدعي العسكري العام يقول فيه أن ما نشره الفريق الشاذلي في كتابه عن حرب اكتوبر، وما نشره الفريق اول فوزي في كتابه عن حرب الاستنزاف يحوي معلومات سرية محظور نشرها إلا بتصديق مسبق من مدير المخابرات الحربية، كأن نشر هذين الكتابين يضر بأمن وسلامة البلاد. والذي يثير التعجب والسخرية هو أن الفريق الشاذلي قدم للمحاكمة في حين أن الفريق اول فوزي لم يقدم للمحاكمة.
إن إفشـاء أسرار الدولة هو جريمة بشعة تخل بشـرف صاحـبها وتوجب احتقار من يرتكبها من كل مواطن شريف. ولذلك فإن تجميع كل ما يتـعلق بتوصيفها وإقامة الدعوى على من يُتهم بها ثم الحكم عليه في يد شخص واحد هو اهدار للعدالة. وحيث أن جميع هذه السلطات يملكها وزير الحربية. وحـيث أن رئيس الجمهورية هو الذي يعين وزير الحـربية ويعزله. فإن ذلك يعني أن رئيس الجمهورية يجـمع في يده سلطات تشريعية وقضائية بالإضافة إلى سلطاته التنفيذية، وهو ما تتنافى مع روح الدستور. ولإصلاح هذه الأوضاع فإني أطالب بأن يكون التعريف الدقيق لهذه الجـريمة من اختصاص مجلس الشعب. وأن تنحصر مهمة السلطة التنفيذية في إقامـة الدعوى ضد من تعتقد انه أفشى اسرارا عسكرية. ثم يكون بعد ذلك القضـاء الطبيعي هو الجهة المختصـة بالحكم في أي دعوى سواء بالإدانة أم البراءة.
وان الأخذ بهذا الاقتراح - وهو المتبع في الدول الديمقراطية- سوف يقضي على فوضـه التفسيرات المتناقضة التي تصدر عن السلطة التنفيذية.
الحرب مدرسة لأولي الألباب:
الحرب عملية باهظة التكلفة، وتكلفتها لا تقاس بمجموع ما يتم إنفاقه خلال فترة العمليات الحربية وما تتحمله الدولة من خسائر بشرية ومادية خـلالها. بل يضاف إليها ما تنفقه الدولة على قواتها المسلحة خلال سنوات السلم لتجهيزها وتدريبها. وما يتم إنفاقه لتأمين الشعب ضد اخطار الحـرب عند اندلاعها. ونتائج كل حرب هي التي تحدد مدى نجاح الدولة في تدبير شئونها العسكرية، من حيث التسليح والتدريب وترشيد الإنفاق، الخ. ولذلك فإن الدروس المستفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن لأنها تكون رصيدا للدولة اذا ما اشتركت في حرب اخرى. بل أن كل الدول تسعى للحصول على الدروس المستفادة من الحروب التي لم تشارك فيها.
وهذه الدروس المستفادة لا يمكن التوصل إليها إلا اذا عرفت الأخطاء التي ارتكبت بواسطة أحد الأطراف المتنازعة وأدت إلى هزيمته أو أدت إلى وضعه في موقف صعب. وإن اكـتفاءنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خلال حرب أكتوبر وعدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدى قادة الأجيال التالية شعورا بالتفوق الزائف، الذي قد يؤدي إلى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم واجدادهم. ولذلك فإنه يجب علينا أن نعترف بأنه رغم النجاح الباهر الذي حققناه بعبورنا قناة السويس وتدميرنا لخط بارليف في 18 ساعة. فقد ارتكبنا سلسلة من الأخطاء. أن تطوير الهجوم يوم 14/10 كـان قرارا خاطئا وهو الذي أدى إلى وقوع الثغرة ليلة 15/16 أكتوبر. وإن عدم المناورة بقواتنا المدرعة واستغلال خفة حركتها لكي تتصدى للقوات المدرعة الإسرائيلية التي عبرت إلى الغرب كان تصرفا خـاطئا. فقد كان يجب علينا أن نناور بقواتنا حتى يمكننا حشد القوات بالحجم المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. وإن إصرار السادات ووسائل الإعلام الحكومية المصرية على وصف ثغرة الدفرسوار بأنها معركة تليفزيونية هو وصف ديماجوجي ومضلل.
إن هذه الحرب المجيدة التي خاضتها قواتنا في أكتوبر 73، أصبحت تدرس الآن في كثير من الأكاديميات العسكرية. وانهم يشيدون في تلك المعاهد التعليمية بعملية العبور العظيم يوم 6 أكتوبر. ولكنهم في الوقت نفسه يوجهون اللوم للقيادة العامة للقوات المسلحة المصرية لأنها لم تطبق مبدا المناورة بالقوات بالسرعة التي تتطلبها ظروف المعركة. وقد ذهب أحد الخبراء العسكريين الأجانب الذين دعتهم الحكومة المصرية عام 1975 للمشاركة في ندوة أكتوبر إلى وصف القيادة المصرية بالشلل. وانه لمن المؤسف حقا أن الإعلام المصري وكتاب السلطة في مصر يعلنون ويؤكدون لأبنائنا بأنه لم يكن في الإمكان احسن مما كان، وان ضربة الطيران -تزلفا إلى الرئيس حسني مبارك- هي السبب الرئيسي للنصر. مع أن الحقيقة المرة هي أن القوات الجوية كانت احدى نقاط الضعف الرئيسية في قواتنا المسلحة. والاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني هجومـا أو نقدا لرئيس الجمهورية الذي كان يشـغل حينئذ منصب قائد القوات الجـوية. فلم يكن حسني مبارك في ذلك الوقت هو صـاحب الكلمة العليا في اختيار الطائرة أو في تخصيص الميزانية الكافية للقوات الجوية. وبالتالي فإن ضعف قواتنا الجوية هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق الشعب والقيادة السياسية. ولكن بالرغم من ضعف قواتنا الجوية- مقارنة بالقوات الجوية الإسرائيلية- فقد أظهر بعض الطيارين بطولات وشجاعة. ولكن هذه البطولات الفردية كانت تضيع في زخم أي معركة جوية بين طائراتنا وطائرات العدو.
أهل الكهف ومفهوم الإسرار
أن من يدعي بأن ما جـاء في مذكرات الشاذلي عن حرب اكتوبر يعتبر افشاء للاسرار العسكرية هو واحد من اثنين: إما منافق وإما جاهل. فاما المنافق فالله وحده هو الذي يعلم ما في السرائر، وقد امرنا الدين الحنيف إلا نحكم على الناس ألا بظاهر ما يعملون. فقد قال تعالى"يا أيها الذين اَمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن إثم. ولاتجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه. واتقوا الله. إن الله توابٌ رحيم" (الحجرات /12). وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "أمرت أن احكم على الناس حسب الظواهر، وأن اترك السرائر لله"، وانطلاقا من هذه التشريعات الإلهية فإننا نفترض أن الجهل هو الذي أوقع بعض الناس في خطا الخلط بين ما يمكن أن يعتبر سرا وبين ما هو ليس بسر.
والجهل لا يعتبر نقيصة اذا كان نتيجـة سبب خارج عن ارادة الإنسان. واذكر بهذه المناسبة حديثا طريفا دار بيني وبين أحد شيوخ القبائل في اليمن عام 1965. كنت في ذلك الوقت قائدا للواء الأول مشاة الذي يتمركز في منطقة الجوف التي تقع في الركن الشمالي الشرقي لليمن. ومنطقة الجوف هذه هي التي تلتقي حدودها مع حدود المملكة العربية السعودية حيث تمتد الصحراء ذات الرمال الناعمة وحيث تنعدم الأمطار. ويعتمد الناس في هذه المنطقة على عدد محدود من الآبار. وعجبت لأمر هؤلاء الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة حيث لا زراعة ولا تجارة ولا صناعة ولا أي مصدر للرزق وزارني في مركز قيادتي أحد شيوخ المنطقة، فسألته: ما الذي يدفعكم للبقاء في هذه المنطقة القاحلة
التي لا ماء فيها ولا زرع ولا حتى شجر تستظلون به؟ وكانت المفاجأة عندما قال "نحن قطاع طريق. إن طريق قوافل الحج من الجنوب إلى الحجاز تمر عبر أراضينا. واننا نفرض عليهم الإتاوات في مقابل السماح لهم بالعبور أو نستحل أموالهم إذا لم يدفعوا. وما نحصله في موسم الحج يكفينا طوال العام..". ثم تطرق الحديث بعد ذلك عن احوالهم المعيشية فقال "والله اليمن كانت افضل بلاد العالم إلى أن جيتـم انتم يا مصريين فخربتم الديار!!"، فعجبت لهذا القول وسألته: هل زرت مصر قبل ذلك فأجاب بالنفي، فسألته: وهل زرت أي بلد آخر خارج اليمن فأجاب بالنفي ايضا. فقلت له "وكيف تعرف إذن انها افضل بلاد العالم اذا كان اليمن، هو كل العالم بالنسبة لك. لقد زرت بلادا كثيرة أقول لك أن اليمن هي اكثر البلاد تخلفا من بين كل ما زرته من بلاد العالم"، وعندما خلوت بنفسي تساءلت: ما ذنب هذا الرجل؟ إن العالم بالنسبة إليه هو اكل الثريد واللحم ومعاشرة النساء ومضغ القات. وكل ذلك ميسور لديه بفضل ما يحصل عليه من مال حرام. وإذا كنا نحن نعتبر أن ما يحصل عليه من إتاوات يفرضها على الحجاج هو عمل غير أخلاقي، فإنه لا يعتبره كذلك. بل انه يعتبره حقا مشروعا له نظير حمايته لهم اثناء عبورهم الديار.
والجهل لا يُعتبر نقيصة إذا شب الإنسان في مجتمع مغلق تسيطر فيه الدولة على وسائل الإعلام والثقافة. مجتمع لا يسمع فيه المرء إلا ما يريد له الحاكم أن يسمعه ولا يقرأ فيه الفرد إلا ما يريد له الحاكم أن يقرأه. فينشأ كالإنسان الآلي يتصرف طبقا للبرنامج الذي وضعه الحاكم. فهو عندما يتكلم أو يتصرف إنما يردد- من حيث لا يدري- صوت و أوامر سيده الذي برمجه.
الجهل لا يعتبر نقيصة بالنسبة لأهل الكهف الذين نامت عقولهم مائة عام أو اكثر أو اقل. فمنهم من لم يعرف السيارة ومنهم من لم يعرف الطائرة ومنهم من لم يعرف التليفون، ومنهم من لم يعرف التليفزيون، ومنهم من لم يعرف الأقمار الصناعية ومنهم من لم يسمع عن الصواريخ ارض ارض التي تسبح في الفضاء قاطعة اكثر من عشرة ألاف كيلومتر وانه يتم توجيهها اثناء مسارها بواسطة الأقمار الصناعية لتصل في النهاية إلى الهدف المحدد لها بدقة متناهية، وانها تحمل خلال هذه الرحلة قنبلة نووية قوة تفجيرها تعادل مليون ومائتي ألف طن من المتفجرات (حوالي 60 مرة قوة تفجـير القنبلة التي القيت على هيروشيما في أغسـطس 1945)، وأن أقصى خطا محتمل بعد هذه الرحلة الطويلة هو 100 متر. أي أن أقصى خطأ هو 1 سنتيمتر عن كل كـيلو متر ومنهم من لم يسمع عن أن اقمار الإنذار المبكر Early Warning Satellite الامريكية كانت خلال حرب الخليج عام 1991 ترصد عملية اطلاق الصواريخ أرض-أرض العراقية من طراز الحسين فور اطلاقها، ثم تبـعث بها إلى المحطة الأرضية الأمريكية في نارونجار Narrungar في استراليا، فتقوم بدورها بإرسالها إلى مواقع الصواريخ الأمريكيـة المضادة للصواريخ باتريوت Patriot التي تتمركز في السعودية عبر اقمار الاتصال. وكل ذلك يتم بطريقة أوتوماتيكية في اقل من ثانية !!
ولكن الجهل يعتبر نقيصة اذا أصر أهل الكهف -الذين نامت عقولهم طوال هذه السنين- على عدم تصـديقهم لما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم- ويصـرون على أن هذا من عمل الشيطان. هؤلاء إذن هم الجاهلون حقا بمفهوم العصر الذي نعيش فيه. فمن يتصور أن حجم القوات المسلحة ونوعية تسليحها هو سر من أسرار الدولة فهو جاهل لا يريد أن يتعلم. ومن يتصور أن الخطط التي قمنا بتنفيذها في حرب أكتوبر هي سر من أسرار الدولة فهو جاهل لا يريد أن يتعلم. ومن يتصور أن ذكر مواصفات وخصائص بعض الأسلحـة والمعدات التي استخدمناها خلال حرب أكتوبر هو سر من أسرار الدولة فهو جـاهل لا يريد أن يتعلم ولا يريد أن يجاري العصر الذي نعيش فيه.
ما السر العسكري؟
وسوف يقودنا هذا التحليل إلى السؤال المهم والأخـير وهو "وهل يعني ذلك أنه لـيست هناك أسرار عسكرية تجب المحـافظة عليها؟" وأبادر بالإجابة بان هناك أسرارا عسكرية كثيرة تجب المحافظة عليها. ومن الأمثلة على ذلك إنتاج سلاح جديد، أو خطة عسكرية لم تنفذ بعد. فمن المعروف أن إنتاج سلاح جديد Sophisticated مثل الطائرة أو الدبابة أو المدفع يمر بعدة مراحل.
-المرحلة الأولى هي مرحلة الابتكار ووضع التصميمات الخاصة بهذا الابتكار على الورق.
-والمرحلة الثانيـة هي تصنيع عينة من هذا الابتكار وإجراء اخـتبـارات ميدانية عليها للتأكد من مطابقة المواصفات النظرية على إمكانات المنتج ميدانيا.
-المرحلة الثالثة وهي مرحلة الإنتاج المكثف.
-المرحلة الرابعة والأخـيرة فهي توزيع هذا الإنتاج على الوحدات والتشكيلات الميدانية. وهذه المراحل الأربـع تستغرق عادة حوالي عشر سنوات.
فإذا كانت الدولة المنتجة للسلاح تعتمد على نفسها اعتمادا كليا في جميع مراحل الإنتاج دون الحـصول على أية مساعدات فنية من أية دولة أجنبية -هذا لم يكن متيسرا إطلاقا إلا بالنسبة لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق- فإنها يمكن أن تخفي عن الطرف الآخر المنافس المرحلتين الأولى والثانيـة. وهذا يعني إحـراز السبق في مجـال الإنتـاج بحوالي 5 سنوات. ولكن بمجـرد بدء الإنتـاج ووصول أعداد قليلة من المنتج إلى التشكيلات العسكرية للتدريب عليه، فإن وسائل الرصد المعادية تصبح قادرة على تصويره وتحديد مواصفاته وأسلوب استخدامه. وتصل المعلومات عن السلاح إلى ذروتها بعد أن تتم متـابعته خـلال المشاريع التدريبية والمناورات وتبقى بعـد ذلك حلقة واحدة وأخيرة وهي متابعة نتيجة اشتراك هذا السلاح في الحرب أو الحصول على عينة من هذا السلاح سواء بالاستيلاء عليه في حرب أم بإغراء بعض العملاء على الهروب به، أم بتهريب الوثائق السرية التي تتعلق بالتصنيع والصيانة والاستخدام والقيود التي تتعلق بالسلاح.
وتحرص الدول المنتجة للسلاح على ألا تبيع الأجـيال الحديثة من سلاحها إلى الدول الأجنبية إلا اذا كانت متأكدة من صداقة هذه الدول. وكانت على قناعة تامة بان هذه الدول الأجنبية لن تفشي أسرار هذه الأسلحة إلى أي طرف ثالث. حيث أن افشاء الأسرار التي تكون مازالت غير معروفة عن هذا السلاح، يمكن أن يسبب اضرارا كـبيرة ليس بالنسـبة للدولة المنتجة للسلاح فحسب. بل لجميع الدول الصديقة التي تكون قد حصلت على هذا السلاح من الدولة المنتجة.كذلك فإن الخطط الهجومية والدفاعية التي تقوم الدولة بإعدادها قبل الحرب تعتبر من اسرار الدولة، ولكنها تفقد سريتها عندما يتم تنفيذها على ارض المعركة. واذا كانت وسائل الرصد الحديثة لا تستطيع أن ترصد النوايا التي يحتفظ بها القائد في صدره، فهناك بعض التصرفات التي يمكن أن توحي بهذه النوايا وهنا تبرز اهمية القيام بعمليات الخـداع والتضليل التي ترمي إلى إيهام الخصم بالنية إلى عمل شيء ثم القيام بعمل شيء اَخر. ولاشك أن ما قامت به قواتنا المسلحة من عمليات خداع وتضليل
قبل أن تشن هجومها يوم 6 اكتوبر يعتبر مثلا رائعا لذلك. أما دول العالم الثالث التي تستورد التكنولوجيا أو بعضها من الخارج والتي تعتمد على تشغيل الخبراء الأجانب في إنتاج الأسلحة فإنها تجد صعوبة كبيرة في المحافظة على سرية انتاج الأسلحـة المتطورة ولعل العراق هو البلد الوحيد من بين تلك الدول الذي نجح في تحقيق ذلك بدرجة تثير الإعجاب فقد نجح قبل عام 1990، في إنشاء مصانـع لإنتاج الغازات، وانتاج صواريخ ارض ارض (صاروخ الحسين 650 كم وصاروخ العباس 850 كم) وإنتاج مدافع مختلفة الأعيرة وكان قاب قوسين أو أدنى من إنتاج القنبلة النووية. وإنتاج اضخم مدفع في العالم، وقد تم كل ذلك في سرية تامة. ولكن يجب أن نعترف بان الظروف الدولية كانت مواتية، وان العراق احسن استغلال تلك الظروف الدولية. فمن المؤكد أن وسائل الرصد الأمريكي كانت تعلم بمراحل انتاج العراق للغازات السامة في أوائل الثمانينيات ولكنها كانت تغض الطرف عن ذلك حتى يتمكن العراق من صد المد الإسلامي الذي ينبعث من إيران، والذي كان يهدد بسقوط الأنظمة العربية الموالية للغرب وبعد توقف الحرب الإيرانية عام 1988 واندلاع حرب الخليج الثانية عام 1990، انتهزت الولايات المتحـدة الفرصة لكي تقوم بتدمير الترسانة العسكرية العراقية. فكانت المنشآت النووية، ومصانع الغازات وإنتاج الصواريخ هي الأهداف ذات الأسبقية الأولى لقصف القوات الجوية الأمريكية. وخلاصـة القول إن مساحـة المعلومات التي يمكن للدولة أن تحيطها بسيـاج من السرية أصبحت تضيق عاما بعد عام. كما أن الأفعال ليست كلها ذات طبيعة واحده فمنها ما يعتبر سرا وهو في مرحلة التحضير ثم يفقد الفعل سريته بمجرد التنفيذ. مثال ذلك استعانة مصر بطيارين سوفيت في الدفاع الجوي عن مصر عام 70 والاستعانة بطيارين كـوريين في الدفاع الجوي عام 73. فقد تمت المفاوضات لتحقيق ذلك في الحالتين في سرية تامة. ولكن بمجرد إقلاع الطيارين بطائراتهم من القواعد الجوية المصـرية التي يتمركزون فيها، وتبادلهم الحديث باللغة الروسية أو الكورية، فإن هذا الفعل فقد سريته. وبالتالي فإن القاضي الذي يوكل إليه الحكم في قضية إفشاء أسرار يجب أن يكون متفتحا وذا أفق واسع وعلى دراية تامة بتطور إمكانات الرصد في العالم. وأن يفرق بين ما إذا كان هذا السر هو سر الحاكم والحكومة، أم أنه يعتبر سرا من أسرار الدولة. وأن إفشاء هذا السر يعرض أمن وسلامة الدولة للخطر.
رأي رجال القانون
استطلعت الصحفية سوسن أبو حسين رأي رجـال القانون فيما يمكن أن يعتبره القاضي سرا من أسرار الدولة، ونشرت ذلك عام 1994 في كتاب لها اسمته "سعد الشاذلي: قصتي مع السادات" وقد وردت في هذا الكتاب شهادة كل من الدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب، والدكتورة سعاد الشرقاوي أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق جامعة القاهرة، والدكتور محمود عاطف ألبنا استاذ القانون الدستوري بجامعـة القاهرة والدكتور محمد عصفور المحامي المشهور وأستاذ القانون الدستوري.
يقول الدكـتور فتحي سرور إذا كـان نشر الأسرار يؤدي إلى الإضرار بمصـالح الشعب فمن واجب الشعب نفسه أن يطالب بعدم نشرها لأنه صـاحب السيـادة العليا والمصلحة العامـة. أما إذا كـانت هناك قضـايا سياسـية معينة ويريد الشعب معرفتها فهذه تتعلق بمصداقية المسـئول في قراراته، ومصارحته للشـعب بالحقائق لاتدخل في باب الأسرار. إن تحديد مفهوم اسرار الدولة من الموضوعات الدقيقة التي تتطلب وضعها في ميزان التوازن بين حق الإنسان في المعرفة وفقا لمبدأ الحريات وبين الحفاظ على النظام العام والمصلحة العامة".
وتقول الدكتورة سعاد الشرقاوي "إن إخفاء الحـقائق والأسرار عن الشعب يعتبر انتهاكا دستوريا، لأن حق المعرفة والاطلاع مكفول للجميع في كافة القوانين الدستورية على المستوى الدولي". أمامنا مثال واضح حدث مع الرئيس الأمريكي السابق نيكسون عندما رفض تسليم وثائق قضية ووترجيت للجنة التحقيق بحجـة انها ضمن أسرار الدولة، ثم صـدر الحكم من المحكمة العليا بضرورة تسليمه وثائق القضيـة، إلا انه رفض الحكم واستقال. وهذا يؤكد حق الشعب والراي العام في معرفة الحقائق.
ويقول الدكتور محـمود عاطف البنا "إن تحديد مفهوم أسرار الدولـة تحكمه عدة مبادئ وتوجهات من الصعب تحديدها. فهو يخضع لحالات متعددة، منها تفسـير كل قانون لمفهوم السرية، والذي يتأثر بدوره بالنظام السياسي لكل دولة ومدى احترامها للحقوق والحريات أو إغفالها. ففي النظم الديمقراطية الحرة والأكثر ليبرالية وتسامحا مع حق النشر والمعرفة يختلف تحديد مفهوم السرية عنه في النظم الشموليـة التي تتوسع في اعتبار أشياء كثيرة جداً من أسرار الدولة، وهي في حقيقة الأمر ليست من الأسرار في شيء".
أما الدكـتور عصفور فقد كان اكثر صراحة وتحديدا في إجـاباته عن أسئلة الصحـفية المذكورة. فهو يعقب على رأي الدكتور سرور بقوله إنه لا يوجد في القانون ما يسمى بفكرة التوازنات، وان هناك نصـوصاً واضحـة لا يمكن مخـالفتها بأي حال. إن مصلحـة الشعب الأساسية تكون في حصوله على حق الحرية والمعرفة، وانه لا يوجد أي تطابق بين مصالح الشعب ومصلحة النظام. كما أن رأي الدكتور سرور الحالي عن فكرة التوازنات يختلف تماما عما ذكره في كتابه الشرعية الجنائية.
وعن سؤال عن الوقائع التي يمكن أن تعتبرها القوات المسلحة إفشاء لأسرارها العسكرية أجاب الدكتور عصفور"الأسرار العسكرية الحـقيقيـة هي خطة الحرب، والإجـراءات والتشكيلات والوسائل الدفاعية التي لم يتم تنفيذها بالفعل. ويعتبر إفشاؤها جريمة تستحق الإعدام. أما إذا كانت هذه الوقائع العسكرية قد تداولها البعض في معركة تمت وانتهت سواء كانت نتائجها الفشل أم النجاح، فمن المستحيل- بل من العبث- أن نقول عنها إنها أسرار. إذا كـانت كل الأسلحـة التي لدينا نحصل عليـها من مصـادر خـارجيـة، وكل من أمريكا وإسرائيل على علم بها. فكيف نخدع انفسنا ونضحك على بعضنا البعض ونقول إن هذه هي أسرار؟! هذا التلاعب بالألفاظ هو مجرد هراء".
وعن سؤال حول محاكمة الفريق الشـاذلي أجاب الدكتور عصفور إن محاكمة الفريق الشاذلي كانت خطأ كبيرا. لأن المحاكمة تمت على أساس غير قانوني، ولم تكتمل اركانها كما انه لا توجد أية وقائع في كتابه تثبت انه أفشى اسرارا عسكرية. ولا أتصور ابدا انه عندما ينتقد تصرفات بعض القادة- كوصفه لوزير الحربية احمد إسماعيل بأنه ضعيف الشخصية ومتردد- أن يكون هذا ضمن الأسرار العسكرية. وجريمة الشـاذلي انه لم يحصل على إذن مسبق لكتابة مذكراته. وفي رأيي أن الإذن المسبق على النشر يعد مخالفة دستورية، وان الفريق الشـاذلي استخـدم حقه في حـرية الفكر والرأي المكفول له قانونا. وهذا هو الطريق الذي يجب أن يلتزم به الجميع في كتابة مذكراتهم. وإذا رأت وزارة الدفاع أن ما كتب يضر بمصالحها وأمن وسلامة الدولة فلها أن تلجـأ إلى القضاء المستقل ليكون الحد الفاصل بين اسرار الدولة وأسرار الحكومة. ولابد أن نصحح مرة اخرى لمن لا يعرف إن إفشـاء السرية يجب أن يكون مقصورا على اعطاء معلومات للعدو عن معركة قادمة، ومن الممكن أن يستفيد العدو بهذه المعلومات ويضر بأمن وسلامة البلاد. أما المعارك التي تمت فمن العبث القول بأن العدو سوف يستفيد منها".
وعن رأيه في المحـاكم العسكرية أجاب الدكتور عصفور "المفروض أن يحـدد القاضي (يقصد القاضي الطبيـعي) ما السر، وما طبيعته. وهل يترتب على إفشائه الاضرار بمصلحة الدولة أم لا. ومن الطبيـعي أن يعود ذلك لتقدير القاضي. ولكن عندما تُعرض هذه القضايا أمام المجالس العسكرية فإن الميزان يختل. لماذا؟ لأن السلطة للقائد الذي يأمر بتـشكيل المجلس العسكري. ولا يوجـد بالمجـالس العسكرية قضاة بالمعنى الصحيح. إن القضـاء العسكري يلجأ عادة إلى الالتزام بأوامر السلطة التنفيذية وليس لتقدير القاضي".
وعن أسرار الدولة التي تتعلق بالسياسـة الخارجية أجاب الدكتور عصفور "في الدول الديمقراطية لايمكن أن يستغل بند السرية الطريقة نفسها التي نوظف بها هذا البند في مصر. إن ما يحدث في مصر هو قليل من كثير من المخالفات الصارخة التي يرتكـبها نظام الحكم تحت غطاء السرية كـوسيلة لحمـاية عوراته. وعلى سبيل المثال فإن السادات قد أخفى عن مجلس الشعب الملاحق الخـاصة باتفاقية كـمب ديفيد. وبالتالي فإن الرئيس السادات خدع الشعب ولم يصارحـه بالحقائق الكاملة في الاتفاقـية، حيث إن ملاحقها فيها قدر كـبير من الانتقاص من سيادة الدولة وحريتها. وهذا هو الفرق بين أسرار الدولة وأسـرار الحكومة. فماذا لو استطاع أحد الأشخاص الحصول على هذه الملاحق ونشرها. هل تعتبر هذه الوقائع إفشاء لأسرار الدولة؟ بكل تاكيد لا. بل إن من يخـفيها عن الشعب هو الذي يقع تحت طائلة القانون ويعاقب عليها بتهمة الخداع والغش.
بماذا تحكم أيها القارئ؟
في أوائل الستينيات كنت اشغل منصب الملحق الحربي بسفارة مصر في لندن. وكان التليفزيون البريطاني يعرض من وقت لآخر برنامج بماذا تحكم The Verdict Is Yours . كان التليفزيون البريطانـي ينقل خلال هذا البرنامج صورة حية من إحدى المحـاكم في قضية من القضايا التي تشغل الرأي العام البريطاني. وكان هذا البرنامج يجتذب اهتمام كل الناس حيث يشاهدون ويستمعون إلى مرافعات الادعاء والدفاع ومناقشة الشهود في أقوالهم إلخ. وقبل أن يصدر القاضي حكمه في نهاية الجلسة يكون كل فرد من المشاهدين قد توصل بينه وبين نفسه إلى قناعة بما يجب أن يكون عليه الحكم العـادل في هذه القضية. فيكون ذلك بمثابة رقابة شعبية على عدالة المحـاكمة. وقد كنت احرص كل الحرص إثناء وجودي في لندن على مشاهدة هذا البرنامج وكنت من المعجبين به. وحيث أن المحكمة العسكرية قد اصدرت حكمها غيابيا بتاريخ 16/7/83 على مؤلف هذا الكتاب بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات بتهمة افشاء اسرار عسكرية. فقد طالبت عند عودتي إلى الوطن بتاريخ 14/3/1992 بأن تعاد محاكمتي وان تكون المحاكمة علنية أدافع فيها عن نفسي تجاه هذه التهمة الظالمة. ولكن هذا الطلب رفض فتقدمت باستشكال في تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة العسكرية امام محكمة امن الدولة العليـا التي اصدرت حكمـها بتاريخ 13/8/92 بإيقاف تنفيذ الحكم الصادر من المحـكمة العسكرية العليا. وقد جاء في حيثيات الحكم ما يلي: "إن الحكم المستشكل في تنفيذه تجرد من أركانه الأساسية ومقومات وجوده كحكم، واصبح هو والعدم سواء بسواء. فإن الاستمرار في تنفيذه وبقاء المحكوم عليه مودعا بالسجن على ذمته يعد تعطيـلا لحقوقه الأساسية وما كفله له الدستور من ضمانات واعتداء صـارخا على حريتـه". وفي 17/8/ 92 (أي بعد أربعة أيام من صدور حكم محكمة امن الدولة العليا كان من بينها يوما الخميس والجمعة) انعقدت محكمة عسكرية عليـا بناء على طلب من النيابة العامة العسكرية، واصـدرت في نفس اليوم حكما جـديدا باستمرار تنفيذ العقوبة المحكوم بها من المحكمة العسكرية العليا بتاريخ 16/7/83 .
والآن عزيزي القارئ بعد أن قرأت كتابي عن حرب أكتوبر، وبعد أن قرأت هذا الفصل عن أسرار الدولة واسرار الحكومة. هل تعتقد أن الفريق الشاذلي أفشى أسراراً عسكرية؟ إن رأيك أهم عندي من حكم القضاة. فالقضـاة بشر منهم الصالح الذي لايخشي في كلمة الحق لومة لائم. ومنهم الطالح الذي يخضع لجـبروت السلطة الدنيوية فيشتري الحياة الدنيا بالآخرة. وقد قال عنهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في حديث شـريف "قاض في الجنة وقاضـيان في النار". وحسبنا الله. ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون.
 
الفصل التاسع والثلاثون: تطوير الهجوم نحو المضايق
"لا يستطيع أي جيش في العالم أن يدعي أنه كان باستطاعته أن يفعل افضل مما فعله المصريون في تخطيط وإدارة واقتحام قناة السويس. أما القرار باستغلال النجاح فكان خطأ جسيما. ولنتذكر جيدا أن أحد العوامل الرئيسية في الخطة المصرية ، كان هو الاعتراف بالتفوق الكبير للسلاح الجوي الإسرائيلي والتفوق المساوي له تقريبا في حرب المدرعات المتحركة" .
كتاب هيكل عن حرب اكتوبر
في أواخر عام 1993، نشر الأستاذ محمد حسنين هيكل كتابه "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة". الذي أثار ضجة كبيرة نظرا لما يتمتع به الأستاذ هيكل من شهرة كـبيرة. وقد علقت على هذا الكتـاب باستفاضـة، ونشر هذا التعليق في صحيفـة الأهالي الأسبوعية في ثلاث حلقات كانت كل منها تغطي صفحـة كاملة من الصحيفة، وكان ذلك في الأيام 19 من يناير، و 26 من يناير، و 2 من فبراير 94. كما قامت مجلة المجلة التي تصدر في لندن بنشر ملخص لهذا التعليق في عددها رقم 739 بتاريخ 10 ابريل 1994. وفي 21 من مارس 1995 نشرت صحيفة الشعب تعليقا لي أوضح فيه ما ورد في كتـاب هيكل عن تطوير هجومنا نحو المضايق يوم 14 اكتوبر 1973. وحيث أني كنت و أنا اكـتب هذه التعليقات أفترض أن القارىء لم يقرأ كتابي هذا عن حرب اكتوبر، فقد كنت مضطرا إلى أن اذكر في هذه التعليقات الكثير من الأحداث التي لاشك أن القارىء قد أصبح ملما بها بعد قراءته للفصول السابقة في كتابي هذا، وبالتالي فليس هناك من داع إلى تكرارها. وسوف اكـتفي بالإشارة إليها إذا دعت الضرورة إلى ذلك . وفي هذا الفصل سوف أناقش فقط ما أثير حـول تطوير هجوم قواتنا نحو المضايق. والأسئلة المطروحة للمناقشة هي:
* هل كان من ضمن نوايانا قبل بدء العمليات أن نصل بقواتنا إلى المضايق؟
* هل كان في استطاعة قواتنا أن تصل إلى المضايق بعد نجاحها في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف؟
يقول هيكل إن الخطة التي دخلنا بها الحرب كانت تتضمن الوصول بقواتنا إلى المضايق. وهو يعتمد في هذه المعلومـة على شهادة المشير عبد الغني الجمسي الذي كان يشغل خلال حرب اكتوبر منصب رئيس هيئة العمليات برتبة لواء. وكـان هذا المنصب يضع الجمسي في الترتيب الثالث في الهرم القيادي بعد الفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة والفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة. ومرة اخرى يقول هيكل في كتابه إن قواتنا كان في استطاعتها أن تتقدم إلى الممرات بعد نجاحها في العبور. وهو يستند في ذلك إلى ثلاثة مصـادر. المصدر الأول هو مجموعة من الخبراء في مركز دراسات الأهرام كانت ترى انه كان يجب علينا أن نبدا في تطوير هجومنا نحو المضـايق يوم 7 أو 8 أكتوبر.
المصدر الثاني هو ما سمعه من السفير السوفيتي يوم 9 من أكتوبر. والمصدر الثالث والأخير هو ما جاء في كـتاب الجمسي "يوميات حرب أكتوبر" الذي نشر عام 1992، والذي يقول فيه إنه كان من الممكن أن يتم تطوير الهجوم نحو المضايق بنجاح لو أنه تم يوم 9 أو 10 من أكتوبر. ومع احترامي لوجهة نظر الأستاذ هيكل، فإن هذا الرد لا يرقى إلى الحقيقـة التاريخية. فالحقائق التاريخية في الحروب لا تتأكد إلا من خلال ثلاثة مصادر المصدر الأول هو الوثائق الرسمية التي لاتثار الشكوك حول تزييفها، وإجماع الشهود أو الغالبية العظمى من الشهود الأقرب إلى المعلومة التي يدور البحث حولها، و إجماع الخبراء أو اتفاق الغالبية العظمى منهم على صحة المعلومة نتيجة التحليل السياسي والعسكري في الوقت والتاريخ الذي أثيرت فيه هذه المعلومـة. ويؤسفني جـدا أن أقول إن الأستاذ هيكل تجاهل تماما تلك المصادر الثلاثة عندما تحدث عن موضوع تطوير هجومنا نحو المضايق.
الوثائق الرسميةعلى الرغم من أن الأستـاذ هيكل نشر في كتابه المذكور 142 وثيقة. إلا أنه لم تكن بين هذا الكم الهائل من الوثائق الوثيقة التي أصدرتها القيادة العامة إلى قادة الجيوش قبل بدء العمليـات ولو تم نشر هذه الوثيقة لعلم العامة والخاصة انه لم يكن من ضمن خطتنا أن تتقدم قواتنا نحو المضايق سواء يوم 9 من أكتوبر أم 10 من أكتوبر أم قبل ذلك أم بعده. أما لماذا لم تتضمن الخطـة عمليـة تطوير هجـومنا نحو المضـايق فإن ذلك يرجع إلى أسباب عسكرية كثيرة أهمها هو ضعف قواتنا الجوية وعدم توافر صواريخ مضادة للطائرات خفيفة الحركة تستطيع مرافقة قواتنا البرية المتقدمة وحمايتها ضد هجمات العدو الجوية (راجع الفصول 4,3,2 من هذا الكتاب).
لقد نجحت قواتنا البرية في اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف بينما كانت كتائب صواريخ الدفاع الجوي من طراز سـام 2، سام 3 تحمي سماء قواتنا المهاجمـة من مواقعها الثابتة غرب القناة وكانت هذه الصواريخ توفر لقواتنا الحماية ضد هجمات العدو الجوية حتى مسـافة 10- 15 كيلومتراً شـرقي القناة. وحيث إن احتلال المضايق كـان يحتم علينا التقدم عبر سيناء حوالي 50 كيلومترا، فإن التقدم عبر هذه المسافة دون حماية جوية ودون توافر وسائل الدفاع الجوي الذاتي الحركة (تتحرك على جـنزير وترافق القوات البرية إثناء تحركـها) سوف يعرض قواتنا البرية للتدمير بواسطة القوات الجوية المعادية. حيث إن المعركة في هذه الحالة ستكون معركة غير متكافئة، بل معركة من جانب واحد: معركة بين قوات جوية تملك قدرات هائلة للتدمير وبين قوات برية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد هذه الهجمات.
ومع ذلك فيجب أن اعترف بان القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية قد قامت بإصدار وثيقة مزورة قبل الحرب، وكان ذلك بناء على أوامر القيادة السياسية. كان الهدف من هذه الوثيقة المزورة هو إقناع السوريين بدخول الحـرب إلى جانبنا في المعركة القادمة، وذلك باخطارهم بأن هدف القوات المسلحـة المصرية هو الوصول إلى المضـايق وليس التوقف على مسافة 10-15 كيلومتراً شرق القناة كما في الخطة الأصلية . ( ذكرت هذه المعلومة في الفصل الرابـع من هذا الكتاب. كما أشرت إليها في تعليقي على كتاب هيكل، وتم نشرها بصحـيفة الأهالي في 19 من يناير 1994)، وهذه الوثيقة المزورة لم تكن ابدا تمثل نوايانا الحقيقية، ويؤكد ذلك ما يلي:-
1- فيما عدا الجمسي، فأن أكـثر الناس معرفة بالخطة و أهدافنا- كـما سيرد ذكرهم فـيما بعد- ينكرون أن الوصول إلى المضايق كان هو هدف القوات المسلحة.
2- لم تشمل الخرائط التي عرضت على السوريين التوقيتـات التي يبدأ فيها التحرك نحو المضايق بعد نجـاح العبور، والتوقيتـات التي تصل فيها قواتنا إلى المضايق، بل أكتُفي بالقول بأنه بعد وقفة تعبوية تستأنف قواتنا تقدمها نحو المضايق. وكما سبق أن قلت فإن التعبير العسكري وقفة تعبوية يعني التوقف إلى أن تتغير الظروف التي أدت إلى هذا التوقف وقد تكون الوقفة التعبوية عدة أسابيع أو عدة شهور أو اكثر. ويختلف ذلك اختلافـا جذريا مع المشـاريع الاستراتيجية التي كنا نتدرب عليها خـلال السنوات 68-72. فقد كنا خلالها نحتل المضايق في اليوم السابع ونحرر سيناء في اليوم الثاني عشـر. وكان يظهر على تلك الخـرائط ما تحققه قواتنا كل يوم. وإن عدم اتباع هذا الأسلوب بالنسـبة للخطة التي تقضي باحتلال المضـايق يؤكد أننا لم نكـن جادين في تنفيذ هذه المرحلة.
3- تصدر عن كل خطة وثيقة رئيسية تبين الهدف والقوات الرئيسية التي تكلف بتنفيذ هذه الخطة والتوقيتـات التي يتم فيها تحـقيق هذه الأهداف. ثم تصـدر بعد ذلك عشرات الوثائق الفرعية توضح قرارات قادة الوحدات المرؤوسة وتنظيم التعاون بينها الخ.. وإن عدم إصدار تلك الوثائق الفرعية بالنسبة لمرحلة التقدم للمضايق يؤكد مرة اخرى اننا لم نكن جادين في تنفيذ هذه المرحلة.
فإذا نحن تركنا هذه الوثيقة المزورة رجعنا إلى الوثائق الحقيقية، فإننا نجد تناقضا كبيرا مع تلك الوثيقة المزورة. يقول التوجيه الذي أصدره الرئيس السادات إلى الفريق أول احمد إسماعيل ما يلي "الهدف الاستراتيجي للقوات المسلحة هو تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي. وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانات القوات المسلحة، يكون هدفه الحاق اكبر قدر من الخسائر بالعدو واقناعه بأن مواصلة احتلاله أراضينا يفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه. وبالتالي فإن نظريته في الأمن- على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري- ليست درعا من الفولاذ يحميه لا في المدى القريب ولا في المدى البعيد (كتاب البحث عن الذات ص 441).
إن جوهر الخطة الأصلية التي تم وضعها والتصديق عليها في شهر أغسطس 1971 -أي قبل أن يعين الجمسي رئيسا لهيئة العمليات، وقبل أن يعين احمد اسماعيل قائدا عاما للقوات المسلحة- كان هو أن نفرض على اسرائيل الحرب بأسلوب يختلف اختلافا جذريا عما تعودت عليه في جميع حروبها السابقة. اذ أنها كانت تتفادى الهجوم بالمواجـهة وتلجا إلى عمليات الالتفاف ومهاجمة قواتنا من الخلف فإذا نحن توقفنا شرق القناة بحوالي 10-15 كيلومترا واستند خطنا الدفاعي على البحر الأبيض شمالا وخليج السويس جنوبا فإنه سيصبح من المستحيل تطويق هذا الخط وبالتالي فإننا سنضع اسرائيل امام خيارين كلاهما مر بالنسبة لإسرائيل وكلاهما حلو بالنسبة لنا. الخيار الأول هو أن تهاجم مواقعنا الدفاعية بالمواجهة وسوف يتيح لنا ذلك الفرصة لأن نكبد إسرائيل خسـائر فادحة في الأفراد، وهذا هو المقتل الأول لإسرائيل، أما الخيار الآخر فهو عزوف إسرائيل عن الهجوم فتطول فترة الحرب لعدة اشهر دون أن يكون في استطاعتها إنهاء التعبئة العامة، وبذلك تستنزف قوتها الاقتصادية. وهذا هو المقتل الثاني لإسرائيل (راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب).
مما تقدم يتضح أن الوثيقة الخاصة بالتوجيه الذي أصدره السادات إلى القائد العام. والوثيقة الخاصة بالخطة الأصلية. وأن اصدار عشرات الوثائق الفرعية عن مرحلة العبور وعدم اصدار وثائق فرعية تتعلق بالتقدم إلى المضايق. كل ذلك يؤكد أن التوقف عند مسافة 10-15 كيلومترا شرق القناة كان هو هدفنا النهائي في أكتوبر 73. بل أن السادات ذكر في كتابه "البحث عن الذات" في صفحة 329 ما يلي "في حياة عبد الناصر كنت أقول له على سبيل المبالغة اننا لو أخذنا حتى عشرة سنتيمترات في سيناء ووقفنا فيها ولم ننسحب، فسوف يتغير الموقف شرقا وغربا وكل شيء. وبناء على هذا وضعت توجيهي الاستراتيجي وقلت للقوات المسلحة في فبراير 73، إن الذي يكسب الأربعة والعشرين ساعة الأولى سوف يكسب الحرب".
يقول الفريق اول محمد فوزي في كتابه "حرب الثلاث سنوات" 1983 إنه جهز خطة هجومية هدفها تحرير سيناء على أن يبدا تنفيذها فور انتهاء فترة ايقاف النيران في 17/ 10/ 1970. وكان من المفترض أن يصدق عليها الرئيس عبد الناصر في الأسبوع الأول من سبتمبر. ولكن احداثا اخرى شغلت عبد الناصر عن التصديق على الخطة ثم وافته المنية قبل أن يصدق على الخطة (ص 210). ويقول في نفس المرجع انه أدار مشروعا تدريبيـا لاختيار خطة تحرير سيناء، كان هذا المشروع بدأ يوم 14/3/71 وانتهى يوم 25/3/71 وتأكد من خلاله امكان تحرير سيناء خلال مدة 12 يوما (ص 366).
وبناء على طلب اللواء حسن البدري -رئيس لجنة كتابة تاريخ حرب أكتوبر- تحدد يوم 12 ابريل 1994 لإجراء لقاء بيني وبين الفريق اول محمد فوزي لبحث الخلاف بين ما سبق أن قلته في كتابي بأنه عندما عينت رئيسا للأركان فإنه لم تكن هناك خطة هجومية (راجع الفصل الثاني). وبين ما يقوله الفريق اول فوزي بأنه كانت هناك خطة هجومية. وقد حضر هذا اللقاء كل من اللواء حسن البدري واللواء عبد المنعم خليل. وفي هذا اللقاء سألت الفريق اول فوزي عن الشخص الذي كانت بعهدته وثائق هذه الخطة حتى يمكن سؤاله عن مصير هذه الوثاثق، فاجـاب بأنه كان يخشى تسليم الوثائق لأي أحد حتى لاتفقد سريتها. وهذه الإجابة تؤكد ما قلته بأنه لم تكن هناك أي خطة هجومية عندمـا توليت رئاسـة الأركان. وإن ما ذكره فوزي ليس إلا افكـارا كانت مازالت حبيسة في صدره وفي بعض الأوراق الخاصة به.
تطوير الهجوم نحو المضايق، صفحه رقم 272
ويقول الجمسـي في مذكراته "في مصر ظهرت بعض المذكرات والكتب تقول بأنه كانت هناك الخطة 200 التي وضعت عام 1970 لتحرير سيناء في 12 يوما إلا أن الظروف في ذلك الوقت لم تسمح لتنفيذها. ولقد ظهر اسم هذه الخطة والغرض منها في مذكرات أحد القادة العسكريين المصريين السابقين (يقصد الفريق أول فوزي). ومن هنا نقلت إلى مذكرات وكتب اخرى. وسوف يسـجل التاريخ أن الخطة 200 كـانت خطة دفاعية عن منطقة قناة السويس وضعت بعد حرب 1967، واشتركت في وضعها عندما كنت أعمل رئيسا لأركان جبهة قناة السويس في ذلك الوقت. ووثائقها موجودة في وزارة الدفاع " (مذكرات الجمســــي ص 302). وهكذا يؤكد الجمسي مـا قلته بأنه لم تكن هناك أي خطة هجوميـة عندما توليت رئاسـة الأركان في مايو 1971.
ويؤكد أمين هويدي -وزير الدفاع الأسبق ورئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق، والذي كان من المقربين لجمال عبد الناصر- تشككه في أقوال الفريق أول فوزي، فيقول في اجتماع تم مساء يوم 30/9/70 في مكتب وزير الحربية الفريق أول فوزي وحضره كل من السادة محمود رياض وزير الخارجية، و شعراوي جمعة وزير الداخلية، وحافظ اسماعيل رئيس اركـان المخابرات العامة، وسامي شرف وزير الدولة لشـئون رئاسـة الجمهورية، ومحـمد حسنين هيكل وزير الإرشـاد، و أمين هويدي وزير الدولة، للوصول إلى قرار بشان تجديد قرار وقف إطلاق النار الذي كان ينتهي في 17/ 10/ 1970. وقد سئل الفريق فوزي هل يناسبك من الناحيـة العسكرية أن تبدأ القتال على الفور، ام انك تفضل أن يتاح لك المزيد من الوقت والاستعداد؟ فرد على الفور: إذا منحت فرصـة شهرين آخرين فإني أظن أن موقفي سيكون احسن. إذ ستكون بطاريات الصواريخ في مصر العليا قد استقرت في موضـعها وسأشعـر بمزيد من الأمن. وعلى أي حـال أنا جندي. وإذا صدر لي أمر مكتوب فإني سأنفذ ما تطلبه القيادة السياسية" . ويستطرد أمين هويدي فيقول وعلى اثر ذلك تقرر مد إيقاف إطلاق النار. ولم يعرض في هذا الاجتماع موضوع خطة 200 أو جـرانيت أو عبور قناة السويس. كل ما كان معروضا هو استئناف حرب الاستنزاف مرة اخرى. ولم تكن قواتنـا المسلحة مسـتعدة لذلك في هذا الوقت، لأن الصعيد باكمله كـان مكشوفا ضد الغارات المعادية (أمين هويدي: الفرص الضائعة ص 328، و 329).
شهادة الشهود
يتفق كل البـاحثين على أن الوثيقة هي المصدر الرئيسي للحقيقة. ولكن حيث إن تزوير بعض الوثائق هو احتمال وارد لايمكن استبعاده فإن إجماع الشهود أو الغالبية العظمى منهم على صـحة الوثيقـة وصحة مـا ورد فيها من معلومـات لابد أن يضيف بعدا جديدا للحقيقة. وعندما نتكلم عن الشهود فإننا نعني بذلك الأشخاص الذين تسمح لهم مناصبهم بأن يلموا بالمعلومة التي يدور البحث حول صحـتها من عدمها.وإذا نحن طبـقنا ذلك علىالمعلومة الخاصة بتطوير هجومنا نحو المضايق. فإننا نجد أن اكثر الناس الماما بهذه المعلومة
هم الآتون بعد حسب رتبهم ومناصبهم في أكتوبر عام 73:
الرئيس انـور السـادات.. رئيـس الجمهـوريـة
فريق أول احمد إسماعيل علي.. القائد العام للقـوات المسلحة
فـريق سعد الشـاذلي.. رئيس أركان حرب القوات المسلحة
لواء عبد الغنى الجمسـي ..رئيـس هيئة العمليات
لواء محمد علي فهمي.. قائد قـوات الدفـاع الجوي
لواء محمد حسني مـبارك.. قـائد القـوات الجـوية
لواء فـؤاد زكـري.. قـائد القـوات البحـرية
لواء سـعد مـأمـون.، قـائد الجـيش الثـاني
لواء عبد المنعـم واصـل.. قـائـد الجيش الثـالـث
وفيما عدا اللواء عبد الغني الجمسي، فلم يذكر أحد من الثمانية الآخرين أن التقدم إلى المضايق كان ضمن نوايانا في حرب أكتوبر. وبالإضافة إلى الأسماء المذكورة فقد كان هناك شخصان اَخران قريبان من تلك المجموعة أدليا برأيهما في هذا الموضوع. أولهما هو السيد حافظ اسماعيل مستشار رئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي واَخرهما هو المشير أبو غزالة.
يقول السيد/ حافظ اسماعيل في كتابه "أمن مصر القومي في عصر التحديات" تحت عنوان "10- 13 أكتوبر، وقفة تعبوية"، ما يلي "كانت قواتنا خلال المرحلة التي انتهت قد اتمت تحقيق الهدف المباشر. وكنت من خلال احاديثى مع الفريق أول احمد إسماعيل قبل نشوب الحرب أدرك انه لا ينوي التقدم حتى الممرات الجبلية وان ما جاء في تعليمات عمليات القيادة العامة بان الهدف هو احتلال المضايق. انما قُصد به حث القيادات الصغرى خلال مرحلة بناء رؤوس الكباري على استمرار التقدم حتى الهدف المباشر" (محـمد حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ الطبعة الأولى ص 323).
ويقول حافظ إسماعيل انه في الساعة الأولى من صباح يوم 21 من أكتوبر استدعاه الرئيس السـادات، حيث ابلغه انه قرر طلب وقف إطلاق النار غير المشروط بالانسـحاب الإسرائيلي (المؤلف: لاحظ أيها القاري أن هذا التوقيت يعني أنه فعل ذلك بعد أن حـضر مؤتمر القيادة في المركـز 10 والذي امتد حتى منتصف الليل كما جاء في الفصل الرابع والثـلاثين تحت عنوان "استدعاء رئيس الجمهورية إلى المركز 10"). ويستطرد حـافظ إسماعيل فيقول: إن الموقف العسكري كـان يحتم ضرورة تخفيف القوات في الشرق حتى يمكن توفير القوات اللازمة- وخاصة المدرعة- للعمل ضد الثغرة في الغرب. إلا أن الرئيس رفض أي اقتراح بسحب قوات من الشرق إلى الغرب (المرجع السابق ص 345).
ويستطرد حـافظ إسماعيل في سرده للأحداث فيقول: إن تقييم السادات للموقف كما شرحـه لمساعدي الرئيس ونواب رئيس الوزراء ومستشـار الأمن القومي بعد قرار مجلسى الأمن بوقف إطلاق النار اننا خسرنا يوم 14 أكـتوبر220 دبابة. وكـانت هذه المعركـة هي المقدمة للاختراق الإسرائيلي في منطقة الدفرسوار. وأوضح أننا دخلنا الحـرب لإقناع إسرائيل بأن الحـرب لا تحل المشكلات وإننا كسبنا الاحـترام بدلا من احتقار العالم لنا. ثم أضاف بأننا لا نستطيع تحرير سيناء عسكريا"0(المرجع السابق ص 348).
وعن انفراد السادات بالقرارات السياسية والعسكرية يقول حافظ إسماعيل في الصفحة 360 من المرجع السابق "لقد اختار السادات أن يواجه الموقف وحـده. إذ انه اتخذ وحده من قبل قرارات مصيرية متـعددة. وربما لم يجد ضـرورة الآن وحدة الأزمة تتصاعد أن يدعو رفاقه ومعاونيه. واختار أن يجتاز الأزمة وحده.
لقد اختـار أن يكون صاحب النصر عندما ننتصر. وهو الآن يرفض إلا أن يكون المسئول عن تحول المعركة (المؤلف: هذا ليس بصحيح.. فإنه أراد أن يلقي بمسئوليـة أخطائه على الفريق سعد الشاذلي كما جاء في كتابه البحث عن الذات).
كان وزير الدفاع الأسـبق المشير أبو غزالة ضابطا برتبـة عميد إبان حرب أكـتوبر وكان يشغل منصب قائد مدفعية الجيش الثاني، وإذا كان هذا المنصب لم يكن يؤهله لكي يعرف كل أسرار الحـرب.. إلا انه من المؤكد أنه كـان يؤهله لمعـرفة بعض الأسـرار التي على مستوى الجيش. فلو افترضنا أن القيادة العامة للقوات المسلحة كان في نيتها تطوير هجوم قواتنا يوم 9 من اكتوبر كما ذكر الجمسي فإنه كـان يتحتم عليها إخطار قادة الجيوش المنوط بهم تنفيذ هذه النوايا. واذا افترضنا أن اللواء سعد مامون قـائد الجيش الثاني كـان يعلم بهذه النوايا فمن المؤكد انه كان سيطلع قائد مدفعيته العميد أبو غزالة بذلك. وفي حديث له مع مجلة روز اليوسف نشر بتاريخ 26/3/ 94- ورغم استخدامه لغة دبلوماسية رفيعة- قام أبو غزالة بنقد شهادة الجمسي على أنها غير مقبولة وغير منطقية.
يقول أبو غزالة "ولايعقل أن تكون أفكار القيادة العامة غير معلومة لقادة الجيوش حتى تكون الجيوش مستعدة لتنفيذ هذه الأفكار. ولقد ذكر لي كثير من القادة انهم لم يعلموا بأن هناك نية للتطوير إلا يوم 12 أكتوبر. وكان بهدف تخفيف الضغط عن سوريا أساسا. وأنا لا أقول هذا إن ما قاله الجمسي ليس صحيحا فهو رأي ولاشك سليم. ولكن كان يجب أن يكون معلوما للقادة والقوات حتى تكون على استعداد تام لتنفيذ المهمة بكفاءة".
وبشهادة كل من حافظ إسماعيل، وأبو غزالة تصبح شهادة الجمسي هي النشاز الوحيد بين كل ما أدلى به القادة حـول موضوع تطوير الهجوم نحو المضايق. ترى مـا الذي دفع الجمسي إلى هذه الشهادة التي لم يؤيده فيها شخص مسئول واحد؟! ثم ما هي الأسباب التي دفعت هيكل إلى أن يتغاضى عن شهادة عشرات المسئولين ويتبنى من دونهم جميعا شهادة الجمسي؟! ترى هل كان لرسالة السادات إلى كيسنجر يوم 7 من أكتوبر تأثير كبير على أفكار وآراء هيكل اكثر مما يجب؟! وانه وجـد في رأي الجمسي ما يستند إليـه لتأكيد أفكاره وشكوكه في السادات؟!.
رأي الخبراء
استعرض أمين هويدي ما جاء في تصريحـات السادات وفي كتابه البحث عن الذات وما جاء في كـتاب الشاذلي وما جاء في كتاب الجمسي وما جاء من تصريحـات الفريق أول أحمد إسماعيل للصحافة قبل وفاته، وأضاف إلى ذلك توزيع القوات أثناء عملية عبور قناة السويس وانتهى في نهاية ذلك إلى القول بان كل ذلك يثبت صدق ما ذهب إليه الشاذلي من أن الخطة لم تهدف على الإطلاق احـتلال خط المضايق (أمين هويدي/ الفرص الضائعة ص 330- 339). ثم يستطرد بعد ذلك فيقول "وعلينا أن نلاحظ على السـادات انه كان يتبع الازدواجية في قراراته.. أي أن معظم قراراته كانت تآمرية بحيث يوافق على القرار ويصدره ولكنه ينفذ قرارا آخر حـتى ولو تم ذلك من وراء مسـاعديه. وانه عندما اجتمـع مع حافظ الأسد في برج العرب في إبريل 73 وأيقن أن الأسد لن يقاتل إلى جانبه مـا لم يكن الهدف المشترك هو تحرير سيناء والجولان بالضغط المتزامن على إسرائيل، فإن السادات باعه خطة جرانيت 2 (الوصول بقواتنا إلى المضايق)، بينما كان ينوي تنفيذ خطة المآذن العالية. ثم يصل هويدي في استنتاجه إلى أن السادات كان يلعب على الأسد وان الأسد كان يلعب على السادات (عندما اتصل بالاتحاد السوفيتي بعد بداية القتال لاتخاذ قرار بإيقاف النيران دون علم السادات).. أي أن الرئيسان كانا يلعبان على بعضهما البعض وليس مع بعضهما البعض (نفس المرجع السابق ص 349 و350).
انعقدت في القاهرة في الفترة ما بين 27 و 31 من اكتوبر 1975، ندوة دولية عن حرب أكتوبر شارك فيها 185 خبيرا اجنبيا ينتمون إلى 50 دولة. وقد قدم هؤلاء الخبراء 11 بحثا قيما تناولوا فيها جميع جوانب حـرب أكتوبر. وقد أشارت جميع هذه البحوث بعملية العبور الرائعة التي قامت بها قواتنا المسلحة. ولكنهم في نفس الوقت وجـهوا نقدا لاذعا للقيـادة العامة للقوات المسلحـة إزاء تصرفاتها تجاه موضوعين رئيسيين: الأول هو تطوير هجومنا نحـو المضايق. والأخير هو اسلوب التعامل مح الثغرة، وقد جاء في تعليق الخبير الأمريكي الكولونيل تريفور دي بوي ما يلي:
"لا يستطيع أي جيش في العالم أن يدعي أنه كـأن باستطاعتـه أن يفعل أفضل مما فعله المصريون في تخطيط وإدارة اقتحام قناة السويس. أما القرار باستغلال النجاح والتقدم نحو المضايق فقد كان خطأ جـسيماً. ولنتذكر جيدا أن أحد العوامل الرئيسية في الخطة المصرية، كان هو الاعتراف بالتفوق الكبير للسـلاح الجوي الإسرائيلي، والتفوق المساوي له تقريبا في حرب المدرعات الخفيفة. لقد واجه قائدان مهمان في التاريخ نفس المشكلة التي واجهت المشير احمد إسماعيل أحدهما هو الجنرال الأمريكي اندرو جـاكسون في موقعه نيو اورليانز عام 1815، فقد حقق نصرا دفاعيا ضد افضل قوات الجيش البريطاني. وبعد ذلك رفض بحكمة التحـول للمطاردة بعد أن اتضح له انها ربما تطيح بالنصر الذي أحـرزه. نفس الشيء أيضا فعله الجنرال مونتجومري في معركـة علم حلفا عام 1942. إذ رفض بحـذر إعطاء روميل فرصة للهجوم المضاد وتحويل هزيمته إلى انتصار. وعلى ذلك أقول إن أي هجوم مصري في 9 و10 من أكتوبر، أو بعد هذا التاريخ كان سيلقي نفس المصير الذي انتهى إليه الهجوم المصري يوم 14 أكتوبر، حتى وان لم يكن سيحسم بنفس الطريقة".
قد يقول قائل ولماذا نفترض صـحة رأي الخبراء الأجانب. وله الحق في ذلك إذا كان رأي الخبير الأجنبي يتعارض مع العلم العـسكري ومع المنطق ومع إجماع آراء الخبراء الوطنيين؟ أما إذا كـان رأي الخبراء الأجانب مؤيدا لوجهة نظر الغالبية العظمى من الخبراء الوطنين، ومع العلم العسكري، فإن رأيهم في هذه الحـالة يعتبر دعما إضـافيا لصحـة رأي القادة والخبراء الوطنيين.
يقول هيكل إنه شكل في الأهرام مـا أطلق عليه "المركز رقم 11"، وإن هذا المركز كـان يضم اللواء طلعت حسن علي ومصطفي الجمل وحسن البدري. وأن هذا المركز كـان مكلفا بمتابعة مجرى العمليات عن بعد متـحررين من ضغوط المعركة وأن يبعثوا بما يعن لهم إلى القيادة العامة للقوات المسلحـة (هيكل أكتوبر 73 ص 437) إن مؤسسة الأهرام حرة في أن تنشئ مركزاً للدراسات الاستراتيجـية وان تطلق عليه ما تشـاء من الأسماء ولكن مع احترامي لهؤلاء الأشـخاص الذين جاء ذكرهم، ومع اعترافي بأنهم من خيرة الضابط إلا أنه لايمكن اعتـبار هذا المركز التابع للأهرام بديلا عن المركز 10 التابع للقيـادة العامـة للقوات المسلحة أو موازيا له. وماذا لو قامت مؤسسة اخـبار اليوم بإنشاء مركز مثيل. ثم ماذا لو تصورنا في ظل التعددية الحزبية الحالية أن صحيفة الشعب التـابعة لحزب العمل المعارض قامت هي الأخرى بإنشاء مركز مثيل!! إن هذه المراكز مهما تعددت ومهما ضمت من ضباط ممتازين فإنها ستكون دائما في حاجة ماسة إلى المعلومات التي تتغير يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة والتي لايمكن متابعتها الا من خلال مركز القيادة الرئيسي التابع للقوات المسلحة والذي كان يطلق عليه المركز 10.
وإني أذكر أن اللواء مصطفي الجمل قد زارنا في المركز 10 واقترح أن نقوم بتطوير هجومنا نحو المضـايق. ولكنه لقي معارضة ورفضا من كل من الفريق اول أحمد إسماعيل ومن الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان. وقد أوضحت له بنفسي الأسباب التي تدعو إلى ذلك. وإن رفض الأخذ بتوصية اللواء مصطفي الجمل لاتعني- حاشا لله- الاستخفاف بها.. ولكنها كـانت تعني ببساطة شديدة انه هو وزملاؤه في مركز دراسات الأهرام لم يكونوا على دراية كاملة بموقف قواتنا وقوات العدو في اللحظة التي تقدم فيها باقتراحه.
يتبنى هيكل في كتابه الرأي القائل بأن قواتنا المسلحـة كانت لديها القدرة على التقدم إلى المضايق يوم 9 من اكـتوبر ولكنها لم تفعل ذلك. ويستشهد هيكل على صحة مـا يقول بما سمعه من السفير السوفيتي فينوجراسرف والجنرال السوفيتي ساماخودسكي في الساعات الأولى من يوم 9 من اكتوبر (هيكل/ أكتوبر 73 ص 392 و 393). ويبدو أن هيكل قد وقع في خطا التصور بان صور الأقمار الصناعية السـوفيتية كانت تصب اولا بأول في السفارة السوفيتية، وأن خريطة الموقف التي شاهدها عند الجنرال ساماخودسكي كانت تبين توزيع قواتنا وقوات العدو حتى آخر لحظة.. حيث أن ذلك هو ابعد ما يكون عن الحقيقة. فقد كانت صور الأقمار السوفيتية تصل إلينا من موسكو برفقة ضابط سوفيـتي حيث تسلم مباشرة إلى المركز 10، أما الجنرال ساماخردسكي فقد كـان يزورنا في المركز 10 مرة في كل يوم لكي يحصل منا على المعلومات التي طرأت على الجـبهة خلال الأربـع والعشـرين ساعة السابقة.
وبالتالي فإن توصية السفير السوفيتي بتطوير هجومنا نحو المضايق يوم 9 من أكتوبر تتساوى مع توصية مركز الدراسات الاستراتيجية في كونها تفتقر إلى المعلومات الصحيحة. وقد حصـل هيكل على هذه الإجابة من الفريق سعد الدين الشاذلي عندما اتصل به الساعة الثالثة صباح يوم 9 من أكتوبر، كما حصل على نفس الإجابة من الفريق اول أحمد إسماعيل عندما اتصل به بعد ذلك بثلاث ساعات (المرجع السابق ص 394)
تخفيف الضغط عن سوريا
حيث إن السادات لم يعلن قط أن الهدف الذي حدده للقوات المسلحة قبل الحرب كان هو الوصول إلى المضايق، وحـيث أنه هو نفسه الذي أمر يوم 12 من أكتوبر بالتطوير نحـو المضايق. وحيث إن هجومنا نحو المضايق يوم 14 من اكتوبر- تنفيذا لقرار السادات وعلى الرغم من المعارضـة الشديدة من القادة العسكريين- قـد فشل فشلا ذريعا. فإن السادات لجأ إلى تبرير هذا القرار الخـاطىء بان الغرض منه كـان هو تخفيف الضـغط عن الجبهة السـورية. وهذا الادعاء هو اكذوبة كبرى من أكاذيب السـادات الكثيرة وقد سبق لي أن أوضحت تلك بالتفصيل في الفصل الثالث والثلاثين وهناك ثلاث حقائق تؤكد عدم مصداقية هذا التبرير وهي:
الحقيقة الأولى هي ما ذكره السادات لهيكل مسـاء 11 من أكتوبر إذ قال "أنا مرتاح للموقف في سوريا. السوريين تمكنوا من تثبيت الجبهة. والإمدادات تتدفق عليهم من الاتحاد السوفيتي، وقد وصلتهم اليوم حمولة 40 طائرة (يقصد طائرات انتنوف 22 حمولة كل منها 80 طنا). احمد إسماعيل أول ما دخل كان عاوز يقول لي إن السـوريين استطاعوا تثبيت الهجوم المضاد الإسرائيلي، فقلت له يا أحمد أنا عارف قبل ما تقول لي وأنا مطمئن " (هيكل/ أكتوبر 73 ص 427). فإذا كان هذا هو رأي السادات مساء 11، فما الذي دفعه إلى إصدار الأمر صباح يوم 12 بالتطوير بحجة تخفيف الضغط عن الجبهة السورية ما الذي حدث خلال العشر ساعات السابقة لاتخاذه هذا القرار؟
الحقيقة الثانية هي لغة الأرقام. ففي يوم 12 من أكتوبر كان تحت تصرف قيادة الجبهة السورية 13 لواء مدرع عربي (8 سوري، 3 عراقي، 1 أردني، 1مغربي) في مقابل 6 الوية مدرعة إسرائيلي. نعم كـانت الألوية المدرعة العربية قد تحملت بعض الخسائر، ولكن إذا أضفنا إلى عدد الدبابات الأسلحـة المضـادة للدبابات، فإن قدرة سوريا على صد الهجـوم المضاد الإسرائيلية كانت مؤكدة، بل إن الموقف النسبي بين سوريا واسرائيل على الجبهة السورية كـان افضل بكثير من الموقف النسبي بين مصر واسرائيل على الجبهة المصرية، حيث كانت إسرائيل تحشد 8 الوية مدرعة في مواجهة 10 الوية مدرعة مصرية (اللواء المدرع الإسرائيلي 120 دبابة اما اللواء المدرع العربي فهو 90 دبابة).
أما الحقيقة الثالثة والأخيرة فإنه طبقا لأصول العلم العسكري، وما تتمتع به إسرائيل من موقع مركزي بين الجبهتين المصرية والسورية مما يمكنها من العمل على خطوط داخلية، واضطرار الجبهتين المصرية والسورية إلى العمل في خطوط خـارجية، وابتعاد الجبهتين عن بعضهما حوالي 250 كيلومترا، والتفوق الجـوي الإسرائيلي الساحق. فإن كل من الجـبهة المصرية أو الجبهة الشرقية لا تستطيع أن تخفف الضغط عن الأخرى، وقد أوضحت ذلك في تقرير قدمته بصفتي الأمين العام المسـاعد العسكـري للجامعة العربية إلى مجلس الدفاع العربي المشترك في دورته الثانية عشرة عام 71.
فإذا علمنا انه لم يحدث على الجبهة السورية أي تغيير خلال العشر ساعات التي سبقت اتخاذ السادات القرار الخاص بتطوير هجوم قواتنا نحو المضايق. وإذا افترضنا- كما تؤكد الأحداث وطبقا لما جاء في حـديث السـادات مسـاء يوم 11- أن الجـبهة السورية كـانت متماسكة وابعد ما تكون عن الانهيار. واذا افترضنا أن القائد العام أحـمد إسماعيل لابد انه اخطر السادات بالمخاطر التي سوف تجابه قواتنا إثناء تحـركها، ويبدو ذلك جليا من الحديث الذي أدلى به احمد إسماعيل إلى هيكل بعـد الحرب يوم 14 نوفمبر 1973. إذا افترضنا كل ذلك فإنه يتـحتم علينا أن نجـيب عن السؤال المهم الذي يفرض نفسـه وهو: "لماذا إذن اتخذ السادات هذا القرار؟". لقد ذهب خصوم السادات إلى حد اتهامه بالخيـانة وانه كان عميلا للمخابرات الأمريكية.وأنه كان يتقاضى راتبا شهريا من CIA عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية. وهم يستندون في ذلك على ما نشر في الصحف الأجنبية عام 1978، ثم ما أكده الصـحفي الأمريكي بوب ودورد Bob Woodward في كتابه الذي نشر في أغسطس 1987 (The Secret Wars of the CIA, Page 352) ، والذي يعطي لهذا الكتاب الأخير اهمية خاصة هو انه صدر بناء على أحاديث أجراها بوب ودورد مع المستر Caesy مدير وكالة المخابرات الأمريكية.
أما من ناحيتي فأني اعتقد أن ذلك كان يرجع إلى شوفينية كاذبة تولدت وتعظمت لدى السادات بعد نجاح قواتنا في عبور قناة السويس كرد فعل لما عاناه في طفولته البـائسة. ويبدو ذلك جليا لمن يقارن بين ما جاء في كـتابه البحث عن الذات. وبين حديثـه مع هيكل مساء 11 أكتوبر 73. فهو يصف طفولته في كتاب البحث عن الذات "كنت أسير خلف جدتي صبيـا اسمر ضئيل الجسم حافي القدمين يرتدي جلبابا تحته قميص من البفتـة لا تفارق عيناه زلعة العسل. ذلك الكنز الذي استطعنا الحصول عليه أخيرا (ص 11) وهو يشرح في الصفحـات التالية كيف كان يخرج في الفجر ليشتغل بالطنبور في ري الأرض، وكيف كان ياخذ البهائم إلى الترعة لتشرب. وانه عندما ذهب إلى المدرسة الثانوية عرف معنى الطبقة والفوارق وأنه كان يعيش تحت خط الفقر". أما في حديثه مع هيكل مساء يوم 11 أكتوبر فإنه يقول "بعثت اليوم للبكر (يقصد الرئيس العراقي حسن البكر) أطلب منه السماح باستخدام طيارة الردع تي يو من بغداد ضد اسرائيل بعث البكر يقول لي حاضر. حكمتك يارب. كل الناس في العالم العربي بياخدوا مني دلوقتي أوامر. أقول أي شيء يقولوا حاضر يا أفندم". ولنا أن نتصور ما يمكن أن يحـدثه هذا التطور الهائل في حـيـاة وتفكير هذا الشخص. لابد أن شيـاطين الجن والإنس -قد يكشف لنا المستقبل عمن هم شياطين الإنس الذين تكالبوا عليه مساء يوم 11 أكتوبر- قد قالوا له "إن نجاح القوات المسلحة المصرية في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف قد جعل منك بطلا مصرياً. فلماذا لا تستغل هذا الموقف لكي تصبح بطلا عربيا كصلاح الدين وغيره من القادة الأبطال؟.
وإذا علمنا أن السـادات لم يخدم بالقوات المسلحـة سوى ثلاث سنوات في الأربعينيات. وانه ليس بقاريء وليس له أي ثقافة عسكرية. وانه لم يتول أي قيادة ميدانية فإننا لا نتجنى عليه إذا وصـفناه بالجهل. وإذا اجتمعت الشوفينية والجهل في شـخص ما فهي لابد تؤدي إلى الكوارث. ولاشك أن علماء النفس هم اقدر مني على تحليل شـخصـية السـادات والتوصل إلى الأسباب الحقيقية التي دفعته لاتخاذ قرار التطوير الخاطئ وذلك إذا افترضنا استبعاد اتهامه بالخيانة.
الصواريخ المضادة للطائراتالمشير محمد علي فهمي كان إبان حرب أكتوبر برتبة لواء وكـان قائدا لقوات الدفاع الجوي. وقد أبلت قوات الدفاع الجوي بلاء حسنا خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973. ونظرا لضعف قواتنا الجوية التي من المفترض أنها تتحمل نصيبا من مسئولية الدفاع الجوي، فقد كانت نتيجـة ذلك زيادة الحمل الملقى على عاتق قوات الدفاع الجوي، والذين عاشوا في مصر عام 1970 يعرفون ملحـمة بناء قوات الدفاع الجوي، فبنهاية عام 1969 كان الدفاع الجوي قد انهار تماما واصبحت الطائرات الإسرائيلية تقوم بغارات شبه يومية لا على الأهداف العسكرية فحسـب بل على الأهداف المدنيـة في العمق أيضـا (راجع الفصل العاشر).
وسافر جمال عبد الناصـر إلى موسكو في يناير 70 وطلب من الاتحـاد السوفيتي أن يشاركوا بقواتهم في الدفاع الجوي عن مصر. واستجاب الروس لطلب عبد الناصر وبدأت الامدادات الروسية تصل إلى مصر خـلال فبراير ومارس، وبحلول شهر ابريل كـانت الوحدات السوفيتيـة قد اصبحت جاهزة للقيام بمهامها القتـالية. وقد بلغ عدد أفراد الوحدات السوفيتية في مصر حينئذ 6000 فرد، وكانت تشمل ما يلي :-
- 80 طائرة ميج 21 بأطقمها
- 37 كتيبة صواريخ سام 2، سام 3 بأطقمها
- فوج صواريخ سام 6.
- 4 طائرات ميج 25 بأطقمها
- 1 سرب استطلاع وإعاقة إلكتروني
- 1 وحدة سمالطا يمكنها إعاقة جهاز التوجيه في صواريخ هوك الإسرائيلية
- 1 وحدة تاكان يمكنها إعاقة أجهزة التوجيه في الطائرات المعادية
- مجموعة رادارات مختلفة الأنواع
كانت صواريخ سام 2 وسام 3 من النوع الثقيل الذي يستخدم في الدفاع الثابت وتحتاج إلى بناء قواعد وملاجئ من الخرسانة المسلحة. كان العدو يشن هجمات يومية على المهندسين والعمال الذين يقومون ببناء هذه الملاجئ وفيما بين يناير وابريل 1970 بلغ مجموع الغارات الجوية الإسرائيلية 3300 طلعة أسقط خلالها 8800 طن من المتفجرات، سقط خـلالها بضعة الاف من القتلى كان غالبيتهم من العمال الذين يقومون ببناء قواعد الصواريخ. وفي أواخر يونيو بدأ تحرك كتائب الصواريخ من القاهرة في اتجاه القناة كان التحرك يتم على وثبات، وفي خلال أسبوعين وصل حائط الصواريخ إلى خط يقع حوالي 20 كيلومترا غرب القناة.
وفي عام 1977 نشر محمد علي فهمي كتابه "القوة الرابعة، تاريخ الدفاع الجوي في مصر". ولم يدع في كتابه أن التقدم نحو المضايق كان هو هدف القوات المسلحة في خطة الحرب ولكنه كان حريصا على ألا تتحمل قيادة قوات الدفاع الجوي مسئولية عدم إدراج التطوير في الخطة. وان عدم توافر كتائب الصواريخ خفيفة الحركة مثل سام- 6 باعداد كافية كان هو أحد الأسباب الرئيسية لذلك. وهو يدافع عن وجهة نظره هذه بالنقاط التالية:
- تم إدخال تعديلات فنية على التنظيم والمعدات والتدريب لتسهيل عملية التحرك والاستبانه حتى اصبح من الممكن تجهيز موقع قاعدة الصواريخ في عدة ساعات (المؤلف: لم يذكر الأخ محمد علي فهمي عدد هذه الساعات ولكن على ما اتذكر فإنها كانت تستغرق ثمان ساعات أثناء التدريب وقت السلم وبدون أي تدخل من العدو. وهي مدة طويلة جدا لا تتناسب مطلقا مع سرعة المعركة الهجومية).
- إن قوات الدفاع الجوي دفعت فعلا عددا من كتائب الصواريخ إلى شرق القناة حينما قررت القيادة العامة للقوات المسلحة تطوير الهجوم شرقا يوم 14 اكتوبر لتخفيف الضغط عن سوريا.
ومع احترامي لوجهة نظر الأخ محمد علي فهمي فأنني أذكره بما يلي:
1- في المؤتمر الذي عقد برئاسة الرئيس السادات في بيته بالجيزة في 2 من يناير 72 قال محمد علي فهمي "مشكلة الدفاع الجوي حاليا أني عاوز أحارب حرب هجومية باسلحة دفاعية. الصواريخ الخفيفة الموجودة عندي من نوع ستريلا وقوتها التدميرية محدودة ومداها لايتعدى كيلو ونصف. السوفيت عندهم نوع متقدم ويمكن غير موجود عند الدول الغربية لأنه محمل على وسيلة نقل مجنزرة ويضرب على الكونتراست ولا يضرب بالانفرارد. بالوسائل الموجودة لا نقدر على توفير دفاع كافي أمام طائرات سكاي هوك وطائرات الفانتوم. ومن ناحية القيادة والسيطرة ليس لديّ وسيلة اتصال مأمونة أثناء التحرك وهذا يضطرني إلى إرسال الإشارات بالشيفرة ومعنى هذا اَخذ 20-30 دقيقة علشان أوصل معلوماتي. العدو عنده امكانات عالية جدا في التصنت والإعاقة والشوشرة اللاسلكية". (المؤلف: يلاحظ أن محمد علي فهمي لم يذكر إطلاقا إمكان استخدام سام 2 وسام 3 في العمليات الهجومية. اننا نذكره بالوقت والخسائر التي تحملتها كتائب الدفاع الجوي إثناء تحركها من منطقة القاهرة وحتى 20 كيلومترا غرب القناة في شهر يونيو 1970- فقد استغرق ذلك حوالي إسبوعين رغم انه كان يتم فوق ارض تسيطر عليها قواتنا البرية سيطرة كاملة، وتستخدم الخطوط التليفونية المؤمنة في القيادة والسيطرة على هذه الكتائب اثناء تحركها واثناء اشتباكها).
2- إن دفع عدد محدود من كتائب الصواريخ إثناء عملية التطوير يوم 14 أكتوبر إلى مسافة حوالي 5 كيلومترات شرق القناة لا ينهض دليلا على اماكن استخدام كتائب سام 2 وسام 3 في العمليات الهجومية، حيث انها كانت تنتقل من مكان تسيطر عليه قواتنا البرية إلى مكان آخر تسيطر عليه ايضا قواتنا البرية. وهذا الوضع يختلف تماما إلى أن هذه الكتائب أن تفتح على مسافة تزيد على 15 كيلومترا شرق القناة.
3- الصواريخ المضادة للطائرات خفيفة الحركة لا تعني مجرد سرعة هذه الصواريخ في الانتقال من موقع مجهز يقع تحت سيطرة قواتنا البرية إلى موقع مجهز يقع ايضا تحت سيطرة قواتنا. بل انها تعني القدرة على القفل والتحرك بعد كل اشتباك حتى تتفادى هجمات طيران العدو ومدفعيته بعد أن يكون قد حدد مواقعها. وبالتالي فانه تكون لها القدرة على مفاجأة طائرات العدو من مواقع متعددة.
4- إن الخسائر الفادحة التي تكبدتها قواتنا البرية اثناء عملية التطوير هي خير شاهد على عدم نجاح كتائب الصواريخ سام 2 وسام 3. كما أن قيام هذه الكتائب بإسقاط عدد من طائراتنا يدل على أن وسائل القيادة والسيطرة لدى تلك الكتائب كانت غير كافية.
5- إذا كان في إمكاننا دفع كتائب صواريخ من طراز سام 2 وسام 3 بمثل هذه السهولة التي يصورها الأخ محمد علي فهمي، فلماذا لم ندفع بكتبية أو اثنتين من تلك الكتائب مع اللواء الأول مشاه عندما كلف بالتحرك ليلة 10/11 إلى سدر حتى لا يتسبب طيران العدو في تشتت اللواء كما حدث؟!.
6- أذكّر الأخ محمد علي فهمي بموقف هذه الكتائب بعد أن نجح العدو في اختراق مواقعنا في منطقة الدفرسوار، وبعد أن اهتزت سيطرتنا على الأرض التي تقع خلف الجيش الثالث حيث تتمركز كتائب الصواريخ. فإن افتقار هذه الكتائب لصفة الحركة قد حدّ كثيرا من فعاليتها.
7- واخيرا فلو أن صواريخ سام 2 وسام 3 يمكن استخدامها في العمليات الهجومية لما كانت هنالك ضرورة لاختراع الصواريخ المضادة للطائرات الهجومية من طراز سام 4 وسام 6 أو من طراز الصواريخ التي طالب بها قائد قوات الدفاع الجوي في المؤتمر الذي عقد بمنزل الرئيس بالجيزة في 2 من يناير 1972.
تقدير الموقف العسكري على الجبهة المصرية
يقول الجمسي في كتابه يوميات حرب اكتوبر "كان من رأيي ضرورة استغلال الموقف لتطوير الهجوم شرقا طبقا للخطة دون أن نتوقف طويلا (يعني بعد العبور) حتى نحرم العدو من فرصة تدعيم مواقعه أمام قواتنا. وقد ناقشت الفريق اول احمد اسماعيل في هذا الموضوع يوم 9 من أكتوبر خلال مقابلتين معه. فوجدت منه الحذر الشديد من سرعة التقدم شرقا. حيث كان يرى الانتظار لتكبيد العدو اكبر خسائر ممكنة من خلال اوضاع قواتنا في رؤوس الكباري قبل استئناف الهجوم. وكان الفريق أول احمد إسماعيل يرى أيضا أن القوات البرية القائمة بالهجوم ستتعرض بشدة للطيران الإسرائيلي في وقت لا تتمكن فيه المقاتلات وصواريخ الدفاع الجوي من توفير الحماية الكافية لها. واوضحت له أن استئناف هجومنا يترتب عليه التحام قواتنا مع قوات العدو، الأمر الذي يجعل تأثير السلاح الجوي المعادي الإسرائيلي اقل. وللحد من تاثير السلاح الجوي المعادي، يجب استغلال طاقة قواتنا الجوية التي اثبتت قدرتها ضد طيران العدو خلال الأيام الأربعة 6-9 اكتوبر. وفضلا عن ذلك فإن صواريخ الدفاع الجوي خفيفة الحركة على الرغم من قلتها إلا إنها مؤثرة وفي الوقت نفسه يمكننا تحريك بعض كتائب صواريخ دفاعنا الجوي بطيئة الحركة على وثبات للامام (الجمسي/ يوميات حرب أكتوبر ص 150 و151). وعلى الرغم من أن التطوير يتعارض تماما مع جوهر الخطة كما سبق أن أسلفنا، وكما اتضح من معارضة أحمد اسماعيل لهذا الرأي. إلا أننا حتى لو افترضنا جدلا بانه حتى لو كان التطوير
مقررا ضمن نوايانا فهل كان الموقف يوم 9 أو الأيام التالية يسمح بهذا التطوير؟ لقد بنى الجمسي رأيه على ثلاثة افتراضات جميعها خاطئة.
1- الافتراض الأول هو أن قواتنا الجوية اثبتت قدرتها ضد طيران العدو خلال الأيام 6-9 أكتوبر، وهذا الافتراض لا يؤيده عدد الاشتباكات الجوية وعدد خسـائر الطرفين نتيجة هذه الاشتباكات.
2- الافتراض الثاني هو قدرة الدفاع الجوي الصاروخي على حماية تقدم قواتنا داخل سيناء وقد سبق أن ناقشت ذلك.
3- الافتراض الأخير هو التحام قواتنا البرية مع قوات العدو البرية للحد من تأثير السلاح الجوي الإسرائيلي. ومع أن هذه التوصية بالالتحام تحمل اعترافا ضمنيا بعدم اطمئنانه إلى قدرة قواتنا الجوية وقوات الدفاع الجوي على حماية قواتنا البرية. إلا أن هذا الافتراض هو ايضا افتراض خاطى لقد كان على قواتنا أن تتقدم حوالي 40-50 كيلومتر، خارج رؤوس الكباري. أي بعيدا عن مظلة الدفاع الجوي الثابته والالتحام الذي يحد من قدرة القوات الجوية الإسرائيلية على التمييز بين دباباتنا ودبابات العدو، يعني الاقتراب منها إلى مسافة 500 متر فأقل. فهل من المعقول أن القوات الجوية الإسرائيلية ستقف موقف المتفرج اثناء تحركها لمسافة 40-50 كيلو مترا إلى أن يحدث الالتحام بين القوتين؟؟.
لقد مضت 22 سنة على هذه الحرب وان حجم وتوزيع قواتنا وقوات العدو على الجبهة في كل يوم من ايام الحرب بات معروفا. كما وان خسائرنا وخسائر العدو في كل معركة وفي كل يوم قد اصبح معروفا. فلماذا لا نقوم بإجراء تقدير موقف للجبهة المصرية عن كل يوم من ايام الحرب على ضوء المعلومات المؤكدة عن قواتنا وقوات العدو في كل يوم حتى تتبين الحقيقية. إن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق يكون من حقها الاطلاع على كل الوثائق واستجواب من تراه من الأشخاص، اصبح ضرورة وطنية. حتى يتعلم الأبناء والأحفاد الدروس المستفادة الصحيحة عن تلك الحرب المجيدة.
احتلال طريق المدفعية
يرى بعض النقاد انه كان يعب علينا أن نعمق مواقعنا شـرقي القناة حتى تحـتل طريق المدفعية العرضي الذي تستخدمه القوات الإسرائيلية في تحركاتها العرضية. وإلى أصحاب هذا الرأي نقول أن طريق المدفعية كان يمتد على مسافة حوالي 25 كيلومترا شرقي القناة. وانه كان خارج مدى مظلة الدفاع الجوي. وبالتالي فإن احتلاله والاحتفاظ به كان سيترتب عليه زيادة انتشار قواتنا واتساع الفواصل بين تشكيـلاتنا مما يعرضها للتطويق بواسطة قوات العدو.
تطوير الهجوم نحو المضايق، صفحه رقم 283
وإن احتلال خط دفاعي شرق القناة 10-15 كيلومتراً هو افضل من احتلال خط دفاعي على مسافة 25-30 كيلومتراً شرق القناة للأسباب التالية:
1- يحتاج إلى قوات اقل نظرا لوجود موانع مائية داخل هذا الخط (بحيرة التمساح والبحيرات المرة).
2- يستند جناحه الأيمن على خليج السويس ويستند جناحه الأيسر على البحر الأبيض وبذلك يصعب على العدو تطويقه. أما خط المدفعية فإن جناحه الأيسر يستند على البحر الأبيض في حين أن جناحه الأيمن سيكون معلقا في الهواء وبالتالي يمكن تطويقه. وإذا أردنا أن يستند هذا الخط على خليج السويس فإن ذلك يعني إضافة حوالي 25-30 كيلومتراً للخط الدفاعي. وسوف يؤدي ذلك إما إلى زيادة الفواصل بين التشكيلات فيسهل على العدو تطويق وحداتنا من الأجناب، وإما إلى احتلال الموقع الدفاعي على نسق واحد وبالتالي يصبح من السهل على العدو اختراقه.
مؤتمر القناطر يوم 6 يونيو 1972
يقول هيكل "كان اختيار الفريق احمد إسماعيل علي اختياراً سليما. فهو من مدرسة نضج اقتناعها بان القتال اصـبح ضرورة سياسية وعسكرية وبالوسـائل المتاحة لتحـقيق هدف محدود أو محدد تتغير به المعادلة السياسية التي جمدت حل الأزمة (هيكل/ أكتوبر 73 ص 296) ، وكان هيكل قد ذكر قبل ذلك في الصفحة 267 من نفس المصدر السابق ما يلي "اصدر السادات تعليماته إلى الوزير الجديد الفريق أول احمد إسماعيل بالاستعداد للعمل المسلح على الجبهة في شهر ديسمبر72 أي بعد اقل من شهرين من تولي الوزير الجديد مسئوليته الضخمة. وسافر احمد إسماعيل إلى سوريا خـلال الفترة من 10- 13 نوفمبر، وقدم بعد عودته تقريرا إلى السادات نشـره هيكل في الوثيقة رقم 41 وجاء فيه تكليف القيادة العامة للقوات المسلحة السورية بالتخطيط وإعداد القوات للعملية الهجومية على النحو التالي:
- الانتهاء من التخطيط وعرض الخطط في 15 من ديسمبر 72.
- استعداد القوات للعمليات الهجومية في 31 من ديسمبر 72.
والذي يثير الانتباه والتعجب في نفس الوقت أن هيكل لم يشر من قريب أو بعيد إلى التقرير الذي كان أحمد اسماعيل قد بعث به -بصفته رئيس جهاز المخابرات العامة- إلى الرئيس السـادات في يونيو 72. هذا التقرير الذي حذر فيها احمد اسماعيل من أن تقوم القوات المسلحة بأية عملية هجومية لأسباب متعددة أهمها هو ضعف قواتنا الجوية، وضعف امكاناتنا في الدفاع الجوي الصاروخي ذاتي الحركة. هذا التقرير الذي دعا السادات مجموعة مصغرة من القادة لمناقشته يوم 6 من يونيو 1972 في استراحة الرئيس بالقناطر الخيرية (راجع الفصل الثامن عشر لمعرفة تفاصيل هذا المؤتمر وتعليق الشاذلي بأنه يجب علينا أن نخطط لمعركة هجومية محدودة في ظل تفوق جوي معاد).
لم يحدد السادات موقفه في هذا المؤتمر بوضوح. وكان تعقيبه لا يعني الرفض ولا يعني القبول. فقد عقب قائلا "أنا والفريق صادق يشاركني الرأي نرى انه يجب علينا إلا نقوم بأية عملية هجومية إلا بعد أن يكون لدينا قوة الردع. أي يكون لدينا طيران يستطيع أن يضرب عمق العدو. ولكن يجب أن نفكر فيما إذا اضطرنا الموقف السياسي إلى بدء المعركة قبل الانتهاء من بناء قوة الردع".
وإذا كان هذا هو موقف السـادات وموقف أحمد اسماعيل في يونيو 72، فكيف يمكن أن يتحول هذا الموقف إلى نقيضه بعد خمسـة اشهر. رغم أنه لم يحدث خلال هذا الفاصل الزمني أي تغيير في القوى العسكرية النسبية بيننا وبين العدو؟! وهنا تبرز عدة أسئلة مازالت بدون اجـابة من بينها: هل كان تقرير احمد اسماعيل هو جزء من مؤامرة الغرض منها هو ايهام الفريق أول صادق بأن رايه حول ضرورة تفادي الحرب هو الرأي الأصوب، في الوقت الذي كان السادات يهيئ فيه الظروف لإقالته بعد اقل من خمسة اشهر على أساس انه لم يجهز القوات المسلحة للحرب كما امره السادات؟ وهل هناك علاقة بين احجام السـادات عن اتخاذ قرار الحرب يوم 6 يوليو 72، وبين قراره بطرد الخـبراء السوفيت والوحدات السوفيتية بعد ذلك بشهر واحد؟
رسالة السادات إلى كيسنجر
لقد أثار هيكل ضجة كبرى حول الرسـالة التي أرسلها السادات إلى كيسنجر يوم 7 أكتوبر والتي قال فيها " إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباك او توسيع مدى المواجهة" ومع أني لم أعلم بهذه الرسالة إلا بعد نشرها في جريدة الأهالي بتاريخ 18 من مايو 83 . ومع إني كنت سأعترض على إرسال مثل هذه الرسالة إذا اخذ رأيي قبل إرسالها. اما وقد أصبحت هذه الرسالة تاريخا، فإني وان كنت أدينها إلا أني في الوقت نفسه لا أعتقد أنها تستحق كل هذه الضجة التي أثارها هيكل حولها.
يقول هيكل في تعليقه على هذه الرسالة "كانت هذه هي أول مرة في التاريخ كله يقول فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة ويعطيه من التأكيدات ما يمنحه حرية في الحركة السياسية والعسكرية على النحو الذي يراه ملائما له ". ومع قناعتي بأن هذه الرسالة ستصل إلى إسرائيل، إلا أنني لا أعتقد أن إسرائيل ستفترض أن هذه الرسالة تمثل نوايانا المستقبلية بصفة مؤكدة. إذ ليس من الممارسات السياسية والعسكرية أن يصدق القادة كل ما يعلنه الأعداء من تصريحات ورسائل. وعن نفسي فلو قيل لي أن جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل قالت كذا، أو إن موشي دايان وزير الدفاع قال كذا فان أول ما يتبادر إلى ذهني وأتوقعه من إسرائيل هو عكس ما يقولون اللهم إلا إذا كانت لدي قناعة مؤكدة أن المتكلم أو صاحب الخطاب هو عميل مضمون.
إن القادة السياسيين والعسكريين -إذا استبعدنا ما يصلهم من معلومات عن طريق الجواسيس والعملاء- لا يتخذون قراراتهم بناء على التصريحات التي تصدر عن أعدائهم، أو التي تصلهم عن طريق تدخل طرف ثالث. ولكنهم يتخذون قراراتهم بناء على ما تسجله وسائل الاستطلاع والرصد والتصنت السلكي واللاسلكي والإلكتروني والبشري. وبناء على ما تسفر عنه نتائج تقدير موقف العدو على ضوء إمكاناته الحقيقية وليس بناء على ما يعلنه أو يدعيه.
 
الفصل الأربعون: أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار
"لانشارك الآخرين جريمة التستر على الأخطاء التي تجري فالأخطاء ليست عيبا. ولكن التستر عليها جريمة في حق الأمن القومي للوطن".
أمين هويدي
رئيس جهاز المخابرات الأسبق ووزير الدفاع الأسبق
الفرص الضائعة / ص 496
"في تقديري كان الشاذلي على حق عندما اقترح مساء يوم 20 سحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق لإعادة التوازن المختل إلى الجبهة. ولم يكن سحب هذه الألوية المدرعة وربما اكثر منها يسبب أية خطورة في الشرق".
أمين هويدي
المصدر السابق/ ص 486 و 493
"يبدو أن القادة المصريين أُخذوا على غرة بالعبور الإسرائيلي. وتصرفت الرتب العليا وكأن على أعينهم غشاوة وتمزقت الهجمات المضادة شر ممزق. بل بدا وكأن القائد العام يفتقر إلى احتياطي عام "
الخبير السويدي
الليفتنانت جنرال ستمج لوفجرين
الندوة الدولية عن حرب أكتوبر بالقاهرة 1975
الحدود بين الجيوش والمناطق
كثر الحديث بعد الحرب عن انه كان هناك فاصل بين الجيشين الثاني والثالث، وان الإسرائيليين استغلوا وجود هذا الفاصل غير المؤمن فنفذوا من خلاله إلى الضفة الغربية للقناة كان السـادات هو أول من أطلق هذه الفرية ليغطي بها قراره الخاطئ بالتطوير الذي ترتب عليه دفع الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين من غرب القناة إلى شرقها، ثم قراره الخاطئ الآخر برفض إعادة هاتين الفرقتين إلى مواقعـهمـا غرب القناة بعد فشل هجومهما يوم 14 أكتوبر. وعن طريق السـادات نقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية هذه المعلومة. وافترض المحللون العسكريون صحة هذا الخبر عند تقييمهم لموقف القيادة العامة للقوات المسلحة المصـرية. ولكن هذه الفرية التي أطلقها السـادات، هي أبعد ما تكون عن الحقيقة. فقد كانت الجبهة مؤمنة- طبقا للخطة- من البحـر الأبيض شمالا حـتى خليج السويس جنوبا.
ولم يكن هناك متر واحد لا يقع تحت مسئـولية إحدى القيادات. فـقد كانت مسئولية قطاع بور سعيد تمتد من البحر الأبيض حـتى القنطرة (خارج). وكانت مسـئولية الجيش الثانـي تمتد من القنطرة (داخل) حتى الدفرسوار (داخل). وكانت مسئولية الجيش الثالث تمتد من جنوب الدفرسوار بحوالي عشـرة كيلومترات حتى ميناء الأدبية على خليج السويس (داخل). ثم كانت مسـئولية منطقة البحر الأحمر من جنوب الأدبية بحوالي عشرة كيـلومترات حتى أقصي الجنوب. وبالتالي فإن منطقة الدفرسوار كـانت تدخل- بصـفة مؤكدة- ضمن مسئولية الجيش الثاني (راجع الخريطة رقم 2).
ولكن هذا لا يعني مطلقا انه يتحتم على كل قائد أن يحتل بقواته كل متر من المواجهة التي تقع في نطاق مسئوليته، حيث إن ذلك لابد أن يؤدي إلى أن يصبح ضعيفا في كل مكان. ويتعارض ذلك مع مبدأ مهم من مبادئ الحرب وهو مبدا الاقتصاد في القوة وبالتالي فإن وجود ثغرات غير محـتلة بالجنود بصفة دائمة بين التشكيلات وبين الجـيوش يعتبر أمراً طبيعيـا، وذلك بشرط أن يقوم القادة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتامين هذه الثغرات. ويكون التأمين عادة برقابة هذه الثغرات بعدد من الدوريات الثابتة أو المتحركة أو الجوية، والاحتفاظ باحتياطي من القوات ومن النيران للتصدي للقوات المعادية إذا ما قامت بالمرور من تلك الثغرات. وبصرف النظر عما اتخـذته قيادة الجيشين الثـاني والثالث من إجـراءات لتأمين الثغرات التي بين تشكيلاتها أو تلك التي في أماكن لاتشكل طريقا محـتملا لاقتراب العدو (البحيرات المرة على سبيل المثال)، فقد اتخذت القيادة العامة للقوات المسلحة إجراءات إضافية لتدمير أي قوات للعدو قد تنجح في اختراق مواقع الجيشين الثاني والثالث وقطاع بور سعيد.
وقد تصورنا عند وضع الخطة أن العدو قد ينجح في اختراق مواقعنا في واحدة أو اثنتين من ثلاث نقاط محتملة. وكانت الدفرسوار هي واحدة من تلك النقاط الثلاثة وعلى الرغم من أن هذه النقاط الثلاث كانت مؤمنة بالقوات من الشرق بكثافة (كانت الفرقة 16 مشاة تؤمن منطقة الدفرسوار بقوة من شرق القناة)، إلا أننا لم نستبعد مطلقا احتمال نجاح العدو في اختراق مواقعنا في أي من تلك النقاط الثلاث إذا ما ركز هجومه عليها. ولذلك فقد قاست القيادة العامة بالاحتفاظ بالفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين وبعض الوحدات الأخرى في النسق الثاني للجيوش. وكانت هذه القوات مكلفة بواجب تدمير أي عدو قد ينجح في عبور القناة إلى الغرب. بل أن هذه القوات قامت بتنفيذ مشروعات تدريبية لتنفيذ هذا الواجب على نفس الأرض التي سوف تقاتل عليها حتى اصبح تنفيذ هذا الواجب وكـأنه طابور تدريب تكتيكي يعلم كل ضابط وجندي تفاصيله.
ولكن القرار السياسي الخاطئ بضرورة تطوير الهجوم نحو المضايق- والذي سبق أن شرحته بالتفصيل في الفصل السابق، والذي ترتب عليه دفع الفرقة 21 مدرعة، والفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء في عملية التطوير- حرم القيادة العامة للقوات المسلحة من أي احتياطات فعالة يمكن أن تتصدى لأية عملية اختراق يقوم بها العدو لمواقعنا شرق القناة. كان القرار السليم- طبقا للموقف وطبقا لأصول العلم العسكري- هو أن نسحب الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين بعد فشل هجومنا يوم 14 إلى مواقعهما الأصلية غرب القناة لنعيد الاتزان إلى مواقعنا الدفاعية. ولكن احمد إسماعيل المصاب بعقدة هزيمة 67 عارض هذا الاقتراح على أساس أن سحب هذه القوات قد يؤثر على الروح المعنوية للجنود (راجع الفصل الثالث والثلاثين)
أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار، صفحه رقم 287
المناورة بالقوات
المناورة بالقوات هي مبدأ مهم جدا من مبادئ الحرب. ويندر أن لم يكن من المستحيل كسب أي حرب دون تطبيقه. والمناورة بالقوات في العلم العسكري تعني أن يقوم القائد بتحريك قوات قبل وأثناء المعركة من مكان إلى آخر، حيث تستطيع من موقعها الجديد أن تحقق نجاحا اكبر في القتال. ففي العمليات الهجومية يستطيع القائد الذي يطبق هذا المبدأ استغلال الفرص التي قد تظهر له أثناء القتال نتيجة سوء توزيع العدو لقواته في الدفاع أو نتيجة بدء حركتها، فيدفع قواته في الاتجاهات الضعيفة حيث يمكن اختراق خطوط خصمه الدفاعية والوصول إلى مؤخرته. ويستطيع القائد أن يحقق هذا المبدأ أيضا في المعارك الدفاعية. فهو يستطيع أن يتظاهر بالضعف في قطاع معين سواء بالتقهقر أمام خصمه في قطاع من الجبهة، أم بأن يترك ثغرة غير مؤمنة بين جناحيه تغري المهاجم على المرور خلالها بغية الوصول إلى مؤخرة القوات المدافعة. فإذا ما نجح القائد المدافع في استدراج خصمه إلى منطقة القتل التي يريدها انقضت عليه قواته من الأمام والخلف والأجناب لإبادتها. فالمناورة بالقوات إذن شيء والانسحاب شيء أخر. فالأولى هي الاستمرار في القتال في مكان آخر أما الثانية فهي التخلص أو الهروب من المعركة.
وقد بين القرآن العظيم الفرق بين المناورة بالقوات والانسحاب في قوله تعالى( يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تُوَلُّوهُمُ الأدبار. ومن يولِّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلا مُتحرِّفاً لقتال أو متحـيّزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنَّمُ وبئس المصير) (16,15 الأنفال). فتولية الدبر معناها الانسحاب من القتال. أما ألتحرف للقتال أو التحيز إلى فئة فهو ما يطلق عليه اليوم في العلم العسكري مبدأ المناورة بالقوات.
لقد كان الخلاف الرئيسي بيني من جانب وبين السادات وأحمد إسماعيل من الجانب الآخر يدور طول فترة الحرب حول تطبيق هذا المبدأ. واشتد الصراع بيني وبينهما بصفة خاصة خـلال الأيام من 15 وحتى 20 من أكتوبر. ومنعا للتكرار فأرجو مراجعة الفصلين 33 و 34. حيث أني سأقتصر في هذا الفصل على الرد على ما كتبه النقاد بعد صدور هذا الكتاب.
كنت حريصا منذ البداية على أن نستغل خفة حركة وقوة نيران قواتنا المدرعة، وذلك عن طريق الاحتفاظ بها في الاحتياطات والأنساق الثانية للجيوش وألا نستخدمها إلا في المراحل الأخيرة والحاسمة للحرب، وبعد أن تتحطم قوات العدو المدرعة على صخرة دفاعاتنا شرق القناة هذه الصخرة التي كانت تتكون من 5 فرق مشاة تستطيع كل منها -بما لديها من دبابات وأسلحة مضادة للدبابات تدخل في تنظيمها العضوي - صد هجوم تقوم به ثلاثة ألوية مدرعة قوامها 360 دبابة. فقد كـان يدخل ضمن تنظيم كل فرقة مشـاة ما يلي من الأسلحة:
4 كتيبة دبابات (124 دبابة).
1 كتيبة BMP ( قطعة40).
1 كتيبة قواذف صواريخ موجهة مالوتكا (36 قطعة).
1 كتيبة مدفعية مضادة للدبابات 85 ملليمتر (36 قطعة).
90 مدفع بي 10 و بي 11 مضاد للدبابات.
459 قاذف صاروخي قصير المدى (ر.ب.ج).
3 كتائب هاون 120 ملليمتر (36 قطعة).
3 كتائب مدفعية 100 ملليمتر (36 قطعة).
3 كتائب هاوتزر122 ملليمتر (36 قطعة).
أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار، صفحه رقم 288
ولذلك فإن خطة الهجوم الأصلية (المآذن العالية) لم تكن تتضمن تدعيم الفرقة المشاة أثناء عملية اقتحام قناة السويس بأي وحدات مدرعة. بل أنها كانت أيضا لا تتضمن كتيبة BMP حيث أن هذه الوحدة لم تدخل ضمن تنظيم الفرقة المشاة إلا قبل بدء حرب أكتوبر ببضعة اشهر (تم التعاقد على توريد هذه الكتائب فقط في مارس 1973، ووصلت بعد ذلك ببضعة اشهر).
بعد أن تولى احمد إسماعيل منصب القائد العام للقوات المسلحة، طلب منه السادات أن يضمن سرعة احتلال القنطرة شرق، حيث أنه يريد أن يستغل تحريرها سياسيا. وبناء عليه أمر احمد إسماعيل بأن تدعم الفرقة 18 مشاة التي تقع مدينة القنطرة شرق في قطاعها بلواء مدرع. ثم عاد السادات بعد ذلك فطلب منه أيضا ضرورة سرعة تامين مدينتي السويس والإسماعيلية من الشرق فأمر احمد إسماعيل بتدعيم كل من الفرقة 19 مشاة التي تقع السويس في قطاعها والفرقة 16 مشاة التي تقع الإسماعيلية في قطاعها بلواء مدرع. وبعد ذلك اشتكى قائدا الفرقتين المشاة السابعة والثانية، من أن هذا التوزيع سيكون دعوة للعدو لكي يركز هجومه عليهما من دون فرق المشاة الأخرى فأمر احمد إسماعيل بتدعيم كل منهما بلواء مدرع. ومع أن توزيع نصف قواتنا المدرعة بهذا الأسلوب يعتبر استخداما سيئا لخصائص القوات المدرعة، إلا انه كان من الممكن التغاضي عنه مؤقتا على أساس أن هذه الألوية المدرعة سوف تسحب من فرق المشاة وتعود إلى مواقعها غرب القناة بعد أن تنجح فرق المشاة في تجهيز مواقعها الدفاعية. وكان من الممكن أن يحدث ذلك اعتبارا من يوم 10 من أكتوبر. ولكن كما سبق أن أوضحنا فقد اتخذ يوم 12 من أكتوبر قرار بدفع باقي الفرقة 21 مدرعة والفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء. وبالتالي فإنه بحلول يوم 14 أكتوبر كان قد اصبح لنا في الشرق 7 ألوية مدرعة. ولم يبق في غرب القناة خلف الجيشين الثاني والثالث سوى لواء مدرع واحد من الفرقة الرابعة المدرعة. وكان يتمركز في منطقة القاهرة لواء مدرع بالإضافة إلى لواء مدرع الحرس الجمهوري.
وثار الخلاف مرة أخرى بيني وبين احمد إسماعيل يوم 15 من أكتوبر عندمـا اقترحت سحب الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين المدرعة إلى مواقعهما السابقة غرب القناة ثم تجدد الخلاف يوم 16 من أكتوبر بعد حدوث الثغرة عندما طالبت بسحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 مدرع من الشرق لضرب وتصفية الثغرة من الغرب. ثم بلغ الخلاف بيني وبين السادات ذروته ليلة 20/ 21 من أكتوبر عندما طالبت بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب.
رأي النقاد
* يقول أمين هويدي عن اقتراح الشاذلي ليلة 20/ 21 أكتوبر سحب أربعة ألوية مدرعة ما يلي "وفي رأيي فإن اقتراح الشـاذلي- كما سبق أن أوضحت في كتابي كيسنجر وادارة الصراع الدولي- كان أحسن اقتراح عملي متاح في تلك الظروف الحرجـة: إن تعليق جمال حماد بالقول بأن الموقف التكتيكي المتردي الذي أصبحت فيه قواتنا يجعل من المستحيل على أي إنسان أن يهتدي إلى حل سليم مهما كانت عبقريته يعني التسليم بالأمر الواقع، وهو ما رفضه الشاذلي. وكان اقتراح الشاذلي فيه مخاطرة مقبولة لأنه لا قتال دون مخاطرة وكان تنفيذ الاقتراح سيطيل أمد القتال، ويكبد العدو مزيدا من الخسائر التي كان من الصعب عليه الاستمرار في تعويضها حتى في ظل وجود الجسر الجوي الذي اعدته الولايات المتحدة (أمين هويدي/ الفرص الضائعة/ ص 493).
* ويعلق حافظ إسماعيل على الموقف في الساعات الأولى من يوم 21 من أكتوبر عندما قرر السادات طلب وقف اطلاق النار بما يلي "كان الاختراق الذي حدث في الجبهة العسكرية منذ 16 من أكتوبر قد تطور الآن بحيث أصبحنا اليوم نواجه هجوما إسرائيليا مضادا واسع النطاق يستهدف عزل قواتنا في شرق القناة وكان مثل هذا التقييم يقتضي تثبيت القوات الإسرائيلية في غرب القناة تمهيدا للقضاء عليها. ولتحقيق ذلك كان من الضروري تخـفيف رؤوس الكباري في شرق القناة حتى يمكن توفير القوات اللازمة وخاصة المدرعة للعمل في غرب القناة ضد منطقة الثغرة في الدفرسوار، مع استمرار الحفاظ على مراكزنا في الشرق بصفة فعالة. إلا أن رفض الرئيس أي اقتراح بسحـب قوات من الشرق إلى الغرب- بينما كانت قواتنا المتوافرة في غرب القناة اضعف من أن تتمكن من تثبيت القوات الإسرائيلية داخل منطقة الاختراق- جعل من المحتم القبول بوقف اطلاق النار قبل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من الانطلاق من منطقة الدفرسوار فتدمر النجاح الذي تحقق. واحتمال التسوية السياسية المرضية (محمد حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ ص 345).
* يقول الكولونيل تريفور دي برى ما يلي "كان رد الفعل المصري للعبور الإسرائيلي في منطقة الدفرسوار بطيئا. وما من شك في أن هجوما مضادا رئيسيا من جانب مصر يوم 16 بل و يوم 17 من أكتوبر كان يمكن أن يحطم قوة شارون على الشاطئ الغربي لأنها كـانت تتألف من اقل من لواءين (الندوة الدولية لحرب أكتوبر/ القطاع العسكري/ ص 49).
* يقول الليفتنانت جنرال ستيج لوفجرين ما يلي "لقد أثبتت القوات المسلحة المصرية قدرتها على إعداد وتنفيذ هذه العملية المعقدة التي هي عبور قناة السويس. ولكن عندما أصبحت الحرب متحركة، ولم تعد تتبع سيناريو معدا من قبل. حاق بالمصريين أسوا ما فيها. ويبدو أن القادة على جميع المستويات أخذوا على غرة بالعبور الإسرائيلي. وتوقفت البيانات، وتصرفت الرتب العليا وكان على أعينهم غشاوة وتمزقت الهجمات المضادة شر ممزق. بل بدا وكان القائد العام يفتقر إلى احتياطي عام" (المصدر السابق/ ص 85).
* يقول الكولونيل ادجار أوبالانس وهو يتحدث عن الموقف ليلة 21 من أكتوبر ما يلي "وعلى الضفة الغربية للقتال كان هناك افتقار للسيطرة والقيادات ويبدو أن المستويات العليا من القيادة المصرية أصيبت بحالة من الشلل". (المصدر السابق/ ص185).
الدفرسوار ليست معركة تليفزيونية
* يقول أمين هويدي "لا يجوز أن نسمي ما قام به العدو من اختراق لثغرة الدفرسوار أنه مجـرد معركة تليفزيونية كما أطلق عليها الرئيس السادات أو مجرد قصة جسدتها الإعلام الإسرائيلية مستغلة عبور بعض القوات الإسرائيلية إلى غرب القناة لإبراز نجاح إسرائيل في هذه المعركة وانه كان من الواجب مقاومة ذلك بخطة دعائية مضادة كما كتب الجمسي في مذكراته. هذه معالجة سيـئة لأمور تتعلق بأمننا القومي. فعلاوة على ما في هذا الأسلوب من استخفاف بالرأي العام وافتئـات على الحقائق التاريخية، فهو أيضا تهديد لقواتنا المسلحـة وتغطية لسلبياتها بما يسمح للسوس بأن ينخر في عظامها (أمين هويدي/ الفرص الضائعة/ ص 437).
* ويقول أمين هويدي في مكان آخر "فليس صحيحا أو ليس في صالح مصر أو جيشها أن يسمي الجمسي ما حدث "قصة الثغرة"، وهي التي نقلته أحـداثها في فجر أحد الأيام السوداء في تاريخ مصـر من موقعه تحت الأرض في المركز 10 إلى إحـدى الخيام عند الكيلو 101 طريق السويس- القاهرة، ليجري هو وحفنة من الضباط أول محادثات مباشرة مع إسرائيل (نفس المصدر السابق ص 472).
وفي تعليقه على ما جاء في صفحة 436 من مذكرات الجمسي التي يقول فيها إن القوات الإسرائيلية الموجودة غرب القناة تحولت من سلاح تضغط به علينا إلى رهينة نضغط بها نحن على إسرائيل ومصدر استنزاف لأرواح ومعدات واقتصاد إسرائيل، يقول أمين هويدي بسخرية "اذكّر الجمسي بما قاله في مذكراته في صفحة 481 بان إسرائيل كانت تتحكم في السماح بإمداد الجيش الثالث ومدينة السويس. و اذكّره بما قاله من إن عينيه اغرورقتا بالدموع عندما وافق السادات يوم 17/ 1/ 74 على اتفاقية فض الاشتباك نظرا لما حوته من شروط مهينة. ولأول مرة نسمع أن الفريسة- كما يصور الجمسي موقف إسـرائيل علـى الضـفة الغربية- هي التي بيدها السماح بمرور الأكل للصـياد. ولأول مرة أيضا نسمع أن الفريسـة يمكنها الضغط على الصياد حـتى تبكيه!!" (المصدر السابق ص 525).
* وعن لهفة المصـريين على وقف إطلاق النار طبقا للشروط الإسرائيلية- مما يعكس سوء موقفهم العسكري- يقول دايان "حضر نائب سيلاسفو كبير المراقبين الدوليين لمقابلتي في القدس، واخـبرني بأنه تلقى برقيـة من القاهرة تقول إن رد المصـريين على شروطنا الثـلاثة لقبول وقف إطلاق النـار أنهم موافقون موافقون موافقون. وسألته عما إذا كـان المصريون كـرروها ثلاث مرات فأجابني بأنها أربعة (أمين هويدي/ الفرص الضائعة ص 472).
* وفي أثناء المقابلة التي تمت بين الرئيس السادات والمستر كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، بعد ظهر يوم 17/ 10، حاول السادات أن يقلل من أهمية الثغرة فقال له كوسيحين "إن صديقنا السادات يقلل من الخطر الذي تواجهه القوات المصرية. وأنا مضطر لأن أوضح أمامه الحقيقة حتى يستطيع أن يقيم حساباته على أساس سليم ". ثم وضع كوسيجين أمام السادات 18 صورة التقطتها الأقمار الصناعية السوفيتية تظهر فيها قوات للعدو التي في غرب القناة وعلق كوسيجين على تلك الصور بما يلي: "هذه الصور تظهر انه حتى ساعة التقاطها ظهر اليوم، كان لإسرائيل في الغرب 760 قطعة مدرعة ما بين دبابات وعربات مصفحة. وهذه قوة كبيرة وتطويرها مازال مستمرا (مقال هيكل بالأهرام يوم 6/12/93 عن السلاح والسياسة).
* وقد كشف الأستاذ حسنين هيكل في صحيفة الأهرام يوم 11/12/93 عن سر جديد فيما يتعلق بموقف السـادات تجاه الثغرة (الحلقة التاسعة من مقالات هيكل عن كـتابه السلاح والسياسة). تقول الوثيقة التي نشرها هيكل: إن حافظ إسماعيل مستشار الرئيس السادات لشئون الأمن القومي، أرسل برقية يوم 2 من نوفمبر إلى وزير الخارجية إسماعيل فهمي الذي كان موجودا حينئذ في واشنطن، يلح فيها على مطالبة كيسنجر بأن يقدم ضمانا تتعهد فيه أمريكا بألا تقوم إسرائيل بأية عمليات عسكرية ضد القوات المصرية في الضفة الغربية من قناة السويس. وإن كيسنجر إمعانا في إذلال مصر، ورغبة منه في انتهاز هذا الموقف كتب خطابا لا يلزم أمريكا بشيء بل يمكن أن يعطيها ورقة تضغط بها على السادات للحصول منه على تنازلات في مقابل وعود - مجرد وعود لا توجد أي نية صادقة لتنفيذها- بأن تكبح جماح إسرائيل.
* تقول برقية إسماعيل فهمي إلى الرئيس السادات "بعد حوار طويل سلمني كيسنجر الضـمان المكتوب. وكان يود في أول الأمر عدم توقيعه بالحروف الأولى. ثم وقعه. وأضاف ضاحكا بأنه يرجو ألا ينشر الضمان في الأهرام. ويشير الضمان إلى انه اتصالا بأي اتفاق يتم بين مصر وإسرائيل بخصوص تنفيذ الفقرة الأولى من قرار مجلس الأمن رقم 338، تضمن الولايات المتحدة أنها ستفعل أقصى ما تقدر عليه لمنع عمليات عسكرية هجومية تقوم بها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية ضد القوات المصرية أثناء وجود القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وكان الضمان مكتوبا بالآلة الكاتبة وعلى ورقة بيضاء (أي ليست الأوراق التي تحمل في أعلاها اسم وزارة الخارجية الأمريكية)، كما أن كيسنجر لم يوقعه بالحروف الأولى الكاملة وهي HAK هنري الفريد كيسنجر كمـا هو متـعارف عليه دبلوماسيا بل إنه وقعه بحـرفين هما H.K (هيكل/ أكتوبر 73/ وثيقة رقم 127/ ص 869).
ولعل الأخ الجمسي يقتنع- بعد أن يقرأ كل ذلك- أن اختراق العدو لمواقعنا لم يكن معركة تليفزيونية كما كـان يدعي السادات- وان قوات العدو غرب القناة لم تكن رهينة. بل إن الجيش الثـالث هو الذي كان رهينة في يد إسرائيل وفي يد كيسنجر. ولعل الجمسي يقتنع أيضا أن السادات كانت له سياسة ذات وجهين تجاه الثغرة كان يدعي أمام شعب مصر أنها معركة تليفزيونية. وانه كان في استطاعته تصفيتها. بل انه ذهب إلى ابعد من ذلك عندما قام بعملية تمثيلية في مجلس الشعب في الجلسة الخاصـة بتكريم قادة حرب أكتوبر في فبراير 74. فقد ادعى في تلك الجلسة أن الجيش الثالث لم يحاصر قط ولعل الأخ الجمسي يذكر الحوار الذي دار بين السادات وبين اللواء بدوي في جـلسة مجلس الشعب (تولى اللواء بدوي قيادة الجيش الثـالث في الحصار). وإلى من لم يشهد تفاصـيل هذه الجلسة من جيل الشباب على التليفزيون، فإني أذكر بعضا مما دار فيها من حوار:
السادات: الجيش الثالث كان محاصرا يا بدوي؟ .
بـدوي: لا يا أفندم.
السادات: الأكل كان بيوصلكم بانتظام يا بدوي.
بـدوي: ايوه يا أفندم.
كان الراديو والتليفزيون يذيعان هذا الحفل على الهواء. وكان السادات يعلم وهو يدير هذا الحوار بأنه يكذب على شعب مصر وكـان يعلم أن مليون ضابط وجندي في القوات المسلحة - وعن طريقهم يعلم شعب مصر بأكمله- يعلمون أن الجيش الثالث كان محاصراً اعتباراً من يوم 23/ 10 وانه بقي في الحصار أكثر من ثلاثة اشهر إلى أن تم التوصل إلى فك الحصار في إطار تسوية سلمية. كان هذا هو الوجه الذي يواجه به شعب مصر. أما الوجه الآخر الذي يواجه به أمريكا بخصوص هذه المشكلة فقد كـان شيئا آخر. بينه كان يعلـم أن قواتنا التي تحيط بالثغرة- كما يبدو من خطاب الضمان الذي يطلبـه من أمريكا- غير قادرة على فك حصار الجيش الثالث.
ونخلص من كل ذلك إلى أن اختراق العدو لمواقعنا في منطقة الدفرسوار لم يكن معركة تليفزيونية. بل إن الاحـتفال الذي أقامه السادات في مجلس الشـعب في فبراير 1974، كان هو المعركة التليفزيونية الحقيقية التي يعلم العالم اجمع بزيفها.

الشرق لن يتأثر
يقول الجمسي في تعليقه على اقتراح الشاذلي ليلة 20/21 أكتوبر بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب انه يترتب عليه اهتزاز دفاعات قواتنا في الشرق، الأمر الذي لا يمكن قبوله (الجمسي/ يوميات حرب أكتوبر/ ص 199). وهذا القول لا يستند إلى أي دليل. بل انه يتعارض مع كل ما نقوم بتدريسه لأبنائنا من الضباط والقادة في معاهدنا العسكرية.
لقد روعي عند وضع تنظيم الفرقة المشاة المصرية قبل حرب أكتوبر أن يكون لديها القدرة -وبدون أي دعم خارجي- على صد هجوم تقوم به فرقة مدرعة إسرائيلية تضم ثلاثة ألوية مدرعة قوامها 360 دبابة. فإذا علمنا انه سيبقى لدينا في الشرق بعد سحب هذه الألوية المدرعة 5 فرق مشاة وفي مواجهتها ثلاثة ألوية مدرعة إسرائيلية فقط. فكيف يستقيم القول بان سحب هذه الألوية المدرعة يمكن أن يؤدي إلى اهتزاز دفاعاتنا في الشرق. قد يقال أن فرق المشاة قد تحملت بعض الخسائر خلال الأسبوعين الماضيين وهذه حقيقة. ولكن يقابلها أيضا أن الألوية المدرعة الإسرائيلية هي الأخرى قد تحملت خسائر قد تكون نسبيا اكثر من الخسائر التي تحملتها قواتنا. وبالإضـافة إلى ذلك فإني أقول إلى الأخ الجسمي: كيف تخـشى على من هو أقوى ولا تخشى على من هو اضعف ألا تخشى على الموقف في الغرب بعد أن اصبح للعدو ثلاث فرق مدرعة تضم 6 ألوية مدرعة في مقابل فرقة مدرعة مصرية تضم لواءين مدرعين؟ وان هذه القوات المدرعة الإسرائيلية أصبحت تهدد بعزل قواتنا في الشرق؟.
وردا على من يقول أن العدو قد يلجا هو الآخر-إذا نحن سحبنا ألويتنا المدرعة من الغرب- إلى سحب ألويته المدرعة من الغرب إلى الشرق فيصبح له 9 ألوية مدرعة في الشرق وبذلك يزداد تهديده لقواتنا في الشرق. فإني أقول لهم: ليته يفعل ذلك. حيث أن ذلك يعني أننا نجحنا في تصفية الثغرة بالمناورة بالقوات وبدون قتال، وفي نفس الوقت فأن هذه الألوية المدرعة الإسرائيلية التسعة لا يمكن أن تشكل خطورة على 5 فرق مشاة تستطيع كل واحدة منها أن تصد 3 ألوية مدرعة إسرائيلية كما سبق أن أسلفت.
والذي يؤكد سلامة وقدرة فرق المشاة على التمسك بمواقعها وصد هجمات العدو المدرعة دونما حاجـة إلى تدعيمها بألوية مدرعة هو القرار الذي اتخذه أحمد اسماعيل بعد وقف إطلاق النار. فعلى الرغم من أن العدو قد دفع إلى الجبهة المصرية بأربعة ألوية مدرعة جديدة ليصبح أمام الجبهة المصرية 12 لواء مدرعا إسرائيليا (كان 6 ألوية مدرعة منها غرب القناة و 6 ألوية أخرى شرق القناة). إلا أن احمد اسماعيل لكي يوفر القوات اللازمة لتنفيذ الخطة "شامل" -التي كثر الحديث الإعلامي عنها- فإنه أمر بسحب جميع الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب وهو نفس ما كان يطالب به الشـاذلي يوم 20 من أكتوبر (الفرقة 21 مدرعة وبها ل1م، ل14م+ ل24م الذي كان تحت قيادة الفرقة المشاة الثانية)، ولم يكن من الممكن سحب اللواء المدرع الذي كان في الجيش الثالث بعد أن دخل الجيش الثالث بجميع قواته داخل الحصار اعتبارا من 24 من أكتوبر. ألا ترى يا أخ جمسي أن قرار سحب الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب لتوفير القوات اللازمة للخطة شامل، يعتبر اعترافا من احمد إسماعيل وممن يؤيده في هذا القرار بأن فرق المشاة التي في الشرق لديها القدرة على صد أي هجمات يقوم بها العدو؟ (انظر توزيع الألوية المدرعة الإسرائيلية في الملحق المرفق بهذا الفصل).
ولكن للأسف الشديد فإن قرار احمد اسماعيل جاء متأخرا حوالي أسبوعين عن التاريخ الذي اقترح فيه الشاذلي الأخذ بهذا القرار!!
حول مؤتمر القيادة يوم 20
يلومني بعض النقاد بأنني لم أتكلم خلال المؤتمر الذي عقد في المركز 10 مساء يوم 20 من أكتوبر. ولكي أوضح لهم وللقراء السبب في ذلك فإنه يتحتم علي أن اشرح لهم أسلوب إدارة المؤتمرات التي تعقدها القيادة العامة للقوات المسلحة لمناقشة الخطط العسكرية والتصديق عليها. فهذه المؤتمرات تعقد إما تحت رئاسة القائد العام للقوات المسلحة أو تحت رئاسة رئيس الجمهورية، ويحضرها رئيس الأركان ورئيس هيئه العمليات ومدير المخابرات الحربية وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحـة (القوات الجوية، القوات البحرية ، قوات الدفاع الجوي)، وقد يدعا إليها عدد اَخر من الرؤساء والقادة إذا دعت الضرورة إلى ذلك. ويقوم رئيس المؤتمر بطلب الكلمة من الحاضرين واحدا بعد الآخر حيث يتكلم كل منهم في تخصصه فقط ويكون أول المتكلمين هو مدير المخابرات حيث يتكلم عن آخر المعلومات عن العدو من حيث حجم قواته وأماكن تمركزها الخ.. ثم يصل في النهاية إلى استنتاج نواياه المستقبلية. ثم يتكلم بعد ذلك المشاركون في المؤتمر طبقا لما يشير إليه رئيس المؤتمر. ولا يجوز لأي من هؤلاء المشاركين أن يتحدث إلا في تخصصه فقط فعلى سبيل المثال لا يتكلم قائد القوات الجوية إلا فيما يتعلق بموقف القوات الجوية. ولا يتكلم قائد قوات الدفاع الجوي إلا فيما يتعلق بموقف قوات الدفاع الجـوي.. الخ. وبعد أن يستمع القائد العام إلى تقارير الرؤساء فإنه يطلب من رئيس الأركان التقدم بالخطة المقترحة… حيث إن رئيس الأركان هو الوحـيد الذي له الحق في تقديم الخطة المقترحـة على ضوء تقارير الموقف الذي تقدم به الرؤسـاء وبعد أن يدلي رئيس الأركـان بالخطة المقترحة يصـدر القائد العام أو رئيس الجمهورية- إذا كـان حاضرا- قراره ويكون إما "تصـدق" ويعني التصـديق على الخطة المقدمة من رئيس الأركان. وإما "تصدق فيما عدا كذا.." أو أنه يرفض الخطة المقترحة ويصدر قرارا جديدا. وبعد أن يصدر القرار فإنه يجب على الجميع أن يلتزموا بتنفيذه.
وحيـث أن هذا الأسلوب يحتـاج إلى كثير من الوقت فإنه وان كان ضروريا في وقت السلم وأثناء تحضير الخطط الحربية قبل اندلاع العمليات الحربيـة، إلا أننا لا نلتزم به أثناء الحرب، لما قد يسببه ذلك من تعطيل في اتخاذ القرارات وحيث أن رؤساء الأفرع الرئيسية يقومون بإخطار رئيس الأركان بالأحداث فور وقوعها فإن رئيس الأركان ليـس في حاجة إلى الدعوة لمثل هذا المؤتمر قبل أن يتقدم للقائد العام بالخطة المقترحة. وإن كان ذلك لا يمنع من القيام بالاستماع إلى واحد أو اثنين من هؤلاء الرؤساء عن طريق حـديث تليفوني أو عن طريق استدعائه للتشاور معه. والدليل على ذلك هو أن مؤتمر يوم 20 من أكتوبر هو المؤتمر الوحيد الذي عقد خلال فترة العمليات، وذلك على الرغم من عشـرات القرارات التي اتخذت قبل وبعد هذا التاريخ.
ولكي اذكّر النقـاد والقراء، اكرر أني أنا الذي طالبت باستـدعاء رئيس الجمهورية مساء يوم 20 ليفصل بيني وبين احـمد إسماعيل حول الخطة التي اقترحتها على احمد إسماعيل والتي كانت تقضي بضرورة سحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب حـتى نتمكن من القضاء على الثغرة. إذن فقد كانت هناك خطة اقترحها رئيس الأركـان ولم يوافق عليها القائد العام. ونظرا للخطورة التي كنت أتوقعها إذا لم تنفذ الخطة التي اقترحتها، فقد رأيت أن أمن مصر وسلامة القوات المسلحة هي اكبر من أن يتركا في يد القائد العام وحده. ولذلك طالبت باستدعاء رئيس الجمهورية لكي أضعه أمام مسئوليته التاريخية.
واذكّر القراء أيضا بان السادات بعد حضوره إلى المركز 10، انفرد مع احمد اسماعيل والمهندس أحمد عبد الله حوالي ساعة. ولاشك انه سمع خلال تلك السـاعة عن الخطة التي يقترحـها الشاذلي، حيث إنه حضـر خصيصا لذلك، ولاشك أنه ناقش أيضـا مع القائد العام الحلول البديلة لخطة الشاذلي. وأنه وصل في النهاية إلى قرار قبل أن يدخل غرفة العمليات.
وتؤكد ذلك تصرفات السادات التالية:
* فهو لم يطلب من الشاذلي أن يعرض خطته لأنه سمعها من احمد إسماعيل. وبالتالي فإنه لم يكن في حاجة إلى سماعها مرة ثانية.
* انه بعد انتهاء المؤتمر وعودته إلى قصر القاهرة ابلغ السيد حافظ اسماعيل بأنه اتخذ قرارا بطلب وقف إطلاق النار وطلب إبلاغ ذلك إلى كل من الاتحاد السوفيتي والرئيس حافظ الأسد، وقد أكد حافظ اسماعيل هذه الواقعة في كتابه الذي صدر في عام 1987 (محمد حافظ إسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ ص 344). ويقول حافظ إسماعيل إن السادات قد أعطى مبررا لذلك انه لا يسـتطيع أن يحارب أمريكا. (المؤلف لم اعرف أن السادات طالب بوقف إطلاق النار بعد عودته مباشرة من المركز 10. إلا بعد أن توقف القتـال. وهذا يؤكد أنه أتخذ قرارا بطلب وقف اطلاق النار بعد التشاور مع أحـمد إسماعيل قبل أن يجتمع بنا في غرفة العمليات).
* إنه ذكـر في كتـابه البحث عن الذات أنه اتخـذ قراراً بعزلي من منصب رئيس الأركـان اعتبارا من يوم 19 من أكـتوبر (ومع أن الحـقيقة هي أني بقيت أمارس مسئولياتي كرئيس للأركان حـتى يوم 12 ديسمبر. ومع أن التاريخ الحقيقي للمؤتمر هو يوم 20. فإن المعنى الحـقيقي لما ورد على لسان السـادات هو أنه عزلني لأنه لم يوافق على الخطة التي اقترحتها. وهذا يؤكد أن السادات استمع إلى خطتي من احمد إسماعيل قبل حضوره غرفة العمليات يوم 20 من أكتوبر).
لقد طالبت باستدعاء السـادات إلى المركز 10 يوم 20 ليفصل في الخـلاف بيني وبين القائد العام. وقد استمع واتخذ القرار. وإذا كـان قد حاول بعد الحرب أن يبرر قراره بأنني طالبت بسحب كل قواتنا من الشرق، فهذه أكذوبة كبرى كتبها الجمسي في كتابه وسبق أن كتبها حسني مبارك ومحمد على فهمي في حديث لهما مع الصـحفي موسى صبري في أوائل عام 1974.
الحرب ضد أمريكا
"السادات بياع شاطر". فهو عندما يريد أن يخـفي خطأ ارتكبه أو عندمـا يريد أن يبرر قرارا لا يقبله المنطق. فإنه يلجأ إلى تغليف ذلك في سلسلـة من الأكاذيب. فإذا نحـن قرانا تصريحـاته وما نشره في كتابه البحث عن الذات، ثم قارنا ما جاء في هذا الكتاب مع ما جاء في كتب ومذكرات القادة التي نشرت بعد وفاته، فإننا نجد أن السادات ارتكب الكثير من الأكاذيب التي يظهر فيـه العمد واضحا. وسوف أورد بعضها قبل أن انتقل إلى مناقشة موضوع الحرب ضد أمريكا:
* ادعى أن السوفيت لم يعطونا السلاح والعتاد، وان مصر هي التي قامت بتصنيع الكباري التي عبرت عليها قواتنا المسلحة يوم 6من أكتوبر، وان الاتحاد السوفيتي لم يكن يطلعنا على المعلومات التي تلتقطها أقمارهم الصناعية عن إسرائيل. وكان السادات بهذه الأكاذيب يمهد الطريق للارتماء في أحضان أمريكا.
* ادعى أنني ذهبت إلى الجبهة يوم 16 من أكتوبر، وأنني عدت منها يوم 19 من أكتوبر، وأنني قد قضيت يوما كاملا في إنشاء قيادة أنافس بها غريمي أحمد اسماعيل، وقد أكد كل من الجمسي وعبد المنعم خليل أنني ذهبت إلى الجبهة مساء يوم 18 وعدت منها يوم 20 من أكتوبر. وأنني لم أنشي أي قيادة خاصة بي، بل كنت أمارس القيادة والسيطرة من قيادة الجيش الثاني. وكان السادات يهدف من جراء التلاعب بهذه التواريخ أن يلقي على الشاذلي تبعة عدم القضاء على الثغرة بحيث أن العدو يوم 16 كان يقدر بحوالي لواء مشاة وكتيبة دبابات، في حين انه كان قد اصبح مساء يوم 18 أي وقت وصول الشاذلي- فرقتين مدرعتين بهما 5 ألوية مدرعة ولواءان مشاة.
* ادعى أنني عدت منهاراً من الجبهة وأوصيت بسحب كل قواتنا من الشرق. ولكن الجمسي أكد أنني لم اكن منهاراً عند عودتي من الجـبهة وأنني فقط طالبت بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق حتى يمكن التصدي بها للعدو في منطقة الدفرسوار في الغرب. وكان السادات يرمي من وراء هذه الأكذوبة أن يبيع إلى الشعب قراره الخاطئ عن طلب وقف اطلاق النار وهو في موقف الضعف. فكأنه يريد أن يقول للشعب "الشاذلي يريد أن يسحب كل قواتنا، أما أنا السادات فإني نجحت من خلال اتفاقية فض الاشتباك في أن احتفظ بقوات في شرق القناة تقدر بحوالي 7000 ضابط وجندي".
* ادعى في كتابه (ص 349) بأنه عزلني من منصبي يوم 19 من أكتوبر في حين أنني بقيت في منصبي حتى 12 من ديسمبر 73. ويؤكد ذلك القرار الجمهوري الذي صدر بنقلي إلى وزارة الخارجية. وكان السادات يريد أن يربط بين قرار العزل والادعاء الباطل الذي إفتراه علي بأنني أطالب بسحب جميع قواتنا من الشرق.
* ادعى أن مؤتمر القيـادة عقد مساء يوم 19، وانه طلب في نفس الليلة السفير السـوفيتي ليبلغه بقراره الخاص بوقف اطلاق النار، في حين أن الحقيقة هي أن مؤتمر القيادة كان مساء يوم 20 واستمر حتى منتصف الليل، وبالتالي فإنه قراره بطلب وقف اطلاق النار كان في الساعات الأولى ليوم 21. وقد أكد ذلك حافظ إسماعيل في كتابه في الصفحة 345. كما أكد ذلك حسنين هيكل (هيكل/ أكتوبر 73/ ص 518). وقد لجأ السادات إلى التلاعب في هذه التواريخ حتى يتماشى ذلك مع كذبة أخرى قالها أثناء انعـقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 21 من نوفمبر 73، والتي قـال فيها: إن ليلة 18/ 19 هي سبب كل المشكلات التي حـدثت ولو أننا عملنا بحسم وقوة خلال تلك الليلة لأمكننا القضاء على الثـغرة (راجع الفصل السابع والثـلاثين) وكان السادات يرمي من وراء هذه الكذبة تحميل مسئولية الثغرة على الشاذلي وقت أن كان في قيادة الجيش، وكان يتحتم على السـادات أن يربط بين هذه الكـذبة وبين تاريخ عودة الشـاذلي وتاريخ طلبـه وقف إطلاق النار.
* بعد التوقيع على اتفاقية فض الاشـتباك في 17/ 1/ 74، وبعد أن فك حصـار الجيش الثالث، دعا السادات مجلس الشعب للانعقاد ودعا إلى هذه الجلسـة العميد احـمد بدوي قائد الجيش الثالث الذي كان في الحصار واخذ يستنطقه أمام أعضاء المجلس بأن الجيش الثالث لم يكن محاصرا. بينما كان العالم اجمع والكثير من أبناء الشعب المصري يعلمون أن السادات كان يكذب في غير خجل أو حياء.
* لكي يقنعني بقبول منصب سفير مصر في لندن، اخبرني بان هناك اتفاقا سريا للحصول على أسلحـة من ألمانيا الغربية، وان منصـبي سفيرا في لندن هو فقط للتغطيـة. ولكن سأكون مسئولا عن الإشراف على هذا الموضوع. فقبلت على أساس إن خدمتي سفيرا ستكون امـتدادا لخدمتي في القوات المسلحة. ولكن بعد أن ذهبت إلى لندن اكتشفت أن القصة بأكملها كانت من خيال السادات.
* نعود بعد ذلك إلى الشعـار الذي رفعه السادات أنا غير مستـعد لأن أحارب أمريكا. إنه شعار قد يصادف هوى لدى الذين ينفرون من الجهاد إن العلاقة الخاصة التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة هي علاقة وطيدة يعلمها العامة والخاصة منذ عشرات السنين. فأمريكا تمد إسرائيل بأحدث الأسلحة والمعدات. وتمدها بالتكنولوجيا الحديثة. وتقدم لها المساعدات الماليـة والتي يقدر المنظور منها- عسكريا واقتصـاديا- بحوالي 4000 مليون دولار سنويا. أما إذا أضيف إلى ذلك المساعدات والمكاسب غير المنظورة فإن الرقم يرتفع إلى حوالي 10000 مليون دولار سنويا!!! وبالإضافـة إلى ذلك فإن أمريكا تسمح لمن يرغب من اليهود الأمريكيين بان يحتفظ بالجنسية المزدوجـة الأمريكية والإسـرائيلية. وبالتالي فإن الكثير من اليهود الأمريكيين مدرجون في كشوفات الضـباط والجنود الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي ويتم استدعاؤهم للخدمة في إسرائيل عندما تعلن إسرائيل التعبئة العامة. ولعل هذه المعلومات هي التي دفعت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى التقارب مع الاتحاد السوفيتي منذ حوالي 40 سنة لكي يخلق نوعا من التوازن بين التأييد الأمريكي لإسرائيل والتأييد السوفيتي لمصر.
* ولايمكن لمنصف أن يقلل من حجم ونوعية الأسلحة والمعدات الفنية الحـديثة التي قام الاتحاد السوفيتي بإمدادنا بها قبل وأثناء الحرب. وفيما عدا القوات الجوية، فقد كان لدينا قبل حرب أكتوبر أسلحة ومعدات لاتقل حجما ونوعية عما تملكه إسرائيل. وعندما اندلعت الحرب أقام الاتحاد السوفيتي جسرا جويا وبحريا نقل خلاله 78000 طن إلى مصر وسوريا، وأقامت أمريكا هي الأخرى جسراً جوياً وبحرياً نقلت خلاله 61105 أطنان إلى إسرائيل (راجع الفصل الرابع والعشرين).
* إن السادات يريد أن يقول أن الجسر الجوي الأمريكي هو السبب الرئيسي الذي دفعه إلى المطالبة بوقف اطلاق النار. وأني أقول هذه مغالطة فلولا تدخل السادات في إدارة العمليات واستجابة احمد اسماعيل لهذه التدخلات لما تأثر موقفنا بهذا الجسر الأمريكي، ولأصبح في استطاعتنا أن نطيل أمد الحرب إلى عدة اشهر أخرى وهو مالا تستطيع إسرائيل أن تتحمله. حيث كان هذا هو جوهر الخطة التي دخلنا بها الحرب.
* وتحت شعار لا أستطيع محاربة أمريكا دعا السادات إلى لقاء مصغر في قصر القاهرة مساء يوم 22 أكتوبر 73. وحضر هذا اللقاء: مساعدا الرئيس، نواب رئيس الوزراء، حافظ اسماعيل. وقال لهم: إن الإسرائيليين قد حققوا التفوق نتيجة تدفق الإمداد الأمريكي، وان استمرارنا في القتال سوف يترتب عليه تدمير قواتنا. وأننا لا نستطيع أن نحقق تحرير سيناء عسكريا. وإنه سوف يعمل على عدم تصعيد الموقف العسكري حاليا، بينما يستمر في استخدام البترول كسلاح ضغطه ورغم أن ذلك هو ابعد ما يكون عن الحقيقة، إلا أن أحد الحاضرين بلغ من اقتناعه بتلك الأكاذيب أن اقترح على الرئيس بأن يحاط صغار الضباط والجنود علما بان قيادتهم العسكرية هي التي طلبت وقف اطلاق النار. (حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي/ ص 348, 349). ورغم أن حافظ اسماعيل يستطرد فيقول: إن السادات لم يستجب لهذا الاقتراح. إلا أن الاتهامات الباطلة التي وجهها السادات إلى الشاذلي فيما بعد والتي اتهمه فيها بأنه طالب بسحب كل قواتنا من الشرق تؤكد أن اقتراح هذا الانتهازي الذي حضر هذا الاجتماع، قد صادف هوى لدى السادات. وكان هدف السـادات من كل ذلك هو التستر على الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها خلال تلك الحرب. وهذه هـي طبيعة السادات إنه يقول شيئا، ولكنه يفعل شيئا آخر. ولقد استطاع بهذا الأسلوب أن يخدع الكثير من الناس بما في ذلك اقرب المقربين إليه. وعندما تتضح أعماله الشريرة أمام ضحاياه الذين خـدعهم، يكون هو قد حقق مآربه، ولم يعد في حـاجة إلى إخفاء نواياه التي يقدم لها اكثر من مبرر... ثم يجد من بين بطانته من يدافع عن تلك التصرفات الشريرة.
الثغرة بعد وقف اطلاق النار
يقول السادات في الصفحة 355 من كتابه البحث عن الذات ما يلي:" في ديسمبر 1973 كنت مستعدا لتصفية جيب الثغرة. ولكن الخطر الذي كان أمامي كان تدخل أمريكا. ففي 11 من ديسمبر جاء كيسنجر وقلت له أنا مش مستعد أقبل الأسلوب اللي هم ماشيين به ده وأنا حصفي الثغرة. قال لي أنا قبل ما احضر إليك عارف إنك جاهز. أنا طلبت صورة الموقف من البنتاجـون فأعطوني تقريرا كاملا.. حائط صواريخك يتكون من كذا بطارية. دباباتك حول الثغرة 800 دبابة. مدافعك عددها كذا. وتستطيع فعلا أن تصفي الثغرة. ولكن اعلم أنك إذا فعلت هذا سيضربك البنتـاجون. سيضـربك البنتـاجون لسـبب واحد. وهو أن السـلاح الروسي قد انتصر على السـلاح الأمريكي مرة ولن يسمح له في الاستراتيجـية العـالمية بتاعتنا أن ينتصر للمرة الثانية"، ثم عاد السادات في الصفحة 389 فأضاف أن كيسنجر قال له " إن دبابات إسـرائيل داخل الثغرة 400 وأنت لديك 800 دبابة حـولها. ولديك صـاروخ ونصف الصاروخ تقـريبا لكل دبابة ، وأنت فعلا تستطيع أن تصـفي الثغرة بهذه القوات". ويستطرد السادات فيقول في نفس الصـفحة 389 إنه خلال مؤتمر جنيف الذي عقد في 21 من ديسمبر اتفق السادات و كيسنجر على فض الاشتباك في يناير 74. والذي يلفت نظري من كل ذلك ما يلي:
* إن السادات يريد أن يوهم الشعب العربي بان مصـر كانت قادرة على تصـفية الثـغرة. ولأنه يعلم انه كذاب اشر، فإنه يريد أن يبعث الثقة في نفس القارئ أو المستمع بزعم أن هذه الأرقام مصدرها الأقمار الصناعية الأمريكية. وحتى لو افترضنا جدلا صحة الرقمين اللذين ذكرهما السادات فهناك عشرات الأرقام الأخرى التي يجب علينا معرفتها قبل أن نقرر ما إذا كان لدينا القدرة على تصفية الثغرة أم لا.
* العقل والمنطق يقولان لو إن إسرائيل أو أمريكا تشك ولو بنسبـة واحد في الألف في أن السادات في نيته تصفية الثغرة عسكريا، لكان أسهل الإجراءات لديها هو أن تمنع مرور الإمدادات إلى الجيش الثالث وكـما قال الأخ أمين هويدي فهذه هي أول مرة نسمع فيها أن الفريسة هي التي بيدها السماح بمرور الأكل إلى الصياد.
* إن السـادات يعلم جيدا أنه لا يستطيع أن يبيع هذا الوهم إلى أمريكا أو حتى الاتحـاد السوفيتي. ولذلك فقد كـان هدفه من كل ذلك هو أن يبيع هذا الوهم إلى قادة القوات المسلحـة. آسف إلى بعض قادة القوات المسلحة. ولذلك فإننا نراه يزعم- كما يقول في صفحـة 357 -أنه عقد في يوم 24 من ديسـمبر مؤتمرا لمناقشة خطة تصفية الثغرة!! ويبدو أن الجمسي الذي كـان قد اصبح رئيسا للأركان اعتبارا من 13 من ديسمبر 73، كـان من بين من صدقوا ما يعلنه السـادات عن نيته تصفيـة الثغرة.. حيث انه (أي الجمسي) كما ذكر في صفحة 481 من مذكراته، لم يسـتطع أن يحبس دموعه عند التوقيع على اتفاقية فض الاشتباك في 17 من يناير 74.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو "ماذا كان يمكن أن يحدث لو وافق احمد اسماعيل والسادات على اقتراح الشاذلي بسحب الأربعة ألوية المدرعة ؟ الإجابة من وجهة نظري هي أنه من المؤكد أننا كنا سنكون قادرين خلال يومي 21 و 22 من أكتوبر على حصار الثغرة ومنع انتشـارها. ثم ندخل معه بعد ذلك في معارك تصادميـة اعتبارا من يوم 23 أكتوبر تمهيدا لتدميره بعد ذلك والذي يلفت النظر حقا انه بعد حوالي أسبوع من وقف إطلاق النار.وبعد أن كان العدو قد أتم حصار الجيش الثالث ومعه أحد الألوية المدرعة التي كان الشاذلي يريد سحبها، اصدر القائد العام أمرا بسحب الألوية المدرعة الثلاثة الباقية -التي كانت مع الجيش الثاني- من الشرق إلى الغرب ولكن التأخير في اتخاذ هذا القرار، وتنفيذه في ظل حصار الجيش الثالث ومدينة السويس وهما رهينتان غاليتان في يد العدو، كان يحد كثيرا من إمكان الاستفادة بها. ولعلنا نتعلم من ذلك درسا مهما وهو أهمية القرار المناسب في الوقت المناسب.
 
عودة
أعلى