الفصل السادس عشر: يونيو 71.. مارس 72
مؤتمر الرئيس في 3 من يونيو 71:
في يوم 3 من يونيو 71 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الرئيس السادات وقد بدأ الرئيس المؤتمر بشرح ما وصفه بالمؤامرة التي كانت تريد أن تتخلص منه، وخص بالذكر كـلا من الفريق فوزي وأمين هويدي، وشعراوي جمعة، وسامي شرف. ومجدي حسنين.
وبعد ذلك انتقل إلى خط السياسة الخارجية، فقال: " أن استراتيجيتنا يجب أن تكون واضحة لكم، وهى تتلخص في نقطتين: النقطة الأولى هي الحفاظ على علاقتنا مع السوفيت والتمسك بها حتى يمكننا بناء الدولة الحديثة اقتصاديا وعسكريا، إذ أن الحركة الصهيونية هي هجمة صليبية وسوف تستمر عشرات السنين وان صداقتنا مع الاتحاد السوفيتي هي التي سوف تساعدنا في التصدي لهذه الهجمة. أما النقطة الثانية فهي الوحدة العربية. وإننا ملتزمون بهذين الهدفين ونسير قدما في إتمامهما"، وفى تعليقه على زيارة الرئيس بودجورني قال: "لم يحدث مطلقا أن حاول بودجورني أو أي من أعضاء الوفد السوفيتي التدخل في شئوننا الداخلية، ولكن في لقاء خاص بيني وبين الرئيس بودجورنى، سألني لماذا اخترت هذا الوقت بالذات لطرد علي صبري ؟ فقلت له: لقد رأيت أن أعجل بذلك قبل حضور روجرز إلى القاهرة حتى لا يفسر طردي لعلي صبري إذا ما تم بعد زيارة روجرز على انه ثمن صفقة أمريكية، وقد رد على بودجورنى قائلا: " أنهم في القيادة السوفيتية تصوروا هذا التفسير نفسه".
وردا على سؤال بخصوص التنظيم الطليعي أجاب الرئيس "لقد كانت فكرة جمال عبد الناصر في هذا الموضوع هي إنشاء تنظيم من العناصر القيادية الشابة دون أن تعرف أسماؤهم حـتى لا يكونوا هدفا لهجوم عناصر مضادة من داخل الاتحـاد الاشتراكي أو من خارجـه ممن تستبد بهم الغيرة والحقد، وقد كانت هذه العناصر تنتخب من القاعدة حتى القمة، وقد استغلت بعض العناصر-التي كانت تريد أن ترث جمال عبد الناصر- هذا التنظيم لكي تفرض سيطرتها على الشعب فدربتهم عسكريا وهيأت وخزنت السـلاح اللازم لاستخدامه في الوقت المناسب ولحسن الحظ تمكنا من وضع يدنا على السلاح قبل توزيعه عليهم.
وردا على سؤال يتعلق بالشائعات الدائرة حول مطالبة الروس بقواعد عسكرية في مصر أجاب الرئيس:"هذا غير حقيقي، أنا لا أعطي قواعد لأحد، وبهذه المناسبة أود أن أقول لكم إنه أثناء زيارة روجرز الأخيرة فإني أخبرته بأنني سأنشئ أكاديمية جوية وأني سأستعين بالروس لإنشائها وإنني لن أستطيع النوم قبل أن يصبح لدينا 1000 طيار مدرب، قلت له كذلك: إن الأمريكان يعلمون جيدا أننا أصحاب الكلمة في أرضنا، وقد أخبرت روجرز أيضا بأنه إذا فرض علينا الاحتلال الإسرائيلي فإنني سأعيد التفكير في كلمة عدم الانحياز".
وردأ على سؤال خاص بالنواقص التعبوية التي تؤثر على المعركة الهجومية قال الرئيس: "إنكم مطالبون بالعمل في حدود الإمكانات المتاحة لكم، لو إنكم عبرتم القناة واحتللتم عشرة سنتيمترات فقط شرق القناة وأقول ذلك طبعا للمبالغة، فإن ذلك سوف يغير الموقف السياسي دوليا وعربيا".
كنت أقوم بزيارة الوحدات البحرية في الإسكندرية خلال يومي 6 و 7 من يوليو، وكان يرافقني في هذه الزيارة عدد من كبار القادة الذين هم أعضاء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد انتهزت فرصة وجودنا في الإسكندرية لأعرض عليهم أفكاري فيما يتعلق بالمعركة الهجومية المحدودة وذلك قبل انعقاد المجلس بصفة رسمية يوم 8 من يوليو في القاهرة واجتمعنا ظهر يوم 7 من يوليو في الكلية البحرية وشرحت لهم أفكاري عن الحرب المحدودة
(2)0 اجتمع المجلس بكامل هيئته في القاهرة برئاسة السيد الوزير يوم 8 من يوليو الساعة 1900 واستمر حتى منتصف الليل، وقد ظهر بصفة علنية- ولأول مرة- التصادم الفكري بيني وبين الفريق صادق بخصوص شكل المعركة الهجومية، فقد كنت أرى أن تخضع الخطة للإمكانات المتاحة، بينما كان الفريق صادق يرى أن نضع الخطة على أساس تحرير الأرض بكاملها - دون التقيد بالإمكانات المتيسرة- ثم نعمل بذلك على تدبير الإمكانات المطلوبة، وذلك كما سبق أن بينت بالتفصيل في الباب الأول.
مؤتمر الرئيس يوم 4 من نوفمبر71:
في يوم 4 من نوفمبر 71 عقد مؤتمر برئاسة السيد الرئيس حضره كل من الفريق صادق وأنا واللواء عبد القادر حسن واللواء بغدادي واللواء محمد علي فهمي واللواء الليثي ناصف والجنرال أوكينيف OKENEV كبير المستشارين السوفيت، وقد امتد المؤتمر من الساعة التاسعة مساء حتى الواحدة بعد منتصف الليل، ودار فيه ما يلي:
1- أدلى الرئيس بما يلي:
أ- اجتمعت أمس بمجلس الأمن القومي وسوف تعبأ جميع موارد الدولة لأغراض المعركة.
ب- سوف أعلن يوم الخميس القادم 11 من نوفمبر سحب مبادرتي لفتح قناة السويس التي كنت قد أعلنتها في 4 من فبراير الماضي تحت شروط خاصة.
ج- قال موجها كلامه إلى الجنرال أوكينيف: "لعلمك، فقد أرسلت إلى أمريكا اخبرهم بأننا سندخل سيناء حتى لو بالبنادق فقط ".
د- أعلن نفسي منذ الآن قائدا عاما للقوات المسلحة
(3)، وعليه يجري تخصيص مكتب لي في القيادة
(4).
2- أدلى الجنرال اوكينيف بما يلي:
أ- ستصل الطائرات TU-16 ومعها الأطقم اللازمة لتدريب الطيارين والملاحين المصريين فورا
(5).
ب- إن المارشال جريشكو - وزير الدفاع في الاتحـاد السوفيتي- يطالب بان يتم تدريب فوج الكوادرات (سام 6) في الاتحاد السوفيتي، حيث إن تسهيلات التدريب لهذا الفوج ليست متيسرة في مصر.
ج- لقد وصلتني من الاتحاد السوفيتي صور عن سيناء التقطتها الأقمار الصناعية السوفيتية، وأني أضعها تحت تصرف القيادة المصرية.
مؤتمر الرئيس في 19 من نوفمبر 71:
في يوم 19 من نوفمبر 71 عقد الرئيس مؤتمرا في قاعدة انشاص الجوية، حضره كل من الفريق صادق وأنا واللواء بغدادي واللواء حسني مبارك واللواء الليثى والسفير السوفيتي في مصر والجنرال اوكينيف، وقد دار خلال هذا المؤتمر الحديث التالي:
الرئيس:
وصلني بيرجس أمسى الأول، وقد قلت له أن خبرتي السابقة معكم تجعلني لا أثق بكم، وإنكم تحاولون تحويل مبادرتي إلى معنى لم اقصده إطلاقا بحيث تصبح لصالح إسرائيل، لقد سبق لهم أن سألوني (يقصد الأمريكيين): إذا سارت عملية الانسحاب طبقا لمبادرتي فهل يمكن تمديد فترة وقف إطلاق النار؟ فأجبتهم بأن ذلك ممكن ويمكننا أن نمدد هذه الفترة ثلاثة أشهر فثلاثة أخرى لمدة أقصاها سنة، ولكني سحبت ذلك كله في مقابلتي أول أمس، وقد سألني بيرجس: "هل أقوم بإبلاغ واشنطن بأنك لا تثق بنا وأنك لن تتفاهم معنا إلا بعد أن ترد إسرائيل على مذكرة يارنج بالإيجاب ؟" فقلت له نعم، وقد أخبرني هو بأنه علم أنه قد وصلتنا طائرات قادرة على إطلاق صواريخ أسرع من الصوت، وأنها مصممة أساسا لضرب السفن الحربية وأن ذلك يقلق حكومة واشنطن لأنه يدخل ضمن حساب توازن القوى بينهما وبين الاتحاد السوفيتي. أخبرته بأني لن أعلن الحرب على أمريكا ولكن يجب أن تعرفوا أن ضرب العمق عندي سيقابل بضرب العمق الإسرائيلي، وقلت له أيضا: يجب أن تخجلوا من أنفسكم، وذكرها الرئيس مرة أخرى باللغة الإنجليزية you should be ashamed of yourself لهذا القلق الذي تشعرون به، إنكم تعطون إسرائيل الفانتوم التي تستطيع بها أن تضرب العمق عندي، ثم تقولون إنكم تشعرون بالقلق عندما أستطيع أن احصل على السلاح الذي يمكنني من ضرب العمق الإسرائيلي.
اللواء بغدادي:
لقد علمت من رئيس المستشارين في القوات الجوية أن سرعة هذه الصواريخ هي 1200 كم في الساعة، وفي اعتقادي أنه ما لم تكن سرعتها تعادل ضعف سرعة الصوت فإن هذه الصواريخ تكون عديمة القيمة.
الجنرال أوكينيف:
هذه معلومات غير صحيحة ثم شرح بعد ذلك أنواع الصواريخ التي تقرر إمدادنا بها وخصائص كل منها، وأني اعتذر للقارئ عن عدم إمكان إذاعة هذه المعلومات.
الرئيس:
أني اقبل تفسير الجنرال أوكينيف.
الجنرال أوكينيف:
إن المشكلة الحقيقية هي تدريب الملاحين. إن كل ملاح يحتاج إلى 500 ساعة تدريبيه.
الرئيس:
لقد استدعى الأمريكيون الجنرال دايان لزيارة أمريكا، ولاشك انهم سيطلعونه على معلوماتهم عن الطائرة TU-16 حاملة الصواريخ، و أخشى أن يقوم العدو بضربة مفاجـئة ليسبقنا بالهجوم، لذلك فإني اطلب من الجانب السوفيتي أن يستطلع لنا سيناء بواسطة الطائرات M500
(8) . وأن يقوم أيضا باستطلاع إسرائيل نفسها بواسطة الأقمار الصناعية.
اللواء بغدادي:
أن الخمسين طائرة ميج MF21 التي قيل إنها ستصل إلينا خلال عام 71 تحتاج إلى 3 اشهر للتركيب، كذلك فإن ورش عمرة (تجديد المحركات وصلاحها بعد فترة تشغيل معينة كما هو الحال في محركات العربات) محركات الطائرات التي يقوم السوفيت بإنشائها في مصر لم يتم الانتهاء منها، وأني أرجو السرعة في إنهاء هذه الأمور.
الرئيس:
اطلب من السيد السفير إبلاغ الزعماء السوفيت بسرعة توريد ما اتفقنا عليه، وإحاطتي بمواعيد وصول هذه الإمدادات، كذلك اطلب سرعة تشغيل مصنع الطائرات وورش العمرة.
زيارة الجبهة:
لقد كان يوم 19 نوفمبر 71 يوافق اليوم الثاني من أيام عيد الفطر المبـارك، وبعد انتهاء المؤتمر رافقت السيد الرئيس في زيارته للقوات المسلحة فاجتمع برجال القوات الجوية والقوات الخاصة في اليوم نفسه ثم انطلقنا إلى الإسماعيلية، حيث قضينا الليلة هناك والتقينا برجال الجيش الثاني، ثم انطلقنا في صباح اليوم التالي إلى الجنوب حيث التقى الرئيس برجال الجيش، ثم عدنا إلى القاهرة في مساء يوم 20 من نوفمبر.
وفي خلال الفترة ما بين 21 من نوفمبر وحتى نهاية الشهر كـان مجهودي الرئيسي موجها للقيام بالتزاماتي تجاه الجـامعة العربية بصفتي الأمين العسكري المساعد لها، فبموجب هذا المنصب كنت أقوم بأعمال رئيس الهيئة الاستشارية العسكرية التي تتكون من رؤساء أركان حرب الجيوش العربية، أقوم بأعمال السكرتارية لمجلس الدفاع المشترك العربي الذي يتكون من وزراء الخارجية والدفاع في الدول العربية. وقد كان رؤساء أركان حرب القوات المسلحة في الدول العربية سوف يبدأ وصولهم إلى القاهرة اعتبارا من 21 من نوفمبر ثم يبدأ بعد ذلك اجتماع مجلس الدفاع المشترك في الفترة ما بين 27-30 نوفمبر.
مؤتمر الرئيس يوم 2 من يناير 1972:
انعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الرئيس السادات يوم 2 من يناير 72، وفيما يلي أهم ما جرى خلال هذا المؤتمر:
الرئيس:
"أن أمريكا تدعم إسرائيل بكل شئ في حين أن الاتحاد السوفيتي لم يمدنا بما وعدني به في أكتوبر الماضي. أن الاتفاقية التي وقع عليها اللواء عبد القادر حسن مؤخرا في موسكو لم تشمل الأصناف كلها التي وعدني بها القادة السوفيت إن أمريكا لن تقوم بممارسة أي ضغط على إسرائيل وانهم يقولون أن الدور الذي يقومون به هو عامل مساعد فقط (استخدم الرئيس الكلمة الإنجليزيةCATALIST). أن اندلاع الحرب الهندية الباكستانية يجعلني أراجع جميع حساباتي حيث أن الحرب بين الهند وباكستان لم تنته بل إنها في الحقيقة قد بدأت".
طلب الرئيس بعد ذلك الاستماع إلى تقارير القادة فكانت كما يلي:
لواء محمد علي فهمي (قائد الدفاع الجوي):
"إن مشكلتي تنحصر في أنه مطلوب مني أن أقاتل في معركة هجومية بأسلحة دفاعية".
محمود فهمي (قائد القوات البحرية):
"يجب أن نمارس الضغط على الاتحاد السوفيتي، يحب أن نغلق الموانئ المصرية في وجه الأسطول الروسي، ويمكن أن يتم ذلك بالتدريج شيئا فشيئا إلى أن يتم المنع نهائيا إذا لم يستجيبوا لمطالبنا".
اللواء بغدادي (قائد القوات الجوية):
"احتاج إلى طائرات ردع تستطيع أن تصل إلى عمق إسرائيل".
اللواء علي عبد الخبير (قائد المنطقة المركزية):
"هناك اوجه قصور كثيرة في القوات المسلحة بالنسبة للمعركة الهجومية، أهمها ضعف الطيران، والنقص في الحركة، والنقص في وسائل المواصلات، وأسلوب فتح الثغرات في حقول الألغام".
اللواء سعيد الماحي (قائد المدفعية):
"يجب أن نقوم بعمل ما في حدود إمكاناتنا".
الفريق الشاذلي:
"على الرغم من قلة الإمكانات إلا أن القوات المسلحة قادرة على القيام بعملية هجومية محدودة. يجب أن يقوم سيادة الرئيس بالاتصال بالجانب السوفيتي ويعرف موقفهم في حالة قيامنا بعملية هجومية، حيث أن لديهم قوات كبيرة في مصر. إن لديهم لواءين "طائرات قتال" وفرقة دفاع جوي، وهم يسيطرون على إمكانات الحرب الإلكترونية، ويجب أن نعلم كقادة هل سيشترك معنا السوفيت أم لا، وفي حالة اشتراكهم فيجب أن نعلم حدود هذا الاشتراك حتى يمكن أن يكون تخطيطنا سليما".
الفريق صادق:
"إننا جميعا على أستعداد للقتال الفوري ولكن يجب أن يكون النصر مضمونا. إن البلاد لا تتحمل ما هو اقل من النصر. إننا سنقوم باستكمال العجز من الكتلة الغربية وسأخبر سيادتكم بمجرد الانتهاء من ذلك".
قصة الضباب:
لاشك أن السادات قد شعر بالارتياح العظيم عندما سمع باندلاع الحرب الهندية الباكستانية في 3 من ديسمبر 1971، إذ انه لا يمكن أن يعترف بخطئه، وهو دائما يبحث عن شخص أو سبب ليحمله مسئولية الخطأ. لقد قضى طوال عام 71 وهو يدق طبول الحرب ويقول أن عام 71 هو "عام الحسم "أما سلما وأما حربا، وها قد انتهى عام 71 دون أي حسم، وقد بدا الشعب المصري -الذي يمارس الديمقراطية فقط من خلال النكتة- يطلق النكات ومن بين هذه النكات نكتة تقول: "إن الرئيس قد أصدر قرارا جمهوريا باعتبار عام 72 امتدادا لعام 71، ومحرم على أي فرد أن يستخدم الرقم 72"، وكـان على السادات أن يرد على هذه النكات وأن يجد المبرر لعدم قيامنا بالهجوم على إسرائيل خلال عام 71، فلم يجد سببا إلا الحرب الهندية الباكستانية وحكاية "الضباب"
وعن قصة الضباب قال السادات :
"لقد أمر جمال القوات الجوية ذات يوم بان تقصف قوات العدو المتمركزة شرق القناة فلما ذهبت طائراتنا إلى المنطقة وجدت أن هناك ضبابا كثيفا يغطي المنطقة ويحجب الرؤية فعادت إلى قواعدها دون أن تنفذ المهمة التي كلفت بها، فأمر جمال بأن تقوم القوات الجوية بتنفيذ المهمة بعد ساعة أو ساعتين يكون فيها الضباب قد انقشع من فوق المنطقة، ولكن قواتنا لم تتمكن من تنفيذ المهمة للمرة الثانية لأنها وجدت أن الضباب كان مازال موجودا. أمر جمال بتكرار العملية للمرة الثالثة ولكن طائراتنا عادت للمرة الثالثة دون أن تستطيع تنفيذ المهمة، وهنا قال جمال: خلاص بأه. يمكن ربنا مش عوزنا نقوم بهذه الضربة"، وبعد هذه القصة المثيرة عن الضباب انتقل السادات إلى قصة الحرب الهندية الباكستانية وقارن بينها وبين الضباب الذي منع جمال عبد الناصر من تنفيذ الغارة الجوية على المواقع الإسرائيلية، وخلص من ذلك إلى أنه لولا قيام الحرب الهندية الباكستانية لقامت الحرب عام 71، ولكان عام 71 هو عام الحسم كما سبق أن قال!
لقد أخطأ الرئيس السادات عندما اعتقد أن الشعب المصري يستطيع أن يبتلع ويهضم قصة الضباب وعلى العكس من ذلك فقد جعل الشعب المصري من قصة الضباب مادة جديدة للنكتة والسخرية.
اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة:
في يوم 18 من مارس 72 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الفريق صادق حيث ابلغنا بما يلي:
1- هناك شائعات تقول أن هناك خلافا بين الفريق صادق والسيد عزيز صدقي
(12)، وهذا غير صحيح.
2- هناك شائعات بأن الفريق صادق على خلاف مع الاتحاد السوفيتي، وهذا غير صحيح، حيث أن الخلاف هو خلاف مبادئ.
3- هناك شائعة بأن القوات البحرية في مرسى مطروح والإسكندرية قد وضعت تحت سيطرة السوفيت وهذا غير صحيح.
4- لقد عاد الفريق عبد القادر من موسكو دون أن يوقع على الاتفاقية الجديدة حيث إن الروس طلبوا أن ندفع ثمن الطائرات TU22 والدبابات ت62 والذخيرة بالعملة الصعبة وبالثمن الكامل، وبالتالي فان الطائرة TU22 يصبح ثمنها 5,6 مليون روبل والدبابة ت 62 يصبح ثمنها250000 روبل، وقد رفض الجانب المصري التوقيع على الاتفاقية بهذه الشروط وبالتالي فأن هذه الأصناف لن تحضر.
في غياب الديمقراطية فإن الشائعة هي السلاح الوحيد الذي يستطيع بواسطته الشعب أن يعبر عن رأيه ولكن في كثير من الأحيان فإن القيادة السياسية تعمد هي نفسها إلى خلق وترويج بعض الشائعات لكي تخدم غرضا معينا، وفي اعتقادي أن ما ذكره الفريق صادق من شائعات في اجتماع المجلس الأعلى يوم 18 من مارس هو من هذا النوع من الشائعات التي فجرها لكي يخلق العداوة بين أفراد القوات المسلحة وبين الاتحاد السوفيتي ولكي يظهر وكأنه هو الذي يحمى مصر من تيار الشيوعية. أن الفريق صادق يكره الشيوعية كراهية شديدة، وهذا أمر يخصه وليس لأحد أن يحاسبه على ذلك، ولكن عداوته للشيوعية قد أعمت بصيرته فأصبح لا يفرق بين الشيوعية كمذهب أيديولوجي والاتحاد السوفيتي كدولة عظمى تقوم بإمدادنا بالسلاح الذي يمكننا من تحرير أرضنا المحتلة. كان كل من يدعو إلى تصفية الجو وتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتي من اجل مصر هو عدو شخصي للفريق صادق، بل قد يذهب إلى ابعد من ذلك فيتهمه بالانتماء إلى الشيوعية والعمالة للاتحاد السوفيتي، لذلك فإن ما قاله صادق في هذا المؤتمر كان في الواقع هجوما على عزيز صدقي وليس نفيا لهذه الشائعة.
ولنفرض إنني أخطأت في تحليلي هذا وان صادق لم يخلق هذه الشائعات و إنما وصلت إليه عن طريق استطلاع الرأي الذي يجري في القوات المسلحة من وقت لآخر بطريقة دورية، فإن هذه الشـائعات لا يمكن النظر إليها بجدية نظرا للأسلوب الخاطئ الذي تتبعه القوات المسلحة المصرية للحصول على هذه المعلومات ليس سرا أن إدارة المخابرات الحربية لديها
مندوبون غير معروفين في كل وحدة من وحدات القوات المسلحة، وان هؤلاء الأفراد يقومون بإبلاغ إدارة المخابرات سرا بكل ما يرون وما يسمعون، فلو فرضنا مثلا أن مندوبا واحدا من ضمن آلاف الوحدات سمع شائعة كهذه فإنها تسجل ضمن الشائعات الدائرة سواء كانت نسبتها واحدا في الألف أم كانت من تأليف شخص واحد. أن هذا الأسلوب هو إهدار للفكر البشرى لأنه لا يمكن لجميع البشر أن يتفقوا على كل شئ، وان المناقشة الحرة وتسجيل الآراء في أسئلة محددة ثم القيام بإحصاءات شريفة عن هذه الإجابات هي الأسلوب العلمي الصحيح لاستطلاع الرأي. وقد هاجمت هذا الأسلوب في أحد مؤتمراتي الشهرية وأوضحت أن مثل هذه التقارير التي تقدمها إدارة المخابرات الحربية للسيد رئيس الجمهورية وللسيد الوزير لا تمثل الرأي العام الحقيقي في القوات المسلحة. وقد شعر جميع القادة الذين حضروا المؤتمر بسعادة غامرة وأنا أدلي بهذا القول وأيدوني تأييدا، مطلقا في كل ما قلته، ولكني مع ذلك لم استطع أن اصلح هذا الأسلوب الغريب في استطلاع الرأي، لأن إدارة المخابرات الحربية كانت تخضع لوزير الحربية مباشرة وعلاقة (ر.ا.ح.ق.م.م) بها تنحصر في الفرع الخاص باستطلاع العدو، أما فرع الأمن وتقارير الإدارة بخصوص أمن القوات المسلحـة فكانت ترفع إلى رئيس الجمهورية والى وزير الحربية، وإذا أرسلت صورة إلى (ر.ا.ح.ق.م.م) فهي للعلم فقط. والغريب هنا أن هذا النظام استمر أيضا بعد عزل الفريق صادق وتعيين الفريق أحمد إسماعيل بدلا منه في أكتوبر 1972.
إن إدارة المخابرات الحربية في مصر هي جزء من النظام المصري. إنها أحد الأجهزة الثـلاثة التي يعتمد عليها الحـاكم في مصر لكي يسيطر على أفراد الشعب. هناك هيئة المخابرات العامة التي تتبع رئيس الجمهورية مباشرة وهناك المباحث العامة التي تتبع وزير الداخلية ثم هناك إدارة المخابرات الحربية التابعة لوزير الحربية، وتقوم كل من هذه الجهات الثلاث بإرسال تقرير شهري- إذا لم يكن هناك ما يستدعي إرسال تقرير خاص- إلى رئيس الجمهورية، ومن هنا يظهر التنافس بين الثلاثة أن كلا منها تعتقد انه كلما كان التقرير اكثر تفصيلا كان ذلك شاهدا على مدى إخلاص الإدارة للنظام، كما إنها تخشى أن تسقط خبرا أو شائعة قد تظهر في تقارير الإدارتين الأخـريين فيكون ذلك اتهامه لها بأنها تغض الطرف عن شئ معين لسبب تريد إخفاءه عن رئيس الجمهورية، ومن هنا كـان الصـراع المهني بين الأجهزة الثلاثة. ويتم ذلك كله بتشجيع من رئيس الجمهورية الذي يرى أن تنافس تلك الأجهزة الثلاثة سوف يضمن له عدم قيام أي عمل انقلابي ضده.
في صباح يوم 19 من مارس اجتمعت مع السيد الوزير والجنرال اوكينيف، حيث عرض علينا صورا التقطت بواسطة الأقمار الصناعية السوفيتية، وقد أرسلت هذه الصور مع مندوب خاص من الاتحاد السوفيتي حتى يمكننا أن نطلع عليها ونستخرج منها كل ما نريد من معلومات بشرط واحد وهو ألا نعيد تصويرها أو نأخذ فيلما عنها. وبعد أن اطلعنا على الصور انسحب المندوب السوفيتي الذي كان يحمل هذه الصور ومعه أحد ضباطنا لنقل المعلومات من الخريطة.
بعد ذلك انضم إلينا الفريق عبد القادر حسن ودار الحديث كما يلي:
الجنرال اوكينيف:
لقد قابلت أمس أنا والسفير السوفيتي الرئيس السادات وعرضنا عليه هذه الصور الجوية. وقد اخبرنا بأنه هو الذي قال لرئيس الوزراء السيد عزيز صدق أن يتم الدفع بالعملة الصعبة.
أن الرئيس قال: إننا مستعدون للدفع كاملا وبالعملة الحرة بالنسبة للطائرات ميج 21 والطائرات M-500 ولكن ليس بالنسبة للطائرات TU22 لأنها قاذفة فقط وتحتاج إلى حماية وأننا سنستعيض عنها بسربي ليتنتج من السعودية وسرب ليتنتج من الكويت وأننا سنرسل الطيارين المصرين للتدريب على هذه الطائرة في الأسبوع القادم ".
بخصوص الدبابات ت 62 قال الرئيس: "إننا نحتاج إلى هذه الدبابات ولكنها غالية جدا وهناك مشكلات بخصوص قيام ليبيا بدفع ثمنها"
وافق الرئيس على أن تقوم مصر بدفع ثمن الذخيرة بالعملة الصعبة.
وافق الرئيس على تسليم 12 كتيبة صواريخ فقط من الأصدقاء بدلا من 18 كتيبة، كما ورد في خطاب وزير الحربية المصري إلى وزير الدفاع السوفيتي
(15)، وقد لمح الجنرال أوكينيف بأن سحب هذه الكتائب الآن قد يؤثر على محادثات بريجنيف- نيكسون التي كان مقررا عقدها في موسكو في شهر مايو القادم.
الفريق صادق:
"ليس لدى علم بهذه المسائل وسوف اتصل بالسيد الرئيس وأقوم بتنفيذ ما يأمر به ".
انسحب الجنرال اوكينيف بعد ذلك وبقيت أنا والوزير والفريق عبد القادر حسن، وقد اتصل الوزير بالرئيس هاتفيا في حضورنا وابلغه بما سمعه من الجنرال اوكينيف، فأيد الرئيس كل ما قاله الجنرال اوكينيف فيما عدا موضوع الذخيرة فقد قال الرئيس: فإن ما اقصده بالدفع بالعملة الصعبة بالنسبة للذخيرة هو ما يدفع لقاء توسيع خط الإنتاج المصري للذخيرة وليس ثمن الذخيرة نفسها".
وبعد هذه المحادثات الهاتفية غادر السيد الوزير مكتبه إلى مطار القاهرة حيث استقل الطائرة إلى السعودية.
كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف من صباح الأحد 19 من مارس عندما غادر السيد الوزير مبنى الوزارة متجها إلى السعودية، وبينما أنا منهمك في اتخاذ الإجراءات والمراسيم التي تتعلق بتسلم 12 كتيبة صواريخ من الأطقم السوفيتية اتصل بي مكتب الرئيس وطلب مني الحضور فورا لمقابلة الرئيس في منزله بالجيزة وان احضر معي الفريق عبد القادر حسن المختص بالاتفاقات السوفيتية المصرية، والذي كان قد وصل من الاتحاد السوفيتي في اليوم السابق، وفى الساعة 12:30 كنا في منزل الرئيس حيث كان معه السيد حـافظ إسماعيل مستشاره لشئون الأمن القومي.
قام الفريق عبد القادر حسن بشرح تقريره بخصوص رحلته الأخيرة واستمع إليه الرئيس دون أن يوجه إليه أي سؤال ودون أن يعلق على التقرير بطريق مباشر. ولكنه علق عليه بطريق غير مباشر، لقد علم الرئيس أن صـادق قد اتخذ من تقرير عبد القادر حسن ذريعة لكي يهاجم الاتحاد السوفيتي، وها هو ذا السادات يريد أن يسـتمع إلى تقرير عبد القادر حسن لكي يستخدمه شريعة للدفاع عن الاتحاد السوفيتي. ويتلخص ما قاله الرئيس فيما يلي:
أ- إن صداقتنا مع الاتحاد السوفيتي هي خط استراتيجي يجب المحافظة عليه لأنه الورقة الوحيدة التي نلعب بها.
ب- أن المعلومات التي نوقشت أمس على مستوى المجلس الأعلى للقوات المسلحة يجب ألا تنقل إلى أي مستوى اقل من ذلك.
ج- أننا لن نعطى قواعد للسوفيت ولكننا سنقدم لهم التسهيلات فقط.
وقد احضر الرئيس أمامنا شخصا قال انه ضابط بوليس كان أحد أقاربه ضابط في القوات المسلحة وإن قريبه هذا اخبره بان المخـابرات الحربية كانت تستطلـع رأي القوات المسلحـة حول ما يطلبه الروس من قواعد بحرية وحول ما يطلبونه من أن يتم دفع ثمن السلاح بالعملة الصعبة
(16).
بعد ذلك خرج عبد القادر حسن وبقيت أنا لمناقشة بعض المسائل الأخرى مع السـيد الرئيس.