الكويت في طريق الاستقلال (6)
د. يعقوب يوسف الغنيم
مقالات أخرى للكاتب
الأربعاء 01 مارس 2017
كيف كانت الكويت بعد وفاة الشيخ مبارك الصباح؟ وهل حافظت على استقلالها وتقدمها، وسيرها في الطريق الذي اختطّه لها ذلك الأمير القوي؟
من المعروف ان الشيخ جابر المبارك الصباح قد تولى الحكم بعد والده منذ وفاته في سنة 1915م، ولكن فترة حكمه كانت قصيرة جدا، اذ توفي في سنة 1917م، ولم يكن هذا الوقت كافيا لاظهار اعماله المنتظرة، ولكنه كان في حياة والده مساعدا فعالا له، وكان يقوم بكثير الأعمال في فترات انشغال الوالد، وهو على كل حال رجل طيب السيرة مذكور بالخير دائما.
وفي السنة التي توفي فيها الشيخ جابر تولى الحكم أخوه الشيخ سالم المبارك الصباح، وبقي في الحكم منذ سنة 1917م، وحتى سنة 1921م، وكانت فترة حكمه - الى حد ما - أطول قليلا من فترة تولي أخيه جابر الحكم، ولذا فاننا سوف نجد بعض الأمور التي ينبغي ان نذكرها لهذه الفترة.
تولى الشيخ سالم بن مبارك الصباح حكم الكويت بعد وفاة أخيه جابر بن مبارك وذلك في سنة 1917م.
كان رجلا عفيفا، وكان من الحريصين على صيانة البلاد من أعمال الفجور والفسق ولذلك فقد قام بإزالة جميع ما يؤدي الى ذلك وكان شجاعا باسلا قوي الشكيمة قارئا ملما ببعض علوم العربية، صادق الديانة.
بدأ أعماله بتخفيض رسوم الجمارك فصارت في عهده 4 في المئة، وأسقط الجمارك عن الخارج من الكويت، ومن أجل غيرته على الأخلاق العامة فقد رتب أناسا اختارهم، تكون مهمتهم مراقبة المشبوهين، والضرب على أيديهم، وقد احتسب المواطنون هذا العمل للأمير، وأثنوا عليه كثيرا.
وكان الشيخ سالم من المهتمين بشاعر الكويت صقر الشبيب يبذل له المعونة، ويستمع الى شعره، ويمتدح هذا الشعر، ويطرب له، وقد قال هذا الشاعر في الشيخ سالم عدة قصائد تعد من أجود شعره، ومن ذلك قوله:
كريم نفى عني هموما كثيرة
تذيب أصم الصخر لو حل بالصخر
فشكري له شكر المنابت للحيا
إذا ما اكتست منه ثيابا من الزهر
وهناك بعض الأمور التي حدثت في زمن حكم الشيخ سالم المبارك نذكر منها:
1 - ان خدمة التلغراف اللاسلكي قد امتدت الى البلاد في عصره، وكانت الفكرة، قد بدأت في عصر والده، ولكنها تأخرت بسبب الحاجة الى مزيد من الدراسة والاعداد، ولكن هذه الخدمة المهمة نشأت فأفادت كثيرا وبخاصة فيما يتعلق بحاجات التجارة والاتصالات مع الدول الأخرى.
2 - كانت الكويت كعادتها مصدرا تجاريا لعدد من البلدان، وكانت اهم اعمالها من هذا النوع في زمن الحرب، وقد بقيت الحال على ما هي عليه الى ان قام بعض المفسدين بالوشاية التي أبلغها للدولة البريطانية، فتنبهت الى ذلك، وقد أرسلت هذه الدولة رئيس الخليج في ذلك الوقت بيللي الى الشيخ سالم لإبلاغه بذلك، في شهر ديسمبر 1917م.
وكانت بريطانيا عازمة على وضع موظفين تابعين لها للاشراف على ما يخرج من الكويت من سلع الى الجهات المختلفة.
وقد رفض سالم المبارك هذا الرأي، وأصر على عدم قبوله وقال: لا يمكنني الوصول لذلك مهما كان الامر لان بلادي ليست بمعادية لانكلترا حتى تضرب عليها هذا النوع من الحصار، ثم أنا من الساهرين على مصلحة الحكومة هنا وبخاصة ما يعود بالنفع، وأضاف انه يتعهد الآن بألا يخرج من الكويت شيء معلوم من معتمدها هذا، ثم انه لا يصح أن تلقى المسؤولية على بلدي فيما يصل الى المدن المجاورة من السلع.
وعندما استمع اليه رئيس الخليج قال له: ان الحكومة مصممة على ما أرادت، واذا لم تلب ما تريده منك فسوف تمطرك أنت وبلادك بعدد كبير من القنابل، لاننا في حال حرب، ولا نريد ان نترك الأمور للظروف.
وعندما وجد الشيخ ان الامر من الصعوبة بمكان وان تجاوز طلب بريطانيا غير ممكن رد على بيللي بقوله:
لا أستطيع ان اتخذ بذلك قرارا بمفردي، اذ لابد وان استشير اسرتي، وعددا من رجال الكويت، فاذا لم تروا ان تتيحوا لي هذه الفرصة فاعملوا ما شئتم.
فرد رئيس الخليج بانه لا بأس من مراجعتك لمن تشاء من قومك.
وعندما اجتمع الشيخ بجماعته اصروا على عدم الموافقة على ذلك، وقالوا انه ليس بوسعنا القبول ولو ألجأتنا الضرورة الى مغادرة الوطن.
فما كان من الشيخ الا ان ابلغ الرئيس بموقف القوم وما ردوا به عليه، ففكر الرئيس قليلا بعد ان علم ان هذا الامر الذي جاء من أجله لن يتم الا بضجة كبرى في الكويت ضد بريطانيا التي كانت في ذلك الوقت تسعى الى كسب الاصدقاء، لم يكن امامه الا التهدئة، واطفاء الزوبعة التي أثارها فيما قال للشيخ، ومضى بيللي دون نتيجة، ولكنه بالطبع أبلغ السير بيرسي كوكس بكل ما حدث، وقد قام هذا الأخير بارسال رسالة لطيفة الى الشيخ بعد أيام من ذلك اللقاء وكان في الرسالة انه يرجو - بكل لطف - ان يتقبل مطلب الحكومة البريطانية ويقطع له التعهدات الأكيدة على ان الرقابة التي سوف تستعين بها لذلك الغرض مؤقتة ومرهونة بانتهاء الحرب، وأكد ان الحكومة البريطانية سوف تعوض بلاده عن النقص الذي سيلحقها من جراء الحصار، وعندما رأى الشيخ لين العبارة والوعد بالتعويض قبل ما كان يرفضه في البداية، وكان ذلك لانه قوبل بروح طيبة وعبارات مهذبة.
وقد أرسلت بريطانيا مندوبا عنها كان يعمل تحت عناية الشيخ الذي استمر في متابعة امر الحصار، ثم جعل ابنه الشيخ عبدالله مسؤولا يقوم مقامه في هذا الامر، وعند نهاية الحرب أرسلت بريطانيا الى الشيخ مبلغ أربعمئة وسبعة وثمانين ألف ربية، وأهدت اليه نيشانا رفيعا.
ولقد كان ما جرى منذ البداية مما يدل على حرص الشيخ على كرامة وطنه واستقلاله.
3 - نتيجة لبعض محاولات الهجوم على البلاد عزم الشيخ سالم المبارك على اقامة سور حول الكويت هو السور الثالث من نوعه ولكنه يشمل منطقة أوسع، ويأتي على نصف دائرة كبيرة حول العاصمة، ولم يتردد الشيخ في تنفيذ ما قر في ذهنه من حيث بناء هذا السور، على الرغم من ان بعض الناس حاول ان يثنيه عن عزمه باعتبار ان السور سوف يحد من حركة الناس الى الخارج والى الداخل، ولكنه لم يستمع الى ذلك، ودعا الى العمل على بناء هذا الركن الدفاعي المهم عن البلاد، فقام الناس بالعمل في جد ونشاط، ومن الغريب ان الشيخ عبدالعزيز الرشيد قال في كتابه: تاريخ الكويت ما يلي: وقد قام الأهلون بنفقته كلها، ولم تمدهم الحكومة ولا بدرهم واحدا وهذا القول من الاقوال التي نجدها احيانا عند الشيخ عبدالعزيز هو قول مخالف للحقيقة تماما واذا أردنا الرجوع الى الوثائق التي تثبت عكس ما قال فان بين يدينا كتاب اعده وقدم له الاستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، ونشره مركز البحوث والدراسات الكويتية في سنة 2013م، تحت عنوان: سور الكويت الثالث، بناؤه، وحمايته، في وثائق الحميضي والخالد.
والكتاب مليء بالبيانات المالية التي تثبت امداد الشيخ سالم المبارك الصباح للمشرفين على العمل بالمال وكان هذا المال شاملا لأجور العاملين ، ولشراء ما يحتاج اليه العمل من مواد وأدوات، والكتاب بين أيدي الناس وهو مزود بالوثائق الدامغة ومن العجب ان يقول الشيخ عبدالعزيز الرشيد مقولته هذه في الوقت الذي كان معاصرا للشيخ وصديقا مقربا لآل الخالد، ولابد وانه سمع منهم عكس ما كتب، ولكنه فاجأ قراءه بذلك الذي قاله، حتى انتشر بين الناس، واصبح مقولة على كل لسان، بينما نجد الكتاب الذي أشرنا اليه يطرحها جانبا، ويقدم الحقيقة.
4 - مما حدث في عهد الشيخ سالم المبارك، أمر يدل على حرصه على استقلال وطنه وحريته تلك الحرب التي خاضها في الجهراء خلال سنة 1920م، وقد أبلى فيها بلاء حسنا هو ومن معه حتى استطاع بكل الوسائل الممكنة ان يتغلب على أولئك الذين هاجموا الكويت عن طريق هذه البلدة الآمنة، وقد تحدث الشيخ عبدالعزيز الرشيد عن هذه الحادثة حديثا مسهبا، تناول فيه مختلف جوانب المعركة من قبل ان تحدث، ومن بعد ما توقف القتال وليس من الممكن التوسع في هذا الامر حاليا ما دام مكتوبا يمكن ان يطلع عليه من يشاء.
5 - ونحن - اليوم - نحمد الله تعالى ان جعل هذه الامور المزعحة من الماضي السحيق الذي عوضنا الله عنه بالمودّة والملاطفة وحسن التعامل، فنحن - أولا وأخيرا - اخوان من أصل واحد يجمعنا نسب ولسان ودين قويم.
توفي الشيخ سالم المبارك في سنة 1921م، فحل محله في الحكم ابن أخيه الشيخ أحمد الجابر الصباح.
وقد وصف بانه كان رجلا شديد التواضع، وكان صبورا على الشدائد ، قوي الاحتمال لها مهما كانت.
ولقد تعرضت البلاد في عهده الى مشكلات كثيرة ومرت بها هزات سياسية واقتصادية مختلفة ولكنه كان قوي البأس مستعدا لكل الظروف فتصدى لكل ما جابهه بصبر وحنكة ومقدرة فائقة وتمكن من تسيير الأمور وفق الأفضل.
وقد أدخل الكويت عهدا جديدا باهتمامه بالتعليم والصحة، ففي ايام حكمه أرسلت اول بعثة من طلاب الكويت للدراسة في الخارج، وتأسست دائرة معارف الكويت ونشأ مجلسها في سنة 1936م، وتم برعايته افتتاح ثاني مدرسة نظامية في الكويت وهي المدرسة الأحمدية، وأنشأ المستشفى الأميري وبعض المستوصفات، وكان يعد النشء عن طريق الاهتمام بالتعليم للمستقبل المنتظر لهم، وبالفعل فانه عندما مضت سنوات قليلة وجدنا ابناء الكويت يخوضون غمار العمل الحكومي في شتى المجالات، وفي مختلف التخصصات.
ومنذ بداية عهده أنشأ مجلسا استشاريا ضم عددا من أبناء الكويت، وتم تحديد الحدود الجنوبية مع المملكة العربية السعودية في اليوم الثاني من شهر ديسمبر لسنة 1922م.
وضمانا للانفتاح على العالم فقد أنشأ اول مطار في الكويت، وقد حطت به أول طائرة في سنة 1928م.
وفي عهد الشيخ أحمد الجابر بدأ تدفق النفط في بعض نواحي البلاد، وحضر شخصياً الاحتفال بتصدير أول شحنة منه في سنة 1946م.
وفي عهده دعت بريطانيا الى عقد مؤتمر يضم ملك الحجاز، وسلطان نجد، وأمير المحمرة، وملك الأردن، وملك العراق، وذلك لبحث المشكلات الدائرة بين هذه الدول، وفي قصر دسمان بتاريخ 1924م، بدأ الاجتماع بحضور الشيخ أحمد وتم عقد عدة اجتماعات، ومع ان المؤتمر لم ينجح في مهمته الا ان الشيخ أدى كل ما يمكن من عمل في سبيل تيسير عمل المؤتمرين، وسهر على راحتهم حتى حان موعد رحيلهم.
ونشأت بجهوده دائرة بلدية الكويت وافتتح في الكويت أول بنك تحت اسم البنك البريطاني للشرق الأوسط في سنة 1942م، وأنشئ بيت الكويت في القاهرة سنة 1945م، لكي يرعى طلاب البعثات الكويتية التي ترسل الى هناك.
ومن الأعمال الثقافية المهمة التي تمت في عهده انشاء مطبعة المعارف التي اشتركت هذه الدائرة مع الاستاذ أحمد البشر الرومي والأستاذ حمود المقهوي فقامت هذه المجموعة بانشائها في سنة 1947م، وقامت بعمل عدد كبير من المطبوعات كان على رأسها طباعة مجلة كاظمة التي كان رئيس تحريرها الأستاذ أحمد السقاف.
ولم يرحل الشيخ أحمد الجابر الصباح عن دنيانا في سنة 1950 حتى شهد التقدم الذي عم البلاد، وقرت عينه بما وصلت اليه الكويت من رقي، وشهرة عالمية حتى أصبحت محط الأنظار.
واضافة الى كل ما سبق فقد حدث في فترة حكم الشيخ أحمد الجابر ما يلي:
1 - انشاء دائرة الأيتام التي تدعى اليوم الهيئة العامة لشؤون القصر.
2 - انشاء دائرة الأمن العام في اليوم الثاني عشر من شهر ديسمبر لسنة 1938م.
3 - انشاء مجلس الصحة في سنة 1942م.
4 - تم افتتاح دائرة الشرطة العامة في سنة 1938م. وكانت بدايتها بسيطة، ولكنها سرعان ما نمت وتنوعت اختصاصتها.
5 - وتأسست لجنة للتموين فكانت بداية لتشكيل دائرة التموين فيما بعد.
6 - وفي عهده تم انشاء دائرة الأوقاف العامة لكي تشرف على المساجد، وتكفل لها القيام بدورها الديني، كما تقوم برعاية الأعيان الموقوفة عليها.
وهكذا نرى الكويت وقد شقت طريقها الى سلوك النظام الذي تسير عليه الدول من حيث التنظيم الاداري والحرص على نشر العلوم والمعارف واتاحة فرصة العلاج للمرضى، وكل ذلك فيه ترسيخ للروح الاستقلالية التي تتمتع بها البلاد اذ لا يمكن ان يشعر المرء باستقلال بلاده إلا اذا وجد ان كل ما حوله في غاية التنظيم، ووجد الخدمات المختلفة ميسرة له، ولقد كانت فترة حكم الشيخ أحمد الجابر الصباح فترة حولت الكويت الى ورشة عمل تقوم بها مختلف الفئات فَتُقدِّمُ كل ما نحتاج اليه، وما احتجنا اليه فيما بعد.
ومما لابد من الاشارة اليه هنا ان الكويت شهدت آنذاك اهتماما بالطرق من حيث توسعتها ورصفها فرأينا شارع أحمد الجابر شارع دسمان والشارع الجديد شارع عبدالله السالم، وشاهدنا رصف عدد من الطرق لتسهيل حركة التنقل بالسيارات، وهذا هو ما أعطى البلاد صورة جميلة أبهجت نفوس اهلها.
كان كل ذلك قد جرى في بلادنا منذ سنة 1921م، حتى سنة 1950م، تمهيدا للخروج من وضع كنا عليه بعيدين عن العالم مكتفين بنشاطنا التجاري المعهود الى ان خرجنا الى الدنيا فصارت لنا علاقات، وبدأ سيرنا السريع الى الاستقلال منذ ذلك الوقت.
وجدير بنا ان نذكر بعض الحوادث التي لابد من ذكرها في هذا المجال وهي:
اتخذ الشيخ أحمد الجابر الصباح قرارا في سنة 1942م، رفع بموجبه الضريبة الجمركية الى ستة ونصف في المئة بعد ان كانت خمسة ونصف في المئة، وكانت الزيادة وقدرها 1 في المئة بسبب حاجة بلدية الكويت ودائرة معارف الكويت الى مبالغ كافية لتسيير أعمالها، وقد جاء هذا الاقتراح من مجلسي الدائرتين وسرعان ما وافق عليه الأمير بعد ان أخذ مجمل آراء المتعاملين مع دائرة الجمارك من التجار، وهكذا نالت البلدية والمعارف حظا من المال كان كافيا في ذلك الوقت لسد حاجتهما، ولتمويل مشاريعهما النامية.
- استقدم الشيخ عبدالله الجابر الصباح رئيس معارف الكويت في سنة 1942م، اول بعثة تعليمية من المصريين، وهم أربعة: علي محمد هيكل، وأحمد قائد، وأحمد ضيف، ومحمد سيد الأهل.
وغادرت الى مصر في السنة ذاتها بعثة طلابية من أجل الدراسة هناك، وهي تتكون من سبعة عشر طالبا وسوف ينهون أولا مرحلة الدراسة الثانوية، ثم ينتقلون الى الجامعة.
- وفي 16/9/1946م، أرسل السيد ويكلن رسالة الى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، وكان عضوا في المجلس البريطاني في القاهرة، وكان مسؤولا عن الطلاب الكويتيين الذين يتلقون دروسهم هناك، وردا على أحد اقتراحاته التي وردت في تلك الرسالة فان مجلس المعارف رفضه رفضا باتا دل على حرية المجلس في اتخاذ قراراته، فقد كان ويكلن المذكور يرى ان تقتصر الدراسة في الخارج على المجالات التي تخرج للكويت مدرسين للمرحلة الابتدائية وكان رأي مجلس المعارف ان دائرة المعارف نشأت لكي تقدم تعليما متكاملا لابناء الكويت بحيث يتخرج منهم اختصاصيون في جميع المجالات.
ومن التدخل في شؤون الكويت من قبل السلطات البريطانية ما كان يرفضه الشيخ أحمد الجابر بكل أدب، ودون ان يبدي اي تذمر، ومن ذلك ان المعتمد البريطاني في الكويت أرسل الى الشيخ رسالة في اليوم الثالث والعشرين من شهر مارس لسنة 1945م، يقول فيها انه علم بنية الشيخ القيام برحلة الى الهند، وهو يتساءل عما اذا كانت الزيارة رسمية أم خاصة؟ وعن برنامج الرحلة والتنقلات هناك، والعنوان الذي توجه اليه المراسلة ثم أضاف الى ذلك: سوف أكون ممتنا - أيضا - اذا أعلمتموني بأسماء اي شخصيات بارزة سيرافقون سموكم، وكان رد الشيخ يحمل دليلا على رفضه لهذا الأسلوب الفج فقال في رسالة رد بها على المعتمد البريطاني وفيها: اننا نفكر بزيارة الهند زيارة خاصة، ولكننا الى الآن لم نقرر ذلك بصفة باتة. هكذا نرى الشيخ وهو يرد بهذا الاسلوب القاطع على من يريد ان يتدخل في خصوصياته.
- واضافة الى ذلك فانه من المهم ان نذكر ان الشيخ أحمد الجابر الصباح قد قام برحلات عدة شهد خلالها كثيرا من دول العالم، وكون لنفسه صداقات مع المسؤولين في هذه الدول، وهذا تفصيل لاحدى تلك الرحلات:
كانت الحرب العالمية الأولى هي السبب في قيام الشيخ أحمد الجابر الصباح بزيارة بريطانيا، وقد كان بدء اشتغال الحرب في سنة 1914م وانتهاؤه في سنة 1918م، وقد تكونت في البداية مجموعة من الحلفاء ضمت انكلترا وفرنسا وروسيا وبلجيكا وصربيا والجبل الاسود واليابان ثم انضمت الولايات المتحدة الأميركية الى هذا التحالف، وذلك في مقابل ألمانيا والنمسا والمجر والدولة العثمانية.
وكانت الكويت قد شاركت بصورة ما في هذا الحرب اذ أعلنت وقوفها الى جانب بريطانيا والتحالف المؤازر لها، فسارعت مجموعات مسلحة بشن هجوم خاطف على بعض المواضع الكويتية التي احتلها الاتراك في شمالي البلاد، ووقف جنودها على مشارف البصرة مما شغل الجيش العثماني عن الانزال العسكري البريطاني الذي سارع الى احتلال العراق من جانب آخر ودحر العثمانيين.
وقد حفظت بريطانيا للكويت هذا الموقف، وعندما هدأت الامور وجهت دعوة الى الشيخ سالم الصباح أمير البلاد لزيارة بريطانيا زيارة رسمية للتعبير له عن الشكر والامتنان للمبادرة الكويتية، وقد اعتذر الشيخ سالم عن عدم تمكنه من القيام بهذه الرحلة، ولكنه أسند هذه المهمة الى ولي عهده الشيخ أحمد الجابر الصباح أمير الكويت فيما بعد، وقد جددت الدعوة للشيخ سالم ناصة على الترحيب بالشيخ أحمد.
وقد أرسل الشيخ سالم المبارك برقية الى ملك بريطانيا جورج الخامس يشكره فيها على حسن الاستقبال الذي لقيه الشيخ أحمد، وهي تنص على قوة الصداقة التي تربط بين البلدين، ويذكر اننا نتمتع نحن واخواننا حكام بلاد العرب بكمال الحرية والسلامة والاتحاد وهذه الرسالة مؤرخة في 4 من فبراير سنة 1920م.
وقد كانت هذه الزيارة من الأمور البارزة في تاريخ حياة الشيخ أحمد الجابر، اذ انه بها قد اتصل بأكبر قيادة سياسية وعسكرية في ذلك الوقت وهي: بريطانيا المنتصرة في حربها، والتي كان لها دور كبير في أحداث وسياسات المنطقة، وقد أثبت الشيخ عبدالعزيز الرشيد هذه الزيارة في تاريخه فقال: ارتأت الحكومة الانكليزية بعد انتهاء الحرب العامة ان يزور ملكها في عاصمته لندن بعض أمراء العرب الذين بينهم واياها روابط سياسية، احكاما لها، واظهارا لتعلقهم بها، وكان من بين أولئك الأمراء أميرنا المفخم في ولاية عهده.
سافر من الكويت في ذي الحجة سنة 1337هـ، ومر على بمبي في طريقه، وأقام فيها أياما بين التعظيم والتبجيل، ثم سار منها الى لندن، وفي صفر سنة 1338هـ حل رحابها، واجتمع هناك بملك انكلترا، واهداه حصانا عربيا وسيفا وخنجرا مذهبين، وحضر احدى جلسات البرلمان الانكليزي، وبعد ان أقام اياما ملحوظا بعين الاجلال، قفل راجعا الى اهله، ومر على مصر، ومكث فيها اياما، ثم رجع الى وطنه في ربيع ثاني سنة 1338هـ.
وهذه هي عادة أهل الكويت في حرصهم على استقلالهم، وابعاد المتدخلين في شؤونهم ولم تنقطع عنهم هذه العادة التي كونت شخصيتهم ومنحتهم الصفة التي عرفهم الناس بها.
حريدة النهار