هجاء السلاح _ المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة _ حازم صاغيّة

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
09-04-2010, 03:14 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962

icon1.gif

هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
الحرب الأهلية الأنغولية استمرت ضعف سنوات التحرر والاستقلال وكانت أطول النزاعات وأشدها دموية
(الحلقة 17)
حازم صاغيّة

إفريقيا: المقاومة كنقيض للشرعية

تقدم أنغولا عينة باهرة على دور المقاومة في إدخال السكان الشأنَ العام من خلال السلاح وحده، وذلك فيما البلد المعني نفسه لم يسبق أن تشكل كبلد، ولا اكتسبت الوطنية أي معنى لها بصفتها هذه. وفي ظل عملية كتلك، يكون التسييس عبر السلاح أكبر منه وأسرع نمواً من الوعي والولاء الوطنيين. بل يجوز القول إن هذين الأخيرين لا يكفان عن التقلص والانكماش، معلنين عجزهما عن اللحاق بالتسييس العسكري والنضالي. والعاهة هذه لا تلبث أن تكتسب صفة الديمومة التي تتعاظم صعوبات علاجها، ومن ثم صعوبات تأسيس الدولة- الأمة وبناء الشرعية الدستورية التي تنظم اشتغالها.

لقد خضعت أنغولا لاستعمار شديد التخلف، هو استعمار البرتغال، ذاك البلد الطرفي في أوروبا الذي لم تلفحه رياح التطورات التي عصفت بسائر القارة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.

فالبرتغاليون وصلوا إلى البقعة التي تُعرف بأنغولا في 1483، ثم جعلوها مستعمرة لهم في 1576، وهو ما تمأسس وتمدد في 1886 كي يشمل البلد في حدوده الحالية.

لكن حرب الاستقلال، أو «حرب التحرير»، حسب التسمية الرسمية، تأخر اندلاعها حتى 1961، حين كانت المستعمرات البريطانية والفرنسية تنال استقلالها تباعاً. والحرب هذه استمرت 14 سنة، فانتهت في 1975، بُعيد إطاحة الديكتاتورية العسكرية لمارشيلو كايتانو، وريث أنطونيو سالازار. ذاك أن النظام الجديد في لشبونه قرر أن ينسحب من مستعمراته في النصف الجنوبي من إفريقيا وينهي صفحة الاستعمار.

وبلغة أخرى، فإن ما حدث في المتروبول، مع إنجاز خطوة تقدمية في حجم إزاحة الديكتاتورية العسكرية، هو الذي وفر عبور أنغولا من الاستعمار إلى الاستقلال. بيد أن حركات المقاومة اكتفت بإرساء أسباب النزاع الأهلي الذي غدا نزاعاً على السلطة مدمراً ومكلفاً ومديداً، فيما رهنت تقدم البلد، إن لم يكن قيامه نفسه، بالاستراتيجيات والمصالح الإقليمية والدولية الكبرى.

لعبة النفوذ

في مقابل الـ14 سنة من «حرب التحرير»، استمرت الحرب الأهلية 27 سنة، أي حوالى ضعفها، ما بين 1975 و2002، فكانت، بهذا، أحد أطول النزاعات التي حفت بالحرب الباردة وأحد أشدها دموية. فقد قُتل خلالها نصف مليون أنغولي وهُجر بفعلها 3.4 ملايين إنسان هم ثلث مجموع السكان. وقد خلفت الحرب تلك ما بين 10 و20 مليون لغم أرضي لم يُنزع معظمها. وفي وقت يرقى إلى 2003، قدرت الأمم المتحدة أن 80 في المئة من سكان ذاك البلد الغني بالنفط والماس، يفتقرون إلى كل عناية طبية، وأن 60 في المئة محرومون من مياه الشفة، فيما 30 في المئة من الأطفال يموتون قبل بلوغهم الخامسة، ولا يزيد معدل سنوات العمر المتوقعة عن 40 سنة.

لقد استكمل جون أ. ماركوم في المجلد الثاني من كتابه «الثورة الأنغولية»، وفي ظل عنوان فرعي يقول: «سياسيو المنفى وحرب العصابات (1962-1976)»، ما ابتدأه حين أصدر المجلد الأول ذا العنوان الفرعي «تشريح انفجار (1950-1962)». وفي هذا المجلد الثاني استعاد المؤلف نقص الاهتمام الذي حظيت به أنغولا من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى أن حلت أزمة أواسط السبعينيات. ذاك أن النزاع الأهلي الذي نشب في أكبر المستعمرات البرتغالية وأغناها وأهمها، ما لبث أن شكل مصدراً بارزاً من مصادر تردي «الوفاق» بين جباري عهدذاك. وقد تعاقب الرسميون الأميركيون الذين أعلنوا أن أنغولا ستكون أرض الامتحان لإرادة واشنطن في ما يخص التصدي للنفوذين السوفياتي والكوبي في القارة السوداء. لكنْ بينما كانت الولايات المتحدة تأخذ على خصميها دعم أحد أطراف الحرب الأهلية، أي «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا» (أم بي إل إي)، كانت هي نفسها، ولا سيما عبر حلفائها، تدعم الطرفين الآخرين «الجبهة الوطنية لتحرير أنغولا» (إف إن إل أي) و«يونيتا» التي تلخص تسمية «الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا الكاملـ». فهاتان الأخيرتان تناوب على تقديم العون لهما كل من الصين ورومانيا وكوريا الشمالية وفرنسا وألمانيا الغربية وإسرائيل والسنغال وأوغندا وزائير وزامبيا وتنزانيا وجنوب إفريقيا، فضلاً عن الولايات المتحدة.

واللوحة هذه كافية للتدليل على الطبيعة غير الإيديولوجية، وغير المبدئية، التي وسمت الإحاطة الخارجية بالحرب الأنغولية. فالبلدان الثلاثة الأولى، الصين ورومانيا وكوريا الشمالية، وهي شيوعية النظام، كانت مخاوفها من الاتحاد السوفياتي، أو تنافسها معه، تدفعها إلى الاصطفاف قريباً من الولايات المتحدة وألمانيا الغربية وإسرائيل وجنوب إفريقيا. وهذا للقول إن الصراع الأهلي الأنغولي بدا فرصة لجميع تلك البلدان كي تستخدم البلد التعيس ساحةً في لعبة النفوذ الإقليمي والدولي. والشيء نفسه يصح في الاتحاد السوفياتي الذي يبدو لوهلة أنه كان منسجماً مع مبادئه، بدعمه «الحركة الشعبية» التي درج بعض قادتها على القول بالماركسية – اللينينية. لكن ماركوم يبين أن موسكو، وتماماً بُعيد الانقلاب البرتغالي، بنت جسوراً لها مع دانيال شيبندا، المنافس «اليميني» على قيادة «الحركة الشعبية»، والذي ما لبث أن انضم لاحقاً إلى «الجبهة الوطنية» وتعاون، إلى أبعد حدود التعاون، مع جنوب إفريقيا. وهذا فضلاً عن أن سافيمبي قائد «يونيتا»، كان يقول، هو الآخر، بماركسية- لينينية اعتنقها في الصين قبل ظهور الخلاف الصيني- السوفياتي.

على أي حال، فحركات المقاومة المذكورة كانت تنقسم، في وقت واحد، على خطوط ثقافية وعرقية ومناطقية وطبقية وإيديولوجية، كما تشقها المنافسات الشخصية لقادتها وبُناها التنظيمية وتحالفاتها الخارجية.

انشقاق سافيمبي

وبدورها، تأسست «الحركة» في 1956، أي نفس العام الذي شهد تأسيس «اتحاد الشعوب...»، وكان قائدها المثقف القومي – اليساري، والمولاطي، أوغستينو نِتو، كما عُد الحزب الشيوعي الأنغولي أحد المكونات الكثيرة التي انصهرت فيها. ومن ناحيته خرج جوناس سافيمبي، زعيم «يونيتا» اللاحق، من عباءة «اتحاد شعوب أنغولا»، وقد عينه روبيرتو أميناً عاماً لـ«الاتحاد»، ثم وزيراً لخارجية الحكومة الثورية في المنفى التي أعلنتها «الجبهة» بُعيد تأسيسها في 1962. لكن سافيمبي انشق في 1964 وأسس «يونيتا»، آخذاً على «الجبهة» مناطقيتها ويمينيتها القومية.

على أن «الجبهة» كانت، في 1974، تملك من القوات العسكرية ما يزيد عن مجموع ما تملكه «الحركة» و«يونيتا» معاً. كذلك كان في عهدة زعيمها هولدن روبيرتو، الموصوف بعلاقات وثيقة ومبكرة مع واشنطن ومع زائير، أموال أكثر وأسلحة أوفر عدداً وتعقيداً مما في عهدتيهما. وفي مطالع 1975، وحسب ما ينقل جون ستوكويل في «بحثاً عن أعداء: قصة عن سي أي آي»، عن مصادر عسكرية برتغالية، ضمت «الجبهة» 24500 جندي (في عدادهم ثلاثة آلاف من أنصار شيبندا غادروا «الحركة» معه)، فيما بلغ عدد مقاتلي «الحركة» 5500 عنصر و«يونيتا» 3000 عنصر. بيد أن «الجبهة» ما لبثت أن تبدت، وكما سوف نرى لاحقاً، أشبه بنمر من ورق. والنتيجة هذه، التي لم تشبه الواقع على الأرض وتوازناته، جاءت حصيلة عاملين، أحدهما العامل الخارجي، حيث انخرط الكوبيون بقوة وأعداد ملحوظة في القتال المباشر بينما انسحبت قوات جنوب إفريقيا من الداخل الأنغولي بضغط أميركي، والآخر يتعلق بالبراعة والذكاء السياسيين إذ استولت «الحركة» على معظم المدن، ما جعلها تحظى باعتراف منظمة الوحدة الإفريقية والأمم المتحدة.

تحالفات هشة

لقد بادرت الحكومة البرتغالية الجديدة، في 15 يناير 1975، إلى عقد ما عُرف بـ«اتفاقية ألفور» مع الحركات الثلاث، سعياً منها لتأمين انتقال سلمي وهادىء. وبعد خمسة عشر يوماً شُكلت، بموجب الاتفاقية تلك، حكومة ضمت الحركات الثلاث معاً. غير أن اندلاع القتال ما لبث أن ألغى الحكومة عملياً.

فقد أعلنت «الحركة» الاستقلالَ في 11 نوفمبر، بعد مغادرة الجنود البرتغاليين العاصمة لوندا، وهو ما استدعى مغادرة مئات آلاف البرتغاليين المدنيين يائسين ومحبطين. وفي الوقت ذاته تقريباً بادرت «الجبهة» و«يونيتا» إلى إعلان حكومة استقلالية، إذ أمام تحدي «الحركة» أقامتا تحالفاً لم يُثبت متانته، كما أسستا «جمهورية أنغولا الديموقراطية». كذلك فعلت «الحركة الشعبية لاستقلال كابيندا»، الداعية إلى فصل إقليمها في الشمال الغربي الغني بالنفط عن سائر البلد، إذ أعلنت استقلالها. وللتو اندلعت الحرب بين الجماعات- التنظيمات الأربع.

في بدايات تلك الحرب، التي أطلقت «الحركة» عليها تسمية «حرب التحرير الثانية»، سيطرت «الجبهة» على الشمال، و«يونيتا» على مناطق التقاطع بين الوسط والجنوب، فيما أحكمت «الحركة» قبضتها على المناطق الساحلية وعلى أقصى الجنوب الشرقي، قبل أن تتقدم إلى كابيندا فتُخضع حركتها الانفصالية.

وفي النهاية انتصرت «الحركة» بنتيجة معونات عسكرية روسية قُدرت قيمتها يومذاك بما بين 300 و400 مليون دولار، وبموت عشرات آلاف الأنغوليين. وفي موازاة هذا التقدم، وعلى ما يذكر ستوكويل، ارتفع عدد المستشارين والجنود الكوبيين إلى 20 ألفاً، فولد العهد الاستقلالي الجديد مكبلاً بديون ضخمة للحليفين، لا سيما للاتحاد السوفياتي.

الأدغال الإفريقية

وفي 1976 هاجمت «الجبهة» لوندا من الشمال، في معركة «طريق الموت»، فتولى الكوبيون إنزال هزيمة ماحقة بها، بعدها لم تقم قائمة لـ«الجبهة»: فقد هرب مَن بقي من مقاتليها إلى زائير أو امتصته «يونيتا»، كما فر زعيمها روبيرتو الذي لم يعد إلى أنغولا إلا في 1991. مذاك ولثلاث سنوات متوالية استمرت المناوشات الحدودية مع جنوب إفريقيا وزائير، فيما استمر الحضور الروسي، وخصوصاً الكوبي، في التعاظم، كما تبنت «الحركة» الماركسية – اللينينية كإيديولوجيا رسمية للدولة والنظام.

ولم ينجح العهد الجديد في تأسيس شرعية دستورية يُركَن إليها، شأنه في ذلك شأن بقية الأنظمة التي تنبثق من العنف وتتبنى إيديولوجيات خلاصية. ففي 1977 حصلت محاولة انقلابية كادت تنجح وقف وراءها وزير الداخلية نِتو ألفيس الذي ذهب أبعد من رفاقه في تلبية الرغبات السوفياتية والسماح بإنشاء قواعد عسكرية لموسكو. وما إن قضي على تلك المحاولة بكلفة دموية وحزبية باهظة، حتى ظهرت حركة «سوفياتية» أخرى قادها، هذه المرة، رئيس الحكومة لوبو دو ناشيمانتو التي أخفقت بدورها.

تورط كوبي

وفي 1979 توفي الرئيس نِتو، فحل محله في رئاسة الدولة جوزيه إدوادو دوس سانتوس. لكن الحرب الأهلية عادت إلى احتدامها أواخر الثمانينيات، فتدخلت زائير وجنوب إفريقيا لدعم «يونيتا»، وتجدد التدخل الكوبي دعماً للحكومة بحيث بلغ عدد الكوبيين، في 1988، 50 ألفاً. وفيما امتدح كثيرون «الدور الأممي النبيلـ« لكوبا في «دعم ثورة الشعب الأنغولي»، تولى الكوبيون الأمن الداخلي الأنغولي كما قدموا للأنغوليين خدمات طبية وتعليمية جدية وضرورية يحتاجها بلد لا يملك شيئاً تقريباً. لكن دورهم، الذي ظل دوراً سوفياتياً بالنيابة، شرع يتحول إلى أزمة كوبية داخلية. فقد تردد تشبيه أنغولا بالنسبة إلى كوبا بما كانته فيتنام بالنسبة إلى الولايات المتحدة لجهة تكاثر الشبان الكوبيين الرافضين الخدمة في أنغولا والفارين منها، خصوصاً أن أبناء أعضاء المكتب السياسي والقيادة الكوبيين لا يُرسَلون إلى «الأدغال الإفريقية»، حسب ما كان يردد المنشقون الكوبيون في الخارج. كذلك تزايدت التقارير التي تتحدث عن تحول الجنود الكوبيين العاملين هناك إلى مرتزقة، وفي مايو 1987 انشق الجنرال رافاييل ديلبينو، قائد القوة الجوية الكوبية في أنغولا، وهرب إلى الولايات المتحدة. وبينما تورط كوبيون في السوق السوداء، أُعدم، في هافانا، في 20 يوليو 1989 الجنرال الكوبي أرنالدو أوشوا سانشيز بتهم المتاجرة بالمخدرات والفساد وتبديد الموارد، فيما راجت تحليلات تقول إن سلطة فيديل كاسترو وشقيقه راؤول بدأت تتخوف من طموحاته.

القواعد الشعبية لحركات المقاومة

الدعم الذي حظيت به «الحركة الشعبية» تأتى عن الشعوب الناطقة بالـ«كومبوندو»، والتي تمثل ربع مجموع السكان ويتجمع أغلبها في منطقة بعينها من العاصمة لواندا. كذلك وجدت «الحركة» التأييد عند الـ«ميستيكوس»، المولاطيين أو الملونين بنتيجة الاختلاط العرقي، وعند كثيرين من بيض أنغولا، وقد ظل تعارض المولاطيين والبيض واحداً من تناقضات «الحركة»، قبل وصولها إلى السلطة وبعده، علماً بأن معظم قادتها وفدوا من المدن وكانوا متعلمين وجذريين سياسياً. في المقابل صدر أغلب الدعم الذي ظفرت به «الجبهة الوطنية» و«يونيتا» من فلاحين ريفيين وأهل قرى. فقوة «يونيتا» تركزت في هضاب الوسط العليا وفي مناطق السهول الجنوبية، لاسيما بين الشعوب الناطقة بالـ«أومبوندو» التي تشكل قرابة ثلث سكان أنغولا. ومن جهتها، تشكلت قاعدة «الجبهة الوطنية» من الجماعات الناطقة بالـ«كيكونغو» المقيمة في الشمال الغربي، والتي تقل نسبتها عن 20 في المئة من السكان. وعلى عكس «الحركة»، فإن «الجبهة» و«يونيتا» لم تضما إلا قلة قليلة من البيض والـ«ميستيكوس» والمثقفين وسائر المعنيين بالحركات السياسية والإيديولوجية الحديثة.

وقد انبثقت «الجبهة» من «اتحاد شعوب شمال أنغولا» الذي أنشأه هولدن روبيرتو وباروس ناكاكا في 1956. والتسمية لا تخفي الانتماء المناطقي الذي أريد رفعه إلى سوية قومية. وربما كان السعي إلى تفادي هذا التناقض، ولو شكلياً، ما حمل على تغيير الاسم إلى «اتحاد شعوب أنغولا». وفي 1961 شنت أولى عملياتها العسكرية، وهو ما سبق التأسيس الرسمي لـ«الجبهة» ببضعة أشهر.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
09-04-2010, 03:15 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962

icon1.gif

هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
موغابي اتهم رفيق المقاومة نكومو بالخيانة واعتبره أفعى تستحق التعامل جدياً بـ قطع رأسها
(الحلقة 18)
حازم صاغيّة

مزاوجة الديمقراطية والاستبداد

بعدما توفي الرئيس الأنغولي أوغستينو نِتو في 1979 وحل محله في رئاسة الدولة جوزيه إدوادو دوس سانتوس، عادت الحرب الأهلية إلى احتدامها أواخر الثمانينيات، فتدخلت زائير وجنوب إفريقيا لدعم «يونيتا»، وتجدد التدخل الكوبي دعماً للحكومة بحيث بلغ عدد الكوبيين، في 1988، 50 ألفاً.

وفي هذه الغضون كانت «يونيتا» تمضي في تمويل حربها عبر تهريب الماس الذي سطت عليه في مناطق سيطرتها الغنية به. لكنْ في 1989 أمكن التوصل إلى اتفاق لوقف النار بين دوس سانتوس وسافيمبي إلا أنه لم يصمد. وقد تبين يومها، كما لاحقاً، أن تذليل الأحقاد الأهلية غدا يستعصي على تحولات الأوضاع الدولية. ففي 1991، وكان «المعسكر الاشتراكي» قد تداعى، تخلت «الحركة» عن الماركسية- اللينية لتتبنى الاشتراكية الديمقراطية وتنضم إلى الأممية الاشتراكية والرطانة الديمقراطية. وبالفعل تطور اتفاق وقف النار ليمسي اتفاق سلام وقعه، في العام ذاته، دوس سانتوس وسافيمبي، على أن يمهد لدستور تعددي، ثم أجريت في العام التالي، 1992، انتخابات رفض سافيمبي الإقرار بنتائجها وعادت جبهته إلى القتال.

وفي 1993 اعترفت الولايات المتحدة بنظام «الحركة الشعبية»، وتجددت المصالحة بين رئيس الدولة وقائد «الحركة» وبين زعيم «يونيتا». وعلى مدى 1994- 1996 عبر العالم عن تفاؤله بالمصالحة وباتفاق طرفيها على تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن الأمور عادت فانهارت مجدداً في 1997. ولم تحل بداية نهاية الحرب الأهلية إلا مع مقتل سافيمبي في 2002، خلال المواجهات العسكرية مع الحكومة. وبالفعل، ما لبثت «يونيتا»، مغلوبة على أمرها، أن أعادت تدوير نفسها حزباً سياسياً ينخرط، بوصفه هذا، في الحياة السياسية. وفي 2006 وُقع اتفاق سلام مع «الحركة الشعبية لتحرير كابيندا» عزز الوجهة نفسها. لكن الانتخابات العامة التي أجريت في 2008 أعطت «الحركة» 82 في المئة من الأصوات و18 في المئة لجميع الآخرين، نالت منها «يونيتا» 10 في المئة فحسب. ومنذ 1979 لايزال دوس سانتوس رئيساً يتربع في سدة نظام تتزاوج واجهته الديمقراطية واستبداد حزبه الواحد.

رياح التغيير تهب على إفريقيا

وغير بعيد عن أنغولا، عرفت روديسيا (قبل أن يؤفرَق إسمها فيغدو زيمبابوي) تجربة في المقاومة أغنى. فذاك البلد الذي نشأ في تسعينيات القرن التاسع عشر، مشمولاً بالتاج البريطاني، إنما سُمي تيمناً بسيسيل رودوس، السياسي الإنكليزي المغامر ورجل الأعمال والصناعي المؤمن بالإمبريالية ودورها «التمديني». وهو من أسس شركة «دي بيرز» للماس قبل أن يؤسس روديسيا بالمنطق نفسه لمعنى التأسيس.

وغني عن القول إن ما صنعه سيسيل رودوس كان الذروة الأعلى للفعل العنصري، بدليل أن 4 في المئة فحسب من سكانه كانوا بيضاً احتكروا الحقوق السياسية والمدنية وامتلاك الأراضي الأشد خصوبة.

وفي 1923 منح البريطانيون أولئك المستوطنين، وكان عددهم 20 ألفاً، «حكماً ذاتياً» من داخل كونهم مستعمرة بريطانية. وعلى هذا النحو استمر الحال حتى 1960، سنة انفجار الاستقلالات في القارة السوداء، حين تحدث رئيس الحكومة البريطانية هارولد مكميلان عن «رياح
التغيير التي تهب على إفريقيا».

مذاك راحت تتنافس وجهتان في التعامل مع العنصرية الروديسية: واحدة مفادها الضغط السياسي السلمي، وأخرى مؤداها العمل المقاوم والمسلح. والحال أن الأخير لم يبرهن، أولاً بأول، عن فعالية عسكرية ملحوظة. فالجيش الروديسي، على رغم العقوبات الشديدة التي كانت بريطانيا رائدتها منذ 1965، حافظ على قوته وقوة فرقه النخبوية كـ»كشافة سيلوس». ذاك أن أسلحته كانت تؤمنها له جنوب إفريقيا والمصانع التي أقيمت في روديسيا نفسها، كما لم ينقطع التعاون العسكري بين نظامه والبرتغال التي ظلت، حتى 1975، تستعمر أنغولا وموزمبيق. كذلك تركزت عمليات المقاومة في الريف أساساً فاتجهت شفرتها إلى المزارعين البيض بينما ظلت نادرة في المدن حيث المراكز الاقتصادية والاتصالية المؤثرة. وحتى الاستقلال في 1980، لم تحقق حركات المقاومة من الانتصارات ما يتعدى الإمساك بمناطق السكن الأسود، فيما كان الفشل نصيب مواجهاتها مع الجيش.

الطريقة الماوية

بدورها ابتدأت المقاومة العسكرية، صيف 1964، مع اغتيال «زانلا»، الذراع العسكرية لـ«زانو»، بيتروس أوبرهولتزر، أحد رسميي «الجبهة الروديسية»، الحزب الأبيض الحاكم حينذاك. وكان أن السلطات التي حظرت «زانو« منذ ولادتها، اعتقلت سيثولي وموغابي والقادة الآخرين من «زانو« و«زابو»، فأبقتهم في السجن عشر سنوات، وتُرك لشيتيبو الذي نجا من الاعتقال أن يمثل «زانو« في الخارج ويمضي في بناء تنظيمها العسكري.

وفي 11 نوفمبر 1965 أعلن إيان سميث الاستقلال من طرف واحد، فعدته بريطانيا متمرداً وردت بفرض العقوبات على دولته التي لم تعترف بها إلا جنوب إفريقيا العنصرية. وهذا ما أجج المقاومة وخلق مناخاً من التسامح الدولي معها.

لكنْ في المقابل، فباستخدامها سائر أسلحة الضغط، توصلت بريطانيا، في 1971، إلى اتفاق مع إيان سميث يقضي بالتهيئة للانتقال إلى حكم الأغلبية مقابل إنهاء العقوبات. وقد شكل إيبل موزوريوا، وهو مطران الكنيسة الميثودية – البروتستانتية، حزب «المجلس الوطني الإفريقي الموحد» الداعي إلى حكم الأكثرية، وتحول أحد أبرز القادة الوطنيين، حتى أن «زانو« بقيادة سيثولي و«زابو« بقيادة نكومو موضعا نفسيهما تحت مظلة «المجلس الوطني» وموزوريوا. ولأن «زانو« و«زابو« كانا ممنوعين لممارستهما الكفاح المسلح منذ 1964، صار «المجلس الوطني»، القائل بحكم الأكثرية عبر اللاعنف، الطرف الأسود الوحيد الذي يحظى بالشرعية الرسمية.

بيد أن عام 1974 شهد حلول موغابي، الماركسي على الطريقة الماوية، محل سيثولي في قيادة «زانو»، فاتجه الأخير إلى تأسيس حزب صغير لاعنفي، أسماه «زانو – ندونغا»، والكلمة الاخيرة تختصر عبارة «التحالف الوطني للحاكمية الصالحة».

خطوط إثنية

وكرّت السبحة فكان الحدث الأبرز في الحياة الداخلية لـ«زانو« اغتيال رئيس الهيئة الوطنية للحزب وحليف سيثولي، هيربرت شيتيبو، في مارس 1975 في لوساكا. وتبعاً للتحقيق الذي أجراه الزامبيون، فإن من رتب عملية الاغتيال كان الرئيس اللاحق لأركان «زانو»، جوريش تونغوغارا. يومها اعتقلت الحكومة الزامبية تونغوغارا وقرابة ستين كادراً قيادياً في «زانو». وقد قُتل مائتا عنصر من «زانو« على الأقل في الوقت الذي اغتيل فيه شيتيبو، وهو عدد يزيد عن مجموع الجنود البيض الذين قتلهم المقاومون منذ ابتداء نشاطهم. وعلى أي حال، أدى الحدث المذكور إلى انشقاق في «زانو« على خطوط إثنية: ذاك أن تونغوغارا يتفرع عن الكلانغا التي عُرفت بسيطرتها على القيادة العسكرية للتنظيم، فيما يتفرع موغابي عن الزيزورو. وبدوره كان شيتيبو من المانييكا، فتأدى عن مقتله تسريح الكثيرين من عسكريي المانييكا ممن انضم عديدهم إلى الأب موزوريوا الذي ينتسب أيضاً إلى المانييكا. وأعقب هذا صدامات دموية في مخيمات «زانو»، وفي يناير 1977 اعتقلت قيادة التنظيم قرابة مئة كادر في موزمبيق، ثم بعد عام اعتُقل أيضاً ما يقرب من مئة كادر آخر في عدادهم وزيرا خارجية وإعلام التنظيم وبعض قادة الجهاز العسكري.

بيد أن مصرع شيتيبو جعل موغابي القائد الأوحد لـ«زانو»، وقد ترافقت واحديته القيادية مع بلوغ التنظيم درجة أعلى من الصفاء الإثني، ما سهل له هذه المهمة. وبدورها، لم تتلكأ «زابو»، هي الأخرى، عن سلوك طريق التصفيات التنظيمية، فاغتيل، في مطالع 1977، الرجل الثاني فيها، جايسون زيد مويو، ما اعتُبر، على نطاق واسع، «شأناً داخلياً» ذا طبيعة حزبية.

من ناحية ثانية، عطل البرلمان الروديسي الأبيض، في مارس، بعض القوانين العنصرية في ما خص الملكية الخاصة والحق في استخدام الخدمات العامة كالمدارس ووسائل النقل، وبعد عام واحد وقع موزوريوا وسيثولي وقادة معتدلون آخرون اتفاقية في العاصمة سالزبوري (لاحقاً هراري) عبدت الطريق إلى حكومة انتقالية، كما شُكل مجلس تنفيذي ضم موزوريوا وسيثولي وجيرميا شيراو، وهو أحد رؤساء القبائل، ورئيس الحكومة البيضاء إيان سميث. وقد ترتب على ذلك وضع دستور جديد لا يحتفظ للأقلية البيضاء إلا بعشرة مقاعد في مجلس الشيوخ و28 في مجلس النواب وبربع المقاعد الحكومية. وعبر استفتاء أجري مطالع 1979، حظي الدستور بتأييد 85 في المئة من السكان البيض. كذلك أجريت انتخابات عامة هي أول انتخابات حرة في البلد، ففاز «المجلس الوطني» بالأكثرية، وسمي رجل الدين والمعلم التسووي المقبول من معظم الأطراف، جوسيا كوميد رئيساً للجمهورية، وهو منصب احتفالي، فيما غدا موزوريوا رئيساً للحكومة، كما غُير إسم البلد إلى زيمبابوي روديسيا.

تسوية تاريخية

أما قائدا المقاومة، نكومو وموغابي، فدانا الاتفاق وأهاجا الرأي العام ضده مستمرين في نشاطهما المسلح، فيما حال القادة الأفارقة، لا سيما راديكالييهم، دون الاعتراف الدولي بتلك التسوية. وهذا ما حرم حكومة موزوريوا تأييداً شعبياً كانت في أمس الحاجة إليه في مواجهة سميث.

وكان الرد الأسوأ على اتفاق أبريل 1978 ما فعله مقاتلو «زابو« إذ أسقطوا، في سبتمبر من العام ذاته ثم في فبراير 1979، طائرتين مدنيتين بصواريخ أرض – جو سوفياتية: وقد تأدى عن سقوط الأولى مقتل 38 من 56 راكباً، ثم قتل عشرة من الناجين في عدادهم أطفال، بينما قُتل الـ59 راكباً جميعهم في الجريمة الثانية.

وتنبهت بريطانيا إلى غياب المقاتلين الذي أضعف تلك التسوية، فدعت جميع الفرقاء إلى لندن للتفاوض وإنجاز تسوية تاريخية صارت تُعرف، نسبة إلى مكان المؤتمر، بـ»اتفاقية لانكستر هاوس». وفي الظل مورست ضغوط أميركية وغربية على سميث، فيما كانت السلطة البيضاء تعيد البلد إلى الحكم البريطاني، على ما كانت الحال قبل 1965، وتختبىء وراءه مخولةً إياه التعامل مع الأوضاع الناشئة. حينذاك حضر نكومو وموغابي في وفد موحد تحت يافطة «الجبهة الوطنية» التي ابتُكرت لتلك المناسبة. وقد دام المؤتمر من سبتمبر حتى ديسمبر 1979 اتفق فيه على إجراء انتخابات في مطالع 1980.

وهذا ما حصل فعلاً، لكن موغابي أحاط الانتخابات بجو من العنف والتخويف مهدداً باستئناف الحرب الأهلية في حال خسارته، بحيث اتهمت «زانو« بالإخلال بـ»لانكستر هاوس» وظهرت اقتراحات بمنعها من المشاركة. وإذ جاءت النتائج بأكثرية من 64 في المئة من الأصوات لزعيم «زانو»، لم يحصد موزوريوا وحزبه سوى ثلاثة مقاعد من أصل ثمانين، فيما لم يحصل سيثولي على أي مقعد. كذلك غُير إسم البلد، وقد استقل، إلى زيمبابوي. وقد عُرض على نكومو منصب رئاسة الجمهورية الفخري، لكنه اعتذر عن قبوله، وبعد وساطات محلية وإفريقية، شارك زعيم «زابو« في الحكم من غير أن يُخص بموقع مؤثر فيه. ولم يتأخر وقت الحساب، ففي 1982 اتهم بالتآمر للانقلاب على موغابي ودولة الاستقلال، وفي خطاب علني سماه الأخير «أفعى»، ومضى شارحاً: «والطريقة الوحيدة للتعامل الجدي مع الأفعى قطع رأسها».

المدرس موغابي

عموماً لم تتمكن المقاومة من إسقاط النظام والاستيلاء على السلطة، بل حصل ذلك، كما سنرى لاحقاً، عبر عمل سلمي وانتخابات مَرعية دولياً. وفي هذا اقتصرت أعمالها على كونها عنصر ضغط على رئيس الحكومة العنصرية إيان سميث أقل فعالية من عنصر المقاطعة، الغربية والإفريقية، الواسعة والخانقة.

مع هذا نجحت المقاومة على أصعدة ثلاث:

الأول: إقحام السكان في «سياسة» مؤسسة على العنف وحده في معزل عن إعدادهم للعيش في وطن ودولة.

الثاني: إهدار النُوى والاحتمالات السياسية والقضاء على السياسيين المحتملين، أو تهميشهم، الواحد بعد الآخر.

الثالث: إقامة نظام استبدادي تكاد تستحيل معه إعادة الاعتبار للشرعية السياسية والدستورية.

لقد وُلدت الحركة الوطنية، مرتكزة إلى الكنيسة كما إلى النقابات، عام 1960، مع تأسيس النقابي جوشوا نكومو «الحزب الوطني الديموقراطي» الذي انضوى فيه سائر القادة اللاحقين كالأب نداباننغي سيثولي، أحد الذين ساهموا في بناء فكرة القومية السوداء، والمدرس روبرت موغابي والمحامي هيربرت شيتيبو، فحين حظرته السلطات حل محله، بعد عامين، «اتحاد شعب زيمبابوي الإفريقي» (زابو) الذي أسسه أيضاً نكومو والآخرون المذكورون، وبدوره حُظر للتو.

لكنْ في 1963، ولأسباب إثنية وشخصية، انشقت «زابو»، لا سيما مع عجز بقية القادة عن انتزاع احتكار القيادة العسكرية من نكومو الذي اتهموه، أيضاً، بالذهاب بعيداً في محاورة السلطة العنصرية. هكذا أسس سيثولي «الاتحاد الوطني لزيمبابوي الإفريقية» (زانو) كحركة نضالية لمواجهة حكومة روديسيا، وكان موغابي وشيتيبو بين أبرز من شاركوه التأسيس. وفي العام التالي انتُخب سيثولي رئيساً لـ«زانو« فسمى موغابي «أميناً عاماً» للتنظيم.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
12-04-2010, 04:01 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962

icon1.gif

هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
التخلص من النظام العنصري في زيمبابوي بدا أكثر سهولة من تصالح أطراف المقاومة السوداء
(الحلقة 19)
حازم صاغيّة

جذور المقاومات وقبائلها

مع بزوغ الاستقلال في روديسيا/زيمبابوي، كان مصدر التكهنات الكثيرة وأهمها ما يتصل بمستقبل البلد وسكانه، أن حركتي المقاومة لن تتوصلا إلى صيغة لتقاسم السلطة، ولا، طبعاً، لتقسيم البلد بينهما. فهاتان الحركتان، أي 'زانو' و'زابو'، ليستا متفقتين على مطلق شيء، كما نفهم من كتاب مارتن وجونسون 'الصراع من أجل زيمبابوي' وسائر الأعمال التي تناولت تلك المرحلة. ففضلاً عن التنافس الشخصي بين زعيميهما، تستند 'زانو' إلى دعم موزمبيق التي اعتنقت الماركسية اللينينية والحزب الواحد منذ استقلالها عن البرتغال في 1975، كما تتركز قوتها في الشرق، بينما تعتمد 'زابو' على دعم زامبيا وتمارس عملياتها انطلاقاً من مخيماتها التي تقوم في الشمال والغرب. ولئن درب الصينيون قوات 'زانو' منذ نشأتها، فإن 'زبيرا'، الجناح العسكري لـ'زابو'، تأثرت في عقيدتها العسكرية وتسلحها بالاتحاد السوفياتي.

أهم من ذلك أن 'زابو' تُعد تنظيم قبائل النديبيل الأقلية، وهم أحفاد الزولو المقاتلون، فيما تُحسب 'زانو'، الأكثر تسييساً وفي الآن ذاته الأكثر اعتماداً على توسط الأرواح، تنظيم قبائل الشونا الأكثرية. ولكل من هاتين الجماعتين القبليتين لغة تنطق بها، بل إن كلمتي شونا ونديبيل نفسيهما تسميتان للغتيهما.

قيادات عابرة للإثنيات

وحسب إحصاء أجري في 1969، فإن الناطقين بالشونا ينقسمون على النحو التالي: الكالانغا وهم ربع مجموع السكان السود في روديسيا/زيمبابوي، والزيزورو وهم 21 في المئة، والمانييكا وهم 11 في المئة، والنداو وهم 6 في المئة، والكوريكور وهم 5 في المئة. تضاف إليهم جماعات صغيرة أخرى بما يرفع نسبتهم إلى ثلاثة أرباع السكان السود. وتقليدياً عاش هؤلاء طويلاً في تنظيمات اجتماعية متوارثة تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي ويتربع في صدارتها رئيس الجماعة.

أما النديبيل فيشكلون 14 في المئة من السكان السود، إلا أن الكالانغا، وهم أصلاً من الشونا، عزلهم متنُ الشونا العريض فامتص بعضَهم مجتمع النديبيل، مضيفين إليهم 7 في المئة. وقد اتصف رؤساء النديبيل تقليدياً بأنهم الأكثر تفرداً كما تمتعوا بسلطة ونفوذ لم يتمتع بهما نظراؤهم في الشونا، ناهيك عن أن مجتمعهم أشد تراتبية وصرامة في ممارستها.

والحال أن 'زابو' و'زانو' تعكسان هذه الفوارق: فجذور 'زابو' وثيقة الاتصال بأقلية نديبيل-كالانغا، مع أن زعيمها نكومو، وهو أصلاً من الكالانغا، احتل قيادة عمال السكك الحديد، وأوجد لتنظيمه هيئات قيادية 'وطنية' عابرة للإثنيات كانت أكثريتها تتشكل من أبناء الشونا. وهذا ما لا يصح في موغابي الذي خلت قياداته العسكرية والسياسية، منذ أواسط السبعينيات، من كل تمثيل للنديبيل والكالانغا.

توزيع الأراضي والثروات

على العموم فإن مشكلة التخلص من النظام العنصري ورمزه الأول إيان سميث ما لبثت أن تبدت أسهل بكثير من مصالحة الأطراف السوداء المقاومة. وإذا صح أن الإيديولوجيا كانت أقل العوامل أهمية في الوضع الزيمبابوي واصطفافاته، يبقى أن نلاحظ دورها في تأجيج النزاعات. فقد تبنى مؤتمر 'زانو'، الذي انعقد في موزمبيق في سبتمبر 1978، 'الماركسية اللينينية – فكر ماو تسي تونغ' أيديولوجية رسمية له. وبدوره، دعا موغابي علناً إلى دولة الحزب الواحد بوصفها الموديل 'الصائب' لزيمبابوي.

أما إبداء زعيم 'زانو' رغباته في الحفاظ على المهارات البيضاء في الدولة الجديدة، فلم يحل دون المخاوف الواسعة، لدى عموم البيض، من إصراره الراديكالي والشوفيني على إعادة توزيع الأراضي والثروة وعلى تدمير المؤسسات القائمة. وفي المقابل، فإن نكومو الذي حظي بدعم سوفياتي، بدا أكثر طمأنة للبيض، كما بدت الأفكار التي عبر عنها تنظيمه نوعاً من الخليط 'الوطني' الذي عُرف به الكثير من حركات التحرر الوطني. ثم إن نكومو، بوصفه أحد آباء الوطنية الإفريقية، حظي باحترام الدول الكبرى والدول الإفريقية غير الراديكالية، كما بدا، في ماضيه السياسي، أكثر مرونة من منافسه، جامعاً على الدوام بين الكفاح المسلح والاستعداد للتفاوض. وكان تناقض التنظيمين أن تعاظم ابتداءً بأواسط السبعينيات، في موازاة توسع عمليات تطويع المقاتلين في المنظمتين ومن ثم تظهير الهويات الإثنية للمقاومتين. فمقاتلو نكومو ومخيمات لاجئيه معظمها في زامبيا، فضلاً عن 3000 عنصر كانوا يتدربون في أنغولا. وقد تطوع في قوات 'زابو' أكثر من عشرين ألف شاب مقاتل هم في أغلبيتهم الساحقة من الغرب، حيث تقيم النديبيل والكالانغا. في المقابل، فإن ما لا يقل عن 95 في المئة من الـ 25000 شاب المقيمين في مخيمات موغابي في موزمبيق وتنزانيا من الناطقين بالشونا الذين عبروا من المناطق الحدودية المتاخمة لذينك البلدين.

الفشل الذريع

وقد لقيت المحاولات لإنشاء قيادة موحدة بين المقاومتين فشلاً ذريعاً، وأحياناً عنفياً حفت به مصادمات موضعية النطاق. فأنصار موغابي درجوا على اتهام نكومو بالتواطؤ مع العنصريين وقد جعلوا من 'يسقط نكومو' أحد ثوابت شعاراتهم في المهرجانات والمناسبات العامة. وقبيل سقوط النظام العنصري، راح كل من التنظيمين يدفع مواقعه أقرب فأقرب إلى المواقع التقليدية للتنظيم الآخر، ومن ثم الإثنية الأخرى، عله يحسن شروطه التفاوضية لحظة الاستقلال.

وقد حصل الانفجار الكبير بعد عامين على الاستقلال، فأرسل موغابي جيشه في حملة على ماتابيليلاند حيث قُتل حوإلى ثلاثة آلاف من النديبيل في محاولة لاجتثاث 'زابو' وإنشاء دولة حزب واحد، فيما فر نكومو إلى الخارج.

وفي 1987 رضخ نكومو لتذويب 'زابو' في 'زانو'، فنشأت عملياً دولة الحزب الواحد تلك، وأعطي نكومو، مرة أخرى، منصباً وزارياً عديم الفاعلية، وهو ما فسره لاحقاً، حسب كتابه بالاشتراك مع نيكولاس هارمن 'نكومو: قصة حياتي'، بحرصه على الحد من عملية استئصال النديبيليين وسياسيي 'زابو'.

وفي 1990 وجد موغابي من ينافسه على الرئاسة في أحد تاريخيي 'زانو' إدغار تكر، فكان نصيبه الإبعاد والعزلة، لاسيما أن تكر مضى بعيداً في انتقاد الفساد وحكم الحزب الواحد. وقطع تهميش القادة التاريخيين للحركة الوطنية شوطاً أبعد: فموزوريوا نافس موغابي في الانتخابات الرئاسية للعام 1995 وحصد هزيمة مرة. وإذ أصر على اتهامه سياسات 'زانو' وزعيمها بالإضرار بالزراعة وبالصناعات التقنية لزيمبابوي، اعتقلته السلطات بتهمة التآمر لمصلحة جنوب إفريقيا، وبعد يومين حذر موغابي كلا من نكومو وسيثولي من مغبة 'التآمر'. وبدوره، انتقل سيثولي إلى منفى طوعي في 1983 لم يعد منه إلى زيمبابوي إلا في 1992، لكنْ في 1997 حُكم بتهمة التآمر لاغتيال موغابي وصودرت مزرعته.

العنصرية المضادة

لقد حكم موغابي البلد منذ 1980 كرئيس للحكومة (وإن بلقبين مختلفين)، ثم منذ 1987 كرئيس للجمهورية. ولم يردعه وضع زيمبابوي البالغ السوء، اقتصادياً واجتماعياً، عن الانخراط النشط والمكلف، أواخر التسعينيات، في حرب الكونغو دعماً لرئيسها 'الماركسي' لوران كابيلا.

لكنْ منذ أواسط التسعينات شرعت تتقلص قدرة المجتمع على احتمال سلطته، كما ارتفعت قدرات السكان على الجهر والتعبير. فقد صادر موغابي آلاف المزارع المملوكة للبيض من دون توفير القدرة على تشغيلها واستثمارها، وانتهى الكثير من تلك المزارع في عهدة المحيطين به والمقربين إليه. كذلك طبع كميات هائلة من الدولارات الزيمبابوية، ما أطلق تضخماً فلكياً. وقياساً بالعام 1980 حين كان معدل الدخل السنوي للفرد 950 دولاراً أميركياً، انخفض هذا الرقم في 2003 إلى 400 دولار. وبيدٍ من حديد ضرب على المعارضين وسائر المختلفين، من دعاة حقوق الإنسان إلى المثليين، زاجاً الصحافيين في السجون. وكان لحكمه أن أوجد، في ما أوجد، نقصاً فادحاً في المواد الغذائية وهجرات داخلية كثيفة فضلاً عن الهجرة الواسعة إلى الخارج. وإذ اتهم على نطاق واسع بإرساء نظام عنصري مضاد، أي أسود ضد البيض، راح، في موازاة إخفاقاته، يستبد به هذيان بالغرب ومؤامراته المفترضة حتى باتت المثلية الجنسية شكلاً من أشكال الحملة الغربية على بلد لم يعرفها قبل الاستعمار! كذلك منع وطرد من البلد الكثير من المنظمات الدولية فيما كانت تذيع أخبار فساده وفساد أسرته والمحيطين به. وفي زيمبابوي الموغابية انخفض معدل سنوات العمر إلى بعض أدنى النسب في العالم، كما تراجع التعليم وتُركت البنية التحتية الجيدة والمتقدمة تتآكل.

هكذا بدا أن وقت الحساب قد أزف في انتخابات 2002 الرئاسية، فنافسه فيها النقابي الكاريزمي وقائد 'حركة التغيير الديموقراطي' مورغان تسفانغيراي. وفي تلك المواجهة التي اتسمت بالعنف والابتزاز والتخويف واستخدام أجهزة الدولة على نحو موسع، نال موغابي 52.2 في المئة من الأصوات ومنافسه 41.9 في المئة. لكن البلدان الغربية فرضت عقوبات مشددة في 2003، فمنعه الاتحاد الأوروبي، هو و94 من مسؤوليه، من السفر إلى بلدانه كما جمد ودائعهم فيها، وغدت زيمبابوي تتعيش على المعونات الإنسانية.

الصديق الكبير

بيد أن إدراك الحقيقة هذه يبقى متعذراً من دون الرجوع إلى تاريخ العمل المناهض للعنصرية في البلد المذكور.

ففي 1912 تأسس 'المؤتمر الوطني الإفريقي' (وكان يُسمى المؤتمر الوطني المحلي الجنوب إفريقي)، أقدم حركة تحرر في إفريقيا السوداء. وقد جاء ذلك بعد ثلاث سنوات فحسب على تأسيس 'الرابطة الوطنية لتقدم الشعب الملون'، وهي، بدورها، أول حركة حقوق مدنية حديثة في الولايات المتحدة. وهو تزامُن حمل معاني فكرية وسياسية ظلت تواكب 'المؤتمر' وتشده، حتى في أشد لحظات تأثره بالعنف والسلوك الراديكالي، إلى العمل المدني والسياسي بالمعنى الذي قصدته 'الرابطة' الأميركية.

وما ضاعف حافز التعلم من 'الرابطة' أن المقاومات القديمة للسيطرة العنصرية، إثر هزيمة آخر المجتمعات السوداء المستقلة أواخر القرن التاسع عشر، انتهت إلى إخفاق بحت. ذاك أن المقاومة العسكرية للغزو الأبيض جاءت نُتفاً مُجزأة مبعثرة: فالأفارقة السود لم يقاتلوا شعباً واحداً، ومفهوم 'الشعب' جديد عليهم أصلاً، بل فعلوا بوصفهم مجموعة متمايزة من المجموعات الإثنية والرؤساء القبليين. ويزخر تاريخ المقاومات تلك بوقوف فئات من السود إلى جانب البيض إما لأنهم تعاطوا مع سلطتهم بوصفها من طبيعة الأشياء، أو لأنهم خصوم تقليديون لقبائل المقاومين.

فالتحدي الذي واجه مناهضة العنصرية كان توحيد السود، إن لم يكن أفارقة جنوب إفريقيا (بمن فيهم الهنود والمختلطو الأعراق 'الملونون') بحثاً عن جبهة موحدة ضد السيطرة البيضاء. وصار 'المؤتمر الوطني الإفريقي' التجسيد المادي لهذه الرغبة في التوحيد.

وتكامل الإدراك هذا مع حقيقة أن مُنظمي 'المؤتمر' ومعظم أعضائه انتموا إلى نخبة صغيرة مزدهرة اقتصادياً ومتعلمة نسبياً. فهم أبناء الطبقة الوسطى المتأثرة بالغرب ونتاج أفضل المدارس المتوافرة، بعضهم رموز إرساليات تبشيرية وتعليمية مسيحية درسوا المحاماة في بريطانيا. وهؤلاء كانوا، لاسيما الرئيس الأول للمؤتمر، المعلم جون إل ديوب، شديدي الإعجاب ببوكر تي واشنطن، الداعية المبكر للحقوق المدنية في الولايات المتحدة. وتأثراً بواشنطن الذي غدا 'صديقاً كبيراً' لديوب، أكد دستور المؤتمر على 'الولاء لكل السلطات القائمة'، مُلزماً أعضاءه العمل لـ'رفع مستوى السكان المحليين لجنوب إفريقيا تعليمياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً'.

الجوع الداخلي

في عام 2007 استأنف موغابي مواجهته مع المجتمع غير هياب. وقد اعتُقل تسفانغيراي وتعرض للتعذيب وسط استنكارات عالمية لم يُعرها أدنى اكتراث. إلا أن المعركة الانتخابية في 2008 جاءت بنتائج صار يصعب الالتفاف عليها بالطرق السابقة. فموغابي استخدم وسائله المعهودة في الترهيب، ورغم هذا خسر حزبه الحاكم الجولة الأولى. وحرصاً منه على سلامة مؤيديه ووقف التنكيل بهم، انسحب تسفانغيراي من الدورة الثانية فكُتبت رئاسة الجمهورية للمرة السادسة لموغابي المولود في 1925. وكان من سجلات سلطته السوداء أن رجالها أقدموا، في سياق انتخابات 2008، على إحراق امرأة حية هي زوجة السياسي المعارض باتسون شيبيرو.

لكنْ، كإيان سميث من قبله، اضطر موغابي، تحت وطأة المقاطعة الخارجية والجوع الداخلي، أن يساوم. وفي سبتمبر 2008 وافق، بعد المماطلة، وبرعاية رئيس جنوب إفريقيا ثابو مبيكي، على تقاسم السلطة مع تسفانغيراي. بيد أن التقاسم تغلغل إلى جميع مراتب تلك السلطة ومفاصلها، فأمسك موغابي، كرئيس للجمهورية، بالسيطرة على الجيش، أقوى أعمدة حكمه، فيما تُرك لرئيس الحكومة الجديد، تسفانغيراي، الإمساك بالشرطة. وإذ تتحدث وسائل الإعلام عن صراع ضار بين من تبقوا من أقطاب 'زانو' على وراثة الحاكم الفرد، تبدو زيمبابوي في مهب المجاهيل الكبرى والغامضة.

من ناحية أخرى، وبالقياس إلى الحركات التحررية والمقاوِمة التي شهدها القرن العشرون، يفهم المرء خصوصية الرمز الذي عبر عن كسر النظام العنصري في جنوب إفريقيا، نيلسون مانديلا. والحال أن وصف الخصوصية تلك بالفرادة، في ما خص التعامل مع موضوعات السياسة والعنف والتعدد، لا ينطوي على أي مبالغة.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
12-04-2010, 04:01 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962

icon1.gif

هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
التخلص من النظام العنصري في زيمبابوي بدا أكثر سهولة من تصالح أطراف المقاومة السوداء
(الحلقة 19)
حازم صاغيّة

جذور المقاومات وقبائلها

مع بزوغ الاستقلال في روديسيا/زيمبابوي، كان مصدر التكهنات الكثيرة وأهمها ما يتصل بمستقبل البلد وسكانه، أن حركتي المقاومة لن تتوصلا إلى صيغة لتقاسم السلطة، ولا، طبعاً، لتقسيم البلد بينهما. فهاتان الحركتان، أي 'زانو' و'زابو'، ليستا متفقتين على مطلق شيء، كما نفهم من كتاب مارتن وجونسون 'الصراع من أجل زيمبابوي' وسائر الأعمال التي تناولت تلك المرحلة. ففضلاً عن التنافس الشخصي بين زعيميهما، تستند 'زانو' إلى دعم موزمبيق التي اعتنقت الماركسية اللينينية والحزب الواحد منذ استقلالها عن البرتغال في 1975، كما تتركز قوتها في الشرق، بينما تعتمد 'زابو' على دعم زامبيا وتمارس عملياتها انطلاقاً من مخيماتها التي تقوم في الشمال والغرب. ولئن درب الصينيون قوات 'زانو' منذ نشأتها، فإن 'زبيرا'، الجناح العسكري لـ'زابو'، تأثرت في عقيدتها العسكرية وتسلحها بالاتحاد السوفياتي.

أهم من ذلك أن 'زابو' تُعد تنظيم قبائل النديبيل الأقلية، وهم أحفاد الزولو المقاتلون، فيما تُحسب 'زانو'، الأكثر تسييساً وفي الآن ذاته الأكثر اعتماداً على توسط الأرواح، تنظيم قبائل الشونا الأكثرية. ولكل من هاتين الجماعتين القبليتين لغة تنطق بها، بل إن كلمتي شونا ونديبيل نفسيهما تسميتان للغتيهما.

قيادات عابرة للإثنيات

وحسب إحصاء أجري في 1969، فإن الناطقين بالشونا ينقسمون على النحو التالي: الكالانغا وهم ربع مجموع السكان السود في روديسيا/زيمبابوي، والزيزورو وهم 21 في المئة، والمانييكا وهم 11 في المئة، والنداو وهم 6 في المئة، والكوريكور وهم 5 في المئة. تضاف إليهم جماعات صغيرة أخرى بما يرفع نسبتهم إلى ثلاثة أرباع السكان السود. وتقليدياً عاش هؤلاء طويلاً في تنظيمات اجتماعية متوارثة تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي ويتربع في صدارتها رئيس الجماعة.

أما النديبيل فيشكلون 14 في المئة من السكان السود، إلا أن الكالانغا، وهم أصلاً من الشونا، عزلهم متنُ الشونا العريض فامتص بعضَهم مجتمع النديبيل، مضيفين إليهم 7 في المئة. وقد اتصف رؤساء النديبيل تقليدياً بأنهم الأكثر تفرداً كما تمتعوا بسلطة ونفوذ لم يتمتع بهما نظراؤهم في الشونا، ناهيك عن أن مجتمعهم أشد تراتبية وصرامة في ممارستها.

والحال أن 'زابو' و'زانو' تعكسان هذه الفوارق: فجذور 'زابو' وثيقة الاتصال بأقلية نديبيل-كالانغا، مع أن زعيمها نكومو، وهو أصلاً من الكالانغا، احتل قيادة عمال السكك الحديد، وأوجد لتنظيمه هيئات قيادية 'وطنية' عابرة للإثنيات كانت أكثريتها تتشكل من أبناء الشونا. وهذا ما لا يصح في موغابي الذي خلت قياداته العسكرية والسياسية، منذ أواسط السبعينيات، من كل تمثيل للنديبيل والكالانغا.

توزيع الأراضي والثروات

على العموم فإن مشكلة التخلص من النظام العنصري ورمزه الأول إيان سميث ما لبثت أن تبدت أسهل بكثير من مصالحة الأطراف السوداء المقاومة. وإذا صح أن الإيديولوجيا كانت أقل العوامل أهمية في الوضع الزيمبابوي واصطفافاته، يبقى أن نلاحظ دورها في تأجيج النزاعات. فقد تبنى مؤتمر 'زانو'، الذي انعقد في موزمبيق في سبتمبر 1978، 'الماركسية اللينينية – فكر ماو تسي تونغ' أيديولوجية رسمية له. وبدوره، دعا موغابي علناً إلى دولة الحزب الواحد بوصفها الموديل 'الصائب' لزيمبابوي.

أما إبداء زعيم 'زانو' رغباته في الحفاظ على المهارات البيضاء في الدولة الجديدة، فلم يحل دون المخاوف الواسعة، لدى عموم البيض، من إصراره الراديكالي والشوفيني على إعادة توزيع الأراضي والثروة وعلى تدمير المؤسسات القائمة. وفي المقابل، فإن نكومو الذي حظي بدعم سوفياتي، بدا أكثر طمأنة للبيض، كما بدت الأفكار التي عبر عنها تنظيمه نوعاً من الخليط 'الوطني' الذي عُرف به الكثير من حركات التحرر الوطني. ثم إن نكومو، بوصفه أحد آباء الوطنية الإفريقية، حظي باحترام الدول الكبرى والدول الإفريقية غير الراديكالية، كما بدا، في ماضيه السياسي، أكثر مرونة من منافسه، جامعاً على الدوام بين الكفاح المسلح والاستعداد للتفاوض. وكان تناقض التنظيمين أن تعاظم ابتداءً بأواسط السبعينيات، في موازاة توسع عمليات تطويع المقاتلين في المنظمتين ومن ثم تظهير الهويات الإثنية للمقاومتين. فمقاتلو نكومو ومخيمات لاجئيه معظمها في زامبيا، فضلاً عن 3000 عنصر كانوا يتدربون في أنغولا. وقد تطوع في قوات 'زابو' أكثر من عشرين ألف شاب مقاتل هم في أغلبيتهم الساحقة من الغرب، حيث تقيم النديبيل والكالانغا. في المقابل، فإن ما لا يقل عن 95 في المئة من الـ 25000 شاب المقيمين في مخيمات موغابي في موزمبيق وتنزانيا من الناطقين بالشونا الذين عبروا من المناطق الحدودية المتاخمة لذينك البلدين.

الفشل الذريع

وقد لقيت المحاولات لإنشاء قيادة موحدة بين المقاومتين فشلاً ذريعاً، وأحياناً عنفياً حفت به مصادمات موضعية النطاق. فأنصار موغابي درجوا على اتهام نكومو بالتواطؤ مع العنصريين وقد جعلوا من 'يسقط نكومو' أحد ثوابت شعاراتهم في المهرجانات والمناسبات العامة. وقبيل سقوط النظام العنصري، راح كل من التنظيمين يدفع مواقعه أقرب فأقرب إلى المواقع التقليدية للتنظيم الآخر، ومن ثم الإثنية الأخرى، عله يحسن شروطه التفاوضية لحظة الاستقلال.

وقد حصل الانفجار الكبير بعد عامين على الاستقلال، فأرسل موغابي جيشه في حملة على ماتابيليلاند حيث قُتل حوإلى ثلاثة آلاف من النديبيل في محاولة لاجتثاث 'زابو' وإنشاء دولة حزب واحد، فيما فر نكومو إلى الخارج.

وفي 1987 رضخ نكومو لتذويب 'زابو' في 'زانو'، فنشأت عملياً دولة الحزب الواحد تلك، وأعطي نكومو، مرة أخرى، منصباً وزارياً عديم الفاعلية، وهو ما فسره لاحقاً، حسب كتابه بالاشتراك مع نيكولاس هارمن 'نكومو: قصة حياتي'، بحرصه على الحد من عملية استئصال النديبيليين وسياسيي 'زابو'.

وفي 1990 وجد موغابي من ينافسه على الرئاسة في أحد تاريخيي 'زانو' إدغار تكر، فكان نصيبه الإبعاد والعزلة، لاسيما أن تكر مضى بعيداً في انتقاد الفساد وحكم الحزب الواحد. وقطع تهميش القادة التاريخيين للحركة الوطنية شوطاً أبعد: فموزوريوا نافس موغابي في الانتخابات الرئاسية للعام 1995 وحصد هزيمة مرة. وإذ أصر على اتهامه سياسات 'زانو' وزعيمها بالإضرار بالزراعة وبالصناعات التقنية لزيمبابوي، اعتقلته السلطات بتهمة التآمر لمصلحة جنوب إفريقيا، وبعد يومين حذر موغابي كلا من نكومو وسيثولي من مغبة 'التآمر'. وبدوره، انتقل سيثولي إلى منفى طوعي في 1983 لم يعد منه إلى زيمبابوي إلا في 1992، لكنْ في 1997 حُكم بتهمة التآمر لاغتيال موغابي وصودرت مزرعته.

العنصرية المضادة

لقد حكم موغابي البلد منذ 1980 كرئيس للحكومة (وإن بلقبين مختلفين)، ثم منذ 1987 كرئيس للجمهورية. ولم يردعه وضع زيمبابوي البالغ السوء، اقتصادياً واجتماعياً، عن الانخراط النشط والمكلف، أواخر التسعينيات، في حرب الكونغو دعماً لرئيسها 'الماركسي' لوران كابيلا.

لكنْ منذ أواسط التسعينات شرعت تتقلص قدرة المجتمع على احتمال سلطته، كما ارتفعت قدرات السكان على الجهر والتعبير. فقد صادر موغابي آلاف المزارع المملوكة للبيض من دون توفير القدرة على تشغيلها واستثمارها، وانتهى الكثير من تلك المزارع في عهدة المحيطين به والمقربين إليه. كذلك طبع كميات هائلة من الدولارات الزيمبابوية، ما أطلق تضخماً فلكياً. وقياساً بالعام 1980 حين كان معدل الدخل السنوي للفرد 950 دولاراً أميركياً، انخفض هذا الرقم في 2003 إلى 400 دولار. وبيدٍ من حديد ضرب على المعارضين وسائر المختلفين، من دعاة حقوق الإنسان إلى المثليين، زاجاً الصحافيين في السجون. وكان لحكمه أن أوجد، في ما أوجد، نقصاً فادحاً في المواد الغذائية وهجرات داخلية كثيفة فضلاً عن الهجرة الواسعة إلى الخارج. وإذ اتهم على نطاق واسع بإرساء نظام عنصري مضاد، أي أسود ضد البيض، راح، في موازاة إخفاقاته، يستبد به هذيان بالغرب ومؤامراته المفترضة حتى باتت المثلية الجنسية شكلاً من أشكال الحملة الغربية على بلد لم يعرفها قبل الاستعمار! كذلك منع وطرد من البلد الكثير من المنظمات الدولية فيما كانت تذيع أخبار فساده وفساد أسرته والمحيطين به. وفي زيمبابوي الموغابية انخفض معدل سنوات العمر إلى بعض أدنى النسب في العالم، كما تراجع التعليم وتُركت البنية التحتية الجيدة والمتقدمة تتآكل.

هكذا بدا أن وقت الحساب قد أزف في انتخابات 2002 الرئاسية، فنافسه فيها النقابي الكاريزمي وقائد 'حركة التغيير الديموقراطي' مورغان تسفانغيراي. وفي تلك المواجهة التي اتسمت بالعنف والابتزاز والتخويف واستخدام أجهزة الدولة على نحو موسع، نال موغابي 52.2 في المئة من الأصوات ومنافسه 41.9 في المئة. لكن البلدان الغربية فرضت عقوبات مشددة في 2003، فمنعه الاتحاد الأوروبي، هو و94 من مسؤوليه، من السفر إلى بلدانه كما جمد ودائعهم فيها، وغدت زيمبابوي تتعيش على المعونات الإنسانية.

الصديق الكبير

بيد أن إدراك الحقيقة هذه يبقى متعذراً من دون الرجوع إلى تاريخ العمل المناهض للعنصرية في البلد المذكور.

ففي 1912 تأسس 'المؤتمر الوطني الإفريقي' (وكان يُسمى المؤتمر الوطني المحلي الجنوب إفريقي)، أقدم حركة تحرر في إفريقيا السوداء. وقد جاء ذلك بعد ثلاث سنوات فحسب على تأسيس 'الرابطة الوطنية لتقدم الشعب الملون'، وهي، بدورها، أول حركة حقوق مدنية حديثة في الولايات المتحدة. وهو تزامُن حمل معاني فكرية وسياسية ظلت تواكب 'المؤتمر' وتشده، حتى في أشد لحظات تأثره بالعنف والسلوك الراديكالي، إلى العمل المدني والسياسي بالمعنى الذي قصدته 'الرابطة' الأميركية.

وما ضاعف حافز التعلم من 'الرابطة' أن المقاومات القديمة للسيطرة العنصرية، إثر هزيمة آخر المجتمعات السوداء المستقلة أواخر القرن التاسع عشر، انتهت إلى إخفاق بحت. ذاك أن المقاومة العسكرية للغزو الأبيض جاءت نُتفاً مُجزأة مبعثرة: فالأفارقة السود لم يقاتلوا شعباً واحداً، ومفهوم 'الشعب' جديد عليهم أصلاً، بل فعلوا بوصفهم مجموعة متمايزة من المجموعات الإثنية والرؤساء القبليين. ويزخر تاريخ المقاومات تلك بوقوف فئات من السود إلى جانب البيض إما لأنهم تعاطوا مع سلطتهم بوصفها من طبيعة الأشياء، أو لأنهم خصوم تقليديون لقبائل المقاومين.

فالتحدي الذي واجه مناهضة العنصرية كان توحيد السود، إن لم يكن أفارقة جنوب إفريقيا (بمن فيهم الهنود والمختلطو الأعراق 'الملونون') بحثاً عن جبهة موحدة ضد السيطرة البيضاء. وصار 'المؤتمر الوطني الإفريقي' التجسيد المادي لهذه الرغبة في التوحيد.

وتكامل الإدراك هذا مع حقيقة أن مُنظمي 'المؤتمر' ومعظم أعضائه انتموا إلى نخبة صغيرة مزدهرة اقتصادياً ومتعلمة نسبياً. فهم أبناء الطبقة الوسطى المتأثرة بالغرب ونتاج أفضل المدارس المتوافرة، بعضهم رموز إرساليات تبشيرية وتعليمية مسيحية درسوا المحاماة في بريطانيا. وهؤلاء كانوا، لاسيما الرئيس الأول للمؤتمر، المعلم جون إل ديوب، شديدي الإعجاب ببوكر تي واشنطن، الداعية المبكر للحقوق المدنية في الولايات المتحدة. وتأثراً بواشنطن الذي غدا 'صديقاً كبيراً' لديوب، أكد دستور المؤتمر على 'الولاء لكل السلطات القائمة'، مُلزماً أعضاءه العمل لـ'رفع مستوى السكان المحليين لجنوب إفريقيا تعليمياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً'.

الجوع الداخلي

في عام 2007 استأنف موغابي مواجهته مع المجتمع غير هياب. وقد اعتُقل تسفانغيراي وتعرض للتعذيب وسط استنكارات عالمية لم يُعرها أدنى اكتراث. إلا أن المعركة الانتخابية في 2008 جاءت بنتائج صار يصعب الالتفاف عليها بالطرق السابقة. فموغابي استخدم وسائله المعهودة في الترهيب، ورغم هذا خسر حزبه الحاكم الجولة الأولى. وحرصاً منه على سلامة مؤيديه ووقف التنكيل بهم، انسحب تسفانغيراي من الدورة الثانية فكُتبت رئاسة الجمهورية للمرة السادسة لموغابي المولود في 1925. وكان من سجلات سلطته السوداء أن رجالها أقدموا، في سياق انتخابات 2008، على إحراق امرأة حية هي زوجة السياسي المعارض باتسون شيبيرو.

لكنْ، كإيان سميث من قبله، اضطر موغابي، تحت وطأة المقاطعة الخارجية والجوع الداخلي، أن يساوم. وفي سبتمبر 2008 وافق، بعد المماطلة، وبرعاية رئيس جنوب إفريقيا ثابو مبيكي، على تقاسم السلطة مع تسفانغيراي. بيد أن التقاسم تغلغل إلى جميع مراتب تلك السلطة ومفاصلها، فأمسك موغابي، كرئيس للجمهورية، بالسيطرة على الجيش، أقوى أعمدة حكمه، فيما تُرك لرئيس الحكومة الجديد، تسفانغيراي، الإمساك بالشرطة. وإذ تتحدث وسائل الإعلام عن صراع ضار بين من تبقوا من أقطاب 'زانو' على وراثة الحاكم الفرد، تبدو زيمبابوي في مهب المجاهيل الكبرى والغامضة.

من ناحية أخرى، وبالقياس إلى الحركات التحررية والمقاوِمة التي شهدها القرن العشرون، يفهم المرء خصوصية الرمز الذي عبر عن كسر النظام العنصري في جنوب إفريقيا، نيلسون مانديلا. والحال أن وصف الخصوصية تلك بالفرادة، في ما خص التعامل مع موضوعات السياسة والعنف والتعدد، لا ينطوي على أي مبالغة.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
25-04-2010, 01:02 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962

icon1.gif

هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
جنوب إفريقيا قدمت نموذجاً فريداً لمقاومة تمسكت بالشرعية الدستورية ولم تترك البلد قاعاً صفصفاً
(الحلقة 20 والأخيرة)
حازم صاغيّة

عنصرية راسخة غير قابلة للنقض

في 1912 تأسس في جنوب إفريقيا «المؤتمر الوطني الإفريقي» (وكان يُسمى المؤتمر الوطني المحلي الجنوب إفريقي)، الذي يعد أقدم حركة تحرر في إفريقيا السوداء. وقد جاء ذلك بعد ثلاث سنوات فحسب على تأسيس «الرابطة الوطنية لتقدم الشعب الملون»، وهي، بدورها، أول حركة حقوق مدنية حديثة في الولايات المتحدة. وهو تزامُن حمل معاني فكرية وسياسية ظلت تواكب «المؤتمر» وتشده، حتى في أشد لحظات تأثره بالعنف والسلوك الراديكالي، إلى العمل المدني والسياسي بالمعنى الذي قصدته «الرابطة» الأميركية.

ولعقود بقي «المؤتمر» تحت قيادة المحامين ورجال الدين والصحافيين والأطباء ممن حاولوا كسب تعاطف البيض مع مطلبهم في إزاحة المظالم «عبر الوسائل الدستورية». لكنْ بغض النظر عن الطبيعة النخبوية تلك، وعن غلبة المناشدة الأخلاقية شبه الطوبوية، واظب «المؤتمر» على التحدث باسم السكان الأفارقة كلهم. فقد نظر إلى نفسه كـ«طليعة»، ونظر إلى التحرير بوصفه عملاً تدرجياً تتعاظم حظوظه مع تعاظم مواقع السود في التعليم والتملك، بما يؤهلهم للمواطنية في دولة غير عنصرية. هكذا نما كتنظيم يجمع بين الحقوق المدنية وبين الدعوة إلى «مساعدة النفس» أكثر مما كان حركةَ تحرر وطني بالمعنى الذي بات مُتعارفاً عليه.

بيد أن تحديث النظام العنصري ومأسسته التدريجيين بدآ يدفعان في اتجاه آخر، جاعلين «المؤتمر» حركة جماهيرية أكثر راديكالية بعدما كان رابطة معتدلة للنخبة المتعلمة. فبدل التأثير الإيجابي على ضمائر البيض وحس العدالة لديهم، تبين أن الحقوق المحدودة التي امتلكتها النخبة السوداء، كمتعلمين وملاكين، غدت عرضة لتقلص متعاظم. وهي عملية راحت تتصاعد ابتداءً بـ«قانون أراضي السكان المحليين» الذي صدر في 1913 مانعاً الأفارقة من شراء الأرض، أو حتى استئجارها، في أكثر من 90 في المئة من مساحة البلد. وجاءت الضربة الثانية عام 1936، فحُذف أبناء النخبة في منطقة الكايب من قوائم الذين يحق لهم التصويت، وبذلك دُمر الحلم الأصلي لـ«المؤتمر» في مراكمة حقوق تنبثق المساواة المدنية والمواطنية من تراكمها. أما الضربة القاضية فسجلها عام 1948، حين وصل «الحزب القومي» إلى السلطة ببرنامج أبارثايدي (عنصري) صريح يقضي بتعميم التمييز والفصل إلى أن يكتسبا صفة الشمول وعدم القابلية للنقض.

الثالوث الشاب

في المقابل، شرع «المؤتمر»، في الأربعينيات، يطالب بـ«الصوت الواحد للشخص الواحد»، بعدما اقتصرت سياسته على المطالبة بتوسيع عملية الاقتراع لتشمل الأقلية الإفريقية التي تمتلك من العلم والثروة ما يمكنها من بلوغ «المستويات الأوروبية للتمدن». وفي 1949 خُلع من قيادة «المؤتمر» الطبيب المتخرج من الولايات المتحدة أ.ب. كسوما لما أُخذ عليه من محافظة لم يعد الحزب يحتملها.

في المناخ هذا برز ثالوث نيلسون مانديلا وولتر سيسولو وأوليفر تامبو الذين كانوا، أواخر الأربعينيات، أبرز قادة «المؤتمر» الشبان. والثلاثة جاؤوا من قيادة «عصبة الشبيبة» التابعة لـ»المؤتمر»، والتي تأسست في 1944 متأثرة بالأجواء الراديكالية المُستجدة. ففي البدايات انجذبت «العصبة» إلى إفريقية متمحورة إثنياً، وهي فلسفة اصطفاء عرقي أنتجها المثقف والسياسي الأسود أنطون لمبِد. لكن لمبد توفي في 1947، ولم ينقض غير أشهر على وفاته حتى تخلى العصبويون عن شعار «إفريقيا للأفارقة» بوصفه متطرفاً ومفرطاً، لمصلحة قومية معتدلة ترتكز على مبدأ التعدد العرقي. هكذا انتقل التركيز لديها من حق الأفارقة في تقرير المصير إلى إسقاط حكم السيطرة البيضاء. كذلك نشأت العصبة على عداء حاد للشيوعية، إذ الماركسية عندها إيديولوجية غريبة عن «الروح الإفريقية» الموصوفة بـ«الأصالة» والاكتفاء الذاتي.

والراهن أن الشيوعيين في إفريقيا الجنوبية بيض مناهضون للعنصرية قبل أي تعريف إيديولوجي أو طبقي آخر. فالحزب الشيوعي بقي، لفترة طويلة، البيئة الوحيدة المتاحة للبيض الذين يرفضون التمييز والفصل. ذاك أن جنوب إفريقيا، على عكس الولايات المتحدة، افتقرت إلى تقليد ليبرالي مضاد للعنصرية، وفقط في الخمسينيات ظهرت مجموعة ليبرالية صغيرة بقيادة ألن باتون تسعى إلى تجاوز العلاقة الإحسانية والأبوية حيال السود.

ثم إن الحزب الشيوعي، على عكس منافسيه عن يساره، التزم طويلاً مبدأ الثورة ذات المرحلتين، واحدة منهما وطنية والثانية اشتراكية، فلم يصر على إنجازهما معاً. وفي المقابل، كان لدور أولئك الشيوعيين البيض والشجعان قيمة رمزية وسجالية لافتة، معززين حجة «المؤتمر» في رفض العنصرية السوداء رداً على البيضاء، وفي البرهنة على أن البيض ليسوا كلهم عنصريين.

«مذبحة شاربفيل»

ووسط قمع عنيف رافق مذبحة شاربفيل توجه منع «المؤتمر الوطني» نفسه عام 1960، أُجبر الحزب على النزول إلى السرية، فيما تخلى قادته عما التزموه طويلاً من اللاعنفية، دون أن يتخلوا عن التعددية. لكن مانديلا لم يبخل بالعبارات الكثيرة التي تعلن تفضيله الطرق اللاعنفية وربط التحول إلى النضال المسلح بانسداد كافة السُبل لمعارضة العنصرية. فالعنف، إذن، اضطرار لا يستوجب التمجيد بقدر ما يستدعي الشرح والاعتذار.

وبغض النظر عن مدى الدقة في رواية «المؤتمر» الرسمية لتاريخه وتاريخ نضاله، يبقى مفيداً استعادة تلك الرواية للوقوع على إحدى الوجهات التي لم تغب عن سيرة مانديلا ومؤتمره، وإن تفاوت التعبير عنها، قوةً وضعفاً، بين مرحلة وأخرى. ففي كتاب فرانسيس مالي «جنوب إفريقيا تعود لنا» نقع على تفسير «رسمي» لبدايات الكفاح المسلح في الستينيات يستحق الوقوف عنده. فالكاتب، المناضل في «المؤتمر»، يشير إلى ان حزبه، كتنظيم، لم يتبن أبداً نهج العنف. ذاك أن أعمال التخريب والتحضير لحرب العصابات إنما نفذها تنظيم مستقل هو «رمح الأمة» (أومخونتو وي) بقيادة مانديلا. ومع أن التنظيم هذا كان وثيق الارتباط بـ»المؤتمر»، فالأمر لم يتطلب موافقة الأخير على دعم العمل العنفي، بدليل أن رئيس «المؤتمر» يومذاك كان ألبرت لوثولي، أبرز دعاة المقاومة اللاعنفية.

أبعد من هذا أن التفكير الذي مكث وراء تأسيس «رمح الأمة» مفاده أن عنف العنصرية بات يتطلب عنفاً مقابلاً، وأنه ما لم تنشأ قيادة مسؤولة تكون الوسيط بين مشاعر المواطنين والمقاومة المسلحة، فسوف ينفتح الباب لإرهاب يفاقم العداء بين مكونات المجتمع الجنوب إفريقي، لا سيما السود والبيض. وبالمعنى هذا يغدو العنف الصغير، في ظل انسداد منافذ السياسة والتعبير، مجرد وسيلة لقطع الطريق على عنف أكبر. ومعروفٌ أن مانديلا نفسه كان أدلى برأي مشابه في شهادته أمام المحكمة رداً على اتهامه، عام 1962، بأعمال تخريبية. وغني عن القول إن منطقاً كهذا لا يربطه رابط بنظريات فرانس فانون حول العنف والثورة السوداء ذات الطاقة المحررة، لا سياسياً فحسب بل نفسياً أيضاً، فيما كان لكتابه «معذبو الأرض» كبير التأثير على الطلاب الجنوب إفريقيين ممن مثلوا دعامة حركة «الوعي الأسود» لدى ظهورها.

نزاعات عاصفة

والحال أن مواظبة مانديلا و«المؤتمر الوطني» على موقفهما في موضوعتي العنف والتعدد لم تنفصل عن حقيقة أن القيادة اذ استقرت في أيدي جيل جديد، وعدلت بعض توجهاتها، لم تختلف في تكوينها الاجتماعي والطبقي عما كانته لدى التأسيس في 1912. فهم متعلمون ومهنيون، لا سيما محامين، كمثل مانديلا وتامبو. وتقارن غايل أم. غيرهلرا عبر تحليل استقصائي بين قيادتي المؤتمرين «الوطني» و«القومي» الذي انشق عنه، فتلاحظ وجود فوارق ضخمة. ذاك أن 70 في المئة من القيادة العليا للوطني، عشية حله في 1960، جاءت من «النخبة المهنية»، مقابل 20 في المئة في القومي. أما قاعدة الوطني فاحتوت تعدداً طبقياً أكبر، غير أن الصادرين عن خلفيات عمالية أو فلاحية ضعيفة الصلة بالسياسة، لم يحتلوا مواقع ملحوظة في القيادة.

ويكتب ستيفان ديفيز كيف خرج «المؤتمر» من تهميشه في أوائل السبعينيات إلى القوة التي بات عليها. فكتنظيمٍ كاد يدمره منعه، وفشلُ حملة التخريب التي قام بها، واعتقالُ الكثيرين من قياداته، أُجبر «المؤتمر» على تركيز نشاطه، طوال عقدين، في المنفى. أما للداخل، فوضع مانديلا «خطة إم»، وهي محاولة لتنظيم الأعضاء في خلايا سرية ومحلية كانت هُندست في الخمسينيات لاتقاء المطاردة. وأكثرَ مما كان متوقعاً نجحت الخطة، فتمكن بعض الكوادر من البقاء داخل البلد. غير أن قرار مباشرة حرب العصابات من الداخل لم يمكن تنفيذه بسبب أجهزة الأمن الخارقة البناء والامتداد، كذلك لم تحظ محاولات الاختراق من الخارج إلا بنجاح ضئيل. ذاك أن جنوب إفريقيا كانت محاطة بأنظمة كولونيالية برتغالية في أنغولا وموزمبيق، وبريطانية في روديسيا. لكن استقلال آخر المستعمرات الإفريقية أواسط السبعينيات أتاح لمنفيي «المؤتمر» الاقتراب من حدود بلدهم، علماً بأن خوف الأنظمة الجديدة من جبروت بريتوريا العسكري منعها من توفير قواعد آمنة لهم.

أما داخل البلد فاستطاع «المؤتمر» لسببين أن يتغلب على منافسيه في «القومي» و«الوعي الأسود»، أول السببين تفوقه التنظيمي الذي وفر لطلاب انتفاضة سويتو عام 1976 أُطراً قابلة للاستيعاب لم يملكها «القومي» الذي كانت تعصف به نزاعاته، ولا «الوعي» الذي كان، مع بداية التحرك، أقوى بلا قياس من «المؤتمر» في أوساط الطلبة.

أما الثاني فقدرة «المؤتمر» على إحراز الدعم الدولي. فهو تلقى عوناً عسكرياً من المعسكر الشرقي ومساعدات إنسانية من الحركة الدولية المناهضة للتمييز في الغرب. وهو ما لم يكن بعيداً من خياره التعددي والمناهض للعنصرية السوداء المضادة. ذاك أن «القومي» تمتع بتأييد أكبر من «منظمة الوحدة الإفريقية» التي استهوتها نضاليته السوداء، إلا أن الدول الإفريقية المُفقرة والضعيفة لم تكن تملك الكثير تقدمه. ويبدو أن علاقة «المؤتمر»، البراغماتية لا الإيديولوجية، بالشيوعيين ساعدت في اجتذاب المعونات السوفياتية.

نقطة التعادل

في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات أعاد «المؤتمر» بناء حركته التحت الأرض، كما نجح في تنفيذ أعمال تخريب في عدادها قصف مصافي ساسول عام 1980. غير أن حركة التخريب التي فشلت مثيلتها أوائل الستينيات، وازاها تشديد الموقف الرسمي لـ»المؤتمر»، طوال الثمانينيات، على رفض الإرهاب، أي الأعمال التي تستهدف مدنيين وأهدافاً مدنية. مع هذا بدت قدرة القادة المقيمين في زامبيا على ضبط كوادرهم في الداخل محدودة، فنفذ هؤلاء ثلاث عمليات إرهابية على الأقل لم يُخفف من وقعها إلا النشاط المبذول على الجبهة السياسية. فقد رعى «المؤتمر»، عام 1983، إنشاء «الجبهة الديمقراطية المتحدة» التي وافقت على «ميثاق الحرية»، وكانت المظلة التنظيمية للجماعات الأهلية والسياسية المعادية للتمييز. وفي منتصف الثمانينيات غدا مُسلماً به أن «المؤتمر» الطرف الأقوى، بلا منازع، في الداخل.

ومن ناحيتهم، تحرك خصومه السود، فنشأ «المنتدى الوطني» ضاماً المجموعات المختلفة لـ»الوعي الأسود»، وأهمها «منظمة الشعب الأزاني»، لمقاومة التعاون العرقي، أو حتى مجرد التفاوض مع البيض. فشهدت الثمانينيات، بالتالي، صراعات متوالية ضد القوى السياسية السوداء والمنافسة. وفي 1985 و1986 كانت رسالة قيادة «المؤتمر» في المنفى لعناصر الداخل تصفية «القوة الثالثة»، الشيء الذي بالغ الكوادر في تفسيره بحيث تولد إرهاب طال مَن هم على يسار «المؤتمر» ومن على يمينه.

لكن قيادة مانديلا، وإن ضمنت تمثيل نصف الأفارقة السود، بدت مُتيقنةً من أن تمثيلها لا يمكنها من إسقاط العنصرية بالقوة، وأنها، من ثم، تواجه حالاً من التعادل تحض على مباشرة التفاوض، وهو فعلاً ما تحقق بعد حين وكان إطلاق سراح مانديلا بدايته.

وأهم مما عداه أن النظام الذي انبثق من مقاومة العنصرية وإسقاطها تمسك بالشرعية الدستورية تمسكه بالمكتسبات التي أحرزتها جنوب إفريقيا في ظل نظامها العنصري المقيت. وهذا على عكس التجارب الأخرى التي تأدى عن مقاومتها تدمير كل الإنجازات وتهجير الكفاءات وترك البلد قاعاً صفصفاً تستبد به طغمة سبق أن تولت المقاومة وقضت على الشرعية الدستورية قضاء يصعب تفادي آثاره والتعافي من بعده.

«الوعي الأسود»

مع مطالع الخمسينيات وصعود قادة «العصبة» إلى قيادة «المؤتمر»، نُظر إلى الشيوعيين كعناصر مفيدة وكحلفاء جديين في الصراع ضد السيطرة البيضاء. وبقي مبدأ التعدد الإثني حياً لدى قادة المؤتمر الجدد. فـ«ميثاق الحرية» الذي أصدروه في 1955، وظل حجر الزاوية في الانتساب إلى «المؤتمر»، يؤكد أن «جنوب إفريقيا تؤول إلى كافة الذين يعيشون فيها». وأيضاً في الخمسينيات أعلن «المؤتمر» ولاءه المكرس لـ «التعددية العرقية»، متعاملاً بإيجابية قصوى مع الحاجة إلى توفير ضمانات تحمي تمتع سائر المجموعات العرقية والإثنية بحقوق متساوية.

بيد أن التزامه هذا كان دوماً مصدراً لمعارضة قومية سوداء أكثر تشدداً. فالذين وقفوا ضد إصرار «المؤتمر» على التعددية، وعلى التعاون مع الشيوعيين البيض، انشقوا وأسسوا، عام 1959، «المؤتمر القومي الإفريقي»، واضعين «القومي» في تسميتهم مقابل «الوطني». كذلك شكلت السياسات اللاعنصرية لـ«المؤتمر الوطني» مادة دسمة لنقدها اللاحق من قبل مجموعات «الوعي الأسود» بزعامة ستيف بيكو، المتأثر بالأميركي مالكولم إكس، والتي تفرعت عنها، أواخر الستينيات، «منظمة الشعب الأزاني» (أزابو). فهؤلاء عارضوا «ميثاق الحرية» رافضين التعاون مع الليبراليين والراديكاليين البيض، كما نسبوا رفض «المؤتمر» لغة القومية السوداء والإفريقية إلى تأثير الشيوعيين البيض عليهم.

ومنذ ظهورها، تطورت «الوعي الأسود» من محاولة للتغلب على الحس بالدونية عبر عمل لاعنفي مستقل عن البيض إلى نزعة ثورية عرقية-طبقية مركبة. فالعدو لديها ليس العنصرية ونظامها بل «الرأسمالية العنصرية»، ما عنى أن إلحاق الهزيمة بنظام التمييز لا يتم إلا عبر «ثورة الطبقة العاملة السوداء» ضد «مُضطهِديها الاقتصاديين والعرقيين معاً». ورغم الجاذبية التي لإيديولوجية كهذه على شعب يبدو فقره ولون بشرته شديدي الترابط، بقي رأي «المؤتمر الوطني» أن مسائل العدالة العرقية والاقتصادية قابلة للفصل، وفي هذا توفرت مادة لقاء مع نظرية «المرحلتين» التي يقول بها الشيوعيون. أما الفرضية الضمنية في موقف «المؤتمر» هذا فأن الرأسمالية ليست بالضرورة عنصرية، وأن المطلوب كسبها لا تنفيرها.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
25-04-2010, 01:02 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962

icon1.gif

هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
جنوب إفريقيا قدمت نموذجاً فريداً لمقاومة تمسكت بالشرعية الدستورية ولم تترك البلد قاعاً صفصفاً
(الحلقة 20 والأخيرة)
حازم صاغيّة

عنصرية راسخة غير قابلة للنقض

في 1912 تأسس في جنوب إفريقيا «المؤتمر الوطني الإفريقي» (وكان يُسمى المؤتمر الوطني المحلي الجنوب إفريقي)، الذي يعد أقدم حركة تحرر في إفريقيا السوداء. وقد جاء ذلك بعد ثلاث سنوات فحسب على تأسيس «الرابطة الوطنية لتقدم الشعب الملون»، وهي، بدورها، أول حركة حقوق مدنية حديثة في الولايات المتحدة. وهو تزامُن حمل معاني فكرية وسياسية ظلت تواكب «المؤتمر» وتشده، حتى في أشد لحظات تأثره بالعنف والسلوك الراديكالي، إلى العمل المدني والسياسي بالمعنى الذي قصدته «الرابطة» الأميركية.

ولعقود بقي «المؤتمر» تحت قيادة المحامين ورجال الدين والصحافيين والأطباء ممن حاولوا كسب تعاطف البيض مع مطلبهم في إزاحة المظالم «عبر الوسائل الدستورية». لكنْ بغض النظر عن الطبيعة النخبوية تلك، وعن غلبة المناشدة الأخلاقية شبه الطوبوية، واظب «المؤتمر» على التحدث باسم السكان الأفارقة كلهم. فقد نظر إلى نفسه كـ«طليعة»، ونظر إلى التحرير بوصفه عملاً تدرجياً تتعاظم حظوظه مع تعاظم مواقع السود في التعليم والتملك، بما يؤهلهم للمواطنية في دولة غير عنصرية. هكذا نما كتنظيم يجمع بين الحقوق المدنية وبين الدعوة إلى «مساعدة النفس» أكثر مما كان حركةَ تحرر وطني بالمعنى الذي بات مُتعارفاً عليه.

بيد أن تحديث النظام العنصري ومأسسته التدريجيين بدآ يدفعان في اتجاه آخر، جاعلين «المؤتمر» حركة جماهيرية أكثر راديكالية بعدما كان رابطة معتدلة للنخبة المتعلمة. فبدل التأثير الإيجابي على ضمائر البيض وحس العدالة لديهم، تبين أن الحقوق المحدودة التي امتلكتها النخبة السوداء، كمتعلمين وملاكين، غدت عرضة لتقلص متعاظم. وهي عملية راحت تتصاعد ابتداءً بـ«قانون أراضي السكان المحليين» الذي صدر في 1913 مانعاً الأفارقة من شراء الأرض، أو حتى استئجارها، في أكثر من 90 في المئة من مساحة البلد. وجاءت الضربة الثانية عام 1936، فحُذف أبناء النخبة في منطقة الكايب من قوائم الذين يحق لهم التصويت، وبذلك دُمر الحلم الأصلي لـ«المؤتمر» في مراكمة حقوق تنبثق المساواة المدنية والمواطنية من تراكمها. أما الضربة القاضية فسجلها عام 1948، حين وصل «الحزب القومي» إلى السلطة ببرنامج أبارثايدي (عنصري) صريح يقضي بتعميم التمييز والفصل إلى أن يكتسبا صفة الشمول وعدم القابلية للنقض.

الثالوث الشاب

في المقابل، شرع «المؤتمر»، في الأربعينيات، يطالب بـ«الصوت الواحد للشخص الواحد»، بعدما اقتصرت سياسته على المطالبة بتوسيع عملية الاقتراع لتشمل الأقلية الإفريقية التي تمتلك من العلم والثروة ما يمكنها من بلوغ «المستويات الأوروبية للتمدن». وفي 1949 خُلع من قيادة «المؤتمر» الطبيب المتخرج من الولايات المتحدة أ.ب. كسوما لما أُخذ عليه من محافظة لم يعد الحزب يحتملها.

في المناخ هذا برز ثالوث نيلسون مانديلا وولتر سيسولو وأوليفر تامبو الذين كانوا، أواخر الأربعينيات، أبرز قادة «المؤتمر» الشبان. والثلاثة جاؤوا من قيادة «عصبة الشبيبة» التابعة لـ»المؤتمر»، والتي تأسست في 1944 متأثرة بالأجواء الراديكالية المُستجدة. ففي البدايات انجذبت «العصبة» إلى إفريقية متمحورة إثنياً، وهي فلسفة اصطفاء عرقي أنتجها المثقف والسياسي الأسود أنطون لمبِد. لكن لمبد توفي في 1947، ولم ينقض غير أشهر على وفاته حتى تخلى العصبويون عن شعار «إفريقيا للأفارقة» بوصفه متطرفاً ومفرطاً، لمصلحة قومية معتدلة ترتكز على مبدأ التعدد العرقي. هكذا انتقل التركيز لديها من حق الأفارقة في تقرير المصير إلى إسقاط حكم السيطرة البيضاء. كذلك نشأت العصبة على عداء حاد للشيوعية، إذ الماركسية عندها إيديولوجية غريبة عن «الروح الإفريقية» الموصوفة بـ«الأصالة» والاكتفاء الذاتي.

والراهن أن الشيوعيين في إفريقيا الجنوبية بيض مناهضون للعنصرية قبل أي تعريف إيديولوجي أو طبقي آخر. فالحزب الشيوعي بقي، لفترة طويلة، البيئة الوحيدة المتاحة للبيض الذين يرفضون التمييز والفصل. ذاك أن جنوب إفريقيا، على عكس الولايات المتحدة، افتقرت إلى تقليد ليبرالي مضاد للعنصرية، وفقط في الخمسينيات ظهرت مجموعة ليبرالية صغيرة بقيادة ألن باتون تسعى إلى تجاوز العلاقة الإحسانية والأبوية حيال السود.

ثم إن الحزب الشيوعي، على عكس منافسيه عن يساره، التزم طويلاً مبدأ الثورة ذات المرحلتين، واحدة منهما وطنية والثانية اشتراكية، فلم يصر على إنجازهما معاً. وفي المقابل، كان لدور أولئك الشيوعيين البيض والشجعان قيمة رمزية وسجالية لافتة، معززين حجة «المؤتمر» في رفض العنصرية السوداء رداً على البيضاء، وفي البرهنة على أن البيض ليسوا كلهم عنصريين.

«مذبحة شاربفيل»

ووسط قمع عنيف رافق مذبحة شاربفيل توجه منع «المؤتمر الوطني» نفسه عام 1960، أُجبر الحزب على النزول إلى السرية، فيما تخلى قادته عما التزموه طويلاً من اللاعنفية، دون أن يتخلوا عن التعددية. لكن مانديلا لم يبخل بالعبارات الكثيرة التي تعلن تفضيله الطرق اللاعنفية وربط التحول إلى النضال المسلح بانسداد كافة السُبل لمعارضة العنصرية. فالعنف، إذن، اضطرار لا يستوجب التمجيد بقدر ما يستدعي الشرح والاعتذار.

وبغض النظر عن مدى الدقة في رواية «المؤتمر» الرسمية لتاريخه وتاريخ نضاله، يبقى مفيداً استعادة تلك الرواية للوقوع على إحدى الوجهات التي لم تغب عن سيرة مانديلا ومؤتمره، وإن تفاوت التعبير عنها، قوةً وضعفاً، بين مرحلة وأخرى. ففي كتاب فرانسيس مالي «جنوب إفريقيا تعود لنا» نقع على تفسير «رسمي» لبدايات الكفاح المسلح في الستينيات يستحق الوقوف عنده. فالكاتب، المناضل في «المؤتمر»، يشير إلى ان حزبه، كتنظيم، لم يتبن أبداً نهج العنف. ذاك أن أعمال التخريب والتحضير لحرب العصابات إنما نفذها تنظيم مستقل هو «رمح الأمة» (أومخونتو وي) بقيادة مانديلا. ومع أن التنظيم هذا كان وثيق الارتباط بـ»المؤتمر»، فالأمر لم يتطلب موافقة الأخير على دعم العمل العنفي، بدليل أن رئيس «المؤتمر» يومذاك كان ألبرت لوثولي، أبرز دعاة المقاومة اللاعنفية.

أبعد من هذا أن التفكير الذي مكث وراء تأسيس «رمح الأمة» مفاده أن عنف العنصرية بات يتطلب عنفاً مقابلاً، وأنه ما لم تنشأ قيادة مسؤولة تكون الوسيط بين مشاعر المواطنين والمقاومة المسلحة، فسوف ينفتح الباب لإرهاب يفاقم العداء بين مكونات المجتمع الجنوب إفريقي، لا سيما السود والبيض. وبالمعنى هذا يغدو العنف الصغير، في ظل انسداد منافذ السياسة والتعبير، مجرد وسيلة لقطع الطريق على عنف أكبر. ومعروفٌ أن مانديلا نفسه كان أدلى برأي مشابه في شهادته أمام المحكمة رداً على اتهامه، عام 1962، بأعمال تخريبية. وغني عن القول إن منطقاً كهذا لا يربطه رابط بنظريات فرانس فانون حول العنف والثورة السوداء ذات الطاقة المحررة، لا سياسياً فحسب بل نفسياً أيضاً، فيما كان لكتابه «معذبو الأرض» كبير التأثير على الطلاب الجنوب إفريقيين ممن مثلوا دعامة حركة «الوعي الأسود» لدى ظهورها.

نزاعات عاصفة

والحال أن مواظبة مانديلا و«المؤتمر الوطني» على موقفهما في موضوعتي العنف والتعدد لم تنفصل عن حقيقة أن القيادة اذ استقرت في أيدي جيل جديد، وعدلت بعض توجهاتها، لم تختلف في تكوينها الاجتماعي والطبقي عما كانته لدى التأسيس في 1912. فهم متعلمون ومهنيون، لا سيما محامين، كمثل مانديلا وتامبو. وتقارن غايل أم. غيرهلرا عبر تحليل استقصائي بين قيادتي المؤتمرين «الوطني» و«القومي» الذي انشق عنه، فتلاحظ وجود فوارق ضخمة. ذاك أن 70 في المئة من القيادة العليا للوطني، عشية حله في 1960، جاءت من «النخبة المهنية»، مقابل 20 في المئة في القومي. أما قاعدة الوطني فاحتوت تعدداً طبقياً أكبر، غير أن الصادرين عن خلفيات عمالية أو فلاحية ضعيفة الصلة بالسياسة، لم يحتلوا مواقع ملحوظة في القيادة.

ويكتب ستيفان ديفيز كيف خرج «المؤتمر» من تهميشه في أوائل السبعينيات إلى القوة التي بات عليها. فكتنظيمٍ كاد يدمره منعه، وفشلُ حملة التخريب التي قام بها، واعتقالُ الكثيرين من قياداته، أُجبر «المؤتمر» على تركيز نشاطه، طوال عقدين، في المنفى. أما للداخل، فوضع مانديلا «خطة إم»، وهي محاولة لتنظيم الأعضاء في خلايا سرية ومحلية كانت هُندست في الخمسينيات لاتقاء المطاردة. وأكثرَ مما كان متوقعاً نجحت الخطة، فتمكن بعض الكوادر من البقاء داخل البلد. غير أن قرار مباشرة حرب العصابات من الداخل لم يمكن تنفيذه بسبب أجهزة الأمن الخارقة البناء والامتداد، كذلك لم تحظ محاولات الاختراق من الخارج إلا بنجاح ضئيل. ذاك أن جنوب إفريقيا كانت محاطة بأنظمة كولونيالية برتغالية في أنغولا وموزمبيق، وبريطانية في روديسيا. لكن استقلال آخر المستعمرات الإفريقية أواسط السبعينيات أتاح لمنفيي «المؤتمر» الاقتراب من حدود بلدهم، علماً بأن خوف الأنظمة الجديدة من جبروت بريتوريا العسكري منعها من توفير قواعد آمنة لهم.

أما داخل البلد فاستطاع «المؤتمر» لسببين أن يتغلب على منافسيه في «القومي» و«الوعي الأسود»، أول السببين تفوقه التنظيمي الذي وفر لطلاب انتفاضة سويتو عام 1976 أُطراً قابلة للاستيعاب لم يملكها «القومي» الذي كانت تعصف به نزاعاته، ولا «الوعي» الذي كان، مع بداية التحرك، أقوى بلا قياس من «المؤتمر» في أوساط الطلبة.

أما الثاني فقدرة «المؤتمر» على إحراز الدعم الدولي. فهو تلقى عوناً عسكرياً من المعسكر الشرقي ومساعدات إنسانية من الحركة الدولية المناهضة للتمييز في الغرب. وهو ما لم يكن بعيداً من خياره التعددي والمناهض للعنصرية السوداء المضادة. ذاك أن «القومي» تمتع بتأييد أكبر من «منظمة الوحدة الإفريقية» التي استهوتها نضاليته السوداء، إلا أن الدول الإفريقية المُفقرة والضعيفة لم تكن تملك الكثير تقدمه. ويبدو أن علاقة «المؤتمر»، البراغماتية لا الإيديولوجية، بالشيوعيين ساعدت في اجتذاب المعونات السوفياتية.

نقطة التعادل

في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات أعاد «المؤتمر» بناء حركته التحت الأرض، كما نجح في تنفيذ أعمال تخريب في عدادها قصف مصافي ساسول عام 1980. غير أن حركة التخريب التي فشلت مثيلتها أوائل الستينيات، وازاها تشديد الموقف الرسمي لـ»المؤتمر»، طوال الثمانينيات، على رفض الإرهاب، أي الأعمال التي تستهدف مدنيين وأهدافاً مدنية. مع هذا بدت قدرة القادة المقيمين في زامبيا على ضبط كوادرهم في الداخل محدودة، فنفذ هؤلاء ثلاث عمليات إرهابية على الأقل لم يُخفف من وقعها إلا النشاط المبذول على الجبهة السياسية. فقد رعى «المؤتمر»، عام 1983، إنشاء «الجبهة الديمقراطية المتحدة» التي وافقت على «ميثاق الحرية»، وكانت المظلة التنظيمية للجماعات الأهلية والسياسية المعادية للتمييز. وفي منتصف الثمانينيات غدا مُسلماً به أن «المؤتمر» الطرف الأقوى، بلا منازع، في الداخل.

ومن ناحيتهم، تحرك خصومه السود، فنشأ «المنتدى الوطني» ضاماً المجموعات المختلفة لـ»الوعي الأسود»، وأهمها «منظمة الشعب الأزاني»، لمقاومة التعاون العرقي، أو حتى مجرد التفاوض مع البيض. فشهدت الثمانينيات، بالتالي، صراعات متوالية ضد القوى السياسية السوداء والمنافسة. وفي 1985 و1986 كانت رسالة قيادة «المؤتمر» في المنفى لعناصر الداخل تصفية «القوة الثالثة»، الشيء الذي بالغ الكوادر في تفسيره بحيث تولد إرهاب طال مَن هم على يسار «المؤتمر» ومن على يمينه.

لكن قيادة مانديلا، وإن ضمنت تمثيل نصف الأفارقة السود، بدت مُتيقنةً من أن تمثيلها لا يمكنها من إسقاط العنصرية بالقوة، وأنها، من ثم، تواجه حالاً من التعادل تحض على مباشرة التفاوض، وهو فعلاً ما تحقق بعد حين وكان إطلاق سراح مانديلا بدايته.

وأهم مما عداه أن النظام الذي انبثق من مقاومة العنصرية وإسقاطها تمسك بالشرعية الدستورية تمسكه بالمكتسبات التي أحرزتها جنوب إفريقيا في ظل نظامها العنصري المقيت. وهذا على عكس التجارب الأخرى التي تأدى عن مقاومتها تدمير كل الإنجازات وتهجير الكفاءات وترك البلد قاعاً صفصفاً تستبد به طغمة سبق أن تولت المقاومة وقضت على الشرعية الدستورية قضاء يصعب تفادي آثاره والتعافي من بعده.

«الوعي الأسود»

مع مطالع الخمسينيات وصعود قادة «العصبة» إلى قيادة «المؤتمر»، نُظر إلى الشيوعيين كعناصر مفيدة وكحلفاء جديين في الصراع ضد السيطرة البيضاء. وبقي مبدأ التعدد الإثني حياً لدى قادة المؤتمر الجدد. فـ«ميثاق الحرية» الذي أصدروه في 1955، وظل حجر الزاوية في الانتساب إلى «المؤتمر»، يؤكد أن «جنوب إفريقيا تؤول إلى كافة الذين يعيشون فيها». وأيضاً في الخمسينيات أعلن «المؤتمر» ولاءه المكرس لـ «التعددية العرقية»، متعاملاً بإيجابية قصوى مع الحاجة إلى توفير ضمانات تحمي تمتع سائر المجموعات العرقية والإثنية بحقوق متساوية.

بيد أن التزامه هذا كان دوماً مصدراً لمعارضة قومية سوداء أكثر تشدداً. فالذين وقفوا ضد إصرار «المؤتمر» على التعددية، وعلى التعاون مع الشيوعيين البيض، انشقوا وأسسوا، عام 1959، «المؤتمر القومي الإفريقي»، واضعين «القومي» في تسميتهم مقابل «الوطني». كذلك شكلت السياسات اللاعنصرية لـ«المؤتمر الوطني» مادة دسمة لنقدها اللاحق من قبل مجموعات «الوعي الأسود» بزعامة ستيف بيكو، المتأثر بالأميركي مالكولم إكس، والتي تفرعت عنها، أواخر الستينيات، «منظمة الشعب الأزاني» (أزابو). فهؤلاء عارضوا «ميثاق الحرية» رافضين التعاون مع الليبراليين والراديكاليين البيض، كما نسبوا رفض «المؤتمر» لغة القومية السوداء والإفريقية إلى تأثير الشيوعيين البيض عليهم.

ومنذ ظهورها، تطورت «الوعي الأسود» من محاولة للتغلب على الحس بالدونية عبر عمل لاعنفي مستقل عن البيض إلى نزعة ثورية عرقية-طبقية مركبة. فالعدو لديها ليس العنصرية ونظامها بل «الرأسمالية العنصرية»، ما عنى أن إلحاق الهزيمة بنظام التمييز لا يتم إلا عبر «ثورة الطبقة العاملة السوداء» ضد «مُضطهِديها الاقتصاديين والعرقيين معاً». ورغم الجاذبية التي لإيديولوجية كهذه على شعب يبدو فقره ولون بشرته شديدي الترابط، بقي رأي «المؤتمر الوطني» أن مسائل العدالة العرقية والاقتصادية قابلة للفصل، وفي هذا توفرت مادة لقاء مع نظرية «المرحلتين» التي يقول بها الشيوعيون. أما الفرضية الضمنية في موقف «المؤتمر» هذا فأن الرأسمالية ليست بالضرورة عنصرية، وأن المطلوب كسبها لا تنفيرها.
 
أعلى