09-04-2010, 03:14 AM
justice
عضو
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
الحرب الأهلية الأنغولية استمرت ضعف سنوات التحرر والاستقلال وكانت أطول النزاعات وأشدها دموية
(الحلقة 17)
حازم صاغيّة
إفريقيا: المقاومة كنقيض للشرعية
تقدم أنغولا عينة باهرة على دور المقاومة في إدخال السكان الشأنَ العام من خلال السلاح وحده، وذلك فيما البلد المعني نفسه لم يسبق أن تشكل كبلد، ولا اكتسبت الوطنية أي معنى لها بصفتها هذه. وفي ظل عملية كتلك، يكون التسييس عبر السلاح أكبر منه وأسرع نمواً من الوعي والولاء الوطنيين. بل يجوز القول إن هذين الأخيرين لا يكفان عن التقلص والانكماش، معلنين عجزهما عن اللحاق بالتسييس العسكري والنضالي. والعاهة هذه لا تلبث أن تكتسب صفة الديمومة التي تتعاظم صعوبات علاجها، ومن ثم صعوبات تأسيس الدولة- الأمة وبناء الشرعية الدستورية التي تنظم اشتغالها.
لقد خضعت أنغولا لاستعمار شديد التخلف، هو استعمار البرتغال، ذاك البلد الطرفي في أوروبا الذي لم تلفحه رياح التطورات التي عصفت بسائر القارة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.
فالبرتغاليون وصلوا إلى البقعة التي تُعرف بأنغولا في 1483، ثم جعلوها مستعمرة لهم في 1576، وهو ما تمأسس وتمدد في 1886 كي يشمل البلد في حدوده الحالية.
لكن حرب الاستقلال، أو «حرب التحرير»، حسب التسمية الرسمية، تأخر اندلاعها حتى 1961، حين كانت المستعمرات البريطانية والفرنسية تنال استقلالها تباعاً. والحرب هذه استمرت 14 سنة، فانتهت في 1975، بُعيد إطاحة الديكتاتورية العسكرية لمارشيلو كايتانو، وريث أنطونيو سالازار. ذاك أن النظام الجديد في لشبونه قرر أن ينسحب من مستعمراته في النصف الجنوبي من إفريقيا وينهي صفحة الاستعمار.
وبلغة أخرى، فإن ما حدث في المتروبول، مع إنجاز خطوة تقدمية في حجم إزاحة الديكتاتورية العسكرية، هو الذي وفر عبور أنغولا من الاستعمار إلى الاستقلال. بيد أن حركات المقاومة اكتفت بإرساء أسباب النزاع الأهلي الذي غدا نزاعاً على السلطة مدمراً ومكلفاً ومديداً، فيما رهنت تقدم البلد، إن لم يكن قيامه نفسه، بالاستراتيجيات والمصالح الإقليمية والدولية الكبرى.
لعبة النفوذ
في مقابل الـ14 سنة من «حرب التحرير»، استمرت الحرب الأهلية 27 سنة، أي حوالى ضعفها، ما بين 1975 و2002، فكانت، بهذا، أحد أطول النزاعات التي حفت بالحرب الباردة وأحد أشدها دموية. فقد قُتل خلالها نصف مليون أنغولي وهُجر بفعلها 3.4 ملايين إنسان هم ثلث مجموع السكان. وقد خلفت الحرب تلك ما بين 10 و20 مليون لغم أرضي لم يُنزع معظمها. وفي وقت يرقى إلى 2003، قدرت الأمم المتحدة أن 80 في المئة من سكان ذاك البلد الغني بالنفط والماس، يفتقرون إلى كل عناية طبية، وأن 60 في المئة محرومون من مياه الشفة، فيما 30 في المئة من الأطفال يموتون قبل بلوغهم الخامسة، ولا يزيد معدل سنوات العمر المتوقعة عن 40 سنة.
لقد استكمل جون أ. ماركوم في المجلد الثاني من كتابه «الثورة الأنغولية»، وفي ظل عنوان فرعي يقول: «سياسيو المنفى وحرب العصابات (1962-1976)»، ما ابتدأه حين أصدر المجلد الأول ذا العنوان الفرعي «تشريح انفجار (1950-1962)». وفي هذا المجلد الثاني استعاد المؤلف نقص الاهتمام الذي حظيت به أنغولا من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى أن حلت أزمة أواسط السبعينيات. ذاك أن النزاع الأهلي الذي نشب في أكبر المستعمرات البرتغالية وأغناها وأهمها، ما لبث أن شكل مصدراً بارزاً من مصادر تردي «الوفاق» بين جباري عهدذاك. وقد تعاقب الرسميون الأميركيون الذين أعلنوا أن أنغولا ستكون أرض الامتحان لإرادة واشنطن في ما يخص التصدي للنفوذين السوفياتي والكوبي في القارة السوداء. لكنْ بينما كانت الولايات المتحدة تأخذ على خصميها دعم أحد أطراف الحرب الأهلية، أي «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا» (أم بي إل إي)، كانت هي نفسها، ولا سيما عبر حلفائها، تدعم الطرفين الآخرين «الجبهة الوطنية لتحرير أنغولا» (إف إن إل أي) و«يونيتا» التي تلخص تسمية «الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا الكاملـ». فهاتان الأخيرتان تناوب على تقديم العون لهما كل من الصين ورومانيا وكوريا الشمالية وفرنسا وألمانيا الغربية وإسرائيل والسنغال وأوغندا وزائير وزامبيا وتنزانيا وجنوب إفريقيا، فضلاً عن الولايات المتحدة.
واللوحة هذه كافية للتدليل على الطبيعة غير الإيديولوجية، وغير المبدئية، التي وسمت الإحاطة الخارجية بالحرب الأنغولية. فالبلدان الثلاثة الأولى، الصين ورومانيا وكوريا الشمالية، وهي شيوعية النظام، كانت مخاوفها من الاتحاد السوفياتي، أو تنافسها معه، تدفعها إلى الاصطفاف قريباً من الولايات المتحدة وألمانيا الغربية وإسرائيل وجنوب إفريقيا. وهذا للقول إن الصراع الأهلي الأنغولي بدا فرصة لجميع تلك البلدان كي تستخدم البلد التعيس ساحةً في لعبة النفوذ الإقليمي والدولي. والشيء نفسه يصح في الاتحاد السوفياتي الذي يبدو لوهلة أنه كان منسجماً مع مبادئه، بدعمه «الحركة الشعبية» التي درج بعض قادتها على القول بالماركسية – اللينينية. لكن ماركوم يبين أن موسكو، وتماماً بُعيد الانقلاب البرتغالي، بنت جسوراً لها مع دانيال شيبندا، المنافس «اليميني» على قيادة «الحركة الشعبية»، والذي ما لبث أن انضم لاحقاً إلى «الجبهة الوطنية» وتعاون، إلى أبعد حدود التعاون، مع جنوب إفريقيا. وهذا فضلاً عن أن سافيمبي قائد «يونيتا»، كان يقول، هو الآخر، بماركسية- لينينية اعتنقها في الصين قبل ظهور الخلاف الصيني- السوفياتي.
على أي حال، فحركات المقاومة المذكورة كانت تنقسم، في وقت واحد، على خطوط ثقافية وعرقية ومناطقية وطبقية وإيديولوجية، كما تشقها المنافسات الشخصية لقادتها وبُناها التنظيمية وتحالفاتها الخارجية.
انشقاق سافيمبي
وبدورها، تأسست «الحركة» في 1956، أي نفس العام الذي شهد تأسيس «اتحاد الشعوب...»، وكان قائدها المثقف القومي – اليساري، والمولاطي، أوغستينو نِتو، كما عُد الحزب الشيوعي الأنغولي أحد المكونات الكثيرة التي انصهرت فيها. ومن ناحيته خرج جوناس سافيمبي، زعيم «يونيتا» اللاحق، من عباءة «اتحاد شعوب أنغولا»، وقد عينه روبيرتو أميناً عاماً لـ«الاتحاد»، ثم وزيراً لخارجية الحكومة الثورية في المنفى التي أعلنتها «الجبهة» بُعيد تأسيسها في 1962. لكن سافيمبي انشق في 1964 وأسس «يونيتا»، آخذاً على «الجبهة» مناطقيتها ويمينيتها القومية.
على أن «الجبهة» كانت، في 1974، تملك من القوات العسكرية ما يزيد عن مجموع ما تملكه «الحركة» و«يونيتا» معاً. كذلك كان في عهدة زعيمها هولدن روبيرتو، الموصوف بعلاقات وثيقة ومبكرة مع واشنطن ومع زائير، أموال أكثر وأسلحة أوفر عدداً وتعقيداً مما في عهدتيهما. وفي مطالع 1975، وحسب ما ينقل جون ستوكويل في «بحثاً عن أعداء: قصة عن سي أي آي»، عن مصادر عسكرية برتغالية، ضمت «الجبهة» 24500 جندي (في عدادهم ثلاثة آلاف من أنصار شيبندا غادروا «الحركة» معه)، فيما بلغ عدد مقاتلي «الحركة» 5500 عنصر و«يونيتا» 3000 عنصر. بيد أن «الجبهة» ما لبثت أن تبدت، وكما سوف نرى لاحقاً، أشبه بنمر من ورق. والنتيجة هذه، التي لم تشبه الواقع على الأرض وتوازناته، جاءت حصيلة عاملين، أحدهما العامل الخارجي، حيث انخرط الكوبيون بقوة وأعداد ملحوظة في القتال المباشر بينما انسحبت قوات جنوب إفريقيا من الداخل الأنغولي بضغط أميركي، والآخر يتعلق بالبراعة والذكاء السياسيين إذ استولت «الحركة» على معظم المدن، ما جعلها تحظى باعتراف منظمة الوحدة الإفريقية والأمم المتحدة.
تحالفات هشة
لقد بادرت الحكومة البرتغالية الجديدة، في 15 يناير 1975، إلى عقد ما عُرف بـ«اتفاقية ألفور» مع الحركات الثلاث، سعياً منها لتأمين انتقال سلمي وهادىء. وبعد خمسة عشر يوماً شُكلت، بموجب الاتفاقية تلك، حكومة ضمت الحركات الثلاث معاً. غير أن اندلاع القتال ما لبث أن ألغى الحكومة عملياً.
فقد أعلنت «الحركة» الاستقلالَ في 11 نوفمبر، بعد مغادرة الجنود البرتغاليين العاصمة لوندا، وهو ما استدعى مغادرة مئات آلاف البرتغاليين المدنيين يائسين ومحبطين. وفي الوقت ذاته تقريباً بادرت «الجبهة» و«يونيتا» إلى إعلان حكومة استقلالية، إذ أمام تحدي «الحركة» أقامتا تحالفاً لم يُثبت متانته، كما أسستا «جمهورية أنغولا الديموقراطية». كذلك فعلت «الحركة الشعبية لاستقلال كابيندا»، الداعية إلى فصل إقليمها في الشمال الغربي الغني بالنفط عن سائر البلد، إذ أعلنت استقلالها. وللتو اندلعت الحرب بين الجماعات- التنظيمات الأربع.
في بدايات تلك الحرب، التي أطلقت «الحركة» عليها تسمية «حرب التحرير الثانية»، سيطرت «الجبهة» على الشمال، و«يونيتا» على مناطق التقاطع بين الوسط والجنوب، فيما أحكمت «الحركة» قبضتها على المناطق الساحلية وعلى أقصى الجنوب الشرقي، قبل أن تتقدم إلى كابيندا فتُخضع حركتها الانفصالية.
وفي النهاية انتصرت «الحركة» بنتيجة معونات عسكرية روسية قُدرت قيمتها يومذاك بما بين 300 و400 مليون دولار، وبموت عشرات آلاف الأنغوليين. وفي موازاة هذا التقدم، وعلى ما يذكر ستوكويل، ارتفع عدد المستشارين والجنود الكوبيين إلى 20 ألفاً، فولد العهد الاستقلالي الجديد مكبلاً بديون ضخمة للحليفين، لا سيما للاتحاد السوفياتي.
الأدغال الإفريقية
وفي 1976 هاجمت «الجبهة» لوندا من الشمال، في معركة «طريق الموت»، فتولى الكوبيون إنزال هزيمة ماحقة بها، بعدها لم تقم قائمة لـ«الجبهة»: فقد هرب مَن بقي من مقاتليها إلى زائير أو امتصته «يونيتا»، كما فر زعيمها روبيرتو الذي لم يعد إلى أنغولا إلا في 1991. مذاك ولثلاث سنوات متوالية استمرت المناوشات الحدودية مع جنوب إفريقيا وزائير، فيما استمر الحضور الروسي، وخصوصاً الكوبي، في التعاظم، كما تبنت «الحركة» الماركسية – اللينينية كإيديولوجيا رسمية للدولة والنظام.
ولم ينجح العهد الجديد في تأسيس شرعية دستورية يُركَن إليها، شأنه في ذلك شأن بقية الأنظمة التي تنبثق من العنف وتتبنى إيديولوجيات خلاصية. ففي 1977 حصلت محاولة انقلابية كادت تنجح وقف وراءها وزير الداخلية نِتو ألفيس الذي ذهب أبعد من رفاقه في تلبية الرغبات السوفياتية والسماح بإنشاء قواعد عسكرية لموسكو. وما إن قضي على تلك المحاولة بكلفة دموية وحزبية باهظة، حتى ظهرت حركة «سوفياتية» أخرى قادها، هذه المرة، رئيس الحكومة لوبو دو ناشيمانتو التي أخفقت بدورها.
تورط كوبي
وفي 1979 توفي الرئيس نِتو، فحل محله في رئاسة الدولة جوزيه إدوادو دوس سانتوس. لكن الحرب الأهلية عادت إلى احتدامها أواخر الثمانينيات، فتدخلت زائير وجنوب إفريقيا لدعم «يونيتا»، وتجدد التدخل الكوبي دعماً للحكومة بحيث بلغ عدد الكوبيين، في 1988، 50 ألفاً. وفيما امتدح كثيرون «الدور الأممي النبيلـ« لكوبا في «دعم ثورة الشعب الأنغولي»، تولى الكوبيون الأمن الداخلي الأنغولي كما قدموا للأنغوليين خدمات طبية وتعليمية جدية وضرورية يحتاجها بلد لا يملك شيئاً تقريباً. لكن دورهم، الذي ظل دوراً سوفياتياً بالنيابة، شرع يتحول إلى أزمة كوبية داخلية. فقد تردد تشبيه أنغولا بالنسبة إلى كوبا بما كانته فيتنام بالنسبة إلى الولايات المتحدة لجهة تكاثر الشبان الكوبيين الرافضين الخدمة في أنغولا والفارين منها، خصوصاً أن أبناء أعضاء المكتب السياسي والقيادة الكوبيين لا يُرسَلون إلى «الأدغال الإفريقية»، حسب ما كان يردد المنشقون الكوبيون في الخارج. كذلك تزايدت التقارير التي تتحدث عن تحول الجنود الكوبيين العاملين هناك إلى مرتزقة، وفي مايو 1987 انشق الجنرال رافاييل ديلبينو، قائد القوة الجوية الكوبية في أنغولا، وهرب إلى الولايات المتحدة. وبينما تورط كوبيون في السوق السوداء، أُعدم، في هافانا، في 20 يوليو 1989 الجنرال الكوبي أرنالدو أوشوا سانشيز بتهم المتاجرة بالمخدرات والفساد وتبديد الموارد، فيما راجت تحليلات تقول إن سلطة فيديل كاسترو وشقيقه راؤول بدأت تتخوف من طموحاته.
القواعد الشعبية لحركات المقاومة
الدعم الذي حظيت به «الحركة الشعبية» تأتى عن الشعوب الناطقة بالـ«كومبوندو»، والتي تمثل ربع مجموع السكان ويتجمع أغلبها في منطقة بعينها من العاصمة لواندا. كذلك وجدت «الحركة» التأييد عند الـ«ميستيكوس»، المولاطيين أو الملونين بنتيجة الاختلاط العرقي، وعند كثيرين من بيض أنغولا، وقد ظل تعارض المولاطيين والبيض واحداً من تناقضات «الحركة»، قبل وصولها إلى السلطة وبعده، علماً بأن معظم قادتها وفدوا من المدن وكانوا متعلمين وجذريين سياسياً. في المقابل صدر أغلب الدعم الذي ظفرت به «الجبهة الوطنية» و«يونيتا» من فلاحين ريفيين وأهل قرى. فقوة «يونيتا» تركزت في هضاب الوسط العليا وفي مناطق السهول الجنوبية، لاسيما بين الشعوب الناطقة بالـ«أومبوندو» التي تشكل قرابة ثلث سكان أنغولا. ومن جهتها، تشكلت قاعدة «الجبهة الوطنية» من الجماعات الناطقة بالـ«كيكونغو» المقيمة في الشمال الغربي، والتي تقل نسبتها عن 20 في المئة من السكان. وعلى عكس «الحركة»، فإن «الجبهة» و«يونيتا» لم تضما إلا قلة قليلة من البيض والـ«ميستيكوس» والمثقفين وسائر المعنيين بالحركات السياسية والإيديولوجية الحديثة.
وقد انبثقت «الجبهة» من «اتحاد شعوب شمال أنغولا» الذي أنشأه هولدن روبيرتو وباروس ناكاكا في 1956. والتسمية لا تخفي الانتماء المناطقي الذي أريد رفعه إلى سوية قومية. وربما كان السعي إلى تفادي هذا التناقض، ولو شكلياً، ما حمل على تغيير الاسم إلى «اتحاد شعوب أنغولا». وفي 1961 شنت أولى عملياتها العسكرية، وهو ما سبق التأسيس الرسمي لـ«الجبهة» ببضعة أشهر.
justice

عضو
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962

هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
الحرب الأهلية الأنغولية استمرت ضعف سنوات التحرر والاستقلال وكانت أطول النزاعات وأشدها دموية
(الحلقة 17)
حازم صاغيّة
إفريقيا: المقاومة كنقيض للشرعية
تقدم أنغولا عينة باهرة على دور المقاومة في إدخال السكان الشأنَ العام من خلال السلاح وحده، وذلك فيما البلد المعني نفسه لم يسبق أن تشكل كبلد، ولا اكتسبت الوطنية أي معنى لها بصفتها هذه. وفي ظل عملية كتلك، يكون التسييس عبر السلاح أكبر منه وأسرع نمواً من الوعي والولاء الوطنيين. بل يجوز القول إن هذين الأخيرين لا يكفان عن التقلص والانكماش، معلنين عجزهما عن اللحاق بالتسييس العسكري والنضالي. والعاهة هذه لا تلبث أن تكتسب صفة الديمومة التي تتعاظم صعوبات علاجها، ومن ثم صعوبات تأسيس الدولة- الأمة وبناء الشرعية الدستورية التي تنظم اشتغالها.
لقد خضعت أنغولا لاستعمار شديد التخلف، هو استعمار البرتغال، ذاك البلد الطرفي في أوروبا الذي لم تلفحه رياح التطورات التي عصفت بسائر القارة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.
فالبرتغاليون وصلوا إلى البقعة التي تُعرف بأنغولا في 1483، ثم جعلوها مستعمرة لهم في 1576، وهو ما تمأسس وتمدد في 1886 كي يشمل البلد في حدوده الحالية.
لكن حرب الاستقلال، أو «حرب التحرير»، حسب التسمية الرسمية، تأخر اندلاعها حتى 1961، حين كانت المستعمرات البريطانية والفرنسية تنال استقلالها تباعاً. والحرب هذه استمرت 14 سنة، فانتهت في 1975، بُعيد إطاحة الديكتاتورية العسكرية لمارشيلو كايتانو، وريث أنطونيو سالازار. ذاك أن النظام الجديد في لشبونه قرر أن ينسحب من مستعمراته في النصف الجنوبي من إفريقيا وينهي صفحة الاستعمار.
وبلغة أخرى، فإن ما حدث في المتروبول، مع إنجاز خطوة تقدمية في حجم إزاحة الديكتاتورية العسكرية، هو الذي وفر عبور أنغولا من الاستعمار إلى الاستقلال. بيد أن حركات المقاومة اكتفت بإرساء أسباب النزاع الأهلي الذي غدا نزاعاً على السلطة مدمراً ومكلفاً ومديداً، فيما رهنت تقدم البلد، إن لم يكن قيامه نفسه، بالاستراتيجيات والمصالح الإقليمية والدولية الكبرى.
لعبة النفوذ
في مقابل الـ14 سنة من «حرب التحرير»، استمرت الحرب الأهلية 27 سنة، أي حوالى ضعفها، ما بين 1975 و2002، فكانت، بهذا، أحد أطول النزاعات التي حفت بالحرب الباردة وأحد أشدها دموية. فقد قُتل خلالها نصف مليون أنغولي وهُجر بفعلها 3.4 ملايين إنسان هم ثلث مجموع السكان. وقد خلفت الحرب تلك ما بين 10 و20 مليون لغم أرضي لم يُنزع معظمها. وفي وقت يرقى إلى 2003، قدرت الأمم المتحدة أن 80 في المئة من سكان ذاك البلد الغني بالنفط والماس، يفتقرون إلى كل عناية طبية، وأن 60 في المئة محرومون من مياه الشفة، فيما 30 في المئة من الأطفال يموتون قبل بلوغهم الخامسة، ولا يزيد معدل سنوات العمر المتوقعة عن 40 سنة.
لقد استكمل جون أ. ماركوم في المجلد الثاني من كتابه «الثورة الأنغولية»، وفي ظل عنوان فرعي يقول: «سياسيو المنفى وحرب العصابات (1962-1976)»، ما ابتدأه حين أصدر المجلد الأول ذا العنوان الفرعي «تشريح انفجار (1950-1962)». وفي هذا المجلد الثاني استعاد المؤلف نقص الاهتمام الذي حظيت به أنغولا من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى أن حلت أزمة أواسط السبعينيات. ذاك أن النزاع الأهلي الذي نشب في أكبر المستعمرات البرتغالية وأغناها وأهمها، ما لبث أن شكل مصدراً بارزاً من مصادر تردي «الوفاق» بين جباري عهدذاك. وقد تعاقب الرسميون الأميركيون الذين أعلنوا أن أنغولا ستكون أرض الامتحان لإرادة واشنطن في ما يخص التصدي للنفوذين السوفياتي والكوبي في القارة السوداء. لكنْ بينما كانت الولايات المتحدة تأخذ على خصميها دعم أحد أطراف الحرب الأهلية، أي «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا» (أم بي إل إي)، كانت هي نفسها، ولا سيما عبر حلفائها، تدعم الطرفين الآخرين «الجبهة الوطنية لتحرير أنغولا» (إف إن إل أي) و«يونيتا» التي تلخص تسمية «الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا الكاملـ». فهاتان الأخيرتان تناوب على تقديم العون لهما كل من الصين ورومانيا وكوريا الشمالية وفرنسا وألمانيا الغربية وإسرائيل والسنغال وأوغندا وزائير وزامبيا وتنزانيا وجنوب إفريقيا، فضلاً عن الولايات المتحدة.
واللوحة هذه كافية للتدليل على الطبيعة غير الإيديولوجية، وغير المبدئية، التي وسمت الإحاطة الخارجية بالحرب الأنغولية. فالبلدان الثلاثة الأولى، الصين ورومانيا وكوريا الشمالية، وهي شيوعية النظام، كانت مخاوفها من الاتحاد السوفياتي، أو تنافسها معه، تدفعها إلى الاصطفاف قريباً من الولايات المتحدة وألمانيا الغربية وإسرائيل وجنوب إفريقيا. وهذا للقول إن الصراع الأهلي الأنغولي بدا فرصة لجميع تلك البلدان كي تستخدم البلد التعيس ساحةً في لعبة النفوذ الإقليمي والدولي. والشيء نفسه يصح في الاتحاد السوفياتي الذي يبدو لوهلة أنه كان منسجماً مع مبادئه، بدعمه «الحركة الشعبية» التي درج بعض قادتها على القول بالماركسية – اللينينية. لكن ماركوم يبين أن موسكو، وتماماً بُعيد الانقلاب البرتغالي، بنت جسوراً لها مع دانيال شيبندا، المنافس «اليميني» على قيادة «الحركة الشعبية»، والذي ما لبث أن انضم لاحقاً إلى «الجبهة الوطنية» وتعاون، إلى أبعد حدود التعاون، مع جنوب إفريقيا. وهذا فضلاً عن أن سافيمبي قائد «يونيتا»، كان يقول، هو الآخر، بماركسية- لينينية اعتنقها في الصين قبل ظهور الخلاف الصيني- السوفياتي.
على أي حال، فحركات المقاومة المذكورة كانت تنقسم، في وقت واحد، على خطوط ثقافية وعرقية ومناطقية وطبقية وإيديولوجية، كما تشقها المنافسات الشخصية لقادتها وبُناها التنظيمية وتحالفاتها الخارجية.
انشقاق سافيمبي
وبدورها، تأسست «الحركة» في 1956، أي نفس العام الذي شهد تأسيس «اتحاد الشعوب...»، وكان قائدها المثقف القومي – اليساري، والمولاطي، أوغستينو نِتو، كما عُد الحزب الشيوعي الأنغولي أحد المكونات الكثيرة التي انصهرت فيها. ومن ناحيته خرج جوناس سافيمبي، زعيم «يونيتا» اللاحق، من عباءة «اتحاد شعوب أنغولا»، وقد عينه روبيرتو أميناً عاماً لـ«الاتحاد»، ثم وزيراً لخارجية الحكومة الثورية في المنفى التي أعلنتها «الجبهة» بُعيد تأسيسها في 1962. لكن سافيمبي انشق في 1964 وأسس «يونيتا»، آخذاً على «الجبهة» مناطقيتها ويمينيتها القومية.
على أن «الجبهة» كانت، في 1974، تملك من القوات العسكرية ما يزيد عن مجموع ما تملكه «الحركة» و«يونيتا» معاً. كذلك كان في عهدة زعيمها هولدن روبيرتو، الموصوف بعلاقات وثيقة ومبكرة مع واشنطن ومع زائير، أموال أكثر وأسلحة أوفر عدداً وتعقيداً مما في عهدتيهما. وفي مطالع 1975، وحسب ما ينقل جون ستوكويل في «بحثاً عن أعداء: قصة عن سي أي آي»، عن مصادر عسكرية برتغالية، ضمت «الجبهة» 24500 جندي (في عدادهم ثلاثة آلاف من أنصار شيبندا غادروا «الحركة» معه)، فيما بلغ عدد مقاتلي «الحركة» 5500 عنصر و«يونيتا» 3000 عنصر. بيد أن «الجبهة» ما لبثت أن تبدت، وكما سوف نرى لاحقاً، أشبه بنمر من ورق. والنتيجة هذه، التي لم تشبه الواقع على الأرض وتوازناته، جاءت حصيلة عاملين، أحدهما العامل الخارجي، حيث انخرط الكوبيون بقوة وأعداد ملحوظة في القتال المباشر بينما انسحبت قوات جنوب إفريقيا من الداخل الأنغولي بضغط أميركي، والآخر يتعلق بالبراعة والذكاء السياسيين إذ استولت «الحركة» على معظم المدن، ما جعلها تحظى باعتراف منظمة الوحدة الإفريقية والأمم المتحدة.
تحالفات هشة
لقد بادرت الحكومة البرتغالية الجديدة، في 15 يناير 1975، إلى عقد ما عُرف بـ«اتفاقية ألفور» مع الحركات الثلاث، سعياً منها لتأمين انتقال سلمي وهادىء. وبعد خمسة عشر يوماً شُكلت، بموجب الاتفاقية تلك، حكومة ضمت الحركات الثلاث معاً. غير أن اندلاع القتال ما لبث أن ألغى الحكومة عملياً.
فقد أعلنت «الحركة» الاستقلالَ في 11 نوفمبر، بعد مغادرة الجنود البرتغاليين العاصمة لوندا، وهو ما استدعى مغادرة مئات آلاف البرتغاليين المدنيين يائسين ومحبطين. وفي الوقت ذاته تقريباً بادرت «الجبهة» و«يونيتا» إلى إعلان حكومة استقلالية، إذ أمام تحدي «الحركة» أقامتا تحالفاً لم يُثبت متانته، كما أسستا «جمهورية أنغولا الديموقراطية». كذلك فعلت «الحركة الشعبية لاستقلال كابيندا»، الداعية إلى فصل إقليمها في الشمال الغربي الغني بالنفط عن سائر البلد، إذ أعلنت استقلالها. وللتو اندلعت الحرب بين الجماعات- التنظيمات الأربع.
في بدايات تلك الحرب، التي أطلقت «الحركة» عليها تسمية «حرب التحرير الثانية»، سيطرت «الجبهة» على الشمال، و«يونيتا» على مناطق التقاطع بين الوسط والجنوب، فيما أحكمت «الحركة» قبضتها على المناطق الساحلية وعلى أقصى الجنوب الشرقي، قبل أن تتقدم إلى كابيندا فتُخضع حركتها الانفصالية.
وفي النهاية انتصرت «الحركة» بنتيجة معونات عسكرية روسية قُدرت قيمتها يومذاك بما بين 300 و400 مليون دولار، وبموت عشرات آلاف الأنغوليين. وفي موازاة هذا التقدم، وعلى ما يذكر ستوكويل، ارتفع عدد المستشارين والجنود الكوبيين إلى 20 ألفاً، فولد العهد الاستقلالي الجديد مكبلاً بديون ضخمة للحليفين، لا سيما للاتحاد السوفياتي.
الأدغال الإفريقية
وفي 1976 هاجمت «الجبهة» لوندا من الشمال، في معركة «طريق الموت»، فتولى الكوبيون إنزال هزيمة ماحقة بها، بعدها لم تقم قائمة لـ«الجبهة»: فقد هرب مَن بقي من مقاتليها إلى زائير أو امتصته «يونيتا»، كما فر زعيمها روبيرتو الذي لم يعد إلى أنغولا إلا في 1991. مذاك ولثلاث سنوات متوالية استمرت المناوشات الحدودية مع جنوب إفريقيا وزائير، فيما استمر الحضور الروسي، وخصوصاً الكوبي، في التعاظم، كما تبنت «الحركة» الماركسية – اللينينية كإيديولوجيا رسمية للدولة والنظام.
ولم ينجح العهد الجديد في تأسيس شرعية دستورية يُركَن إليها، شأنه في ذلك شأن بقية الأنظمة التي تنبثق من العنف وتتبنى إيديولوجيات خلاصية. ففي 1977 حصلت محاولة انقلابية كادت تنجح وقف وراءها وزير الداخلية نِتو ألفيس الذي ذهب أبعد من رفاقه في تلبية الرغبات السوفياتية والسماح بإنشاء قواعد عسكرية لموسكو. وما إن قضي على تلك المحاولة بكلفة دموية وحزبية باهظة، حتى ظهرت حركة «سوفياتية» أخرى قادها، هذه المرة، رئيس الحكومة لوبو دو ناشيمانتو التي أخفقت بدورها.
تورط كوبي
وفي 1979 توفي الرئيس نِتو، فحل محله في رئاسة الدولة جوزيه إدوادو دوس سانتوس. لكن الحرب الأهلية عادت إلى احتدامها أواخر الثمانينيات، فتدخلت زائير وجنوب إفريقيا لدعم «يونيتا»، وتجدد التدخل الكوبي دعماً للحكومة بحيث بلغ عدد الكوبيين، في 1988، 50 ألفاً. وفيما امتدح كثيرون «الدور الأممي النبيلـ« لكوبا في «دعم ثورة الشعب الأنغولي»، تولى الكوبيون الأمن الداخلي الأنغولي كما قدموا للأنغوليين خدمات طبية وتعليمية جدية وضرورية يحتاجها بلد لا يملك شيئاً تقريباً. لكن دورهم، الذي ظل دوراً سوفياتياً بالنيابة، شرع يتحول إلى أزمة كوبية داخلية. فقد تردد تشبيه أنغولا بالنسبة إلى كوبا بما كانته فيتنام بالنسبة إلى الولايات المتحدة لجهة تكاثر الشبان الكوبيين الرافضين الخدمة في أنغولا والفارين منها، خصوصاً أن أبناء أعضاء المكتب السياسي والقيادة الكوبيين لا يُرسَلون إلى «الأدغال الإفريقية»، حسب ما كان يردد المنشقون الكوبيون في الخارج. كذلك تزايدت التقارير التي تتحدث عن تحول الجنود الكوبيين العاملين هناك إلى مرتزقة، وفي مايو 1987 انشق الجنرال رافاييل ديلبينو، قائد القوة الجوية الكوبية في أنغولا، وهرب إلى الولايات المتحدة. وبينما تورط كوبيون في السوق السوداء، أُعدم، في هافانا، في 20 يوليو 1989 الجنرال الكوبي أرنالدو أوشوا سانشيز بتهم المتاجرة بالمخدرات والفساد وتبديد الموارد، فيما راجت تحليلات تقول إن سلطة فيديل كاسترو وشقيقه راؤول بدأت تتخوف من طموحاته.
القواعد الشعبية لحركات المقاومة
الدعم الذي حظيت به «الحركة الشعبية» تأتى عن الشعوب الناطقة بالـ«كومبوندو»، والتي تمثل ربع مجموع السكان ويتجمع أغلبها في منطقة بعينها من العاصمة لواندا. كذلك وجدت «الحركة» التأييد عند الـ«ميستيكوس»، المولاطيين أو الملونين بنتيجة الاختلاط العرقي، وعند كثيرين من بيض أنغولا، وقد ظل تعارض المولاطيين والبيض واحداً من تناقضات «الحركة»، قبل وصولها إلى السلطة وبعده، علماً بأن معظم قادتها وفدوا من المدن وكانوا متعلمين وجذريين سياسياً. في المقابل صدر أغلب الدعم الذي ظفرت به «الجبهة الوطنية» و«يونيتا» من فلاحين ريفيين وأهل قرى. فقوة «يونيتا» تركزت في هضاب الوسط العليا وفي مناطق السهول الجنوبية، لاسيما بين الشعوب الناطقة بالـ«أومبوندو» التي تشكل قرابة ثلث سكان أنغولا. ومن جهتها، تشكلت قاعدة «الجبهة الوطنية» من الجماعات الناطقة بالـ«كيكونغو» المقيمة في الشمال الغربي، والتي تقل نسبتها عن 20 في المئة من السكان. وعلى عكس «الحركة»، فإن «الجبهة» و«يونيتا» لم تضما إلا قلة قليلة من البيض والـ«ميستيكوس» والمثقفين وسائر المعنيين بالحركات السياسية والإيديولوجية الحديثة.
وقد انبثقت «الجبهة» من «اتحاد شعوب شمال أنغولا» الذي أنشأه هولدن روبيرتو وباروس ناكاكا في 1956. والتسمية لا تخفي الانتماء المناطقي الذي أريد رفعه إلى سوية قومية. وربما كان السعي إلى تفادي هذا التناقض، ولو شكلياً، ما حمل على تغيير الاسم إلى «اتحاد شعوب أنغولا». وفي 1961 شنت أولى عملياتها العسكرية، وهو ما سبق التأسيس الرسمي لـ«الجبهة» ببضعة أشهر.