هجاء السلاح _ المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة _ حازم صاغيّة
حازم صاغيّة
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
المقاومات الظافرة تضعنا أمام احتمالين أحلاهما مُرّ: إما حكم استبدادي وإما حرب أهلية
(الحلقة 1)
حازم صاغيّة
أن يصحبك الكاتب اللبناني حازم صاغية في جولة داخل دهاليز 'المقاومات'، فهو أمر بالغ المشقة والعناء، لأنه لن يقتصر على الحيرة التي قد تتملكك، لما لتلك اللفظة من جدليات والتباسات، بدءاً من تعريفها مروراً بكنهها وهويتها، ووصولاً إلى أبعادها وتكتيكاتها ومآلاتها، بل إن الأمر سينسحب كذلك على الجهد الذهني والفكري لمتابعة الجولات السريعة والمتلاحقة للكاتب، الذي عمل جاهدا على صفحات كتابه الجديد للانتقال بك بغتةً شرقاً وغرباً ليجوب بك بقاعاً لم تطأها جغرافياً ولا فكرياً. أما تاريخياً، فهو لن يقصِّر في أن يجعلك ترتاد الماضي وهو يشير إلى المستقبل، ليقطع بك أشواطاً وقرونا طويلة نزولاً إلى القرن الرابع عشر والمستعمرات القديمة والكشوفات والفتوحات، وصولا إلى مقاومات القرن العشرين وحروبه الأهلية وما اعتراها من تحولات، بل انقلابات غيّرت مفاهيمها وبدلت أهدافها وأطرافها، تاركاً لك الخيال لتصورات مشهد اليوم ومآلاته المستقبلية.
ففي مقدمة كتابه الجديد، تقرأ بين السطور أسباباً دفعته إلى التصدي لمثل هذه القضية، ليدرك القارئ أن الكتاب ليس وليد 'عبارة عابرة' لفتت انتباهه على شبكة الإنترنت لتصير أفكاراً في السياسة والثقافة السياسية، كما في كتاب 'نانسي ليست كارل ماركس'، بل هو كتاب له جذور بعيدة وممتدة تلتصق بسنيّ عمره وتجاربه ومعايشته لواقع محلي وعربي وإقليمي، يحاول من خلاله أن يدلي بما هو جديد في 'سوق الأفكار' العربي الذي يراه 'مضروبا' حيناً، أو بحاجة ماسة إلى كثير من الأحجار لتحريك مياهه الراكدة، في حين آخر.
ويلقي حازم صاغية حجراً ثقيلاً قد يثير كثيراً من الجدالات والمعارك التي ألفها واعتاد خوضها منذ امتهانه النقد والكتابة، فهو بتصديه لقضية المقاومات وأنماطها وتحولاتها يدخل نفسه في معركة جدلية واسعة يعلم أبعادها، حين يؤكد في مقدمة الكتاب قائلاً: 'أنا لم أنقطع، على مدى سنوات، عن تتبع ما يتعلق بالمقاومات في تاريخها وفعلها والآثار التي خلفتها، وضداً على الرواية تلك (المقاومة الفلسطينية في السبعينيات)، لم أجد من تلك التجارب إلا ما يقنع بأن المقاومات حروب أهلية مموّهة أو مقنّعة'.
وعلى مدى فصول كتاب 'هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهلية مقنعة' الذي سيصدر بعد أشهر وتنشره 'الجريدة' حصرياً على حلقات، يجوب بنا صاغية طرقات ودروب التاريخ والجغرافيا، مقتفيا آثار المقاومات بأشكالها وصنوفها وجذورها، مستعرضاً تلك الصنعة الفرنسية التي صاغت مفهوم المقاومة في القرن الثامن عشر، والمقاومات الجزائرية، منتقلاً إلى إيرلندا واليونان وجنوب شرق آسيا، وتحديداً في فيتنام بعد انسحاب القوات الأميركية عام 1975، ومن إفريقيا ينتقي الكاتب أنغولا ليختتم طوافه حول قضية المقاومة وأشكالها وصورها وأطرافها ومفهومها الذي قد يعتريه التبدل والتحول مع مرور الزمن لتصبح 'تسييس السكان بقوة السلاح'... ليتوقف الكتاب فجأة عند العتبة الإفريقية، وكأنه يلمح إلى أنه قد يكون للحديث عن المقاومات وشجونها بقية، وأنه بعدما أطلق المباح فإنه مازال في جعبته ما ينتظر البوح.
استيلاد المستقبل
«الحرب سيّئة من حيث أنها تخلق من الأشرار أكثر مما تزيل».
(عمانوئيل كانط)
«ارمِ بندقيتك. إكرهْ هذه الآلة الدمويّة، كما في لبنان والقدس كذلك في شوارع طهران».
(موشيني)
مقطع من قصيدة للشاعر الإيرانيّ ردّده المتظاهرون المعارضون في يوم الجمعة الأخير من رمضان، 2009، وقد أوردته صحيفة «لوموند» الفرنسية في 21 سبتمبر 2009.
ندر أن حظيت كلمة ما بالتقديس الذي حظيت به، وتحظى، كلمة «مقاومة». وهو ما يمكن ردّه إلى مصادر عدّة لا تختصرها جلافة السلوك الكولونياليّ وعنجهيّته المؤكّدتان. ذاك أن التقديس، وعلى ما يدلّ عديد التجارب، يعيش أطول كثيراً من الكولونياليّة وجلافتها، كما يتحوّل أساساً لشرعيّة ثوريّة تعمل، لتبرير نفسها واستمرارها، على استحضار الماضي الكولونيالي، رمزياً إن لم يكن فعليّاً، من خلال سياسات راديكاليّة وصدامية.
والحال ان بعض مصادر التقديس يتصل بضعف إنجازيّة الأنظمة التي تلدها المقاومات وبميلها، من ثمّ، إلى حرف الأنظار عنها في صورة متواصلة. إلا أنه يتصل، كذلك، وهو أهم وأبعد أثراً، بقيم سياسيّة حديثة وقديمة معاً، أولاها تزدهر في بيئة النُخب، كمثل رفض الاستعمار والاحتلال وحق تقرير المصير، والثانية موصولة بالرجولة والكرامة والشرف، مما تتشارك فيه الجمهرات العريضة والزعامات التقليديّة والمراتبيّة، المدينيّ منها والريفيّ.
وأغلب الظنّ أن تلاقي هاتين الفئتين من القيم عند «المقاومة» وفيها هو ما أعطاها معناها المتعالي، بقدر ما وسّع نطاق جاذبيّتها وشعبيّتها. هكذا غدا صاحب الوعي الديني وذو الوعي القومي، اليساري واليميني، التحديثي والمحافظ، كلٌّ بطريقته وبقاموسه وعدّته المفهوميين، مدافعاً عنها، متماهياً معها بوصفها إحدى الموضوعات الأساسيّة التي تنطوي عليها إيديولوجيّة شعبيّة جامعة.
وفي مناخ الدفاع والتماهي هذين، تترسّخ رواية بسيطة، سائدة وشائعة، مفادها التالي: هناك طرف مستعمِر، أو محتلّ، يتّحد الشعب، ردّاً عليه، في مقاومة تصهره وتذيب تناقضاته، فيما هي تستولد المستقبل المضيء. ولأن أحداً لا يبخّس صنيعه، أي في هذه الحال مقاومته، فإن رومنطيقيّة الرواية هذه لا يلبث أن يضاعفها تحوّل مقاوم الأمس إلى سلطة سياسيّة تبحث دوماً عن التوظيف والمردود النفعيّ. وهو ما أمسى، أقلّه منذ ماو تسي تونغ الذي «طوّر» حرب العصابات الوطنيّة لتصبح «حرباً ثوريّة» هدفها الاستيلاء على السلطة، من المعادلات الراسخة لسياسات المقاومات.
جنّات على الأرض
ودائماً هناك خرافات المثقّفين التي تزيد الأمور سوءاً. فهي، في علاقة كهذه، تقوم على تلخيصين يلتقيان عند رفع المقاومة إلى مصاف الحتميّة: فمن جهة، تُردّ عمليّات الاحتكاك الانسانيّ، من غير تمييز، إلى مجرّد قهر يُنزله القويّ بالضعيف، و»الجلاد» بـ«الضحية»، و»الإمبريالي» بـ«المقهور»، بما في ذلك من عنف رمزي ومن تمثيل له. وإذا كانت قسوة كهذه قائمة حقاً، مُتضمنة في الفعل الاستعماري ذاته، فما لا يجوز هو أن تُنزع عن العلاقة أبعادها الأكثر تعقيداً، وأن يُزال التاريخ وحقبه عبر تلخيصها في مرحلة واحدة من العنف لا يُرد عليها إلا بالعنف، مرحلةٍ يُصوّر الزمن المحلي السابق عليها جنةً على الأرض. ومن جهة أخرى، وبذريعة رفض الجوهرانية، يُرفض البحث في التاريخ وفي اللغة والدين والقيم، إذ إننا محكومون فحسب بجانب أوحد من تلك العلاقة التي ابتدأت بالكولونيالية وتوقفت عندها، على رغم انقضاء عقود على نزع الكولونيالية. إذ لما كانت الأخيرة ولادة السيئات جميعاً، بدا العنف العلاج الأوحد لشر شامل وجامع كهذا، شرٍّ لا يواكبه في مسيرته تلك إلا إعفاء المثقفين المناهضين للاستعمار أنفسهم من مراجعة التاريخ واللغة والدين والقيم، وصولاً إلى قبولها جميعاً، ومن بعد القبولِ الرضوخُ لها.
ثم هناك الظرف الزمنيّ الذي سجّل تحوّل المقاومة إلى أيقونة في مناخ ما بعد الحرب العالميّة الثانية وصعود «العالم الثالث»: ففي الخمسينيات والستينيات، ومع تداخل استقلال بعض الدول مع صراع دول أخرى لنيل الاستقلال، حصل انعطاف، في التركيز والأولويات، لدى النخب السياسية المستعجلة إلى السلطة. فقد مالت هذه عن النهج التدرجي الذي كنا رأيناه في قادة كبورقيبة التونسي أو سنغور السنغالي، إلى الثورات والانقلابات وأعمال التحرير العنفي. وهو ما سهلته، فضلاً عن صلف السلوك الكولونياليّ بطبيعة الحال، الحرب الباردة والتوسع الذي أحرزته البورجوازيّة الصغرى المدينيّة واقتصادها البضاعي الصغير قبل أن تمتلك تقاليد سياسية ودستورية. لكن الوجهة هذه، على عمومها، بدت وثيقة الصلة بحداثة وفد إلى «العالم الثالث» شقّها التقنيّ والأداتي بينما استُبعدت روحها الإنسانية ومضمونها الدستوري والقانوني. وفي هذا، بدا العنف كأنه صاحب اليد الطولى في صنع الحياة العامة وفي تكييفها.
وربما كان فرانس فانون أكبر أنبياء المقاومة بوصفها حتمية ووصفة إطلاقية شاملة يصير معها الفعل العنفي هو ذاته هدف ذاته.
نظريات الرجولة والكرامة
صحيح أن لقاءً حول «المقاومة» جمع المنظومتين القيميتين اللتين نتشكل جميعاً منهما، على تفاوت في النسب والمقادير: تلك الحديثة في تمجيدها حق تقرير المصير، والتي ازدهرت في زمن حركات التحرر الوطني والتحالف مع الاتحاد السوفييتي والتأثر بلغته، وتلك القديمة المتعلقة بشرف المرء وكرامته، بل رجولته نفسها. لكنْ لئن احتلت هذه المفاهيم الأخيرة موقعاً متضخّماً في الثقافات التقليدية، فإن مفعول الثقافة الحديثة يبقى أصعب على التعقّل البسيط، تماماً كما تبقى مسؤوليّة الابتذال الحداثيّ عن نشر العنف أكبر من مسؤوليّة القدامة والتقليد: فنحن، في «العالم الثالث»، إنما دخلنا إلى السياسة من بوّابة الصراع مع الاستعمار، من دون أن نتعرض للمهام الأوروبية الأخرى التي ترافقت مع ولادة السياسة في معناها الحديث، أي التنوير والإصلاح الديني والثورتين العلمية والصناعية والصراعات الطبقية والجندرية والتنظيمات الاجتماعية. أما الرقعة الصغيرة التي أنشأها الاحتكاك بالغرب، وتجلت في البرلمانات والأحزاب، كما في الإدارات والجامعات وبضع قيم وممارسات عامة، فظلت صغيرة فعلاً بما يكفي لتسهيل تعريتها أو تهميشها، ومن ثم التخلص منها. وفي السياق هذا، بدا الحداثي لدينا، منزوعةً منه سائر أبعاده الأخرى، مؤهلاً تمام التأهيل لأن يلبي ذاك اللقاء مع القديم في منتصف الطريق. هكذا لم يعد الترادُف الكامل بين مقاومة الاستعمار والكرامة والشرف، أو بين حق تقرير المصير والرجولة والمروءة، بالعملية الصعبة. غير أن نظريات تقرير المصير ومقاومة الاستعمار هي التي زمّنت وحدّثت، وبمعنى ما بررت، «نظريات» الرجولة والكرامة. وهو ما أفضى في البيئة العربية والإسلامية، حيث الإفتقار إلى نظرية للشرعية السياسية ما خلا مفهوم «الجهاد»، إلى المبالغة في تعظيم المقاومة التي لا تُعدم، أقلّه في البيئة المذكورة، صلة ما بالجهاد. وتعظيمٌ كهذا هو أيضاً ما تحض عليه ضخامة التفتت الاجتماعي وضعف التقليد السياسي والدستوري في ربوعنا، بحيث يُناط بالمقاومة أن تُحل الوحدة والاستمراريّة حيث لا وحدة ولا استمرارية.
الغريزة الجماعية
لكنْ كائناً ما كان الأمر يحضر، في ما خص المقاومات، عدد من الاستنتاجات التي نراها تتكرر في الأغلبية الساحقة منها المعروفة في القرن العشرين، من الفرنسية إلى الفيتنامية ومن الجزائرية إلى اليونانية أو اليوغوسلافيّة وصولاً إلى الفلسطينية واللبنانية والعراقية حيث يصل التفسخ والعفن إلى أعلى مراحله.
فالتصدي للغريب، أو المحتل أو الغازي، يترافق حكماً مع انهيار يضرب النصاب السلمي جاعلاً حمل السلاح سلوكاً مشروعاً، بل ممجداً، تحفزه منظومتا الوعي، الرجولية منهما والتحرريّة. وعند لحظة كهذه، يستقل العنف والغريزة الجماعية بفعلهما فيما يتعزز الشعور بـ«هويّة» ما في مواجهة هوية الغازي. وكلما كان الطرف المقاوِم أقل بلوغاً لسوية الدولة- الأمة والوعي الذي يلازمها، نحت الهوية إلى أن تكون هوية جماعة بعينها هي تلك المبادرة إلى حمل السلاح، تماماً كما نحا السلاح إلى أن يكون أداة تنبيه إلى تمايز الهويات داخل البلد الواحد، ومن ثم أداة احتراب أهلي. ولما كانت الدول التي شهدت مقاومات لم يتعرض معظمها للإعداد الكافي الذي يحولها دولاً - أمماً، نظراً إلى دخولها السياسة من بوابة العنف، على ما سبقت الإشارة، غدا احتمال الاحتراب الداخلي دائماً أعلى فأعلى. وبالنتيجة، وفي حال بلوغ السلطة، يتحول الأثر الأهم للعمل المقاوم إبدال نخبة متعاونة مع الكولونياليّة بنخبة متضرّرة منها، لا تتميّز في سلوكها، وفي إعدادها للمستقبل، إلاّ بالصفة هذه.
والمقاومة، تعريفاً، توسّع اشتغال المعادلات هذه وتكرسها. فهي، بحكم طبيعتها، إذ تسيس الناس تسييساً مسلّحاً، لا مؤسّسيّاً يمتص النزاعات، ولا بالأفكار، تكون تطلق كوامن النفس الجماعية وتعارضاتها. وفي لحظة التسييس القصوى، كبديل من السياسة وفي ظل انعدامها، تتظهّر الخصائص المعطاة الأولى، الأهلية والخام، ضداً على الروابط الوطنية الجامعة والمصنوعة التي تتطلب سياسةً وزمناً من الاستقرار كيما تُصنع وتُرسخ.
ثم إن التعويل على المقاومة بوصفها شرعيةً لحياة مستقبلية تأسيسٌ للاستبداد بحق جزء من الشعب لم ير رأي الطرف المقاوم، أو انكفأ عنها، لهذا السبب أو ذاك. إلا أن التعويل هذا لا يلبث أن يتعاظم كلما كانت الشرعية الأصلية أضعف والتقاليد السياسية أشد وهناً. وهو ما يكفل رهن السجال والتناحر السياسيين بالعنف، إلى أمد غير منظور. فمادام هذا الأخير شرط الاستقلال الشارط فلماذا لا يكون شرط «تصحيحه» كلما عن لمعترض أو متضرر أن «يصحح»؟
خيارات مموهة
والراهن أن مشكلة الشرعية مع المقاومة أن الأولى مفهوم مدني يتصل بالإرادة الشعبية كما تعبر عن نفسها في زمن سلمي تعريفاً، فضلاً عن اتصالها الوثيق بسلطة معينة تبلورها وتجلوها في دولة ما. ولأن هذا كلّه مما ينتفي وجوده في حالات الغزو والاحتلال والمقاومة، يعطّل العنف تلك العناصر بوصفها معايير يُحتكَم إليها ليحل محلها الخيار الإيديولوجي، أو الأهلي المموه إيديولوجياً، الذي يستقي شرعيته من تقديره لما هو صواب وما هو خطأ، وما هو «معنا» وما هو «ضدّنا». وقد يكون التقدير هذا صائباً أو لا يكون، غير أنه يندرج في خانة تغاير الخانة التي تندرج فيها الشرعية ومسائلها. وهو جميعاً ما يجعل من العبث الوصول لاحقاً إلى تأسيس صلب لشرعية دستورية، بل غالباً ما تترافق الاستحالة هذه مع تصفيات دموية موسعة تحل ببعض أطراف السلطة الناهضة على «شرعية» المقاومة والهابطة بالسياسة من درك إلى درك أوطأ.
فـ«الشرعيّة» تلك، وقد عبدت طريقها بالدم، تطلب لحامليها، بعد إحرازهم الانتصار، حداً أقصى من التعويض، هو غالباً مما يضاد الطبيعة ولا تقوى تركيبة البلد المعني وتركيبة أهله على منحهم إياه. وهذا ما تنم عنه فولكلوريات المقاومات ورمزياتها: فالمقاوم لا يقتصد في طلب التمجيد، إذ إنه ليس جندياً مجهولاً يكتفي بالتكريم الرمزي، بل المقاومون هم الذين لا يفعل سقوطهم شهداء إلا إشهارهم وجعلهم ذوي ملصقات تجتاح الفضاء العام وتحتله، فيما تقف فوقهم قيادة تشدهم إليها تراتبية غاشمة، طامحة إلى حكم البلد بأسره. وهذه، بطبيعة الحال، ليست كمثل قيادات الجيوش في البلدان الديمقراطية التي يقتصر دورها على تنفيذ أوامر السياسيين المنتخبين.
«حروب العصابات»... الجد الأعلى للمقاومة
ثم إن تركيبة المقاومة بأجمعها تكابد وتجهد للحفاظ على قيد الحياة، فلا تتعرض للحل والتسريح إلا متى أصبحت هي نفسها السلطة، كما لا تتوقف مرةً عن تعميم تضحياتها وتحويلها مادة للمقايضة الضمنية مع المجتمع. هكذا تُنتزع من الأخير حريته وسلطته ويُستَولى على إدارة شؤونه. يضاعف الاحتمال هذا أن المقاومين أكثر تعطشاً إلى السلطة بسبب صدورهم عن بيئات مَقصية تاريخياً عنها، أنُظر إليها كنفوذ سياسي أو كمكانة معنوية أو كمصالح وامتيازات اقتصادية تنجر عن ذينك النفوذ والمكانة. وأمام إلحاح متعدد المصادر كهذا، تضعنا المقاومات الظافرة أمام احتمالين أحلاهما مُرّ: إما أن تحكم وينشأ الاستبداد، وإما ألا تحكم وتندلع الحرب الأهليّة. وغني عن القول إن الذين يخرجون في مجتمعاتنا المفتتة والضعيفة الإجماعات عن المقاومة أو عليها، والذين قد يؤسسون مقاومة لمقاومتها، قد لا يكونون مجرد أقلية مجهرية من «العملاء»، بل ربما مثلوا، في حالات عدة، أكثرية الشعب و»الجماهير».
وهذا، والحق يقال، من العناصر التي تحكم المقاومات، القديم منها والجديد. فمنذ الحرب الإسبانية ضد نابوليون، مطالع القرن التاسع عشر، وهي التي ابتكرت شكل الحرب الشعبية وسكّت تعبير «حرب العصابات»، كما اعتُبرت الجد الأعلى للمقاومات اللاحقة، ظهرت هذه العناصر في صورة لا يعوزها الوضوح.
«نضج الظروف» واستلاب السلطة
كذلك فالعنصر الإيديولوجي والفكري يكاد يكون معدوماً في العمل المقاوم. وقد كان الفرنسي ريجيس دوبريه، في كتابه الشهير «الثورة في الثورة» حيث طور نظريته عن «البؤرة» الثورية، أحد أهم المعبرين عن التحول الذي بات معه الاستيلاء على السلطة، لا الأفكار والبرامج، معيار المعايير، كما لم يعد معه السياسيون الإصلاحيون وحدهم مرفوضين ومُدانين، بل غدت الأحزاب الشيوعية التقليدية مُدانة أيضاً. فما دام أن فيديل كاسترو استطاع، على رأس مئات قليلة من مقاتلي حرب العصابات، أن يطيح النظام القائم، وذلك في جزيرة صغيرة لا تبعد أكثر من 90 ميلاً عن الولايات المتّحدة، فلماذا لم تنجح الأحزاب الشيوعية في تشيلي والأرجنتين والبرازيل، وهي بلدان كبيرة وبعيدة عن واشنطن، في ذلك؟، وما هذا العجز الشيوعي غير تعبير عن اللحظة السياسية التي انطوت عليها تلك الأحزاب؟. فهي غدت، حسب نقد دوبريه، تبشر بالإصلاحات من داخل أنظمة أميركا اللاتينية الكلاسيكية في أوليغارشيتها، بحجة عدم نضج «الظروف الموضوعية» للاستيلاء على السلطة. وهذا عكس ما فعلته الثورة الكوبية التي جعلت السياسة والأفكار تنجم عن الممارسة والحركة. ذاك أن وحدة الشيوعيين والقوميين عند كاسترو، كما يؤوله دوبريه بما لا يخلو من رومنطيقية، إنما تنشأ عن نشاط حرب العصابات بذاتها. فالقائد الكوبي، خلال سنتين من القتال، لم يعقد أي لقاء سياسي، إذ «الشكل الأهم للدعاية، في ظل الظروف الحاضرة، هو العمل العسكري الناجح». والمدهش أن تلك الأفكار المناهضة للأفكار جاءت بعد قرابة عقدين على ضمور الفاشية التي كانت شددت، بطريقتها، على أولوية العمل والممارسة على الأفكار والنظريات.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
مفارقة اللبنانيين... يبلغون ذروة الإنشطار والتفتُّت وهم يعلنون إجماعهم اللفظي حول المقاومة
(الحلقة 2)
حازم صاغيّة
أن يصحبك الكاتب اللبناني حازم صاغية في جولة داخل دهاليز 'المقاومات'، فهو أمر بالغ المشقة والعناء، لأنه لن يقتصر على الحيرة التي قد تتملكك، لما لتلك اللفظة من جدليات والتباسات، بدءاً من تعريفها مروراً بكنهها وهويتها، ووصولاً إلى أبعادها وتكتيكاتها ومآلاتها، بل إن الأمر سينسحب كذلك على الجهد الذهني والفكري لمتابعة الجولات السريعة والمتلاحقة للكاتب، الذي عمل جاهدا على صفحات كتابه الجديد للانتقال بك بغتةً شرقاً وغرباً ليجوب بك بقاعاً لم تطأها جغرافياً ولا فكرياً. أما تاريخياً، فهو لن يقصِّر في أن يجعلك ترتاد الماضي وهو يشير إلى المستقبل، ليقطع بك أشواطاً وقرونا طويلة نزولاً إلى القرن الرابع عشر والمستعمرات القديمة والكشوفات والفتوحات، وصولا إلى مقاومات القرن العشرين وحروبه الأهلية وما اعتراها من تحولات، بل انقلابات غيّرت مفاهيمها وبدلت أهدافها وأطرافها، تاركاً لك الخيال لتصورات مشهد اليوم ومآلاته المستقبلية.
ففي مقدمة كتابه الجديد، تقرأ بين السطور أسباباً دفعته إلى التصدي لمثل هذه القضية، ليدرك القارئ أن الكتاب ليس وليد 'عبارة عابرة' لفتت انتباهه على شبكة الإنترنت لتصير أفكاراً في السياسة والثقافة السياسية، كما في كتاب 'نانسي ليست كارل ماركس'، بل هو كتاب له جذور بعيدة وممتدة تلتصق بسنيّ عمره وتجاربه ومعايشته لواقع محلي وعربي وإقليمي، يحاول من خلاله أن يدلي بما هو جديد في 'سوق الأفكار' العربي الذي يراه 'مضروبا' حيناً، أو بحاجة ماسة إلى كثير من الأحجار لتحريك مياهه الراكدة، في حين آخر.
ويلقي حازم صاغية حجراً ثقيلاً قد يثير كثيراً من الجدالات والمعارك التي ألفها واعتاد خوضها منذ امتهانه النقد والكتابة، فهو بتصديه لقضية المقاومات وأنماطها وتحولاتها يدخل نفسه في معركة جدلية واسعة يعلم أبعادها، حين يؤكد في مقدمة الكتاب قائلاً: 'أنا لم أنقطع، على مدى سنوات، عن تتبع ما يتعلق بالمقاومات في تاريخها وفعلها والآثار التي خلفتها، وضداً على الرواية تلك (المقاومة الفلسطينية في السبعينيات)، لم أجد من تلك التجارب إلا ما يقنع بأن المقاومات حروب أهلية مموّهة أو مقنّعة'.
وعلى مدى فصول كتاب 'هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهلية مقنعة' الذي سيصدر بعد أشهر وتنشره 'الجريدة' حصرياً على حلقات، يجوب بنا صاغية طرقات ودروب التاريخ والجغرافيا، مقتفيا آثار المقاومات بأشكالها وصنوفها وجذورها، مستعرضاً تلك الصنعة الفرنسية التي صاغت مفهوم المقاومة في القرن الثامن عشر، والمقاومات الجزائرية، منتقلاً إلى إيرلندا واليونان وجنوب شرق آسيا، وتحديداً في فيتنام بعد انسحاب القوات الأميركية عام 1975، ومن إفريقيا ينتقي الكاتب أنغولا ليختتم طوافه حول قضية المقاومة وأشكالها وصورها وأطرافها ومفهومها الذي قد يعتريه التبدل والتحول مع مرور الزمن لتصبح 'تسييس السكان بقوة السلاح'... ليتوقف الكتاب
فجأة عند العتبة الإفريقية، وكأنه يلمح إلى أنه قد يكون للحديث عن المقاومات وشجونها بقية، وأنه بعدما أطلق المباح فإنه مازال في جعبته ما ينتظر البوح.
تأملات في العنف
كلما امتدت المواجهة العنفية في الزمن زاد ضمور العنصر الفكري-السياسي لتنقلب «ثقافة المقاومة» إلى سلسلة من أفعال انتهازية تجيز أحياناً التعاون مع العدو الأصلي الغازي، الذي يُفترض أنه علّة وجود المقاومة، لإنزال القهر بالطرف الداخلي الآخر. وهذا ما شهدته مقاومات كثيرة في عدادها بعض أشهرها، كتلك اليوغوسلافية التي قادها المارشال تيتو ورأت في التقاطع مع النازيين احتمال فرصة تتيح التخلص من «الشِتْنكس» الصربية، وهي أيضاً طرف مقاوم قبل أن ينقلب متعاوناً مع الألمان، فضلاً، بالطبع، عن «الأوستاشي» الكرواتية، الفاشية التي أقامت «دولة كرواتيا المستقلة» المدعومة من برلين. والسمة هذه لا ينعدم ارتباطها الوثيق بواقع أن معظم المقاومات، الوطنية دعوةً والتجمعية فعلاً، لا تملك في ذاتها عناصر كافية لإرساء هيمنة مضادة للهيمنة التي تقاومها، وأن أهم ما تملكه، بحكم طبيعتها وظروف نشأتها، هو إتيان العنف في وجه عنفها.
لهذا نرى المقاومات قاطرات لشيوع التعريف الذاتي السلبي، فيسود معها التعريف بالضدية للطرف الآخر بدلاً من تعريف الطرف بذاته. وهذا إذا ما وجد مبرراته في حالات قصوى كمقاومة النازية، غير أنه يترك من الفجوات في فهم السياسة وممارستها ما تملأه الانتهازية السلطوية والعنف العشوائي الأعمى بعد بلوغ التحرير والإمساك بالسلطة.
والحق أن العنف يعاند السياسة ويجافيها على نحو دائم، أو أن هذا، على الأقل، ما تقوله تجربة غنية كتجربة الماركسية التي هي إحدى أكثر الإيديولوجيات الحديثة إنبناءً على فكرة الصراع. بيد أن الجفاء بينهما إنما تفاقم مع هجرة الماركسية من بيئتها الأوروبية إلى بيئات أقل امتلاكاً للتقاليد السياسية والشرعيات الدستورية. فإذا صح أن ماركسية ماركس، وخصوصاً إنغلز، أعطت حيزاً مرموقاً للعنف، بقي أن هذا الأخير ظل عندها الطلْق الذي يرافق الولادة الثورية ولا يكون سببها. أما ماوتسي تونغ، في المقابل، وعلى ما لاحظت هنه أرنت في «تأملات في العنف»، فنقل موضع التركيز الماركسي من «عملية الإنتاج» إلى العنف حيث «تنبثق السلطة من فوهة البندقية»، حسب أحد أحكامه الشهيرة.
البديل الياباني
لكنْ يبقى، في الحالات جميعاً، أن المقاومة لا يُحل إشكالها العملي في مجرد البرهنة على أنها تمويه لحرب أهلية أو تقنيع، وأنها إذ تستدعي، نظرياً، وحدة البلد المعني فإن التفتت الفعلي يحول دون وحدتها هي نفسها، جاعلاً منها فرصةً أخرى لإغناء الانقسام وتوسيعه. فهذا، على صحته في الواقع العملي، لا يلغي الإقرار النظري والمبدئي بحق التمرد والانتفاض في ظل أنظمة مغلقة ومانعة للسياسة، أكانت محلية أم أجنبية. فإنكار حق كهذا هو لسان حال المسالمين الطوبويين (الباسيفيين) والمستفيدين من الأنظمة المغلقة أو المشاركين فيها على نحو أو آخر. ثم إن السكان المحليين، أو بعضهم، ما إن يتعرضوا لطرف غريب وغازٍ حتى يقاوموه، وهي استجابة طبيعية وعفوية، وبمعنى ما إنسانية، يمكن دوماً توقعها.
فالمقاومة، إذن، عنف لابد أن يستحضره العنف الاستعماري ويؤججه، وهو رد لابد أن يستثيره الامتهان والإذلال لمن يتعرض لهما، وذلك من دون ظافرية أو احتفالية مبالغ فيهما. لكن العنف، في تقاليد الإيديولوجيات الصراعية، لا يُقدمه أصحابه بوصفه سلوكاً يؤسف له، أو لحظة عارضة، اضطرارية، ينبغي تدبر الخروج منها بأسرع ما يمكن، بل يتحول عملاً غنائياً ممجداً يعبر عن الحيوية التي يختزنها الشعب وطاقته السياسية. والبائس أننا نجد هذا التناول خصوصاً لدى القيادات الأكثر تسيساً والمثقفين الذين يؤلفون معنى المقاومة وينظرونه. والطرفان هذان نادراً جداً ما مارس المنتسبون إليهما العنف بأنفسهم. وهذا من غير أن ننسى البديل الياباني، حيث شاء اليابانيون الذين قصفهم الجيش الأميركي بقنبلتين نوويتين ثم رزح فوق أرضهم، ألا يقاوموه، مفضلين أن يتعلموا منه دستور ماك أرثر وطرق الاندماج في الحضارة والثقافة الغربيتين. وفي النهاية صارت اليابان ما صارته.
معادلة الاحتلال - المقاومة
على أن المفارقة الأكبر التي يطرحها إشكال المقاومة أن لغةً اعتذارية كالموصوفة أعلاه، مقتصدة ووظيفية في تقديمها ذاتَها، لا تسهل مهمة استقطاب المقاومين وتعبئة الجمهور الحاضن لها، فيما تمجيدها الذي يعزز الاستقطاب والتعبئة، يقصر الطريق نحو تعبيد «الشرعية» الثورية والاستبدادية بعد تحقيق النصر. وعلى النحو هذا، يترتب على انهيار النصاب السلمي، بفعل الغزو كما بفعل مقاومته، تراجع في القدرة على الخيار الواعي وانجراف متنامٍ في العنف يمليه تبادل العنف نفسه، أي بلغة أخرى، الهبوط إلى واحد من أشكال القَبَلية الآلية والتلقائية.
هنا لابد من التوقف عند العبارة المتكررة من أن كل احتلال ينتج مقاومته: فالمقولة-المعادلة هذه حين تقال وصفياً، تكون صحيحة بوصفها تقريراً لواقع بعينه. أما حين تأتي على شكل وصفة معيارية إطلاقية، بالمعنى الفانوني، فتبدو لاتاريخية، مثلها مثل شعارات كالإسلام هو الحل، شعاراتٍ لا تعبأ بتحولات المجتمع المعني ولا بقدراته وانقساماته، كما لا تكترث بمدى بحبوحة ذاك المجتمع وانعكاسها على طاقة المقاومة وإرادة التضحية لديه، أو باحتمالات وقوعه على وسائل سياسية تؤدي الغرض المنوي بعيداً من اللجوء إلى المقاومة، إذ ليس الاستسلام، بالضرورة، نقيضها الدائم والثابت.
المقاومة السلمية
قد يقال إن النتائج هذه، أو بعضها الكثير، ليست حكراً على المقاومات المسلحة، بدليل أن المقاومة الهندية ضد بريطانيا، وكانت سلميةً، لم تحلْ دون نشوب حرب أهلية شرسة صاحبت تجزؤ الهند الكبرى إلى دولتي الهند وباكستان. ولقائل، في المقابل، أن يقول إن المقاومات المسلحة لا تؤدي، بالضرورة، إلى استحالة الرسو على شرعية سياسية ودستورية، والدليل مقاومتا إيرلندا وفرنسا اللتان افتُتح بنصريهما تأسيس تلك الشرعية، أو إعادة تأسيسها.
لكن الحجتين هاتين، على صحتهما، لا تقوضان الفكرة التي يدافع عنها النص هذا بقدر ما تسبغان مزيداً من الرهافة عليها أو تحضانها على استدخال مزيد من التدقيق فيها. فالمقاومة السلمية في الهند لم تؤسس نفسها مصدراً للشرعية يعطل الشرعية الديمقراطية، بل مهدت لولادة «الديمقراطية الأكبر في العالم». وبطبيعة الحال، وكما أشير قبلاً، يبقى التباين قائماً دوماً بين المقاومة كطلب طبيعي وعفوي ومُحق يحض بعض السكان على الصراع مع الغريب الممسك بأدوات القوة والاخضاع ومصادر الثروة، وبين إفضائها، كعمل عنفي، إلى بناء سياسي ووطني لا يبحث عن شرعيته خارج ذاته وخارج حركة الذات هذه. وحتى هنا، يستطيع المراهنون أن يراهنوا على أن الانشقاق الطائفي المزمن والعميق بين الهندوس والمسلمين كان لينفجر بعنف أكبر بكثير من العنف، الكبير حقاً، الذي شهدته حرب 1947، في ما لو كانت مقاومة الهنود للبريطانيين عنفية ومسلحة، وفي ما لو كان توافر السلاح في أيديهم معمماً. وليس من غير دلالة أن الهند هذه، على رغم التعدد الهائل لقومياتها وأديانها ولغاتها، لم تُجزأ، بينما جُزئت، مطالع السبعينيات، دولة باكستان المؤسسة على «شرعية» دينية، حين انشقت عنها دولة بنغلاديش، على رغم مشاطرتها الدين نفسه والمذهب ذاته.
المخزون الاستبدادي
أما التذرع بإفضاء المقاومتين الفرنسية واليونانية، بكثير من التعرج والالتواء، إلى أنظمة دستورية، فيؤكد حقيقتين، أولاهما أن الجرعة الإيديولوجية للنزاعات، التي تقسم الأطراف ما بين يمين ويسار، توفر حصانة نسبية دون النزاعات الأهلية البحتة والتي لا يحول تحويرها الإيديولوجي المزعوم دون إحداثها كسراً في المجتمع يستحيل رأبه. ذاك أن النزاعات الإيديولوجية تبقى أقل جوهرانية وأكثر قابلية إلى التحول والتكيف مع السياسة من النزاعات التي يقيم الجوهري المزعوم في متنها وتعريفها، حائلاً دون تطويعها للسياسة، على ما هي حال الانشقاقات على خطوط دينية أو طائفية أو إثنية. أما الثانية، فأن أوروبا، حتى في طرفيتها اليونانية أو الإيرلندية التي تقربها من شروط «العالم الثالث» وظروفه، وحتى في تخثرها الذي سجلته فرنسا ما بين قيام حكومة «الجبهة الشعبية» في 1936 وقيام حكومة فيشي، تملك صمام أمان تراكمت عُدته وأدواته على نحو لا يعهده معظم بلدان الشرق الأوسط المشطورة على خطوط غير إيديولوجية إلا تذرعاً واستطراداً. وأما كون البلدان التي تتعرض للاستعمارات والاحتلالات هي، في معظمها، غير أوروبية تتنازعها ولاءات إثنية ودينية وطائفية شتى، فيجعل كل جدل معلن في شأن المقاومة جدلاً مستوراً في شأن السيطرة والإخضاع الأهليين الجلفين والصرفين. ولا يقف إسهام المقاومات في تعويق المستقبل عند الحد هذا، بل يتعداه إلى مستويات اجتماعية وثقافية لا حصر لها. فيلاحَظ أساساً، وبالمعنى الذي يُقال فيه إن القومية الألمانية ولدت رجعية لكونها رداً على تحررية الثورة الفرنسية في لحظتها التوسعية، أن المقاومات، ومعظمها تناهض أنظمة استعمارية إنما ليبرالية، تنطوي على مخزون استبدادي ثري في عدائه لليبرالية والحريات. وهي، من ناحية أخرى، إذ تستنفر في المقاومين قيم الرجولة والقوة، تُخلي للنساء موقعاً ثانوياً وإلحاقياً. وقد بات شائعاً المثال الجزائري حيث كان من أوائل ما فعلته سلطة الاستقلال إرجاع النساء، وكن قد شاركن في المقاومة، إلى بيوتهن. ويكاد لا يخلو تاريخ حركة مسلحة طال بها الزمن وامتد، مُحقة كانت أم غير مُحقة، من ترويج اقتصادات موازية يتصدرها الاتجار بالمخدرات وتوابعها. وهذا لئن كان مما يتطلبه بقاء الحركات المعنية على قيد الحياة، فهو أيضاً مما يؤسس شروط تقويض أي اقتصاد وطني في المستقبل. وعلى الصعيد الثقافي بالمعنى التقني للكلمة، يلوح الشعر، لا الرواية، أدب المقاومة المَلَكي، أي أن النبرة الذاتية، التوكيدية والحادة، تجد في الفعل المقاوم ما يرفعها على حساب الجنس الكتابي الأكثر مواكبة للمجتمع الحديث والأشد ديموقراطية بالتالي. وهو ما يفسر وجود قائمة طويلة جداً من «شعراء المقاومة» الذين تدغدغهم الرؤيوية التي يشي بها الفعل العنفي والوعود التحويلية الكبرى مقابل نقص الروائيين الذين استوقفهم موضوع العنف كمادة للانحياز إليها والتماهي معها. وهذا مع العلم، وكما يقول الكاتب جو كليري الذي لا يخفي انحيازه، في كتابه «الأدب والتقسيم والدولة – الأمة» (حيث درس حالتي إيرلندا وفلسطين) أن «مفهوم الأدب، بوصفه سلاحاً لـ«المقاومة»، هو بكامله مستعار من فكرة ان الأدب ينبغي ان يكون إيجابياً: ان يكون واجبه تعزيز قيمة النضال والاحتفاء بأولئك الذين يناضلون»، فيما الأدب الذي «يكتفي بالاحتفال بإرادة المقاومة (...) يخاطر بالتحول إلى أدب رسمي».
ولادة الثمانينيات المقدسة
ونزعم ان ما نقوله في المقاومات، على أي مستوى كان، ليس امتداحاً للاستعمار (ولا، بالضرورة، ذماً)، لكنه تشديد على أنها ليست ما يبني دولاً وأوطاناً ومجتمعات مستقرة، بل هي إشارة إلى صعوبات بنائها وإسهام في مفاقمة الصعوبات تلك. فهذه ليست مسألة بديهية إنما هي إشكالية تستحق طرح الأسئلة التي قد لا نملك الإجابات عنها، إلا أن ما ينبغي تجنبه هو تحويل نقص الإجابات وما يرافقه من حيرة سبباً لترداد تلك الدعوات الفقيرة التي يروجه المقاومون والداعون للمقاومة. وهذا إذا ما صح عموماً، فإنه يبدو أكثر صحة في مقاومات المشرق العربي، حيث التفتت المجتمعي أكبر ومصادر الشرعية السياسية أضعف. وليس بلا دلالة أن مقاومة كتلك اللبنانية التي مثلها «حزب الله» توجت ذلك كله حين تحولت إلى العبث الكامل إذ أصرت على الاستمرار في حمل السلاح بعد زوال الاحتلال الذي نشأت لمقاومته.
وأنا شخصياً، لي تجربتا احتكاك مباشر، مسرحهما لبنان، مع الرواية البسيطة، إن لم يكن الرومنطيقية و»العذبة»، عن المقاومة بوصفها لحظة من التوحد في وجه الغازي: ففي السبعينيات، وفيما المقاومة الفلسطينية تستدرج توكيداً بعد آخر على الإجماع، وتستأثر برعاية غير مسبوقة من الشعر والإبداع الثقافي على عمومه، إذا بالحرب اللبنانية تندلع نزاعاً حول بندقية المقاومة، ويبدأ الخراب المتناسل منذ ذلك الحين. أما في الثمانينيات، ومع ولادة «حزب الله»، فسطع تمجيد المقاومة على نحو لا يقوى أي كان على صده، أو حتى ضبطه أو التدقيق فيه. وأُسبغت عليها تلك القداسة إياها التي زاد في توكيدها قيام السلطة السورية في بيروت برعايتها وجعلها حجر الزاوية في الإيديولوجيا الرسمية المفروضة، للمرة الأولى، على المجتمع اللبناني. لكن كل شيء آخر، ما عدا صراخ المقاومة وجلبتها، كان يشير إلى العكس: إلى أن اللبنانيين لم يكونوا منشطرين ومفتتين قدر انشطارهم وهم يعلنون إجماعهم اللفظي حول المقاومة. ولما بات التردي شاملاً أوجه الحياة جميعاً، العام منها والخاص، الاقتصادي كما التعليمي والصحي، ناهيك عن السياسي، بات السؤال الذي يجدر طرحه: أي أذى أكبر من هذا سيكون في وسع الاحتلال أن يُنزله باللبنانيين واجتماعهم؟
وهو سؤال لم يفارق موقع هذه الأسطر منذ ذاك الحين. فأنا لم أنقطع، على مدى سنوات، عن تتبع ما يتعلق بالمقاومات في تاريخها وفعلها والآثار التي خلفتها. وضداً على الرواية تلك، لم أجد في تلك التجارب إلا ما يقنع بأن المقاومات حروب أهلية مموهة أو مقنعة. وإذا كان المؤرخون والباحثون السياسيون هم المتروك لهم أن يقرروا ما إذا كانت هذه المقاومة «تقدمية» أو «رجعية»، تواكب «خط التقدم» أو تجافيه، مُحقة أم غير مُحقة، فإن الكتاب هذا يتحرك في رقعة معرفية ضيقة لا يُتوخى منها استخلاص أحكام سجالية أو التحريض على اتباع دروب معينة يقال إنها وحدها الموصلة إلى أهداف مرغوبة.
ح ص
آفاق الخراب والكراهية
على العموم فإن اقتراب المقاومة من الحلول في السلطة ليس ناجماً عن ذاتها، لا بوصفها حزمة أفكار فقيرة ولا كجملة ممارسات، بل هو حصيلة التضافر بين عاملي الانقسام الأهلي في مجتمعها واستشراس القمع الذي يُنزله الخصم الأجنبي بالشعب رداً على عملياتها، ما يدفع أعداداً أكبر فأكبر إلى الالتفاف، الاضطراري أو الحمائي، حولها. وتعلمنا التجربة الجزائرية، مثلاً لا حصراً، أن المقاومات قد تشارك، هي أيضاً، وبحماسة، في إنزال الألم بالسكان لغرض استقطابهم، وذاك في وتائر قد لا تتخلف عن الوتيرة الاستعمارية إياها إن لم تتجاوزها وتبزها. ومؤدى المعادلة هذه أن القوة التي تحرزها المقاومات مشروطة حكماً بشيوع الأفق الخرابي وتنامي الموت والكراهية في المجتمع المقصود. فهي حين تخوض حروبها لا تحسب حساباً للأكلاف كما لا تطرح على نفسها السؤال الذي لا بد من طرحه، وهو ما إذا كانت حربها قابلةً لأن تُكسَب.
ولما كانت العناصر هذه تفاقم صعوبات البناء السياسي والاجتماعي بعد التحرير، أو بعد الاستقلال، أمكن الخروج بالحسبة التالية: كلما كانت المقاومة أشرس وأطول مدى كان النهوض الوطني، ناهيك عن الازدهار والرفاه، أبعد وأشد استعصاء. وهذا فضلاً عن أن المقاومات، في معظمها، سبب وذريعة لأعمال تدخلية من الخارج انتصاراً لهذا الطرف أو ذاك. وشيئاً فشيئاً، وبحكم تنامي الصلة بين «بيروقراطية المقاومة» وحاجتها إلى تسليح مقاتليها، وإلى ضمان طرق إمدادهم، يتحول التحالف مع الدولة المجاورة والداعمة إلى التحاق وتبعية يصعب ضبطهما والحد منهما. وهو، عموماً، ما يتأدى عنه المزيد من تجويف الداخل السياسي للبلد المعني ومن توسيع المسافة الفاصلة عن السياسة.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
اليسار واليمين في فرنسا عاشا حروباً أهلية ضارية شغلتهما عن خطر حرب الأربعينيات أو تواطآ معه
(الحلقة 3)
حازم صاغيّة
صناعة المقاومة الفرنسية
تنبع مكانة المقاومة الفرنسية من أهمية فرنسا أكثر مما تنبع من أهمية المقاومة ذاتها. والأصح القول إن ما هو منسوب إلى المقاومة وليد ضعف أهميتها الفعلية، لكنه وليد الاضطرار إلى التوفيق بين ذاك البلد وصورته عن نفسه، كحجم سياسي واقتصادي مؤثر، وكوزن ثقافي ضخم، لاسيما في الفترة الممتدة من نهايات الحرب العالمية الثانية حتى بداية الثمانينيات. فإذا أضفنا الموقع الذي احتلته، وتحتله، مفاهيم التقدم والتنوير والطليعية في الصورة الفرنسية السائدة عن الذات الوطنية، وكلها تنجر عن الإرث الكبير لثورة 1789، فهمنا الضرورة الملحة لتقديم المقاومة على غير ما كانته فعلاً. وقد ضاعف هذا الميلَ الإجماعي، كما عزز التساهل معه، مدى بشاعة العدو الذي يُفترض بفرنسا أن تمثل نقيضه، كما يُفترض أن تكون القدوة والمثال في مقاومة بشاعته الاستثنائية.
أضيف إلى ذلك واقع مرير تصدرته الهزيمة المشينة في 1940 وما تلى من احتلال ألماني. فحسب المؤرخة نيكول جوردان في كتابها «الاستراتيجية والبحث عن أكباش محارق: تأملات في الكارثة الوطنية الفرنسية»، «كان الانهيار العسكري الفرنسي في 1940 أحد أكبر الكوارث العسكرية في التاريخ العالمي». ذاك أن الجيش الألماني في غضون سبعة أسابيع فقط غزا لوكسمبورغ وعبر غابات أردِن إلى فرنسا، مكتسحاً الفرنسيين ومحاصراً الجيوش البريطانية والفرنسية والبلجيكية في جيب دنكرك، ثم فارضاً هدنة على الحكومة الجديدة برئاسة الماريشال فيليب بيتان (84 عاماً يومها)، بعدما احتل باريس العاصمة واستعرض قواته في جادة الشانزيليزيه. وفي غضون ستة أسابيع من القتال، خسر الفرنسيون 124 ألف قتيل كما جُرح أكثر من 200 ألف منهم، وفي يد الألمان سقط ما يربو على مليون ونصف مليون سجين. والفضيحة بلغت، في أحد منعطفات المعارك، يوم 16-17 مايو، أن ساق الجنرال الألماني إروين رومل 100 ألف سجين فرنسي مقابل خسارة ضابط وأربعين رجلاً من الألمان. وكان لانتصارات هتلر الكاسحة تلك أن أغرت موسوليني بدخول الحرب، بحثاً عن غنائم لإيطاليا، كما تكيفت على ضوء تلك الهزيمة المواقف الأميركية والبريطانية من فرنسا على مدى الجيل التالي. وهي، بالطبع، عجلت في سقوط الجمهورية الفرنسية الثالثة وإقامة نظام فيشي السلطوي والمتواطىء.
«هزيمة مستغربة»
لقد كان الانتصار على فرنسا خارقاً في نتائجه وفي أبعاده على السواء. فهو عزز أوهام هتلر حول نبوغه الاستراتيجي، وقوى قبضته على جنرالاته وأطلق يده في تركيزه على بريطانيا أولاً، ثم، حين اتضحت صعوبة إلحاق الهزيمة بها، على جنوب شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي. وعلى سوية أخرى، قاد انتصار هتلر ذاك إلى مساءلات فرنسية عميقة للنفْس، ما أنتج أعمالاً رفيعة القيمة في عدادها كتاب مارك بلوخ «الهزيمة الغريبة» [أو المستغربة]. فمؤرخ فرنسا الأبرز وأكبر ضباطها الاحتياطيين سناً الذي تطوع في 1939، سجل، في 1940، شهادته التي لم تُنشر إلا بعد الحرب، وكان الألمان قد أجهزوا عليه. وعملاً بتحليل بلوخ، واجهت فرنسا حربها وهي مُعاقة إعاقتين: ففي توقعهم المواجهةَ مع ألمانيا بنى الفرنسيون، من الحدود السويسرية شمالاً حتى لوكسمبورغ، خطاً دفاعياً سموه تيمناً بوزيرهم الذي أشرف على بناء الخط، أندريه ماجينو، بينما تُركت الجبهة الطويلة مع بلجيكا من دون حماية. وعولت الاستراتيجية الحربية الفرنسية، وقد أخذت بها واعتنقتها وزارة الخارجية، على أن القتال سوف لن يقترب من حدودها. ولئن أنشأت باريس، بين الحربين، بضعة تحالفات، لا سيما في جنوب أوروبا وشرقها، فالتحالفات بدت لزوم ما لا يلزم. ذاك أنه ما دامت القيادة العسكرية الفرنسية العليا مصممة على تجنب الحرب، كائناً ما كان الثمن، لم يعد في وسع باريس أن تقدم لحلفائها شيئاً. والضعف ذاك هو ما انكشف في 1938 في ميونيخ، حين تم التخلي عن تشيكوسلوفاكيا، وكان دالادييه يومها رئيس الحكومة، ثم في 1939 عندما سُمح لهتلر بأن يدمر بولندا، من دون أن تتعرض حدوده الغربية لأي تهديد.
عجز الجنرالات
الجنرالات الفرنسيون لم يكونوا مرتبكين استراتيجياً فحسب، بل بدوا أيضاً عاجزين تكتيكياً. فكما أوضح بلوخ ومؤرخون كثيرون لاحقون، برهنت قيادتهم عن عجز حيال تفريع المسؤولية، وحيال الاستجابة المرنة للتحولات، وتنظيم المواصلات وإدامة الاتصالات. فحينما هاجم الألمان، لم يكن طاقم الجنرالات الفرنسيين مُدركاً ما الذي يحصل له ومن حوله.
لكن الإعاقة الأهم كانت تلك السياسية. فالبلد بدا منقسماً على نحو عميق إلى يسار ويمين، بل متذرراً على النحو المعهود في الحروب الأهلية، حيث اليسار أكثر من يسار متناحر، واليمين كذلك. ففي معظم الثلاثينات، تراءى أن من المستحيل تشكيل حكومة مستقرة. أما حكومة «الجبهة الشعبية» في 1936، وهي الوحيدة التي حملت برنامجاً واضحاً وتمتعت بأكثرية برلمانية متسقة، فكرهها اليمين بسبب مشاريعها الإصلاحية، في مناخ أوروبي كانت الحرب الأهلية الإسبانية تجذره. لكنه كرهها، كذلك، بسبب يهودية بلوم نفسه. وفي المقابل، لم تستقطب الحكومةُ تلك اليسارَ الذي مقت قلة راديكاليتها الاجتماعية وعدم إقدامها على إجراء تحويلات جذرية. أما الشيوعيون تحديداً، فلم يسامحوا بلوم على عدم تدخله في إسبانيا عام 1936، وضمناً على نجاحه في الحفاظ على حزب اشتراكي قوي بعد الانشقاق الشيوعي في 1920.
حثالة الأرض
اليسار واليمين، إذن، كانا يعيشان حروباً أهلية متعددة ينشغلان بضراوتها عن الخطر المحدق أو يتواطآن معه. أما أولئك القادة السياسيون القلة، وفي عدادهم ليون بلوم، الذين اقترحوا، متأخرين، جبهة مشتركة ضد الخطر النازي، فاتهموا بمحاولة جر فرنسا إلى الحرب خدمةً لمصالح غيرها، كبولندا أو بريطانيا أو اليهود. وحذت الصحافة حذو الأحزاب في تفاهتها وفسادها، وهي غالباً ما مولتها مصالح وحكومات أجنبية. وكان أرثر كوستلر، في كتابه الشهير «حثالة الأرض» حيث روى قصة اعتقاله في فرنسا، قد ترك وثيقة أدبية وتاريخية رفيعة عن الانهيار المعنوي الذي أصاب الفرنسيين عشية الغزو الألماني، وعن الانحطاط والصغائر التي واجهوا بها تلك اللحظة المصيرية. فكأن تعظيم المقاومة جاء نتيجة للمدى الذي كانت بلغته اللامقاومة والتردي والتشقق معاً. فالكراهية التي أثارتها بدايات صعود «الجبهة الشعبية» كانت قوية إلى الحد الذي شرع يدفع بقوى اليمين الفرنسي، منذ 1934، إلى التودد لألمانيا والمطالبة باتباع سياسة سلمية حيالها. وكان هذا جزءاً من اهتراء وتفسخ عامين لازما فرنسا حتى 1939: ذاك أن النزاعات التي زخرت بها الحياة العامة والتهجمات الشخصية والأحقاد العرقية وسموم العداء للغريب ولليهود ذهبت كلها بعيداً جداً. فمثلاً، يوم تنصيب حكومة ليون بلوم في يونيو 1936، ألقى كزافييه فالات الذي صار لاحقاً أول من تعينه حكومة فيشي مفوضاً للشؤون اليهودية، خطاباً في البرلمان وردت فيه العبارة التالية: «من أجل حكم هذه الأمة الفلاحية التي هي فرنسا، يُفضل أن يكون لدينا شخص تنضوي أصوله، مهما كانت متواضعة، في ثنايا تربتنا، لا أن يكون تلمودياً وطيداً». وفي حزب واحد، كالحزب الراديكالي، وهو مثَل غير حصري، تبادل القطبان السياسيان إدوار دالادييه وإدوار هاريوت عداء مراً، وفي مقابل الغضب العمالي الحاد كان الخوف الهلعي لدى أصحاب الشركات والرساميل الكبرى، فضلاً عن استئناف القطيعة المزمنة بين رجال الدين والجمهوريين.
التوسع الفاشي وخطر هتلر
لقد بات بلوم، بتشكيله حكومة «الجبهة الشعبية»، أول اشتراكي وأول يهودي يحكم فرنسا، مثيراً أكثر المواقف حدةً وتشنجاً. فاليمين لم تتردد بعض أصواته في الكلام عن ضرورة الاختيار بين هتلر وستالين، وبدا بلوم، لدى لاساميي ذاك اليمين، تعبيراً عن جميع مواصفات اليهودي بالمعنى الذي تنطوي عليه اللاسامية. وقد سرت مرارة جماعية لدى المؤسسات الرسمية الوطيدة كالجيش والكنيسة اللذين كان تعاونهما، قبل أربعة عقود، قد أثمر قضية درايفوس الشهيرة. حتى الشيوعيون، في اليسار، وما خلا الأشهر الأولى التالية على تشكيل الحكومة، بدا لهم بلوم إصلاحياً بورجوازياً أقرب إلى عدو منه إلى صديق.
والراهن ان بلوم لم يكن يتبع نهجاً راديكالياً مقلقاً. فهو آمن بأن الشروط التي وضعت حكومة «الجبهة الشعبية» في السلطة محدودة بإجراء تحسينات داخل النظام الرأسمالي، وليس الإخلال بالنظام المذكور. لكن الشؤون الخارجية كانت العامل الضاغط الأكثر تسبيباً للانقسامات عام 1936. فـ«الجبهة الشعبية» بدت استجابة ضدية لنزعة التوسع الفاشي أكثر منها حاملاً لبرنامج اشتراكي لفرنسا. وهي انطوت على اتفاق بين أحزابها الثلاثة، الشيوعيين والاشتراكيين والراديكاليين، على استبعاد التغييرات الثورية والاقتصار على تعزيز الديمقراطية في مواجهة الفاشية. وكرئيس حكومة في دولة ديمقراطية تقف وجهاً لوجه أمام هتلر، حفت القيود الثقيلة بحركة بلوم. ذاك أن أي استراتيجية في التعامل مع ألمانيا قد تغضب نصف الفرنسيين الخائفين من ستالين. وفعلاً بدا البلد مقسوماً بين من يريد تجنب خطر هتلر بمسايرته ومحاباته، ومن يريد ذلك بمعونة ستالين، أو بمعونة موسوليني. وفي مناخ كهذا طرحت الحرب الأهلية الإسبانية في 1936 مشكلة على بلوم ترتبت عليها، أكثر مما في الموضوع الاقتصادي، بدايات تصدع «الجبهة الشعبية». فقد أذعن للراديكاليين والضغوط البريطانية ممتنعاً عن تقديم الدعم للجمهورية الإسبانية فتردت علاقته بالشيوعيين. وكان من تناقضات السياسة السلمية التي عبر عنها أنْ بات من المستحيل معارضة هتلر وفي الوقت نفسه نزع السلاح. لكنْ لاح، من جهة أخرى، أن البديل الوحيد عن الدعم البريطاني تسوية شاملة مع هتلر وموسوليني.
«صليب النار»
على ما يروي ديفيد بِري في مساهمته التي ضمها كتاب أعده مارتن ألكسندر وهيلين غراهام بعنوان «الجبهتان الشعبيتان الفرنسية والإسبانية: منظورات مقارنة»، عصفت بأقصى اليسار الرؤيوية الخلاصية التي احتقرت تواضع «الجبهة الشعبية»: هكذا، مثلاً، ركزت صحيفة «لو ليبرتير» الفوضوية على وجود «جبهة شعبية بين الشوارع لا السياسيين»، وعلى أن «جبهة الشوارع» جاهزة للثورة. والحال أن عضوية «الاتحاد الفوضوي» ومقروئية صحفه زادتا كثيراً في 1936 بينما كانت تهب عواطف الثورة الأممية جارفةً من إسبانيا. ويدرس روبرت سوسي في «الفاشية الفرنسية: الموجة الثانية» عشرات الفرق والعُصُب اليمينية والميليشية التي نمت على هامش الحياة السياسية في الثلاثينيات، وكانت تتنازع في ما بينها، لاسيما في ما خص العلاقة بألمانيا. إلا أن تركيزه اتجه إلى «صليب النار»، تلك المنظمة التي قادها الكولونيل فرانسوا دو لا روك، والتي بدأت كرابطة تجمع بين مجندين سابقين لتتحول، بعد 1936، ومع منع تأسيس العُصب الميليشية، إلى حزب سياسي هو «الحزب الثقافي الفرنسي». ففي 1937 تمكن هذا الكائن الوليد ان يزعم لنفسه أعضاء يفوق تعدادهم البالغ 700 ألف عضو، تعداد أعضاء حزبين عريقين هما الاشتراكي والشيوعي معاً. لكن هؤلاء كانوا مجرد ظاهر مرئي لشبكة فاشية حسنة التنظيم وجيدة التمويل وواسعة الدعم في فرنسا ما قبل الحرب. والشبكة هذه هي التي زودت لاحقاً نظام فيشي قاعدته الأكثر دينامية. ويقدم سوسي معطياته وتقديراته تلك في سياق سجالي مع وجهة نظر أقدم عهداً، عبر عنها مؤرخون كرينيه ريمون، تزعم أن فرنسا ونزعتها الجمهورية المكينة عصيتان على الفاشية، وان المنظمات الفاشية وشبه الفاشية طرفية وضعيفة التأثير، فيما الأصول الايديولوجية للفيشية تكمن فحسب في العواطف السلطوية التقليدية كما حملتها منظمات من صنف «العمل الفرنسي» مصدرها النزعة المَلكية الرجعية.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
المزاج الفرنسي في الثلاثينيات صنعته صحف اشترتها سفارتا ألمانيا وإيطاليا!
(الحلقة 4)
حازم صاغيّة
سنوات الفراغ والتفسخ في فرنسا
التحالف مع الشيوعيين كان بالغ الإعضال بدوره. فليون بلوم، أول اشتراكي ويهودي يحكم فرنسا في يونيو 1936، باشر تقاربه معهم وهم في أوج توسعهم، لا سيما في أوساط الشبيبة. وهو كان في حاجة إلى أصواتهم، الا أنه عجز عن حملهم على تبوء منصب وزاري، ما تركهم طلقاء في ممارسة النقد المتواصل للحكومة بوصفهم من يملك «وزارة الجماهير» وشرعيتها الثورية. لقد كان الحزب الشيوعي أكثر عناصر الائتلاف نمواً سريعاً، ما أضاف جرعة خوف إضافية إلى الخائفين من بلوم. فهم رأوه، عن غير وجه حق، أسير الشيوعيين الذين كانوا يوجهون سهامهم اليه. وفي يونيو 1937، ولأسباب تتصل بالسياسة الخارجية أساساً، استقال بلوم. وإذ انهارت تلك التجربة، تشكلت ثلاث حكومات بين ذاك التاريخ وقيام حكومة بيتان في يونيو 1940، إحداها شكلها بلوم نفسه في مارس 1938، فعمرت أقل من شهر واحد.
وقصارى القول إن تجربة «الجبهة الشعبية» بقدر ما عكست تناقضات فرنسا الداخلية كانت تعبيراً عن استحالة الحاكمية في ظل هذه التناقضات التي زادتها الظروف الأوروبية استعاراً.
وكما يوضح يوجين فيبر، في كتابه «سنوات الفراغ: فرنسا في الثلاثينيات»، فإن ذاك العقد كان مترعاً بموضوعة الانحدار والانحسار الوطنيين. فمع أنهم هزموا الألمان في الحرب العالمية الأولى وكانوا سادة أوروبا القارية غير المنازَعين في العشرينات، رأى الفرنسيون أنفسهم بوصفهم أسرى تفسخ مديد لا يعوضه انتصار حربي. وفي أوائل الثلاثينيات بدأ انتصارهم على ألمانيا يفقد كل زخم فيما راحت أواسط ذاك العقد تسجل تناقصاً في عدد السكان بنتيجة تفوق نسب الوفيات على نسب الولادات. قبل ذلك، وفي ما بين 1900 و1939، لم تتعد الزيادة الإجمالية في السكان نسبة الـ3 في المئة، حصل معظمها لا بسبب التناسل الطبيعي بل تبعاً للهجرة الجديدة التي عرفتها العشرينات، خصوصاً من ايطاليا وبولندا. فمن دون هذه الهجرة كان السكان الفرنسيون مرشحين للانخفاض في وقت أسبق وبنسبة أكبر، وهذا فيما كان سكان معظم بلدان القارة الأوروبية يزدادون بنسب ملحوظة. وكان من نتائج تراجع نسب الولادات الفرنسية، خلال 1914-1918، أن شهد التطوع في المؤسسة العسكرية، أواسط الثلاثينات، انخفاضاً حاداً. ومن هنا ظهر هذا الميل الذي استولى على المخططين العسكريين ودعاة السلام الباسيفيين سواء بسواء من أن فرنسا لن يكون في وسعها خوض حرب أخرى.
شراء المزاج الفرنسي
كان لانحسار ديموغرافي كهذا قياساً بما كانت تستعرضه بلدان سلطوية الحكم في جوار فرنسا من طاقة قتالية وقومية، أن فاقم المزاج الانهزامي. لكن هذا لم يحمل على توقع الهزيمة لفرنسا بدليل ان جنرالات هتلر الأكثر تشاؤماً لم يساورهم، أقله حتى 1938، ان يكون خصمهم على الضعف الذي أبداه. وهذا المزاج الفرنسي هو الذي كمن وراء اتفاقية ميونيخ في 1938 فيما ظهر لاحقاً أن جزءاً أساسياً من صحافة فرنسا اليومية والأسبوعية كانت قد اشترته السفارتان الألمانية والإيطالية، وأن نسبة الرجال غير الصالحين للخدمة العسكرية بلغت في ذاك العام 33 في المئة قياساً بـ17 في المئة في المانيا، وان الجنرال موريس-غوستاف جميلان حين وقع تعهد فرنسا العسكري حيال بولندا عام 1939 كان غير جدي في تعهده مهاجمة المانيا إذا ما غزت بولندا.
والسبب الآخر للإمعان في التمجيد اللاحق للمقاومة أن التحرير نفسه ما كان ليتحقق لولا الجهد الحربي الأنغلو أميركي، وهو ما فاقم الشعور الفرنسي بالعار والقصور. وهذا ما تعرض للقلب العكسي لاحقاً، فجُعلت المقاومة تلك موديلاً للمقاومات ومعياراً تُمتحن عليه وتُقاس به. وهو جميعاً كان من أفعال السعي الإيديولوجي الذي ظل طويلاً ينتظر أحكاماً، لا تني تتتالى، أقل هوى وأشد اعتماداً على الأرشيفات والشهادات والمقارنات الفعلية والموثقة.
فالكتاب الفرنسيون، في تعاطيهم مع المقاومة، انقسموا دائماً تبعاً لخطوط حزبية وعقائدية، فكان كل طرف منهم يعمم سرداً أقرب إلى الأسطورة منه إلى الرواية التاريخية. هكذا، وكما يبين هنري روسو في «عقدة فيشي: التاريخ والذاكرة في فرنسا منذ 1944»، دافع طرف عن مقاومة تمجد أمة نهضت في وجه الاضطهاد الألماني بعد فترة عابرة جداً من الحيرة والالتباس. وحسب ذاك السرد، الذي تشارك فيه الديغوليون والشيوعيون، لم تكن حكومة فيشي والمتعاونون في باريس غير حفنة من الرجعيين أو الخونة، من دون أن يمتلكوا جذوراً في تاريخ البلد وتقاليده. أما الخرافة الثانية فاخترعها الفيشيون أنفسهم، ثم أشاعها عدد من الكتاب والسياسيين، ومفادها أن حكومة فيشي كانت «ترس» فرنسا، ومحاولة نبيلة لحماية الأمة من كارثة كالتي حلت ببولندا، ولاستعادة النظام الثقافي الذي هزته انشقاقات الثلاثينات. وعلى النحو هذا وجد أنصار حكومة فيشي ما يبرر لهم إصرارهم على أنهم، هم أيضاً، قاتلوا، بطريقتهم، الألمان.
جيل الشبيبة وحرج الآباء
الحق أن مشكلة فرنسا تلك اتصلت بتاريخها على نحو لا فكاك منه. ذاك أن مسألة فيشي وظهورها لم تنفصل خلفياتها عن ثقافة سياسية حادة ومتطرفة في انحيازاتها، منذ ثورة 1789 مروراً بقضية درايفوس ووصولاً إلى ثلاثينيات «الجبهة الشعبية» والتوتر اليميني المحتقن.
لكنْ لماذا انفتح، في مطالع السبعينيات، النقاش عن سنوات الاحتلال؟ ذاك أن تظاهرات مايو 1968 وقمعها، حسب هنري روسو، هزت اليقينيات التي تتعدى السياسة إلى التاريخ والثقافة، كما شجعت المنشقين الشبان على التعبير الناري عن رغباتهم. وكان للمساجلة التي أحاطت برفض التلفزيون الفرنسي عرض عمل مارسيل أوفُلس «الأسى والشفقة»، عام 1971، أن أشعل الفضول الذي شاءت الحكومة أن تطفئه. وأهم من هذا جميعاً أن جيلاً جديداً من الشبيبة بدأ يسأل آباءه أسئلة محرجة عما فعلوه في الحرب.
قبل ذلك فعل الآباء الكثير لطمس الحقائق وطمس النقاش حولها. ومثلهم كان دور الدولة الفرنسية كبيراً جداً في تصنيع الذاكرة بما يلائمها، بحيث يناط بالعموميات القومية القفز فوق التفاصيل الفعلية. من ذلك، مثلاً، ان الجنرال ديغول، إبان رئاسته، أنشأ يومين احتفاليين لإعادة دفن بطل المقاومة جان مولان في البانثيون في ديسمبر 1964. ويقدم روسو مادة غنية عن العراضات العسكرية، والوفود التي روعيت فيها التوازنات بدقة، وخطبة أندريه مالرو التي تميزت بها المناسبة، كما يولي عناية خاصة للأفلام والتلفزيون مما كان، من دون شك، أهم بكثير من التاريخ المدرسي لجهة التأثير في تصور الماضي وفي تشكيله.
احتكار البطولات
ويميز هنري روسو في كتابه «عقدة فيشي» أربع مراحل في مسار هذه العملية التي كادت تنتهي، قبل أن تنفجر، إلى إجماع زائف، ولو من موقعين وبلغتين:
الأولى، زمن «الحزن غير المكتمل»، حينما لم تتوافر طريقة مقنعة للاحتفال بالتحرير الذي كان، في حقيقته، هزيمة لقطاعات أساسية من النخبة الفرنسية، ولتكريم الموتى الذين سقطوا في ما يشبه حرباً أهلية. هكذا لم يوجد، أثناء الحرب العالمية الثانية، ما يعادل يوم الهدنة عام 1918، آخر سنوات الحرب العالمية الأولى، والذي أمكن جميع الفرنسيين أن يتفقوا حول معناه.
أما المرحلة الثانية، بين 1954 و1971، فشهدت اتفاقاً ضمنياً ومداوراً على تجاهل تلك النزاعات مصحوباً بقدر من شعور بالمرارة. فأنصار فيشي تم تلطيف صورتهم من خلال نظرية «الترس» الذي بموجبه «أنقذ» الماريشال بيتان الفرنسيين من الأسوأ. وأما الديغوليون والشيوعيون فتشاركوا في «شرف مُخترَع» يرتكز على ذاكرة رسمية لفرنسا تقول بالتزامها الكامل والمطلق بالتحرير، مع خلافات في تأويله، لا سيما ما خص مصادر إنتاج «الأبطال». وما صح في فرنسا عموماً، لناحية التورط في التعاون مع العدو، يصح خصوصاً في الحزب الشيوعي الذي دان الحرب عام 1939، من موقع «الانهزامية الثورية»، بوصفها مهمة رأسمالية، قبل أن يغير موقفه، بين ليلة وضحاها، مع غزو هتلر روسيا، ليلعب دوراً ناشطا في المقاومة والوطنية المناهضة للفاشية، لا بل يدعي احتكار البطولة بوصفه «حزب المقتولين بالرصاص» (le parti des fusille’s)، فضلاً عن البطولات التي استعارها من انتصار الجيش الأحمر وخص نفسه بحصة منها. وبنسيانه تأييده المبكر لمعاهدة مولوتوف-ريبنتروب، أصبح الحزب القوة الأساسية وراء تصفيات الحساب الثأرية مع متعاونين فعليين أو وهميين. وكان «التطهير» ‘l’epuration’، كما سمي، نشاطاً عديم الطهر، إذ أُخضعت القيم الأخلاقية لـ «العدالة الثورية» التي لم يكن أغلبها عدالةً، بل أفعال انتقام من مواطنين كثيرين ضُبطوا في أوضاع غامضة وملتبسة. وكان تصنيف التعاون قاسياً وشاملاً يعبر الحيز الشخصي إلى العام والسياسي، ويفسح في المجال لوشايات على الجيران والأصدقاء بعضها مفتعل أو مبالغ فيه، بما يدل إلى حجم التطلب الفرنسي لنوع من التطهر الذاتي.
حين انكسرت المرآة
كان ذلك جميعاً هو ما حرك الضمير الثقافي، فكان الأديب الكاثوليكي فرانسوا مورياك من أول الذين دانوا حملة «التطهير» هذه، تلاه ألبير كامو، الأديب الشيوعي سابقاً والمقاوم من موقعه كرئيس تحرير لإحدى صحف المقاومة، جريدة «كومبات». بيد أن تحول كامو لم يكن بسيطاً ولا بسيط الدلالات والمعاني الفرنسية. ففي سجال بينه وبين مورياك بعد التحرير، حول المتعاونين ومعاقبتهم، جادل مورياك، الذي قاتل في المقاومة وكانت له مساهمة أكبر من مساهمة كامو، مدافعاً عن اللين المطلوب من المحاكم التي شُكلت لمحاكمتهم. أما مساجلُه، صاحب الافتتاحيات النارية ضد الغزاة والمتعاونين معهم، فرفض العفو ولم يمانع في التخلص من بعض الجسد الحي لفرنسا في سبيل إنقاذ روحها. وفقط في 1946 اعتنق كامو موقف مورياك، وغدا يدين عقوبة الإعدام وسائر حملة الثأر والانتقام.
على أنه قرابة 1971، ابتدأت مرحلة أخرى «انكسرت المرآة» فيها، فشرعت التأويلات الرسمية تتعرض للمساءلة. وأخيراً، اختفت التحريمات القديمة وظهر علناً حجم الهوس بفيشي وبالتعاون مع الألمان مما استولى على الفرنسيين، حاملاً روسو على تسمية الظاهرة في مجملها «عقدة فيشي».
وفي سياق التحولات هذه، كان كلاوس باربي، رئيس الغستابو في مدينة ليون، أول من يُدان. فهو من يُعتَقد أن التعذيب الذي أنزله بجون مولان، لدى استجوابه، كان ما أودى به، علماً بأن بول توفييه، الرجل الدموي الذي ساعد الألمان جاهداً لقمع المقاومة، كان، في 1973، أول من تعرض للاتهام. وقد استثيرت مشاعر حادة في موازاة انفجار قضية توفييه ارتبطت بسياسات راهنة حينذاك. ذاك أن ما لفت النظر إليه كان عفواً أصدره الرئيس جورج بومبيدو، ثم شاع أن توفييه اختفى لسنوات في أديرة ومؤسسات دينية بعدما أعانه على اختفائه أصوليون كاثوليك.
معسكرات الموت
حوكم وحُكم بعض كبار رسميي فيشي جراء مشاركتهم في ترحيل اللاجئين من يهود أوروبا إلى معسكرات الموت، فشملت (حتى 1991) الرئيس السابق للبوليس الفرنسي رينيه بوسكيه، ونائبه في باريس جون ليغويي، وموريس بابون، الأمين العام السابق لشرطة مدينة بوردو في ظل الاحتلال الألماني لها، والذي تولى منصباً وزارياً وعدداً من المناصب المهمة في عهد ديغول، ثم وزارة الخزانة في عهد فاليري جيسكار ديستان في السبعينيات. وقد أثارت محاكمة بابون عدداً من الديغوليين الذين كانوا من قادة المقاومة فشهدوا لصالحه واعتبروا التهم الموجهة إليه تعبيراً عن «مازوشية وطنية» لدى شعبهم.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
ممارسات فيشي ضد اليهود تدخل فرنسا حرباً أهلية مصغرة وتفضح هشاشة نسيج الأمة
(الحلقة 5)
ضحايا لافال
القوانين الكثيرة التي أصدرتها فيشي، من دون أي ضغط ألماني، والتي تميز ضد اليهود، سهلت، للغستابو النازي، بطبيعة الحال، أمر اضطهادهم. وحسب عرض ميشال ماروس وروبرت باكستون في كتابهما 'فرنسا الفيشية واليهود'، فإنه خلال الأسبوع الأول من أكتوبر 1940، استثنت قوانين فيشي اليهود الفرنسيين من عدد من المهن، بما فيها التعليم والصحافة واحتلال منصب ضابط في الجيش أو موقع أعلى في الوظائف. وحُرم اليهود الفرنسيون من جنسياتهم كما سُمح لمدراء الشرطة بنقل اليهود الأجانب واللاجئين إلى فرنسا إلى معسكرات تجميع. وفي يونيو 1941 طالبت حكومة فيشي اليهود بالتسجيل لدى البوليس، ثم في يوليو 1942 طوق البوليس 12884 شخصاً منهم في باريس واعتقل سبعة آلاف ونقلهم إلى ملعب رياضي قضوا خمسة أيام فيه من دون طعام أو ماء أو مراحيض ومغاسل. وكل هؤلاء تقريباً قضوا في أوشويتز، كما اعتُقل سبعة آلاف آخرين ورُحلوا في أغسطس 1942 من المنطقة غير المحتلة بأوامر من رئيس الحكومة بيار لافال. والكثيرون من ضحايا لافال كانوا أطفالاً، علماً أن الألمان كانوا حددوا مواصفات تقضي بأن يكون المرحلون راشدين أقوياء البنية. كذلك نُهبت ممتلكات اليهود، وحينما استكمل الألمان احتلال فرنسا أواخر 1942، سُلم أسرى الحرب في فرنسا الجنوبية إلى الألمان. وبصورة متواصلة كان اليهود يرسَلون إلى أوشويتز بمعدل قطار أو قطارين في الشهر.
وكانت بلغت قسوة فيشي أن هرب ما بين 10 و15 ألف يهودي أجنبي من المنطقة غير المحتلة التي تسيطر عليها إلى تلك الأجزاء من فرنسا التي تحتلها إيطاليا، حيث وفر لهم نظام موسوليني درجة من الحماية. لا بل إن هناك، لا سيما مع تحول القمع من اليهود غير الفرنسيين إلى اليهود الفرنسيين، كهنةً كاثوليكاً بارزين دانوا سياسات فيشي اليهودية. إلا أن هذه المواقف راحت تقل بالتدريج، فلم يستقلْ أحد من حكومة فيشي احتجاجاً. وبدورها، كانت القطارات إلى أوشويتز تغادر في الأوقات المحددة لها حتى أن المقاومين الشيوعيين الذين سيطروا على حركة خطوط الحديد وشبكاتها لم يفعلوا شيئاً لمنع ذلك.
فضيحة مطنطنة لأمة
فقد مرت السياسة اليهودية لحكومة فيشي في طورين متكاملين: في الأول، كان التخلص من اليهود غير الفرنسيين بعزلهم واستبعادهم، وفي الثاني، تم نزع فرنسية اليهود الفرنسيين عنهم، من خلال دفعهم خارج الجماعة الوطنية ثم حرمانهم الجنسية وبعدها الممتلكات وفرص العمل، تمهيداً لتسليمهم إلى الألمان. صحيح أن اليهود الفرنسيين عانوا أقل مما عاناه يهود معظم البلدان الأوروبية المحتلة، ليس في الشرق كبولندا أو هنغاريا أو أوكرانيا أو كرواتيا، ومنهم استقت المحرقة معظم محروقيها، بل أيضاً من الغرب الأوروبي إذ قضى 75 في المئة من يهود هولندا و40 في المئة من يهود بلجيكا مقابل 25 في المئة من يهود فرنسا أو 80 ألفاً. لكن ما لا شك فيه أنه كان في وسع لافال إنقاذ الكثيرين لو لم يقم بتطويقهم وتسليمهم بغية تحسين علاقاته بالألمان، وهو ما تراءى له أنه يضمن سيادة الدولة الفرنسية التي ما لبث أن تبين أنها عبث محض. على أنه بالقياس إلى التاريخ الفرنسي الذي ساوت ثورته، للمرة الأولى في التاريخ، بين اليهود وسائر المواطنين، يبقى أن ما تعرض له هؤلاء فضيحة مطنطنة للأمة والدولة الفرنسيتين سواء بسواء، أو مصغر حرب أهلية لم يتسن خوضها لأن أحد طرفيها مهيض الجناح. وفي هذه الحرب كان مواطنون فرنسيون، بعضهم انقلب لاحقاً إلى مقاومين، يتواطأون على مواطنين آخرين، فضلاً عن يهود غير فرنسيين. أبعد من هذا في دلالته على الانشقاق الفرنسي أن ذهاب فيشي بعيداً في مراضاة الألمان على حساب اليهود الفرنسيين، كشف عن هشاشة غير مسبوقة آل اليها نسيج 'الأمة' الفرنسية ووحدتها، ما أتاح ظهور الأصوات المتعاونة 'إنقاذاً للدولة الفرنسية' على حساب الأمة تلك. وكان انشطار كهذا بين 'الأمة' و'الدولة'، أو بين صورتيهما، يرقى إلى تصدع عميق يضرب الدولة-الأمة التي شكلت أحد النماذج الرئيسة للدولة-الأمة الأوروبية. وقد اتخذت نظرية حماية الدولة ولو عبر التضحية بالأمة ووحدتها أشكالاً عملانية وفنية وجهازية ربما كان أبعدها دلالة التفاهم حول صلاحيات جهازي البوليس الألماني والفرنسي برئاسة رينيه بوسكيه. فحسب الاتفاق هذا، يتولى الفرنسيون تطويق اليهود لحساب الألمان، فيما يوافق النازيون، في المقابل، على الاعتراف بـ'يد طليقة' للبوليس الفرنسي في 'بضع مناطق... لا تؤثر مباشرة على الأمن الألماني'. وفقط في صيف 1943 بدأت قبضة فيشي تتراخى وبدأت الشرطة الفرنسية، بدورها، تتراخى في تطويق اليهود واعتقالهم لنقلهم إلى معسكرات الموت شرقاً.
مقاومون مهمشون
في المقابل، بات يبدو اليوم جلياً أن الذين شاركوا في التصدي المسلح للألمان إثر احتلالهم ثلثي فرنسا، قبل أن يحتلوها كلها في نوفمبر 1942، رداً على إنزال الحلفاء في شمال إفريقيا، لم تكن تجمع بينهم نظرية وطنية مناهضة وموازية لتلك التي رفعها الفيشيون. فهم، كما يصفهم باكستون، مجموعة متنافرة من إيديولوجيين وموظفين في أعلى الهرم الوظيفي ورجال أعمال وقادة عسكريين مهزومين وأعيان محليين، ليسوا بالضرورة شعبيين، وقبضة من قادة نقابيين معروفين بمناهضتهم الشيوعية.
ولئن كانت النخبة، بالمعنى العريض والبالغ العمومية للكلمة، مَن استجاب للمقاومة، إن لم يكن من أطلقها، في المنطقة المحتلة، تبعاً لما مثّله الوجود المباشر للجيش الألماني، ففي منطقة فيشي تمكن الماريشال بيتان من تحييد معظم النخبة ومن استمالة بعضها غير القليل، لاسيما في البيئتين البيروقراطية-الإدارية والاقتصادية. ولم يكن الخطر وحده ما واجهه المقاومون الأوائل هناك، بل شبكة من الضغوط الثقافية وغير الثقافية يتصدرها التوقير لبيتان، والخوف من تكرار النزف الدموي المهول الذي عرفته سنوات الحرب العالمية الأولى هناك، وخشية الفوضى الداخلية، والنفور من التجربة السياسية التي عرفتها الجمهورية الثالثة. لهذا فإن كثيرين من المقاومين الأوائل في منطقة فيشي أتوا من بيئات هامشية نسبياً، أو مهمشة، زادتها الحكومة المتعاونة تهميشاً، كاليهود والماسونيين والقادة النقابيين وأساتذة مدارس ذوي عواطف يسارية.
انحسار الولادات
يجوز القول، تالياً، إن نزاع الفرنسيين والألمان عشية الحرب العالمية الثانية وأثناءها لم يكن مجرد نزاع بين أمتين، كما كانت الحال في 1871 حيث بقي كوميون باريس 'الطبقي' هامشياً بقياس الحرب 'القومية'. لقد كانت مواجهة الأربعينيات، أيضاً وأساساً، نزاعاً ارتسمت حدوده داخل فرنسا نفسها أكثر مما ارتسمت بينها وبين البلد العدو. فقد اعتبر اليمين الفرنسي أن انحدار وطنه وتفوق ألمانيا أمر حتمي، وهو شعور لاح مبكراً في كتابات إيديولوجييه الشعبويين، كموريس بارس وشارل موراس، منذ ما قبل 1914، بل منذ قضية درايفوس. ولم يكن قليل الدلالة أن موراس حين حوكم، بعد التحرير، وحُكم بالسجن، تبعاً لثبوت تعاونه مع العدو، صرخ في المحكمة فيما كان يُنقل إلى الزنزانة: 'هذا هو الثأر لدرايفوس'. وقد جاءت انتصارات هتلر، من ناحيتها، تصلب ذاك العداء القديم لدى اليمين الفرنسي حيال الثورة الفرنسية: صحيح أن المَلكيين والنقابيين السابقين والبورجوازيين الكبار والتكنوقراط والصحافيين والموظفين الذين شكلوا تحالفاً غريباً من حول بيتان لم يكونوا بالضرورة مؤيدين للنازية كإيديولوجيا عرقية وكأداة في التنظيم السياسي والثقافي، بيد أنهم كانوا يقصدون حقاً ما قالوه حين أعلنوا تفضيلهم هتلر على بلوم.
والراسخ ان فيشي بدأت مثالاً عن الحاجة الفرنسية التقليدية إلى 'النظام'، وهو تحديداً ما يفسر لماذا وُلدت شعبيةً وجماهيرية التأييد، مثلما يفسر سبب عدم نشأة المقاومة فور اكتساح الجيش الألماني الخطوط الفرنسية. فالمواطنون التفوا، على نطاق واسع، حول بيتان، وقد أدركه الهرم مع الحرب الثانية، إذ وعد بإنقاذ فرنسا وتعزيز مؤسساتها الرسمية والثقافية. هكذا هللت أكثرية من الفرنسيين له وتقبلت تجاوزاته على الحقوق الفردية وإجراءات قمعه الثقافي. ولم تقصر البيتانية منذ بداية الحرب الثانية في مخاطبة الحساسيات الرجعية والكاثوليكية على أنواعها. فالتحول الديموغرافي وانحسار الولادات، مثلاً، شكلا ذريعتها للعزف على أوتار العائلة والأمومة المقدستين حيث أُكد على الأولى كواجب قومي، وهو ما عززه صدور قانون في 15 فبراير 1942 يجعل الإعدام عقوبة الإجهاض، وفي ديسمبر من العام نفسه، مُرر قانون آخر ضد الزنى، مع عقوبات خاصة تطال نساء سجناء الحرب، فيما رُفع عيد الأم إلى يوم وطني. كما أبدت فيشي اهتماماً بالهندسة الثقافية والبيولوجية ووعدت بتحسين نوعية 'الإنسان المتمدن'.
العثور على ديغول
وفي الجانب الآخر كان هناك الشيوعيون. فما بين سقوط فرنسا والغزو الألماني لروسيا، تعاظمت حدة نقدهم لحكومة فيشي التي اعتبروها تجسيماً للإكليركية والرجعية الإيديولوجية والطبقية، وهي كانت بدورها تمضي في اضطهادهم. لكنْ فقط بعد مهاجمة الاتحاد السوفييتي، كف الشيوعيون عن إدانة الحرب نفسها كصراع بين إمبرياليين تتبادل فيها بريطانيا وألمانيا دور الأشرار.
هكذا استغرق الدمج بين الوطنية اليمينية، المتفهمة إلى حد ما لفيشي، وبين معاداة فيشي الإيديولوجية والطبقية التي تحولت إلى موقف وطني، بعض الوقت. وفي هذه الغضون بقيت المقاومة أقرب إلى خيار فردي: فأحزاب ما قبل الحرب ونقاباتها حلتها فيشي، لا بل كفت عن الوجود. حتى الحزب الشيوعي، المحرج بالمعاهدة النازية-السوفييتية والذي يقيم قائده موريس توريز في موسكو، بدا فاقداً كل تماسك حتى أنه سمح للأمناء العامين في المناطق بأن يبادروا هم أنفسهم تبعاً لما يرتأونه.
ويبين كيدوارد التنوع الاستثنائي للمقاومين الأوائل. ففي الفترة التي تلت الوقوع على ديغول، أواخر 1942، بوصفه القائد الرمز لمقاومة مناطق فيشي، أظهرت المقاومة بطولات وتكبدت ضحايا هائلة، لكنها أيضاً، ومع أزوف التحرير، كانت صفوفها تعج بالانتهازيين والوصوليين من كل نوع، وما لبثت أن قتلت إعداماً آلافاً من الفرنسيين لم يكونوا كلهم متعاونين. وكان للعثور على ديغول رمزاً مشتركاً يعوض عن فقدان اللحمة الجامعة بين المقاومين بقدر ما يزيد في استبعاد تلك اللحمة ويقلل الحاجة إليها.
فالتباين بين مقاومتي المناطق المحتلة ومنطقة فيشي كان قد انضاف إلى التباين بين مقاومة الداخل ومقاومة الخارج كما ابتدأها ديغول. وبالضبط لأن المقاومة لم تكن مرة موحدة، فهذا ما لعب دوره البارز في الحؤول دون صدور رواية مرجعية واحدة عنها، في مقابل شيوع الإجماع الفولكلوري حولها.
صلابة يوغوسلافية
ولم تكن أكثرية الفرنسيين، من ناحية أخرى، مؤيدة للمقاومة، والعكس أصح. فالجمهورية الثالثة عاشت، في ما بين الحربين، في أزمة متواصلة قبل أن تضع الهزيمة في 1940 حداً نهائياً لها. وقياساً بيوغوسلافيا ومقاومتها، جاءت المقاومة الفرنسية متأخرة زمناً وأصغر حجماً وأقل فعالية بلا قياس. لا يغير في هذا توحيد جان مولان لمعظم فصائلها المتناثرة في 1943، عشية اعتقاله وموته تحت التعذيب. وهذا مع العلم أن يوغوسلافيا كانت هي الأخرى مجزأة قبل الحرب، كما وجد في كرواتيا بعض أشد المتعاونين مع هتلر حماسة. بيد أن سبب الفارق بين المقاومتين أن تلك اليوغوسلافية استندت إلى قواعد تنظيمية صلبة أعوزت زميلتها الفرنسية: فمن الجيش النظامي أقام الجنرال درازا ميهايلوفيتش قواته المقاومة التي عُرفت بـ'الشتنِكس'، ومن الحزب الشيوعي شكل جوزيف بروز تيتو مقاومته التي عُرفت بـ'الأنصار'. وقد أعطت هاتان البُنيتان المرصوصتان المقاومة اليوغوسلافية مضموناً لم تحظ به معظم الحركات المماثلة، لاسيما الفرنسي منها. فهذه الأخيرة إنما افتقرت إلى البنى المؤسسية لأن الجيش، على رغم محاولات قبضة من ضباطه، تمسك بالنظام والتراتُب في مرحلة من القلق والضياع. وبدوره، عمل النظام والتراتب هذان على ربطه بقرار الماريشال بيتان، وهو بطل الحرب العالمية الأولى وتحديداً معركة فردان في 1916، القاضي بإبقاء فرنسا خارج الحرب. وأما الحزب الشيوعي فلم يكن جاهزاً في 1940، جزئياً بسبب المعاهدة النازية-السوفييتية عام 1939، وجزئياً لأن سلطات الجمهورية الثالثة، ثم حكومة فيشي، اعتقلت قيادته وشتتتها، فضلاً عن أن الخط الرسمي للحزب وجه نيرانه آنذاك إلى فيشي أكثر مما إلى الألمان، على عكس معظم قوى المقاومة، وخصوصاً إلى البريطانيين والديغوليين ممن اتهمهم بإطالة 'حرب إمبريالية' لا فائدة منها.
خطايا الجمهورية ونهاية الأعيان
وضع روديريك كيدوارد كتاباً عنونه 'المقاومة في فرنسا الفيشية: دراسة في الأفكار والحوافز في الإقليم الجنوبي، 1940-42' هو ليس تأريخا للمقاومة المبكرة بقدر ما هو تفحص للأسباب التي دفعت إليها في المناطق غير المحتلة رسمياً التي حكمتها فيشي، وللطرق التي سُلكت وصولاً إلى تلك المقاومة. وفي تركيزه على أفرادها يعتمد كيدوارد أساساً على الصحافة والمذكرات كما على المقابلات. والقصة التي يرويها تكاد تكون مألوفة جداً: فهناك بضعة أشخاص كانوا لسنوات إما معادين لألمانيا وإما معادين للنازية، ومعارضين لسياسات الممالأة لبرلين. وكثيرون من هؤلاء كانوا كهنة أو مطارنة، كرجل الدين المسن في تولوز، سالييج، وآخرون كانوا ديمقراطيين مسيحيين، وبعض ثالث، كهنري فريناي، كانوا عسكريين. لا بل إن بعضهم تبعوا الإيديولوجي الملكي واليميني شارل موراس، ثم ساءهم ما اعتبروه انقلاب بطلهم نحو ممالأة الألمان بعدما قضى عمراً يحبر كتابات مناهضة لهم. ومعظم هؤلاء تصرفوا كوطنيين، رافضين الإقرار بانتصار ألمانيا المذل وبسيطرتها على عاصمتهم باريس. لكن هؤلاء في أغلبهم حافظوا على موقف حيادي حيال فيشي وبعضهم ظل، حتى أواسط 1941، يراهن على وطنية بيتان. من هؤلاء مثلاً مؤسس ورئيس تحرير مجلة 'إسبري' الكاثوليكية، إيمانويل مونييه، الذي ظن أن توافق بيتان مع بعض طروحاتهم الإيديولوجية قد يثمر شيئاً إيجابياً ينجم عن 'ثورته الوطنية'. لكن الأمل، بطبيعة الحال، خاب.
وآثرت البيتانية، من موقعها، استئناف المعركة بالإفادة من العامل الألماني، في ألمانيا أولاً ثم في فرنسا نفسها. أما الهدف فمعاقبة أولئك الذين، في عهد حكومة 'الجبهة الشعبية'، أخافوا الطبقات المالكة، ولو أنهم فعلياً لم يؤذوها. فإذا صح أن الجمهورية الثالثة تميزت بـ'نهاية الأعيان' التقليديين، أي ملاكي الأرض وبورجوازيي الأرياف، فإن فيشي كانت ارتدادهم الثأري، ومن ثم أكبر الثورات المضادة الفرنسية، وكان بيتان، بالتالي، رمزاً للتكفير عن خطايا الجمهورية. وفي المعنى هذا حققت فيشي، أقله في السنوات الأولى للحرب، نجاحاً واضحاً عكس نفسه على شكل المقاومة وقدراتها وتفاوت تركيبها.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
الحرب الجزائرية تطلق رصاصة الرحمة على الجمهورية الرابعة الفرنسية وتصيب في مقتل نزعتها الإمبراطورية
(الحلقة 6)
تيارات المد والجزر
لقد طغى التفاوت على اصطفاف الفرنسيين حيال المقاومة وحيال الاحتلال. ذاك أن قطاعات ثقافية عريضة استفادت منه في مقابل قطاعات دفعت ثمنه. فأصحاب الدكاكين والفلاحون وكبار البيزنس جنوا مكاسب شتى، ولو أنها غير متكافئة. ولئن تمكن صناعيون فرنسيون من أن ينتجوا مواداً للاستهلاك الألماني، فقد وسعهم تبرير ذلك الشكل من التعاون الاقتصادي بتوفير العمالة للعمال الفرنسيين، وبعد 1943 بإنقاذهم من العمل الإكراهي في مصانع الحرب الألمانية. وعلى العموم استحسن الصناعيون الفرنسيون عداء حكومة فيشي للنقابات بعد تجربتهم مع حكومة 'الجبهة الشعبية'، بينما انشد الكثيرون من الكاثوليك والفلاحين إلى 'الثورة القومية' لفيشي.
وفي المقابل، وعلى ما برهن ريتشارد كوب في كتابه 'فرنسيون وألمان، ألمان وفرنسيون'، أصاب الاحتلال بأضراره فئات تصدرها عمال المدن المأجورون، وكان لعمال سكك الحديد وعمال المناجم وأساتذة المدارس واليسار الكاثوليكي حصة ملحوظة جداً في المقاومة.
وتنوعت، في هذه الغضون، السلوكيات التي سلكتها الفئات والشرائح الثقافية حيال المقاومة، وهي سيرورة معقدة انطوت على مسار تراكمي أنتجته ظروف لا صلة لها بأي يقظة أو كرامة وطنيتين قدحهما الاحتكاك بالاحتلال. فكما بات معروفاً، حصل تحول تدريجي من التأييد الضخم لبيتان في صيف 1940 وشتائه وصولاً إلى تعاظم العداء لنظامه الذي شرع يتداعى ربيع 1944. وكانت لحظةً مهمة في تحول الرأي العام عودة لافال إلى الحكم في أبريل 1942، خصوصاً أن انتهاك الحقوق وصل إلى درجة تتعدى كل تخويل من مؤيدي فيشي وبيتان لهما. وفي هذا المناخ بات ترحيل اليهود عبر تسليمهم يوسع إطار النقمة الفردية التي كانت تؤثر السكوت قبلاً، حتى غدت بعض المناطق تعتز بأنها تحمي يهوداً فارين.
فمراحل نمو التذمر، ومن ثم المقاومة، تخالف الرواية الخطية الصاعدة لولبياً والتي بنتيجتها صار المقاومون، في 1944، أكثرية الشعب الفرنسي. ذاك أنه، وعلى عكس السيناريو البسيط، نقع على كثير من المد والجزر قبل ذاك التاريخ. وعلى العموم لم يتنبه الفيشيون إلى نتائج أفعالهم إلا متأخرين، حين شرع كثيرون منهم يتراجعون مذعورين، وبعضهم ينضم إلى المقاومة. وراح الفرنسيون بالتدريج يكتشفون هتلر ومعنى وجود جيشه في بلادهم، فينفضون عن حكومة فيشي وينصتون للحلفاء والديغوليين والشيوعيين معلنين توقهم إلى 'الحرية'. وكان كلما ضعفت قبضة بيتان على الوضع الداخلي وزادت شراسة الألمان، تبدى لهم هزال فيشي وهزال القوة التي زعمتها لنفسها في تحالفها مع هتلر.
تطهير المدارس والنقابات
سياسة بيتان ولافال الخارجية لم تنم فقط عن سوء تقدير لحصيلة الحرب، بل عجزت عن أن تضمن للفرنسيين أوضاعاً اقتصادية افضل من تلك القائمة في سائر بلدان أوروبا الغربية المحتلة التي لجأت حكوماتها إلى لندن. ذاك أن معدل التضخم ومستوى المعيشة في فرنسا الفيشية كانا في رداءة بقية أوروبا الغربية إن لم يكنا أردأ. والحال أن الآثار الاقتصادية للاحتلال كانت مخيبة لآمال الذين رحبوا بانهيار الجمهورية. وفي 1943 بات يُرسَل إلى المانيا، بهمة لافال أساساً، عمال من فرنسا أكثر مما بات يُرسَل اليها من بولندا.
وربما صح القول إن حكومة فيشي نفسها كانت العنصر الأقوى وراء المقاومة: فهي وافقت عملياً على ضم الإلزاس واللورين إلى ألمانيا واعتقلت أو دانت، حتى قبل انعقاد المحاكم، قادة كليون بلوم ودالادييه، وطهرت المدارس من أساتذتها والنقابات من ناشطيها واضطهدت الماسونيين الفرنسيين، فضلاً عن اليهود. هكذا أثار بيتان غضب ومعارضة الاشتراكيين والراديكاليين ونقابيي اتحادات العمل اليسارية والكاثوليكية واللاجئين من المناطق الشمالية والشرقية التي احتلها الألمان وبعض رجال الدين البروتستانت والكاثوليك الذين أرعبهم تمادي ما نزل باليهود.
بيد أن فاعلية المقاومة تعرضت، في هذه الغضون، للتضخيم والمبالغة أيضاً. فقد أثار مؤرخ عسكري ألماني، شاب يومها، إسمه هانس أومبرايت، ضجة وتوتراً شهيرين في مؤتمر دولي حول تحرير فرنسا عُقد في باريس في 1974، حين رصد ردة الفعل الألمانية على المقاومة تبعاً للأرشيفات العسكرية للجيش النازي. هكذا وجد أن الجيش والبوليس لم يلحظا للمقاومة وجوداً جدياً يُذكر حتى أواخر 1941، وأنهما، حتى أواخر 1943، كانا يتركان معظم أمرها للشرطة الفرنسية. بعد ذاك، وحتى في 1944، ظل تركيزهم منشداً على قوات الحلفاء. لكنْ فقط إبان التقهقر في يوليو 1944، بدأ يُحسب للمقاومة حساب فعلي في العمليات العسكرية الألمانية.
«شرف فرنسا» والإقصاء الثقافي
وبدوره، يستخلص هنري مايكل، في عمله عن المقاومات الأوروبية للفاشية والغزو، المعنون 'حرب الظل: المقاومة الأوروبية 1939-1945'، أنه ما من مكان سجلت العصابات نجاحاً حاسماً إبان الحرب العالمية الثانية، وانه في كل الحالات، فإن البلدان التي عاشت حروب عصابات، دفعت أثماناً باهظةً كان يصعب على السكان تحملها، وكانت لا تلبث، بالتالي، أن تفاقم الطابع الخلافي لتلك الحروب.
فالفيشية، إذن، لم تكن نبتة غريبة عن 'فرنسا المقاوِمة'، لا سياسياً ولا ثقافياً. يشهد على هذا أن أحد أبرز روائييها في القرن العشرين، لوي فرنان سيلين، هو من كتب، بين 1937 و1941، عدداً من المناشير اللاسامية قبل أن يهرب، في 1944، إلى ألمانيا، وبعد سقوط النازية، في العام التالي، إلى الدنمارك. ولئن صُنف سيلين 'متعاوناً'، وحُكم غيابياً بالسجن كما طاله نوع من الإقصاء الثقافي، فقد ارتكز دفاعه عن نفسه على 'ضرورة' تحذيره الشعب الفرنسي من حرب أخرى بعد ويلات الحرب العالمية الأولى.
وليس مصادفة أن الفيشية خلفت، بعد سقوطها، بعض قادة فرنسا المحررة ممن بدوا قادرين على مواكبة الحاجات الفرنسية لزمن جديد، أي الخبراء التكنوقراط ورجال البيزنس والبيروقراطيين الذين استمروا في مواقع سلطوية ونافذة. فهم لتلوثهم بفيشي، ولكنْ لعدم القدرة على الاستغناء عنهم في إدارة الأمور العامة والاقتصادية، تُرك لهم أن يخدموا القادة الجدد، وأغلبهم غير مجرب جاء من صفوف المقاومة وجيش فرنسا الحرة. أما الضحايا الرئيسيون للتحرير فكانوا الفيشيين القدامى ممن تجاوزتهم سوية التقدم الفرنسي، خصوصاً منهم المثقفين والدعائيين ممن قل نفعهم بعد الثلاثينات الأوروبية.
كان عدد ضخم من رموز فيشي السياسيين قد ابتدأ حياته العامة إبان الجمهورية الثالثة، وفي متنها العريض، بمن فيهم لافال نفسه. وبالمعنى ذاته، فإن الشبه بين رمزي التعاون والمقاومة، أي بيتان وديغول، لم يكن عادياً. فالثاني خدم تحت إمرة الأول، وتشَّرب الإيديولوجيا العسكرية-القومية إياها، كما كنّ له إعجاباً كبيراً بوصفه بطل فردان وحامي 'شرف فرنسا' في الحرب العالمية الأولى. وكان ديغول مثله، على ما يروي بإسهاب جان ريمون تورنو في 'أبناء فرنسا: بيتان وديغول'، متأثراً بكتابات بعض فاشيي الثقافة الفرنسية كبارس وبيغوي وسائر الذين كتبوا وبشروا قبل 1914، لكنه في 1940 نصب نفسه رمزاً بيتانياً مضاداً لبيتان، حتى إذا انتهت الحرب سعى ديغوليون أقلقتهم قوة اليسار، أو صعود الولايات المتحدة، إلى استعادة دعم بعض المحافظين البيتانيين، مغازلين 'وطنيةَ' بيتان ومصالحينها. وفي المعنى هذا دان ديغول فيشي بوصفها حكومة غير شرعية غير أنه، منذ 1944، قبل التعاون مع رسميين فيشيين بدوا له ممن لا غنى عنهم لتسيير أمور الدولة من جهة، وللحد من نفوذ الشيوعيين كما الأميركيين من جهة أخرى.
الانشقاق يصنع هالة المقاومة وديغول
وإذا كانت مقاومة النازية قيمة عظمى بذاتها، فهذا لا يقيم، بالضرورة، قطيعة قيمية مبرمة بين المتعاونين والمقاومين. فلا الأولين يندرجون في نظام يؤرجحهم بين القومية والعنصرية، ولا الأخيرين يندرجون في نظام نقيض تمتد رقعته من الوطنية إلى القيم الانسانية الجامعة. ذاك أن بول أوساريز، مثلاً، الذي كان من كبار ضباط ديغول في الحرب العالمية الثانية تحول، أواسط الخمسينيات، إلى أحد أبرز جلادي الجزائر.
وتدلنا سيرة سياسي كجورج بيدو إلى مساحة عريضة من قيم مشتركة، أو إلى مآلات بالغة التطرف والتناقض قد تنجر عن المقاومة، وكيفية فهمها، مما يصعب التكهن سلفاً به.
فبيدو، أستاذ التاريخ والصحافي المسيحي الديموقراطي قبل الحرب العالمية الثانية، وذو السجل الناصع في معارضة الفاشية، ما لبث أن أصبح أحد قادة المقاومة الفرنسية. فقد انتُخب لخلافة جان مولان، أول رئيس للمجلس الوطني للمقاومة، إثر موته التراجيدي. وبقي بيدو، كذلك، أبرز سياسيي المقاومة طوال سنة طويلة ومرعبة دامت من صيف 1943 حتى التحرير. وقد تعاون مع الشيوعيين الذين قبلوه، وكذلك مع ديغول في الجزائر والذي، بعد عودته المظفرة إلى باريس، سماه وزيراً للخارجية. وبدوره، أسس بيدو أول حزب مسيحي ديموقراطي في فرنسا عُرف بـ'الحركة الجمهورية الشعبية' (mrp)، وتولى رئاسة الحكومة مرتين في 1946 و1949، كما ظل، بصورة متواصلة حتى معركة 'ديان بيان فو' في فيتنام عام 1954، التي أزالت النفوذ الفرنسي من الشرق الأقصى، يتقلب بين وزارة الخارجية ونيابة رئاسة الحكومة. وهو اشتهر بمعارضته أي تنازل يُقدم للحركات القومية والوطنية التي تضعف وتهدم الامبراطورية الفرنسية، لاسيما الوطنية الجزائرية. ومن موقعه هذا دعا ديغول إلى العودة إلى السلطة حينما تمرد، في مايو 1958، المستوطنون والجنود في الجزائر ضد الجمهورية الرابعة. والمعروف أن الديغوليين، منذ 1946 حتى ظفرهم في 1958، ظلوا يعارضون حكومات الجمهورية الرابعة الضعيفة والتي كانت المسألة الجزائرية تفاقم ضعفها وضعف الإجماعات التي تنهض عليها. وحتى الاشتراكيون شاركوا في الدعوة إلى عودة ديغول إلى الحكم لتجنب حرب أهلية، ما يسمح بالقول إن الانشقاق الفرنسي ما صنع هالة ديغول بقدر ما صنع هالة المقاومة.
لكن بيدو ما لبث أن اكتشف أن السياسة الجديدة للجنرال حيال المستعمرات نقيض ما كان يأمله منه. هكذا غدا واحداً من معارضيه الألداء، فدعم الجنرالات والكولونيلات الذين حاولوا الإطباق على الجمهورية الخامسة مثلما أُطبق على الرابعة. وذهب بيدو أبعد، فكاد يشكل مجلس مقاومة جديداً مانحاً بركته لمنظمة الجيش السري (oas) الإرهابية التي باشرت عملها التخريبي في الجزائر وفرنسا إبان 1961-1962. لكنْ مع انهيار الجنرالات ربيع 1962، غادر فرنسا، وفي صيف ذاك العام نُزعت حصانته البرلمانية فاستقر به المطاف في البرازيل، بعد محاولات فاشلة للعثور على منفى في أوروبا. هناك وضع قائد المقاومة السابق كتاباً هو مجرد دفاع عن الماضي الكولونيالي، بأفق قومي بالغ الضيق والتحجر لا يسعه مطلقاً تخيل الحركات الاستقلالية للشعوب الأخرى. فهو لا يقر أي أمة ما عدا تلك الأمم ذات الماضي الاستقلالي المديد. وقد سبق له، لهذا الغرض، أن أيد الحرب الفرنسية في الهند الصينية فحين صار الوضع ميؤوساً منه، طلب التدخل العسكري الأميركي.
رصاصة الرحمة
ولئن لم تنجح الجمهورية الرابعة في مواجهة المسائل الثقافية المتفاقمة، فإن عدم استقرار حكوماتها الائتلافية هو ما زاده سوءاً ذاك الدستور الذي عمل عامداً على إضعاف الموقع التنفيذي، وهو ما وشى بقلق جمهوري عريق حيال النزوع الرئاسي الديكتاتوري، يمتد من بونابرت إلى بيتان. فقد أعطى نظام التمثيل النسبي، كما اعتُمد حديثاً، نفوذاً غير متوازن لبضعة أحزاب سياسية مسيطرة من دون أن يتيح لأي منها القدرة على تشكيل حكومة مستقرة بمفرده. وفي هذه الغضون كان صعود حزب شيوعي قوي يقسم البلد بحدة ويهدد، حتى 1948 على الأقل، بنشوب حرب أهلية. هكذا لم يكن مفاجئاً أن تعود، بعد شهر عسل قصير، عداوات ما قبل الحرب إلى الواجهة. فـ'العمل الفرنسي' بقيادة شارل موراس عاد مجدداً باسم جديد، مع أن موراس نفسه كان يتعفن في سجنه، كما عادت بعض التعبيرات الفاقعة في لاساميتها. حتى القيادي والمقاوم الشيوعي جاك دوكلو لم يجد ما يصف به بيار منديس فرانس أفضل من 'يهودي صغير مذعور'.
مع ذلك فالجمهورية الرابعة لم تكن بلا إنجازات، وبعضها كان كبيراً كمشاركة فرنسا يومذاك، من خلال وزير خارجيتها روبير شومان، مشاركة نشطة في ولادة الجماعة الأوروبية، أو كتحديث الكثير من وسائل إنتاجها وطرقها في التوزيع العائدة إلى القرن التاسع عشر، وهو ما استثار في مواجهته شعبوية بيار بوجاد، زعيم الحِرَفيين وأصحاب الدكاكين الديماغوجي. وفي النهاية، وفي أواسط الخمسينات، راح يتضح أن الحرب الجزائرية تطلق رصاصة الرحمة على الجمهورية المذكورة، وهو ما حصل في 1958. لكن السجال بين نزعة التقدم غير الإمبراطورية، وبين النزعة الإمبراطورية التي احتواها، على نحو محوَّر، تقديس المقاومة، استمر مذاك ويستمر إلى يومنا هذا.
العوز حالاً والخبز مطلباً
حين غادر بيدو بلده في 1958، كانت تربطه صلات بكثيرين ممن كانوا فاشيين أو فيشيين سابقين التحم بهم ديغوليون سابقون، كجاك سوستيل، حاكم الجزائر العام الذي عُرف بقسوته الفائضة، أو الجنرال موريس شال، قائد القوات الجوية الذي قاد التمرد على سياسة ديغول الجزائرية. وهؤلاء وجدوا في رفض ديغول طاعة رؤسائه عام 1940 مصدر استلهامهم في تمردهم التالي عليه.
لقد وُلد التلفيق الفرنسي لـ'الوحدة' ولـ'المقاومة' ضعيفاً لا يقوى على الصمود. فالبنية التحتية للاقتصاد الفرنسي سريعاً ما بدأت تحصد نتائج إهمال متراكم، وهو ما تبين جلياً بُعيد الحرب مباشرة حين ارتفعت إلى ما يقارب الضعف نسبة الحوادث المميتة في المصانع عما كانته قبل 1939، كما فقدت فرنسا ما يزيد على 20 ألف كيلومتر من سكك الحديد، ودُمر أو شُوه 2.6 مليون مكان للسكن من أصل مخزون إسكاني كان منذ ما قبل اندلاع الحرب متخلفاً عن الطلب. وظهر نقص جدي في المواد الغذائية، فما أزف شتاء 1945 حتى أحس الفرنسيون بجوع لم يعهدوه في أي شتاء سابق خلال الحرب، كما انخفضت أوزان العمال عموماً، وتراجع معدل طول الأولاد عما كانه قبل الحرب، فيما شهدت بعض البلدات الريفية أعمال احتجاج تطالب بالخبز.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
الطابع الاستيطاني القاسي للجيش الفرنسي المتغطرس كشف عن الوجه العنيف الراديكالي لاستقلاليي الجزائر
(الحلقة 7)
حازم صاغيّة
مقاومات المقاومة الجزائرية
شكلت المقاومة مصدر الشرعية لدولة الجزائر المستقلة على تعاقب حكامها، وبات بلد 'المليون شهيد' (من أصل أقل من عشرة ملايين آنذاك) نموذجاً ملحمياً لثورات 'العالم الثالث' الاستقلالية. وكانت هذه الحقيقة سبباً بذاته لاستعصاء الجزائر طوال سنواتها الممتدة منذ الاستقلال على الشرعية الدستورية.
لقد كانت الحرب ضد فرنسا واستعمارها أهم مثيلاتها المناهضة للامبريالية بعد 1945 وقبل حرب فيتنام والهند الصينية. وكان أحد أسباب ذلك طابعها الاستيطاني الذي ضاعف تعقيداتها وأسبغ عليها قدراً استثنائياً من العنف والتنازع. فالفرنسيون، كما هو معروف، اعتبروا، على مدى 130 سنة، أن الجزائر جزء لا يتجزأ من بلادهم، مشمول بثقافتهم ولغتهم، كما أن أياً من الحكومات الفرنسية لم تجرؤ، ولسنوات عدة، على الانسحاب منها أو التخلي عنها خوفاً من رأي عام مدجج بالقناعة تلك.
وفي هذه الغضون كانت تركيبة الجزائر الفرنسية، كما تطورت منذ الغزو في 1830، قد شرعت تذوي، هي التي بسببها انشد إلى ذاك البلد سكان أوروبيون باتوا، في الخمسينيات، يفوقون المليون نسمة ويعدون قرابة عُشر إجمالي السكان. فمن أجل 'تهدئة' الجزائر، ذلك البلد الجبلي الذي تكاد مساحته تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا، كان على باريس إسكان مستوطنين أوروبيين فيه، معظمهم مهاجرون من إيطاليا وكورسيكا وإسبانيا ومالطا. وقد رأى أولئك المستوطنون الآتون من البلدان والمناطق المذكورة، والتي كانت لاتزال ضعيفة التشكل أو أسيرة الفوضى والاحتراب الأهليين، أن البلد الذي استقروا فيه صار منذ استقروا وطناً لهم، كما اعتبروا أنفسهم، بطريقتهم، جزائريين. ولئن كان جزء صغير منهم من ملاكي الأرض، فقد عاش الآخرون عيشاً متواضعاً في جوار جيرانهم المسلمين: فهم لم ينتسبوا، على العموم، إلى طبقات ثرية، بل انتسبت أكثريتهم إلى البورجوازية الصغرى بمزارعيها الصغار وحِرَفييها، من دون أن تفوق مستويات دخولهم ومعيشتهم متوسط المستوى الجزائري إلا قليلاً. غير أنهم، مع هذا، أحرزوا مكسباً بارزاً تميزوا به، مصدره التمتع بالجنسية الفرنسية. أما المسلمون فكي يحصلوا على الجنسية، كان عليهم أن يتخلوا عن الامتيازات التي تضمنها لهم الشريعة الإسلامية كمسلمين وذكور. وهذا التخيير الوثيق الصلة بالعلمانية الجمهورية في نسختها الفرنسية، إنما يقود، في الحساب الديني الإسلامية، إلى الردة، وجزاء الردة القتل. هكذا لم يقدم على فعل كهذا إلا آلاف قليلة منهم، فاستفادت 'الأقدام السوداء'، وهي التسمية التي أعطيت للمواطنين البيض، من ذلك الاستنكاف لتوطيد حصريتها الفرنسية، ضاغطةً بعناد من أجل محاصرة كل حق تمثيلي قد يُعطى لمسلمي الجزائر.
سنوات الفرز والاستقطاب
الراهن أن المستوطنين كانوا، بمرور السنوات، قد وسعوا الرقعة الجغرافية التي أقاموا فيها، فغادروا مزارعهم ودكاكينهم الصغيرة في المناطق الداخلية منتقلين إلى الجزائر العاصمة وإلى مدينة وهران التي فاق تعدادهم فيها تعداد المسلمين.
إذن كان وضع المستوطنين البيض هو ما ميز الحالة الجزائرية عن حالات أخرى كالفيتنامية مثلاً، حيث بقي البيض المقيمون هناك، طوال حياتهم، قلة قليلة جداً، أو عن كالحالة الروديسية حيث ظل البيض أقلية هزيلة عددياً، تفصلها عن الأكثرية فوارق وامتيازات اقتصادية هائلة تحتمي بها. لكنْ منذ 1956، والروايةُ دائماً لأليستر هورن في كتابه 'حرب وحشية من أجل السلام: الجزائر 1954-62'، بدأ الفرز والاستقطاب الحادان يطغيان على الحياة الجزائرية العامة فيما كان يضمر كل رهان على أطراف وسيطة أو قوى ثالثة. فإذ راح المستوطنون يعتنقون أفكاراً وخيارات أشد فأشد تطرفاً، حُمل السكان المسلمون، في الموازاة، على تأييد 'جبهة التحرير الجزائرية'. والجبهة، من البداية إلى النهاية، وعلى عكس جنوب إفريقيا لاحقاً بزعامة نيلسون مانديلا، وقفت ضد فكرة جزائر متعددة إثنياً ودينياً، لمصلحة جعلها بلداً مسلماً وعربياً لا يتمتع فيه أهل 'الأقدام السوداء' بأي حقوق. هكذا، وعلى رغم وجود أعداد ضخمة من المسلمين الجزائريين المتطوعين للعمل والقتال مع الفرنسيين، أبقي على الحرب دينية الطابع وعنصريته. وفي هذا المعنى ارتفع الإسلام إلى مصاف المحفز الأول والأهم للنضال الاستقلالي، بينما تداخلت وتلابست الهويتان الجزائرية والمسلمة على الصعيدين الفردي والجمعي في آن معاً.
وهذا لا يلغي أن الإقرار بـ'فرنسية' الجزائر قطع شوطاً معقولاً، لا سيما في أوساط النخبة الجزائرية ممن تلقى أفرادها العلوم الغربية الحديثة. فكان معظم رموز هؤلاء من 'المتطورين' (e'volue') المسلمين، حسب تسمية زمن لم يكن قد تخلص من التراتبيات العلموية والتطورية، ممن فضلوا المواطنية الفرنسية أو الحكم الذاتي من ضمن فيدرالية تجمعهم بفرنسا، بدلاً من نيل البلد السيادة والاستقلال الكاملين. وقد اشتهر أبرز سياسييهم فرحات عباس بعبارة تعود إلى 1936 حيث قال: 'لن أموت في سبيل الأمة الجزائرية لأنها لا توجد. لقد بحثت عنها في التاريخ فلم أجدها، وسألت عنها الأحياء والأموات وزرت المقابر دون جدوى'.
سياسات الحرمان والاستعلاء
لكن جيل الاستقلاليين الذي ما لبث أن ظهر وأطل على الحياة العامة، تكشف عن راديكالية وعنفية تفوقان كثيراً ما انطوى عليه مثلاؤه في تونس والمغرب، وهو ما يعود، في أغلب الظن، إلى الطابع الاستيطاني لاستعمار الجزائر وإلى قسوة النشاط الثأري والاستعلائي لجيش كولونيالي متغطرس كالفرنسي. وإلى ذلك، شعرت الكثرة الساحقة من فلاحي البلد وقبائلييه بضيق باب المواطنية والتمثيل السياسي، وبأنه لن ينقتح أمامها إلا مقابل كلفة باهظة جداً هي التخلي عن الشريعة الإسلامية في تنظيم الحياة العامة، وتخلي الرجل الجزائري عن الامتيازات التي يؤمنها له الإسلام في المكانة والزواج والميراث. لا بل ألم هذا الشعور المُر بالنخبة الجزائرية نفسها: ففي 1938 ظهر مشروع بلوم فايولي الذي كان يُفترض به أن يمنح المواطنية وحقوق التصويت لـ21 ألف شخص من أبناء النخبة إياها، لكنه ما لبث أن هُزم وسُحب من التداول. ثم أجرى الفرنسيون انتخابات في الجزائر عام 1948 كان بموجبها الصوت الفرنسي الواحد معادلاً لأصوات ثمانية جزائريين، عملاً بنظام الكلية الاقتراعية المزدوجة (double electoral college). إلا أن التفاوت هذا، على ضخامته، لم يبدُ مضمون العواقب للفرنسيين فزُورت النتائج بقصد حرمان الجزائريين من قطف ثمار ذاك التصويت المختل. وفي المقابل، لم تُبدِ أي من الحكومات الفرنسية استعداداً لتحدي المستوطنين كونهم كتلة اقتراعية مهمة في فرنسا، فيما كان يستفحل شعور هؤلاء بالتفرد والاستعلاء.
وفي مايو 1945، وفي سطيف، تحولت الاحتفالات بالانتصار في الحرب العالمية الثانية، إلى تظاهرة وحشية في مناهضتها لفرنسا. فقد ذُبح وقُتل أكثر من مئة أوروبي، فرُد بإطلاق النار على الحشود التي هاجت وأقدمت على ما أقدمت عليه. لكنْ بعد ذاك حصل أحد أسوأ وأقسى الأعمال الانتقامية في التاريخ الاستعماري كله: ذاك أن قاذفات القنابل الفرنسية هاجمت القرى بينما تولت السفن قصف مناطق سكنية آمنة. وعلى العموم، تراوحت تقديرات الذين قُتلوا من الجزائريين، بمعونة مسلحين من المستوطنين، بما بين ستة آلاف وخمسة عشر ألفاً. وقد اختير لإطلاق التمرد المسلح الذي غدا حتمياً، عيد 'جميع القديسين' الكاثوليكي من العام نفسه (1945)، ما لا يُخفي الدلالة الدينية الحادة للصراع، كما اختيرت جبال الأوراس مهداً للتمرد. وبقيادة الشاب أحمد بن بله، تأسست، في 1949، 'المنظمة الخاصة' بوصفها الذراع المسلحة لـ 'حزب الشعب الجزائري'، حزب الوطنية الجزائرية الذي أسسه مصالي الحاج، الأب اللاحق لـ'جبهة التحرير'.
'الحركي' بين قتل الجزائر وبؤس فرنسا
والحال أن الحرب، بمعناها الواسع والمفتوح، اندلعت صبيحة 1 نوفمبر 1954، فيما كان الجيش الفرنسي يلملم هزيمته في الهند الصينية بعد معركة 'ديان بيان فو' عامذاك، كما يبحث عما يعوضه عنها في مكان آخر، خصوصاً أن كبار الضباط الذين خدموا هناك نُقلوا إلى الجزائر، وكذلك المظليون الذين حصدوا للتو مذلتهم في المعركة المذكورة. وهي حرب قادتها 'جبهة التحرير' فلم تنته إلا في مارس 1962 مع توقيع اتفاقات إيفيان، بين فرنسا برئاسة الجنرال شارل ديغول والحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر، أو حكومة 'جبهة التحرير' في المنفى برئاسة فرحات عباس.
لكنْ حتى بالمعايير الدموية للحروب الاستعمارية بدت الحرب الجزائرية ذات قسوة بالغة. فقد قتل قرابة 300 ألف جزائري وخضع للتعذيب مئات الآلاف، كما هُجر أكثر من مليونين، كثيرون منهم أُنزلوا في مراكز محاطة بالأسلاك الشائكة. وأدت حملة 'التهدئة' الفرنسية إلى تدمير 8 آلاف قرية فيما قضى 24 ألف جندي فرنسي كما قتل الإرهاب الوطني آلافاً عدة من الجزائريين الفرنسيين. وحينما انتهت الحرب ذبحت الجبهة عشرات آلاف 'الحركي' ‘Harkis’، وعائلاتهم، وهم جنود جزائريون قاتلوا إلى جانب الفرنسيين وبلغ تعدادهم، مع أُسرهم، ربع مليون نسمة. وقد تعرض منهم للتعذيب والقتل وبتر الأعضاء ما بين 30 و150 ألفاً، لُف بعضهم، وهم أحياء، بالعلم الفرنسي قبل أن يُحرَقوا في واحد من أشنع صور النضالات الوطنية والتحررية وأشدها بدائية. أما القلة من 'الحركي' الذين استطاعوا الهرب إلى فرنسا، ولم يتجاوزوا الـ15 ألفاً، فأُسكنوا في أماكن معزولة ومخيمات بؤس تحولت لاحقاً، في السبعينيات، بؤراً للتوتر والشغب. وفي الحالات جميعاً كانت ضخامة حجم هؤلاء الذين اختاروا الوقوف إلى جانب فرنسا والقتال مع جيشها دليلاً صريحاً على ضعف نسيج الوطنية الجزائرية ومدى افتقارها إلى الإجماعات، لا سيما الإجماع على المقاومة، فكيف حين تضاف إليهم الكتلة الوازنة للجزائريين الأوروبيين؟
ميراث ديغول المُر
وكمثل الحكومة الفرنسية كان ألبير كامو ينتظر محاوراً يعتبره مقبولاً ويكون بمنزلة قوة ثالثة تستطيع فرنسا معها أن تفاوض في سبيل تسوية تحمي الأقلية الأوروبية في الجزائر.
وكما أدرك مراقبون أكثر برودة كريمون أرون، فإن قوة ثالثة كهذه لا توجد وسط استقطاب من النوع القائم. ففي كتابه عام 1957 'المأساة الجزائرية'، وكما ينقل عنه جيمس لو سور في كتابه 'الحرب غير المدنية: المثقفون وسياسات الهوية إبان نزع استعمار الجزائر'، جادل أرون بعدم وجود بديل مقنع عن انسحاب فرنسا. وهي الخلاصة نفسها التي انتهى إليها ديغول ذاته بعدما وصل إلى السلطة، عام 1958، فيما هو يعد بعدم التخلي أبداً عن الجزائر. وكان ديغول، في هذه الغضون، يستنفد البدائل ويمتحن الاحتمالات الأخرى، محرراً فرنسا مما سماه أرون 'نزف' الجزائر وحائلاً دون حرب أهلية في بلده نفسه. لكن ديغول بقراره الشجاع هذا خلّف ميراثاً مُراً، لاسيما بين أكثر من مليون جزائري أوروبي هربوا إلى فرنسا، معتبرين أن وطنهم الأصلي خانهم وخذلهم، وهو شعور شاركهم إياه كثيرون من الجنود الذين أُرسلوا إلى الجزائر للدفاع عنهم. هكذا وبعد محاولات فاشلة وتآمرية لإطاحته ولضرب الاستقرار في فرنسا، كما الجزائر، قامت، في أغسطس 1962، 'منظمة الجيش السري'(OAS) بمحاولة لاغتيال ديغول، وكادت المحاولة أن تنجح. والمنظمة المذكورة مجموعة إرهابية شبه عسكرية تشكلت من نضاليي 'الأقدام السوداء'، ومن الجنرالات الذين لم يسامحوا ديغول على 'تركهم' لمصيرهم.
والحق أن 'منظمة الجيش السري' التي شكلت آخر معاقل مقاومة 'الأقدام السوداء'، بأفق عنصري وفاشي ومغامر، كانت تخوض آخر معاركها في المدن التي وشت طبيعتها بطابع عملها اليائس. ففي 1958 استولى الرعاع البيض بدعم من بعض القادة العسكريين على مدينة الجزائر وهددوا السلطة المركزية في باريس، مطالبين بنظام جديد يضمن بقاء الجزائر فرنسية. وقد أسقطوا الجمهورية الرابعة إلا أنهم أتوا بديغول ليكون بطلهم المخلص. وبالتدريج، وكما سبقت الإشارة، تحول ديغول إلى اعتناق وعي عملي مفاده أنه لابد من التوصل إلى تسوية تكون مقنعة للجزائريين. وإذ أدرك السياسيون والجنرالات أن قائدهم وقدوتهم يخونهم، نزعوا إلى التمرد باسم 'الجزائر الفرنسية'، فتصدى ديغول لتمردات ثلاثة متلاحقة وأحبطها تباعاً: 'المتاريس' في 1960، و'عصيان' الجنرالات في 1961، وأخيراً محاولة الانقلاب في 1962.
ثورة الأرياف
في المقابل، جاء معظم القادة التاريخيين لـ'جبهة التحرير' من صفوف الطبقة الوسطى، حيث الفرنسية لغة البيت والمدرسة، ثم باشروا الحياة العامة من خلال 'حركة الانتصار للحريات الديموقراطية' (MTLD)، وهي حركة استقلالية قادها مؤسس 'حزب الشعب الجزائري' مصالي الحاج، الذي وضعته ظروف لاحقة وجهاً لوجه مع أبنائه وتلامذته في 'جبهة التحرير'. ولم يُعدم الذين أشاروا إلى تفاوتات عدة انطوت عليها حركة المقاومة الجزائرية: فقد ركز بعضهم على أن تفسخ النخبة الثورية إنما نجم عن دخول أفرادها معترك الأفكار والولاءات السياسية في أطوار مختلفة من تاريخ العمل الوطني. ولهذا نراهم وقد طوروا قناعات وتصورات متباينة في ما خص الليبرالية والراديكالية والثورية والنزعة التكنوقراطية وبقية المفاهيم المتداولة. وهذه وجهة نظر دافع عنها وليم كوانت في كتابه 'الثورة والقيادة السياسية: الجزائر 1954-68'، بينما رأى سمير أمين، في 'المغرب والعالم الحديث'، أن الثورة كانت بين 1954 و1960 ثورة أرياف تذكر بانتفاضة 1871 التي قادها عبد القادر الجزائري، لكنْ من ذاك الحين دخلت المدن إلى حلبة الثورة.
وفي الحالات جميعاً كان شبان الجبهة صغار السن نافذي الصبر تحرقوا إلى العمل المباشر بغض النظر عن مدى نضج الظروف المحيطة بعملهم. والظروف لم تكن ناضجة في 1954 بدليل أن الثوريين أولئك لم يشكلوا غير أقلية وسط الجزائريين. وكان لهذه الإرادوية التي عبروا عنها أن أوكلت إلى العنف دوراً مميزاً اتسم به التاريخ الجزائري اللاحق، صابغةً ذاك التاريخ بنزعة استبدادية وسلطوية قصوى.
عبثية العنف
لقد انطوت الحرب الجزائرية - الفرنسية على أبعاد لم تملك مثلها أي من الحروب الاستقلالية ما خلا تلك الفيتناميةالأميركية في الستينيات. وكان لهذه الأبعاد أن تعدت السياسة إلى الثقافة والمثقفين. فهي خلقت انقسامات حادة داخل فرنسا نفسها مؤذنة بنهاية الجمهورية الرابعة وملوّحةَ باحتمال اندلاع حرب أهلية في بلد المتروبول. ذاك أن مثقفي اليسار رأوا في المستوطنين فاشيين محليين، وذهب بعضهم إلى حد العمل مع المقاومة الجزائرية السرية وتبييض الأموال لها، معتبرين أنهم، بدعمهم ثورة الجزائر، يعبرون عن الوفاء لقيمهم الجمهورية ولمناهضة الفاشية، بينما رأى قليل منهم أن نجاح ثورة الجزائر يقصر طريق فرنسا إلى الثورة الاشتراكية. وبرز في هذا المجال خصوصاً جان بول سارتر الذي وقف في مقابله ألبير كامو: فهذا الأخير بعد أن شارك في المقاومة وعاش في الجزائر فقيراً من فقراء وهران، وعرف البلد والشعب، بطبيعة الحال، أكثر بكثير من سارتر، حذر من عبثية العنف ومن الأهداف السلطوية والاستبدادية لـ'جبهة التحرير'، مجادلاً بأن الأمل الوحيد للجزائر يكمن في مصالحة وتفاهم بين الفرنسيين والجزائريين. وقد ناضل كامو دفاعاً عن موقف إنساني، شاجباً العنف من الطرفين ومستخدماً ما وسعه من نفوذ أدبي وعلاقات شخصية لإخلاء عدد من الوطنيين الجزائريين من سجون فرنسا. وفي يناير 1956، دعا إلى 'هدنة مدنية' تنحصر، بموجبها، الأعمال العنفية للحكومة الفرنسية و'جبهة التحرير' في أهداف عسكرية بحتة. لكن أحداً، وسط ذينك الاستقطاب والاستنفار الشاملين، لم ينصت إلى كلامه الذي بدا لكثيرين تبشيرياً ووعظياً.
بيد أن كامو لم يكن حيادياً تماماً. فانتقاداته لارتكابات الجيش الفرنسي شرعت تتراجع تدريجاً، وهو لم يهضم الطموحات الوطنية للجزائريين مُصراً، كما لو أنه يحاكي فرحات عباس الشاب، على أن الوطنية الجزائرية لا تقوم إلا على مصدر وحيد من طبيعة عاطفية. وهو، في جلساته الخاصة، جعل يصف حرب فرنسا بأنها دفاع عن الذات معارضاً التفاوض مع 'جبهة التحرير'.
هزيمة فرنسا في الهند الصينية (معركة ديان بيان فو) في فيتنام
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
مقاومة الجزائر صادرت مستقبل البلاد وعقلها بمقاومات ومؤامرات ونذالات لا تقل عدداً عن الشهداء
(الحلقة 8)
حازم صاغيّة
مجزرة بلدة ملوزة
الراهن أن الحرب الفرنسية- الجزائرية احتوت ثلاثة حروب على الأقل في داخلها: حرباً أهلية بين «جبهة التحرير» والقوى الوطنية المنافسة لها، وحرب عصابات بين الجبهة والجيش الفرنسي، وحرباً سياسية وثقافية في ما بين الفرنسيين، السياسيين منهم والمثقفين. وهي، على عكس روايات «جبهة التحرير» وفرانس فانون، منظر العنف الثوري انطلاقاً من قراءته للتجربة الجزائرية، وضداً على الحاجة العربية والإسلامية إلى بطولات ملحمية، لم تكن انتفاضةً شعبية، إذ تُرك للعنف أن يسير ويحرك ويصنع الأحداث أكثر بكثير مما فعلت العفوية المزعومة التي لم توجد على أرض الواقع فعلاً.
فالحرب التي أعلنتها «جبهة التحرير» في 1954 كان ضحاياها الأولون من الفلاحين الذين لم يلتفوا حولها، أو أنهم دعموا منافِستها «الحركة الوطنية الجزائرية» التي أسسها أيضاً مصالي الحاج في ديسمبر 1954. والمعروف أن دور الحاج في العمل الوطني الجزائري قد زُور لاحقاً مثلما زُور دور تروتسكي في ثورة أكتوبر البلشفية، فلم يُعَد له الاعتبار، وجزئياً فحسب، إلا في وقت متأخر.
أما تلك الحرب بين الجبهتين، وقد دارت حول السلطة والمواقع أكثر بكثير مما حول المبادىء، فاندلعت في الجزائر نفسها لتنتقل سريعاً إلى فرنسا، حيث تسابق الطرفان للحصول على تأييد جالية كانت تعد يومها 400 ألف مهاجر، كما كانت تُجبى منها الأموال التي تغطي أكلاف النشاط المسلح. ولم تكسب «جبهة التحرير» المعركة الا بعدما قتلت آلافاً من «الحركة الوطنية» المصالية، في الداخل والمهجر، وكان الحدث الدموي الأشرس تلك المجزرةَ التي شهدتها بلدة مِلوزة في 1957، وهي من معاقل «الحركة الوطنية»، حيث ذبح مقاتلو الجبهة، بقيادة محمدي سعيد، 303 مدنيين هم كل أهل البلدة. ولئن لامت «جبهة التحرير» الجيش الفرنسي، اعترف سعيد نفسه في وقت لاحق، بالحقيقة وبأن العدو الأول، في نظره ونظر رفاقه، لم يكن الجندي الفرنسي، بل «الخائن بيننا»، على ما جاء في برنامج وثائقي تلفزيوني عرضه عام 1991 التلفزيونان الفرنسي والجزائري بعنوان «السنوات الجزائرية»‘Les Annees Algeriennes’.
طاقم تعذيب متمرس
كذلك، ومن ناحية أخرى، كانت حرب الاستقلال مناسبة لإشهار التنافس الضاري بين «قوات الداخلـ«، وهي القيادة السياسية في الجزائر، و»قوات الخارج»، أي الجيش والبيروقراطية المتمركزين في تونس والمغرب. فالطرفان فيما كانا يقاتلان الفرنسيين، كانا، أيضاً، يقاتل واحدهما الثاني للسيطرة على الدولة والسلطة المقبلتين. وإبان معركة الجزائر العاصمة، الشهيرة والمتصلة، خلال 1956 و1957، والتي دُشنت بموجة من القنابل أمطرت بها «جبهة التحرير» الأسواق والمقاهي المزدحمة في القطاع الأوروبي من العاصمة، ارتسمت بعض النتائج المبكرة للصراع هذا. فقد تولت فرق الموت الفرنسية تصفية أبرز وأقدر قيادات الداخل فنجح الفرنسيون، تالياً، في احتواء الضربات العسكرية الجزائرية. هكذا كسب «معركة الجزائر» الجنرال الفرنسي مسو وفرق مظلييه يساعدهم طاقم ممن يمارسون التعذيب بلا رفة جفن، كما استطاعوا كسر التنظيم المديني لـ«جبهة التحرير»، مانعين التواصل بينها وبين قواعدها في تونس. وقد صدر لاحقاً كتاب أثار الكثير من الضجيج كتبه أحد الجلادين الفرنسيين، وفيه مزيد من التفاصيل عن التجربة تلك. فالجنرال بول أوساريز، صاحب «معركة القصبة»، الذي كان إبان الحرب العالمية الثانية واحداً من كبار ضباط «فرنسا الحرة» بزعامة ديغول، بات في 1955 قائداً عسكرياً في قسنطينه، شرقي الجزائر، وكان ذلك بعد أشهر على اندلاع الثورة. وبعد عام، وإبان «معركة الجزائر»، صار أوساريز اليد اليمنى لمسو.
في الكتاب المذكور تحدث بفرح وحماسة وتفصيلية عن ذكرياته كمعذب وجلاد: فهو تواق لأن تُسجل له حصته في «انتصار» فرنسا في «القصبه»، علماً بأنه يعترف بأنه لا يحتكر مجد ذاك الانتصار. فالأحزاب الفرنسية الكبرى كلها، بما فيها الشيوعيون في بعض المراحل، دعموا الحرب في الجزائر. أما التعذيب ذاته فلم يكن استثنائياً أملته ظروف استثنائية، كما يقال أحياناً باعتذارية، بل واسع الانتشار ومنهجياً يحظى بموافقة الحكومة التي حصلت، مطالع 1956، على صلاحيات خاصة من البرلمان بإجماع أصواته. وحسب رواية أوساريز، فإنه بدأ مترددا حيال ممارسة التعذيب، إلا أنه سريعاً ما اقتنع بجدواه. ثم جاءت المذابح التي ارتكبتها «جبهة التحرير» في فيليبفيل وفي مناطق أخرى في جوار قسنطينة في 20 أغسطس 1955 لتحمله على حسم موقفه المتردد. ذاك أن الجزائريين نزلوا بسكاكينهم على الناس الذين في سياراتهم فذبحوا منهم 71 أوروبياً و52 مسلماً «خائناً» بوحشية بالغة، ورد الفرنسيون بوحشية مماثلة فاعتقلوا مئة مشبوه بتلك الأعمال وأطلقوا عليهم النيران للتو. ولم يمر أسبوع إلا وقضى أكثر من ألف جزائري معظمهم مدنيون.
بذور العنف والقسوة
لقد كان التاريخ السياسي لـ«جبهة التحرير»، فضلاً عن مقاتلة الفرنسيين، تاريخ مكائد ومؤامرات. فالعنف الأعمى الذي اتبعته الجبهة، واستجر عنفاً فرنسياً أشد عمىً، كانت له وظيفة محددة في خدمة المقاومة بالمعنى الجهازي الضيق للكلمة. ذاك أن الإرهاب ضد المدنيين الفرنسيين إنما نما، جزئياً، من ضعف «جبهة التحرير» في وسط مؤيديها المفترضين. فقد كان أحد استهدافات تلك الارتكابات دفع القمع الفرنسي إلى سلوك وحشي وانتقامي يؤدي إلى انحياز المتضررين الجزائريين، ممن كانوا ذوي خيار رجراج، إلى الجبهة. وبالمعنى هذا، نجح الإرهاب الوطني في بلوغ غرضه، فأضاف اليه قوى كانت محايدة أو غير عابئة، حتى أن وجهاً معتدلاً كفرحات عباس، سبق له أن رفض الإقرار بوجود «أمة جزائرية»، على ما رأينا، تحول رئيساً لحكومة «جبهة التحرير» في المنفى. بيد أن النهج هذا نمى، كما سنرى لاحقاً، بذرة العنف والقسوة في داخل الجبهة والنظام الذي أقامته إثر الاستقلال. لا بل عمدت حقبة ما بعد الاستقلال إلى تحويل السياسة (إذا جازت هذه الكلمة في حالة بلد غير ديموقراطي، أي غير سياسي) إلى تقليد للعنف والتآمر وهواجس الأمن الهذيانية.
ففي صيف 1956 اجتمع القادة العسكريون والسياسيون للجبهة في مؤتمر عقدوه في وادي صومام، راسماً أهدافه على النحو الآتي: الاستقلال، أن تكون السلطة كلها في يد الجبهة وحكومتها المؤقتة، عدم فصل الصحراء الجزائرية واحتياطيها النفطي عن الجزائر، رفض وقف إطلاق النار قبل الاعتراف بالاستقلال، رفض الإقرار بمواطنية المستوطنين البيض، عدم الاكتفاء بطلب الاستقلال والتوكيد على التحول الاشتراكي والإصلاح الزراعي.
«سلام الشجعان»
وعلى امتداد سنوات الحرب، وعبر المفاوضات غير المباشرة، ثم المباشرة، مع فرنسا، تمسكت الجبهة بمقررات وادي صومام الراديكالية من دون أي تنازل أو تفريط. لكنْ في أواخر 1958، اقترح ديغول «سلام شجعان» معلناً هدنة مرفقة بوضع خطة للتنمية الاقتصادية والسياسية للجزائر على مدى خمس سنوات. ولئن رفضت الجبهة العرض ففي 1960 بدأت أعراض التفاوت تظهر فيما كانت السلطة قد شرعت تلوح على هيئة شبح أو احتمال وشيك. فـ«السيد صلاح» (سي صلاح)، وهو قائد المجموعة العسكرية الأكثر تعرضاً للضغط والحصار قريباً من مدينة الجزائر، أبدى استعداده لقبول «سلام الشجعان»، منتقلاً مع مجموعة من معاونيه إلى باريس حيث التقوا ديغول من غير أن ينجم شيء واضح عن ذلك. لكنه، هو معاونوه، لدى عودتهم، تمت تصفيتهم وسط تكهنات حول صفقة بين الفرنسيين ورفاق «السيد صلاح» في «جبهة التحرير». وقد ذُكر أن ديغول، المهتم بالوصول إلى سلام كامل، أفشى أمر الاتصالات مع «السيد صالح» للحكومة المؤقتة آملاً بأن يحصل منها على تنازلات أكبر مما انتزعه منه.
وعلى أي حال، ففي 19 مارس 1962 أُعلن عن وقف إطلاق النار. لكنْ لأن ما يُبنى على العنف لا يلبث أن يولد العنف، مغيباً أكثر فأكثر إمكان الاحتكام إلى شرعية سياسية ودستورية، أطاحت قواتُ هواري بومدين المسلحة الحكومةَ المؤقتة لجمهورية الجزائر المستقلة التي كانت قد وقعت اتفاقات إيفيان للسلام مع فرنسا، وأحلت بن بله في رئاسة الجمهورية. هكذا نشبت الحرب التي عُرفت بـ»حرب الولايات»، وكان رمزها من الطرف المقابل يوسف بن خده، رئيس الحكومة المؤقتة الذي حل، منذ 1961، محل فرحات عباس.
«التاريخيون التسعة»
الواقع أن الجزائر، منذ الاستقلال في 1962، كانت قد وقعت في قبضة حكم عسكري. فحكومة بن بله سريعاً ما عطلت المعارضة والنقاش داخل «جبهة التحرير»، وفي 1963 مُنع الحزب الشيوعي، وأرسي تقليد باتت الانتخابات معه، وعلى المستويات كافة، عملية مزورة وشكلية تنتهي إلى مبايعة الحاكم ومن يختاره.
ويمكن، في حقيقة الأمر، الدفاع عن حجة تقول إن الجزائريين، من بين كل الشعوب المستعمَرة، بدوا الأكثر تأهيلاً وتمكيناً لإنجاح استقلالهم. صحيح ان الدولة الجديدة بدأت بمصاعب اقتصادية على نطاق واسع: بطالة بنسبة 25 في المئة وتبعية مالية لفرنسا وأحد أعلى نسب الولادات في العالم (3.5 في المئة سنوياً). لكنها، في المقابل، ضمت عدداً كبيراً جداً من الرجال والنساء البالغي التأهيل العلمي والتقني. وكان ممثلو هذه الشريحة العريضة في قيادة الثورة قد خرجوا بتركيبٍ بدا يومها منطقياً بين الاشتراكية الفرنسية وأفكار التنمية الرائجة حينذاك في «العالم الثالث». وإلى ذلك توافرت ثروة هائلة من النفط والغاز يمكن أن تشكل الوقود الذي يطلق التنمية ويخفف من آلام الانتقال إليها ومن عذاباته.
بيد أن هذا التوقع لم تُكتب له الحياة. وبعد ثلاث سنوات فقط على تولي بن بله الرئاسة، أطاحه بومدين ووضعه تحت الإقامة الجبرية التي استمرت طوال عشرين سنة. وفي هذه الغضون، وخلال عهدي بن بله القصير وبومدين الطويل، لم يبق في السلطة، من أصل «التاريخيين التسعة» الذين قادوا الثورة منذ بداياتها، إلا بومدين وحده. فالذين بينهم نجوا من الفرنسيين تعرضوا، تباعاً، للتعهير أو النفي أو السجن أو الموت، على أيدي رفاقهم. وخلال عهد بومدين خصوصاً، طورد وقتل في المنافي بعض مؤسسي العمل الثوري من نقاد العهد الجديد، كمحمد خيضر أحد «التسعة»، الذي قضى في مدريد. وفي 1970 وُجد كريم بلقاسم، وهو أيضاً أحد «التسعة» الذي رأس الوفد الجزائري في مفاوضات إيفيان، مخنوقاً في فندق بفرانكفورت. والاثنان لم يُعد إليهما الاعتبار إلا بعد رحيل بومدين، في ديسمبر 1978، فيما أُطلق أيضاً سراح بن بله.
ربيع البربر
اشتهرت الجزائر بنظام متزمت وإسلامي العواطف، وبتعريب أساء إلى التقدم العلمي كما فتح الباب لأعداد من إسلاميي مصر والمشرق الذين تولوا تنشئة أجيالها الصاعدة. وإذ ساد جو قيمي مناهض للمرأة ولأي دور عام تلعبه، تنامت العمالة المهاجرة إلى فرنسا، وتراكمت عناصر انفجار سكاني جسدته نسبة الشبان البالغة الارتفاع. وإذ توفي بومدين، «أب الأمة» ومعطل حركتها، وجدت الجماعات الإثنية نفسها وسط صراع ضار حول تعريف الجزائر كدولة - أمة، صراعٍ ذكر كثيرين بعبارة فرحات عباس القديمة. فالعرب أصروا على أنها عربية وجزء من «الأمة العربية»، والأمازيغ شددوا على طابع بربري يجمعها بجنوب أوروبا، لا سيما إسبانيا، أكثر مما بالعالم العربي. ومن موقع إيديولوجي، رأى الإسلاميون أنها مسلمة أولاً وأساساً فيما أكدت النخب الناطقة بالفرنسية دعمها لجمهورية علمانية مع المطالبة بضبط النشاط السياسي للإسلاميين ومساجدهم. وفي 1980 انفجر الوضع في ما عُرف بـ»ربيع البربر» في مدينة تيزي أوزو. وبعد أربع سنوات، شهدت جامعة المدينة نفسها أعمال شغب حركتها المطالبة بحقوق ثقافية للأمازيغ. لكن التتويج العنفي هو ما حملته حرب التسعينيات الأهلية بين الإسلاميين والجيش والتي كلفت أكثر من 150 ألف قتيل، قضى بعضهم بأكثر الطرق بدائية ووحشية، مشددةً، في آخر المطاف، قبضة المؤسسة العسكرية على الحياة العامة. وهذه العسكرة للسياسة والمجتمع، التي بلغت ذروتها آنذاك، لم تكن لتنفصل عن ظروف المقاومة التي فرضت إنشاء الجيش قبل أن تنشأ الدولة، وأسست لجعل الأول مهندس الثانية والمتحكم بها، بدل أن يكون العكس. ذاك أن خوض الحرب الثورية، كما فرضت التجربة، كان الشرط الذي لا مفر منه لبناء الدولة الثورية والاستقلالية.
في المقابل، كانت الثقافة التي طورتها «جبهة التحرير»، تأسيساً على «شرعية» المقاومة، لغرض عسكرة السياسة، وكذلك استخدام الإسلام صرخة تجميع جهادي، قد عززا قدرة الإسلاميين على محاصرة كل نزوع علماني في البلاد.
وأفاق الجزائريون، في 2003، على عددهم الذي بات يبلغ ثلاثين مليوناً، ثمانون في المئة منهم دون الثلاثين، ولم يكن العدد في 1962، مع الاستقلال، يصل إلى عشرة ملايين.
هكذا حبلت المقاومة الشهيرة بمقاومات ومؤامرات ونذالات ليست أقل عدداً من عدد «الشهداء»، إلا أنها، هي و«الشهداء»، تضافروا كي يصادروا مستقبل الجزائر وعقلها.
«عشيرة العوجة» الجزائرية!
كائناً ما كان الأمر، ترتب على مواجهات «جبهة التحرير» والفرنسيين في قسنطينة في عام 1955 أن الذين نجوا من عناصر الجبهة الداخليين لم يتبق لديهم إلا القبول بقيادة قوات الخارج. وفي ديسمبر 1957، صفى الخارجيون عبان رمضان، المهندس اللامع لمعركة الجزائر العاصمة، بسبب إصراره على إبقاء الأولوية للداخل وإبقائها في الداخل. والحق أن اغتيال رمضان جاء نقطة تحول في مسارات الحرب كلها، أقله لجهة التنويه بالدلالات العصبية والأهلية المستترة في العمل الوطني. فقاتلوه كانوا مجموعة، أو «عشيرة» العوجة، وهي بلدة مغربية على الحدود مع الجزائر جعلها ثوار الخارج الجزائريون معقلاً لهم. أما «العشيرة» فأشبه بعصابة تزعمها عبد الحفيظ بوصوف وضمت، في من ضمت، أحمد بن بله والعقيد هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة الذين حلوا تباعاً في رئاسة جمهورية الجزائر المستقلة. لكن اغتيال رمضان كان له، في دورانه على مدار عصبي وأهلي، معنى آخر: فهو بربري، أو أمازيغي، من منطقة القبائل، مكروه من جماعة الخارج، أي جنود وبيروقراطيي «جبهة التحرير» المتمركزين في تونس بقيادة بومدين. ويجوز الافتراض تالياً أن إصرار رمضان على أولوية الداخل كان محكوماً برغبة أمازيغية (بربرية)، متفاوتة التبلور، في تقليص أهمية الدور العربي، المغربي والتونسي، في ما خص القرار الوطني الجزائري والتدخل فيه من قبل «الأخوة العرب». هكذا أدت تصفيته، خنقاً في المغرب، إلى تأسيس غلبتين: غلبة العسكر والبيروقراطية على الناشطين المدنيين في الثورة، وغلبة عرب الثورة على أمازيغها، ما لا يمكن من دونه فهم بعض المجاري العريضة للحقبة الاستقلالية اللاحقة ومعضلاتها.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
مقاومة الجزائر صادرت مستقبل البلاد وعقلها بمقاومات ومؤامرات ونذالات لا تقل عدداً عن الشهداء
(الحلقة 8)
حازم صاغيّة
مجزرة بلدة ملوزة
الراهن أن الحرب الفرنسية- الجزائرية احتوت ثلاثة حروب على الأقل في داخلها: حرباً أهلية بين «جبهة التحرير» والقوى الوطنية المنافسة لها، وحرب عصابات بين الجبهة والجيش الفرنسي، وحرباً سياسية وثقافية في ما بين الفرنسيين، السياسيين منهم والمثقفين. وهي، على عكس روايات «جبهة التحرير» وفرانس فانون، منظر العنف الثوري انطلاقاً من قراءته للتجربة الجزائرية، وضداً على الحاجة العربية والإسلامية إلى بطولات ملحمية، لم تكن انتفاضةً شعبية، إذ تُرك للعنف أن يسير ويحرك ويصنع الأحداث أكثر بكثير مما فعلت العفوية المزعومة التي لم توجد على أرض الواقع فعلاً.
فالحرب التي أعلنتها «جبهة التحرير» في 1954 كان ضحاياها الأولون من الفلاحين الذين لم يلتفوا حولها، أو أنهم دعموا منافِستها «الحركة الوطنية الجزائرية» التي أسسها أيضاً مصالي الحاج في ديسمبر 1954. والمعروف أن دور الحاج في العمل الوطني الجزائري قد زُور لاحقاً مثلما زُور دور تروتسكي في ثورة أكتوبر البلشفية، فلم يُعَد له الاعتبار، وجزئياً فحسب، إلا في وقت متأخر.
أما تلك الحرب بين الجبهتين، وقد دارت حول السلطة والمواقع أكثر بكثير مما حول المبادىء، فاندلعت في الجزائر نفسها لتنتقل سريعاً إلى فرنسا، حيث تسابق الطرفان للحصول على تأييد جالية كانت تعد يومها 400 ألف مهاجر، كما كانت تُجبى منها الأموال التي تغطي أكلاف النشاط المسلح. ولم تكسب «جبهة التحرير» المعركة الا بعدما قتلت آلافاً من «الحركة الوطنية» المصالية، في الداخل والمهجر، وكان الحدث الدموي الأشرس تلك المجزرةَ التي شهدتها بلدة مِلوزة في 1957، وهي من معاقل «الحركة الوطنية»، حيث ذبح مقاتلو الجبهة، بقيادة محمدي سعيد، 303 مدنيين هم كل أهل البلدة. ولئن لامت «جبهة التحرير» الجيش الفرنسي، اعترف سعيد نفسه في وقت لاحق، بالحقيقة وبأن العدو الأول، في نظره ونظر رفاقه، لم يكن الجندي الفرنسي، بل «الخائن بيننا»، على ما جاء في برنامج وثائقي تلفزيوني عرضه عام 1991 التلفزيونان الفرنسي والجزائري بعنوان «السنوات الجزائرية»‘Les Annees Algeriennes’.
طاقم تعذيب متمرس
كذلك، ومن ناحية أخرى، كانت حرب الاستقلال مناسبة لإشهار التنافس الضاري بين «قوات الداخلـ«، وهي القيادة السياسية في الجزائر، و»قوات الخارج»، أي الجيش والبيروقراطية المتمركزين في تونس والمغرب. فالطرفان فيما كانا يقاتلان الفرنسيين، كانا، أيضاً، يقاتل واحدهما الثاني للسيطرة على الدولة والسلطة المقبلتين. وإبان معركة الجزائر العاصمة، الشهيرة والمتصلة، خلال 1956 و1957، والتي دُشنت بموجة من القنابل أمطرت بها «جبهة التحرير» الأسواق والمقاهي المزدحمة في القطاع الأوروبي من العاصمة، ارتسمت بعض النتائج المبكرة للصراع هذا. فقد تولت فرق الموت الفرنسية تصفية أبرز وأقدر قيادات الداخل فنجح الفرنسيون، تالياً، في احتواء الضربات العسكرية الجزائرية. هكذا كسب «معركة الجزائر» الجنرال الفرنسي مسو وفرق مظلييه يساعدهم طاقم ممن يمارسون التعذيب بلا رفة جفن، كما استطاعوا كسر التنظيم المديني لـ«جبهة التحرير»، مانعين التواصل بينها وبين قواعدها في تونس. وقد صدر لاحقاً كتاب أثار الكثير من الضجيج كتبه أحد الجلادين الفرنسيين، وفيه مزيد من التفاصيل عن التجربة تلك. فالجنرال بول أوساريز، صاحب «معركة القصبة»، الذي كان إبان الحرب العالمية الثانية واحداً من كبار ضباط «فرنسا الحرة» بزعامة ديغول، بات في 1955 قائداً عسكرياً في قسنطينه، شرقي الجزائر، وكان ذلك بعد أشهر على اندلاع الثورة. وبعد عام، وإبان «معركة الجزائر»، صار أوساريز اليد اليمنى لمسو.
في الكتاب المذكور تحدث بفرح وحماسة وتفصيلية عن ذكرياته كمعذب وجلاد: فهو تواق لأن تُسجل له حصته في «انتصار» فرنسا في «القصبه»، علماً بأنه يعترف بأنه لا يحتكر مجد ذاك الانتصار. فالأحزاب الفرنسية الكبرى كلها، بما فيها الشيوعيون في بعض المراحل، دعموا الحرب في الجزائر. أما التعذيب ذاته فلم يكن استثنائياً أملته ظروف استثنائية، كما يقال أحياناً باعتذارية، بل واسع الانتشار ومنهجياً يحظى بموافقة الحكومة التي حصلت، مطالع 1956، على صلاحيات خاصة من البرلمان بإجماع أصواته. وحسب رواية أوساريز، فإنه بدأ مترددا حيال ممارسة التعذيب، إلا أنه سريعاً ما اقتنع بجدواه. ثم جاءت المذابح التي ارتكبتها «جبهة التحرير» في فيليبفيل وفي مناطق أخرى في جوار قسنطينة في 20 أغسطس 1955 لتحمله على حسم موقفه المتردد. ذاك أن الجزائريين نزلوا بسكاكينهم على الناس الذين في سياراتهم فذبحوا منهم 71 أوروبياً و52 مسلماً «خائناً» بوحشية بالغة، ورد الفرنسيون بوحشية مماثلة فاعتقلوا مئة مشبوه بتلك الأعمال وأطلقوا عليهم النيران للتو. ولم يمر أسبوع إلا وقضى أكثر من ألف جزائري معظمهم مدنيون.
بذور العنف والقسوة
لقد كان التاريخ السياسي لـ«جبهة التحرير»، فضلاً عن مقاتلة الفرنسيين، تاريخ مكائد ومؤامرات. فالعنف الأعمى الذي اتبعته الجبهة، واستجر عنفاً فرنسياً أشد عمىً، كانت له وظيفة محددة في خدمة المقاومة بالمعنى الجهازي الضيق للكلمة. ذاك أن الإرهاب ضد المدنيين الفرنسيين إنما نما، جزئياً، من ضعف «جبهة التحرير» في وسط مؤيديها المفترضين. فقد كان أحد استهدافات تلك الارتكابات دفع القمع الفرنسي إلى سلوك وحشي وانتقامي يؤدي إلى انحياز المتضررين الجزائريين، ممن كانوا ذوي خيار رجراج، إلى الجبهة. وبالمعنى هذا، نجح الإرهاب الوطني في بلوغ غرضه، فأضاف اليه قوى كانت محايدة أو غير عابئة، حتى أن وجهاً معتدلاً كفرحات عباس، سبق له أن رفض الإقرار بوجود «أمة جزائرية»، على ما رأينا، تحول رئيساً لحكومة «جبهة التحرير» في المنفى. بيد أن النهج هذا نمى، كما سنرى لاحقاً، بذرة العنف والقسوة في داخل الجبهة والنظام الذي أقامته إثر الاستقلال. لا بل عمدت حقبة ما بعد الاستقلال إلى تحويل السياسة (إذا جازت هذه الكلمة في حالة بلد غير ديموقراطي، أي غير سياسي) إلى تقليد للعنف والتآمر وهواجس الأمن الهذيانية.
ففي صيف 1956 اجتمع القادة العسكريون والسياسيون للجبهة في مؤتمر عقدوه في وادي صومام، راسماً أهدافه على النحو الآتي: الاستقلال، أن تكون السلطة كلها في يد الجبهة وحكومتها المؤقتة، عدم فصل الصحراء الجزائرية واحتياطيها النفطي عن الجزائر، رفض وقف إطلاق النار قبل الاعتراف بالاستقلال، رفض الإقرار بمواطنية المستوطنين البيض، عدم الاكتفاء بطلب الاستقلال والتوكيد على التحول الاشتراكي والإصلاح الزراعي.
«سلام الشجعان»
وعلى امتداد سنوات الحرب، وعبر المفاوضات غير المباشرة، ثم المباشرة، مع فرنسا، تمسكت الجبهة بمقررات وادي صومام الراديكالية من دون أي تنازل أو تفريط. لكنْ في أواخر 1958، اقترح ديغول «سلام شجعان» معلناً هدنة مرفقة بوضع خطة للتنمية الاقتصادية والسياسية للجزائر على مدى خمس سنوات. ولئن رفضت الجبهة العرض ففي 1960 بدأت أعراض التفاوت تظهر فيما كانت السلطة قد شرعت تلوح على هيئة شبح أو احتمال وشيك. فـ«السيد صلاح» (سي صلاح)، وهو قائد المجموعة العسكرية الأكثر تعرضاً للضغط والحصار قريباً من مدينة الجزائر، أبدى استعداده لقبول «سلام الشجعان»، منتقلاً مع مجموعة من معاونيه إلى باريس حيث التقوا ديغول من غير أن ينجم شيء واضح عن ذلك. لكنه، هو معاونوه، لدى عودتهم، تمت تصفيتهم وسط تكهنات حول صفقة بين الفرنسيين ورفاق «السيد صلاح» في «جبهة التحرير». وقد ذُكر أن ديغول، المهتم بالوصول إلى سلام كامل، أفشى أمر الاتصالات مع «السيد صالح» للحكومة المؤقتة آملاً بأن يحصل منها على تنازلات أكبر مما انتزعه منه.
وعلى أي حال، ففي 19 مارس 1962 أُعلن عن وقف إطلاق النار. لكنْ لأن ما يُبنى على العنف لا يلبث أن يولد العنف، مغيباً أكثر فأكثر إمكان الاحتكام إلى شرعية سياسية ودستورية، أطاحت قواتُ هواري بومدين المسلحة الحكومةَ المؤقتة لجمهورية الجزائر المستقلة التي كانت قد وقعت اتفاقات إيفيان للسلام مع فرنسا، وأحلت بن بله في رئاسة الجمهورية. هكذا نشبت الحرب التي عُرفت بـ»حرب الولايات»، وكان رمزها من الطرف المقابل يوسف بن خده، رئيس الحكومة المؤقتة الذي حل، منذ 1961، محل فرحات عباس.
«التاريخيون التسعة»
الواقع أن الجزائر، منذ الاستقلال في 1962، كانت قد وقعت في قبضة حكم عسكري. فحكومة بن بله سريعاً ما عطلت المعارضة والنقاش داخل «جبهة التحرير»، وفي 1963 مُنع الحزب الشيوعي، وأرسي تقليد باتت الانتخابات معه، وعلى المستويات كافة، عملية مزورة وشكلية تنتهي إلى مبايعة الحاكم ومن يختاره.
ويمكن، في حقيقة الأمر، الدفاع عن حجة تقول إن الجزائريين، من بين كل الشعوب المستعمَرة، بدوا الأكثر تأهيلاً وتمكيناً لإنجاح استقلالهم. صحيح ان الدولة الجديدة بدأت بمصاعب اقتصادية على نطاق واسع: بطالة بنسبة 25 في المئة وتبعية مالية لفرنسا وأحد أعلى نسب الولادات في العالم (3.5 في المئة سنوياً). لكنها، في المقابل، ضمت عدداً كبيراً جداً من الرجال والنساء البالغي التأهيل العلمي والتقني. وكان ممثلو هذه الشريحة العريضة في قيادة الثورة قد خرجوا بتركيبٍ بدا يومها منطقياً بين الاشتراكية الفرنسية وأفكار التنمية الرائجة حينذاك في «العالم الثالث». وإلى ذلك توافرت ثروة هائلة من النفط والغاز يمكن أن تشكل الوقود الذي يطلق التنمية ويخفف من آلام الانتقال إليها ومن عذاباته.
بيد أن هذا التوقع لم تُكتب له الحياة. وبعد ثلاث سنوات فقط على تولي بن بله الرئاسة، أطاحه بومدين ووضعه تحت الإقامة الجبرية التي استمرت طوال عشرين سنة. وفي هذه الغضون، وخلال عهدي بن بله القصير وبومدين الطويل، لم يبق في السلطة، من أصل «التاريخيين التسعة» الذين قادوا الثورة منذ بداياتها، إلا بومدين وحده. فالذين بينهم نجوا من الفرنسيين تعرضوا، تباعاً، للتعهير أو النفي أو السجن أو الموت، على أيدي رفاقهم. وخلال عهد بومدين خصوصاً، طورد وقتل في المنافي بعض مؤسسي العمل الثوري من نقاد العهد الجديد، كمحمد خيضر أحد «التسعة»، الذي قضى في مدريد. وفي 1970 وُجد كريم بلقاسم، وهو أيضاً أحد «التسعة» الذي رأس الوفد الجزائري في مفاوضات إيفيان، مخنوقاً في فندق بفرانكفورت. والاثنان لم يُعد إليهما الاعتبار إلا بعد رحيل بومدين، في ديسمبر 1978، فيما أُطلق أيضاً سراح بن بله.
ربيع البربر
اشتهرت الجزائر بنظام متزمت وإسلامي العواطف، وبتعريب أساء إلى التقدم العلمي كما فتح الباب لأعداد من إسلاميي مصر والمشرق الذين تولوا تنشئة أجيالها الصاعدة. وإذ ساد جو قيمي مناهض للمرأة ولأي دور عام تلعبه، تنامت العمالة المهاجرة إلى فرنسا، وتراكمت عناصر انفجار سكاني جسدته نسبة الشبان البالغة الارتفاع. وإذ توفي بومدين، «أب الأمة» ومعطل حركتها، وجدت الجماعات الإثنية نفسها وسط صراع ضار حول تعريف الجزائر كدولة - أمة، صراعٍ ذكر كثيرين بعبارة فرحات عباس القديمة. فالعرب أصروا على أنها عربية وجزء من «الأمة العربية»، والأمازيغ شددوا على طابع بربري يجمعها بجنوب أوروبا، لا سيما إسبانيا، أكثر مما بالعالم العربي. ومن موقع إيديولوجي، رأى الإسلاميون أنها مسلمة أولاً وأساساً فيما أكدت النخب الناطقة بالفرنسية دعمها لجمهورية علمانية مع المطالبة بضبط النشاط السياسي للإسلاميين ومساجدهم. وفي 1980 انفجر الوضع في ما عُرف بـ»ربيع البربر» في مدينة تيزي أوزو. وبعد أربع سنوات، شهدت جامعة المدينة نفسها أعمال شغب حركتها المطالبة بحقوق ثقافية للأمازيغ. لكن التتويج العنفي هو ما حملته حرب التسعينيات الأهلية بين الإسلاميين والجيش والتي كلفت أكثر من 150 ألف قتيل، قضى بعضهم بأكثر الطرق بدائية ووحشية، مشددةً، في آخر المطاف، قبضة المؤسسة العسكرية على الحياة العامة. وهذه العسكرة للسياسة والمجتمع، التي بلغت ذروتها آنذاك، لم تكن لتنفصل عن ظروف المقاومة التي فرضت إنشاء الجيش قبل أن تنشأ الدولة، وأسست لجعل الأول مهندس الثانية والمتحكم بها، بدل أن يكون العكس. ذاك أن خوض الحرب الثورية، كما فرضت التجربة، كان الشرط الذي لا مفر منه لبناء الدولة الثورية والاستقلالية.
في المقابل، كانت الثقافة التي طورتها «جبهة التحرير»، تأسيساً على «شرعية» المقاومة، لغرض عسكرة السياسة، وكذلك استخدام الإسلام صرخة تجميع جهادي، قد عززا قدرة الإسلاميين على محاصرة كل نزوع علماني في البلاد.
وأفاق الجزائريون، في 2003، على عددهم الذي بات يبلغ ثلاثين مليوناً، ثمانون في المئة منهم دون الثلاثين، ولم يكن العدد في 1962، مع الاستقلال، يصل إلى عشرة ملايين.
هكذا حبلت المقاومة الشهيرة بمقاومات ومؤامرات ونذالات ليست أقل عدداً من عدد «الشهداء»، إلا أنها، هي و«الشهداء»، تضافروا كي يصادروا مستقبل الجزائر وعقلها.
«عشيرة العوجة» الجزائرية!
كائناً ما كان الأمر، ترتب على مواجهات «جبهة التحرير» والفرنسيين في قسنطينة في عام 1955 أن الذين نجوا من عناصر الجبهة الداخليين لم يتبق لديهم إلا القبول بقيادة قوات الخارج. وفي ديسمبر 1957، صفى الخارجيون عبان رمضان، المهندس اللامع لمعركة الجزائر العاصمة، بسبب إصراره على إبقاء الأولوية للداخل وإبقائها في الداخل. والحق أن اغتيال رمضان جاء نقطة تحول في مسارات الحرب كلها، أقله لجهة التنويه بالدلالات العصبية والأهلية المستترة في العمل الوطني. فقاتلوه كانوا مجموعة، أو «عشيرة» العوجة، وهي بلدة مغربية على الحدود مع الجزائر جعلها ثوار الخارج الجزائريون معقلاً لهم. أما «العشيرة» فأشبه بعصابة تزعمها عبد الحفيظ بوصوف وضمت، في من ضمت، أحمد بن بله والعقيد هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة الذين حلوا تباعاً في رئاسة جمهورية الجزائر المستقلة. لكن اغتيال رمضان كان له، في دورانه على مدار عصبي وأهلي، معنى آخر: فهو بربري، أو أمازيغي، من منطقة القبائل، مكروه من جماعة الخارج، أي جنود وبيروقراطيي «جبهة التحرير» المتمركزين في تونس بقيادة بومدين. ويجوز الافتراض تالياً أن إصرار رمضان على أولوية الداخل كان محكوماً برغبة أمازيغية (بربرية)، متفاوتة التبلور، في تقليص أهمية الدور العربي، المغربي والتونسي، في ما خص القرار الوطني الجزائري والتدخل فيه من قبل «الأخوة العرب». هكذا أدت تصفيته، خنقاً في المغرب، إلى تأسيس غلبتين: غلبة العسكر والبيروقراطية على الناشطين المدنيين في الثورة، وغلبة عرب الثورة على أمازيغها، ما لا يمكن من دونه فهم بعض المجاري العريضة للحقبة الاستقلالية اللاحقة ومعضلاتها.
29-03-2010, 03:32 AM justice
عضو
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,962
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
مقاومة الجزائر صادرت مستقبل البلاد وعقلها بمقاومات ومؤامرات ونذالات لا تقل عدداً عن الشهداء
(الحلقة 8)
حازم صاغيّة
مجزرة بلدة ملوزة
الراهن أن الحرب الفرنسية- الجزائرية احتوت ثلاثة حروب على الأقل في داخلها: حرباً أهلية بين «جبهة التحرير» والقوى الوطنية المنافسة لها، وحرب عصابات بين الجبهة والجيش الفرنسي، وحرباً سياسية وثقافية في ما بين الفرنسيين، السياسيين منهم والمثقفين. وهي، على عكس روايات «جبهة التحرير» وفرانس فانون، منظر العنف الثوري انطلاقاً من قراءته للتجربة الجزائرية، وضداً على الحاجة العربية والإسلامية إلى بطولات ملحمية، لم تكن انتفاضةً شعبية، إذ تُرك للعنف أن يسير ويحرك ويصنع الأحداث أكثر بكثير مما فعلت العفوية المزعومة التي لم توجد على أرض الواقع فعلاً.
فالحرب التي أعلنتها «جبهة التحرير» في 1954 كان ضحاياها الأولون من الفلاحين الذين لم يلتفوا حولها، أو أنهم دعموا منافِستها «الحركة الوطنية الجزائرية» التي أسسها أيضاً مصالي الحاج في ديسمبر 1954. والمعروف أن دور الحاج في العمل الوطني الجزائري قد زُور لاحقاً مثلما زُور دور تروتسكي في ثورة أكتوبر البلشفية، فلم يُعَد له الاعتبار، وجزئياً فحسب، إلا في وقت متأخر.
أما تلك الحرب بين الجبهتين، وقد دارت حول السلطة والمواقع أكثر بكثير مما حول المبادىء، فاندلعت في الجزائر نفسها لتنتقل سريعاً إلى فرنسا، حيث تسابق الطرفان للحصول على تأييد جالية كانت تعد يومها 400 ألف مهاجر، كما كانت تُجبى منها الأموال التي تغطي أكلاف النشاط المسلح. ولم تكسب «جبهة التحرير» المعركة الا بعدما قتلت آلافاً من «الحركة الوطنية» المصالية، في الداخل والمهجر، وكان الحدث الدموي الأشرس تلك المجزرةَ التي شهدتها بلدة مِلوزة في 1957، وهي من معاقل «الحركة الوطنية»، حيث ذبح مقاتلو الجبهة، بقيادة محمدي سعيد، 303 مدنيين هم كل أهل البلدة. ولئن لامت «جبهة التحرير» الجيش الفرنسي، اعترف سعيد نفسه في وقت لاحق، بالحقيقة وبأن العدو الأول، في نظره ونظر رفاقه، لم يكن الجندي الفرنسي، بل «الخائن بيننا»، على ما جاء في برنامج وثائقي تلفزيوني عرضه عام 1991 التلفزيونان الفرنسي والجزائري بعنوان «السنوات الجزائرية»‘Les Annees Algeriennes’.
طاقم تعذيب متمرس
كذلك، ومن ناحية أخرى، كانت حرب الاستقلال مناسبة لإشهار التنافس الضاري بين «قوات الداخلـ«، وهي القيادة السياسية في الجزائر، و»قوات الخارج»، أي الجيش والبيروقراطية المتمركزين في تونس والمغرب. فالطرفان فيما كانا يقاتلان الفرنسيين، كانا، أيضاً، يقاتل واحدهما الثاني للسيطرة على الدولة والسلطة المقبلتين. وإبان معركة الجزائر العاصمة، الشهيرة والمتصلة، خلال 1956 و1957، والتي دُشنت بموجة من القنابل أمطرت بها «جبهة التحرير» الأسواق والمقاهي المزدحمة في القطاع الأوروبي من العاصمة، ارتسمت بعض النتائج المبكرة للصراع هذا. فقد تولت فرق الموت الفرنسية تصفية أبرز وأقدر قيادات الداخل فنجح الفرنسيون، تالياً، في احتواء الضربات العسكرية الجزائرية. هكذا كسب «معركة الجزائر» الجنرال الفرنسي مسو وفرق مظلييه يساعدهم طاقم ممن يمارسون التعذيب بلا رفة جفن، كما استطاعوا كسر التنظيم المديني لـ«جبهة التحرير»، مانعين التواصل بينها وبين قواعدها في تونس. وقد صدر لاحقاً كتاب أثار الكثير من الضجيج كتبه أحد الجلادين الفرنسيين، وفيه مزيد من التفاصيل عن التجربة تلك. فالجنرال بول أوساريز، صاحب «معركة القصبة»، الذي كان إبان الحرب العالمية الثانية واحداً من كبار ضباط «فرنسا الحرة» بزعامة ديغول، بات في 1955 قائداً عسكرياً في قسنطينه، شرقي الجزائر، وكان ذلك بعد أشهر على اندلاع الثورة. وبعد عام، وإبان «معركة الجزائر»، صار أوساريز اليد اليمنى لمسو.
في الكتاب المذكور تحدث بفرح وحماسة وتفصيلية عن ذكرياته كمعذب وجلاد: فهو تواق لأن تُسجل له حصته في «انتصار» فرنسا في «القصبه»، علماً بأنه يعترف بأنه لا يحتكر مجد ذاك الانتصار. فالأحزاب الفرنسية الكبرى كلها، بما فيها الشيوعيون في بعض المراحل، دعموا الحرب في الجزائر. أما التعذيب ذاته فلم يكن استثنائياً أملته ظروف استثنائية، كما يقال أحياناً باعتذارية، بل واسع الانتشار ومنهجياً يحظى بموافقة الحكومة التي حصلت، مطالع 1956، على صلاحيات خاصة من البرلمان بإجماع أصواته. وحسب رواية أوساريز، فإنه بدأ مترددا حيال ممارسة التعذيب، إلا أنه سريعاً ما اقتنع بجدواه. ثم جاءت المذابح التي ارتكبتها «جبهة التحرير» في فيليبفيل وفي مناطق أخرى في جوار قسنطينة في 20 أغسطس 1955 لتحمله على حسم موقفه المتردد. ذاك أن الجزائريين نزلوا بسكاكينهم على الناس الذين في سياراتهم فذبحوا منهم 71 أوروبياً و52 مسلماً «خائناً» بوحشية بالغة، ورد الفرنسيون بوحشية مماثلة فاعتقلوا مئة مشبوه بتلك الأعمال وأطلقوا عليهم النيران للتو. ولم يمر أسبوع إلا وقضى أكثر من ألف جزائري معظمهم مدنيون.
بذور العنف والقسوة
لقد كان التاريخ السياسي لـ«جبهة التحرير»، فضلاً عن مقاتلة الفرنسيين، تاريخ مكائد ومؤامرات. فالعنف الأعمى الذي اتبعته الجبهة، واستجر عنفاً فرنسياً أشد عمىً، كانت له وظيفة محددة في خدمة المقاومة بالمعنى الجهازي الضيق للكلمة. ذاك أن الإرهاب ضد المدنيين الفرنسيين إنما نما، جزئياً، من ضعف «جبهة التحرير» في وسط مؤيديها المفترضين. فقد كان أحد استهدافات تلك الارتكابات دفع القمع الفرنسي إلى سلوك وحشي وانتقامي يؤدي إلى انحياز المتضررين الجزائريين، ممن كانوا ذوي خيار رجراج، إلى الجبهة. وبالمعنى هذا، نجح الإرهاب الوطني في بلوغ غرضه، فأضاف اليه قوى كانت محايدة أو غير عابئة، حتى أن وجهاً معتدلاً كفرحات عباس، سبق له أن رفض الإقرار بوجود «أمة جزائرية»، على ما رأينا، تحول رئيساً لحكومة «جبهة التحرير» في المنفى. بيد أن النهج هذا نمى، كما سنرى لاحقاً، بذرة العنف والقسوة في داخل الجبهة والنظام الذي أقامته إثر الاستقلال. لا بل عمدت حقبة ما بعد الاستقلال إلى تحويل السياسة (إذا جازت هذه الكلمة في حالة بلد غير ديموقراطي، أي غير سياسي) إلى تقليد للعنف والتآمر وهواجس الأمن الهذيانية.
ففي صيف 1956 اجتمع القادة العسكريون والسياسيون للجبهة في مؤتمر عقدوه في وادي صومام، راسماً أهدافه على النحو الآتي: الاستقلال، أن تكون السلطة كلها في يد الجبهة وحكومتها المؤقتة، عدم فصل الصحراء الجزائرية واحتياطيها النفطي عن الجزائر، رفض وقف إطلاق النار قبل الاعتراف بالاستقلال، رفض الإقرار بمواطنية المستوطنين البيض، عدم الاكتفاء بطلب الاستقلال والتوكيد على التحول الاشتراكي والإصلاح الزراعي.
«سلام الشجعان»
وعلى امتداد سنوات الحرب، وعبر المفاوضات غير المباشرة، ثم المباشرة، مع فرنسا، تمسكت الجبهة بمقررات وادي صومام الراديكالية من دون أي تنازل أو تفريط. لكنْ في أواخر 1958، اقترح ديغول «سلام شجعان» معلناً هدنة مرفقة بوضع خطة للتنمية الاقتصادية والسياسية للجزائر على مدى خمس سنوات. ولئن رفضت الجبهة العرض ففي 1960 بدأت أعراض التفاوت تظهر فيما كانت السلطة قد شرعت تلوح على هيئة شبح أو احتمال وشيك. فـ«السيد صلاح» (سي صلاح)، وهو قائد المجموعة العسكرية الأكثر تعرضاً للضغط والحصار قريباً من مدينة الجزائر، أبدى استعداده لقبول «سلام الشجعان»، منتقلاً مع مجموعة من معاونيه إلى باريس حيث التقوا ديغول من غير أن ينجم شيء واضح عن ذلك. لكنه، هو معاونوه، لدى عودتهم، تمت تصفيتهم وسط تكهنات حول صفقة بين الفرنسيين ورفاق «السيد صلاح» في «جبهة التحرير». وقد ذُكر أن ديغول، المهتم بالوصول إلى سلام كامل، أفشى أمر الاتصالات مع «السيد صالح» للحكومة المؤقتة آملاً بأن يحصل منها على تنازلات أكبر مما انتزعه منه.
وعلى أي حال، ففي 19 مارس 1962 أُعلن عن وقف إطلاق النار. لكنْ لأن ما يُبنى على العنف لا يلبث أن يولد العنف، مغيباً أكثر فأكثر إمكان الاحتكام إلى شرعية سياسية ودستورية، أطاحت قواتُ هواري بومدين المسلحة الحكومةَ المؤقتة لجمهورية الجزائر المستقلة التي كانت قد وقعت اتفاقات إيفيان للسلام مع فرنسا، وأحلت بن بله في رئاسة الجمهورية. هكذا نشبت الحرب التي عُرفت بـ»حرب الولايات»، وكان رمزها من الطرف المقابل يوسف بن خده، رئيس الحكومة المؤقتة الذي حل، منذ 1961، محل فرحات عباس.
«التاريخيون التسعة»
الواقع أن الجزائر، منذ الاستقلال في 1962، كانت قد وقعت في قبضة حكم عسكري. فحكومة بن بله سريعاً ما عطلت المعارضة والنقاش داخل «جبهة التحرير»، وفي 1963 مُنع الحزب الشيوعي، وأرسي تقليد باتت الانتخابات معه، وعلى المستويات كافة، عملية مزورة وشكلية تنتهي إلى مبايعة الحاكم ومن يختاره.
ويمكن، في حقيقة الأمر، الدفاع عن حجة تقول إن الجزائريين، من بين كل الشعوب المستعمَرة، بدوا الأكثر تأهيلاً وتمكيناً لإنجاح استقلالهم. صحيح ان الدولة الجديدة بدأت بمصاعب اقتصادية على نطاق واسع: بطالة بنسبة 25 في المئة وتبعية مالية لفرنسا وأحد أعلى نسب الولادات في العالم (3.5 في المئة سنوياً). لكنها، في المقابل، ضمت عدداً كبيراً جداً من الرجال والنساء البالغي التأهيل العلمي والتقني. وكان ممثلو هذه الشريحة العريضة في قيادة الثورة قد خرجوا بتركيبٍ بدا يومها منطقياً بين الاشتراكية الفرنسية وأفكار التنمية الرائجة حينذاك في «العالم الثالث». وإلى ذلك توافرت ثروة هائلة من النفط والغاز يمكن أن تشكل الوقود الذي يطلق التنمية ويخفف من آلام الانتقال إليها ومن عذاباته.
بيد أن هذا التوقع لم تُكتب له الحياة. وبعد ثلاث سنوات فقط على تولي بن بله الرئاسة، أطاحه بومدين ووضعه تحت الإقامة الجبرية التي استمرت طوال عشرين سنة. وفي هذه الغضون، وخلال عهدي بن بله القصير وبومدين الطويل، لم يبق في السلطة، من أصل «التاريخيين التسعة» الذين قادوا الثورة منذ بداياتها، إلا بومدين وحده. فالذين بينهم نجوا من الفرنسيين تعرضوا، تباعاً، للتعهير أو النفي أو السجن أو الموت، على أيدي رفاقهم. وخلال عهد بومدين خصوصاً، طورد وقتل في المنافي بعض مؤسسي العمل الثوري من نقاد العهد الجديد، كمحمد خيضر أحد «التسعة»، الذي قضى في مدريد. وفي 1970 وُجد كريم بلقاسم، وهو أيضاً أحد «التسعة» الذي رأس الوفد الجزائري في مفاوضات إيفيان، مخنوقاً في فندق بفرانكفورت. والاثنان لم يُعد إليهما الاعتبار إلا بعد رحيل بومدين، في ديسمبر 1978، فيما أُطلق أيضاً سراح بن بله.
ربيع البربر
اشتهرت الجزائر بنظام متزمت وإسلامي العواطف، وبتعريب أساء إلى التقدم العلمي كما فتح الباب لأعداد من إسلاميي مصر والمشرق الذين تولوا تنشئة أجيالها الصاعدة. وإذ ساد جو قيمي مناهض للمرأة ولأي دور عام تلعبه، تنامت العمالة المهاجرة إلى فرنسا، وتراكمت عناصر انفجار سكاني جسدته نسبة الشبان البالغة الارتفاع. وإذ توفي بومدين، «أب الأمة» ومعطل حركتها، وجدت الجماعات الإثنية نفسها وسط صراع ضار حول تعريف الجزائر كدولة - أمة، صراعٍ ذكر كثيرين بعبارة فرحات عباس القديمة. فالعرب أصروا على أنها عربية وجزء من «الأمة العربية»، والأمازيغ شددوا على طابع بربري يجمعها بجنوب أوروبا، لا سيما إسبانيا، أكثر مما بالعالم العربي. ومن موقع إيديولوجي، رأى الإسلاميون أنها مسلمة أولاً وأساساً فيما أكدت النخب الناطقة بالفرنسية دعمها لجمهورية علمانية مع المطالبة بضبط النشاط السياسي للإسلاميين ومساجدهم. وفي 1980 انفجر الوضع في ما عُرف بـ»ربيع البربر» في مدينة تيزي أوزو. وبعد أربع سنوات، شهدت جامعة المدينة نفسها أعمال شغب حركتها المطالبة بحقوق ثقافية للأمازيغ. لكن التتويج العنفي هو ما حملته حرب التسعينيات الأهلية بين الإسلاميين والجيش والتي كلفت أكثر من 150 ألف قتيل، قضى بعضهم بأكثر الطرق بدائية ووحشية، مشددةً، في آخر المطاف، قبضة المؤسسة العسكرية على الحياة العامة. وهذه العسكرة للسياسة والمجتمع، التي بلغت ذروتها آنذاك، لم تكن لتنفصل عن ظروف المقاومة التي فرضت إنشاء الجيش قبل أن تنشأ الدولة، وأسست لجعل الأول مهندس الثانية والمتحكم بها، بدل أن يكون العكس. ذاك أن خوض الحرب الثورية، كما فرضت التجربة، كان الشرط الذي لا مفر منه لبناء الدولة الثورية والاستقلالية.
في المقابل، كانت الثقافة التي طورتها «جبهة التحرير»، تأسيساً على «شرعية» المقاومة، لغرض عسكرة السياسة، وكذلك استخدام الإسلام صرخة تجميع جهادي، قد عززا قدرة الإسلاميين على محاصرة كل نزوع علماني في البلاد.
وأفاق الجزائريون، في 2003، على عددهم الذي بات يبلغ ثلاثين مليوناً، ثمانون في المئة منهم دون الثلاثين، ولم يكن العدد في 1962، مع الاستقلال، يصل إلى عشرة ملايين.
هكذا حبلت المقاومة الشهيرة بمقاومات ومؤامرات ونذالات ليست أقل عدداً من عدد «الشهداء»، إلا أنها، هي و«الشهداء»، تضافروا كي يصادروا مستقبل الجزائر وعقلها.
«عشيرة العوجة» الجزائرية!
كائناً ما كان الأمر، ترتب على مواجهات «جبهة التحرير» والفرنسيين في قسنطينة في عام 1955 أن الذين نجوا من عناصر الجبهة الداخليين لم يتبق لديهم إلا القبول بقيادة قوات الخارج. وفي ديسمبر 1957، صفى الخارجيون عبان رمضان، المهندس اللامع لمعركة الجزائر العاصمة، بسبب إصراره على إبقاء الأولوية للداخل وإبقائها في الداخل. والحق أن اغتيال رمضان جاء نقطة تحول في مسارات الحرب كلها، أقله لجهة التنويه بالدلالات العصبية والأهلية المستترة في العمل الوطني. فقاتلوه كانوا مجموعة، أو «عشيرة» العوجة، وهي بلدة مغربية على الحدود مع الجزائر جعلها ثوار الخارج الجزائريون معقلاً لهم. أما «العشيرة» فأشبه بعصابة تزعمها عبد الحفيظ بوصوف وضمت، في من ضمت، أحمد بن بله والعقيد هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة الذين حلوا تباعاً في رئاسة جمهورية الجزائر المستقلة. لكن اغتيال رمضان كان له، في دورانه على مدار عصبي وأهلي، معنى آخر: فهو بربري، أو أمازيغي، من منطقة القبائل، مكروه من جماعة الخارج، أي جنود وبيروقراطيي «جبهة التحرير» المتمركزين في تونس بقيادة بومدين. ويجوز الافتراض تالياً أن إصرار رمضان على أولوية الداخل كان محكوماً برغبة أمازيغية (بربرية)، متفاوتة التبلور، في تقليص أهمية الدور العربي، المغربي والتونسي، في ما خص القرار الوطني الجزائري والتدخل فيه من قبل «الأخوة العرب». هكذا أدت تصفيته، خنقاً في المغرب، إلى تأسيس غلبتين: غلبة العسكر والبيروقراطية على الناشطين المدنيين في الثورة، وغلبة عرب الثورة على أمازيغها، ما لا يمكن من دونه فهم بعض المجاري العريضة للحقبة الاستقلالية اللاحقة ومعضلاتها.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
إيرلندا... البلد الأسبق عهداً بالمقاومات تتيح أبهى مثال لتساوي الحرب الأهلية والمقاومة
(الحلقة 9)
حازم صاغيّة
إيرلندا: معادل الحرب الأهلية
قد لا ينطبق وصف المقاومة، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، على إيرلندا، نظراً إلى أن تاريخها على مدى قرون تخلله مسار مقاوم، فضلاً عن أن مقاومتها لا يمكن أن تكون من الصنف المفضي، لا نظرياً ولا عملياً، إلى الإمساك بالسلطة بعد التحرير، أو بعد الاستقلال، تبعاً لمدى الانقسام الديني ودرجته. هكذا جاز، وعلى نحو مفارق، اعتبار ذاك البلد أكثر تأهيلاً للمقاومة من أن يندرج في تصنيفها التقني والعادي. وإنما للسبب هذا، نقع من المعاني والدلالات في التجربة/التجارب الإيرلندية على ما لا نقع عليه في التجارب الأخرى التي دامت لسنوات وانحصرت في حقبة تاريخية بعينها، أو أن ما نراه في هذه الأخيرة نراه مُجمعاً وكثيفاً، مختمراً ومستنفداً نهاياته في إيرلندا. أما عبثية ربط مقاومتها ببلوغ السلطة، فتكشف حالات مماثلة، ولو بخفاء أكبر، لم تحل انقساماتها الأهلية دون طلب السلطة، وغالباً إحرازها.
فإيرلندا، بوصفها البلد الأسبق عهداً بالمقاومات، أفصح الحالات في إبانتها عن تساوي الحرب الأهلية والمقاومة، بحيث ترادف إحداهما الأخرى أو تكاد. ولا يقلل من المماثلة هذه حقيقة أنها، وتحديداً سكانها الكاثوليك، عانوا من الاضطهادات المعروفة على وجه الأرض أطولها عمراً، وأن اضطهادهم كان، في معظم لحظاته، مُركباً: دينياً وطبقياً وقومياً في آن.
ولئن وجد البعض ما يحيره في اصطباغ أوروبية إيرلندا بنزاع أهلي كاد يتخذ طابعاً أشبه بالجوهري، فإن الحيرة لا يلبث أن يطردها التاريخ. ذاك أن السيرة الإيرلندية تزودنا معظم عناصر استثنائيتها التي حالت دون الاندراج في السيرة الأوروبية العريضة. فإلى الانقسام المذهبي والتاريخ الكولونيالي، واكبت الصراعاتِ التي خيضت هناك واستنفدت خائضيها تحولاتٌ لم يُتح للأخيرين الإنصات إليها، توجتها الثورة الصناعية وبناء سكك الحديد، ثم الحركة النقابية والتعليم الشامل والنظريات الاجتماعية وصعود دولة الرفاه.
وهذا ما سبقه ومهد له تراكُب التخلف الديني الذي لم يتعرض لرياح الإصلاح وحروب التوسع الإنكليزي المتصلة والمصطدمة حكماً، بسبب من الجغرافيا، بإيرلندا. فالجارة الصغيرة لم تملك، في النصف الأول من القرن السابع عشر، جامعة خاصة بها، آنَ كانت الجامعات مركز التداول في الشأن اللاهوتي ومصدر إنتاج سائر أنواع التأويل والنقد المتصلين به، ومن ثم الجديد المنجر عنه. ثم إن البدايات الاستيطانية للعهد الإليزابيثي، في القرن السادس عشر، لم تزود الإيرلنديين كتب تعاليم دينية منقولة إلى اللغة المحلية والمحكية، وهو كان شرط شارطاً للإصلاح الديني، بل ترافقت مع السيف والإخضاع وحدهما. وشأنُ المُلكية، إلى هذا، لم يكن أكثر حضاً على التقدم بينما كان أقل تعبيراً عن العدل: فبين 1540 و1640، مثلاً، تغيرت ملكية الأراضي في الجنوب الشرقي لما بات يُعرف اليوم بجمهورية إيرلندا أيما تغير. فقد حل محل الملّاك المحليين مستوطنون إنكليز واسكوتلنديون بروتستانت، بينما في ألستر، في الشمال، أُوكلت مهمة الاستيطان إلى مغامرين مارسوها كمشاريع تجارية مربحة تُجلي، بالضرورة، السكان المحليين الكاثوليك، وتمنح أراضيهم لمستوطنين بروتستانت.
«العام الصفر»
وفي الغضون هذه شهد عام 1641 انتفاضة كاثوليكية عارمة جعلته، لدى السكان البروتستانت، عاماً مفصلياً، أو حسب تسمية المؤرخ ماركوس تانير، «العام الصفر». فقد انفجر غضب السكان المحليين المهجرين صاخباً وانتشرت أعمال عنفهم ضد المستوطنين ممن صاغوا محنتهم في مماثلات توراتية المصدر: فهم بنو اسرائيل والشعب المختار، أما الكاثوليك فلهم الأدوار التي أناطها «العهد القديم» بقبائل الشغب والفوضى.
والحال أن أكثر من ثلث المستوطنين في ألستر الشمالية تعرضوا، آنذاك، للقتل بأيدي جيران كاثوليك. وهو ما صلب المستوطنين، على تعدد فرقهم البروتستانتية، في هوية «بروتستانتية» واحدة تعيش حالة حصار متواصل. وتوغلت عميقاً وبعيداً، في المقابل، حملات الاستيطان مع احتلال أوليفر كرومويل إيرلندا، ابتداء بـ1649، وحملته الضارية، في مناخ الحروب الدينية، ضد الكاثوليكية، مذهبها التقليدي والشعبي. وإذ لم يميز القائد الإنكليزي المُتخم ببروتستانتيته البيوريتانية بين السكان المحليين الكاثوليك وقدامى الإنكليز الكاثوليك، صلبهم جميعاً في هوية «كاثوليكية إيرلندية» تعيش، بدورها، حالة اضطهاد. أما سياسته لتوزيع الأراضي، فأتمت ما بدأ قبله بقدر ما أرست التماهي بين مقاومة الإنكليز والتحارب الأهلي: فقد أعطى كرومويل البروتستانت معظمها تاركاً الكاثوليك لبؤسهم ولظلم صارخ مضى، مع الزمن، يتعاظم. فهم، بعدما امتلكوا 22 في المئة من الأراضي عام 1690، غدوا يملكون 14 في المئة عام 1703، ثم 5 في المئة فقط في سبعينيات القرن الثامن عشر. وسار تدمير الطبقة الكاثوليكية المالكة الأرضَ في موازاة إلغاء ما تبقى من حقوق سياسية للكاثوليك. ذاك أنه مع ربط الحق في التصويت بحجم الأرض المملوكة، انخفض باضطراد عدد الكاثوليك الذين يحرزون الحق هذا، إلى ان انعدم تماماً في 1728.
وعلى رغم ذلك لم يتحول إلى البروتستانتية عدد يُذكر. فبين 1703 و1789، لم يتعد المتحولون عن الكاثوليكية الـ5500 شخص معظمُهم ملاكو أراضٍ فضلوا مصالحهم على هويتهم. وقد بقي الكاثوليك الأكثرية في معظم البلاد، فارتفع عددهم من 800 ألف في 1650 إلى 1.5 مليون في 1700 وحافظ، في القرن التالي، على نموه. وحسب إحصاء يعود إلى 1831، قُدر عدد الإيرلنديين بـ7.9 ملايين، بينهم 6.4 ملايين كاثوليكي. وإذ راح عددهم يكبر، كبرت ثقتهم بالنفس وقوتهم، على رغم السياسات الرسمية والاضطهاد الذي تلحقه بهم، أو أن تلك السياسات جعلت تشحذ شفرة الثقة والقوة هاتين.
المقاومة والأسطورة
هكذا كان أن استحوذت الحروب الدينية على بُعدين طبقي وأقوامي ما لبث، في زمن صعود القومية اللاحق، أن صار قومياً. وعلى هذا الواقع الكولونيالي/القومي والاجتماعي/المذهبي، ترتبت معطيات أخرى، مألوفة، إن لم تكن كلاسيكية، في حالات كتلك. فالبروتستانت ذوو الأصول الإنكليزية والاسكوتلندية، وهم في يومنا أقل من ستين في المئة في الشمال، استقروا قطاعاً سكانياً هو الأكثر مدينية وتعلماً ورفاهاً، والأقل إنجاباً، تفصلهم مناطق الإقامة وأحياؤها عن الكاثوليك «الأصليين»، وهم اليوم أكثرية كاسحة في جمهورية الجنوب وأكثر من 40 في المئة في الشمال.
لكن الرواية الوردية عن التاريخ الثوري والمقاومة، وعن التأييد الشعبي الذي حظيا ويحظيان به تنتسب، حسب بعض النقاد، إلى ماضٍ مُتوهم: فقد شكك، مثلاً، شون كرونين، في كتابه «القومية الإيرلندية: تاريخ جذورها وإيديولوجيتها»، بأساطير الثبات الإيديولوجي والمبدئي المنسوبة إلى القومية المذكورة، والتي غالباً ما استُعرضت في مواجهة الهوى الملكي والبريطاني عند البروتستانت بعدما أُلصقت بها مواضٍ لم تحدث.
ذاك أن القومية تلك تبقى تشكلاً تاريخياً اندمجت فيه عواطف وتقاليد عدة، أما أفكارها السياسية فمتقلبة رجراجة. فهي، لدى نهاية القرن السابع عشر مثلاً، وكانت لاتزال أقوامية، اتصلت بكاثوليكية عابرة للبلد على نحو لا تبرئها منه أي كتابة «تقدمية» للتاريخ. فقد اتخذت شكل تماثُل مع المَلكية الإنكليزية الكاثوليكية، لاسيما مع جيمس الثاني، آخر الملوك الكاثوليك الذي لجأ إلى الإيرلنديين إثر إطاحته، قبل أن يستقر في فرنسا. بيد أنها، في نهاية القرن الثامن عشر، لبست لبوساً يعقوبياً صارماً في مناهضة الدين، على ما سوف نرى. فهي، إذن، ليست بذاتها حاملاً لمضمون إيديولوجي، ناهيك عن أن تكون «تقدمية» بإطلاق، أو «خيراً» بإطلاق.
على أن أسطَرة المقاومة ما أملى الكتابة القومية للتاريخين الإيرلنديين، السابق عليها واللاحق لها. وكان الموضوع الأول للأسطرة تلك ثيوبالد ولف تون، رائد التوجه الاستقلالي في القرن الثامن عشر. فولف تون، وهو بروتستانتي من دبلن، من ورثة التنوير والحماسة للجمهورية، قاتل مهجوساً بنقل تعاليم الثورة الفرنسية إلى ايرلندا، كما حلم بجمهورية علمانية في بلده تنصهر بروتستانتيتها وكاثوليكيتها في قومية جامعة. فالكاثوليك والبروتستانت، عنده، وكما الدعاة القوميون عادة، سوف تتضافر جهودهم لخلق جمهورية ايرلندية كلية الانفصال عن بريطانيا، موصولة، على نحو أو آخر، بفرنسا الثورية.
«الإيرلنديون المتحدون»
وفي تنويريته المعادية للخرافة، لاسيما الكاثوليكي منها، مثل ولف تون ورفاقه الملاحدة واللاأدريون ما يشبه الطليعة التنويرية للجمهرة الكاثوليكية الفلاحية. وقد نشر، في 1791، ما اعتُبر مانيفستو القضية الإيرلندية بعنوان «مجادلة لمصلحة كاثوليك إيرلندا» (33 صفحة) ليغدو، في ما بعد، الأب الصوفي لقوميتهم.
ولوهلة في آخر عقود القرن الثامن عشر، تبدى أن أحلام الثائر المؤسس توشك على التحقق: فالراديكاليون من الطائفتين جمعت بينهم حركة «الإيرلنديين المتحدين»، وهم أبناء متحرقون إلى التغيير للطبقات الوسطى، أغلبهم من بروتستانت بلفاست. وقد تحول هؤلاء، منذ 1793، وفيما إنكلترا وفرنسا تواليان خوض حروبهما، حركة تآمرية يؤرقها الحصول على دعم فرنسا الثورية شرطاً لإكمال مهمتها.
ولم تخل التجربة المريرة من سرد مشوق. ففي 1795 انتقل ولف تون إلى باريس، حيث أقنع قادتها بنضج بلاده لتبني نموذجهم، وفي الآن نفسه، توجيه ضربة، عبرها، إلى لندن. أما فرنسا فلم تخذله دافعةً، في العام التالي، بقوات ضخمة العدد إلى إيرلندا، يرافقها ولف تون نفسه. لكنْ لئن حالت رداءة الطقس دون إكمالها سيرها، كرر الفرنسيون التجربة، أواخر العام، بقوات أقل عدداً تمكن البريطانيون من سحقها واعتقال ولف تون. وبعد عامين، في 1798، وبينما الإيرلنديون يخوضون أولى انتفاضاتهم القومية وينهزمون، انتحر الأخير في سجنه، مفضلاً ألا يموت محكوماً بالإعدام على أيدي أعدائه.
لقد بدا «الإيرلنديون المتحدون» على بينة من أن الدعم الفرنسي ليس الشرط الوحيد للانتصار. فحركتهم لن يُكتب لها النجاح، كما رأوا، إذا ما ظلت مقصورة على الجناح الراديكالي من الطبقات الوسطى المدينية والصغيرة حجماً وفعاليةً. واستنتجوا، على النحو هذا، ضرورة استثارة الفلاحين وضمهم إليهم. لكنْ هنا تحديداً بدأ التبايُن يتضح: ذاك أن كل نجاح كانت تلقاه تلك الاستثارة القومية، كان يضاعف القلق، بل الخوف، لدى طليعتها المعلمنة والقومية، وأغلبُها بروتستانتي. فالفلاحون، في أكثريتهم الساحقة، وبحكم تقاليدهم الموروثة، كاثوليك ملتزمون لا تعنيهم أفكار «الإيرلنديين المتحدين» إلا بقدر ما تعدهم باسترجاع أراضهم والتخلص من البروتستانت. وهو ما عكس نفسه سريعاً على قَسَم الانتماء إلى حركة «المتحدين...» حيث غدا ينص، في المناطق الريفية الكاثوليكية، منذ منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر، على الإخلاص للديانة الكاثوليكية. كذلك صُبغت أفكار التحرر والاستقلال بنزعة خلاصية مصادرها مستقاة من أدبيات الكاثوليك وفولكلورياتهم.
هكذا حف بالانتفاضة القومية الأولى مقتلان:
الأول، اصطباغها بدعم فرنسا كما بالتبعية لثقافتها. فهي اختلفت عن انتفاضة 1641 ما قبل القومية للسبب هذا تحديداً. ذاك أن الثورة الفرنسية، وقبلها الثورة الأميركية، كانتا قد أطلقتا بعض الأفكار حول الشعب والحرية والمساواة. وبالنسبة إلى مساهمة الثورة الأميركية، فإنها نشرت فكرة الاستقلال عن الحكم البريطاني التي لاقت أثراً واسعاً عند قطاعات إيرلندية عابرة للانتماء الطائفي.
والثاني، انفجار كتلتها ما بين قيادة راديكالية جمهورية متعلمنة تبغي توحيد «الشعب» كله، وجمهور فلاحي كاثوليكي كاره للبروتستانت. والمقتلان هذان بمنزلة بُعدين ضامرين ومتناقضين في الانتفاضة: ذاك أن التأثر بالثورة الفرنسية أنهى، أقله لدى الطليعة، تلك المماثلة بين الأمة والإيمان الكاثوليكي. فالثورة المذكورة تركت على الوعي القومي تأثيراً عظيماً إن لم يكن تأسيسياً، إذ أتاحت، ولو نظرياً، فرصة الحديث عن إيديولوجيا قومية شاملة الكاثوليك والبروتستانت. هكذا بات يؤرخ بتلك المنعطفات الكبرى لنشأة النزعة الجمهورية العلمانية بوصفها تحدياً للمطارنة والكنيسة.
الإكليروس قائداً
لكنْ عند هذا التحول تحديداً، حيث تعبيرات الثورة الفرنسية حادة ومُلحة، بدأ يضمر الحضور البروتستانتي، وهو أصلاً محدود ونخبوي، في المشروع القومي. ذاك أن انتفاضة 1798 انطوت أيضاً على مذبحة نزلت بالبروتستانت في ويكسفورد، في الجنوب الشرقي، نجم عنها إحراق مائة سجين منهم أحياءً، مقنعةً أبناء مذهبهم بأن أفكار الوحدة خديعة لا تؤول إلا إلى دمار ذاتي. فالانتفاضة تطيفت، ولئن ظل في وسع القادة المضي في تبشيرهم بقومية مستمدة من التنوير والثورة الفرنسية، فقد غدا زخم الفعل الثوري تحويراً للحقد المديد على البروتستانت بسائر طبقاتهم. فالمتمردون الذين هاجموا الملكيات كلها من غير تمييز، تعبيراً عن حرمانهم منها وحقدهم عليها، اقتصر إحراقهم البيوت على منازل بروتستانتية فحسب.
هكذا ضمت الانتفاضة انتفاضتين مميزتين، بل متعارضتين، واحدة بروتستانتية نخبوية مسرحها ما يُعرف اليوم بإيرلندا الشمالية، وأخرى كاثوليكية، شعبية وفلاحية، في ما هو الآن جمهورية الجنوب. ولئن ذهبت هذه الأخيرة أبعد من سابقتها، هي التي ارتكبت ذبح البروتستانت في ويكسفورد، تولت بريطانيا، بطريقتها، استكمال عناصر التمايُز داخل الانتفاضة، إذ مّيزت في درجة القمع التي اعتمدتها بين الجماعتين الأهليتين.
لكنْ بمرور قرن على الانتفاضة وهزيمتها، ظهرت روايتها في الأدب والفولكلور الشعبي وأعمال التأريخ القومي مما اعتبرها حجر زاوية التاريخ ذاك. وفي هذا لعب شاعر إيرلندا الكبير دبليو بي ييتس دوراً بارزاً من خلال مسرحيته «كاثلين إبنة هوليهن» (1902) التي مجّدت انتفاضة 1798 وعظّمت صوفية التضحية بالدم مستصرخةً المزيد منها. وظهر، كذلك، معظم الأغاني والأناشيد البلدية ballads التي كرست موقعها في الأسطورة المؤسسة للقومية الكاثوليكية والراديكالية الإيرلندية. ومن ناحيتها، رُفعت النزعة الجمهورية صنواً ثابتاً ودائماً للنزعة الاستقلالية، فيما رُد الإخفاق إلى مؤامرات الإمبريالية البريطانية وسياستها القائمة على مبدأ «فرق تسد».
على أنه بعد دمار الانتفاضة، وفرض حكومة لندن «الاتحاد الأنكلو إيرلندي»، ملغيةً الحكم الذاتي القائم، لم يعد للمسحوقين الكاثوليك من قيادة سوى الأكليروس، وهؤلاء جاء معظمهم من الأسر الكاثوليكية القليلة الثرية كما كانوا متحفظين عن النشاط الثوري للبعض من أبناء مذهبهم. والحال أن هذا الخط المعارض للعنف السياسي إنما بدأت الكنيسة تشقه عام 1798، حال هزيمة الانتفاضة، واجدةً صوتها السياسي في دانيال أوكونيل، المحامي والأريستوقراطي الذي دافع عن التسامح وانتقل من موقع راديكالي إلى معارضة المنتفضين. وهو انتقال كان مرده، في نظره، عدم توافر الاستعداد والتنور المطلوبين لدى الإيرلنديين. ولئن رأى، كما رأت الكنيسة، أن في وسع العمل السياسي والبرلماني إنجاز ما لا ينجزه العنف، مضى الإكليروس المحافظ في الجمع بين التصدي للنزعة الجمهورية الراديكالية والدفاع عن التراتبية الاجتماعية المعمول بها والتي هددتها أفكار الثورة الفرنسية.
وبالفعل نجح أوكونيل، مدعوماً من الكنيسة، في قيادة حركة ضغط آلت، عام 1829، إلى إتاحة المجال للكاثوليك كي يحظوا بعضوية مجلس العموم البريطاني، كما بات في وسعهم تولي بعض المناصب الحكومية، وفي الوقت نفسه ارتفع احتساب الحقوق تبعاً للمُلكية خمسة أضعاف ما كانه.
تلاشي «الغيلية» واعتناق الإنكليزية
في هذه الغضون، تولت انتفاضات المقاومة الإيرلندية دفع التطهير الطائفي بعيداً داخل «الشعب» المفترض واحداًً، وتحويل ذلك سُنّة من سُنّن النضال التحرري. فما بين 1861 و1936، تدنى وجود البروتستانت في جنوب إيرلندا بنسبة الثلثين، تاركاًً للاختلاط والاشتراك مساحات ضيقة وعرضة للاختناق، أهمها الطبقة العاملة. فنسبياً بقيت الأخيرة، الناشئة عن قطاع اقتصادي حديث، أكثر الفئات وحدوية. هكذا أنجزت، في 1907، إضراباً مشتركاً، بروتستانتياً- كاثوليكياً لعمال الموانىء بدا أشبه بالاستثناء الذي يبرهن القاعدة.
أهم من هذا ما أقدم عليه السياسيون الليبراليون والوطنيون الدستوريون الكاثوليك للحصول، عبر العمل البرلماني، على حكم ذاتي موسع. وكان ما تعنيه تلك الاستراتيجية السيطرةَ على توازنات الكتل البرلمانية من خلال التحالف مع حزب بريطاني هو الحزب الليبرالي. وفعلاً نجح هؤلاء، في 1912، في ضمان أكثرية مؤيدة لمطالبهم، واستصدار «مرسوم الحكم المحلي»، مدللين على أن الانخراط في اللعبة السياسية، لا الانتفاض، ما أتاح للنواب الإيرلنديين أن يمسكوا بالتوازن ويكونوا الأقلية المقررة في مجلس العموم البريطاني. أما مناضلو «الأخوية»، في المقابل، فكانوا يجنحون إلى عنف أقلي تجسدت ثماره في انتفاضة عيد الفصح عام 1916. ومثلما خدمت مجاعة أواسط القرن التاسع عشر انتفاضة 1848، كانت «الدينامية المحركة للعمل الوطني»، خلال مرحلة 1916-1921، ضغط السكان على الأرض. فالجوع للأرض، وقد فاقمه توقف الهجرة، هو ما ظل قوة محركة على أوسع نطاق.
آنذاك ظهر بادرايغ بيرز بوصفه تلميذاً نجيباً لسياسات ولف تون القومية الرومنطيقية. وبيرز، المثقف والشاعر الصوفي والمناضل، أضاف إلى مقاومته الاستقلالية، وتتويجُها الانتفاضة، مقاومة ثقافية جسدتها الدعوة إلى إيرلندا تكلم اللغة الغيلية، أو السلتية، التي كانت لغتها قبل وفادة الإنكليز. وهو ما كان جزءاً من منظومة تصورية تنطوي على وجود عرق غيلي وأمة إيرلندية موحدة ناطقة بالغيلية،
والخرافي في هذا كثير. ذاك أنه لم تنشأ «أمة» كتلك، بما تفترضه الكلمة من وجود عصر القوميات والأمم. أما «المجتمع»، وكان فعلاً ناطقاً بالغيلية، فكان قَبَلياً بقدر ما افتقر إلى سلطة مركزية واحدة. وباستثناء فترات عابرة أهمها حكما برايان بورو بين 1002 و1014، وإدوارد بروس بين 1315 و1318، ساد إيرلندا تعددُ الممالك الدموية الصغرى، وتنازعها، فلم تعرف الوحدة في ظل إدارة مركزية واحدة، وهنا المفارقة، إلا مع القرن السابع عشر في ظل الإنكليز. وأما الثقافة الغيلية القديمة فلم تنهض، تالياً، على وحدة سياسية ولا تطورت إلى ثقافة دولة- أمة وإن تلازمت مع ديانة ولغة موحدتين ومع أشكال فنية وأدبية تميز بها الإيرلنديون. وعموماً، لم تطل أواخر القرن التاسع عشر حتى كان التخلي الكاثوليكي عن الغيلية قد اكتمل وعم اعتناق الإنكليزية.
المجاعة الإيرلندية
نعرف من روبرت كي، صاحب الكتاب الضخم «العلم الأخضر»، أن الإيرلنديين لم يكونوا، في أي من حقب تاريخهم، قوميين بالقدر الذي ترسمه النزعة الجمهورية أو التقليد المسيطر بين المتعاطفين مع إيرلندا الكاثوليكية في الولايات المتحدة. فكتابه هذا، الذي ترك تأثيراً مهماً على الرأي العام هناك، في وقت كانت الأرثوذكسيات الجمهورية تتعرض لأسئلة متزايدة، يبين كيف أن قادةً تسوويين كدانيال أوكونيل، وكذلك تشارلز ستيوارت بارنيل، الليبرالي والقومي المعتدل في القرن التاسع عشر، كان لهما من المؤيدين، في زمنهما، أكثر مما حظي به، في زمنهما، القوميان الراديكاليان ولف تون وتلميذه بادرايغ (باتريك) بيرز، قائد انتفاضة 1916.
بيد أن هذا لم يعصم إيرلندا من شن انتفاضة أخرى، عام 1848، وهو سنة الثورات في سائر أوروبا. وهذه، بدورها، كانت بلا أفق أو أمل، لكنها قدمت مساهمة أخرى في بلورة النزعة الثورية الجمهورية، عبر عنها أحد أبرز رموزها، جيمس فينتان لالور. فالأخير رأى أنه ما دام غزو بلاده عملية مزدوجة من الإلحاق السياسي والمصادرة الاقتصادية، بات على الرد الإيرلندي ان يكون، بالضرورة، مزدوجاً مركباً، يجمع التحرر السياسي إلى مصادرة أراضي الملاكين وإعادتها إلى الفلاحين. وخلال تلك الفترة، وتحديداً بين 1845 و1849، احتدم الهم الطبقي على إيقاع المجاعة الشهيرة التي ضربت البلد وتسبب بها تسمم موسم البطاطا وفساده، فتأدى عنها موت مليون شخص، كما ترتبت عليها هجرة مليون آخر ونشأة ظاهرة الهجرة الإيرلندية.
غير أن المعادلة الاستقلالية-الاجتماعية لم تفض إلى إعادة نظر حيال البروتستانت، وإمكان التحالف مع فقرائهم، بل أعادت، من خلال مطلب استرجاع الأرض تحديداً، تكريس فكرة المقاومة بوصفها نشاطاً نضالياً للكاثوليك في مواجهة البروتستانت.
وإنما في السياق هذا صب التجذر الذي أحرزته المقاومة الاستقلالية. فانتفاضة 1848 عملت أيضاً على إدخال الحركة الجمهورية، شأنها شأن مثيلات كثيرات في أوروبا، طوراً جديداً مادته النشاط السري، الطقسي والتآمري. وهو ما عبرت عنه «الأخوية الجمهورية الإيرلندية» التي تأسست في 1858 والتي رعت التصور القائل، والمنسجم مع الأفكار الفوضوية الأوروبية عهدذاك، إن في وسع مجموعة سرية ونخبوية، أن تقيم، بإرادية الشجاعة والصمود، جمهورية إيرلندا المستقلة.
والأخوية تلك بدت وثيقة الارتباط بالإيرلنديين الأميركيين كما سمي أعضاؤها «الفينيين» إعلاناً منهم للاستمرارية مع الـ«فيينا» ‘Fianna’ أو المقاتل الإيرلندي القديم. ومن جهتهم، دان المطارنةُ الفينيين، بوصفهم حَمّلة إيديولوجيا غير دينية غريبة ومستقاة، هي الأخرى، من الثورة الفرنسية. لكن هذا لم يردعهم عن شن انتفاضة جديدة فاشلة، بدورها، في 1867.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
دخول قوات بريطانية إلى إيرلندا الشمالية حدَّ من التذابح وفرص الإنزلاق إلى سوية عنف عالمثالثية
(الحلقة 10)
حازم صاغيّة
«الجيش الجمهوري» و«السود المدبوغون»
تأكد في 1916، وبعد إعدام قادة الانتفاضة بمن فيهم بيرز، أن لندن ليست في وارد إعطاء إيرلندا حكماً ذاتياً فعلياً، فيما الحرب العالمية الأولى تستنفر أوروبا كلها عسكرياً وأمنياً. وتحت وطأة المأساة الجديدة هذه، ومحطاتُ السرد القومي الإيرلندي مآسٍ متلاحقة، تعززت رواية التأريخ كخط يبدأ بولف تون ويَمُر ببيرز، قاطعاً قطعاً كاملاً ودائماً مع العدو الإنكليزي الكامل والدائم. بيد أن التعميم السخي هو وحده ما يجوز الربط بين المؤسسين، ولف تون وبيرز، حاجباً تقلبات الوعي المقاوم ومسارات انتكاسه. فعلى رغم أن الثاني نسب نفسه إلى تراث الأول ورأى في عبارة له شهيرة أن ضريح ولف تون 'أقدس مكان في إيرلندا'، فهو اختلف عنه لجهة ضعف صلته بأفكار التنوير ومماهاته بين الكاثوليكية الإيرلندية والقومية الإيرلندية. فلم يكن اختياره ورفاقه عيدَ الفصح لإعلان الانتفاضة إلا من قبيل التوكيد على أن أولئك الذين 'يستشهدون' في سبيل الوطن يعيدون تمثيل موت المسيح وآلامه، فيما يتعادل جهدهم مع بعث أمتهم، بالمعنى الذي تقول الرواية الدينية إن المسيح بُعث فيه. وكان هذا انحداراً حاداً بقياس فكرة المقاومة الوطنية الساعية إلى استقلال الإيرلنديين جميعاً وعلمنتهم كلهم.
بيد أن القمع الذي تعرضت له انتفاضة 1916، وكان شرساً، ترك أثرين ظل تلازمهما من سمات التعامل مع انتكاسات القومية الإيرلندية. فقد تجذر الوعي الكاثوليكي وامتد تجذره إلى قطاعات أعرض، كما ظهرت علامات تحفظ، إن لم يكن عداء، للإصلاحيين الدستوريين من الكاثوليك. وهنا، ليس من مبالغة في القول إن نهج القسوة البريطانية قمعاً لانتفاضة 1916، وما تلى، فعل ما لم تفعله التمايزات القومية أو المذهبية بذاتها. مع هذا، كمنت طبقة أخرى من طبيعة عقلانية تحت سطح الغضب، مفادها الاستعداد للتسوية اتعاظاً بالهزيمة وتأثراً بمناخها. فانتفاضة 1916 إنما نفذتها أقلية ضئيلة، لم تكن ديمقراطية ولم تستشر السكان الكاثوليك في أمر يخص حياتهم ومصيرهم. وقد برهن روبرت كي، بالاستناد إلى أرشيف صحافي غني يغطي حقبة 1798-1922، أنه حين بدأ 'الجيش الجمهوري' عام 1919، (وفي العام ذاته اعتُمدت هذه التسمية، للمرة الأولى، تدليلاً على من كانوا قبلاً 'المتطوعين الإيرلنديين')، شن حرب عصابات رداً على هزيمته ونتائجها السياسية، بدت عملياته عرضة لإدانات متكررة من قبل السلطات المحلية ورجال الدين، فيما لم يحرز الجيش المذكور، في حدود تميزه عن حزب شين فين ('نحن أنفسنا') 'السياسي'، دعماً شعبياً واسعاً. ذاك أن تأييده، في أي وقت من الأوقات، لم يتجاوز الـ5 في المئة من الكاثوليك أنفسهم. أما القوة النسبية التي أحرزها فما كانت لتتحقق له لولا استقدام الإنكليز، عملاً بنهج التشدد والقسوة الاستثنائيين، الجنود المتقاعدين المتطوعين للخدمة في إيرلندا. فهؤلاء الذين عُرفـوا تبعاً لمـلابسهم بـ'الـسود والمدبوغـين' (the Black and Tans)، كان لقمعهم العشوائي المصحوب بالضربات الانتقامية والجماعية يوجهها الجيش البريطاني أن زاد التعاطف مع 'الجيش الجمهوري'.
ومستفيدةً من الضربة التي وجهتها للقوميين الإيرلنديين، مصحوبةً بعودة الكنيسة إلى الواجهة مجدداً، وقعت لندن، في 1921، معاهدة مع القوميين تقضي بالحكم الذاتي للمنطقة الكاثوليكية المتجانسة من إيرلندا، على أن يبقى الجزء البروتستانتي (وبعض مناطق كاثوليكية ملحقة به) ضمن المملكة المتحدة، وهو مالا تزال عليه الحال الآن.
مصدر الشرعية
ومرة أخرى أبدت الكثرة الكاثوليكية الاستعداد للاعتدال. فعبر صناديق الاقتراع تم التصديق الشعبي على المعاهدة، وهو ما رفضه التيار الراديكالي بزعامة إيامون دي فاليرا، أحد قادة انتفاضة 1916، مُصراً على إسقاطها بقوة السلاح. لكن الكنيسة الكاثوليكية، من ناحيتها، بلغ تأييدها للمعاهدة أن عاقبت معارضة دي فاليرا بفرض الحرم الشامل عليها، فيما القوات التي تؤيد المعاهدة تسحق المعارضة الراديكالية عسكرياً.
لقد أدى قيام الجمهورية إلى انتصار مبدأ الاستقلال في نظر الواقعيين القابلين بالتسوية مع الوجود البروتستانتي في الشمال، إلا أنه انطوى، في نظر القوميين الراديكاليين، على تقسيم لإيرلندا التاريخية التي جُزئت إلى دولة مستقلة وكاثوليكية تضم 26 مقاطعة ومنطقة بريطانية من ست مقاطعات يتولى بروتستانت إدارة حكمها الذاتي. وهو، عندهم، ما أضاف مطلب الوحدة إلى مطلب الاستقلال ضمن حزمة معتقدية-مطلبية واحدة.
بيد أن الاحتقان القومي الذي عبرت عنه المقاومة باتت قاعدته المفترضة تقتصر، مع قيام الجمهورية في الجنوب عام 1922، على أقل من نصف سكان إيرلندا الشمالية (بلفاست) الكاثوليك، بعدما كان محيطها، الافتراضي أيضاً، يشمل أكثرية كاثوليكية كبرى في عموم إيرلندا. وفي المعنى هذا، فإن أكثر من نصف سكان إيرلندا الشمالية، أي البروتستانت، بدوا الهدف المباشر لتلك المقاومة الاستقلالية، جنباً إلى جنب الجنود البريطانيين.
فالأكثرية البروتستانتية في الشمال التي رأت تقليدياً إلى الوحدة مع بريطانيا حامياً وضامناً لها من أكثرية كاثوليكية ساحقة في شطري البلد، زادت حماستُها للوحدة المذكورة في موازاة تعاظم خوفها من الانضواء القسري في وحدة إيرلندية. ودوماً كانت الذاكرة التاريخية تصلب هذه المشاعر المشطورة والمذعورة.
وفي حربه على الجمهورية الوليدة وحكومتها المؤقتة في دبلن، استخدم دي فاليرا كل ترسانة الإيديولوجيا الجمهورية وكل الزخم العاطفي والشعبوي للنضال القومي ضد لندن، كما اغتيل رفيقه وتلميذه السابق مايكل كولينز الذي بات الراديكاليون يتهمونه بالخيانة والتفريط لتسنمه رئاسة تلك الحكومة بعد مشاركته في المفاوضات التي أنتجت المعاهدة.
لكنْ بعد عقد، أي في 1931 تحديداً، وإذ بلغ العنف مجدداً طريقاً مسدوداً، وافق دي فاليرا نفسه على مضمون المعاهدة، وإن تحفظ عن الشكل، مصراً على تمثيله تقليد 1916 الثوري. هكذا اقترن التشديد على الانتفاضة، بوصفها الروح الإيديولوجية لجمهورية الجنوب، بتسوية واقعية مع بريطانيا ممزوجة بإرساء نظام برلماني يتم استكماله تدريجاً فيما يكون مصدر الشرعية الفعلية ومرتكزها.
أما المقاومة، وقد غدت محصورة في الشمال، فاستأنفت تأليف سردها الكارثي: فقد انقادت، عشية الحرب العالمية الثانية، مثلها في ذلك كمثل حركات قومية-فلاحية كثيرة قاتلت الكولونياليتين البريطانية والفرنسية، إلى التعامل مع ألمانيا النازية. ففي 1939، أنشأ 'الجيش الجمهوري' صلات مع جهاز 'أبويهر 2' الاستخباراتي الألماني الذي أرسل عملاء منه إلى إيرلندا لتشجيع نشاطات 'الجيش الجمهوري' في الشمال، الهادفة إلى تعطيل الجهد العسكري البريطاني. وفي أيار (مايو) 1940، وصل شين راسل، قائد 'الجيش الجمهوري' آنذاك، إلى برلين حيث التقى بعض كبار الرسميين النازيين بمن فيهم وزير الخارجية جواشيم فون ريبنتروب، كما تلقى تدريباً على مهارات ونشاطات إرهابية.
العنف «العالمثالثي»
وعاودت أزمة النزعة الجمهورية الراديكالية الظهور في الستينيات، بعد حملة 'الجيش الجمهوري' عام 1956 التي جسدتها هجمات مسلحة على مواقع الشرطة وبعض النقاط الحدودية مع الجنوب انتهت إلى الإخفاق ومزيد من العزلة. وفي 1962، لم يعد 'الجيش الجمهوري' يملك في مدينة بلفاست، التي يعتبرها الجمهوريون أهم المدن 'المحتلة' في إيرلندا الشمالية، إلا 24 عضواً. وهو فشل ساهم في انعطاف الجمهوريين عن قوميتهم الصافية والصوفية إلى اليسار، وهو ما كان رائجاً عالمياً حينذاك. فقد شرع هؤلاء يؤكدون على أهمية خوض النشاطات المطلبية العامة في البطالة والإسكان، وعلى الابتعاد عن التآمرية العسكرية. وتأثراً بما حصل في الولايات المتحدة، ولكنْ أيضاً بسبب مستجدات ما بعد الحرب العالمية الثانية في إيرلندا الشمالية نفسها، شهدت الأخيرة، أواخر الستينيات، حركة حقوق مدنية جماهيرية وغير عنفية. فالكاثوليك الذين أُخضعوا طويلاً لتمييز واضح في فرص العمل والإسكان والخدمات العامة، استفادوا من التشريعات البريطانية لما بعد الحرب الثانية والتي آلت إلى إنشاء شبكة المدارس الرسمية وتعميمها. هكذا ظهر، في الستينيات، جيل جيد التعليم منهم اصطدمت طموحاتهم بسَرَيان التمييز ومفاعيله. فحينما وُوجهت حركة الحقوق المدنية الصاعدة بمعارضة وحدوية بروتستانتية منيعة، يخيفها 'ما وراء' الظاهر السلمي للتحرك، تفسخت إيرلندا الشمالية إلى فوضى أهلية واسعة. ففي 1968، وكما حصل في 1798، تفسخت دعوةٌ كونية الطابع وشاملة في نظرتها المعلنة حقداً وعنفاً طائفيين وبوغرومات صغيرة متبادلة في مدينتي بلفاست وديري.
ويستحيل عزل بلوغ الحرب الأهلية شكلاً مفتوحاً وشاملاً من نزاع كاثوليكي (جمهوري)-بروتستانتي (وحدوي) في 1969-71، عن ظهور 'الجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقت'، وريث تلك الإيديولوجيا الجمهورية في أشد أشكالها نقاءً وتطلباً للعنف بوصف ذلك شرطاً للاستمرار على قيد الحياة. والحال أن الجنود البريطانيين حين تم نشرهم في إيرلندا الشمالية، صيف 1969، كان هدف ذلك حماية الكاثوليك من تعديات جهاز الشرطة البروتستانتي قيادةً وتركيباً وعواطف. وقد لعبت الخطوة هذه دورها في ضبط التذابح وتحجيمه فعززت- في مناخ من الاستقرار الأوروبي لما بعد الحروب العالمية الثانية- الأوروبية المنقوصة لإيرلندا الشمالية، عاملةً على الحد من تدهور العنف إلى سوية 'عالمثالثية'. فأي من القوى الميليشية المتنازعة لم يحصل من طائفته على الدعم الكافي لشن حملات مدنية واسعة ومتواصلة على مدنيي الطرف الآخر.
حتى في أشد مراحل التوتر حدة، كانت موجة عنف عابرة توفر الإشباع الغريزي ملغيةً 'الاضطرار' إلى مهاجمة غيتوات الطائفة المقابلة. فإيرلندا الشمالية، وإن عرفت 'البوغرومات' (هجمات شعبية دميرية)، لم تذهب 'بوغروماتها' إطلاقاً إلى ما ذهبت إليه في بلدان كالهند ونيجيريا وسري لانكا ورواندا وبلدان أخرى في مراحل مختلفة.
وراء القناع
بالنسبة إلى أدامز وجيله في 'الجيش الجمهوري'، كانت الإصلاحات التي أدخلتها الحكومة البريطانية رداً على انفجار النزاع، أواخر الستينيات، برهاناً على مدى الإنجازات التي في وسع العنف أن ينجزها. فقد ألغيت الإدارة الذاتية التي مقتها القوميون الكاثوليك وحل محلها الحكم المباشر من لندن، وهو بمنزلة إقرار بتفضيل الحكم البريطاني على حكم البروتستانت الإيرلنديين، كما حُرم التمييز في الإسكان والعمالة. أما نظام الحكومة المحلية المشوب بالفساد ومحاباة البروتستانت على حساب الكاثوليك، فخضع لإعادة نظر جذرية وموسعة. هكذا استنتج 'الجيش الجمهوري' أن العنف أدى غرضه، وأن مزيداً منه سوف يجبر بريطانيا على حزم حقائبها والرحيل. وكان لإيمان كهذا بقدرات العنف أن شجع الجمهوريين الكاثوليك، في السبعينيات، على اعتناق تصورات إرهابية كلاسيكية، تشاركوا فيها مع مجموعات كـ'بادر ماينهوف' في ألمانيا و'الألوية الحمراء' الإيطالية، مفادها ان العنف الثوري سوف يدفع الدولة إلى ردات فعل تعري طبيعتها 'الفاشية' الحقيقية.
فهم لم يفكروا، تالياً، كطرف وطني يسعى إلى كسب البروتستانت في مواجهة بريطانيا، ولا فكروا، كذلك، كطرف طائفي يعمل على استثمار التباين بين بريطانيا والبروتستانت. وبدل صب الجهود على رفع الاضطهاد عن الجمهور الكاثوليكي، اتجه 'الجيش الجمهوري' إلى تدمير الاحتمالات الإصلاحية والعقلانية وحض السلطة البريطانية على ممارسة العنف ضد الجميع. أما حيال الإصلاحات التي تتحقق، فيصار إلى تصويرها مجرد تنازلات أملاها البأس الثوري في معزل عن سائر العناصر المحيطة، الاجتماعي منها والثقافي، السياسي أو المدني.
وبدورها كانت استجابة لندن، وبصورة مستمرة، تعزز الرواية الجمهورية من موقع النقيض. وهو ما لم يصدر فحسب عن إغراء القمع في العلاقة مع إيرلندا، بل كذلك عن جهل السياسيين البريطانيين الفعلي بطبيعة مشكلتها. ويفرد بيتر تايلور صفحات من كتابه 'وراء القناع' لمقابلات أجراها مع سياسيين بريطانيين يقرون بجهلهم المطبق بشؤون إيرلندا قبيل توليهم، هم أنفسهم، سدة المسؤولية عنها. يصح ذلك في كبير رجال المخابرات البريطانية في بلفاست، بل في وزير الداخلية يومذاك جيمس كالاهان، صاحب قرار إرسال الجيش، في 1969، إلى شوارع بلفاست وديري.
والجهل هذا كان أن أثمر، مرة بعد المرة، سلوكات رسمية تتيح للجمهوريين أن يقدموا الصراع بوصفه حرباً قذرة تُشن على الإيرلنديين لا يردعها إلا العنف 'الإيجابي' و'الطاهر' المقابل. يصح ذلك في اعتماد لندن مبدأ السجن من دون محاكمة في 1971 وارتكاب العسكريين مجزرة بحق 14 شخصاً من متظاهري حقوق مدنية عزل في ديري مطلع 1972، وهو ما أنهى كل تعاطف كان لايزال قائماً مع الجيش، وصولاً إلى موقف مارغريت تاتشر المتصلب، في 1980 و1981، في التعامل مع إضراب مساجين 'الجيش الجمهوري' عن الطعام. هكذا تأسست دينامية عنف وعنف مضاد أسبغت على الصراع المسلح طابع الديمومة.
خيارات واعترافات ضمنية
على أي حال فإن 'الرسميين'، وإن أعلنوا إنهاء نشاطهم العنفي في 1972، فهذا ما لم يحل دون صراعات دموية بينهم وبين 'المؤقتين'، وكذلك مع 'جيش التحرير القومي الإيرلندي'، وهو انشقاق راديكالي صغير ظهر في 1974. لكن هذا التفسخ، مما لازم ويلازم الحركات المماثلة في بلدان أخرى، لم يحجب الدور الإرهابي الهائل لـ'المؤقتين'. فهم، منذ بدايات نشأتهم، شنوا حملات متصلة ووحشية استدعت، بدورها، ردوداً بروتستانتية لا تقل وحشية. فعلى مدى عقدين راحوا يمارسون، على نحو منهجي ومن غير تمييز، قتل البروتستانت الايرلنديين، فضلاً عن الجنود البريطانيين. وظلت أهدافهم غير المعلنة تتراوح بين حدين محكومين بخيارين ضمنيين:
- إما دفع الجيش البريطاني إلى الانسحاب بما يُضطر البروتستانت إلى الإقرار بأي تسوية تعكس الغلبة الكاسحة وتقوم مقام الثأر للماضي. وهذا بمنزلة اعتراف ضمني بأن نصر المقاومة مدخل للاستبداد فيما الحضور الكولونيالي ضمانة لحياة الجماعات المختلفة بعيداً من الممارسات الثأرية،
- وإما تخليص إيرلندا الشمالية بقوة العنف المحض من البروتستانت، وعندها يغدو حضور الجيش البريطاني لحمايتهم بلا معنى فيفرض الانسحاب نفسه فرضاً.
لكن المشكلة ان البروتستانت هم الأغلبية في الشمال الذي ينوي الجمهوريون 'تحريره'، وهو ما لا تصح مقارنته مع المستوطنين الفرنسيين في الجزائر، مثلاً، ممن انطبقت عليهم فعلاً سيناريوات كتلك، فضلاً عن أن وجود البروتستانت في إيرلندا الشمالية يرقى إلى قرون عدة، وهم يملكون، بفضل تاريخ المواجهات التي تربوا عليها، تقليداً عسكرياً فلا يعوزهم التسلح ولا التدريب.
أما ما تحقق من نجاح لهذه الاستراتيجية فبقي محدوداً غير أنه ذو دلالة: ذاك أنه أمكن حقاً تطهير كاونتي فيرماناغ، أي المناطق الحدودية بين الإيرلندتين، من البروتستانت المزارعين وأصحاب الدكاكين كلياً. وفي معنى ما، كان ما ينجزونه يزكي الفرز، فيما تبقت قلة إنجازهم الإجمالية مرآة تعكس العزلة المتعاظمة عن 'شعب' يزعمون تمثيله.
عصابات لندن الموالية
وهنا، يلتقي توم ويلسون في كتابه 'ألستر: الصراع والاتفاق'، في ما خص حقبة ما بعد 1968، مع جهود باحثين آخرين شككوا بالتأييد الذي يحظى به 'الجيش الجمهوري' وعملياته. فحملاته تلك لم تكن، في آخر المطاف، حرب تحرير وطني تُشن بالنيابة عن الأكثرية الشعبية ضد أقلية مضطهِدة أو سلطة أجنبية. كما أن أعداءها لم يكونوا أنظمة استبدادية تسد باب العملية السياسية، بل ديموقراطيتان ليبراليتان، في لندن ودبلن، تحضان على مباشرة العملية المذكورة، فضلاً عن أكثرية سكان إيرلندا الشمالية، أي البروتستانت. وتوازن سكاني كهذا، معطوفاً على العوامل الأخرى، كان يواجه 'الجيش الجمهوري' دوماً بأسئلة لا تواجه بالحدة نفسها حركات مماثلة في بلدان أخرى حيث يمكن، إلى ما لا نهاية، زعم تمثيل الأكثرية العددية رغماً عنها. فإذا ما كان هدف الجهد الجمهوري الوصول إلى استقلال يليه إنشاء نظام ديمقراطي، على غرار الوضع السائد في أوروبا الغربية، فلن يكون 'الجيش الجمهوري' مَن يمسك بالسلطة في حال التوصل إلى مثل هذا، سيما وقد بات واضحاً أن البروتستانت لن يستسلموا ويرحلوا، وأن البريطانيين لن ينسحبوا ويتركوهم يواجهون مصيراً أسود على أيدي الكاثوليك. وكان لتركيب كهذا أن أنتج إيجابية أخرى، داخل اللوحة السلبية الإجمالية، مفادها استحالة الفاشية الكاملة الطامحة لأن تقضم البلد كله وتُخضعه إليها. ففي مقابل اللغة الهجومية للفاشيين، يُلاحَظ في العنف الإيرلندي أن طرفيه الإرهابيين، الجمهوري الكاثوليكي والوحدوي البروتستانتي، قدما عنفهما بوصفه دفاعياً. فـ'الجيش الجمهوري' صوره رد فعل على احتلال بريطاني ظالم لجزء من أرض إيرلندا التاريخية. كذلك قدمت العصابات الموالية للندن عنفها كدفاع عن الطائفة البروتستانتية ضد اعتداءات 'الجيش الجمهوري'.
والرخاوة هذه امتدت إلى مبدأ الوحدة الإيرلندية التي بات مؤيدوها من الإيرلنديين الشماليين، في الثمانينيات، لا يتجاوزون الـ10 في المئة، على ما يذهب توم ويلسون. وفي الغضون هذه، لم يحل الاقتناع الكاثوليكي بأن تقسيم الجزيرة عمل شرير بدأه، في 1920، برلمان ويستمنستر، دون انقشاع حقائق اقتصادية تخدم الانفصالية الطائفية والسياسية أكثر فأكثر. فللشمال الصناعي المندمج في الاقتصاد البريطاني، لاح الابتعاد عن لندن ومحاكاة دبلن انسحاباً من تلك السوية المحققة، ولو استفاد كاثوليكها بتفاوت وتراجع عن البروتستانت، إلى نمط زراعي راكد النمو قليل العائد.
جدوى العنف
وعموماً، لم يبخل العنف الذي أعيد تأسيسه في 1968 بالمعاني الغنية التي حاول أكاديمي وثلاثة صحافيين استخلاصها من خلال كتاب مشترك وضعوه وامتد على 1630 صفحة (مؤلفوه هم ديفيد ماكيتريك وبراين فيناي وكريس ثورنتون). فتحت عنوان 'حيوات ضائعة'، قُدم سرد دقيق وصارم لحياة كل فرد قُتل، كائناً ما كان طرف القاتل وطرف القتيل، منذ يونيو 1968 حتى يوليو 1999. ومن خلال عمل كهذا، تتكشف حقيقة أساسية مفادها أن الصراع في إيرلندا الشمالية غدا، في امتداد اشتغاله وأوالياته الذاتية، هدف نفسه، لا تزيده حدوده الذاتية وجوانب قصوره إلا تعويلاً على العنف. أما التاريخ والدين والسيادة فصارت ملحقاً به يحاول توفير غطاء وتبرير لنزوعه التدميري.
فالنزاع المتمادي والمديد الذي خلف قرابة أربعة آلاف قتيل وثلاثين ألف جريح، من أصل مليون ونصف مليون إيرلندي شمالي عند انصرام القرن العشرين، كان، هو نفسه، وثيقة الإدانة الأهم للنشاط المقاوم. فمن أصل الـ1771 قتيلاً الذين أرداهم 'الجيش الجمهوري' لم يزد عدد الجنود البريطانيين عن 455 جندياً. لا بل بين انعدام 'البوغرومات' الكبرى او الهجمات المسلحة المتبادلة على أحياء الطائفة الأخرى وغيتواتها، أن الكراهية كانت قابلة للجم والتحجيم لولا أعمال العنف التي تولت، هي نفسها، إدامتها ومفاقمتها.
فالعنف، بدل أن يفتح الطريق إلى السياسة، صار السبب الرئيس وراء انهيار السياسة على نحو تصاعدي متعاظم. وفي تحليلهما استقصاءات ومسوحات أجريت بين 1989 و1995، رأى السوسيولوجيان برناديت هايز وإيان ماكأليستر أن 'الأجيال الأقدم، لا سيما أولئك الذين كبروا في المرحلة التي شهدت التقسيم، وأولئك الذين كبروا إبان كساد الثلاثينيات والحرب العالمية الثانية، أبدت مستويات منخفضة من التمييز [ضد الآخر]. وفي المقابل، تظهر المستويات الأعلى بين أولئك الذين كبروا مع بدء المشاكل في 1968. فداخل هذه الأجيال، قفز التمييز بنسبة ثلاثة أرباع قياساً بما كانه مع الذين كبروا قبل نصف قرن'. وهي 'حكمة' في ما خص جدوى العنف في زمننا، لاسيما الجدوى السياسية.
سلبية جيل الآباء
لقد رحب الجمهور الكاثوليكي، في البداية، بالجنود البريطانيين، الأمر الذي أزعج 'الجيش الجمهوري' بطبيعة الحال، وحمله على استفزازهم والتحرش بهم، ناجحاً في استدعاء ردود عديمة التمييز من قبلهم وقع معظمها على المدنيين الكاثوليك. وعلى العموم، دمر الجيش البريطاني التأييد الذي مُحضه، بسلوك عدواني دُفع إليه وباستعداد العسكريين الدائم للإساءة إلى المدنيين حين يُخيرون بين احتمال كهذا وتعريض بعض عناصرهم لخطر الموت.
وفي المناخ الموصوف تفاقمت معضلة اليسار التي ما لبثت أن تكشفت عن أزمة قاتلة. فبعدما انتقل 'الماركسيون'، في الستينيات، إلى قيادة 'الجيش الجمهوري'، غدا المطلوب، في انعطاف جديد آخر من انعطافات المقاومة الكاثوليكية، الانتقال إلى تنظيم وقيادة مطابقين للحالة الأهلية المحضة، يتغلب بهما الأصل والطبع الطائفيان على التطبع الطبقي. وكانشقاق عن قيادة 'الجيش الجمهوري' الذي بات يُسمى 'رسمياً'، خرجت القواعد التي أضحى تنظيمها يُعرف بـ'الجيش الجمهوري المؤقت'.
ذاك أن التوق إلى العنف، مغطىً بتراث ولف تون وبيرز، بدا أقوى بكثير من التوق إلى استراتيجية التحالفات الطبقية كما دعا إليها من باتوا 'الرسميين' المتأثرين بالطروحات الاجتماعية. وإذ تعامل الأولون مع البروتستانت على أنهم 'مستوطنون' وليسوا إيرلنديين، إذ الإيرلندية جوهر يتعادل مع الجوهر الكاثوليكي، ذهب الأخيرون إلى أن التركيز على الحقوق المدنية يقسم البروتسانت ويحمل بعضهم، لاسيما الطبقة العاملة والمثقفين، إلى صف المناضلين ضد 'الإمبريالية البريطانية'، كما أصروا على تسييس العمل المسلح وضبط عفويته.
لكن حقيقة انتقال المبادرة كلياً إلى 'المؤقتين'، المعولين على العنف والارهاب وحدهما، دلت كم أن الماركسية، وأي منظومة فكرية وحديثة أخرى، ضعيفة التأثير والحضور في تربة الطوائف المتنازعة. والأهم أن مقاومة فاعلة في بلد كإيرلندا مفضية حتماً، بسبب نظرها إلى أكثرية السكان على أنهم مستوطنون، إلى الحرب الأهلية.
وحسب السيرة الذاتية التي وضعها جيري أدامز، فإن معظم القيادة الحالية لـ'شين فين' رجال كانوا، في الستينيات، شباناً يسوقهم الغضب ويؤججهم نقص العدالة. وهم، في بعض الحالات، كحالة أدامز نفسه، جاؤوا من عائلات جمهورية تقليدياً، لكنهم جميعاً أطلوا على الشأن العام من موقع النقمة على ما اعتبروه سلبية جيل الآباء حيال معاملتهم كمواطنين من درجة ثانية.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
تيتو اليونان أصبح قائداً للمقاومة وبطلاً ووجهاً أسطورياً... لكنه أخفق في تحقيق حلم الأراضي المحررة
(الحلقة 11)
حازم صاغيّة
حروب الأهل في أوروبا الجنوبية
عاشت اليونان تقليدياً بلداً بالغ الانقسام وشديد الاعتماد على الحماة الأجانب. وهذا ما كان مرده إلى أسباب عدة، من بينها أن النضال، ضد الجار التركي الأقوى، بهدف الاستقلال وتوحيد أطراف البلد كافة، ظل متقطعاً، يراوح في الزمن وفي الفعالية. وهذا ناهيك عن فقر تلك البلاد التي لم تعرف الثورة الصناعية، فيما اشتُهرت تربتها بقلة الخصوبة، وتعرض مجتمعها واقتصادها، ومن دون انقطاع، لضغط سكاني كثيف، فضلاً عن الفارق الضخم، ذي الطبيعة 'العالمثالثية'، بين العاصمة المتحذلقة المقلدة لبلدان الشمال والفلاحين البدائيين المقيمين في جبالهم، والموغلين في وعيهم الديني وطقوسهم الخرافية. وقد ترافق مع هذا، كما عبّر عنه، عجز ملحوظ عن تنظيم دولة مدنية فعالة، وهو ما فاقمته لاحقاً الحرب الأهلية، ثم منذ 1967، سمح العامل هذا لضباط الجيش أن يلعبوا دوراً انقلابياً من طراز أميركي لاتيني. وقد تأثر بعض تلك العناصر بكون اليونان بلداً بالغ البعثرة الجغرافية، يتألف من مساحة جبلية برية معطوف عليها 1400 جزيرة متناثرة أكبرها كريت.
هكذا كان تاريخ المقاومة هناك هو نفسه تاريخ الصراع بين مقاومتين، واحدة يسارية شيوعية وأخرى بدأت جمهورية شبه ليبرالية لتنتهي على شيء من التطرف القومي واليميني. وقد تدرج الصراع الداخلي في مراحل عريضة ابتدأت في 1943، حين كانت البلاد لاتزال تحت احتلال ألماني هتلري بدأ في 1941 بمشاركة إيطالية وبلغارية، ولم ينته إلا بانتهاء الحرب الأهلية في 1949، أي بعد خمس سنوات على تحرر البلد من الألمان. فكأن الفعالية الأولى للمقاومة تمثلت في التسليح الشامل الذي أتاح أوسع الفرص لليونانيين كي يقتل واحدهم الآخر، مُعززاً بمظلة إيديولوجية تناحرية تبين أنها حافز أقوى، بلا قياس، من حافز الوطنية وبناء الوطن. وبشيء من المحاكمة الصارمة على النتائج، لن يكون من المبالغة أن يقال إن المقاومة، وهي الضئيلة الأثر على الاحتلال قياساً بالأثر الحاسم الذي نتج عن الجهد الحربي البريطاني، كانت ذريعة للاقتتال الأهلي، أولاً وأخيراً.
لقد كلفت تلك الحرب مصرع 55 ألف شخص من أصل سبعة ملايين يوناني يومذاك، فضلاً عن تهجير نصف مليون مواطن، لم يعودوا إلى بيوتهم إلا لاحقاً، وهذا بعدما قضى مئة ألف يوناني في المجاعة الرهيبة التي رافقت الغزو الألماني.
«يوم غورغوبوتاموس»
في هذا السياق نفهم أهمية العملية المتأخرة لترميم الوحدة الوطنية، التي رعاها قسطنطين كرامنليس، كما نفهم، بالقدر ذاته، صعوباتها: ذاك أنه حين عاد كرامنليس من المنفى المديد إلى بلاده في 1974، إثر سقوط النظام العسكري، وأراد إعادة الحياة الديموقراطية، كان أحد أبرز شعاراته 'أنسوا الماضي'، أي أنسوا الحرب الأهلية التي انبثقت من المقاومة، فمزقت البلد على امتداد الأربعينيات وتركت تأثيرات سلبية على اجتماعه وعلاقات أبنائه، كما على تطوره اللاحق. فكرامنليس، في رغبته بناء إجماعات بين أبناء شعبه، منح الحزب الشيوعي حرية العمل السياسي للمرة الأولى منذ 1947، كما ألغى الاحتفالات بالانتصار على الشيوعيين الذي أحرزه اليمين، بمعونة البريطانيين الحاسمة، في 1949، عاملاً على استبدالها باحتفالات تُجرى بمناسبة المعركة التي خاضتها المقاومة اليونانية، وهي موحدة، عند جسر سكك حديد غورغوبوتاموس، في نوفمبر 1942. والمدهش أن المعركة الأخيرة هذه كانت الوحيدة التي قاتل فيها القوميون بقيادة الجنرال نابوليون زيرفاس والشيوعيون بقيادة أريس فيلوكيوتيس ضد الألمان، قياساً بسائر المعارك حيث كانوا يتبادلون الحرب في ما بينهم. هكذا أعلن كرامنليس رسمياً عن تأسيس 'يوم غورغوبوتاموس' الذي أُخضع لأمثَلَة وطنية وقومية تكاد ترقى إلى سوية ميثولوجية.
وفي هذه الغضون كانت قد توافرت بضعة عناصر سهلت على كرامنليس مهمته تلك. فاليونان شهدت، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تغييراً اقتصادياً واجتماعياً متسارعاً لعبت السياحة والنقل البحري دوراً بارزاً فيه. كما تغيرت تغيراً ملحوظاً اصطفافات الحرب الأهلية واستقطاباتها: فاليمين توزع بين من أيد، في 1967، النظام العسكري، وبين من عارضه متمسكاً بالديمقراطية البرلمانية نسجاً على منوال أوروبا الشمالية، وفي عدادهم كرامنليس نفسه. كذلك ففي 1968 حصل انشقاق بين شيوعيي الداخل الذين تأثروا بالأطروحات الجديدة لرفاقهم الإيطاليين فتبنوا 'الشيوعية الأوروبية' ووجدوا التأييد لهم من يوغوسلافيا التيتوية، وشيوعيي الخارج الذين أيدوا موسكو وأطروحاتها واستمروا يسيرون في ركابها.
النزعة الجمهورية
واقع الحال أن النجاح البريطاني (والأميركي) في اليونان، بعد الحرب العالمية الثانية، أخضع سردية المقاومة والحرب الأهلية اليونانيتين وألحقها كلياً برواية الحرب الباردة ضد السوفيات والشيوعية. وهذا ما يدل إليه تراكم ضخم من الأعمال والكتابات في عدادها كتاب مارك مازوير 'داخل يونان هتلر-تجربة الاحتلال، 1941-44'. لكنْ منذ 1960 وخصوصاً بعد انقلاب 1967 المدعوم أميركياً، وهو الذي استفز قوى ليبرالية ومحافظة معادية للشيوعية الا أنها متمسكة بالديمقراطية البرلمانية، ظهرت رواية مراجِعة. وهذه الأخيرة بدت مضادة للرواية الأولى، تبرىء الشيوعيين وتؤكد أن المقاومة التي تماهوا معها إنما كانت ديمقراطية ووطنية أساساً، فيما بريطانيا وأميركا هما المتآمرتان الفعليتان لأنهما أرادتا استعادة مَلكية غير شعبية وإقامة حكومات يمينية بالغة التبعية لعواصم الغرب. وفي المقابل، ذهبت الرواية الشيوعية أبعد من هذا، زاعمةً لنفسها احتكار التصدي للاحتلال النازي، وراسمةً الأطراف الأخرى بوصفها إما متواطئة معه، وإما أن 'عمالتها' للبريطانيين هي ما حملها على اتباع مقاومة لم تكن منتجة في كل الحالات.
وانشطار الروايات إنما كان، ولايزال، انعكاساً لانشطار الواقع. فقد عرف التاريخ اليوناني الحديث ما يشبه الانقسام الفرنسي الحاد في 1936 حول ليون بلوم وحكومته، ولو على شكل مقلوب. فالملك جورج الثاني لم يكن شعبياً بسبب دعمه ديكتاتورية الجنرال ميتاكساس اليمينية التي قامت قبل نشوب الحرب. لكنْ قبل ذلك، ظلت المَلكية المستوردة من الشمال الأوروبي نبتة غريبة نسبياً في اليونان، قاومتها على امتداد القرن التاسع عشر حركات عدة تجمع بين الوطنية الجمهورية والدستورية وبين منزع أهلي شبه فوضوي لا تعوزه كراهية الغريب. لكن حركة الصراع تأججت في الثلاثينيات: ذاك أنه، ولأسباب عدة في صدارتها نمو النزعة الجمهورية التي سبق أن تمكنت من إلغاء المَلكية ديمقراطياً في 1924، وكذلك نمو الحزب الشيوعي ونفوذه، سلم الملك رئاسة الحكومة لميتاكساس، ذي العاطفة المَلكية والتأثرات الفاشية. لا بل إن ميتاكساس كان، في 1935، مَن لعب الدور الأبرز في استعادة العرش، قبل أن يعلن، في 1936، حكماً عسكرياً يحظى برعاية الملك ومظلته. ولما اندلعت الحرب الأهلية في العام نفسه في إسبانيا، وسط أجواء أوروبية متطرفة وملبدة، أسبغ اليمين القومي على حركة ميتاكساس لوناً خلاصياً للوطن والمَلكية والكنيسة الأرثوذكسية سواء بسواء. لكن الانقلاب، المرعي من القصر، عمل فعلياً على تضييق رقعة التأييد الشعبي للملكية وهي لم تكن واسعة أصلاً، كما حول النزعة الجمهورية إلى عاطفة هي، ولأسباب بادية الاختلاف، موضع إجماع وطني عريض.
والحق أن تصحيح رواية الحرب الأهلية بإنهاء استحواذ الحرب الباردة عليها وردها إلى الداخل اليوناني، أدى منطقياً إلى تظهير الانقسام الداخلي والاعتراف له بحصة تقريرية حاسمة في صنع الأحداث. ففيما كان النازيون لايزالون في اليونان، وقبل أشهر على انتهاء احتلالهم في أكتوبر 1944، بدأت المقاومتان شن حربهما المفتوحة. وعلى ضوء الحرب هذه، وليس الحرب على الغزو الألماني، تشكلت الحياة الحزبية كما أُلفت الأساطير على أنواعها.
«عملية بربروسا»
من ناحية أخرى، بدا الحزب الشيوعي اليوناني، في 1940، على وشك الانهيار التام بسبب الضربات الموجعة التي وجهتها إليه ديكتاتورية ميتاكساس، قتلاً وسجناً ونفياً لقادته وأعضائه. كذلك، وبسبب أوضاعهم التنظيمية ومصاعب التواصل في ما بينهم، تصرف الشيوعيون بارتباك واضح حيال مسألتين كانتا مُلحتين: كيف يقفون حيال الغزو الإيطالي الذي سبق الغزو الألماني ولم يُكتَب له التوفيق؟ وهل يؤيدون ديكتاتورية ميتاكساس في مواجهته؟ وما الموقف من ألمانيا النازية التي غزت بلدهم في 21 أبريل 1941 ثم احتلت عاصمتهم أثينا بعد ستة أيام، فيما كانت تربطها يومذاك معاهدة عدم الاعتداء الشهيرة بالاتحاد السوفياتي؟ لكنْ بعد أن هاجم الألمان بلد الشيوعية الأول في عملية بربروسا في يونيو من العام نفسه، وكان معظم اليونان قد سقط في يد المحور، بدا الحزب الشيوعي اليوناني أول الأحزاب الشيوعية التي تعلن مباشَرةَ المقاومة ضد الغزاة وضد الحكومة التي أقاموها برئاسة الجنرال جورجيوس تسولاكوغلو، وهو مَن استسلم أمام جيشهم استسلاماً غير مشروط. وهذا ما حصل حين قررت لجنته المركزية في مؤتمر عقدته في أثينا في 1- 3 يوليو 1941 اعتماد الكفاح المسلح. لكن الجهد الأساسي للحزب انصب، عملياً، على ضرب شُلل المقاومات اليمينية الصغرى في صدامات ما لبثت أن انفجرت في 1943، وذلك في إطار السباق على ملء الفراغ الذي خلفه الاحتلال الألماني. فالأخير اقتصر حضوره على الإمساك الأمني الشرس والمُحكم بالبلد، فيما كان الملك والحكومة اليونانيان قد انتقلا منذ 1941 إلى منفاهما في مصر، وهو العام نفسه الذي رحل فيه ميتاكساس.
وكان بمنزلة دوغما لدى الحزب الشيوعي اليوناني (KKE)، اعتباره أن تحقق النصر مرهون بالمدن، لا سيما المدينتين الأكبر أثينا العاصمة وسلونيكا، فيما الصراع في المناطق النائية والجبال لا يحظى إلا بموقع ثانوي. وهذا مع العلم أن الشيوعيين كانوا في 1944 قد أحكموا سيطرتهم على معظم مساحة اليونان، ما خلا العاصمة وسلونيكا. في المقابل، تمثلت وجهة نظر شيوعية أخرى في القائد العسكري للحزب، أريس فيلوكيوتيس، الذي قد يصح وصفه بأنه تيتو اليوناني الذي، على عكس رفيقه اليوغوسلافي، لم يُكتب له التوفيق. فقد كان فيلوكيوتيس قائداً شيوعياً حاول، إبان الاحتلال، أن يضمن تفوق الأنصار، الـ Partisan، على القوى الأجنبية واليمين المحلي. لكنه كان شخصية تراجيدية يتقاذفها تكوينه البسيكولوجي الحاد وقيادة حزبه الستالينية الشديدة الولاء لموسكو. هكذا ارتسم الفشل في أفقه، هو الذي لم يستطع أصلاً ما استطاعه تيتو حين طور، نظرياً وعملياً، معادلة شيوعية – وطنية قادت خطاه إلى السلطة في بلغراد. وكان فيلوكيوتيس شجاعاً وصلباً وقائداً تكتيكياً بارعاً وقف على رأس الجيش الشيوعي المعروف بـ'جيش التحرير الوطني الشعبي' (إلاس). غير أنه كان عديم الحيلة ونافد الصبر في علاقاته مع البيروقراطية الحزبية، بحيث بدا دائماً كما لو أنه منشق أو معزول وأقلوي. وهو ما كان قد تعاظم بعد ظروف غامضة انتهت به إلى توقيع 'بيان توبة' أخرجه من السجن إبان ديكتاتورية ميتاكساس. لكنْ، على عكس بقية موقّعي التوبة، استأنف نضاله بحزم ضد الديكتاتورية حال إطلاق سراحه.
الوجه الأسطوري
ومع اجتياح المحور لبلاده، تصرف فيلوكيوتيس كما يحلو له، متمرداً على التوجهات الشيوعية الرسمية، السوفياتي منها واليوناني. ففي جبال رومللي، أصبح فيلوكيوتيس بطلاً شعبياً وقائدا للمقاومة في اليونان كلها، بل وجهاً أسطورياً. والحال أنه كان شديد العنف والقسوة يُكثر اللجوء إلى حكم الإعدام، لا لخصومه فحسب، بل أيضاً لرجاله إذا ما اعتدى أحدهم على امرأة أو سرق أملاكاً لفلاحين. وقد فرض أمناً أقصى في المناطق التي سيطر عليها فيما تحول فزاعةً مكروهة لدى سياسيي أثينا القدامى والتقليديين كما لدى مثقفيها. لكنْ بدل الوحدة الوطنية المفترضة التي تستدعيها المقاومة نظرياً، إذا بهذه المقاومة تشق صفوف الشيوعيين أنفسهم.
فنجاح فيلوكيوتيس في تنظيمها آل إلى توسيع شقة خلافه مع أمين عام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جورج سيانتوس، والذي كانت لجنته تتولى تنظيم المقاومة الجماهيرية لما كان يُعرف بـ'جبهة التحرير الوطني' (إيام). فالمنظمة هذه نجحت في التحول أقوى تنظيمات المقاومة، تسيطر، مبدئياً، على 'إلاس' التي أُسست في 16 فبراير 1942 لتغدو جيشاً جباراً هو أكبر من سائر منظمات المقاومة مجتمعة. وكانت وجهة نظر بريطانيا ان 'إيام' و'إلاس' إنما هما صناعة الحزب الشيوعي اليوناني من أجل الاستيلاء على السلطة وإقامة حكم توتاليتاري في أثينا. أما أن معظم عناصر 'إلاس' قاتلوا بشجاعة ضد الاحتلال، مع أن معظم جهدهم صب في مكافحة المنافسين اليونانيين، فهذا لم يكن إلا هدفاً ثانوياً في حسابات لندن. ذاك أن البريطانيين، وإن نظروا بعين الخوف الراهن إلى برلين، فقد نظروا بعين الخوف من الغد إلى حليفتهم موسكو.
بيد أن سيانتوس، ومن ورائه الاتحاد السوفياتي، كان مصدر الأذى لفيلوكيوتيس، قبل أن تكون لندن. فهو كان مصمماً على أن يتبع حرفياً الخط السوفياتي في ما خص الوحدتين الوطنية والأممية ضد بلدان المحور. وكان ستالين أصلاً قد نظر إلى اليونان، في مقابل الاهتمام الغربي الشديد بها، بقليل من الاكتراث. فالديكتاتور السوفياتي، حسب إليزابيث باركر في كتابها 'تشرشل وإيدن في الحرب'، وهو ما بات موضع إجماع المتابعين، وافق من دون تردد على عرض ونستون تشرشل، في لقاء تاريخي ضمهما في موسكو في نوفمبر 1944، على أن يطلق يد بريطانيا في اليونان مقابل حرية مماثلة تحظى بها موسكو في مناطق أخرى من أوروبا الشرقية. وحسب ميلوفان دجيلاس في عمله الشهير 'محادثات مع ستالين'، أوضح 'أب الشعوب'، منذ بدايات التورط في الشأن اليوناني، موقفه السلبي. فعندما طرح معه وفد من 'الأنصار' الشيوعيين اليوغوسلاف هذه المسألة، وكانوا شديدي الاهتمام بمصير اليونان المجاورة لهم، أكد أنه لن يشجع أي محاولة شيوعية للاستيلاء على السلطة في البلد المذكور، لأن الحلفاء الغربيين لن يتسامحوا معها. وقد باتت وجهة النظر الأكثر إقناعاً، وإجماعاً عليها، تفيد أن الشيوعيين اليونان إنما أرادوا جر ستالين إلى حيث لا يريد، فيما كانت الدعايات الغربية تهول بدور موسكو والشيوعية.
الولاء الأعمى للسوفيات
يبدد كتاب دومينيك إيوديس 'الكابيتانيوس: الأنصار والحرب الأهلية في اليونان 1943-49'، خرافة أن 'إيام' كانت وراء مؤامرة للاستيلاء على السلطة بالقوة والإرهاب، وهي أسطورة كان أول من روّجها تشرشل قبل أن يعيد إحياءها الأميركيون في موازاة تعزيزهم 'مبدأ ترومان'، ومن ثم، في السبعينيات، لتبرير سلوك الطغمة العسكرية. لكنْ يوجد، مع هذا، من يجادلون بأنه، وبغض النظر عن شعبية 'إيام'، فإن انتصاراً تحققه كان كفيلاً بإقامة ديكتاتورية شيوعية دموية، على غرار ما نشأ في البلدان الواقعة إلى لشرق منها. وديكتاتورية كهذه لابد أن تدمر التقاليد والمؤسسات اليونانية في بقعة من أوروبا لن يسمح الغرب بتحولها إلى الشيوعية.
في هذا السياق اعترض القائد الميداني الشيوعي فيلوكيوتيس على سياسة حزبه، وضمناً الاتحاد السوفياتي، محتجاً بأن اللجنة المركزية ليست على بينة من المؤامرات على الأنصار التي يحيكها البريطانيون وحلفاؤهم اليونان، وطالباً منها الانتقال من أثينا المحتلة إلى الأراضي المحررة لـ'اليونان الحرة'، من أجل أن تُبنى هناك حركة مقاومة لا تُضطر إلى تقديم التنازلات. لكن رفض سيانتوس حتى أن ينظر في هذا الاقتراح أضاء على خلاف آخر، هو درجة احتقار القيادة الحزبية 'الذهنية' لمقاتليها 'اليدويين'، امتداداً لتقاليد مجتمع متخلف ذي تراتبيات جامدة وشبه جوهرانية. فالكثيرون من قياديي الحزب كانوا من سكان المدن ومن خريجي 'جامعة الكومنترن الشيوعية لشغيلة الشرق' (KUTV) في موسكو، وهؤلاء إنما عُرفوا بولاء أعمى للاتحاد السوفياتي، وكانوا، بالنتيجة، يتقيدون بالمعتقد الماركسي التقليدي الأشد سَفْيَتةً عن أولوية البروليتاريا المدينية في النضال الثوري، وعن أن الأنصار الفلاحين مجرد ملاحق وتوابع للطبقة العاملة. وبالنظر إلى الوضع اليوناني بدا هذا خطأً فظيعاً في مَن يستعجل الوصول إلى السلطة كيفما اتفق، وذلك على العكس تماماً مما فعله تيتو وماوتسي تونغ وسائر من نجحوا في المهمة هذه.
وقد تواصلت الاشتباكات بين قوات الحزب الشيوعي والمجموعات القومية حتى ربيع 1944، فيما كانت قيادة الحزب المدنية تدفع في اتجاه آخر تمليه استراتيجية الشرعية ومحاكاتها بدلاً من استراتيجية الثورة. وقد نجحت القيادة المذكورة في ضم 'إيام' في سبتمبر 1944 إلى حكومة جورج باباندريو في المنفى، والتي جاءت نتاج اتفاقية، أو معاهدة، فاركيزا التي تم التوصل إليها، والتي بموجبها اتفق على نزع السلاح. وكان البريطانيون الذين لعبوا الدور الأكبر في طرد الألمان هم الذين دفعوا في اتجاه تلك المعاهدة والصيغة السياسية التي انبثقت منها. ففي حكومة الوحدة الوطنية تلك، أعطي للشيوعيين وحلفائهم ستة مقاعد حكومية، إلا أن الصيغة المذكورة ما لبثت أن انهارت، فاستقال الشيوعيون وأصدقاؤهم في نوفمبر بسبب رفضهم، تحت ضغط مقاتليهم، تسليم أسلحتهم. هكذا ابتدأ العنف دورة جديدة كانت تتصاعد في موازاة انهيار وحدة القرار داخل الحزب نفسه.
خلائط إيديولوجية
لقد نشأت، مع الاحتلال، مقاومة 'الجيش الوطني الديمقراطي اليوناني' (إديس) وعدد صغير من الفرق والفصائل التي نجح الشيوعيون مبكراً في تصفيتها. وكانت أثينا العاصمة مسرح بدايات 'إديس'، تبعاً لقوتها بين المدنيين الجمهوريين ومتعلمي الطبقات الوسطى المأخوذين بنموذج أوروبا الديمقراطية. وبدوره، طالب الميثاق التأسيسي لـ'إديس' بإقامة 'نظام جمهوري ذي شكل اشتراكي' في اليونان. وحسب الرواية غير الشيوعية على الأقل، حاول نابوليون زيرفاس، مؤسس 'إديس'، الاتصال بالشيوعيين والتنسيق معهم، لكنهم، في المقابل، طالبوه بالذوبان في جسمهم العسكري، كما شككوا عميقاً بتحالفه مع البريطانيين الذين كانوا يوفرون له الدعم العسكري السخي. لكن تأييد البريطانيين لجورج الثاني وحاجة زيرفاس إلى معونتهم، جعلاه يعلن، في مارس 1942، ولاءه للملك، موسعاً، بالتالي، أطر حركته التنظيمية لاستيعاب العناصر الملكية.
وهذا ما كان بمنزلة تحول كبير في ما يوصف بجبهة اليمين. فزيرفاس كان فينزيلوسياً، نسبة ً إلى إليفثيريوس فينيزيلوس، رئيس الحكومة الكاريزمي الذي اصطدم مبكراً بالمَلكية وأسس الحركة التي تركت تأثيرها الواضح على السياسة اليونانية ما بين مطالع القرن العشرين وسبعيناته. فقد أنشأ زيرفاس في سبتمبر 1941 'العصبة الوطنية الجمهورية اليونانية' المناهضة للمَلكية والمشوبة بخلائط إيديولوجية متنافرة تشبه خلائط الثقافة السياسية اليونانية.
وفي 1924 كان الفينيزيلوسيون وحلفاؤهم الطرف الذي فاز بإلغاء الملكية والتحول إلى نظام جمهوري عبر استفتاء حصلوا فيه على الأكثرية، وقد استمرت الجمهورية التي أقاموها حتى 1935 حين استعيدت الملكية في ظل صعود التطرف اليميني والعسكري الذي رمز إليه ميتاكساس، وذلك على نحو متساوق مع معظم أوروبا وبعض 'العالم الثالث'. ثم في الثلاثينيات والأربعينيات، دعا الفينيزيلوسيون إلى التحالف مع دول الغرب الديمقراطية ضد ألمانيا النازية، فكانوا، على العموم، خليطاً إيديولوجياً قومياً وجمهورياً لا يقطع مع توجهات تقدمية وليبرالية ويسارية. لكنهم، بالتدريج، ولاسيما في ظل حاجتهم الماسة إلى البريطانيين، وأيضاً في مناخ النزاع مع الشيوعيين، راحوا ينعطفون يميناً.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
المقاومة أفرغت الداخل اليوناني وفتحت الباب واسعاً أمام الدول الأجنبية وأجهزة استخباراتها
(الحلقة 12)
«الرجعية اليونانية»
وعلى أي حال، فمعاهدة فاركيزا، التي عقدت في عام 1944 بين الحزب الشيوعي وحكومة بابانداريو في المنفى وقضت بنزع سلاح الحزب والمضي قدما في تسوية سياسية بمساندة بريطانيا لاعبة الدور الأكبر في إبرامها، لم تأت بالسلام الموعود، بل فجرت الأحقاد والثارات، القديم منها والمستجد. ولئن استطاع المسلحون الشيوعيون أن يقضوا في خلال أيام على قوات 'إديس'، فإنهم خسروا المعركة على أثينا التي انفجرت على أثر صدام عنيف بين متظاهرين شيوعيين وقوات الشرطة في 3 ديسمبر 1944. وتتعدد الروايات في شأن تلك المعركة أيضاً، فيؤكد الشيوعيون أن قوات الأمن تعرضت بشراسة لمظاهرتهم السلمية، مدفوعة إلى ذلك بإرادة بريطانية و'رجعية يونانية'، فيما يؤكد خصومهم أن الشيوعيين كانوا نقلوا قوات إلى العاصمة أرادوا من تلك التظاهرة أن تكون شرارة استيلائها على السلطة. وكائناً ما كان الأمر، استمرت المواجهة 37 يوماً شهدت من القسوة أبلغها، ولم يكن انقضى غير شهرين على تحرير اليونان من القوات الألمانية. وأخيراً، وبعد تلك الهزيمة، وافقت المقاومة الشيوعية على نزع السلاح في 12 فبراير 1945.
ومرة أخرى رأى من تبقى من المقاتلين الشيوعيين أن الظروف مناسبة لاستئناف القتال ضد البريطانيين، فيما رفضت قيادتهم المدنية المضي في القتال بسبب تمسكها بالشرعية، معلنةً أن معاهدة فاركيزا لاتزال قادرة على تعبيد الطريق إلى التطور الديمقراطي لليونان.
وفيلوكيوتيس كان، منذ البداية، قد عارض المعاهدة، لاسيما بندها المتعلق بنزع السلاح من طرف واحد لرفضه أن ينتهي الأمر 'إذعاناً للإمبرياليين والرجعيين'، ودانه الحزب وندد به بوصفه مغامراً متهوراً ومرتكب جرائم ضد الديموقراطية وخطراً على الشيوعيين أنفسهم. وفي سياق التخلي هذا اندرج تسليم 'إلاس' سلاحها وحلها وحداتها، وفيه أيضاً قُتل قائدها وبطلها الأسطوري فقُطع رأسه ثم عُرض، في طقس بدائي متوحش، في بلدة تريكالا. وهي ممارسة تكررت في الأشهر التالية بينما كانت الفرق اليمينية المتطرفة تعبث ثأراً وتقتيلاً بالشيوعيين.
هكذا توسعت الجروح والأحقاد أكثر، وعاد الشيوعيون، وكان التعب والإرهاق قد استبدا بهم، إلى التمرد، وقد حفت بتمردهم شروط أسوأ بكثير تسليحاً وإعداداً وتنظيماً، وفي ظل تعاظم الخلاف بين ستالين وتيتو الذي كف عن مساعدتهم فكانوا، من بين شيوعيي العالم، أبرز من دفع أكلاف ذاك الخلاف. ذلك كله لم يحل دون ثلاث سنوات أخرى من العنف ما بين 1946 و1949. في موازاة ذلك أجريت، في 1946، انتخابات كان من الطبيعي أن يقاطعها الشيوعيون، فانحصر التنافس فيها بين المَلكيين وحلفائهم في اليمين القومي والفينزيلوسيين الذين انشقوا، بدورهم، جناحين. وبسبب ذاك الانشقاق تمكنت الأحزاب اليمينية من كسب الانتخابات واستعادة النظام الملكي.
'الإرهاب الأحمر' والملكية العائدة
أما الانتفاضة الجديدة فتركزت في الأرياف، هي الأخرى، مخالفةً، أيضاً وأيضاً، الاستراتيجية الرسمية للحزب في تعويلها على الإرهاب المديني. هناك، وعلى رغم كل شيء، أحرز الشيوعيون انتصارات جدية بقيادة ماركوس فافياديس، معلنين حكومة مؤقتة لهم في الهضاب الشمالية، ومهددين المدن من بعيد، وأحياناً من قريب نسبياً. هكذا أبقى جيشهم، أو 'الجيش الديموقراطي' على ما دُعي (وهو وريث 'جيش التحرير الوطني الشعبي' - إلاس)، سكان المدن في حال من الحصار الخانق فاقمه وقوى أثره وجود شيوعيين داخل المدن.
وكان الكولونيل اليميني جورج غريفاس، وعلى رأس عدد من الضباط اليونان، قد شكل 'منظمة x' التي كانت فعاليتها في مقاومة الاحتلال أصغر من فعاليتها في مقاتلة 'إلاس' والشيوعيين. ومع انتهاء الاحتلال تابع نشاطه هذا، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في قبرص لمقاتلة البريطانيين. كذلك نشط في مقدونيا مناضل يميني ضد الشيوعيين اسمه سورلاس. وفي أمكنة عدة، ظهرت عناصر يمينية متشددة ومتفاوتة القوة والتعقيد، كان بعضها ممن تعاونوا سابقاً مع الألمان.
لكن الشيوعيين، في المقابل، وبسبب القسوة البالغة التي أبدوها لدى محاولتهم الاستيلاء على أثينا أواخر 1944، فضلاً عن الميراث الدامي لمقاومتهم الأولى، قد خسروا معظم الرأي العام وانحسر كل تعاطف معهم في البيئة العريضة الرجراجة ما بين يمين ويسار. وإذ راح 'الإرهاب الأحمر' يستجر 'إرهاباً أبيض'، رأت أكثرية اليونانيين، بمن فيهم متعاطفون سابقون مع اليسار، أن الملك رمز الخلاص الوحيد. وفي المقابل لعب دوره النزاع الروسي- اليوغوسلافي الناشىء، والذي اضطر الشيوعيين اليونان إلى إدانة تيتو. بيد أن القوة العسكرية للشيوعيين والتي غدت أكثر فأكثر استبدادية، تراجعت من غير أن تنهار. فلم يمكن إلحاق الهزيمة بانتفاضتهم إلا بصعوبة قصوى وتدخل مُكلف للقوات البريطانية.
وفي آخر المطاف تولت المقاومة، في سائر فصائلها، إفراغ الداخل اليوناني أمام أدوار الدول الأجنبية وأجهزة استخباراتها، من الاتحاد السوفييتي إلى بريطانيا ثم الولايات المتحدة، فيما تصدعت المؤسسات السياسية والحزبية جميعها تقريباً. وإذ تردت الأفكار عما كانت قد باشرت تتطور باتجاهه، كادت تضمحل الإجماعات، وهي قليلة أصلاً، بين اليونانيين، مع ما يعنيه ذلك من هلهلة نسيج وطني ليس معروفاً بالتماسك والقوة. وبسبب حرب المقاومات استعيدت المَلكية الرجعية، وهي واثقة وظافرة، فعندما ظهرت عليها إمارات الوهن، في 1967، حل الانقلاب العسكري المدعوم من الولايات المتحدة في إحدى ذرى الحرب الباردة. وبالاستفادة من ضعف المجتمع المدني والحركة الشعبية الديموقراطية، أمكن تجميد التطور السياسي اليوناني طوال سبع سنوات تالية.
الجوار الشرقي الملتهب
أما إلى الشرق من اليونان، فكانت يوغوسلافيا، منذ نشأتها، اختراعاً حديث العهد أقيم، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، على شيء من العجل. ولأن التقاليد التاريخية للجماعات، بما توقظه من ذاكرات فعلية أو مصنوعة، تعمل ضد الوحدات ككيانات جديدة طارئة على تلك الجماعات، بدا التنافس المحموم داخل الدولة الجديدة سمة العلاقة بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك، بينما ظل أهل الجبل الأسود، الأرثوذكس بدورهم، متمسكين بتمايزهم عن تينك القوميتين الأكبر والأوسع تشكلاً وشعوراً بالذات الجمعية. ومن جهتهم، ارتبط السلوفينيون تاريخياً بفيينا، لا بزغرب الكرواتية التي يشاركونها كاثوليكيتها وسويةً في التقدم لم تحرزها القوميات الأخرى، كي لا نقول ببلغراد الصربية الأرثوذكسية والأكثر فلاحية. أما المسلمون في سراييفو فانطووا على عالمهم العثماني العتيق وقدر من الغربة عن التكوين الجديد الذي أحالهم أقلية هامشية.
وتراكمت، على ضوء واقع كهذا، تناقضات موروثة عدة. فالصرب، مثلاً، اعتبروا كوسوفو، التي تتعرض لهجرة مسلمة ألبانية متصاعدة، مدينتهم المقدسة بالمعنى الذي ينظر فيه اليهود إلى القدس، أو المسلمون إلى مكة. وهم عاشوا ويعيشون على ذاكرة مقاومة الأتراك المسلمين طوال قرون خمسة، ما أكسب صلتهم بها مضموناً متوتراً ومناهضاً للإسلام، جاعلاً كوسوفو، على مدى خمسة قرون، منطقة حربية وعادماً كل فرصة ازدهار أو تقدم. أما الجبل الأسود الذي أجبر على الانضمام إلى يوغوسلافيا في 1918، في ظل آخر ملوك مملكة الجبل الأسود المستقلة، الملك نيقولا، فاندلعت فيه حرب أهلية قصيرة، إلا أنها بالغة الشراسة، بين الذين يؤيدون الوحدة والاندماج في يوغوسلافيا والذين هم ضدهما. ذاك أن أكثر من نصف أهل الجبل الأسود يشعرون بقرابة خاصة مع الصرب، الذين يعدون أكثر من عشرة أضعافهم، مردها إلى المذهب الأرثوذكسي الواحد وإلى كون الجبل الأسود مصدر الصرب البعيد ومنبع الهوية الصربية، تبعاً لتلك الميثولوجيا القومية.
وهذا التفتت إنما عبر عنه، كما حاول بطريقته أن يتفاداه، المشروع الوحدوي اليوغوسلافي لدى استعادته بقيادة شيوعية إثر الحرب العالمية الثانية. وقد دل ذلك إلى مدى حاجة البلد الذي استُرجعت وحدته السياسية إلى أسطورة المقاومة الجامعة والموحدة بدورها. والحاجة تلك هي ما عززها سعي الشيوعية اليوغوسلافية إلى توطيد دولتها وسلطتها اللاحقتين، سيما في ظل تصديها لستالين ونزعته إلى الهيمنة. وهو جميعاً ما ارتبط باسم الشيوعي الشاب، نصف الكرواتي نصف السلوفيني، جوزيف بروز، الذي عُرف في ما بعد باسم تيتو.
السيرة اليوغوسلافية
والحال أن الأسطورة لم تكن أسطورية كلياً. فالمقاومة وفرت حججاً معقولة عن أن اليوغوسلاف حرروا أرضهم من دون جيش روسي أحمر، على عكس بقية الأوروبيين الشرقيين، فكانت يوغوسلافيا البلد المحتل الوحيد الذي عرف ما يمكن اعتباره حرباً في مواجهة الألمان على امتداد الحرب العالمية الثانية. وفي الحالات كافة، فهي عُدت بين بلدان قليلة لم تخلف فيها نهاية الحرب العالمية جيشاً حليفاً يحتل أرضها. وأخيراً، غدت يوغوسلافيا التيتوية البلد الشيوعي الأوروبي الوحيد الذي يتحدى موسكو وتوسعيتها.
ثم إن المقاومة اليوغوسلافية، منظوراً إليها نظرة إجمالية تشمل فصيليها الأساسيين، استندت إلى مرتكزات تنظيمية صلبة، كالجيش الوطني الذي التف حول الجنرال درازا ميهايلوفيتش ومنه انبثقت قوات 'الشِتنكس'، المعروفة رسمياً بـ'الجيش اليوغوسلافي في أرض الآباء'، والحزب الشيوعي الذي شكل منه جوزيف بروز تيتو مقاومته التي عُرفت بـ'الأنصار'، وهي الكلمة التي تنوب عن 'جيش التحرير الشعبي وفرق الأنصار في يوغوسلافيا'. وهو ما أعطى تلك المقاومة معنى وفعالية افتقر إليهما معظم الحركات المماثلة في بلدان أخرى.
وفي سيرة الشيوعية اليوغوسلافية مما لا سيرة للمقاومة من دونها، ترقى الأحداث إلى الثلاثينيات، حين كان الطلبة الشيوعيون مهمومين بمقاومة البوليس السري للديكتاتورية المَلكية، وكانت قياداتهم تضم تيتو الذي درس في مدارس موسكو الحزبية، وأستاذ المدرسة السلوفيني جوزيف كارديلج، والخياط الصربي إدوارد رانكوفيتش، وابن الجبل الأسود ميلوفان دجيلاس.
ولم يكن الحزب، عشية الحرب العالمية الثانية، يضم أكثر من ألفي عضو على الأكثر، لكنه ما إن انتهت الحرب حتى استولى على السلطة بجيش تعداده 800 ألف عنصر، فيما بدت القوى اليمينية والمَلكية والقومية، الكثيرة والقوية، متناحرة ومتنافسة في ما بينها. وطبعاً لعبت الاستقلالية التي جسدها تيتو حيال الاتحاد السوفييتي، دوراً ملحوظاً في رفع صدقيته كقائد وطني بدل أن يكون مجرد قائد فصائلي للحزب و'الأنصار'.
بيد أن ذلك خالطه الكثير من التعرج والحركات الالتفافية. فتيتو عاش في موسكو إبان تطهيرات ستالين العظمى، ولئن لزم الصمت صوناً لحياته، فقد تعلم الدرس الذي يسعى المستبدون إلى تعليمه لمن يعاين استبدادهم. فلم يخلُ الأمر، بالتالي، من انتهازية اضطرارية تعدت الحفاظ على الحياة الشخصية إلى اللهاث النشط وراء موسكو في أمور استراتيجية ومبدئية بالغة الأهمية، بما فيها طبيعة الوطن وتركيب عناصره. هكذا، مثلاً، يستوقف نويل مالكولم في كتابه 'البوسنة: تاريخ قصير'، ما يسميه 'ضآلة الوضوح في المعلومات التي قدمها [تيتو]'، مع بداية الحرب العالمية الثانية، 'عن البلد وما إذا كانت سيُرتب أم يُقسم'. ولا يلبث أن يمضي شارحاً: 'في تلك الفترة كان لايزال خادماً مطيعاً لستالين، وكان مستعداً أن يخلق ما تطلبه موسكو: أكان دولة مركزية قوية، أم اتحاداً يوغوسلافياً من جمهوريات اشتراكية فيدرالية، أو حتى فيدرالية بلقانية تشمل بلغاريا وألبانيا'.
تقديرات غامضة
الحال أن الغموض والتعثر مما لازم المواقف الستالينية حيال المسألة القومية انتقل إلى الحزب الشيوعي اليوغوسلافي ذاته. فحتى أواسط الثلاثينيات، قامت سياسة الكومنترن على اعتبار يوغوسلافيا جزءاً من حائط الدول غير الصديقة التي نشأت في فرساي لتكون سداً ضد الاتحاد السوفييتي، وقد دعا الكومنترن إلى حل يوغوسلافيا في 1924، كما شُجع الشيوعيون اليوغسلاف على تحريك القوميات الناقمة في وجه بلغراد الصربية كوسيلة لخدمة ذاك الغرض. أما في 1935 فتغير الخط كلياً: ذاك أن الشيوعيين باتوا الآن مطالَبين من 'الشقيق الأكبر' بالحفاظ على يوغوسلافيا والعمل بموجب روحية 'الجبهة الشعبية' ضد 'الفاشية الدولية'.
لكنْ يبدو أن انشغال ستالين باندلاع الحرب الثانية هو ما استثمره سريعاً تيتو، فلم ينتظر أوامر الكرملين، بل بادر إلى الانخراط في حرب التحرير تبعاً لأفكاره وعملاً بطرقه وتقديراته الذاتية التي طويلاً ما بقيت غامضة أو مكتومة. هكذا بدا، في وقت لاحق، ان الانتصار الفعلي الوحيد الذي أحرزته الشيوعية الأوروبية في الحرب إنما تم بغير رضا السياسة السوفييتية، إن لم يكن بعكس رضاها. وقد ظل من اللافت أن البريطانيين، حسب إحدى الروايات، اعترفوا بتيتو وأنصاره حين كانت روسيا لا تزال تؤيد عودة الملكية.
لكن تلك الصفحات لا تطمس صفحات أخرى لا تقل أهمية عنها، ولو أنها حظيت بضوء وتركيز أقل. ذاك أن تيتو ودجيلاس ورفاقهما فهموا الحرب، أيضاً، ومنذ البداية، بوصفها فرصة لانهاء خصومهم المحليين، وكانت الخصومة الأساسية للشيوعيين مع ميهايلوفيتش و'الشِتنكس'، فضلاً، بطبيعة الحال، عن 'الأوستاشي' (الانتفاضة) الفاشية في كرواتيا. وقد صرف 'الأنصار' وقتاً وجهداً في تصفية الطرفين لا يقلان عما صرفاه في مكافحة الغزاة الألمان. فبين 1941 و1945 قضى 1.9 مليون يوغوسلافي أكثر من نصفهم فقدوا حياتهم في الحرب الأهلية الداخلية. وكانت الحرب ضد الخصوم الداخليين، كما ضد الغزاة، في غاية الوحشية.
لقد تحول تعامل 'الشِتنكس' مع الألمان، لقطع الطريق على 'الأنصار'، ملفاً ضخماً ودسماً. إلا أنه لا يني يثير عدداً من المسائل الأعقد بما يلائم التعقيد اليوغوسلافي نفسه: ذاك أن 'الشتنكس'، بقيادة ميهايلوفيتش، مثلوا عدداً من التوجهات التي أملت عليهم إبقاء مقاومتهم مضبوطة ومحدودة من أجل 'الحد من الدمار' الذي 'يقضي كلياً على يوغوسلافيا'. وقد كمن وراء ذلك أنهم، هم الصربيون القوميون المتشددون، يملكون ارتياباً عميقاً حيال الشيوعية التي رأوا أنها تقاتل بالنيابة عن السوفييت، وأنها تبغي، من خلال اعتماد المقاومة استراتيجية وحيدة وقصوى، دفع الألمان إلى القضاء الكامل على صربيا ويوغوسلافيا القديمتين من أجل أن يقطفوا هم البلد وسلطته وقد انهارا تماماً. وكان ما يؤكد لهم مخاوفهم تلك أن الشيوعيين دمجوا بين مهمة التحرير من الغزاة الألمان ومهمة إنهاء المَلكية الصربية – اليوغوسلافية وعلى رأسها الملك بيتر (بطرس) الثاني الذي كن له ميهايلوفيتش كل الولاء. لكن الأخير، كسلطوي وعسكري رجعي الهوى، تملكه حذر يضاهي الحذر الأول من الديمقراطيات الغربية التي رأى أنها تخوض معركتها مع الألمان بدماء الصربيين واليوغوسلاف. هكذا انهارت علاقته بالبريطانيين في حدود 1943 – 1944 فاندفعوا إلى حصر الدعم الذي يقدمونه للمقاومة اليوغوسلافية بـ'الأنصار' وحدهم. وفوق هذا لم يكن ميهايلوفيتش أقل حذراً من الكروات والمسلمين وسائر العناصر المشكلة ليوغوسلافيا لظنه أن عداء هؤلاء للصرب أكبر من أي حساسية أخرى تتملكهم.
الأسياد الجدد
فعلاً، جرت، بانتهاء الحرب، عمليات اجتثاث بالغة الثأرية لـ'الشتنكس' و'الأوستاشي' ممن هربوا شمالاً مع الجيش الألماني المنكفىء. هكذا قُتل كثيرون منهم شتاء 1945 على الحدود النمسوية-السلوفينية، بحيث أن الفلاحين في تلك المناطق ظلوا لسنوات يعثرون على جثث لهم هناك. وفي هذا استُخدم بعض أكثر الوسائل قسوةً وإجرامية ضد الخصوم المهزومين داخل المقاومة المناهضة للنازية، كما ضد أولئك الذين وقفوا خارجها أو ضدها. وفي هذا السياق أُعدم ميهايلوفيتش، الذي اختبأ في البوسنة، رمياً بالرصاص، بتهمة 'الخيانة العظمى'.
وكانت أعمال كهذه أحد أسباب الغضب الذي تراكم وانفجر لاحقاً، لدى الكرواتيين والسلوفينيين، حيال دولة تيتو التي تجاهلت كل ما حصل حرصاً منها على وحدة البلد بقيادتها، وعلى طهارة أسطورة المقاومة المطلقة والمبدئية.
لكنْ رغم الخلاف مع روسيا الستالينية وما أكسبته من قوة نسبية للنظام، فإن الشعور بنقص الشرعية وبضعف الوحدة الوطنية حملا تيتو في 1949 على ابتداء موجة التجميع الاجباري. وبعد رحيل ستالين في 1953، أبدى الزعيم اليوغوسلافي حماسته لتوطيد عبادة شخصية خاصة به، بوصفه قائد المقاومة وباني الأمة والمتصدي لحمايتها من تهديدات الخارج. وسريعاً ما تحولت العلاقة 'الأخوية' بين قادة الحزب، والتي صنعتها الحرب أساساً، إلى بُنية مراتبية بالغة الصرامة يتربع في قمتها تيتو زعيماً مطلقاً. أما الـ15 ألف شيوعي يوغوسلافي الذين حافظوا في الخمسينيات على ولائهم لستالين، فجُرجروا مثل القطعان إلى معسكرات التجميع وتعرضوا لشتى أصناف التعذيب، على ما يروي دجيلاس نفسه في كتابه 'سقوط الطبقة الجديدة: تاريخ التدمير الذاتي للشيوعية'، حيث أعاد نشر بعض أهم ما ورد في كتب سابقة له.
لكن عبادة شخصية تيتو، التي تم اشتقاقها من أسوأ مظاهر الستالينية، ساعدت عكسياً في تعزيز صورة المقاومة إبان الحرب. هكذا تعاظم الطلب على تلك المقاومة والتعويل عليها بوصفها مصدراً لشرعية السلطة الشيوعية ولشرعية تيتو داخلها.
إلا أن التحسن الاقتصادي اللاحق، قياساً ببقية بلدان أوروبا الشرقية، ساهم، هو نفسه، في تصديع الأساطير الموحدة بما في ذلك أسطورة المقاومة. ذاك أن التحسن النسبي ذاك اتصل أساساً بوجود أكثر من مليون عامل يوغوسلافي مهاجر في الغرب وبمليارات الدولارات من المساعدات الأميركية منذ قطيعة تيتو وستالين في 1948. وانفتاح كهذا على الخارج كان مثل الشمس التي بدأت تحرق شمع الرواية المحلية المغلقة على نفسها. فـ'الحرب والثورة – على ما كتب دجيلاس – كانا يوشكان على الانتهاء، لكن الأحقاد والانقسامات استمرت تجلب الموت والدمار في داخل البلد وفي خارجه على السواء... والثورات إنما تُبرر كأفعال حياة، أفعال عيش، بيد أن أمْثَلَتها غطاء لأنانية الأسياد الثوريين الجدد وحبهم للسلطة'.
استئصال الخصوم
ابن الجبل الأسود الشيوعي ميلوفان دجيلاس، على ما يخبرنا هو لاحقاً، كان يضرب المساجين الألمان حتى الموت وينتزع حناجرهم مستخدماً، لهذا الغرض، سكين جيب، وكان هو ذاته من التقى، باسم الشيوعيين و'الأنصار'، بعض كبار الرسميين الألمان في سراييفو، وفي أمكنة أخرى من البوسنة، في مارس 1943، وقد أخبرهم أن العدو الرئيسي لـ'الأنصار' هم 'الشِتنكس' لا الجيش الألماني. وقد اقترح دجيلاس هدنة على الألمان، بل عرض مقاتلة البريطانيين إذا ما حط طيرانهم المنطلق من البحر الأدرياتيكي فوق مناطق يسيطرون عليها. ويبدو أن القادة الألمان اهتموا بالعرض الشيوعي اليوغوسلافي، الذي ينم عن ضآلة الحجم الذي تحتله الاعتبارات الإيديولوجية، بل الاعتبارات الوطنية أيضاً، قياساً بحجم الرغبة في استئصال خصوم محليين. والأشد بؤساً من ذلك أن هتلر كان هو من أحبط ذاك العرض، فلم ينجم التفاوض إلا عن تبادل محدود للأسرى.
وهناك أكثر من دليل على هذا التوجه المحكوم بتلك الأولوية: ففي بدايات الحرب والمقاومة سيطرت 'الشتنكس' على معظم صربيا والجبل الأسود، وهو ما حكم استراتيجية تيتو بوصفها استراتيجية يكمن عمودها الفقري في التخلص من 'الشتنكس'. ومع أن جيش 'الأنصار' الشيوعيين ضم آلافاً من المقاتلين الشجعان، بقي أن معظم القتال الواسع النطاق تقريباً بينه وبين قوات المحور إنما حصل بمبادرة من قادة المحور الذين كانوا هم الذين يقررون، تبعاً لاعتباراتهم، متى ينبغي إجلاء هذه الفرقة من 'الأنصار' أو تلك عن مناطق محددة.
كذلك لم يؤثر تحرير تيتو للمناطق الريفية البعيدة على الجهد الحربي الألماني بأي معنى حيوي: فالألمان والإيطاليون مضوا في فرض سيطرتهم على المدن الكبرى والطرق وسكك الحديد الرئيسة والمناجم. أما السبب الذي حمل الألمان على إجلاء 'الأنصار' عن شمال غرب البوسنة، مطالع 1943، فلم يتعلق بقوات تيتو ومقاومتها بقدر ما اتصل بالخوف الألماني من إنزالٍ قد ينفذه الحلفاء في الساحل الدلماسي المجاور، وهو السبب نفسه، أي السيطرة على الداخل المجاور، ما جعل الألمان يشنون آنذاك هجومهم على الهرسك والجبل الأسود.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
المقاومة أفرغت الداخل اليوناني وفتحت الباب واسعاً أمام الدول الأجنبية وأجهزة استخباراتها
(الحلقة 12)
«الرجعية اليونانية»
وعلى أي حال، فمعاهدة فاركيزا، التي عقدت في عام 1944 بين الحزب الشيوعي وحكومة بابانداريو في المنفى وقضت بنزع سلاح الحزب والمضي قدما في تسوية سياسية بمساندة بريطانيا لاعبة الدور الأكبر في إبرامها، لم تأت بالسلام الموعود، بل فجرت الأحقاد والثارات، القديم منها والمستجد. ولئن استطاع المسلحون الشيوعيون أن يقضوا في خلال أيام على قوات 'إديس'، فإنهم خسروا المعركة على أثينا التي انفجرت على أثر صدام عنيف بين متظاهرين شيوعيين وقوات الشرطة في 3 ديسمبر 1944. وتتعدد الروايات في شأن تلك المعركة أيضاً، فيؤكد الشيوعيون أن قوات الأمن تعرضت بشراسة لمظاهرتهم السلمية، مدفوعة إلى ذلك بإرادة بريطانية و'رجعية يونانية'، فيما يؤكد خصومهم أن الشيوعيين كانوا نقلوا قوات إلى العاصمة أرادوا من تلك التظاهرة أن تكون شرارة استيلائها على السلطة. وكائناً ما كان الأمر، استمرت المواجهة 37 يوماً شهدت من القسوة أبلغها، ولم يكن انقضى غير شهرين على تحرير اليونان من القوات الألمانية. وأخيراً، وبعد تلك الهزيمة، وافقت المقاومة الشيوعية على نزع السلاح في 12 فبراير 1945.
ومرة أخرى رأى من تبقى من المقاتلين الشيوعيين أن الظروف مناسبة لاستئناف القتال ضد البريطانيين، فيما رفضت قيادتهم المدنية المضي في القتال بسبب تمسكها بالشرعية، معلنةً أن معاهدة فاركيزا لاتزال قادرة على تعبيد الطريق إلى التطور الديمقراطي لليونان.
وفيلوكيوتيس كان، منذ البداية، قد عارض المعاهدة، لاسيما بندها المتعلق بنزع السلاح من طرف واحد لرفضه أن ينتهي الأمر 'إذعاناً للإمبرياليين والرجعيين'، ودانه الحزب وندد به بوصفه مغامراً متهوراً ومرتكب جرائم ضد الديموقراطية وخطراً على الشيوعيين أنفسهم. وفي سياق التخلي هذا اندرج تسليم 'إلاس' سلاحها وحلها وحداتها، وفيه أيضاً قُتل قائدها وبطلها الأسطوري فقُطع رأسه ثم عُرض، في طقس بدائي متوحش، في بلدة تريكالا. وهي ممارسة تكررت في الأشهر التالية بينما كانت الفرق اليمينية المتطرفة تعبث ثأراً وتقتيلاً بالشيوعيين.
هكذا توسعت الجروح والأحقاد أكثر، وعاد الشيوعيون، وكان التعب والإرهاق قد استبدا بهم، إلى التمرد، وقد حفت بتمردهم شروط أسوأ بكثير تسليحاً وإعداداً وتنظيماً، وفي ظل تعاظم الخلاف بين ستالين وتيتو الذي كف عن مساعدتهم فكانوا، من بين شيوعيي العالم، أبرز من دفع أكلاف ذاك الخلاف. ذلك كله لم يحل دون ثلاث سنوات أخرى من العنف ما بين 1946 و1949. في موازاة ذلك أجريت، في 1946، انتخابات كان من الطبيعي أن يقاطعها الشيوعيون، فانحصر التنافس فيها بين المَلكيين وحلفائهم في اليمين القومي والفينزيلوسيين الذين انشقوا، بدورهم، جناحين. وبسبب ذاك الانشقاق تمكنت الأحزاب اليمينية من كسب الانتخابات واستعادة النظام الملكي.
'الإرهاب الأحمر' والملكية العائدة
أما الانتفاضة الجديدة فتركزت في الأرياف، هي الأخرى، مخالفةً، أيضاً وأيضاً، الاستراتيجية الرسمية للحزب في تعويلها على الإرهاب المديني. هناك، وعلى رغم كل شيء، أحرز الشيوعيون انتصارات جدية بقيادة ماركوس فافياديس، معلنين حكومة مؤقتة لهم في الهضاب الشمالية، ومهددين المدن من بعيد، وأحياناً من قريب نسبياً. هكذا أبقى جيشهم، أو 'الجيش الديموقراطي' على ما دُعي (وهو وريث 'جيش التحرير الوطني الشعبي' - إلاس)، سكان المدن في حال من الحصار الخانق فاقمه وقوى أثره وجود شيوعيين داخل المدن.
وكان الكولونيل اليميني جورج غريفاس، وعلى رأس عدد من الضباط اليونان، قد شكل 'منظمة x' التي كانت فعاليتها في مقاومة الاحتلال أصغر من فعاليتها في مقاتلة 'إلاس' والشيوعيين. ومع انتهاء الاحتلال تابع نشاطه هذا، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في قبرص لمقاتلة البريطانيين. كذلك نشط في مقدونيا مناضل يميني ضد الشيوعيين اسمه سورلاس. وفي أمكنة عدة، ظهرت عناصر يمينية متشددة ومتفاوتة القوة والتعقيد، كان بعضها ممن تعاونوا سابقاً مع الألمان.
لكن الشيوعيين، في المقابل، وبسبب القسوة البالغة التي أبدوها لدى محاولتهم الاستيلاء على أثينا أواخر 1944، فضلاً عن الميراث الدامي لمقاومتهم الأولى، قد خسروا معظم الرأي العام وانحسر كل تعاطف معهم في البيئة العريضة الرجراجة ما بين يمين ويسار. وإذ راح 'الإرهاب الأحمر' يستجر 'إرهاباً أبيض'، رأت أكثرية اليونانيين، بمن فيهم متعاطفون سابقون مع اليسار، أن الملك رمز الخلاص الوحيد. وفي المقابل لعب دوره النزاع الروسي- اليوغوسلافي الناشىء، والذي اضطر الشيوعيين اليونان إلى إدانة تيتو. بيد أن القوة العسكرية للشيوعيين والتي غدت أكثر فأكثر استبدادية، تراجعت من غير أن تنهار. فلم يمكن إلحاق الهزيمة بانتفاضتهم إلا بصعوبة قصوى وتدخل مُكلف للقوات البريطانية.
وفي آخر المطاف تولت المقاومة، في سائر فصائلها، إفراغ الداخل اليوناني أمام أدوار الدول الأجنبية وأجهزة استخباراتها، من الاتحاد السوفييتي إلى بريطانيا ثم الولايات المتحدة، فيما تصدعت المؤسسات السياسية والحزبية جميعها تقريباً. وإذ تردت الأفكار عما كانت قد باشرت تتطور باتجاهه، كادت تضمحل الإجماعات، وهي قليلة أصلاً، بين اليونانيين، مع ما يعنيه ذلك من هلهلة نسيج وطني ليس معروفاً بالتماسك والقوة. وبسبب حرب المقاومات استعيدت المَلكية الرجعية، وهي واثقة وظافرة، فعندما ظهرت عليها إمارات الوهن، في 1967، حل الانقلاب العسكري المدعوم من الولايات المتحدة في إحدى ذرى الحرب الباردة. وبالاستفادة من ضعف المجتمع المدني والحركة الشعبية الديموقراطية، أمكن تجميد التطور السياسي اليوناني طوال سبع سنوات تالية.
الجوار الشرقي الملتهب
أما إلى الشرق من اليونان، فكانت يوغوسلافيا، منذ نشأتها، اختراعاً حديث العهد أقيم، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، على شيء من العجل. ولأن التقاليد التاريخية للجماعات، بما توقظه من ذاكرات فعلية أو مصنوعة، تعمل ضد الوحدات ككيانات جديدة طارئة على تلك الجماعات، بدا التنافس المحموم داخل الدولة الجديدة سمة العلاقة بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك، بينما ظل أهل الجبل الأسود، الأرثوذكس بدورهم، متمسكين بتمايزهم عن تينك القوميتين الأكبر والأوسع تشكلاً وشعوراً بالذات الجمعية. ومن جهتهم، ارتبط السلوفينيون تاريخياً بفيينا، لا بزغرب الكرواتية التي يشاركونها كاثوليكيتها وسويةً في التقدم لم تحرزها القوميات الأخرى، كي لا نقول ببلغراد الصربية الأرثوذكسية والأكثر فلاحية. أما المسلمون في سراييفو فانطووا على عالمهم العثماني العتيق وقدر من الغربة عن التكوين الجديد الذي أحالهم أقلية هامشية.
وتراكمت، على ضوء واقع كهذا، تناقضات موروثة عدة. فالصرب، مثلاً، اعتبروا كوسوفو، التي تتعرض لهجرة مسلمة ألبانية متصاعدة، مدينتهم المقدسة بالمعنى الذي ينظر فيه اليهود إلى القدس، أو المسلمون إلى مكة. وهم عاشوا ويعيشون على ذاكرة مقاومة الأتراك المسلمين طوال قرون خمسة، ما أكسب صلتهم بها مضموناً متوتراً ومناهضاً للإسلام، جاعلاً كوسوفو، على مدى خمسة قرون، منطقة حربية وعادماً كل فرصة ازدهار أو تقدم. أما الجبل الأسود الذي أجبر على الانضمام إلى يوغوسلافيا في 1918، في ظل آخر ملوك مملكة الجبل الأسود المستقلة، الملك نيقولا، فاندلعت فيه حرب أهلية قصيرة، إلا أنها بالغة الشراسة، بين الذين يؤيدون الوحدة والاندماج في يوغوسلافيا والذين هم ضدهما. ذاك أن أكثر من نصف أهل الجبل الأسود يشعرون بقرابة خاصة مع الصرب، الذين يعدون أكثر من عشرة أضعافهم، مردها إلى المذهب الأرثوذكسي الواحد وإلى كون الجبل الأسود مصدر الصرب البعيد ومنبع الهوية الصربية، تبعاً لتلك الميثولوجيا القومية.
وهذا التفتت إنما عبر عنه، كما حاول بطريقته أن يتفاداه، المشروع الوحدوي اليوغوسلافي لدى استعادته بقيادة شيوعية إثر الحرب العالمية الثانية. وقد دل ذلك إلى مدى حاجة البلد الذي استُرجعت وحدته السياسية إلى أسطورة المقاومة الجامعة والموحدة بدورها. والحاجة تلك هي ما عززها سعي الشيوعية اليوغوسلافية إلى توطيد دولتها وسلطتها اللاحقتين، سيما في ظل تصديها لستالين ونزعته إلى الهيمنة. وهو جميعاً ما ارتبط باسم الشيوعي الشاب، نصف الكرواتي نصف السلوفيني، جوزيف بروز، الذي عُرف في ما بعد باسم تيتو.
السيرة اليوغوسلافية
والحال أن الأسطورة لم تكن أسطورية كلياً. فالمقاومة وفرت حججاً معقولة عن أن اليوغوسلاف حرروا أرضهم من دون جيش روسي أحمر، على عكس بقية الأوروبيين الشرقيين، فكانت يوغوسلافيا البلد المحتل الوحيد الذي عرف ما يمكن اعتباره حرباً في مواجهة الألمان على امتداد الحرب العالمية الثانية. وفي الحالات كافة، فهي عُدت بين بلدان قليلة لم تخلف فيها نهاية الحرب العالمية جيشاً حليفاً يحتل أرضها. وأخيراً، غدت يوغوسلافيا التيتوية البلد الشيوعي الأوروبي الوحيد الذي يتحدى موسكو وتوسعيتها.
ثم إن المقاومة اليوغوسلافية، منظوراً إليها نظرة إجمالية تشمل فصيليها الأساسيين، استندت إلى مرتكزات تنظيمية صلبة، كالجيش الوطني الذي التف حول الجنرال درازا ميهايلوفيتش ومنه انبثقت قوات 'الشِتنكس'، المعروفة رسمياً بـ'الجيش اليوغوسلافي في أرض الآباء'، والحزب الشيوعي الذي شكل منه جوزيف بروز تيتو مقاومته التي عُرفت بـ'الأنصار'، وهي الكلمة التي تنوب عن 'جيش التحرير الشعبي وفرق الأنصار في يوغوسلافيا'. وهو ما أعطى تلك المقاومة معنى وفعالية افتقر إليهما معظم الحركات المماثلة في بلدان أخرى.
وفي سيرة الشيوعية اليوغوسلافية مما لا سيرة للمقاومة من دونها، ترقى الأحداث إلى الثلاثينيات، حين كان الطلبة الشيوعيون مهمومين بمقاومة البوليس السري للديكتاتورية المَلكية، وكانت قياداتهم تضم تيتو الذي درس في مدارس موسكو الحزبية، وأستاذ المدرسة السلوفيني جوزيف كارديلج، والخياط الصربي إدوارد رانكوفيتش، وابن الجبل الأسود ميلوفان دجيلاس.
ولم يكن الحزب، عشية الحرب العالمية الثانية، يضم أكثر من ألفي عضو على الأكثر، لكنه ما إن انتهت الحرب حتى استولى على السلطة بجيش تعداده 800 ألف عنصر، فيما بدت القوى اليمينية والمَلكية والقومية، الكثيرة والقوية، متناحرة ومتنافسة في ما بينها. وطبعاً لعبت الاستقلالية التي جسدها تيتو حيال الاتحاد السوفييتي، دوراً ملحوظاً في رفع صدقيته كقائد وطني بدل أن يكون مجرد قائد فصائلي للحزب و'الأنصار'.
بيد أن ذلك خالطه الكثير من التعرج والحركات الالتفافية. فتيتو عاش في موسكو إبان تطهيرات ستالين العظمى، ولئن لزم الصمت صوناً لحياته، فقد تعلم الدرس الذي يسعى المستبدون إلى تعليمه لمن يعاين استبدادهم. فلم يخلُ الأمر، بالتالي، من انتهازية اضطرارية تعدت الحفاظ على الحياة الشخصية إلى اللهاث النشط وراء موسكو في أمور استراتيجية ومبدئية بالغة الأهمية، بما فيها طبيعة الوطن وتركيب عناصره. هكذا، مثلاً، يستوقف نويل مالكولم في كتابه 'البوسنة: تاريخ قصير'، ما يسميه 'ضآلة الوضوح في المعلومات التي قدمها [تيتو]'، مع بداية الحرب العالمية الثانية، 'عن البلد وما إذا كانت سيُرتب أم يُقسم'. ولا يلبث أن يمضي شارحاً: 'في تلك الفترة كان لايزال خادماً مطيعاً لستالين، وكان مستعداً أن يخلق ما تطلبه موسكو: أكان دولة مركزية قوية، أم اتحاداً يوغوسلافياً من جمهوريات اشتراكية فيدرالية، أو حتى فيدرالية بلقانية تشمل بلغاريا وألبانيا'.
تقديرات غامضة
الحال أن الغموض والتعثر مما لازم المواقف الستالينية حيال المسألة القومية انتقل إلى الحزب الشيوعي اليوغوسلافي ذاته. فحتى أواسط الثلاثينيات، قامت سياسة الكومنترن على اعتبار يوغوسلافيا جزءاً من حائط الدول غير الصديقة التي نشأت في فرساي لتكون سداً ضد الاتحاد السوفييتي، وقد دعا الكومنترن إلى حل يوغوسلافيا في 1924، كما شُجع الشيوعيون اليوغسلاف على تحريك القوميات الناقمة في وجه بلغراد الصربية كوسيلة لخدمة ذاك الغرض. أما في 1935 فتغير الخط كلياً: ذاك أن الشيوعيين باتوا الآن مطالَبين من 'الشقيق الأكبر' بالحفاظ على يوغوسلافيا والعمل بموجب روحية 'الجبهة الشعبية' ضد 'الفاشية الدولية'.
لكنْ يبدو أن انشغال ستالين باندلاع الحرب الثانية هو ما استثمره سريعاً تيتو، فلم ينتظر أوامر الكرملين، بل بادر إلى الانخراط في حرب التحرير تبعاً لأفكاره وعملاً بطرقه وتقديراته الذاتية التي طويلاً ما بقيت غامضة أو مكتومة. هكذا بدا، في وقت لاحق، ان الانتصار الفعلي الوحيد الذي أحرزته الشيوعية الأوروبية في الحرب إنما تم بغير رضا السياسة السوفييتية، إن لم يكن بعكس رضاها. وقد ظل من اللافت أن البريطانيين، حسب إحدى الروايات، اعترفوا بتيتو وأنصاره حين كانت روسيا لا تزال تؤيد عودة الملكية.
لكن تلك الصفحات لا تطمس صفحات أخرى لا تقل أهمية عنها، ولو أنها حظيت بضوء وتركيز أقل. ذاك أن تيتو ودجيلاس ورفاقهما فهموا الحرب، أيضاً، ومنذ البداية، بوصفها فرصة لانهاء خصومهم المحليين، وكانت الخصومة الأساسية للشيوعيين مع ميهايلوفيتش و'الشِتنكس'، فضلاً، بطبيعة الحال، عن 'الأوستاشي' (الانتفاضة) الفاشية في كرواتيا. وقد صرف 'الأنصار' وقتاً وجهداً في تصفية الطرفين لا يقلان عما صرفاه في مكافحة الغزاة الألمان. فبين 1941 و1945 قضى 1.9 مليون يوغوسلافي أكثر من نصفهم فقدوا حياتهم في الحرب الأهلية الداخلية. وكانت الحرب ضد الخصوم الداخليين، كما ضد الغزاة، في غاية الوحشية.
لقد تحول تعامل 'الشِتنكس' مع الألمان، لقطع الطريق على 'الأنصار'، ملفاً ضخماً ودسماً. إلا أنه لا يني يثير عدداً من المسائل الأعقد بما يلائم التعقيد اليوغوسلافي نفسه: ذاك أن 'الشتنكس'، بقيادة ميهايلوفيتش، مثلوا عدداً من التوجهات التي أملت عليهم إبقاء مقاومتهم مضبوطة ومحدودة من أجل 'الحد من الدمار' الذي 'يقضي كلياً على يوغوسلافيا'. وقد كمن وراء ذلك أنهم، هم الصربيون القوميون المتشددون، يملكون ارتياباً عميقاً حيال الشيوعية التي رأوا أنها تقاتل بالنيابة عن السوفييت، وأنها تبغي، من خلال اعتماد المقاومة استراتيجية وحيدة وقصوى، دفع الألمان إلى القضاء الكامل على صربيا ويوغوسلافيا القديمتين من أجل أن يقطفوا هم البلد وسلطته وقد انهارا تماماً. وكان ما يؤكد لهم مخاوفهم تلك أن الشيوعيين دمجوا بين مهمة التحرير من الغزاة الألمان ومهمة إنهاء المَلكية الصربية – اليوغوسلافية وعلى رأسها الملك بيتر (بطرس) الثاني الذي كن له ميهايلوفيتش كل الولاء. لكن الأخير، كسلطوي وعسكري رجعي الهوى، تملكه حذر يضاهي الحذر الأول من الديمقراطيات الغربية التي رأى أنها تخوض معركتها مع الألمان بدماء الصربيين واليوغوسلاف. هكذا انهارت علاقته بالبريطانيين في حدود 1943 – 1944 فاندفعوا إلى حصر الدعم الذي يقدمونه للمقاومة اليوغوسلافية بـ'الأنصار' وحدهم. وفوق هذا لم يكن ميهايلوفيتش أقل حذراً من الكروات والمسلمين وسائر العناصر المشكلة ليوغوسلافيا لظنه أن عداء هؤلاء للصرب أكبر من أي حساسية أخرى تتملكهم.
الأسياد الجدد
فعلاً، جرت، بانتهاء الحرب، عمليات اجتثاث بالغة الثأرية لـ'الشتنكس' و'الأوستاشي' ممن هربوا شمالاً مع الجيش الألماني المنكفىء. هكذا قُتل كثيرون منهم شتاء 1945 على الحدود النمسوية-السلوفينية، بحيث أن الفلاحين في تلك المناطق ظلوا لسنوات يعثرون على جثث لهم هناك. وفي هذا استُخدم بعض أكثر الوسائل قسوةً وإجرامية ضد الخصوم المهزومين داخل المقاومة المناهضة للنازية، كما ضد أولئك الذين وقفوا خارجها أو ضدها. وفي هذا السياق أُعدم ميهايلوفيتش، الذي اختبأ في البوسنة، رمياً بالرصاص، بتهمة 'الخيانة العظمى'.
وكانت أعمال كهذه أحد أسباب الغضب الذي تراكم وانفجر لاحقاً، لدى الكرواتيين والسلوفينيين، حيال دولة تيتو التي تجاهلت كل ما حصل حرصاً منها على وحدة البلد بقيادتها، وعلى طهارة أسطورة المقاومة المطلقة والمبدئية.
لكنْ رغم الخلاف مع روسيا الستالينية وما أكسبته من قوة نسبية للنظام، فإن الشعور بنقص الشرعية وبضعف الوحدة الوطنية حملا تيتو في 1949 على ابتداء موجة التجميع الاجباري. وبعد رحيل ستالين في 1953، أبدى الزعيم اليوغوسلافي حماسته لتوطيد عبادة شخصية خاصة به، بوصفه قائد المقاومة وباني الأمة والمتصدي لحمايتها من تهديدات الخارج. وسريعاً ما تحولت العلاقة 'الأخوية' بين قادة الحزب، والتي صنعتها الحرب أساساً، إلى بُنية مراتبية بالغة الصرامة يتربع في قمتها تيتو زعيماً مطلقاً. أما الـ15 ألف شيوعي يوغوسلافي الذين حافظوا في الخمسينيات على ولائهم لستالين، فجُرجروا مثل القطعان إلى معسكرات التجميع وتعرضوا لشتى أصناف التعذيب، على ما يروي دجيلاس نفسه في كتابه 'سقوط الطبقة الجديدة: تاريخ التدمير الذاتي للشيوعية'، حيث أعاد نشر بعض أهم ما ورد في كتب سابقة له.
لكن عبادة شخصية تيتو، التي تم اشتقاقها من أسوأ مظاهر الستالينية، ساعدت عكسياً في تعزيز صورة المقاومة إبان الحرب. هكذا تعاظم الطلب على تلك المقاومة والتعويل عليها بوصفها مصدراً لشرعية السلطة الشيوعية ولشرعية تيتو داخلها.
إلا أن التحسن الاقتصادي اللاحق، قياساً ببقية بلدان أوروبا الشرقية، ساهم، هو نفسه، في تصديع الأساطير الموحدة بما في ذلك أسطورة المقاومة. ذاك أن التحسن النسبي ذاك اتصل أساساً بوجود أكثر من مليون عامل يوغوسلافي مهاجر في الغرب وبمليارات الدولارات من المساعدات الأميركية منذ قطيعة تيتو وستالين في 1948. وانفتاح كهذا على الخارج كان مثل الشمس التي بدأت تحرق شمع الرواية المحلية المغلقة على نفسها. فـ'الحرب والثورة – على ما كتب دجيلاس – كانا يوشكان على الانتهاء، لكن الأحقاد والانقسامات استمرت تجلب الموت والدمار في داخل البلد وفي خارجه على السواء... والثورات إنما تُبرر كأفعال حياة، أفعال عيش، بيد أن أمْثَلَتها غطاء لأنانية الأسياد الثوريين الجدد وحبهم للسلطة'.
استئصال الخصوم
ابن الجبل الأسود الشيوعي ميلوفان دجيلاس، على ما يخبرنا هو لاحقاً، كان يضرب المساجين الألمان حتى الموت وينتزع حناجرهم مستخدماً، لهذا الغرض، سكين جيب، وكان هو ذاته من التقى، باسم الشيوعيين و'الأنصار'، بعض كبار الرسميين الألمان في سراييفو، وفي أمكنة أخرى من البوسنة، في مارس 1943، وقد أخبرهم أن العدو الرئيسي لـ'الأنصار' هم 'الشِتنكس' لا الجيش الألماني. وقد اقترح دجيلاس هدنة على الألمان، بل عرض مقاتلة البريطانيين إذا ما حط طيرانهم المنطلق من البحر الأدرياتيكي فوق مناطق يسيطرون عليها. ويبدو أن القادة الألمان اهتموا بالعرض الشيوعي اليوغوسلافي، الذي ينم عن ضآلة الحجم الذي تحتله الاعتبارات الإيديولوجية، بل الاعتبارات الوطنية أيضاً، قياساً بحجم الرغبة في استئصال خصوم محليين. والأشد بؤساً من ذلك أن هتلر كان هو من أحبط ذاك العرض، فلم ينجم التفاوض إلا عن تبادل محدود للأسرى.
وهناك أكثر من دليل على هذا التوجه المحكوم بتلك الأولوية: ففي بدايات الحرب والمقاومة سيطرت 'الشتنكس' على معظم صربيا والجبل الأسود، وهو ما حكم استراتيجية تيتو بوصفها استراتيجية يكمن عمودها الفقري في التخلص من 'الشتنكس'. ومع أن جيش 'الأنصار' الشيوعيين ضم آلافاً من المقاتلين الشجعان، بقي أن معظم القتال الواسع النطاق تقريباً بينه وبين قوات المحور إنما حصل بمبادرة من قادة المحور الذين كانوا هم الذين يقررون، تبعاً لاعتباراتهم، متى ينبغي إجلاء هذه الفرقة من 'الأنصار' أو تلك عن مناطق محددة.
كذلك لم يؤثر تحرير تيتو للمناطق الريفية البعيدة على الجهد الحربي الألماني بأي معنى حيوي: فالألمان والإيطاليون مضوا في فرض سيطرتهم على المدن الكبرى والطرق وسكك الحديد الرئيسة والمناجم. أما السبب الذي حمل الألمان على إجلاء 'الأنصار' عن شمال غرب البوسنة، مطالع 1943، فلم يتعلق بقوات تيتو ومقاومتها بقدر ما اتصل بالخوف الألماني من إنزالٍ قد ينفذه الحلفاء في الساحل الدلماسي المجاور، وهو السبب نفسه، أي السيطرة على الداخل المجاور، ما جعل الألمان يشنون آنذاك هجومهم على الهرسك والجبل الأسود.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
بعد رحيل الأميركيين... المقاومة الفيتنامية الملهمة رسمت لوحات كابوسية بدماء الضحايا على أراضي الجنوب
(الحلقة 13)
حازم صاغيّة
جنوب شرق آسيا: أي انتصارات؟
بعد الانسحاب الأميركي من فيتنام في 1975، لم يعد يُسمع الكثير عما يحصل في جنوب فيتنام المحرر والذي وُحد مع شمالها، علماً بأن الإرهاب الذي ساد دمر حياة مئات آلاف البشر وأنتج أكثر من مليون لاجىء، في الوسع، عبر كتاب جيمس فريمان 'قلوب الأسى: حيوات فيتنامية – أميركية'، مراجعة شهادات لعينات منهم تشمل 14 فرداً كانوا ممن فروا إلى الولايات المتحدة.
فقد حاول الشماليون المنتصرون تصليب سلطتهم بشن حملة لـ'إعادة التعليم' (‘re-education’) شملت سجن المشتَبه بخصومتهم السياسية وتعذيبهم وقتلهم. وحسب وصف أحد الناجين في عمليات الهروب الكبير بالزوارق، فإن المعايير التي كانت تقرر مَن هو 'عدو الشعب' كانت بالغة الاعتباط بحيث أن استخدام النظارات كان كافياً بأن يتسبب لصاحبه بالاضطهاد بوصفه مثقفاً أو 'نخبوياً بورجوازياً'، على ما يروي الفيتنامي جايد نغوك كوانغ هوينه في 'تغير ريح الجنوب'.
فالكاتب المذكور الذي يسرد مذكراته إبان الحرب وفي فيتنام ما بعد الثورة، وصولاً إلى هربه واستقراره في الولايات المتحدة، استعاد أيامه حين كان في الثامنة عشرة، طالباً جامعياً في سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية. حينذاك سقطت المدينة فأُرسل، بين مَن أُرسلوا، إلى معسكرات 'إعادة التعليم'. وهو يصف إحدى جلسات 'النقد الذاتي' حيث شرح آمر المعسكر كيف أن قتل المساجين المتمردين يخدم الوطن والثورة إذ يُقدم عبرةً للآخرين. وتلقائياً راح يتعإلى تصفيق المصفوفين المحاطين بحرس مسلح كما يتصاعد هتافهم: 'يعيش هو شي منه'، زعيم فيتنام الشيوعية. بعد ذاك استدعى الآمر سجيناً جديداً يلبس نظارات، هو عامل ميكانيكي في الجيش فاتهمه بأنه مثقف وبأنه جاسوس كما هدده. ولما طلب السجين، وهو جاثٍ على ركبتيه، أن يُعفى عنه، ضربه الحرس ببنادقهم حتى راح الدم يقطر من فمه. لكن هذا لم يعفه من اصطفاف باقي السجناء، إرضاءً لسجانهم، معلنين عن تطوعهم كي يمضوا هم في تعذيبه، فضلاً عن البصق عليه وتسميته خائناً.
هجوم رأس السنة
يمضي الكاتب مسجلاً ارتكابات الوضع الفيتنامي الجديد كما عاشه عن كثب في المعسكرات وإبان محاولاته الهرب من بلده. والحال أن الكثير من قوة كتابه مستمد من أن مؤلفه ليس كائناً سياسياً أو إيديولوجياً. فكجنوبي، نراه لا يكتم تعاليه الثقافي المضبوط على الشماليين، لكنه يوزع تهم الفساد والإساءة إلى شعبه على نظامي هانوي وسايغون والأميركيين، ناعياً على السياسة طابعها السينيكي.
والكاتب كوانغ هوينه الذي ولد في 1957، ظلت طفولته في منأى عن الحرب، وهذا في ذاته إمارة على خلفية أُسرية 'بورجوازية' و'نخبوية' كريهة. إلا أن هجوم رأس السنة (التت، حسب تسمية العيد الفيتنامي) الشهير في 1968 وصل إلى قريته وبيته. فقد قُتلت إحدى شقيقاته الأصغر ودمر منزل العائلة، فيما تولى هو إنقاذ طفل نقله من حضن أمه المقتولة، وهكذا دواليك من مشاهد سينمائية ودرامية مؤثرة.
وفي الأسابيع الأخيرة من أبريل 1975، وفيما الجنوب يسقط ويتهاوى، كان الكاتب يراقب عالمه ينهار: فالكتب تُصادَر وتُتلَف، والاعتقالات على أوسع نطاق، والبوليس السري في كل مكان. أما في لقاءات التربية والتعليم الحزبيين، فكان على السكان المحليين أن يغنوا أغاني الغزاة الشماليين وأن يهللوا كلما أُعدم 'خائن' منهم. كذلك جيء بالجرافات كي تسوي بالأرض قبور الجنود الجنوبيين. وإذ تكسرت القبور وخرجت منها بعض الجثث بينما طغت على الهواء رائحة العفن، بقي مفروضاً عليهم، وعلى بقية المعتقَلين الجنوبيين، البقاء في المكان إلى أن يؤمَروا بعكس ذلك.
والسطور أعلاه لا تفعل سوى الإلماح، بتلخيص شديد، إلى بعض اللوحات الكابوسية التي نجمت عن أكبر الأفعال المقاوِمة وأشدها ملحمية في القرن العشرين.
سقوط سايغون و«توحيد فيتنام»
غير أن من الحقائق والوقائع المطموسة، في ما خص المقاومة الفيتنامية، ما يرويه تروونغ نهو تانغ، صاحب كتاب 'يوميات فيتكونغي'. فتانغ قاتل لعقدين ضد حكومة فيتنام الجنوبية والقوات الأميركية. وهو لم يكن شيوعياً، بيد أنه انضم إلى المعارضة السرية لحكم نغو دنه دييم الجنوبي في أواخر الخمسينيات، بينما كان يعمل موظفاً في مصرف بسايغون. وهو يصف كيف شارك في تنظيم 'جبهة التحرير الوطني' وكيف عُذب حينما اعتُقل في 1967. لكنه بعد أن أُطلق سراحه، كجزء من عملية تبادل للسجناء، سُمي وزيراً للعدل في الحكومة الثورية الموقتة التي أُعلنت في 1969، وفي 1975 كان يتقدم الدخول الظافر إلى سايغون مع بقية المنتصرين الـ 'فيتكونغ' وقوات فيتنام الشمالية. إلا أنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، بلغ به الغضب من هيمنة هانوي على الجنوب أن غادر البلد على متن أحد الزوارق، فكان أبرز رسمي فيتنامي ينشق.
فسقوط سايغون لم يكن نهاية لسلطتها 'العميلة' وللوجود العسكري الأميركي فحسب، بل كان، كذلك، نهاية للشيوعيين الجنوبيين وللوطنيين الناشطين في إطار 'جبهة التحرير'. فهؤلاء أرادوا نوعاً من التطور المستقل لفيتنام الجنوبية وكانوا بالغي الحذر حيال النموذج الشيوعي في الشمال، أو يكنون له العداء. لكن هانوي، كما كتب تانغ بكلمات مُرة، سريعاً ما أوضحت أن فيتنام المستقبل ستكون كتلة مونوليثية، جماعية وتوتاليتارية، لا مكان فيها لثقافة الجنوب وتقاليده.
ولا بد من التنبيه، ضداً على الرواية البسيطة لهانوي والمقاومة في ما خص 'توحيد فيتنام'، إلى افتراق مديد في تاريخ الأقاليم التي وُحدت، في 1975، وفي تشكلها الثقافي والاقتصادي، بحيث يصعب الكلام على فيتنام واحدة 'جزأها الاستعمار' بالمعنى البسيط للكلمة. فمنذ القرن السابع عشر قُسمت الرقعة التي باتت تُعرف بفيتنام بين أسياد عشائر ترينه في الشمال وأسياد نغوين في الجنوب. وفيما أطلق الأوروبيون على الأجزاء الشمالية تسمية تونكين، عُرف الثلث الجنوبي بكوشنشينا، وأهم مدنها سايغون. وهذه باتت مستعمرة فرنسية ما بين 1862 و1948، لكنْ في 1954 أنشئت دولة فيتنام الجنوبية بتوحيد كوشنشينا وأنام الجنوبية، والأخيرة هي الجزء الأوسط من فيتنام، والتي كانت محمية فرنسية. قبلذاك، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، تمكن الشيوعيون الشماليون بقيادة هو شي منه من أن ينتزعوا، من فرنسا ومن الاحتلال الياباني الذي استجرته الحرب المذكورة، استقلال الأجزاء الشمالية، كما استعادوا كلمة 'فيتنام'، التي كان آخر من استخدمها الإمبراطور جيا لونغ في 1804.
الطراز الستاليني
هكذا بدا أن الحرب المتواصلة على المجتمع هي البيئة الصالحة لمواجهة التنوع القائم ومحاولة صهره. ففي البداية كان على دييم أن يقاتل الطوائف والفِرق وما تراكم من قوى نافذة تعيشت على نفوذ الاستعمار الفرنسي. وفي سياق المعركة هذه، أزاح الإمبراطور باو داي وأعلن نفسه رئيساً للجمهورية، كما غطى عمله ذاك باستفتاء لم يُطعن بنزاهته. أما وأنه كسب المواجهة مع الطوائف والعشائر، فإنه لم يعرف كيف يستخدم انتصاره لترسيخ وضع على شيء من التجانس. فهو اختار المضي في المواجهة مع المجتمع أو أغلب قواه. ومنذ 1955، وبنبرة التحديثيين الانقلابيين والسطحيين، بات كل خصم له موصوماً بأنه من رواسب الطوائف والإقطاع المدعومة من الاستعمار. لكنْ ابتداء بـ1956 صار الخصم يوصم بالشيوعية. وفي هذا الإطار دشن نظام دييم، عامذاك، حملته ضد الـ 'فيتكونغ' (والتسمية أطلقها النظام السايغوني في البداية قاصداً بها شيوعيي فيتنام الجنوبية)، لكنها ما لبثت أن اتسعت لتشمل كل من خالفه في رأي أو موقف. وبالروحية ذاتها، وضداً على نصيحة السفير الأميركي في سايغون، لم يتقيد دييم باتفاقية جنيف في 1954 التي تنشىء دولتي فيتنام الشمالية والجنوبية، راسمةً خطاً مَرعياً دولياً بينهما، بإلغائه تلك الفقرة الداعية إلى إعادة توحيد فيتنام عبر انتخابات حرة، وهي فقرة كان من الواضح أن هانوي لن تعمل بموجبها، أقله آنذاك. وهكذا، ومن خلال حربه العمياء على الـ 'فيتكونغ' تحت وطأة عدائه المرضي للشيوعية، وحد ضد نظامه قوى ما كان لها أن تجتمع. كذلك ابتدأت، منذ 1960، تتوالى المحاولات الانقلابية في دوائر الجيش، وهي كادت تنجح، في 1962، في إطاحة النظام.
لقد قضت اتفاقية جنيف بتوجه القوات الفدائية التي سبق أن قاتلت مع الشيوعيين، ضد الفرنسيين، إلى شمال فيتنام. فلم يبق في الجنوب إلا جماعات قليلة متناثرة تحتفظ بالولاء لنظام هو شي منه. لكن هؤلاء، بسبب من نظاميتهم الحزبية وانضباطهم بالأوامر، لم يبادروا إلى مواجهة نظام دييم. ذاك أن هانوي كانت مشغولة بهمومها: من إعادة توطين الجنوبيين الذين انتقلوا إليها، إلى بناء صناعة جديدة وسط نقص مزمن في المواد الغذائية، وصعوبات ليست بسيطة تعتري العلاقة بفلاحيها، خصوصاً أنها كانت تنفذ برنامجاً للإصلاح الزراعي اشتُهر بقسوة من طراز ستاليني. ولأن الشمال كان يتملكه الإحساس بأنه أكثر قابلية للعطب، وبلا قياس، من الجنوب، فإنه لم يرغب بتاتاً في إعطاء دييم ذريعة للتدخل.
طغيان الهم المحلي
هكذا جاء اعتراض شيوعيي الشمال على إبطال تلك الفقرة، الداعية إلى إعادة توحيد فيتنام عبر انتخابات حرة، من اتفاقية جنيف أقرب إلى تسجيل الموقف رفعاً للعتب. بل لهذا السبب تقدمت هانوي، فيما كانت تكبح شيوعيي الجنوب، بعروض للمتاجرة مع سايغون بحيث تزودها موادها المصنعة مقابل سلعها الغذائية. وحسب لاكوتير، بات شيوعيو سايغون، بين 1954 و1958، يسمون أنفسهم 'باسيفيين انتهازيين'، مترددين في اتخاذ مواقف قاطعة من نظام دييم تلزمهم بالعمل المباشر. غير أن ضحايا آخرين للنظام المذكور بدوا غير معنيين بانضباط كهذا. فالقادة العشائريون والأعيان المحليون والفلاحون المستقلون ومالكو الحيازات الصغرى، وهذا فضلاً عن المثقفين والمهنيين في سايغون، وجدوا أنفسهم تهددهم ميول النظام الصهرية والنضالية وإجراءاته القصوى. وكثيرون من هؤلاء زُجوا في السجن، وفيهم أقطاب بارزون في الحياة الاجتماعية لفيتنام الجنوبية. كذلك لجأ من يقلون صبراً عنهم إلى المقاومة، ووجدوا أنفسهم يندفعون إلى الشيوعيين طالبين معونتهم العسكرية. وشيئاً فشيئاً راحت تتراكم الضغوط على الشيوعيين تطالبهم بالمبادرة.
وفي مارس 1960، كان التأسيس الرسمي لـ'جبهة التحرير الوطني'، أو الجناح العسكري للـ'فيتكونغ'. حصل هذا في غابة يو منه في فيتنام الجنوبية، وكانت الوثيقة الأبرز المطروحة على المؤتمرين رسالة كتبها سجين غير شيوعي هو نغوين هوو ثو، القابع في إحدى زنزانات سايغون، تحض على إنشاء الجبهة. ولئن اقتصر عدد الشيوعيين في ذاك اللقاء على قلة (ربما اثنين فحسب)، فإن الأكثرية الكبرى لم تكن منهم. أما المسائل الأساسية التي احتوتها الوثيقة الصادرة عن الاجتماع فتكاد تكون هموماً محلية قحة. وبدورها، فإن هانوي لم تعلن تأييدها الصريح للجبهة، إلا في سبتمبر من ذاك العام، حين كانت تلك الجبهة تباشر عملياتها، وهو ما فعلته تحت الضغط الأخلاقي الذي مارسه عناصرها الأكثر إيديولوجية ونضالية وولاءً للشعارات المعلنة. وقد ارتسمت الصورة مذاك على النحو المعروف لاحقاً: هانوي تدعم الثوار بالسلاح والمقاتلين المتدفقين من الشمال، وواشنطن تدعم دييم بالسلاح والعتاد والخبرة والموقف السياسي، قبل أن تبدأ في 1965 قصف فيتنام الشمالية.
لكنْ، إلى ذلك، فإن اللجنة المركزية التي أنشأتها 'جبهة التحرير' لم يكن الشيوعيون فيها يتعدون ثلث الأعضاء، وإن كانت نسبتهم أكبر في المراتب الأدنى، كما أن المشاكل التي بقيت موضع تركيزها استمرت من صنف محلي غير مؤدلج. وأهم من ذلك أن شيوعيي الجبهة لم يطرحوا مرةً مسألة إقامة نظام شيوعي في بلدهم على غرار ما هو قائم في الشمال.
طبوغرافيا عشائرية
كذلك يتضح أن ما فجر الوضع الفيتنامي ليس شراً استعمارياً كان مُقدراً أو مُحتماً سلفاً، وأن انزياح قطاعات واسعة من سكان الجنوب إلى المقاومة لم يكن 'خيار الجماهير' بالمعنى الطبيعي الذي يحتمله التعبير. فهناك أكثر من عنصر كان في الوسع تفاديه، ومن ثم تفادي النتائج التي ترتبت عليه. ففي كتابه (المترجم عن الفرنسية) 'فيتنام: بين هدنتين'، يسترجع جون لاكوتور الوضع في فيتنام الجنوبية التي يعتبرها إحدى أكثر مناطق العالم غنى بالتعدد. فطوبوغرافيتها تنطوي، وبكثرة لافتة، على نقائض السهول والجبال المأهولة بعشائر بدائية، وهي منتج كبير للأرز الذي يستدعي نوعاً من العناية الشخصية الدؤوبة، ما يسهم في إنتاج فلاحين مستقلين يعملون بالانفصال عن سواهم. وكان للتنوع الذي أدخله الاحتلال أن وجد سنده في التنوع الديني. فسكان جنوب فيتنام يتوزعون على أعداد ضخمة من البوذيين والكاثوليك والكونفوشيين، وكل جماعة منهم تمارس عبادة موصولة بأسلاف معينين، كما ينبثق منها تركيز خاص على أحد التقاليد المحلية. ولئن شكلت أحزاب الجنوب السياسية، بالمعنى الغربي للكلمة، نوعاً من الامتداد للقوى الشمالية، بقي هناك العديد من الطوائف المحلية، التي يشبهها لاكوتور بـ'العصبات المسلحة'، تجمع بين نشاط العصابات وبين تدين سلكي ما. وإنما بسبب من تبعثر الريف وعدم نشوء نظام مهيمن واحد، فكري أو ديني أو سياسي، عليه، تمكن الفرنسيون بسهولة بالغة من أن يحكموه ويديروه لعقود متتالية.
هكذا بدت التعددية شرطاً شارطاً لاستقرار أي نظام يقوم في الجنوب، وهو ما لم يكن ينطبق على حكم دييم، الذي تولى رئاسة جمهورية فيتنام الجنوبية في 1955، وبهذا كان أول رؤسائها. فدييم، الأريستوقراطي الكاثوليكي الصادر عن مناطق الهضاب المرتفعة، يختلف في تكوينه عن أكثرية الفيتناميين. بيد أن هذا لم يجعله حكَماً يتعهد تعددهم ويسوسه، إذ لم يتردد في إبداء كل نفور ممكن من التعدد. فقد عبر عن حنين رجعي وشبه صوفي إلى ماضٍ يكاد يكون ميثولوجياً يجسده المجتمع القديم لأنام، وهو قد أراد للشعب بأسره أن يبجِّل ويجل القيم المنسوبة إلى ذاك المجتمع، أي حكم الأريستوقراطية وتثبيت الكاسْتَات المغلقة والثقافات بوصفها مراتب هرمية جامدة، وأن يحاول العمل على بعثها. لقد كان عهد دييم استبدادياً وفاسداً لا سيما لجهة الفساد العائلي، وفي تطبيقه لنظام كاثوليكي متشدد أراد إلزام الجميع به، أثار عداء البوذيين الذين يعدون أكثر من ثلثي السكان.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
مدنيو فيتنام وقفوا بلا خيار أمام اضطهادَين وقهرَين كلٌّ منهما يبز الآخر سوءاً... قوات أجنبية و ابن البلد !
(الحلقة 14)
حازم صاغيّة
قصص التخلف
منذ مارس 1960، حينما تأسست بصورة رسمية «جبهة التحرير الوطني»، أو الجناح العسكري للـ«فيتكونغ»، ارتسمت الصورة في فيتنام على النحو المعروف لاحقاً: هانوي تدعم الثوار بالسلاح والمقاتلين المتدفقين من الشمال، وواشنطن تدعم نظام الرئيس نغو دنه دييم في الجنوب بالسلاح والعتاد والخبرة والموقف السياسي، قبل أن تبدأ في 1965 قصف فيتنام الشمالية.
في هذه الغضون كان الصراع قد احتدم بين دييم والأكثرية البوذية، وفي عهد جون كينيدي تخلت واشنطن عنه تاركةً لانقلاب عسكري قاده الجنرال دونغ فان منه في 1 نوفمبر 1963 أن يطيحه ويعدمه. بعد ذاك تعاقبت الانقلابات العسكرية وبدا أن البلد الذي أُفسد بما فيه الكفاية غدا غير قابل لأن يُحكم. وفي 1965 بات الحاكم الفعلي رئيس الحكومة الجنرال نغوين كاو كي، ثم انتقلت السلطة في 1967 إلى الجنرال نغوين فان ثيو. وثيو كان فاسداً وعديم النفع والفعالية، بدوره، فغسل الأميركيون يدهم منه، لكنْ ليس لمصلحة انقلاب عسكري هذه المرة بل لمصلحة فيتنام الشمالية والـ «فيتكونغ».
إذن نحن أمام قصة نمطية أخرى من قصص «العالم الثالث» حيث يحول التخلف دون إنتاج قوى قادرة على إطاحة الاستبداد تكون ذات أفق ديموقراطي. فكيف حين يدخل العنف والسلاح، من قبل الطرفين المتقاتلين الأقصيين، ليزيدا في الحد من احتمال كهذا؟
وضداً على التلخيص الفقير والخطي للتاريخ، يدلنا كتاب ديفيد إليوت الضخم «الحرب الفيتنامية: الثورة والتغير الاجتماعي في دلتا ميكونغ، 1930-1975»، إلى تعقيدات مكان بعينه حيال المقاومة. فهو يركز على إقليم ماي ثو، الزراعي المكتظ بالسكان، والواقع على بُعد 40 ميلاً من سايغون، رابطاً المدينة بدلتا ميكونغ. ويصطحبنا إليوت في رحلة داخل الثورة هناك تعود بنا 45 سنة إلى ما قبل تاريخ تناوله، واصفاً إيديولوجيات الثوريين وكيف قاتلوا، فضلاً عن سياستهم في ما خص الضرائب وتوزيع الأراضي وتطويع المقاتلين، من غير أن ينسى خلافاتهم ومنافساتهم وفترات شعورهم باليأس أو بنشوة النصر. وقد قابل الكاتب الذي لا يتردد في توجيه أقسى الاتهامات إلى الجيش الأميركي وأعماله التدميرية التي غيرت المشهد والمجتمع الفيتناميين إلى الأبد، كما تأدى عنها موت مئات الآلاف ممن كان أكثرهم مدنيين، فيتناميين كثيرين منهم 29 امرأة و154 عضواً سابقاً في الحزب. وهو يبدو شديد التأثر بمن قابلهم، وفي عدادهم ضباط سابقون في الجيش الجنوبي انتهى بهم الانتصار الشيوعي إلى مخيمات الاعتقال. لكن المقابلات لا تنوب عن تفحصه كماً كبيراً من الوثائق (رسائل ويوميات وتقارير وأوامر وتحاليل للوضع) مما وُضع إبان الحرب ولم يتلفه المستولون عليه.
قصف كمبوديا
لقد كان إقليم ماي ثو ناشطاً في مقاومة الفرنسيين مطالع القرن العشرين، وقد اهتمت سايغون بأمر انسجامه مع سلطتها المركزية فكانت ترسل إليه بعض أكفأ إدارييها وأقدرهم. لكنْ بعد توقيع اتفاقية جنيف، رحل معظم الجنوبيين الذين قاتلوا الفرنسيين إلى الشمال، وتُرك الإقليم من دون ثواره ومن دون خبراتهم، كما انتقل، في المقابل، مليون كاثوليكي شمالي إلى الجنوب، في واحدة من أكبر حركات النزوح السكاني للقرن العشرين.
وتستوقف الكاتب الخلافات التي كانت تطرأ بين الشماليين وذوي الأصول الجنوبية في الشطر الشيوعي، وتتعلق بالتكتيكات كما بالاستراتيجية والإيديولوجيا. وهذا ما يتضح بأجلى أشكاله في هجوم التت في 1968. فقد توقعت هانوي أن تسفر الهجمات الواسعة عن «انتفاضة عامة» ضد حكومة سايغون. بيد أن التت، على رغم الصدمة التي أحدثها في البداية ووصول مقاتليها إلى احتلال مجمع السفارة الأميركية نفسه، انتهى إلى فشل. فقد تمكن الجيشان الأميركي والفيتنامي الجنوبي من تدمير قوات الـ«فيتكونغ» التي كانت تنفذ خطة وضعتها حكومة الشمال.
لقد كان الفرح الهائج بـ«انتصار» الـ«تت» تعبيراً رهيباً عن قسوة الشيوعيين الفيتناميين واستهانتهم بموت عشرات الآلاف منهم، وهو ما استند إلى سابقة معركة ديان بيان فو في 1954، حين خرج «الانتصار» من فوهة الموت المعمم بلا حساب. ففي 1968 باتت استمالة الرأي العام الأميركي وإبعاده عن حكومته، من خلال قتل بعض الجنود، تعلو على كل أولوية، ولم يعد مهماً أن يموت أعداد لا حصر لها من الفيتناميين في سبيل ذلك. وقد اعتبر الفيتناميون الشماليون أنهم كسبوا بقصف ريتشارد نيكسون الموسع وبغزو كمبوديا أكثر كثيراً مما خسروا، لأن هذين الحدثين شقا الولايات المتحدة على نحو لم تعهده منذ حربها الأهلية.
الرفاق الشماليون
في 1931 نشأت منظمات للحزب في أحد أحياء قرى ماي ثو تحت مظلة «الحزب الشيوعي في الهند الصينية» الذي كان أسسه هو شي منه. وكانت نغوين ثاي ثاب إحدى الحزبيين المبكرين، التي أصبحت قيادية، وهي فلاحة فقيرة وابنة لأب كان ناشطاً في النضال المناهض للاستعمار. وهي تتذكر القسَم الذي أقسمته عند انضوائها في الحزب: «أريد أن أنضم إلى الحزب كي أقاتل الإمبرياليين، وأقاتل الإقطاعيين، وأطرد الفرنسيين من البلد». أما الحركة التي انتسبت إليها فكانت بالغة السرية وذات قيادة سلطوية كما يستولي عليها الشك والحذر بالأغراب والاستعداد لاعتماد الإرهاب تطبيقاً لأي نظام أو نصاب يُراد فرضهما. وقد توالى الاغتيال والإعدام المتبادلان مع الفرنسيين فيما كان الأخيرون من يبدأونهما غالب الأحيان ضد الناشطين الشيوعيين. لكنْ في 1940 انفجرت، في الإقليم، انتفاضة سُحقت بشراسة شملت توجيه ضربات جوية تولت تدمير المنظمة الثورية، فنُقل المقر الحزبي الرئيسي إلى الشمال، وبدأ غضب الجنوبيين بالتبلور جراء تلقيهم أوامر يصدرها الرفاق الشماليون. بيد أنه مع سقوط فرنسا أمام الألمان، والاحتلال الياباني للهند الصينية، عاد هو شي منه من الخارج ليفرض سيطرته المباشرة على الحركة الثورية في شمال فيتنام، فكان لهذا التطور، وما رافقه من مركزة في القرار، أن فاقما الاستياء الجنوبي. وإذ انتهت الحرب العالمية الثانية أُطلق سراح كثيرين من القادة الشيوعيين في الهند الصينية من سجن جزيرة بولو كوندور فعادوا للإقامة في ماي ثو. وهؤلاء أعادوا توكيد سلطتهم على الحركة الثورية الجنوبية، كما أعادوا تأسيس مقر إقليمي عُرف بـ«المكتب المركزي لفيتنام الجنوبية». يومها كان في فيتنام كلها خمسة آلاف عضو حزبي، مئتان منهم في ماي ثو التي كانت تعد 341 ألف نسمة.
وعلى امتداد كتابه يستعرض إليوت حركة الإرهاب الثوري في ذاك الإقليم، وهو ما استخدمه الفرنسيون وحكومة سايغون، ثم الولايات المتحدة، ذريعة لتبرير قمعهم للثورة. وهو يُظهر كيف اتخذ الإرهاب الشيوعي خصوصاً أشكالاً رهيبة في التعذيب، وأنه غالباً ما استُخدم ضد أفراد اعتبرهم سائر الفيتناميين أبرياء. بيد أن المدنيين وقفوا وكأنهم بلا خيار أمام اضطهادين وقهرين كل منهما يبز الآخر سوءاً، إلا أن واحدهما «ابن البلد».
تحرشات ثورية
في أواخر الخمسينيات استخدمت حكومة دييم وسائل عنيفة في ردع السكان الريفيين عن التعاون مع مقاتلي «فيت منه» السابقين. فعندما تصاعدت النشاطات الحكومية المضادة للانتفاضة، بين 1959 و1960، لجأت القيادات الثورية إلى وسائل تفوقها قسوةً من أجل تحويل «توازن الرعبـ« ضد نظام دييم. وهو، في رأي الكاتب، ما جعل الريفيين أشد خوفاً من الثوريين مما من سلطات سايغون.
مع هذا، حافظت الانتفاضة على إحرازها تأييداً لم يتراجع في ظل الأميركيين: ذاك أن ثمة شرائح واسعة استفادت من إعادة توزيع الأراضي، فيما عمل العداء للغريب المحتل والنظر إلى حكومة سايغون كهيئة فاسدة وتابعة، بما يهين الكرامة الوطنية، على إدامة ذاك الالتفاف. وهذا ما ظل يستنهضه التحرش الثوري بالفرنسيين ثم الأميركيين ودفعهم إلى ردود فعل ثأرية تصيب السكان، تماماً كما يفعل المحتل الفرنسي ثم الأميركي لفصلهم عن الثوار.
ويراجع جيمس سكوت في كتابه «الاقتصاد الأخلاقي للفلاح: التمرد والكفاف في آسيا الجنوبية»، الآثار التي خلفتها على الفلاح الفيتنامي البيروقراطية الممركزة والاقتصاد الرأسمالي الذي أدخلته الكولونيالية الفرنسية في بواكير القرن العشرين. بيد أنه إذ يفعل هذا، يدلنا إلى العمق الرجعي والماضوي للمقاومة الفيتنامية والنظام الذي تأسس عليها لاحقاً.
ذاك أن تجربة البقرطة والرسملة بقيادة فرنسا تسببت بتحول تاريخي هو الذي احتوى بذور ثورة 1945 وحرب «التحرير الوطني» التي تلته. ويمنح سكوت عدم الاستقرار الذي اتسمت به البيئة الزراعية والمناخية التي عاش فيها الفلاحون أهمية حاسمة: فالجزء الجنوبي من فيتنام كان مناخه أشد ملاءمة من الشمال حيث تكثر مواسم الجفاف والفيضان السنوية. غير أن حال الفلاح كانت بالغة السوء، ولو على تفاوت نسبي، في الإقليمين. ولأن الفلاحين استغرقهم أمر كفافهم، فقد أولوا الأمن والاستقرار أولوية قصوى، حذرين من المبادرات غير المضمونة سلفاً، ومعادين للتغييرات التي تطرأ من الخارج على أنماط حياتهم ومألوفهم. أما السعي وراء ربحٍ ومراكمةٍ يقودهما إلى صيرورة بورجوازية، فهذا كان من صنف الكماليات التي لا يملكونها. ويسمي سكوت الأخلاقية التي ظهرت في أوساطهم واتسعت بـ«أخلاق الكفاف»، وهي ما أسبغ الشرعية على رغباتهم المتقشفة والمحافظة كما ساعد في إنشاء «اقتصاد أخلاقي» مفضٍ إلى حماية الأفقر والأضعف من الدمار.
الكساد والمجاعة مصيبتان تترافقان
لقد أدخل الاستعمار الفرنسي وسائل محسنة وحديثة في المواصلات والنقل ومكافحة الأوبئة والتعليم، فضلاً عن التعريف بالثقافة الغربية. إلا أنه أيضاً أدخل نُظُماً جديدة تشريعية وإدارية، وزراعة مُتجرة بدأت ثمارها تربط الفلاح المعزول بمصارف باريس ولندن كما تعرضه لتقلبات الأسواق التي لا يفقه سرها. في هذا المعنى انهار نصاب الحياة المنسجمة والمتساوقة كما كان قائماً في حقبة ما قبل الاستعمار. فالأراضي الجماعية والغابات «الحرة» أممتها الدولة وباعتها، أما الضمانات للفقراء، على شكل مساعدات وولائم، فتقلصت تدريجاً. كذلك أدخل المستعمِر نُظُماً وإجراءات بيروقراطية موسعة، كما عين أعداداً ضخمة ممن يجرون الإحصاءات ويجمعون معطياتها أو يمسحون الأراضي أو يسجلون النفوس أو يراقبون السير أو يعقمون ضد الأمراض أو يكونون خبراء في الري أو يشذبون الغابات أو يطببون الحيوانات وغير ذلك. لكن الفرنسيين كانوا يجمعون ضرائب باهظة ومتعددة الأوجه والأسباب وغير مألوفة قبلاً. والضرائب الثقيلة هذه، حسب وصف رسمي فرنسي، إنما يمليها «العيش في مجتمع منظم يفيد منه الجميع».
ولئن أدى هذا كله إلى توسع التمايز الطبقي بين الريفيين، فقد شهدت الثلاثينيات ظهور مصيبتين مترافقتين ومتراكبتين: الكساد والمجاعة مما حمل الفلاحين على سد بطونهم بأي نبات أو حشرة تجود الطبيعة بهما. وفي 1930 انفجر الغضب على شكل انتفاضات في منطقة نغهي تِنه، إلا أن الغاضبين لم يملكوا إلا العصي والسكاكين التي هجموا بها على البيروقراطيين المحليين (الماندرين) مستدعين قصفاً جوياً من الطائرات الفرنسية.
ويرى سكوت أن واحداً من أسباب تحرك الفلاحين كان الرغبة في استعادة نظام أخلاقي للزراعة ونظام منسجم للحياة. لكن تقديرات سكوت تجد ما يعارض بعضها في بحث صموئيل بوبكين «الفلاح العقلاني: الاقتصاد السياسي للمجتمع الزراعي في فيتنام»، والذي يرفض تلك الصورة عن حياة منسجمة في عالم ما قبل الكولونيالية. فهو يركز على التناقضات ما بين الفلاحين، مع ما تستجره من أعمال لا تخلو من وضاعة، تحت وطأة التنافس الذي أحدثته التطورات الجديدة. فحين وفد الاستعمار لم يكن تتجير الزراعة ولا توسع السوق أو القوانين والتنظيمات البيروقراطية الجديدة ما «اجتث»، أو «اخترق»، إيديولوجيةً وتقليداً فلاحين مقاومين وموحدين ومناهضين للسوق. بل على العكس، كان الفلاحون الأمهر والأشطر من يباشرون عقد التحالفات مع البيروقراطيين محاولين استخدام المؤسسات الكولونيالية بما يفيد مصالحهم.
موجات هجرة كثيفة
يعقب ديفيد إليوت، مؤلف كتاب «الحرب الفيتنامية: الثورة والتغير الاجتماعي في دلتا ميكونغ، 1930-1975»، المتعاطف مع الثوار بأن مقاتلي الجنوب في ماي ثو، ممن شاركوا الشماليين ولاءهم لوحدة فيتنام، أرادوا أن يكون لهم دور تقريري أكبر بكثير في كيفية تسيير الأمور، وقد أغضبتهم سيطرة القيادة الشمالية حصرياً على القرار. والحال أنه ما إن انتهت الحرب في 1975 حتى سُرحت قوات الـ «فيتكونغ» ولم يحصل إلا القليون من قياداتها على مواقع فعلية في السلطة.
ويلاحظ إليوت أن إعادة توزيع الأراضي التي نُقلت من الأغنياء إلى الفقراء، والتي نفذتها «فيت منه»، وهم مقاتلو حرب العصابات الشيوعيون الجنوبيون ضد الفرنسيين، تسببت في تغيرات اجتماعية تؤسس للتعارض مع إيديولوجيا الحزب. ففقراء الريف غدوا أشد اكتراثاً بالتقدم الفردي مما بتقدم الجماعية الاقتصادية. أما الشيوعيون في الشمال، وهم تقليدياً متشددون إيديولوجياً وذوو تنظيم محكَم وسري، فتعاظمت شكوكهم بالمصالح الجديدة للفلاحين. وكان للتدمير الذي أنزلته الحرب، حيث لعبت القوات الأميركية دوراً أساسياً، أن أحدث تغيراً اجتماعياً ضخماً رافقته موجات انتقال سكاني كثيف من الريف إلى البلدات والمدن. هكذا بات الانتصار العسكري للشيوعيين الفيتناميين مرفقاً بالعجز عن إنجاز أهداف الثورة، إذ اصطدمت نزعتها الجماعية بولادة طبقة ريفية وسطى، في دلتا ميكونغ، وبتوسعها.
ويعيدنا إليوت إلى تاريخ الحركة الشيوعية في ماي ثو، والتي كان قد سبقها تحالف غير معلن بين طبقات ريفية ومدينية عدة قرَّب بينها بؤس الزمن والحياة الكولونياليتين. وقد اتجه غضب هؤلاء إلى ملاكي الأراضي والإداريين الفرنسيين والفيتناميين سواء بسواء. ذاك أن الكساد العالمي للثلاثينيات كان وقعه أكبر على فيتنام، حيث ترتب على الزراعة التجارية والمُتجرة دَين فلاحي واسع وثقيل الوطأة وتركز لملكية الأرض في عدد ضئيل من الملاّك.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
مدنيو فيتنام وقفوا بلا خيار أمام اضطهادَين وقهرَين كلٌّ منهما يبز الآخر سوءاً... قوات أجنبية و ابن البلد !
(الحلقة 14)
حازم صاغيّة
قصص التخلف
منذ مارس 1960، حينما تأسست بصورة رسمية «جبهة التحرير الوطني»، أو الجناح العسكري للـ«فيتكونغ»، ارتسمت الصورة في فيتنام على النحو المعروف لاحقاً: هانوي تدعم الثوار بالسلاح والمقاتلين المتدفقين من الشمال، وواشنطن تدعم نظام الرئيس نغو دنه دييم في الجنوب بالسلاح والعتاد والخبرة والموقف السياسي، قبل أن تبدأ في 1965 قصف فيتنام الشمالية.
في هذه الغضون كان الصراع قد احتدم بين دييم والأكثرية البوذية، وفي عهد جون كينيدي تخلت واشنطن عنه تاركةً لانقلاب عسكري قاده الجنرال دونغ فان منه في 1 نوفمبر 1963 أن يطيحه ويعدمه. بعد ذاك تعاقبت الانقلابات العسكرية وبدا أن البلد الذي أُفسد بما فيه الكفاية غدا غير قابل لأن يُحكم. وفي 1965 بات الحاكم الفعلي رئيس الحكومة الجنرال نغوين كاو كي، ثم انتقلت السلطة في 1967 إلى الجنرال نغوين فان ثيو. وثيو كان فاسداً وعديم النفع والفعالية، بدوره، فغسل الأميركيون يدهم منه، لكنْ ليس لمصلحة انقلاب عسكري هذه المرة بل لمصلحة فيتنام الشمالية والـ «فيتكونغ».
إذن نحن أمام قصة نمطية أخرى من قصص «العالم الثالث» حيث يحول التخلف دون إنتاج قوى قادرة على إطاحة الاستبداد تكون ذات أفق ديموقراطي. فكيف حين يدخل العنف والسلاح، من قبل الطرفين المتقاتلين الأقصيين، ليزيدا في الحد من احتمال كهذا؟
وضداً على التلخيص الفقير والخطي للتاريخ، يدلنا كتاب ديفيد إليوت الضخم «الحرب الفيتنامية: الثورة والتغير الاجتماعي في دلتا ميكونغ، 1930-1975»، إلى تعقيدات مكان بعينه حيال المقاومة. فهو يركز على إقليم ماي ثو، الزراعي المكتظ بالسكان، والواقع على بُعد 40 ميلاً من سايغون، رابطاً المدينة بدلتا ميكونغ. ويصطحبنا إليوت في رحلة داخل الثورة هناك تعود بنا 45 سنة إلى ما قبل تاريخ تناوله، واصفاً إيديولوجيات الثوريين وكيف قاتلوا، فضلاً عن سياستهم في ما خص الضرائب وتوزيع الأراضي وتطويع المقاتلين، من غير أن ينسى خلافاتهم ومنافساتهم وفترات شعورهم باليأس أو بنشوة النصر. وقد قابل الكاتب الذي لا يتردد في توجيه أقسى الاتهامات إلى الجيش الأميركي وأعماله التدميرية التي غيرت المشهد والمجتمع الفيتناميين إلى الأبد، كما تأدى عنها موت مئات الآلاف ممن كان أكثرهم مدنيين، فيتناميين كثيرين منهم 29 امرأة و154 عضواً سابقاً في الحزب. وهو يبدو شديد التأثر بمن قابلهم، وفي عدادهم ضباط سابقون في الجيش الجنوبي انتهى بهم الانتصار الشيوعي إلى مخيمات الاعتقال. لكن المقابلات لا تنوب عن تفحصه كماً كبيراً من الوثائق (رسائل ويوميات وتقارير وأوامر وتحاليل للوضع) مما وُضع إبان الحرب ولم يتلفه المستولون عليه.
قصف كمبوديا
لقد كان إقليم ماي ثو ناشطاً في مقاومة الفرنسيين مطالع القرن العشرين، وقد اهتمت سايغون بأمر انسجامه مع سلطتها المركزية فكانت ترسل إليه بعض أكفأ إدارييها وأقدرهم. لكنْ بعد توقيع اتفاقية جنيف، رحل معظم الجنوبيين الذين قاتلوا الفرنسيين إلى الشمال، وتُرك الإقليم من دون ثواره ومن دون خبراتهم، كما انتقل، في المقابل، مليون كاثوليكي شمالي إلى الجنوب، في واحدة من أكبر حركات النزوح السكاني للقرن العشرين.
وتستوقف الكاتب الخلافات التي كانت تطرأ بين الشماليين وذوي الأصول الجنوبية في الشطر الشيوعي، وتتعلق بالتكتيكات كما بالاستراتيجية والإيديولوجيا. وهذا ما يتضح بأجلى أشكاله في هجوم التت في 1968. فقد توقعت هانوي أن تسفر الهجمات الواسعة عن «انتفاضة عامة» ضد حكومة سايغون. بيد أن التت، على رغم الصدمة التي أحدثها في البداية ووصول مقاتليها إلى احتلال مجمع السفارة الأميركية نفسه، انتهى إلى فشل. فقد تمكن الجيشان الأميركي والفيتنامي الجنوبي من تدمير قوات الـ«فيتكونغ» التي كانت تنفذ خطة وضعتها حكومة الشمال.
لقد كان الفرح الهائج بـ«انتصار» الـ«تت» تعبيراً رهيباً عن قسوة الشيوعيين الفيتناميين واستهانتهم بموت عشرات الآلاف منهم، وهو ما استند إلى سابقة معركة ديان بيان فو في 1954، حين خرج «الانتصار» من فوهة الموت المعمم بلا حساب. ففي 1968 باتت استمالة الرأي العام الأميركي وإبعاده عن حكومته، من خلال قتل بعض الجنود، تعلو على كل أولوية، ولم يعد مهماً أن يموت أعداد لا حصر لها من الفيتناميين في سبيل ذلك. وقد اعتبر الفيتناميون الشماليون أنهم كسبوا بقصف ريتشارد نيكسون الموسع وبغزو كمبوديا أكثر كثيراً مما خسروا، لأن هذين الحدثين شقا الولايات المتحدة على نحو لم تعهده منذ حربها الأهلية.
الرفاق الشماليون
في 1931 نشأت منظمات للحزب في أحد أحياء قرى ماي ثو تحت مظلة «الحزب الشيوعي في الهند الصينية» الذي كان أسسه هو شي منه. وكانت نغوين ثاي ثاب إحدى الحزبيين المبكرين، التي أصبحت قيادية، وهي فلاحة فقيرة وابنة لأب كان ناشطاً في النضال المناهض للاستعمار. وهي تتذكر القسَم الذي أقسمته عند انضوائها في الحزب: «أريد أن أنضم إلى الحزب كي أقاتل الإمبرياليين، وأقاتل الإقطاعيين، وأطرد الفرنسيين من البلد». أما الحركة التي انتسبت إليها فكانت بالغة السرية وذات قيادة سلطوية كما يستولي عليها الشك والحذر بالأغراب والاستعداد لاعتماد الإرهاب تطبيقاً لأي نظام أو نصاب يُراد فرضهما. وقد توالى الاغتيال والإعدام المتبادلان مع الفرنسيين فيما كان الأخيرون من يبدأونهما غالب الأحيان ضد الناشطين الشيوعيين. لكنْ في 1940 انفجرت، في الإقليم، انتفاضة سُحقت بشراسة شملت توجيه ضربات جوية تولت تدمير المنظمة الثورية، فنُقل المقر الحزبي الرئيسي إلى الشمال، وبدأ غضب الجنوبيين بالتبلور جراء تلقيهم أوامر يصدرها الرفاق الشماليون. بيد أنه مع سقوط فرنسا أمام الألمان، والاحتلال الياباني للهند الصينية، عاد هو شي منه من الخارج ليفرض سيطرته المباشرة على الحركة الثورية في شمال فيتنام، فكان لهذا التطور، وما رافقه من مركزة في القرار، أن فاقما الاستياء الجنوبي. وإذ انتهت الحرب العالمية الثانية أُطلق سراح كثيرين من القادة الشيوعيين في الهند الصينية من سجن جزيرة بولو كوندور فعادوا للإقامة في ماي ثو. وهؤلاء أعادوا توكيد سلطتهم على الحركة الثورية الجنوبية، كما أعادوا تأسيس مقر إقليمي عُرف بـ«المكتب المركزي لفيتنام الجنوبية». يومها كان في فيتنام كلها خمسة آلاف عضو حزبي، مئتان منهم في ماي ثو التي كانت تعد 341 ألف نسمة.
وعلى امتداد كتابه يستعرض إليوت حركة الإرهاب الثوري في ذاك الإقليم، وهو ما استخدمه الفرنسيون وحكومة سايغون، ثم الولايات المتحدة، ذريعة لتبرير قمعهم للثورة. وهو يُظهر كيف اتخذ الإرهاب الشيوعي خصوصاً أشكالاً رهيبة في التعذيب، وأنه غالباً ما استُخدم ضد أفراد اعتبرهم سائر الفيتناميين أبرياء. بيد أن المدنيين وقفوا وكأنهم بلا خيار أمام اضطهادين وقهرين كل منهما يبز الآخر سوءاً، إلا أن واحدهما «ابن البلد».
تحرشات ثورية
في أواخر الخمسينيات استخدمت حكومة دييم وسائل عنيفة في ردع السكان الريفيين عن التعاون مع مقاتلي «فيت منه» السابقين. فعندما تصاعدت النشاطات الحكومية المضادة للانتفاضة، بين 1959 و1960، لجأت القيادات الثورية إلى وسائل تفوقها قسوةً من أجل تحويل «توازن الرعبـ« ضد نظام دييم. وهو، في رأي الكاتب، ما جعل الريفيين أشد خوفاً من الثوريين مما من سلطات سايغون.
مع هذا، حافظت الانتفاضة على إحرازها تأييداً لم يتراجع في ظل الأميركيين: ذاك أن ثمة شرائح واسعة استفادت من إعادة توزيع الأراضي، فيما عمل العداء للغريب المحتل والنظر إلى حكومة سايغون كهيئة فاسدة وتابعة، بما يهين الكرامة الوطنية، على إدامة ذاك الالتفاف. وهذا ما ظل يستنهضه التحرش الثوري بالفرنسيين ثم الأميركيين ودفعهم إلى ردود فعل ثأرية تصيب السكان، تماماً كما يفعل المحتل الفرنسي ثم الأميركي لفصلهم عن الثوار.
ويراجع جيمس سكوت في كتابه «الاقتصاد الأخلاقي للفلاح: التمرد والكفاف في آسيا الجنوبية»، الآثار التي خلفتها على الفلاح الفيتنامي البيروقراطية الممركزة والاقتصاد الرأسمالي الذي أدخلته الكولونيالية الفرنسية في بواكير القرن العشرين. بيد أنه إذ يفعل هذا، يدلنا إلى العمق الرجعي والماضوي للمقاومة الفيتنامية والنظام الذي تأسس عليها لاحقاً.
ذاك أن تجربة البقرطة والرسملة بقيادة فرنسا تسببت بتحول تاريخي هو الذي احتوى بذور ثورة 1945 وحرب «التحرير الوطني» التي تلته. ويمنح سكوت عدم الاستقرار الذي اتسمت به البيئة الزراعية والمناخية التي عاش فيها الفلاحون أهمية حاسمة: فالجزء الجنوبي من فيتنام كان مناخه أشد ملاءمة من الشمال حيث تكثر مواسم الجفاف والفيضان السنوية. غير أن حال الفلاح كانت بالغة السوء، ولو على تفاوت نسبي، في الإقليمين. ولأن الفلاحين استغرقهم أمر كفافهم، فقد أولوا الأمن والاستقرار أولوية قصوى، حذرين من المبادرات غير المضمونة سلفاً، ومعادين للتغييرات التي تطرأ من الخارج على أنماط حياتهم ومألوفهم. أما السعي وراء ربحٍ ومراكمةٍ يقودهما إلى صيرورة بورجوازية، فهذا كان من صنف الكماليات التي لا يملكونها. ويسمي سكوت الأخلاقية التي ظهرت في أوساطهم واتسعت بـ«أخلاق الكفاف»، وهي ما أسبغ الشرعية على رغباتهم المتقشفة والمحافظة كما ساعد في إنشاء «اقتصاد أخلاقي» مفضٍ إلى حماية الأفقر والأضعف من الدمار.
الكساد والمجاعة مصيبتان تترافقان
لقد أدخل الاستعمار الفرنسي وسائل محسنة وحديثة في المواصلات والنقل ومكافحة الأوبئة والتعليم، فضلاً عن التعريف بالثقافة الغربية. إلا أنه أيضاً أدخل نُظُماً جديدة تشريعية وإدارية، وزراعة مُتجرة بدأت ثمارها تربط الفلاح المعزول بمصارف باريس ولندن كما تعرضه لتقلبات الأسواق التي لا يفقه سرها. في هذا المعنى انهار نصاب الحياة المنسجمة والمتساوقة كما كان قائماً في حقبة ما قبل الاستعمار. فالأراضي الجماعية والغابات «الحرة» أممتها الدولة وباعتها، أما الضمانات للفقراء، على شكل مساعدات وولائم، فتقلصت تدريجاً. كذلك أدخل المستعمِر نُظُماً وإجراءات بيروقراطية موسعة، كما عين أعداداً ضخمة ممن يجرون الإحصاءات ويجمعون معطياتها أو يمسحون الأراضي أو يسجلون النفوس أو يراقبون السير أو يعقمون ضد الأمراض أو يكونون خبراء في الري أو يشذبون الغابات أو يطببون الحيوانات وغير ذلك. لكن الفرنسيين كانوا يجمعون ضرائب باهظة ومتعددة الأوجه والأسباب وغير مألوفة قبلاً. والضرائب الثقيلة هذه، حسب وصف رسمي فرنسي، إنما يمليها «العيش في مجتمع منظم يفيد منه الجميع».
ولئن أدى هذا كله إلى توسع التمايز الطبقي بين الريفيين، فقد شهدت الثلاثينيات ظهور مصيبتين مترافقتين ومتراكبتين: الكساد والمجاعة مما حمل الفلاحين على سد بطونهم بأي نبات أو حشرة تجود الطبيعة بهما. وفي 1930 انفجر الغضب على شكل انتفاضات في منطقة نغهي تِنه، إلا أن الغاضبين لم يملكوا إلا العصي والسكاكين التي هجموا بها على البيروقراطيين المحليين (الماندرين) مستدعين قصفاً جوياً من الطائرات الفرنسية.
ويرى سكوت أن واحداً من أسباب تحرك الفلاحين كان الرغبة في استعادة نظام أخلاقي للزراعة ونظام منسجم للحياة. لكن تقديرات سكوت تجد ما يعارض بعضها في بحث صموئيل بوبكين «الفلاح العقلاني: الاقتصاد السياسي للمجتمع الزراعي في فيتنام»، والذي يرفض تلك الصورة عن حياة منسجمة في عالم ما قبل الكولونيالية. فهو يركز على التناقضات ما بين الفلاحين، مع ما تستجره من أعمال لا تخلو من وضاعة، تحت وطأة التنافس الذي أحدثته التطورات الجديدة. فحين وفد الاستعمار لم يكن تتجير الزراعة ولا توسع السوق أو القوانين والتنظيمات البيروقراطية الجديدة ما «اجتث»، أو «اخترق»، إيديولوجيةً وتقليداً فلاحين مقاومين وموحدين ومناهضين للسوق. بل على العكس، كان الفلاحون الأمهر والأشطر من يباشرون عقد التحالفات مع البيروقراطيين محاولين استخدام المؤسسات الكولونيالية بما يفيد مصالحهم.
موجات هجرة كثيفة
يعقب ديفيد إليوت، مؤلف كتاب «الحرب الفيتنامية: الثورة والتغير الاجتماعي في دلتا ميكونغ، 1930-1975»، المتعاطف مع الثوار بأن مقاتلي الجنوب في ماي ثو، ممن شاركوا الشماليين ولاءهم لوحدة فيتنام، أرادوا أن يكون لهم دور تقريري أكبر بكثير في كيفية تسيير الأمور، وقد أغضبتهم سيطرة القيادة الشمالية حصرياً على القرار. والحال أنه ما إن انتهت الحرب في 1975 حتى سُرحت قوات الـ «فيتكونغ» ولم يحصل إلا القليون من قياداتها على مواقع فعلية في السلطة.
ويلاحظ إليوت أن إعادة توزيع الأراضي التي نُقلت من الأغنياء إلى الفقراء، والتي نفذتها «فيت منه»، وهم مقاتلو حرب العصابات الشيوعيون الجنوبيون ضد الفرنسيين، تسببت في تغيرات اجتماعية تؤسس للتعارض مع إيديولوجيا الحزب. ففقراء الريف غدوا أشد اكتراثاً بالتقدم الفردي مما بتقدم الجماعية الاقتصادية. أما الشيوعيون في الشمال، وهم تقليدياً متشددون إيديولوجياً وذوو تنظيم محكَم وسري، فتعاظمت شكوكهم بالمصالح الجديدة للفلاحين. وكان للتدمير الذي أنزلته الحرب، حيث لعبت القوات الأميركية دوراً أساسياً، أن أحدث تغيراً اجتماعياً ضخماً رافقته موجات انتقال سكاني كثيف من الريف إلى البلدات والمدن. هكذا بات الانتصار العسكري للشيوعيين الفيتناميين مرفقاً بالعجز عن إنجاز أهداف الثورة، إذ اصطدمت نزعتها الجماعية بولادة طبقة ريفية وسطى، في دلتا ميكونغ، وبتوسعها.
ويعيدنا إليوت إلى تاريخ الحركة الشيوعية في ماي ثو، والتي كان قد سبقها تحالف غير معلن بين طبقات ريفية ومدينية عدة قرَّب بينها بؤس الزمن والحياة الكولونياليتين. وقد اتجه غضب هؤلاء إلى ملاكي الأراضي والإداريين الفرنسيين والفيتناميين سواء بسواء. ذاك أن الكساد العالمي للثلاثينيات كان وقعه أكبر على فيتنام، حيث ترتب على الزراعة التجارية والمُتجرة دَين فلاحي واسع وثقيل الوطأة وتركز لملكية الأرض في عدد ضئيل من الملاّك.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
كمبوديا تشهد تقتيلاً وتهجيراً على يد الخمير الحمر في حدث يحاكي المحرقة اليهودية في شموليته وأبعاده
(الحلقة 15)
حازم صاغيّة
ثروات فيتنام
يحاول صموئيل بوبكين في واحد من ألمع فصول كتابه 'الفلاح العقلاني: الاقتصاد السياسي للمجتمع الزراعي في فيتنام' أن يشرح الانتفاضات الفلاحية في المجتمع الفيتنامي، شأن 'الارهاب الأحمر' في 1930، بـ'منطق الاستثمار الفلاحي'. وهذا ينطبق، في زعمه، لا على الزراعة والقرية وحدهما، بل على 'أعمال التحويل السياسية والدينية للمجتمع' من خلال النشاط الجماعي. فالفلاحون الذين لم يتمردوا لاستعادة ماض ذهبي، كانوا يتحدون السيطرة السياسية والاقتصادية التي تمارسها النخب، كيما يخلقوا مؤسسات ريفية جديدة ترتفع معها مستويات معيشتهم. أما ما كان مطلوباً فظهور من ينظمهم. وهو يُظهر كيف توسع، مع نهاية الثلاثينيات، حجم أولئك الذين يسميهم 'رجال مشاريع سياسيين' ممن يتجاوبون مع مطالب الفلاحين بتوفير مؤسسات أفضل وأكفأ يحظون، كمقابل لها، على دعمهم.
ويمضي بوبكين راسماً لوحة تفصيلية عن بعض الجماعات التي تنافست في ما بينها، وفي عدادها حكومة هانوي الشيوعية، للسيطرة على الفلاحين. فعلى عكس الرواية الشيوعية في احتكار التاريخ، كانت هناك الكنيسة الكاثوليكية التي نجحت في تحويل الكثيرين من أهل الريف إلى ديانتها ومذهبها، ليس فقط بسبب جاذبية الدين، بل أيضاً نتيجة لمنافع مادية ملموسة يندرج فيها التعليم وإدخال القوانين ونشر أفكار أوروبية مما يعود بأثر إيجابي واضح على المداخيل، فيكون ذلك برهاناً على صلاح الدين.
كذلك نافس على الحلبة ذاتها مذهب 'كاو داي' الفِرَقي، وهو الذي اعتنقه مئات آلاف كان كثيرون منهم موظفين في الإدارة الفرنسية. وهؤلاء كانوا منظمين على طراز الكنيسة الكاثوليكية، فكان لديهم باباهم وحبرهم الأعظم وهرمية تفيض عن أحد عشر ألف منصب وقوات مسلحة وفرع للعناية بالرفاه الاقتصادي، فضلاً عن توجهات راديكالية تسند نفسها إلى قائمة ممن رسموهم قديسين (بينهم جَن دارك وفيكتور هوغو وشارلي شابلن!). وقد حاولت 'كاو داي' إحياء الافتخار بالقيم الأهلية والمتوارثة ومد نفوذها السياسي بما يساعدها في الحصول على حصة أكبر من ثروة فيتنام.
كذلك اندرجت في عملية المنافسة تلك جماعة 'هوا هوا'، وهي حركة دينية وألفية مناهضة للاستعمار ترتكز على تعاليم هويان فو سو، الراهب الكاريزمي الذي 'اختلف عن باقي الأنبياء' في أنه عرف كيف 'يبيع جماهيرياً' رسالته، ومفادها البساطة والصلاة والواجب العائلي والأصالة والتحرير. لكن هويان هذا، حين بلغ الثامنة والعشرين اغتاله منافسون شيوعيون قطعوا جثته إلى ثلاثة أجزاء ودفنوا كل جزء منها في قبر منفصل كي يضمنوا عدم عودته إلى الحياة!
التوسع العدواني
الشيوعيون كانوا، بالتأكيد، طرفاً آخر في هذه اللعبة. لكنهم كانوا وحدهم الطرف الذي يملك خبرة في التقنيات المعقدة للقيادة والتنظيم دمجوها في 'حوافز انتقائية' الهدف منها توحيد الجماعات الدينية والإثنية والإيديولوجية المختلفة وطيها تحت جناحهم. وقد نجح هؤلاء، حتى تجديد الحضور الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى أواسط الخمسينيات، في تعبئة الفلاحين وانتزاع تعاونهم، عبر رفع مستويات إنتاجهم وتحسين شروط حياتهم. وهو ما حصل خصوصاً في الشمال فأكسبهم سيطرة سياسية على قُراه الشديدة الفقر وذات التنظيم المتلاحم والمغلق لم يحرزوا مثلها في الجنوب. ذاك أن الأخير بدا مزدهراً نسبياً كما كانت البنية الاجتماعية لجماعاته الفلاحية أشد استرخاء وأقل تجاوباً مع الدعوات إلى إعادة تنظيم اقتصادها والإمساك بوعيها الإيديولوجي. وهذا لا يعني أنهم لم ينجحوا في الجنوب، بيد أن التوتر الدائم ساد العلاقة بين 'فيت منه' والفلاحين الذين حاولوا دخول السوق من دون معيتهم، وذلك عبر استئنافهم المتاجرة مع الفرنسيين مما عمل الشيوعيون على منعه.
وبالعودة إلى آخر فصول الحرب التي قضت على أكثر من مليون شخص، مارس الأميركيون، ما بين 1965 و1975، نوعاً من التبسيط المعهود في إداراتهم، ترتب عليه توسيعهم العدواني لحرب فيتنام، وهو أيضاً توسيع معهود في الكثير من سياساتهم. فروبرت مكنامارا، وزير الدفاع (الذي اعتذر لاحقاً ونقد موقفه ذاك) كان حذر الرئيس ليندون جونسون من أن انتصاراً شيوعياً في فيتنام ستتردد أصداؤه في اليونان وأفريقيا. وهكذا كان لا بد من الحرب الموسعة التي استعدت أو حيدت معظم السكان. لكن شيئاً من هذا التهويل الغبي لم يحصل. ففيتنام التي انتصرت عسكرياً، انتهت بلداً مهزوماً، بالغ الفقر، متسولاً العون والاستثمار الخارجيين، ومحاصَراً بتهم المنظمات الدولية بالانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان. وفي أواخر الثمانينيات بدأت تتبع طريق الصين التي تأخرت عنها فيه بضع سنين. فقد أتاحت المجال لاقتصاد أكثر انفتاحاً وأشد تطلباً للاستثمارات الأجنبية، مع أنها لم تتزحزح قيد أنملة عن سيطرة الحزب الواحد ومعاملة أدنى انشقاق سياسي بالقمع الذي بزت فيه نظام ثيو المتهافت.
«الخمير الحمر»
أما في كمبوديا المجاورة، حيث تفرعت الحرب عن الحرب الفيتنامية، فلاتزال محاكمة 'الخمير الحمر' وجرائمهم تثير عناوين شائكةً يتداخل فيها تاريخ البلاد وسياستها وأفكار بنيها ومطامع الدول، الإقليمي منها والبعيد، فيها. لكنها، أيضاً، تطرح مسائل الأخلاق والضمير، والحقوق وطبائع البشر ومنازع العنف والاستبداد، والصواب الإيديولوجي، وقبل هذا كله، موضوعة المقاومة.
ذاك أن موت مليون، بعضهم قتلاً مباشراً وبعضهم جوعاً وتهجيراً وإصابات بالأوبئة المميتة، من أصل سكان يبلغ مجموعهم سبعة ملايين، حدث يشبه المحرقة اليهودية من حيث امتلاكه شمولية تفيض عن السياسة وإن وَجدت في السياسة بعض أجلى مراياها.
وكائناً ما كان الأمر يبقى أن الخلفية اليقظة وراء الوعي السياسي الكمبودي إنما جسدها دائماً حس بالتاريخ جريح ودرامي، حضرت فيه 'الكرامة' بقوة ولم يبق لتحويلها مادةً معممة السم إلا حضور الأدلجة والتنظيم الحديث مما وفرته الشيوعية حزباً وفكراً. وقد أجج هذا كله حس مثقل بالتاريخ الذي يرزح تحته ذاك الموقع الجغرافي المعقد هو الآخر، حيث الإحاطة لتايلندا ولاوس من الشمال والتطويق من فيتنام في الشرق والجنوب.
فحتى أوائل القرن الخامس عشر سيطرت مملكة الأنغكور، وهم إسم مملكة الخمير الكمبوديين تيمناً بعاصمتهم، على جوارها بأكمله، فارضةً سطوتها على معظم سيام (تايلندا حالياً) وعلى دلتا ميكونغ في فيتنام الحالية. لكنْ في 1431 بدأ التفسخ المصحوب بهجوم الجيران السياميين والفيتناميين والتوغل فيها، ممتصين رُقعاً لم تكف عن التوسع من أرضها وشعبها. وبدت كمبوديا، بعد قرن ونيف، على شفير الاختفاء الكامل، حتى ان أنغكور نفسها، على ما يؤرخ ديفيد شندلر في 'كمبوديا قبل الفرنسيين'، كانت أصبحت جزءاً من سيام.
وفي الغضون هذه قُتل أعداد من الخمير واستؤصلوا في سلسلة من الحروب المدمرة، شنها تايلنديون وفيتناميون وأطراف محلية، كما نُفذت داخل أراضي الكمبوديين و'ساحتهم' ممن انتقلوا إلى حالة دفاعية مستمرة.
وأقدم التايلنديون على إحراق عاصمة الخمير ثلاث مرات في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما أبقى المستشارون الفيتناميون الملك الكمبودي أسيراً طوال 15 سنة، وتمتلئ السجلات والمدونات التاريخية، على ما يذكر شندلر، بالإشارات إلى أحداث الحرق والنهب والمجاعة العاصفة بالبلد خلال الحقبة المظلمة تلك، وفي عدادها انتفاضة 1840، التي تحولت أحد معالم تاريخ الكمبوديين، ضد تعاظم السيطرة الفيتنامية على أرضهم وحياتهم.
خيانة الرفاق
لقرابة قرن حكم الفرنسيون كمبوديا. وهم، إلى أفعال سيئة وعنفية أقدموا عليها توطيداً لسيطرتهم، ضمنوا لبلد الخمير وحدته الترابية للمرة الأولى منذ زمن مديد. فحُملت تايلندا، عام 1907، على إعادة المقاطعات الغربية من سييم ريب، ومن ضمنها أنغكور وباتامبانغ، إلى كمبوديا. لكن هذا بدا أقل من تحديد نهائي للحدود بينها وبين جيرانها. فقد رسم الفرنسيون خطاً يفصلها عن فيتنام مستجيباً التقسيمات الإدارية التي اعتمدوها، إلا أنه لا يبدد مخاوف الكمبوديين مما اعتبروه رغبة فيتنامية في إلحاقهم ضمن وحدة هند- صينية يهيمنون عليها. وفعلاً أطيحت الحدود مع انتزاع سييم ريب وباتامبانغ ثانية وضمهما، إبان الاحتلال الياباني اللاحق، إلى تايلندا، فلم تتم إعادتهما مجدداً إلا بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان. وعاودت الخلافات الحدودية ظهورها القوي مع استقلال الهند الصينية في 1953- 1954. لكنْ مع مؤتمر جنيف في 1954، تراءت احتمالات جدية لتسكين الوضع الإقليمي، بعد انتصار الشيوعيين الفيتناميين على فرنسا وتوطد الشيوعية الصينية الحاكمة منذ 1949. هكذا توافق الرفاق الكبار في بكين وهانوي على ضرورة حل 'الخمير الحمر' وسحب كوادرهم إلى هانوي، أي إبقائهم احتياطاً لدى نظام فيتنام الشمالية ومصالحها. وهنا ظهرت الخلافات إلى العلن، فرأى شيوعيو كمبوديا أن رفاقهم الفيتناميين 'خانوهم' وضحوا بآفاق الثورة الكمبودية من أجل توطيد النظام الثوري في هانوي. وهم، لاحقاً، لم ينسوا أبداً هذه 'الخيانة' ولم يغفروها.
آنذاك كان الأمير نورودوم سيهانوك، وريث الأرستوقراطية التقليدية، ينقل بلده إلى حقبتها الاستقلالية بعد حقبة الاستعمار الفرنسي التي استمرت حتى 1955. وفي حكمه كمبوديا، ترافقت سياسة الحياد التي اتبعها، في الخمسينيات والستينيات، مع حلول الولايات المتحدة في الموقع الذي سبق أن حلت فيه فرنسا. وكانت الحرب الباردة في جنوب شرق آسيا من الضراوة بحيث لا تترك مكاناً لحياد كالذي أراده الأمير الكمبودي. وبالفعل ترتب على ذلك تمنع الدول المدعومة من الولايات المتحدة، أي فيتنام الجنوبية وتايلندا، عن الاعتراف بحدود بلده، مستخدمة ذلك ذريعة لإدامة التوتر مع سياسته في الحياد. هكذا أضحت المعارك والمناوشات الحدودية من تعابير الإزعاجات التي واجهتها كمبوديا، شاحذةً لدى سكانها وعيهم الوطني والحدودي المعادي للغرباء، لا سيما منهم الفيتناميين.
معسكرات الأدغال
يرصد تيموثي كارني، في كتابه التوثيقي الصغير 'قوة الحزب الشيوعي في كمبوديا'، نمو إيديولوجية 'الخمير الحمر' من بداياتها بين الطلبة الكمبوديين الذين يدرسون في باريس، كما يتفحص سجالاتهم الاقتصادية، خصوصاً ما طرحه الشبان الماركسيون كخيو سامفان، مساعد بول بوت لاحقاً، والذي جادل، أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، مدافعاً عن التجميع الزراعي وعن نقل السكان من المدن إلى الريف والعمل في الزراعة.
لكنْ لئن كانت المقاومة الوطنية - اليسارية في بلادهم تواجه الفرنسيين آنذاك، ففي فرنسا نفسها كان الحزب الشيوعي أكثر الأحزاب الشيوعية ستالينيةً خارج المعسكر الاشتراكي. ولما كان العام 1949 سنة انتصار الشيوعيين في الصين، استمالت الماوية بول بوت الشاب ورفاقه الأقربين، الأمر الذي تعزز لاحقاً، مع زيارته بكين في مطالع 1966. فآنذاك، أثارت 'الثورة الثقافية البروليتارية العظمى'، وكانت في بداياتها، كبير إعجابه، لا سيما إفراغها الجزئي للمدن وتصفيتها 'الأعداء الطبقيين' بلا هوادة ولا رحمة. ودائماً كان رهانه، المعلن مرةً والمضمر مرات، على الصين التي لا تتاخم بلده، أن تكون مصدر عون في مواجهة الفيتناميين.
ذاك أن الشيوعية الكمبودية، بوصفها الفصيل الراديكالي للوطنية الكمبودية، ولدت واستمرت موضع تجاذب بين السيطرة الشيوعية الفيتنامية عليها وبين الرغبة القاهرة في التحرر منها. فكانت، في هذا، تعبيراً حاداً ومحتقناً عن حدة العلاقة بين القوميتين وعن احتقانها، وإن بقي حزبها، حتى 1951، جزءاً من 'الحزب الشيوعي في الهند الصينية'، يهيمن عليه الفيتناميون هيمنتهم على الحزب اللاوسي أيضاً. لكنْ في السنة تلك تفرعت الأحزاب الثلاثة من دون أن تزول الأبوة الفيتنامية عليها جميعاً، فنشأ 'حزب الشعب الثوري الكمبودي' تسميةً لتنظيم الرفاق في بنوم بنه.
وفي الحزب هذا نشط بول بوت ورفاقه العائدون من باريس، حتى إذا حل عام 1955، وكان يمارس تعليم التاريخ والجغرافيا في مدرسة قرب بنوم بنه، سُمي سالوث سار عضواً في اللجنة المركزية السرية للحزب.
وفي الستينيات، وقد غدا نظام سيهانوك أكثر اعتباطية وأوتوقراطية وفساداً، جنباً إلى جنب الإضعاف الذي أنزلته به سياسة الحياد في وضع بالغ الاستقطاب، غادر مئات اليساريين والشيوعيين الكمبوديين العاصمة إلى معسكرات أقاموها في الأدغال، لينضم إليهم أمينهم العام الجديد في 1963، وكان الهدف المقاومة انطلاقاً من الأرياف بالاستناد إلى تنظيم بالغ السرية.
«هتلر» آسيا
في المقابل، لم تنجُ من هذا الميل العدائي الراسخ والمتبادل علاقة الشيوعيين الفيتناميين بالعصبة الصغيرة من شيوعيي كمبوديا الذين دعاهم سيهانوك 'الخمير الحمر'. والحال أن الرجل الذي بات يُعرف ببول بوت، والذي لقبه بعض الغربيين بـ'هتلر آسيا'، يلخص هذه المشاعر التي يتداخل فيها الكره والعداء والنزوع القومي المتصلب الذي تجلبب بماركسية أممية.
فحسب كاتب سيرته ديفيد شندلر، كان بول بوت، وعلى نحو دائم، أكثر الثوريين الكمبوديين سريةً وغموضاً. فاسمه الفعلي، سالوث سار، بقي مجهولاً من قبل الخبراء بالشأن الكمبودي حتى 1977، أي بعد عامين على الانتصار الذي حققه 'الخمير الحمر' على نطاق وطني وأحلهم في سلطة بلدهم. وتدل سيرته إلى أنه أستاذ تعليم سابق تولى، منذ 1963، سكرتيرية الحزب الشيوعي، السري آنذاك في كمبوديا، على أثر اختفاء الأمين العام الذي سبقه في صورة غامضة.
وليس معروفاً بالضبط ما إذا كان 'الأخ الرقم واحد'، حسب تسميته التنظيمية، قد وُلد في 1925 أو في 1928، إلا أنه أبصر النور في منطقة تبعد قرابة 90 ميلاً شمال بنوم بنه العاصمة، لأب كان مزارعاً غنياً تربطه صلات مؤكدة، وإن غير واضحة تماماً، بالقصر الملكي. وقد قضى سالوث سار نفسه بعض طفولته قريباً من عالم القصر، أو على هوامشه، حيث كان ابن عمه عضواً في فرقة الباليه الملكية. ويبدو أن السفاح اللاحق لم يكن تلميذاً موهوباً، إلا أنه، في 1949، وبسبب تلك العلاقة الغامضة بالقصر، غدا واحداً من مئة شاب وشابة تشكلت منهم الدفعة الكمبودية الأولى التي تُرسل، على نفقة الحكومة، للدراسة في باريس. هناك اعتنق، هو وكثيرون من زملائه الذين عُرفوا لاحقاً، كخيو سامفان وإيانغ ساري، أفكاراً يسارية حملتهم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي القوي حينذاك.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
مقاومو الخمير الحمر يأمرون بإفراغ العاصمة الكمبودية من سكانها المليونين في غضون 24 ساعة!
(الحلقة 16)
حازم صاغيّة
ذروة البربرية التقنية
الحال أن حرب العصابات التي خاضتها جماعة «الخمير الحمر»، بدعم شيوعي فيتنامي، زعزعت نظام الأمير نوردوم سيهانوك وما تبقى لحياده من تأثير وفعالية. فحرب فيتنام المتصاعدة كانت تفرض معطيات بالغة الخشونة تضيق على الحياد آخر فرصه واحتمالاته، محاصرةً سيهانوك. هكذا طُردت السلطة ورموزها، في أواخر 1968، من 11 مقاطعة من أصل 18 يتشكل منها البلد، ومع نهاية ذاك العقد كانت المناطق الجبلية على الحدود مع فيتنام في عهدة «الخمير الحمر» والفيتناميين الشماليين وحدهم. وقد حاول سيهانوك إغراء هانوي بالقليل للحؤول دون الكثير، فسمح لقواتها بإقامة معسكرات عبر الحدود مع فيتنام الجنوبية، كما أتاح لها شحن مؤنها عبر ميناء سيهانوكفيل، لكنه، في الوقت نفسه، شن حرباً شرسة ومتواصلة على المجموعات الصغيرة لـ«الخمير الحمر» في الغابات والتلال. وفي رحلة قام بها مطالع 1970 إلى بكين وموسكو، طالبهما بردع هانوي عن توريط بلاده في ما يمكن تجنبه. إلا أنه، وهو هناك، أطاحه، في مارس، انقلاب عسكري مدعوم من واشنطن. وعملاً بمعادلة الحرب الدائرة والمتوسعة الرقعة، بات لابد، في مقابل «الحصة» الفيتنامية تلك، وبعضها بواسطة الشيوعيين الكمبوديين وبعضها عبر وجود مباشر لجيشهم في الأرياف المحاذية، من انتزاع «حصة» أميركية موازية.
وفعلاً أطيح الأمير وحياده القليل المبادرة، على يد الجنرال لون نول وضباطه. وبعد شهر، وفي ظل تعاظم المعارضة المسلحة المدعومة من فيتنام الشمالية، أمر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بغزو كمبوديا دعماً للنظام العسكري الجديد. وكان أن تشارك في المهمة هذه 30 ألف جندي أميركي وفيتنامي جنوبي أخذوا على عاتقهم تدمير القواعد الشيوعية، الفيتنامية منها والكمبودية، داخل أراضيها. وأسوأ من هذا كان القصف الجوي الذي كان قد ابتدأ عام 1969 ليصل، بعد أربع سنوات، إلى إحدى الذرى التي بلغتها البربريات التقنية في حروبها المعاصرة. فقد ألقي على كمبوديا ما مجموعه 539129 طناً، الكثير منها ألقته، من غير تمييز، طائرات «بي 52». والرقم المذكور يساوي ثلاثة أضعاف ونصف ضعف ما أُلقي على اليابان في الحرب العالمية الثانية.
الذيول الخطيرة
ولم يكن تطرف «الخمير الحمر» الذي راح يتنامى عديم الصلة بالنتائج المأسوية التي خلفها القصف الأميركي، عاملاً على تجذير مواقف الشيوعيين الكمبوديين ومؤججاً فيهم استعداداتهم الوحشية. فبنتيجة سياسة الأرض المحروقة ومبدأ نيكسون، دُمرت الزراعة كما تعاظم تدمير الاجتماع المتمدن.
لكنْ حتى إطاحة سيهانوك وتدهور الوضع وصولاً إلى انجرار كمبوديا في الحرب الإقليمية بنتيجة التدخلين الفيتنامي والأميركي، ظلت مصالح الخمير مربوطةً بمصالح الشيوعيين الفيتناميين. ذاك أن جيش فيتنام الشمالية استولى، منذ 1970، على معظم الريف فيما انحصرت سلطة لون نول والقوات الأميركية في المدن. ولم يكن في وسع الأمير سيهانوك، الذي رمته الاندفاعة الأميركية في أحضان بكين وهانوي، إلا أن يتعاون.
فقد نشأ، في مواجهة لون نول، تحالف تكتيكي بينه وبين بول بوت، عبرت عنه «جبهة متحدة» وحكومة منفى مشتركة شُكلت في بكين، ترتبت عليهما ذيول خطيرة لاحقة. وفي المقابل، بدأت هانوي بالمساعدة على توسيع وتفعيل التنظيم الشيوعي في كمبوديا، والذي كانت تأخذ عليه قبلاً نقص أمميته وحساسيته القومية الفائضة. بيد أن قوتهم، التي أتاح لهم الفيتناميون شروط إنمائها، ما لبثت أن ارتدت عدوانيتها على الفيتناميين أيضاً.
فـ»الخمير الحمر» الذين اقتصر مقاتلوهم على ثلاثة آلاف عنصر في 1970، صاروا ثلاثين ألف مقاتل في 1971، وخمسين الفاً في 1972. وبدعم من الصين البعيدة نسبياً، غدا في وسعهم توسيع هامش استقلالهم عن فيتنام الشمالية المحاذية لهم، والتي لطالما رغبوا في الاستقلال عنها، والتحلل، تالياً، من كل ضابط أو رادع تحد بهما حركتهم.
وتحت وطأة الحرب التي يشنونها، والحرب الأميركية التي تُشن عليهم وعلى سائر الكمبوديين، مضى «الخمير الحمر» ينمون بشكل مدهش، فطوعوا كثيرين من الشبان ودربوهم على استخدام الأسلحة الفيتنامية والصينية وتلك الأميركية التي كان يُستولى. وعلى رغم استمرار اعتمادهم على الفيتناميين في مواصلاتهم ومؤنهم، بدأت، منذ أوائل السبعينيات، الاشتباكات الموضعية بالظهور بينهم وبين رفاقهم الألداء، مبرزة حقيقة أن القومية عندهم، لا سيما حيال الفيتناميين، أقوى من كل اعتبار آخر. ولا يتردد فيليب شورت في كتابه «بول بوت: تشريح كابوس» في الربط المتكرر بين تلك القومية، أو «الفلسفة» التي اعتنقها «الخمير الحمر»، وما يعتبره أحد أقوى جذورها ممثلاً في صلة وثيقة تجمعها بـ«بوذية ثيرافادا»، لأن الاثنتين معياريتان جداً وكارهتان للفردية. وتبدى، في النتيجة، أن المشاعر المسمومة بين الشعبين والحزبين أقوى، بلا قياس، من «أممية» التحالف الشيوعي الكمبودي مع الشيوعيين الفيتناميين. فهذا ما وُلد وتطور على مضض، وتحت إلحاح الحاجة، كما كان دوماً مناهضاً للمشاعر الشعبية الكمبودية في نفورها من فيتنام.
«الشعب الجديد»
على أي حال، وُقعت اتفاقية السلام في باريس، في 1973، وهي التي أفضت إلى سحب القوات الأميركية من جميع الهند الصينية، فيما كان «الخمير الحمر» يمسكون بعنق نظام لون نول المتصدع. وفي 17 أبريل 1975، وبعد طول حصار من الأرياف التي يسيطرون عليها، حلت الكارثة التي فاقت سابقاتها فظاعةً ودخلوا بنوم بنه. ولم تتأخر المقاومة الظافرة في تطبيق برنامجها وكانت المدينة أول المستهدَفين به: فخلال 24 ساعة أُمر بإفراغ العاصمة من سكانها المليونين. ذاك أنه على مدى السنوات السبع التي سبقت، كانت بنوم بنه قد تضخمت من جراء لجوء أبناء القرى إليها، هرباً من «الخمير الحمر» كما من القصف الجوي الأميركي. وتكررت عملية الإجلاء في معظم المدن الأخرى منتجةً جيشاً من المطرودين من بيوتهم، ممن تضور كثيرون منهم حتى الموت، وإن أسماهم الحكم الثوري والرؤيوي الذي يستل الخلاص من شدق الكوارث، «شعب 17 نيسان» أو «الشعب الجديد».
يومها كان سيهانوك لا يزال الرئيس الشكلي للحكومة المؤقتة في المنفى الصيني، وكان من المعروف للجميع أنه لا يسيطر على شيء مما يجري في بلده، ولا يسيطر خصوصاً على الشيوعيين. فالأمير- الملك كان مهماً للانتفاضة ضد لون نول وحكومته لأنه شعبي، كما أن الملكية نفسها كانت لاتزال تحظى بنوع بعيد من التكريم والتنزيه. ثم إن الرجل حفت به صورة الضحية، إذ أُبعد قبل 5 سنوات على يد انقلاب، وترافق إبعاده مع تردي أوضاع البلد عموماً، ما حمل على الظن أن عودته بشير خير وسبب تفاؤل.
أما بول بوت فغدا رئيس حكومة لكمبوديا التي أعيدت تسميتها «كمبوتشيا» معلناً، تقليداً منه للثورة الفرنسية، «السنة الصفر»، وكاشفاً، صيف 1976، عن خطة السنوات الأربع التي انطوت على التجميع الزراعي، وتأميم الصناعة المتواضعة أصلاً، وتمويل الاقتصاد برفع الضرائب الزراعية. وبدورها، تسببت الخطة هذه في بؤس آلاف تكدست جثثهم في الحقول، بينما المحاصيل الزراعية المتوافرة حكر على قطاع التصدير الخارجي وحده. وخرجت القومية المحلية والبدائية من عباءة الزعم الشيوعي الأممي فضاعف سوءَ التغذية ذاك الإصرار على الطب الكمبودي التقليدي، فيما افتُتح مقر الاستجواب الذي اشتُهر باسم «إس 21»، وفيه قضى، تحت التعذيب، أكثر من عشرين ألف رجل وامرأة. لكن «إس 21» ما لبث أن مهد لإنشاء قرابة عشرين مركزاً مشابهاً.
عملاء الأميركيين
وأطلق «الخمير الحمر» خطة وحشية لـ«تطهير» المجتمع الكمبودي من الرأسمالية والثقافة الغربية والدين وسائر أشكال التأثير الأجنبي دفعة واحدة. وطُرد الأجانب كما أُغلقت السفارات وألغيت العملة استعجالاً للطوبى الشيوعية الأخيرة. أما الأسواق والمدارس والصحف والممارسات الدينية والمُلكية الخاصة فحُرمت هذه جميعاً واعتُمدت، في تحريمها، إجراءات عقابية قصوى. وقد قُتل من أمكن العثور عليه من أعضاء حكومة لون نول والموظفين وضباط الشرطة العسكرية والمعلمين وذوي الإثنية الفيتنامية وقادة أقلية «شام» المسلمة والمصنفين في عداد الطبقة الوسطى، لا سيما متى اعتُبروا أيضاً مثقفين. وهذه كلها اندرجت في نطاق توليد «الإنسان الجديد».
وفي المشروع الهيولي هذا، وهو امتداد الفعل المقاوم للأميركيين و»عملائهم»، أُجبر سكان البلد كلهم على الإقامة في مجمعات زراعية هي التي عُرفت لاحقاً بـ«حقول القتلـ« لكثرة الجثث التي تراكمت فيها. وفُصل، كذلك، أفراد العائلة الواحدة وحيل بين واحدهم والآخر، تذريراً قسرياً لمجتمع ينبغي له ألا يتماسك، وبالقوة ضُم الرهبان البوذيون إلى «فيالق» العمل اليدوي، كما أُخضع سكان المدن السابقون إلى عملية تربية وإعادة تأهيل سياسيتين، فيما شُجع الصغار على التجسس على الأهل والكبار. وباتت الجرائم التي تستدعي القتل تشمل التلكؤ في العمل، وإبداء أبسط تذمر من الوضع القائم، وجمع أطعمة أو سرقتها لغرض الاستهلاك الشخصي وارتداء المجوهرات والتورط بعلاقة جنسية والتعبير عن هوى ديني والبكاء على أقارب أو أصدقاء قضوا.
سيهانوك الرمز
المسافة بدت قصيرة بين سياسة داخلية كهذه وسياسة خارجية مشابهة. ذاك أنه حين نشأت في البلدين، فيتنام الموحدة وكمبوديا، حكومتان شيوعيتان، حصل الاشتباك الكبير الأول وكان مداره جزر خليج تايلندا التي تدعي الدولتان ملكيتها. ومنذ 1976- 1977 انتقل نظام بنوم بنه إلى طور أعلى في مواجهة الفيتناميين، فكأنما العنف الذي حضنته المقاومة أفلتت دينامياته واستقلت بذاتها: فمن الأميركيين ولون نول إلى المجتمع الكمبودي بما فيه شيوعيوه وصولاً إلى الجيران والرفاق الفيتناميين. فقد شرع «الخمير الحمر» يهاجمون، من خلال الحدود المشتركة، أراضي داخل فيتنام زعموا أنها جزء من كمبوديا، وفي الآن نفسه ساد التوتر والاشتباكات الموضعية والمتقطعة حدودهم مع تايلندا ولاوس. وإذ فشلت محاولات التسوية السلمية طوال 1976، بدأ «الخمير الحمر» في تحويل سيهانوك إلى مجرد شخصية رمزية واحتفالية داخل قصره، كما أقدموا على قتل عدد من أقاربه ومقربيه تحت واجهة التحالف المتزايد خواء وشكلية بين الطرفين.
على أن القتال الكبير بين البلدين الشيوعيين ما لبث أن اندلع في أبريل 1977. وفي ديسمبر 1978 غزت فيتنام كمبوديا أرضاً ونظاماً، وكانت قد انهارت علاقة هانوي بالصين وانحازت كلياً إلى الاتحاد السوفياتي. ولم يمر غير شهرين حتى ردت بكين بغزو جزئي لأراضي الفيتناميين، بيد أن الأمور استوت بانتصار الأخيرين على «الخمير الحمر» وإنشائهم في بنوم بنه نظاماً تابعاً لهم على رأسه هون سن وهنغ سمرين. وهذا الجناح من شيوعيي كمبوديا ضم قرابة 5 آلاف عنصر سبق أن تدربوا في فيتنام على دفعات تعود أولاها إلى توقيع معاهدة جنيف في 1954. وهؤلاء لم تتأخر بالظهور صداماتهم مع قادة الشيوعية الكمبودية، لا سيما بول بوت، ما أدى بهم إلى اللجوء ثانيةً إلى فيتنام. هكذا أعادتهم الأخيرة إلى بنوم بنه، ونصبتهم في مواقعها القيادية، بعد الغزو الذي ما لبث أن صاره التحرير.
لقد دام حكم «الخمير الحمر» ثلاث سنوات وثمانية أشهر وعشرين يوماً، كانت المقاومة فيها، فضلاً عن امتلاك الخط السياسي «الصائبـ«، مصدر الشرعية. وفي هذه الغضون قضت آلافٌ مؤلَّفة وتردى كل شيء آخر، من مستوى الحياة والتعليم والاستشفاء إلى سوية العقل العام. بيد أن هذا كله لم يكن كافياً، فاستدعي الفيتناميون لاحتلال ذاك البلد التعيس والمنكوب وإقامة نظام شيوعي آخر هو، أيضاً، بالغ القسوة والفساد واعتماد المحسوبية.
الانحياز إلى الرجعية
ومن جهتهم، عاد بول بوت ومقاتلوه إلى الغابات والكهوف التي أتوا منها، مدعومين من الصينيين والتايلنديين وفي صورة مداورة الأميركيين المهجوسين بمكافحة النفوذ السوفياتي الذي تنضوي فيه فيتنام.
غير أن إدامة الواقع شبه الاحتلالي، شبه الإنقاذي، لم يكن سهلاً على هانوي قياساً بطاقة «الخمير الحمر» على المقاومة واستئنافها. فهم إذ جددوا القتال، ألزموا الفيتناميين بإبقاء جيش من 180 ألف جندي في كمبوديا. فلم يتمكن الفيتناميون من الانسحاب وترك السلطة للنظام التابع لهم قبل 1989. وهم حين فعلوا ذلك لم يكونوا قد وُفقوا في القضاء على «الخمير الحمر» ومقاومتهم.
وهذا ما استدعى دورات أخرى من العنف ومن الدبلوماسية في آن معاً. ففي 1991، وُقعت اتفاقية باريس للسلام بين الأطراف جميعاً بمن فيهم «الخمير الحمر» الذين أدركهم التعب ومشاعر اليأس وصراع الأجنحة، فيما عُبدت الطريق إلى تولي الأمم المتحدة إدارة كمبوديا بحيث يُنزع السلاح ويُهيء لانتخابات عامة. وفي مايو 1993 أجريت انتخابات عامة برعاية الأمم المتحدة فجاء التصويت بكثافة مرتفعة جداً. لكن الخمير الحمر، من أدغالهم، قاطعوها وهددوا المشاركين فيها بالويل والثبور. وفي الوقت نفسه هدد المنشقون عنهم الذين يتربعون في السلطة من لا يصوتون لهم وينحازون إلى «الرجعية». وفي النهاية، حصل حزب المعارضة الملكية بزعامة سيهانوك، حزب فونسينبك (Funcinpec) على أكثرية 45 في المئة من الأصوات، وبدا كأن كمبوديا، بتثاقل وإعياء شديدين، تطوي صفحة المقاومات وتستأنف حياتها.
الطابور الخامس
في سعي عُظامي ووسواسي إلى استقلال كامل، لا عن فيتنام فحسب بل عن سائر العالم أيضاً، شحذ النظام شفرته ضد «الأعداء الداخليين المخبأين»، ممن هم «طابور خامس» للخارج. وبدفعهم سكان المدن بالقوة نحو الأرياف، ورفضهم التقنية الحديثة، تسبب «الخمير الحمر» باستكمال انهيار الاقتصاد الوطني، ما جعلهم أكثر فأكثر هذيانية. وفي واحد من خطاباته الموجهة، عام 1976، إلى الرفاق الحزبيين، تحدث بول بوت عن «الجراثيم» داخل الحزب التي ناط بالثورة الاشتراكية أمر تدميرها. هكذا بدأت التصفيات الشريرة التي ترتب عليها إعدام عشرات آلاف الشيوعيين أنفسهم.
ويروي فيليب شورت معاناة واحد من القادة الشيوعيين يُدعى هو يوون، هو أحد ثلاثة وقعوا مع سيهانوك، نيابةً عن «الخمير الحمر»، بيان تأسيس الجبهة الموحدة لمقاومة نظام لون نول. فيوون ما لبث حزبه، وقد أمسك بالسلطة، أن لفظه لأنه راح ينتقد سياساته علناً. لقد شاع عنه أنه متحفظ عن سرعة فرض «نظام التعاونيات»، وأنه اتهم الحزب بغش الفلاحين في ما يتعلق بالتعويضات المدفوعة مقابل مصادرة الأرز. بعد ذاك صار صيته مقروناً بواقعة تُنسب إليه، مفادها أنه حذر بول بوت، قبل الاستيلاء على البلد بعام، من الإفراط في القسوة، وفي العام التالي حين أمرت قيادة «الخمير الحمر» بإفراغ بنوم بنه ذُهل هو يوون لاعتباره قرار إفراغ المدينة من الجميع «غير طبيعي وغير منطقي». هكذا وُضع الأخير في إقامة جبرية لم تنته إلا بموته، عام 1976، في ظروف غامضة.
أما هو نِم، الطالب اللامع الذي أصبح مدير وزارة الخزانة في ظل سيهانوك، وعمره 26 عاماً، ثم سُـمي وزيراً لـ«الخمير الحمر»، فقُتل في مركز للتعذيب بعد سنة على رحيل هو يوون، وكان أدلى بـ«اعتراف» مطول، ومفبرك بالتأكيد، بأنه يعمل لوكالة المخابرات المركزية الأميركية.
هجاء السلاح: المقاومات كحروب أهليّة مُقنّعة
الحرب الأهلية الأنغولية استمرت ضعف سنوات التحرر والاستقلال وكانت أطول النزاعات وأشدها دموية
(الحلقة 17)
حازم صاغيّة
إفريقيا: المقاومة كنقيض للشرعية
تقدم أنغولا عينة باهرة على دور المقاومة في إدخال السكان الشأنَ العام من خلال السلاح وحده، وذلك فيما البلد المعني نفسه لم يسبق أن تشكل كبلد، ولا اكتسبت الوطنية أي معنى لها بصفتها هذه. وفي ظل عملية كتلك، يكون التسييس عبر السلاح أكبر منه وأسرع نمواً من الوعي والولاء الوطنيين. بل يجوز القول إن هذين الأخيرين لا يكفان عن التقلص والانكماش، معلنين عجزهما عن اللحاق بالتسييس العسكري والنضالي. والعاهة هذه لا تلبث أن تكتسب صفة الديمومة التي تتعاظم صعوبات علاجها، ومن ثم صعوبات تأسيس الدولة- الأمة وبناء الشرعية الدستورية التي تنظم اشتغالها.
لقد خضعت أنغولا لاستعمار شديد التخلف، هو استعمار البرتغال، ذاك البلد الطرفي في أوروبا الذي لم تلفحه رياح التطورات التي عصفت بسائر القارة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.
فالبرتغاليون وصلوا إلى البقعة التي تُعرف بأنغولا في 1483، ثم جعلوها مستعمرة لهم في 1576، وهو ما تمأسس وتمدد في 1886 كي يشمل البلد في حدوده الحالية.
لكن حرب الاستقلال، أو «حرب التحرير»، حسب التسمية الرسمية، تأخر اندلاعها حتى 1961، حين كانت المستعمرات البريطانية والفرنسية تنال استقلالها تباعاً. والحرب هذه استمرت 14 سنة، فانتهت في 1975، بُعيد إطاحة الديكتاتورية العسكرية لمارشيلو كايتانو، وريث أنطونيو سالازار. ذاك أن النظام الجديد في لشبونه قرر أن ينسحب من مستعمراته في النصف الجنوبي من إفريقيا وينهي صفحة الاستعمار.
وبلغة أخرى، فإن ما حدث في المتروبول، مع إنجاز خطوة تقدمية في حجم إزاحة الديكتاتورية العسكرية، هو الذي وفر عبور أنغولا من الاستعمار إلى الاستقلال. بيد أن حركات المقاومة اكتفت بإرساء أسباب النزاع الأهلي الذي غدا نزاعاً على السلطة مدمراً ومكلفاً ومديداً، فيما رهنت تقدم البلد، إن لم يكن قيامه نفسه، بالاستراتيجيات والمصالح الإقليمية والدولية الكبرى.
لعبة النفوذ
في مقابل الـ14 سنة من «حرب التحرير»، استمرت الحرب الأهلية 27 سنة، أي حوالى ضعفها، ما بين 1975 و2002، فكانت، بهذا، أحد أطول النزاعات التي حفت بالحرب الباردة وأحد أشدها دموية. فقد قُتل خلالها نصف مليون أنغولي وهُجر بفعلها 3.4 ملايين إنسان هم ثلث مجموع السكان. وقد خلفت الحرب تلك ما بين 10 و20 مليون لغم أرضي لم يُنزع معظمها. وفي وقت يرقى إلى 2003، قدرت الأمم المتحدة أن 80 في المئة من سكان ذاك البلد الغني بالنفط والماس، يفتقرون إلى كل عناية طبية، وأن 60 في المئة محرومون من مياه الشفة، فيما 30 في المئة من الأطفال يموتون قبل بلوغهم الخامسة، ولا يزيد معدل سنوات العمر المتوقعة عن 40 سنة.
لقد استكمل جون أ. ماركوم في المجلد الثاني من كتابه «الثورة الأنغولية»، وفي ظل عنوان فرعي يقول: «سياسيو المنفى وحرب العصابات (1962-1976)»، ما ابتدأه حين أصدر المجلد الأول ذا العنوان الفرعي «تشريح انفجار (1950-1962)». وفي هذا المجلد الثاني استعاد المؤلف نقص الاهتمام الذي حظيت به أنغولا من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى أن حلت أزمة أواسط السبعينيات. ذاك أن النزاع الأهلي الذي نشب في أكبر المستعمرات البرتغالية وأغناها وأهمها، ما لبث أن شكل مصدراً بارزاً من مصادر تردي «الوفاق» بين جباري عهدذاك. وقد تعاقب الرسميون الأميركيون الذين أعلنوا أن أنغولا ستكون أرض الامتحان لإرادة واشنطن في ما يخص التصدي للنفوذين السوفياتي والكوبي في القارة السوداء. لكنْ بينما كانت الولايات المتحدة تأخذ على خصميها دعم أحد أطراف الحرب الأهلية، أي «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا» (أم بي إل إي)، كانت هي نفسها، ولا سيما عبر حلفائها، تدعم الطرفين الآخرين «الجبهة الوطنية لتحرير أنغولا» (إف إن إل أي) و«يونيتا» التي تلخص تسمية «الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا الكاملـ». فهاتان الأخيرتان تناوب على تقديم العون لهما كل من الصين ورومانيا وكوريا الشمالية وفرنسا وألمانيا الغربية وإسرائيل والسنغال وأوغندا وزائير وزامبيا وتنزانيا وجنوب إفريقيا، فضلاً عن الولايات المتحدة.
واللوحة هذه كافية للتدليل على الطبيعة غير الإيديولوجية، وغير المبدئية، التي وسمت الإحاطة الخارجية بالحرب الأنغولية. فالبلدان الثلاثة الأولى، الصين ورومانيا وكوريا الشمالية، وهي شيوعية النظام، كانت مخاوفها من الاتحاد السوفياتي، أو تنافسها معه، تدفعها إلى الاصطفاف قريباً من الولايات المتحدة وألمانيا الغربية وإسرائيل وجنوب إفريقيا. وهذا للقول إن الصراع الأهلي الأنغولي بدا فرصة لجميع تلك البلدان كي تستخدم البلد التعيس ساحةً في لعبة النفوذ الإقليمي والدولي. والشيء نفسه يصح في الاتحاد السوفياتي الذي يبدو لوهلة أنه كان منسجماً مع مبادئه، بدعمه «الحركة الشعبية» التي درج بعض قادتها على القول بالماركسية – اللينينية. لكن ماركوم يبين أن موسكو، وتماماً بُعيد الانقلاب البرتغالي، بنت جسوراً لها مع دانيال شيبندا، المنافس «اليميني» على قيادة «الحركة الشعبية»، والذي ما لبث أن انضم لاحقاً إلى «الجبهة الوطنية» وتعاون، إلى أبعد حدود التعاون، مع جنوب إفريقيا. وهذا فضلاً عن أن سافيمبي قائد «يونيتا»، كان يقول، هو الآخر، بماركسية- لينينية اعتنقها في الصين قبل ظهور الخلاف الصيني- السوفياتي.
على أي حال، فحركات المقاومة المذكورة كانت تنقسم، في وقت واحد، على خطوط ثقافية وعرقية ومناطقية وطبقية وإيديولوجية، كما تشقها المنافسات الشخصية لقادتها وبُناها التنظيمية وتحالفاتها الخارجية.
انشقاق سافيمبي
وبدورها، تأسست «الحركة» في 1956، أي نفس العام الذي شهد تأسيس «اتحاد الشعوب...»، وكان قائدها المثقف القومي – اليساري، والمولاطي، أوغستينو نِتو، كما عُد الحزب الشيوعي الأنغولي أحد المكونات الكثيرة التي انصهرت فيها. ومن ناحيته خرج جوناس سافيمبي، زعيم «يونيتا» اللاحق، من عباءة «اتحاد شعوب أنغولا»، وقد عينه روبيرتو أميناً عاماً لـ«الاتحاد»، ثم وزيراً لخارجية الحكومة الثورية في المنفى التي أعلنتها «الجبهة» بُعيد تأسيسها في 1962. لكن سافيمبي انشق في 1964 وأسس «يونيتا»، آخذاً على «الجبهة» مناطقيتها ويمينيتها القومية.
على أن «الجبهة» كانت، في 1974، تملك من القوات العسكرية ما يزيد عن مجموع ما تملكه «الحركة» و«يونيتا» معاً. كذلك كان في عهدة زعيمها هولدن روبيرتو، الموصوف بعلاقات وثيقة ومبكرة مع واشنطن ومع زائير، أموال أكثر وأسلحة أوفر عدداً وتعقيداً مما في عهدتيهما. وفي مطالع 1975، وحسب ما ينقل جون ستوكويل في «بحثاً عن أعداء: قصة عن سي أي آي»، عن مصادر عسكرية برتغالية، ضمت «الجبهة» 24500 جندي (في عدادهم ثلاثة آلاف من أنصار شيبندا غادروا «الحركة» معه)، فيما بلغ عدد مقاتلي «الحركة» 5500 عنصر و«يونيتا» 3000 عنصر. بيد أن «الجبهة» ما لبثت أن تبدت، وكما سوف نرى لاحقاً، أشبه بنمر من ورق. والنتيجة هذه، التي لم تشبه الواقع على الأرض وتوازناته، جاءت حصيلة عاملين، أحدهما العامل الخارجي، حيث انخرط الكوبيون بقوة وأعداد ملحوظة في القتال المباشر بينما انسحبت قوات جنوب إفريقيا من الداخل الأنغولي بضغط أميركي، والآخر يتعلق بالبراعة والذكاء السياسيين إذ استولت «الحركة» على معظم المدن، ما جعلها تحظى باعتراف منظمة الوحدة الإفريقية والأمم المتحدة.
تحالفات هشة
لقد بادرت الحكومة البرتغالية الجديدة، في 15 يناير 1975، إلى عقد ما عُرف بـ«اتفاقية ألفور» مع الحركات الثلاث، سعياً منها لتأمين انتقال سلمي وهادىء. وبعد خمسة عشر يوماً شُكلت، بموجب الاتفاقية تلك، حكومة ضمت الحركات الثلاث معاً. غير أن اندلاع القتال ما لبث أن ألغى الحكومة عملياً.
فقد أعلنت «الحركة» الاستقلالَ في 11 نوفمبر، بعد مغادرة الجنود البرتغاليين العاصمة لوندا، وهو ما استدعى مغادرة مئات آلاف البرتغاليين المدنيين يائسين ومحبطين. وفي الوقت ذاته تقريباً بادرت «الجبهة» و«يونيتا» إلى إعلان حكومة استقلالية، إذ أمام تحدي «الحركة» أقامتا تحالفاً لم يُثبت متانته، كما أسستا «جمهورية أنغولا الديموقراطية». كذلك فعلت «الحركة الشعبية لاستقلال كابيندا»، الداعية إلى فصل إقليمها في الشمال الغربي الغني بالنفط عن سائر البلد، إذ أعلنت استقلالها. وللتو اندلعت الحرب بين الجماعات- التنظيمات الأربع.
في بدايات تلك الحرب، التي أطلقت «الحركة» عليها تسمية «حرب التحرير الثانية»، سيطرت «الجبهة» على الشمال، و«يونيتا» على مناطق التقاطع بين الوسط والجنوب، فيما أحكمت «الحركة» قبضتها على المناطق الساحلية وعلى أقصى الجنوب الشرقي، قبل أن تتقدم إلى كابيندا فتُخضع حركتها الانفصالية.
وفي النهاية انتصرت «الحركة» بنتيجة معونات عسكرية روسية قُدرت قيمتها يومذاك بما بين 300 و400 مليون دولار، وبموت عشرات آلاف الأنغوليين. وفي موازاة هذا التقدم، وعلى ما يذكر ستوكويل، ارتفع عدد المستشارين والجنود الكوبيين إلى 20 ألفاً، فولد العهد الاستقلالي الجديد مكبلاً بديون ضخمة للحليفين، لا سيما للاتحاد السوفياتي.
الأدغال الإفريقية
وفي 1976 هاجمت «الجبهة» لوندا من الشمال، في معركة «طريق الموت»، فتولى الكوبيون إنزال هزيمة ماحقة بها، بعدها لم تقم قائمة لـ«الجبهة»: فقد هرب مَن بقي من مقاتليها إلى زائير أو امتصته «يونيتا»، كما فر زعيمها روبيرتو الذي لم يعد إلى أنغولا إلا في 1991. مذاك ولثلاث سنوات متوالية استمرت المناوشات الحدودية مع جنوب إفريقيا وزائير، فيما استمر الحضور الروسي، وخصوصاً الكوبي، في التعاظم، كما تبنت «الحركة» الماركسية – اللينينية كإيديولوجيا رسمية للدولة والنظام.
ولم ينجح العهد الجديد في تأسيس شرعية دستورية يُركَن إليها، شأنه في ذلك شأن بقية الأنظمة التي تنبثق من العنف وتتبنى إيديولوجيات خلاصية. ففي 1977 حصلت محاولة انقلابية كادت تنجح وقف وراءها وزير الداخلية نِتو ألفيس الذي ذهب أبعد من رفاقه في تلبية الرغبات السوفياتية والسماح بإنشاء قواعد عسكرية لموسكو. وما إن قضي على تلك المحاولة بكلفة دموية وحزبية باهظة، حتى ظهرت حركة «سوفياتية» أخرى قادها، هذه المرة، رئيس الحكومة لوبو دو ناشيمانتو التي أخفقت بدورها.
تورط كوبي
وفي 1979 توفي الرئيس نِتو، فحل محله في رئاسة الدولة جوزيه إدوادو دوس سانتوس. لكن الحرب الأهلية عادت إلى احتدامها أواخر الثمانينيات، فتدخلت زائير وجنوب إفريقيا لدعم «يونيتا»، وتجدد التدخل الكوبي دعماً للحكومة بحيث بلغ عدد الكوبيين، في 1988، 50 ألفاً. وفيما امتدح كثيرون «الدور الأممي النبيلـ« لكوبا في «دعم ثورة الشعب الأنغولي»، تولى الكوبيون الأمن الداخلي الأنغولي كما قدموا للأنغوليين خدمات طبية وتعليمية جدية وضرورية يحتاجها بلد لا يملك شيئاً تقريباً. لكن دورهم، الذي ظل دوراً سوفياتياً بالنيابة، شرع يتحول إلى أزمة كوبية داخلية. فقد تردد تشبيه أنغولا بالنسبة إلى كوبا بما كانته فيتنام بالنسبة إلى الولايات المتحدة لجهة تكاثر الشبان الكوبيين الرافضين الخدمة في أنغولا والفارين منها، خصوصاً أن أبناء أعضاء المكتب السياسي والقيادة الكوبيين لا يُرسَلون إلى «الأدغال الإفريقية»، حسب ما كان يردد المنشقون الكوبيون في الخارج. كذلك تزايدت التقارير التي تتحدث عن تحول الجنود الكوبيين العاملين هناك إلى مرتزقة، وفي مايو 1987 انشق الجنرال رافاييل ديلبينو، قائد القوة الجوية الكوبية في أنغولا، وهرب إلى الولايات المتحدة. وبينما تورط كوبيون في السوق السوداء، أُعدم، في هافانا، في 20 يوليو 1989 الجنرال الكوبي أرنالدو أوشوا سانشيز بتهم المتاجرة بالمخدرات والفساد وتبديد الموارد، فيما راجت تحليلات تقول إن سلطة فيديل كاسترو وشقيقه راؤول بدأت تتخوف من طموحاته.
القواعد الشعبية لحركات المقاومة
الدعم الذي حظيت به «الحركة الشعبية» تأتى عن الشعوب الناطقة بالـ«كومبوندو»، والتي تمثل ربع مجموع السكان ويتجمع أغلبها في منطقة بعينها من العاصمة لواندا. كذلك وجدت «الحركة» التأييد عند الـ«ميستيكوس»، المولاطيين أو الملونين بنتيجة الاختلاط العرقي، وعند كثيرين من بيض أنغولا، وقد ظل تعارض المولاطيين والبيض واحداً من تناقضات «الحركة»، قبل وصولها إلى السلطة وبعده، علماً بأن معظم قادتها وفدوا من المدن وكانوا متعلمين وجذريين سياسياً. في المقابل صدر أغلب الدعم الذي ظفرت به «الجبهة الوطنية» و«يونيتا» من فلاحين ريفيين وأهل قرى. فقوة «يونيتا» تركزت في هضاب الوسط العليا وفي مناطق السهول الجنوبية، لاسيما بين الشعوب الناطقة بالـ«أومبوندو» التي تشكل قرابة ثلث سكان أنغولا. ومن جهتها، تشكلت قاعدة «الجبهة الوطنية» من الجماعات الناطقة بالـ«كيكونغو» المقيمة في الشمال الغربي، والتي تقل نسبتها عن 20 في المئة من السكان. وعلى عكس «الحركة»، فإن «الجبهة» و«يونيتا» لم تضما إلا قلة قليلة من البيض والـ«ميستيكوس» والمثقفين وسائر المعنيين بالحركات السياسية والإيديولوجية الحديثة.
وقد انبثقت «الجبهة» من «اتحاد شعوب شمال أنغولا» الذي أنشأه هولدن روبيرتو وباروس ناكاكا في 1956. والتسمية لا تخفي الانتماء المناطقي الذي أريد رفعه إلى سوية قومية. وربما كان السعي إلى تفادي هذا التناقض، ولو شكلياً، ما حمل على تغيير الاسم إلى «اتحاد شعوب أنغولا». وفي 1961 شنت أولى عملياتها العسكرية، وهو ما سبق التأسيس الرسمي لـ«الجبهة» ببضعة أشهر.