يوميات ضابط أميركي عن الحرب ــــ إهداء إلى الشعب الكويتي


post_old.gif
29-09-2011, 10:32 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (23) الكويتيون اعتقدوا أن التحرير كفيل بإعادة كل شيء إلى طبيعته بسرعة لكن الأمور صعبة

عدد
60517cc1-962d-4b45-ad83-78c74a913d4e_mainNew.jpg

ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
في الحلقة السابقة ذكر الكولونيل الأميركي ايفان بروكس لمحات كثيرة عن مظاهر إعادة بناء المؤسسات الكويتية المعنية بتأمين الحياة الطبيعية للمواطنين في الكويت، خاصة أن الحياة في مدينة مدمرة بعد الحرب تعني مخاطر كبيرة سواء صحية أو بيئية وأشار الى أن الهلال الأحمر طلب امداده بثياب طبية وأكياس لمتطوعين لدفن الجثث الملقاة في الشوارع وهو ما تم تأمينه على الفور.. وهنا تفاصيل جديدة:
الطوارئ والسياسيون - هل من فارق؟
15-22 مارس 1991
كانت المدينة في حاجة الى عمل الكثير لاستعادة الخدمات فيها وكان الاهالي في الكويت يعتقدون ان التحرير كفيل باعادة كل شيء الى نصابه بسرعة، لكن كان صعباً تأمين الطعام والكهرباء للناس، الا في بعض الاحياء حيث تم تأمين الكهرباء.
لذلك كانت المدينة غارقة في الظلام ليلا مع مخاوف امنية عديدة ومع عودة الحركة المرورية الى الكويت اصبح الجيش الكويتي وحواجز التفتيش لاصطياد الجنود العراقيين الهاربين يضايق الجميع، وكنت شخصياً اسلك الطرق الجانبية، وما ان يراني الجنود ويعرفون اني اميركي فانهم يسمحون لي بالعبور من الجانب وكان الهلال الاحمر لها معاملة خاصة، ومشكلاتها الخاصة وسيارات الهلال الاحمر معلمة وهي عادة لنقل المتطوعين.
وكانت هناك دوماً استثناءات في المعاملة، قرب السفارة الاميركية اوقفوني عدة مرات، وكنت أمضي من جانب المركبات المتوقفة فأفاجأ بالجنود يوقفونني كان الحارس الذي اوقفني يتحدث الانكليزية البسيطة لكن بندقيته كانت آمرة، حيث كان علي اجتياز تقاطع طرق يقف عنده جنود مصريون، وقد فهمت من ذلك ان الجنسية الاميركية لا تمثل امتيازا لدى قوات التحالف الأخرى.
كان يتم ايقاف الفلسطينين واستجوابهم فكانوا قلما يخرجون الى الطرقات، اما «البدون» فقد تم ترحيلهم الى معسكرات العبدلي مع انهم عاشوا في الكويت لسنوات طويلة، وكان الجنرال «ناتزيوس» يحقق دوماً في ادعاءات تتعلق بارتكاب فظائع ضد الفلسطينين وكان هو يريد ان تسمح الولايات المتحدة لنحو 200 الف فلسطيني لكي يدخلوا الى اميركا ذلك صدمني، وكأن الفلسطينين لا يكفي انهم مشكلة للكويت فاراد استقدامهم بالجملة الى اميركا.
وقد صدمت ايضا من موقف العرب تجاه الفلسطينين، حيث لم التق يومذاك بعربي، كويتي، بحريني، مصري، كان يتذكرهم جيدا، والصدمة ان العديد من الشعوب استضافت الفلسطينين عقودا على اراضيها لكنها لم تعد الان تقبل بوجودهم.
كانت القوات الاميركية المقاتلة تتحرك باتجاه الجنوب بحثاً عن نقطة تجمع لها. وقد أراد الكويتيون ان يتم استعراض للقوات عبر مدينتهم. واعتبرت ذلك فكرة جيدة لأن تلك القوات عانت من شظف الحياة في الصحراء فترة طويلة، واذا ما دخلت الى مدينة الكويت فانهم سيفهمون السبب وراء إرسالهم في تلك المهمة القتالية. لكن كبار الضباط جميعاً لم يستحسنوا ذلك، لان الوقت قد حان لاعادة القوات الى بلادها وبسرعة.
كانت هناك وفرة في الاطعمة التي لم تستخدم، كما كانت كميات من الادوية على الخط الاول تقدر بملايين الدولارات، ولم افهم لماذا لم يتم التصرف فيها، وسمعت البعض يقول ان لتلك العقاقير مدة زمنية للتخزين والصلاحية، لذلك اخذت الوحدات الطبية تستعد لدفن تلك الادوية في رمال الصحراء، علماً ان لديها صلاحية تزيد على ستة اشهر فشعرت بان ذلك تبذير لاطائل منه واتصلت بالقيادة الطبية لاقناعهم بارسال الادوية الى المشافي الكويتية.
من الناحية القانونية كانت المشكلة في ارجاع ادوية اميركية الى مشافي كويتية تتمثل في موافقة الكونغرس، كان الكولونيل ميشل بيسلي من الوحدة G4 مستعداً لمساعدتي، وكان ضابطا مهماً ونشيطاً، ويدعم انشطة الهلال الاحمر. ومع ان آلياته كانت مكلفة بحمل ثقيل كان هو ميال الى المساعدة، فكان يقدم المعونة الهلال الاحمر باي شكل. واعتقد ان هذا الضابط كان احد القادة القلائل الذين التقيتهم وكانوا قياديين اكفاء، فكان نموذجاً لحسن القيادة.
كانت مركباتنا معلمة باعلام عليها عبارة Task Force Freedon التي تحولت الى شعار للذكرى على «لوغو» باللغتين الانكليزية والعربية، وعلى جانبها العلم الاميركي والبريطاني والفرنسي والعماني والمصري والسعودي والكويتي.
ان الحياة في معسكر الحرية عبارة عن روتين متضخم حتى حين نريد ان نستحم كان علينا حمل الاقنعة الغازية، كانت الحرب انتهت ومع ذلك كنا نقف بالدور ومعنا اقنعتنا تلك حتماً، هل كان ذلك تصرفاً منطقياً؟ لقد كان الجيش الثالث يتحرك بقيادة الجنرال جورج أس باتون في الحرب العالمية الثانية، وهو «بكامل استعداداته». ولكني الآن ضد هذا، لو قبلت القيادة العليا.
موعد الاستحمام كان متبدلاً على مدى النهار، وحرارة المياه شبه ثابتة دوماً. فهي حارة في الخليج، وكان لابد من الاستحمام- الشاور على الاقل، اما الكويتيون فكانوا في حاجة الى اكثر من ذلك، وهم معتادون عليه حتى وان قلت كمية المياه وحدثت مشكلة.
حين كنت في صبحان كانت الساعة الخامسة عصرا هي الموعد للاجتماع الرسمي والاستماع الى آخر الانباء من قبل القيادة المشتركة، وكثيراً ما كانت الاجتماعات تقاطع باصوات انفجارات هائلة، اكثريتها كان بسبب تفجير مستودعات الذخيرة العراقية التي يتم اكتشافها هنا وهناك، وقد سرت إشاعات بيننا ان ثمة «اتفاقاً» تم التوصل اليه ويقضي بغزو العراق للاراضي السعودية وبان تسيطر اليمن على القسم الجنوبي منها، فتكون حصة العراق السيطرة على اكبر عدد من آبار البترول، بينما تسيطر الاردن على «الاماكن المقدسة» في المدينة ومكة المكرمة. واي كانت حقيقة هذه الإشاعات فانني شخصياً اعتبر الاردن نظاماً غير آمن الجانب.
لاحظت ان الصحافة تتجنب الحديث عن الذخائر الاردنية. وكانوا ينقلونها عبر مدينة الكويت من مكان لآخر، في محاولة للعثور على ما سمي بـ«الخبرية» وما كان يحدث عمليا هو التركيز على الخسائر والفظائع التي ترتكب. المراسلون الذين ينقلون الاخبار كانوا هم «الخبراء» وهم الذين يحدثوننا عما يجري. وربما كان هذا هو السبب غالباً وراء ما يحدث بين الجيش والصحافة، التي تحاول دوماً الكشف عن المشاكل الحاصلة. وبالنسبة لهؤلاء كانت الحرب قد انتهت باسرع مما توقعوا وكان من الضروري تبرير وجودهم بعد ان وضعت اوزارها، وهم لا يتورعون عن القول انهم يكتشفون اشياء واشياء من اجل ذلك.
كنت أفضل تناول الغداء في «معسكر الحرية» بعد انتهاء الاجتماع كانت قاعة الطعام تقدم «وجبات» للعسكريين نسميها «تي - راتس»، وهي طعام شبه جاهز، وبينما طبق «الباستا» كان مقبولاً مع شيء من التوابل فان الفروج والاطباق الاخرى كانت رديئة وكطعام القطط.
وكنا كضباط فنيين نتناول وجبات غير متنوعة جداً كالهمبرغر والهوت دوغ. ورقاقات البطاطا والمياه الغازية.
بعد الغداء كنت اعود الى مدينة الكويت حيث ارافقد د.ابراهيم الى بيت الشامية لحضور مناقشات اعضاء الحكومة والمسؤولين. وكثيرا ما تساءلت عن سبب حضوري شخصيا لهذه الاجتماعات شبه الحكومية، حيث ان وجودي فيها لا معنى له. الا ان د. ابراهيم قال لي انني «صديق للشعب الكويتي» ورفيقه. وخلال اجتماع مع سفير الولايات المتحدة «غنيم» Gnehm عبرت عن هذا امامه فقال ان قبولي بين الحاضرين امر عادي. وكانت هذه الجلسات في «الديوانية» تستمر حتى ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي، فكنت لا ارجع الى صبحان حتى منتصف الليل.
وذات ليلة رافقت د. ابراهيم الى بيت والد زوجته (عمه) الذي يسكن في بيت يتسع لعدة عوائل، فقوبلت بحفاوة لديهم، واثنى عمه على جورج بوش واميركا، ورغم شعوري بالحرج في البداية كان واضحاً انه صادق فيما قال وكنت معجباً بأسرة د. ابراهيم الكبيرة.
كان اغنياء الكويت يملكون مولدات كهرباء وادوات خاصة بهم لكن الناس العاديين في المجتمع، لاسيما بين الفلسطينيين فقد كانوا يواجهون مشكلة في تأمين الكهرباء، وبعد التحرير مباشرة عمد امير الكويت الى اسقاط كل الديون والقروض على الافراد فضلاً عن التعويض عن الممتلكات التي فقدوها في الغزو سألت د. ابراهيم: ما معنى هذه الرسالة برأيك؟ اذ كان لدينا انا وانت ملايين الدولارات لكني اقترض اربعة ملايين لشراء السيارات والبيوت الفارهة وما الى هذا، بينما انت تعيش في حدود امكاناتك، فان ذلك يعني انني اغنى منك بخمس مرات، فهل هذا عدل؟ لكن جواب د. ابراهيم كان «إنشاء الله» واعتقد ان هناك تباينات ثقافية لن استطيع فهمها.
الجمعة 15 مارس 1991
بعد اجتماع فريق العمل الاعتيادي انتظرت قليلاً في مركز العمليات. كانت وحدة طبية تسعى للتخلص من اطنان من الادوية والمواد الطبية، تحدثت مع الضابط المسؤول ورجوته ان يحول تلك المواد اليّ انا، حيث سأجد لها نفعاً في الهلال الاحمر.
انتظرت في «كامب فريدوم» حتى وصلت تلك المواد عند الساعة الواحدة ظهراً، وهي حمولة ست شاحنات، فاخذتها الى الهلال الاحمر، لكني وجدت ان الكويتيين قد انتقلوا، وكان محرجاً لي عدم علمي اين يمكن ان اجدهم، لقد كانوا يبحثون عن مقر أوسع لكني لم اعرف متى انتقلوا درنا حول المبنى فرأيت متطوعاً فقال ان الهلال الاحمر نقل مقرها الى «مبنى الجمعية الطبية» مقابل مستشفى مبارك الكبير.
هناك استعنت بالمتطوعين لإفراغ الحمولة، فانتهى العمل في الساعة الرابعة والنصف. وقد سرّ السائقون العسكريون من تعاون المتطوعين وتضافر المجتمع الكويتي، حيث كان كل الذين بلا عمل مستعد لمثل هذه المهمات الانسانية.
كانت كميات المواد الطبية هائلة وهي عبوات اوكجسين ولقاحات مختلفة وضمادات معقمة، وكان اكثرها يمكن تخزينه في مقر الجمعية باستثناء بعض الادوية النفسية (مؤثرات عقلية)، وهكذا حملنا انا ود. ابراهيم في سيارته الصحية لكي نخزنها في المستشفى او المركز الطبي الرئيسي.
وعند السابعة مساء عدنا الى بيت الشامية للاجتماع مع الشيخ احمد الحمود الصباح ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، د. عبدالرحمن العوضي. ود. العوضي هذا كان معلما للكتور ابراهيم وصانع اعلانات تحرير الكويت التلفزيونية. وقد التقيته بعد اعلانه عن تحرير الكويت في فندق انترناشيونال، ولم اكن على علم بانه على علاقة طيبة جدا مع د. ابراهيم. استقبلنا د. العوضي بالترحيب. وبخلاف غيره من الكويتيين كان يلقاني دائماً بلا تكلف فيدعوني «تعال يا إيفانز واجلس الى جانبي». كان الشيخ أحمد الحمود الصباح ود. عبد الرحمن العوضي قلقين بسبب وضع المعسكر في العبدلي. فهو يجتذب انتباه الاعلام الدولي. والكويتيون ارادوا تقليل ما يثيره من ردود افعال عالمية الى اقصى حد. وفي نهاية المطاف، قال د. العوضي انه سيقوم شخصياً برفقة الشيخ أحمد الحمود الصباح بجولة في اليوم التالي لتفقد أوضاع المعسكر. وطلبا اليّ مرافقتهما، فقلت انني غير متأكد من امكانية مرافقتي لهما لانه «بعيد جدا» لكني سأحاول ان احصل من قيادتي على تصريح لمرافقتهما. وهكذا عدت الى معسكر الحرية في الساعة التاسعة مساء، وابلغت مركز العمليات بهذا الوضع ووعدوا بنقل رسالتي للمعنيين لدينا.




 

post_old.gif
09-11-2011, 02:27 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (24) أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي يحملون أسلحة «RPG» عراقية تذكاراً إلى واشنطن!

عدد القراء: 250
87d22d0c-d18b-4608-8767-446fa7079687_mainNew.jpg

ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
في الحلقة السابقة ذكر الكولونيل الاميركي ايفان بروكس ملاحظات عديدة وان كانت مختلفة الاتجاهات الا انه يجمعها اطار واحد عن مشكلات وقضايا الكويت بعد التحرير سواء كانت سياسية او امنية او اقتصادية او اجتماعية.
وذكر ان اقتراحا بنقل 200 الف فلسطيني كانوا يمثلون مشكلة لدى الكويت الى اميركا مثّل صدمة كبيرة له، مؤكدا ان ذلك سيثير مشكلات كبيرة في الولايات المتحدة الاميركية.
واشار الى عدد من صعوبات الحياة في الكويت بعد التحرير ومنها نقص الاغذية والكهرباء والادوية وهو ما عملوا على تأمينه على مدى فترة طويلة.. وهنا تفاصيل جديدة:

حلقة 24
السبت 16 مارس 1991
حضر الكولونيل سافولد اجتماعنا صباح اليوم التالي. وقد كرر امامنا توجيهاته بعدم موافقته على زيارتي للمنطقة الحدودية. فتقبلت الأمر على مضض. وشعرت شخصياً بأنه كان يريد السماح لهذه القضية بان تفسد، وان تنفجر في وجوهنا عاجلاً ام آجلاً. وكان هو مدعوماً من القيادة العسكرية.
عند الثامنة والنصف صباحاً وصلت انا وجورج بادار مع بيت باترنوستر الى مقر الهلال الاحمر. انتظرنا وصول د. بهبهاني. ثم بدأ باترنوستر يتحدث مع إحدى المتطوعات في الهلال الاحمر حول مسائل دينية. ولم اصدق ما سمعت لاسيما ان الخوض في قضايا الدين أحد ابرز المحظورات، وقال أمامها ان دينه يمت بصلة قوية الى الاسلام عموماً.
قال باترنوستر للمتطوعة «نحن جميعاً نؤمن بالرب ومن ناحية روحية. وديني يعترف بحقائق ذات وجوه متعددة من ديانات اخرى»، ثم تابع على طريقته ذلك النقاش. الا ان تلك الفتاة المتطوعة طالبته بذكر تفاصيل اكثر قبل ان تطرح السؤال الخطير، فقالت «هل انت كاثوليكي يا كولونيل؟ فهز رأسه بالنفي ثم عادت تسأله «يهودي؟» فهز رأسه نافياً، فاستفسرت عن دينه فرد عليها بانه من الطائفة «المورمونية التي تؤمن بالقيامة».
وكنت شخصياً لا اعرف ما هو دين هذا الرجل، واعتقدت «من خلال اسمه» انه كاثوليكي. لكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد توجهت المتطوعة نحو جورج وقالت «وماذا عنك انت»؟ عند ذلك ادركت ان السؤال سيمتد الي، وما ان اخذ جورج يجيب قاطعته أنا وقلت «ليس من واجبنا ان نناقش هذه الامور هنا، وأرى ان الوقت قد حان للتحرك».
دهش الضابطان لكلامي. لكنهما تابعاني حين وقفت للمغادرة. هكذا خرجنا من الجمعية، فرفعت طاقيتي وضربت «بيت» فيها وقلت: يا لك من احمق. ماذا فعلت؟ فاجفل واجاب «ماذا هناك؟». فتماسكت رغم ما شعرت به من غضب تجاهه كونه لم يدرك اي حماقة ارتكب هو، وتحدثت عما في داخلي، وقلت له انني قلق من تكرار هذه الحماقة.
كانت العودة الى صبحان متعبة لاسيما من الجو داخل السيارة، وحين وصلنا الى مركز العمليات ابلغني الكولونيل يونغ بانني مكلف بالتغطية الاعلامية لدى فريق الخدمات الانسانية لمدة يومين، خلال اجتماع الساعة الخامسة مساء. وكنت ارى ان هذه المهمة بلا طائل. فقد كان الجنرال موني يذعن لكل ما نقوله له، دون ان يقدم لنا اي توجيه او ارشاد من جانبه.
واردت العودة الى الهلال الاحمر لكن ذلك كان يوما مميزاً. فقد أخذت تصل طلائع وفد الكونغرس CODEL. وطلبت القيادة تأمين تغطية شاملة بدأت التغطية الاعلامية في الخامسة والنصف، ولاحظت ان من بين الحاضرين هناك اعضاء في الكونغرس ومجلس الشيوخ المهتمين بعملنا، وقد تبادلوا التحية مع ابناء ولاياتهم. ولان وحدتي كانت من واشنطن العاصمة فاننا لم نكن «من اهالي المدينة» مثل الناخبين الذين يرحب بهم من قبل السياسيين. وقد قام اكبر الشخصيات بجولة كبيرة. واذكر ان السبب الرئيس لزيارتهم للكويت كانت لالتقاط الصور من اجل حملتهم الانتخابية المقبلة لا أكثر.
سأل اعضاء مجلس الشيوخ الحاضرين اسئلة فصدمت لمدى الجهل وعدم الفهم لديهم عن المنطقة كما انه لم تقدم لهم معلومات صحافية دقيقة، وليس عندهم اهتمام بما يحدث - اي بالسياسة الاميركية في اخطر لحظاته. وعندما زار السياسيون المكان ابدوا اعجابهم بما غنمته قواتنا من اعتدة الجيش العراقي، حيث قدم الكولونيل نيكلسون للزوار تذكاراً هو سلاح من نوع RPG ومع ان الاسلحة محظورة لغير العسكريين لكن هؤلاء السياسيين حملوا معهم تلك الهدايا الى اميركا. وقمت بابلاغ مسؤول البروتوكولات لديهم قائلاً ان ذلك ممنوع، فاجابني بان هؤلاء اعضاء كونغرس ومجلس الشيوخ وهم على طائرة خاصة ولا مشكلة لديهم.
وفيما كنا نتحاور سألني هو من اين جئت في اميركا وتبين اننا جاران هناك وتطوع للاتصال بزوجتي، فحملته رسالة قصيرة لزوجتي بانني اسعى للعودة الى اميركا من اجل مناسبة ابننا الذي سيدخل سنته الثالثة عشرة، لكني لم اتأكد من امكانية العودة ان حدة الذهن لدى سياسيينا المنتخبين له تأثير كبير عليّ، وهؤلاء كانوا يقطعون مهمتهم الضرورية لاسباب سياسية وغير دينية، وقد فكرت فيهم فشعرت بالغضب، وحين قارنت بين السياسيين في الكويت واميركا لاحظت ازدواجية لدي في المعايير.
لقد كنت لا انتظر الكثير من السياسيين الكويتيين، وكنت اشعر بالدهشة حين كانوا يحققون انجازاً ما وبعكس هذا كنت اعلم ان المسؤولين الاميركيين لا يحققون شيئاً في الوقت الذي اتوقع منهم تحقيق اشياء كثيرة، كذلك فان القادة الأميركيين المنتخبين كانوا في اتجاه «منحدر» برأيي، وهذا ما جعلني غاضباً.
الأحد 17 مارس 1991
تمخض اللقاء الاعلامي الصباحي عن مشكلة ماثلة منذ زمن، فقد كانت المواد تشحن باستمرار الى البحرين من دول العالم، وكان يجب ارسالها الى اماكن الحاجة لها، فاقترح الكولونيل يونغ بان اقوم انا بالتنسيق مع د. بهبهاني بالغاء كل الشحنات التي سترسل مستقبلاً الى البحرين، وكنت ادرك ان الكويتيين كانوا عازفين عن دفع تكاليف التأمين على المواد الواصلة مباشرة في الكويت، وكان لابد من حل المشكلة، وبسرعة! في الساعة التاسعة قلت للدكتور بهبهاني انني لا انوي زيارة المنطقة الحدودية وخلال الحديث ابلغني بوب غودوين بانه سيغادر الكويت، وكان هو يرى المزيد من متطوعي جمعية الصليب الاحمر الاميركي يصلون الى الكويت، واراد ان يكون لديهم القليل من العمل في اطار بعثة اميركية الطابع بذلك اخبر رابطة الجمعيات بانه سيغادر في غضون اسبوع، وان د. كيركرنغ سيكون خليفته على رأس الرابطة.
سألت بوب وتوم عن المواد الاميركية الزائدة والمخزونة وقلت ان الهلال الاحمر ليست بحاجة الى مواد طبية وادوية فهل يمكن استخدام هذه المواد في اماكن اخرى باشراف رابطة جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر، أو اللجنة الدولية للصليب الاحمر؟ لكن الجواب البيروقراطي «الجاهز» تناول صعوبة نقل تلك المواد، لذلك يجب استخدام ما يمكن استهلاكه في الكويت والتصرف بالباقي.
في تلك الايام بدأ شهر رمضان حيث يتوقف المسلمون عن الطعام والشراب والتدخين خلال ساعات النهار والتزمت شخصياً بهذه المبادئ فلم اشرب ولم ادخن امام زملائي الكويتيين لكن عموماً كان لذلك كله تأثير على الايام الصعبة في تلك الفترة.
الإثنين 18 مارس 1991
أشار رأي المجتمعين من الفريق الى استخدام واسع للمواد مجدداً، واقترح جو غيتير والميجور اندر ناتزيوس ارسال المواد الطبية الى العراق، واعتبر الكولونيل يونغ ذلك حلاً جيداً وطلب مني دراسته، وكنت واضحاً في جوابي حيث قلت: انا افضل ارسال المواد الطبية للعراقيين في طائرة B52 وواضح ان هذه لم تكن اجابة «ذات طابع انساني» في نظرهم وعلي لذلك درس الموضوع، الا ان هناك اولويات يجب ان تتم مراعاتها، واردت ان اتأخر في الرد، كان كرم الاميركيين احد الاعتبارات لكني شعرت ان العراقيين لا يستحقون اي منافع من جانبنا وهناك «مهمات اخرى» محددة لم اعرها اهتماماً كبيراً، كان يجب تحويل صهاريج المياه الى بيوت الكويتيين لملء خزاناتهم، وبينما كنت انتظر في الهلال الاحمر اقترب مني شاب من منظمة التحرير الفلسطينية التي كان لها وجود كبير في الكويت قبل الغزو العراقي، ولديها جمعية هلال احمر فلسطيني برئاسة شقيق ياسر عرفات، ومع بدء الغزو طلب الكويتيون مساعدة هذه الجمعية لكنها رفضت تقديم المعونة لهم، ولكن الجمعية الفلسطينية بحاجة الى مياه الآن، والمسألة ليست موقفاً شخصياً من جانبي، لذلك لجأت الى اتباع الاوامر في هذه المسألة، حيث طلبت من الكولونيل بيسلي توفير المياه لهم.
رمقني مايك بنظرة غريبة وقال: ايفان، لماذا تأتي وتطلب الماء لهم فاجبته: لقد طلبوا مني الماء لهم ولا يمكنني تجاهل طلبهم، وإلا اعتبروا ان ذلك سببه دوافع دينية، قال مايك «حسن. ها أنت قمت بواجبك واخبرتني، أما انا لن استجيب لهم». تلك كانت اول مرة اقتنع بجواب رئيس لي واتجاهل طلب المساعدة من احد. بعد ذلك كان علي التحضير للتغطية الاعلامية بعد الظهر لهذا بقيت في مركز العمليات لتجميع الاخبار والمعلومات من العناصر في الفريق، لكن الكولونيل يونغ قطع عليّ عملي حين طلب مني مرافقته في جولة الى المخزن المركزي للمواد الطبية القريب.
دهشت هناك حين رأيت ان الكثير من المواد الطبية لم يلمسها العراقيون، كانت الكومبيوترات مكسرة لكن المواد الحقيقية كانت جاهزة للتوزيع لكن المشكلة هي تحديد ما هو موجود واين نجده داخل المستودع وقد رافقنا الكولونيل فيرنون غيليسبي الذي سرح من الجيش قبل خمس عشرة سنة، لكنهم اعادوه بسبب خبرته، وكان فيرنون مهندساً معمارياً وهو الذي بنى احد المستودعات في مطار الكويت لذلك تم استدعاؤه وقت الحرب لمعرفة كيفية تدمير المستودع.
كان الكولونيل غيليسبي لغزاً بذاته، فلا احد يعرف ما الاوامر التي يعطيها ولا طبيعة صلاحياته، كان يظهر حين يريد ويفعل ما يريد فقط، وقد اطلقت حوله اشاعات تقول انه حول تأمين عقود مدنية لاعادة بناء ما دمرته الآلة العسكرية خلال الحرب، كان ذلك واقعا مضحكا حقاً: ان تبني ثم تهدم ثم تعيد البناء، وكله من اجل المال، وكان هو دائماً برفقة الميجور «جين ماري سميث» التي كانت موظفة مدنية لدى وكالة استخبارات الدفاع DTA وفيما كان هو مشغولاً بتأمين عقود للمدنيين كانت هي تسعى لتشكيل خلية استخباراتية سرية، وهي مهمة اطلقتها اميركا خارج حدودها.
ومهما كان الواقع مع الكولونيل غيليسبي وزميلته فانهما تعرضا للاستجواب والابعاد، بينما لاتزال اخبار انشطتهما تدور بين الناس، ودفعا رسوماً وتكاليف كبيرة، على هامش «اسطورة الصحراء».
اخيراً، كان العرض الاعلامي مملاً، وقد اسهمت فيه واستمعت الى مختلف التقارير ذلك جعلني افكر في انني قضيت فترة قصيرة في «معسكر الحرية» وانني كنت في مهمة تتعلق بالخدمات المدنية.




 

post_old.gif
09-11-2011, 02:31 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة(25) إصرار د. بهبهاني على تناولي الطعام في رمضان يؤكد أننا نجهل العالم العربي

عدد القراء: 642
40aed85d-7b59-4101-9d83-2189b21e95c4_mainNew.jpg

ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
في الحلقة السابقة ركز الكولونيل الاميركي ايفان بروكس على عدد من التناقضات - من وجهة نظره - بين الاستعراض الاعلامي المتعمد للدوائر السياسية في اميركا لما يحدث في الكويت وذكر كيف توافد اعضاء من مجلس الشيوخ الاميركي لالتقاط الصور من باب تسويق الحملات الانتخابية لهم كما حملوا اسلحة عراقية على متن طائرتهم الخاصة رغم ان هذا ممنوع قانونا، واشار الى ان اسئلة السياسيين الاميركيين اثناء جولاتهم كانت تفضح جهلهم بالمنطقة وضعف المعلومات المقدمة اليهم.. وهنا تفاصيل جديدة:
الثلاثاء 19 مارس 1991
طرحت في الاجتماع قضية اليزابيث دول، ذلك ان السكرتيرة السابقة لوزارة العمل تسلمت رئاسة جمعية الصليب الاحمر الاميركية، وكانت تنوي السفر الى الكويت في مهمة لتقصي الحقائق وابلغت انا للتحضير لزيارتها مع السلطات الكويتية وقد وافقت على ذلك ومن ثم سألني رالف حول الوضع فيما يخص «المواد المرسلة للعراق» فقلت له ان كل شيء يسير جيداً لكن ليس لدي شيء لأنقله لهم.
وبعد الاجتماع تحدثت عن هذا الموضوع مع «تشوك ترومبيتا» الذي وافقني الرأي على تقديري، لقد ثبت ان العراق متصلب، ولمحنا اسباب عدة تساعد ذلك البلد المعتدي وبينما كنت احضر لجولة «دول» كان تشوك يتولى امر موقف القيادة بشأن نقل المواد للعراق.
ووعدته بان اطلعه بانتظام على تطورات زيارة السيدة دول، فقد كان هو احد السياسيين الذين عينتهم في وزارة العمل، ويريد الآن ان يقابلها ويسلم عليها. وصلت الى الهلال الاحمر في التاسعة صباحاً وبدأت مع د. ابراهيم وتوم كيركرنغ العمل لاستقبال السيدة «دول»، لكن لماذا جاءت الى الكويت؟ وما الذي ينبغي الاطلاع عليه هنا؟ وكانت الاتصالات لاتزال شبه مفقودة مع العالم، ويتوجب علينا تخمين كل شيء لا اكثر.
في تلك الساعات تركنا د. ابراهيم ليتولى بنفسه تسلم المواد التي ارسلت مجدداً من جمعية الهلال الأحمر الاماراتية. فهو بحاجة الى شاحنة لنقلها، لهذا اوصلني الى معسكر الحرية فاستأجرت شاحنة من الكولونيل بيسلي وتوجهنا الى المطار لتسلم البضائع وهي عبارة عن مولدات كل منها يكفي لتشغيل منزل بكامله.
سألت د. ابراهيم اين سنخزن تلك المواد، اذ ان الشاحنة لا تتسع لاكثر من اثنين منها، فقال «مبدئياً، خذها الى منزلي ومنزل والد زوجتي».
دهشت وقلت: لكن اليست هذه خاصة بالعمل الانساني، قال «نعم» ثم شرح لي اننا سنأخذ المولدات للمعسكر، فاذا تركناها في المطار فإنها ستطير، ثم وصل ممثلو وزارة الصحة ليتولوا امر هذه الماكينات كلها، وهكذا عدت انا ود. ابراهيم بعد نقاش حاد معهم، ووضعنا المولدات لبضعة ايام في مخزن قبل نقلها الى معسكر اللاجئين وحين جئنا لاخذها خرج عم ابراهيم من الداخل وقدم لي الشراب وبعض الاطعمة الخفيفة، الا انني قلت له: لكن نحن في شهر رمضان يا سيدي، فنظر اليّ وسألني «وهل انت مسلم؟ نحن نتسامح مع غير المسلمين، اذ لا حاجة بهم للصيام» وكان لجوابه ذاك اثر في نفسي، وشكرته على ما قدمه لي، وهنا اكرر ان تلك كانت فرصة اخرى علمتني بانني اجهل العالم العربي حقاً.
الأربعاء 20 مارس 1991
عقب الاجتماع الصباحي اليومي توجهت الى الهلال الاحمر مع د. ابراهيم، ثم عملت مع توم لاستكمال ترتيبات الاستقبال للسيدة دول. كنا لانزال نجهل ما الذي تريده. وقررنا ان نأخذها لزيارة مواقع توزيع الاغذية ومعسكر اللاجئين على الحدود ومقر الهلال الاحمر.
انتهينا من طباعة جدول الزيارة عند الساعة الثانية فتوجهنا الى السفارة الاميركية حيث قدمنا الجدول الى «جيل رودجرز» مسؤولة الشؤون القنصلية، وكانت هي مهتمة بزيارة دول جدا ففرحت بما عملناه، ولكن زيارة الشخصيات الهامة لا تستحق كل هذا العناء، وعلى الطريق خارج السفارة التقينا بسكرتير والذي كان في غاية الاناقة وبشعره المسرح.
ناولته الجدول فقال: «لا. لا. هذا غير دقيق، وعلينا أن نعيد النظر فيه كلياً». فكرت: من يكون هذا الأبله؟ وهل هو يعرف الكويت أفضل مني؟ الا ان د. ابراهيم كان اكثر صبراً مني، ووافق على الجلوس ومراجعة جدول الاستقبال وقال مسؤول الاعلام ان السيدة دول يجب ان تزور دور الرعاية الاجتماعية. وكان ذلك امراً لا جدال فيه لأن هذه الدور مؤسسة حكومية وخارج نطاق عمل الهلال الاحمر. لذلك قلت له ان ذلك غير مناسب، وبدا واضحاً ان الجوع للشهرة كان يدفع بنا للدفاع عن آرائنا، كان رأي د. ابراهيم ان السيدة دول لها الحق في زيارة دور الرعاية لكن دون مرافقة الهلال الاحمر، وعلينا في هذه الحال ان نوصلها الى السفارة وتذهب حيثما تشاء، لكن الموظف الاعلامي قال ان الهلال الاحمر يجب ان يحضر، وهنا شعرت بالغيظ، حيث بدا الموقف كحلبة رقص، ولا علاقة للهلال الاحمر بالامر، وبقي د. ابراهيم اكثر صبراً وتفهماً مني. وكان د. كيركرنغ بيننا وهو يتفهم تفاصيل السياسة لكنه يمقت النتائج. وقد جاء الى الكويت لتوفير المساعدة الطبية، لكنه الان يضطلع بمهمة ادارية، ووظيفته هي أن يبني معسكر العبدلي رقم 2 للاجئين من العراقيين والبدون على طرفي الحدود بين البلدين. وفي النهاية تم تغيير الجدول وغادرنا السفارة، حيث سمعنا اصوات انفجارات مستودعات ذخيرة. كانت القوات الاميركية هي التي تقوم بتفجيرها. سأل المسؤول الصحافي عن تلك التفجيرات فرد عليه توم بعفوية «انه الرعد، وأظن انها ستمطر في الغد بغزارة» فنظر هو الى توم نظرة تشكك. لكن توم استمر يتكلم بلهجته الساخرة في وقار، وبالكاد سيطرت على نفسي من الضحك. بعد مغادرة المسؤول الصحافي قال توم انه متأكد من ان السيدة دول قد التقت به، فأجبت بانني لا أهتم بلقاء أهل السياسة فضحك ضحكة ماكرة. وفي المساء كان الجو في معسكر الحرية هادئاً، ووصل الى المعسكر المزيد من الاجانب تباعاً، لكن كل شيء بات عادياً. ذهبت الى السرير باكراً على غير العادة. وفي الحادية عشرة ايقظني احد الضباط المجندين وقال ان الدكتور ابراهيم ينتظرني في المركز. ارتديت ثيابي بسرعة وتوجهت الى مركز العمليات، حيث وجدت د. ابراهيم جالساً، فسألته ما الخطب، فقال ان كل شيء على مايرام، لكنه اراد ان يوصل لي رسالة. امسكت بالرسالة وتمعنت فيها فكانت انشودة «شكر لي» من الكويتيين. فشكرته على ذلك ولكني أمعنت النظر في ملامحه، وقلت له: هل تعلم ما لا أعلمه يا ابراهيم؟ ضحك واخبرني انه بحاجة الى التأكد من استلامي الرسالة قبل ان ينساها. فكانت تلك الرسالة افضل تذكار اتسلمه.
الخميس 21 مارس 1991
كان ذلك يوم وصول السيدة دول مع المواد، وقد رتبت الامور لتجميع عدد من متطوعي الهلال الاحمر في المطار لتفريغ المواد، حين وصول الطائرة في الساعة الثامنة صباحاً، وهي اغذية اطفال وغير ذلك من حاجيات. لكن كيف يمكن جمع الكويتيين في هذا الوقت المبكر؟
ذهبت مع دون ماكيني الى المطار فوجدنا المتطوعين هناك، فارتحت. ولكن الطائرة تأخر وصولها، ولم يكن د. ابراهيم موجوداً ايضاً، فاحترت كيف سأشرح للسيدة «دول» عدم تواجد مسؤول الهلال الاحمر، لذلك تجولنا في المطار علنا نجده، لكنه لم يكن قد وصل بعد. عاد د. كيركيرنغ الى الجمعية بحثاً عنه وبقيت انا مع دون في المطار. ولم نستطع التصرف بشيء، فقمنا بالتقاط صور لنا الى جانب الاشياء القديمة قرب الطائرة، وكانت تلك هي بقايا اشياء تركها العراقيون خلال الغزو. فجأة سمعنا صوتاً قوياً، تطلعت حولي وقلت «تمسك جيداً يا كولونيل!» حيث رأيت ضابطاً يركض نحونا بسرعة. لبست خوذتي وجدت الضابط «برتبة عقيد» فقال بسخرية «على الاقل هذا يعرف كيف يقدم التحية»، ولم أعرف ما الذي كان يجري فقلت: عفواً يا سيدي ما الذي تقصده؟». نظر العقيد نحوي واجاب «هل انت احد مرؤوسي الجنرال موني أيها الكولونيل؟» فأكدت له ذلك. فسأل لماذا كنت حاسر الرأس. وكنت فعلاً قد نزعت خوذتي لالتقاط الصور. واكد لي انه تعب من سلوك ضباط الاحتياط الذين لا هم لهم سوى التقاط الصور في المطار، وقال انه نظرا لانني لا عمل لي هناك فمن الضروري ان اغادر المكان حالاً.
في الحقيقة، هناك ضباط معنيون ممن يتمنى المرء ان يسخرهم لازالة الالغام، وهذا واحد منهم، وقلت له انني بصدد استقبال شخصية مهمة ولكننا نتصرف في «الوقت الضائع».
أخيراً ظهر د. ابراهيم في العاشرة الا الثلث ومعه تعديلات على برنامج الزيارة. ثم وصلت السيدة دول فوقفت جانباً، تاركاً المجال للغير لملاقاتها.
ونظراً لأن كيركرنغ كان أرفع ممثل لجمعية الصليب الاحمر الاميركية فقد كان عليه استقبالها. وقال لها فوراً «سيدة دول، لابد من التعرف على الكولونيل بروكس - وهو ضابط الارتباط المسؤول عن المساعدة في الاماكن المجاورة». في الوقت عينه دفعني للامام وابتسم في «ود» فتقدمت عند ذلك وصافحت السيدة دول وقلت لتوم بيني وبينه انني «لن انسى» هذه اللحظة. وعدت الى الخلف حيث كنت سابقاً. وحين ظهرت السيدة دول فوجئت بها، فقد كانت المدينة في تلك الايام بلا كهرباء، ورئيسة الجمعية الاميركية للصليب الاحمر كانت ترتدي ابهى الثياب، وبدا لي انها لن تتمكن من التسكع في ارجاء معسكر اللاجئين.
نظرت هي الى البرنامج وقالت ان من الضروري تغييره، حيث انها ستزور دور الرعاية الاجتماعية، لذلك شعرت بالغيظ، لان ما تطلبه في بلد ليس بلدها. فبأي حق تملي على الكويتيين ما الاماكن التي ستزورها؟ ولو كنت معنياً بالامر مثلهم لاعدتها فوراً الى بلادها، الا ان د. ابراهيم كان متسامحاً واستجاب لطلبها. توجهنا جميعاً للاجتماع في مبنى الهلال الاحمر والعودة الى المطار لكي تذهب السيدة دول لزيارة معسكر اللاجئين، وقد رفضت من تلقاء نفسي مرافقتهم الى هناك.
ولدى عودتهم توجهت السيدة دول الى دور الرعاية الاجتماعية في الساعة الثانية عشرة والنصف. وقد اصيب ضابط الارتباط، وهو من البحرية، بالصدمة، ذلك ان احد العراقيين اعلن استسلامه امامها في المعسكر، ولم يكن الضابط يدري كيف يتصرف. وقلت للضابط مازحا انها محظوظة، حيث ان سفرها لساعات عديدة جعلها تعود الى واشنطن ومعها اسير حرب!!
في دور الرعاية الاجتماعية ابدت السيدة دول خوفها الكبير من الواقع القائم، وعلى الفور وعدت بارسال خمسين ممرضة اميركية للمساعدة، على ان يصلن خلال عشرة ايام. ونظرت الى توم بشيء من الصدمة، وقلت له: هل قامت هي بتنسيق هذه الامور مع الحكومة الكويتية؟ ام مع الهلال الاحمر؟ ام معك انت؟ فأجابني بان ذلك كان مفاجئاً تماماً. وأخيراً قدمت للضيفة معلومات اعلامية مختصرة من قبل قائد معسكر الحرية، بينما التقى تشوك كرومبيتا برئيسته السابقة وسلم عليها.
غادرت دول قبل حلول الظلام مباشرة. ومن دون كهرباء وخدمات كان واضحاً انها لن تبيت ليلتها في مدينة الكويت. نظرت الى توم وسألته رأيه، فكان مماثلا لما قلته له. فقد كانت الزيارة للدعاية والتظاهر ولكنها ستكون ذات اهمية كبرى في اميركا. وتضايقنا لان يستخدم أهالي الكويت كورقة في السياسة الداخلية الاميركية، لكن هل كان ذلك مثيرا لنا؟ وهل كنا سذجاً الى هذا الحد؟ ربما لا، لكن من المربك ان ترى ما تفكر فيه حول السياسيين امراً قابلاً للتحقيق. وبينما شعرت انا وتوم بالضيق فإن الكويتيين كانوا ممتنين جداً لما حصل. فإما انهم كانوا اكثر انفتاحاً منا او كانوا اكثر سخرية ونقداً - لتبقى الحقيقة انهم كانوا مقدرين لجهود السيدة دول.
وفي ذلك المساء حضر اجتماع جمعية الهلال الاحمر الكويتية. احد اعضاء مجلس ادارتها كان اسمه «عبدالكريم جعفر». وكان هذا الرجل مميزاً في مظهره ويشبه تماماً رالف يونغ، وحين كانت الكاميرات تلتقط الصور كان حريصاً على الحضور، بينما في بقية الاوقات تراه منشغلا مع وزارة الصحة، وكانت علاقتي معه جيدة، فكنت اتذكر اسمه لانه معكوس لفظ اسم النجم السابق «لليكر» - أي كريم عبدالجبار. وكان السيد جعفر يبدي غضبه من زيارة دول، قائلاً انها تتدخل في شؤون الحكومة الكويتية بأكثر من صلاحياتها. وقد اتفقت معه حول هذا واخبرته بذلك، ولكني لاحظت ايضا انه رجل سياسي، وبالتالي فإن عليه ان يسير مع التيار».
قاطع توم كيركرنغ حديث السيد جعفر الذي كان ثائراً. فقال «لا تعاملني كطفل، انا ارفض التنازل، ولا اريد اي علاقة مع هذا الرجل أبداً»، وشعرت انا بالصدمة، ذلك انني لم أجد في سلوك توم شوائب، ومع ذلك كان مستحيلاً ارغام جعفر على التواصل معه ثانية. واخيرا طلبت من السيد جعفر ان اخرج معه خارج القائمة. قلت له: يا عبدالكريم، ان توم هو رئيس وفد رابطة الجمعيات، واياً كانت مواقفك تجاهه فلابد ان تتواصل معه من أجل بلدك، فرد قائلاً انه يرفض ان يعامل كالاطفال ثم عدت وكررت طلبي، وفوجئت بعبد الكريم يدخل الى القاعة ويعلن امام الجميع قائلاً «سوف اتعاون مع توم - ليس لانني ارغب في ذلك بل لان، صديقنا الكولونيل بروكس اراد مني هذا ». ذلك اذهلني وحتى هذا اليوم لم افهم ما الذي فعلته انا حتى احبني الكويتيون، وهو امر سهل امورنا هناك.
هكذا خرجنا من الاجتماع فقال لي توم «لا أدري اي خطأ ارتكبت لكني اشكرك على تدخلك»، فقلت ان عليه ان ينسى ذلك لانه لم يرتكب خطأ فعلاً في سلوكه، كما انني لم افهم سر «غضب» عبدالكريم.


 

post_old.gif
09-11-2011, 02:32 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (26) قيادة القوات الأميركية تحذر جنودها من حمل تذكارات من الكويت

عدد القراء: 426
256486_2_mainNew.JPG

ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
في الحلقة السابقة تحدث الكولونيل الأميركي إيفان بروكس عن عدد من الملاحظات سواء السلبية أو الإيجابية إلا أن أهم ما دونه وأكد عليه هو فهم الغرب الخاطئ للعالم العربي والإسلامي وجهلهم بالدين الإسلامي السمح، مستدلاً بإصرار عم د. إبراهيم بهبهاني على تقديم طعام وشراب له في نهار رمضان قائلاً له: إنه غير مسلم وبالتالي لا حرج في ذلك خاصة مع حرارة الجو والارهاق الشديد الذي يعاني منه.
وأشار إلى أن رئيسة الصليب الأحمر الأميركية كانت تصر على تجافي الذوق والبروتوكول أثناء زيارتها للكويت. وهنا تفاصيل جديدة:
الجمعة 22 مارس 1991
في اجتماع الفريق الصباحي شكر الكولونيل يونغ الميجور ونيدر على جهوده لتنسيق زيارة دول، ذلك ادهشني فالكولونيل كولبورن لم يقدم سوى القليل من الجهد وها هو يتلقى الشكر لكني واسيت نفسي لانني لن اتعاطى مع السياسيين بعد الآن.
تم تطويع فرق خاصة للعمل مع العيادات الطبية المجاورة، وسألني رالف طالبا مني متابعة هذه العلاقة الجديدة، وافقت على هذه المهمة ولكنها لا تخص الهلال الاحمر، لذلك كنت اراقب النشاط لدى تلك الفرق دون الدخول في علاقة مع العسكر. عند التاسعة صباحاً توجهت الى الهلال الأحمر، ومن هناك ذهبت مع توم ود. ابراهيم لزيارة مواقع المخازن، وقدرنا كم نحتاج من الوقت للحفاظ على اماكن توزيع الاغذية.
سألني د. ابراهيم عما اذا كنت افكر في العودة الى البحرين لجلب «قرابة اربعين طناً»، من المواد هناك، فوافقت وبدأت اقوم بترتيبات السفر.
عدت الى مركز العمليات في الساعة الثانية كان مستشفى الامراض العقلية وعدد من العيادات والمستشفى الاميري دون مياه، مع انها اماكن لها اولوية في المياه، لكن في الحالات الطارئة تتلخبط الامور غالباً، لذلك قمت بالتنسيق مع الكولونيل بيسيلي وارسلنا صهريج مياه الى المستشفى الاميري. وكان علينا المحافظة على ضبط توزيع المياه- أو بدقة اكبر، كان على الكويتيين مثل هذا الواجب، فهذا هو بلدهم وواجبهم المحافظة عليه- أما نحن فلم نستطع ان نتحمل التحول الى مواطني دولة ثالثة.
الفصل 14
تحركات جوية ( 23 مارس - 3 أبريل)
كان الوقت ضيقاً لانجاز المهمات المختلطة كل يوم، لكن العمل كان ممتعاً.
في كل ليلة كان الهلال الاحمر يجتمع بحضوري مع د. ابراهيم، د. جمال، د. انيسة، د. كيركرنغ ومندوبي المنظمات الدولية للاغاثة. كان لدى مكتب الهجرة رجل هو بيير كنغ، وهو مزدوج الجنسية - بريطاني - فرنسي.
واستبدلت اللجنة الدولية للصليب الاحمر جيان باشيتا بموظف آخر اسمه والتر شتكوكر، وكانت تربطني علاقة طيبة بمبعوث اللجنة الدولية، ولكن ذلك غير صحيح فيما يخص جماعته.
كان موظفو اللجنة الدولية للصليب الأحمر يشعرون بأنهم محترفون، وهذا صحيح، الا ان قرفهم من «الهواة الاميركيين» كان كافياً لجعل العلاقة بين الطرفين باردة، وبينما كانت اللجنة تقوم بعمل معقول في مجال تبادل الاسرى فإنه بدا واضحاً ايضاً ان اعضاء الوفد لم يريدوا «تلطيخ أياديهم» بشكل شخصي، وكانوا لا يتريثون عن الاشارة الى عيوبنا، لكنهم عجزوا عن تأمين البديل الافضل، ولسان حالهم يقول «نحن هنا كمراقبين محايدين فقط». وفي كل مرة كنت اذهب الى «البيت الثاني» «لديهم» ويستقبلني والتر كنت اشعر بالفتور بين هؤلاء بشكل واضح.
ذلك ادى الى تراجع العلاقة معهم في مجال العمل، وقد حاول الميجور ترومبيتا مرة ان يوصل حقيبة تحتوي اشياء من بقايا العراقيين الى اللجنة لكن المندوب رفض ان يلمسها، فكان هؤلاء في اللجنة سريعي التأثر سلباً كسرعتهم في الاشارة الى عيوب الغير والنقد.
والكويت سمحت بتواجد اللجنة لكنها وجدت لدى اعضائها اشخاصاً متعبين، ونظرا لما لدى اللجنة من صلاحية فإنه يصعب نشر أي تقارير نقدية، لكن لو ان الكويت حدت من سلطة هؤلاء أو طردتهم فإن أي اعتداءات تنتهك قوانين جنيف من جانب الكويت ستنشر وتوزع فوراً، وهكذا تمكنت شخصياً من فهم سبب رفض حضورهم من قبل القوات.
استمرت حياة العسكريين في معسكر «الحرية» تتخذ منحى متبايناً. وحافظت الهلال الاحمر على تركيبة فريقها، في حين كلف ما تبقى من القوات الخاصة بالشؤون المدنية CATF بمهام الدعم. لكن استمرار التحاسد بين الطرفين سمح بشيء من تبادل المعلومات. ومن جهتي لم اتمكن من فهم سبب عدم امر الكولونيل اليوت ببساطة بإلحاق جماعته بالقيادة العامة، لكن ذلك لم يحدث على أي حال.
كانت نهاية مهمتنا الاغاثية غير بعيدة، ويصعب عودة الحياة الى طبيعتها في الكويت لمدة طويلة . لقد مرت الكويت بمحنة حقيقية ويتطلب شفاء أهلها من جرحهم النفسي عقوداً كثيرة نتيجة حرب الخليج، لكن القوات الاميركية كانت متأكدة من عودتهم الى بلادهم في غضون شهر او شهر ونصف الشهر.
وقد تم تحذيرنا من حمل التذكارات، وجرح كثير من الجنود نتيجة ضلوعهم في محاولات للحصول على «تذكار جيد حقاً»، فيما يبدو الحصول على شيء بخس الثمن لا يستحق المغامرة. وكنت انا مشغولاً جداً، لذلك اتصلت بمسؤولي ـ «بوتي ميسترز» BOOTY MEISTERS، وكانت الحراب Bayonets محظورة الا اذا تم تغليفها بأمتعة شخص بشكل فردي.
وكان لدى الرقيب «لي» مجموعة من الحراب فطلبت منه تأمين حربة لي. كذلك حصلت على لوحتي سيارة كتب عليهما عبارة «الكويت هي إحدى محافظات العراق»، وقمت بإرسال هذه الاشياء الى اميركا مع ثيابي الخاصة، وقد اكتشفت ان علب الوجبات السريعة هي افضل أوان من حيث الحجم للارسال عبر البريد الى اميركا، وقد وصلت كلها سليمة باستثناء الاعلام الكويتية والاميركية التي ارسلتها.
السبت 23 مارس 1991
الأطنان الاربعون من المواد في البحرين زادت حتى اصبحت 200 طن. وهناك تبرعات من اسبانيا كانت ستصل الى المنامة قريباً. طرحت هذه القضية في الاجتماع فأخبرني الكولونيل يونغ انني ربما اسافر الى البحرين مرة ثانية لهذا الغرض، وقلت له انني سأناقش هذا الامر مع د. ابراهيم.
وقبل مغادرة معسكر «الحرية» حذروني بشأن ارتداء البزة العسكرية. كان مطلوبا الزي الكامل مع ان بعض العساكر يتجاهلون الاوامر. والآن فالذين يخالفون يتلقون كتابا تأنيبيا من الضابط القائد. ومثل هذا الكتاب ربما يدمر مستقبل الجندي في الجيش. وليس هذا فحسب، فالدخول الى القاعدة يحتاج الى ربط حزام الذقن ايضا، وقد أمن فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية KTF تصاريح خروج من القاعدة كما امنوا غرفا حجزوها في فندق كارلتون بمدينة الكويت. وسألت اذا كان ذلك الاجراء يشمل جميع عناصر فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية، وفي هذه الحال، هل اعتبر أنا من عناصرهم؟ لكني لم أحصل على جواب قطعي.
في التاسعة التقيت د. ابراهيم وتوم في مقر الهلال الأحمر . كانت المواد المخزنة في البحرين والتي تصل تباعا في تزايد مطرد. د. ابراهيم قال ان علي التأكد من امكانية نقل كل ما هناك، وهو سيتولى ارسال شحنات الى الكويت. وقد عين لمرافقتي الى البحرين جون سبتزرز، وهو أحد أفراد الاتحاد الدولي من هولندا.
عدت الى مركز العمليات وقت الغداء، وكانت واعادة البناء الكويتية تنتقل الى فندق الكارلتون. وقد أبلغني رالف أنني مادمت لست أحد أفراد تلك القوة رسميا فانه يمكنني البقاء في السرداب في صبحان. وفهمت من هذا أنني مفيد للعمل لهم ولكن لست أهلا للعيش معهم. وامعانا في الاساءة لي أبلغني الكولونيل يونغ أنهم سيدفعون لي على أساس أهمية التقارير التي أقدمها، وهو ما ينبغي علي عمله في الحال.
جلست بعد الظهر لكتابة التقرير حيث أجملت توصيف العمل الذي قمت به. وقررت نتيجة الغضب ان أجعل تقريري أشبه بحكاية «أودي مورفي» ذلك الجندي الذي نال أكثر الأوسمة في الحرب العالمية. وقد قرأه رالف في الساعة الخامسة وقبله كما هو. وقد دهشت وعلمت ان ما اعتبرته مبالغة في عملي كان بسيطا بالمقارنة بما قدمه الآخرون.
طلب فريق التصوير صورة «للعاملين الفعليين»، لذلك عقد رالف اجتماعا للفريق. وحين رأيت الصحافيين يتدخلون في كل شيء نفد صبري وعبرت عن ذلك أمام الجميع. وكان رد فعل رالف قويا ضدي بان أمضي لشأني فقط، وهو أصعب أمر تلقيته في عملي. لم أكن أعلم لماذا يتم تصوير الفيلم لأكتشف بعد عودتي الى اميركا ان الفيلم عرض على شبكة «آي. بي. سي. نيوز» بعد ثلاثة أيام.
بعد العشاء جلست للراحة، وفي الثامنة جاء د. ابراهيم الى معسكر الحرية لأرافقه الى الهلال الأحمر لحضور الاجتماع وكانت الاجتماعات المسائية تطول جدا. وبعد نصف ساعة قابلنا هناك لجانا من الهند وباكستان. وكان هؤلاء من عداد الأجانب في الكويت، وهم يريدون التأكد من استمرار العمل للجاليات وحماية مواطني بلديهما. وهؤلاء الأجانب لاقوا معاملة سيئة من العراقيين وهم يلاقون معاملة قاسية من الجيش الكويتي، لذلك لجأوا الى الهلال الأحمر لحمايتهم. اللجنة الهندية قدمت حافلات لنقل الناس من والى معسكر اللاجئين في العبدلي، في حين قدم الباكستانيون عددا من الممرضين للعمل في المستشفيات يصل عددهم الى 270 ممرضا لمساعدة دور الرعاية الاجتماعية.
كانت هناك حاجة الى تأمين «تصاريح دخول كضيوف» للممرضين القادمين من باكستان. ولان دخول الكويت كان صعبا على الجميع فقد اتضح ان هذا الاجراء هو من باب التحوط لتأمين عمل مبكر في الكويت وعوائد بالعملة الصعبة. وكان رئيس الوزراء الباكستاني سيزور الكويت في غضون يومين، فطلب مني رئيس اللجنة توفير طائرة نقل عسكرية من كراتشي الى الكويت. وقد «استعرت» أجهزة عدة ولكن تأمين طائرة عسكرية خارج المنطقة أمر عسير. وأخبرت اللجنة بهذه الأمور فوافقوني على تجريب وسائل أخرى بديلة.
انتهى الاجتماع في العاشرة والنصف، وأراد د. ابراهيم وبيير كنغ من مكتب اللجنة الدولية للهجرة مقابلة وزير الداخلية. ورافقتهما في هذا اللقاء، حيث كان مكتبه محروسا جيدا من الجيش الكويتي. استقبلنا الوزير وهو برتبة عميد في الجيش الكويتي، لكني لم أكن واثقا من اتمام البروتوكول. وكنت أعلم ان صاحب الرتبة الأدنى يقدم التحية للأعلى منه، لكن في الكويت فوجئت بان الوزير يمد يده لمصافحتي وطلب مني ان أستريح. وحين جلست لاحظت وجود عقيد في أحد أركان المكتب. كان ذلك هو الكولونيل زيد الذي تناولت العشاء معه في البحرين. حييته فدهش لأنني تذكرته. وقد فتح د. ابراهيم موضوع اللقاء - حيث كان بيير كنغ سينقل الأجانب الى بلدانهم الأصلية، وهو بحاجة الى تصريح من الداخلية الكويتية لأخذ هؤلاء من المعسكر، والا فان الجيش الكويتي لن يسمح لهم بالدخول الى المطار. وبعد موافقة الوزير غادرنا مكتبه. وحيث ودعنا بيير أوصلني د. ابراهيم الى معسكر الحرية في الساعة الثانية والنصف ظهرا.


 

post_old.gif
11-12-2011, 07:58 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الجزء الثاتي: حرب عاصفة الصحراء
الحلقة (27) الكولونيل بيسيلي يطلب 1000 بطانية للاجئين العراقيين في صفوان

عدد القراء: 313
257512_1_mainNew.JPG

ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي ايفان بروكس عدداً من الملاحظات التي رصدها أثناء قيامه بمهامه في العمليات اللوجستية لإعادة بناء الكويت بعد التحرير.
وركز بروكس على حالة التضارب من المهام وكملمح طبيعي في تلك الفترة ومنها حاجة عدد من المستشفيات للمياه رغم انه من الطبيعي ان تعطى تلك الجهات الاولوية.
وذكر كيف كان يتعامل موظفو اللجنة الدولية للصليب الاحمر بتعال عليهم على اعتبار انهم محترفون أمام هواة.
وأشار الى تحذير القيادة العسكرية الأميركية لجنودها من التكالب على حمل التذكارات والهدايا من الكويت.. وهنا تفاصيل جديدة.
الأحد 24 مارس 1991
الاستيقاظ في السادسة صباحاً بدا صعباً علي، وأدركت أن هذا سيكون يوماً صعباً. وفي السادسة والنصف جاء الكولونيل بيسيلي. كان يريد ألف بطانية للاجئين عراقيين في معسكر صفوان، ورغم أن الهلال الأحمر ليس ملزماً بتقديم هذه المواد فإنني كنت واثقاً من أن د. ابراهيم سيعطينا هذا البطانيات، وقلت للكولونيل إنني سأخبر د. ابراهيم وهو سيتصل به.
وفي السابعة والنصف قمنا بأول عمل رسمي عسكري، بعد أن تم تحذيرنا بتوخي الحذر من بعض المخاطر المحيطة بنا، فنحن لانزال ضمن دائرة منطقة القتال. وأدركت أن ايام استقلاليتي لن تطول. تناولت طعام الفطور، بعض الحبوب والقهوة. أما البيض الجاهز فسيكون وجبة تمنع المرء من تناول طعامه المبكر، واحتطت على بعض قطع الحلوى لوقت لاحق. وهذه أول مرة أرى فيها حلويات «هيرشي لحرب عاصفة الصحراء، تلك التي جلبت خصيصاً لمقاومة الحر، فهذه الحلوى لا تذوب في اليد وطعمها مقبول ايضاً.
وصلت الى مقر الهلال الأحمر في التاسعة لاستكمال تفاصيل سفري الى البحرين. وكان جون سبتزرز، مندوب الاتحاد الدولي، سيتولى أمر الترتيبات المالية. وقد أبلغني د. ابراهيم أن بوسعي تأمين أموال كويتية ضرورية لأمور توليف ونقل المواد، لكنه بحاجة الى قليل من المال للتعامل مع مطالب حكومة أجنبية. فقد كانت هناك مخاطر في عمل المطبوعات بالنسبة لي كضابط أميركي بحيث يتعذر استعمال الأموال الأجنبية، لذلك طلبت أن يتولى جون كل الأعمال المالية.
وصل جون سبتزرز الى الكويت للإشراف على توزيع الاغذية المقدمة من الصليب الأحمر الهولندي، ولم تكن عنده مشاغل كثيرة، وهو شاب جيد وقد أخذني د. ابراهيم جانباً وقال انه يريد مني الاشراف على كل الأمور. فقلت له إنني سأؤمن ايصال المواد الى هنا بأي شكل كان.
ثم زودني دون ماكيني برقم ضابط ارتباط في القوة الجوية في الظهران.
وهكذا اصبح لدى الهلال الأحمر الآن اتصالها البحري عبر القمر الصناعي، وهو ما منحنا امكانية الاتصال بالعالم، ولكن بسعر 20 دولاراً للدقيقة. وفي يوم وصول السيدة دول قام اثنان من الفنيين بتشغيل الجهاز، وهما رالف نوريس وستان غريفسبي. وفي البداية لم يكن لي اتصال جيد معهما كونهما «فنيين» تابعين للصليب الأحمر الأميركي، ولكن تبين لي أنهما متطوعان جيدان.
اتصلت مع الظهران، فأخبرني ضابط الارتباط ان طائرات «سي 130» في مدرج المطار في انتظار اي مهمة، وسيكون مسرواً بدعم مهمتي الإنسانية. ثم اتصلت بالبحرين وحاولت أن أعرف بالضبط حجم المواد الموجودة لديهم، لكني لم أحصل على معلومات دقيقة، حيث إن أحداً لم يكن عنده تصور واضح عن ذلك. ما فهمته منهم اقتصر على أن المواد يجب تحضيرها ثانية للنقل جواً.
عند الثانية ظهراً علمت أن حجم المواد التقريبي يناهز 39623 الف كيلوغرام، وأن الوزن في ازدياد لذلك أمضيت سحابة ذلك النهار في تقييم تحركاتي. وكان الطيران التجاري لم يتم تشغيله بعد، لذلك سأحتاج إلى السفر بطائرات عسكرية الى البحرين. وكان السيد سبتزرز يمثل منظمة إنسانية لأنه غير اميركي. وأحسست بأن بامكاني اقناع طاقم الطائرة منحه امكانية سفر على متن الطائرة.
الإثنين 25 مارس 1991
خلال الاجتماع الصباحي حصلت على موافقة شفهية على مخططاتي. ورأيت أنني لا أملك أي وثائق. لكن هل هناك مخاطر من أن السفر عبر دول عدة سيكون انتهاكاً لأي قوانين؟ وقلت إنني مادمت أحظى بدعم الاتحاد الدولي والهلال الأحمر ولا شيء يخيفني، كونها جمعيات انسانية. وهكذا التقيت جون في مطار الكويت صباحاً في التاسعة والنصف. كان المطار الدولي مزدحماً، لكن بوفود عسكرية، وكانت طائرات «ايفرغرين» تعمل في الكويت منذ أول أيام التحرير. ولم أتمكن من الاهتداء اليها. وحين تكلمت مع أطقمها الأرضية اتضح لي أن أغلبية موظفيها من العسكريين السابقين وكثير منهم عمل في وحدات قتالية خاصة. قلت إن هذه الطائرات ربما كانت هي ذاتها «إير أميركا» خلال التسعينيات وهي ترتبط بالاستخبارات المركزية في حرب فيتنام. وكانت العمليات الجوية يوم ذاك تديرها APOD (قاعدة الجوية). وقد استمع الميجور «أوهيد»، وهو ضابط احتياط من نيوجيرسي، الى طلبي بالسفر، وأمّن لي مع جون مقعدين الى البحرين، وانطلقت الطائرة في العاشرة والنصف.
وصلنا البحرين ظهراً، ولم تكن هناك ضابطة جمركية، فقد نزلنا في الجانب العسكري، حيث لا يوجد تفتيش. وكان د. ابراهيم قد اعطاني هاتف الكابتن عبدالعزيز عباسي وأوصاني بأن اتصل به للمساعدة. وبالفعل جاء الكابتن عباسي فوراً الى المطار وأخذنا من هناك، عبر بوابة الشحن في المطار، لكي نعاين المواد الموجودة.
وقد كانت المواد متوافرة جداً وأكثر مما توقعت وكان أكثرها على نقالات جاهزة للنقل الجوي. لكن المشكلة هي أن النقالات العسكرية المخصصة للشحن تختلف عن تلك المدنية ما يجب اعادة تجهيزه للنقل. فالنقالات التجارية عبارة عن صفائح معدنية، وهي تشبه العسكرية ولكن النقالات العسكرية ذات أخاديد على الجانبين بحيث تنزلق الى داخل الطائرة على المجارير المعدنية بسهولة ويتم تأمينها بهذه الطريقة.
وقد أصر المسؤولون عن صالة الشحن الجوي على الاسراع بنقل هذه المواد قدر الامكان. ولم تكن هناك نفقات تخزين تترتب على الهلال الأحمر ولكن المواد تعيق الحركة وتشغل مساحة واسعة هناك. وأبلغوني انه في حال عدم نقل المواد فإنهم سيطبقون تعرفة رسوم على تخزين المواد على الهلال الأحمر فوراً يومياً. وقد طلبت الى الكابتن عباسي المساعدة في هذا الشأن لأنني لا أستطيع التفاوض على عقد باللغة العربية.
ولكن الأكوام من المواد كان يجب «توضيبها» من جديد. وقد نظر عمال الشحن بالمطار الى تلك المواد وقالوا ان باستطاعتهم توضيب ما بين ست الى تسع «بالات» فقط كل يوم، بافتراض انه سيتاح لهم الوقت لذلك، وستبلغ كلفة كل بالة 250 دولاراً. وكان ذلك سيستغرق أسابيع عدة وليس لدينا الوقت لذلك. طلبت المساعدة في تقديم اقتراحات من الكابتن عباسي فلم يجد حلاً، ولأن الوقت أصبح متأخراً كان لابد من العثور على فندق للنوم.
ذهب جون الى فندق دبلومات وقال انه حجز غرفة لي هناك. لذلك أوصلني الكابتن عباسي الى المنامة حيث يوجد الفندق، وحيث دخلنا شاهدت ضابطاً بحرينياً يرتدي الزي الابيض وعلى صدره الكثير من النياشين ومعه ضابط اميركي بالزي الحربي وخوذة وعدّة القتال.
اقتربنا من البوابة فأوقفتنا امرأتان وقالتا «هل يمكن أن نلتقط صورة» تبادلت النظر مع الكابتن عباسي ووافقنا. وهنا التقط صديقهما صوراً لنا جميعاً.
المرأتان كانتا مضيفتين بريطانيتين في شركة «غلف اير». وفي نهاية الأمر اعتذرنا ودخلنا الى الفندق، وقلت للكابتن عباسي انني سأتصل بالبحرين للمساعدة إن تمكنت. وكان الفندق أحد أفخم الفنادق في البحرين، أرضيته كانت مترفة وجميلة، والغرف ذات روعة لا تقل عن بقاء اللوبي لكني علمت فوراً ان الصوت فيه لا يتناسب مع فخامة مظـهره.
خلعت ثيابي ودخلت الى الحمام، حيث استلقيت في الحوض لاحظت أن الماء بلون رمادي. هل كان ذلك مني؟ والحقيقة أنني احتجت الى الاغتسال مرتين حتى أزلت «بقايا الزيوت» عن جسدي. ثم خرجت وارتديت ملابسي للاتصال بقيادة القوات البحرية. ورأيت انهم مايزالون كما عهدتهم دون تغيير. فهم امتنعوا عن توفير اي مساعدة لي. وفكرت ان ذلك متوقع منهم اصلاً، لهذا عدت لاتصل بالقائد «غريغ بولان»، الذي بدا متعاطفاً لكنه قال انه لا يستطيع توفير رجال للعمل معي. لكن غريغ اقترح أن أحاول الاستعانة ببحارة الاسطول. هناك، من الممكن تأمين دعم من ضابط البحرية وبعض المتطوعين، غير انني ترددت ولكني وافقت نظراً لقلة الخيارات البديلة.
اتصلت بالكابتن عباسي وأخبرته عن هذا المقترح فوافق على أن يوصلني في الصباح الى «مينا سليمان».
الثلاثاء 26 مارس 1991
استيقظت في السادسة وأنا لاأزال في ثياب العمل. وفي الثامنة جاء الكابتن عباسي وأخذني الى الميناء. هناك تجولنا نحو السفن عند الرصيف البحري، وسألني إذا كنت أعرف أحداً هناك، فأجبته بأننا سنأخذ سفينة لأعلى التعيين. أشار الى أول سفينة رأيناها قائلاً: «هل تأخذ هذه؟» نظرت اليها وقلت فوراً: كلا. كانت تلك اشبه بـ «كونارد برنسيس»، «سفينة الحب». وكنت أشك في امكانية العثور على متطوعين من الجنود خلال سفرهم الذي يستغرق ثلاثة أيام. ثم نظرت الى سفينة ثانية وقلت للكابتن «دعنا نجرب هذه»، وكانت من نوع USS JASON. وحين قربنا منها رأيت قبطانها الوسيم يرمقنا بنظرة ترقب وقلق. كان هذا ضابطاً في الجيش الأميركي وفي كامل بزته العسكرية، على متن السفينة، فوقفت على بعد مترين منه وحييت العلم الأميركي وطلبت منه ان نصعد اليها. ووافق على صعودنا حيث شرحت له ورطتنا.
كان القبطان كما بدا لي منشغلاً وطلب منا ن نتمهل قليلاً، قائلاً: «لحظة، دعوني أحضر لكما الضابط المسؤول». وبعد دقائق عديدة أقبلت فتاة، ضابط برتبة ملازم بحري. شرحت لها مشكلتنا فبدت مصدومة مثل القبطان ذاته وقالت: «دعني استدعي الضابط التنفيذي» (أي نائب ذلك القبطان).
انتظرنا في حين أخذ القبطان يفكر للحظات، نظراً بعدها نحوي وقال: «كم متطوعاً تريد؟ وكم هي المدة؟». قلت له: أريد ثلاثين متطوعاً لمدة يوم الى ثلاثة أيام. فأجاب: «هذا لك، لكن لا أستطيع تقديم النقل حتى المطار. هل تستطيع تأمين نقلهم؟».
نظرت الى الكابتن عباسي فبادر بالقول إنه سيؤمن حافلة لنقلهم من وزارة الخارجية. وشعرت بأن المشكلة قد حلت!
تقدم الكابتن عباسي واستخدم هاتف السفينة ورتب حضور حافلة بحرينية يمكن أن تصل خلال ساعة. وقلت لآمر السفينة انني أشكره جداً على مساعدته لنا، وأنني سألتقي بالمتطوعين على مدرج المطار بعد الظهر.
وفي الثانية ظهراً حضر المتطوعون لكن البحرينيين رفضوا السماح لنا البدء في العمل. مدير المستودع طلب وثيقة تسليم ذات شروط. فطلبت من الكابتن عباسي التصرف بهذا الشأن، في حين اتصلت بمسؤولي الملاحة الجوية لتزويدنا بأوعية. وبعد ساعتين حصلنا على التصاريح المطلوبة وكم من الأوعية. دخلت أنا وجون الى المستودع وحددنا المواد التي لنا وأعطيناها أولوية التوضيب. وكانت هناك عدّة مستشفى كاملة فنلندية لكنها تابعة للاتحاد الدولي - ومن حسن حظنا أننا لم نأخذها. كذلك هناك خيم ومولدات وأغذية للأطفال وحليب مجفف وبطانيات وغير ذلك، وهي تقدر بالأطنان. وفوق هذا فقد اتصلت جمعية الهلال الأحمر البحريني لتزويدنا بمواد اخرى غذائية كزيت الطبخ والأرز والسكر والعدس. إلا أن هذه الكميات كانت في عبوات ثقيلة - من وزن 50 كيلوغراماً من السكر أو الأرز.
وقد تعلمت أشياء كثيرة عن عمليات الرزم والتوضيب لم أكن أعرفها، قبل شحن المواد، ذلك أن ما كنت أعرفه سابقاً هو رزم أمتعتي الشخصية عند السفر لا أكثر، أما رزم المواد لشحنها جواً فهي مسألة مختلفة، وتعلمت أن الوعاء له أبعاد طولاً وعرضاً ويجب مراعاتها، وهي أوعية معرضة لاختبار من مسؤولي التحميل، وأي واحد منهم يرى انها غير مؤمنة فانه قد يرفض شحنها.
ومرة ثانية نسيت ان اهتم بالجنود العاملين، وحيث اننا بدأنا العمل متأخرين فقد عاد المسؤول عن البحارة الى السفينة وأحضر للجميع وجبات طعام ومياه، وكنت حريصا على التعامل بلطف مع البحارة، وان كنت أجهل الى متى يمكن استبقاؤهم في العمل، لذلك أخذت استفسر منهم عن ذلك حتى أيقنت ان معنوياتهم عالية ولديهم الدافع لمتابعة العمل.
ثم أرسلوا مصور السفينة لالتقاط صور لعمل بحارتهم الانساني، وقد دهشت لمدى حماسة وعلو همة المتطوعين من البحارة، وهكذا أنهينا العمل الجزئي في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا حيث أكملنا توضيب 40 بالة جوية، ذلك يعني ان هؤلاء البحارة أنجزوا في تسع ساعات ما يحتاج العمال المستأجرون من المدنيين الى انجازه في اسبوع كامل.
التقيت مجددا في المطار بمتطوعة في منظمة انسانية. وكانت تتحدث أمام الجميع عن تشتت الأوضاع في الكويت، وكان زوجها موظفا مدنيا وموجودا في مدينة الكويت، فحدثها عن الدمار الهائل، صحيح ان أجزاء من المدينة قد تضررت لكن أكثرية الأضرار كانت سطحية، والأمر يحتاج الى تنظيف جيد لا أكثر، وبدا واضحا ان تلك المتطوعة لم تصدق ما قلته لها فتجاهلت الخوض في نقاش آخر.
لقد شعرت بان ذلك كان يوما صعبا لكنه كان مجزيا، وقد صعدت الى الباص وأوصلت جميع المتطوعين الى السفينة ورجعت الى الفندق، وحين نزلت من الباص شكرتهم جميعا باسم الجيش الأميركي والهلال الأحمر ، لكن هؤلاء كانوا منهكين حقا، ومع ذلك فقد دوت هتافاتهم عبر الفضاء، فكانوا نموذجا مختلفا من جنود البحرية الذين عرفتهم.
اتصلت بالظهران لأرتب معهم عملية النقل الجوي، وقد أبلغوني من قسم التنسيق بانهم في حاجة الى معرفة العدد التقريبي للبالات المراد شحنها، وكان الزمن الأرضي لطائرة 130-C يكلف حوالي 25 الف دولار في كل ساعة، واذا لم أجهز البالات بشكل مناسب للشحن فان عملية النقل للمواد سيتم إلغاؤها، ونظرا لاني ليست لدي فكرة لعدد البالات التي يمكن ان يرفض الطيارون شحنها فانني تحفظت عن تقديم اجابة دقيقة.



 

post_old.gif
11-12-2011, 07:59 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (28)
الجزء الثاتي: حرب عاصفة الصحراء
الجنود اليهود إلى البحرين من أجل الاحتفال بذكرى «seder» البحارة الأميركيات ينقلن الأمتعة الثقيلة أمام دهشة واستياء مراقب بحريني.. لم يدرك أنهن قادرات على ذلك

عدد القراء: 753
fc1236b2-6323-44e9-9f13-ca3cca1ed1d6_mainNew.jpg

ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
في الحلقة السابقة ذكر الكولونيل الأميركي ايفان بردكس في مذكراته عددا من الاشارات ذات المغزى الكبير منها طلب الف بطانية للاجئين العراقيين في معسكر صفوان، واستقدام حلوى منحت خصيصا للجنود الاميركيين تتحمل درجات الحرارة العالية في منطقة الخليج.
وأشار الى المساعدات اللوجستية الضخمة الآتية من البحرين التي كانت مركزا للتجمع من كل دول العالم.. وهنا تفاصيل جديدة:
الأربعاء 27 مارس 1991
في صباح اليوم التالي كان العمل أبسط، فقد تمرنا أفضل ورغم ان أكثرية المتطوعين كانوا جددا فقد كان لدي العديد من الأشخاص العائدين الذين أخذوا يعلمون المتطوعين الجدد، في الساعة الثامنة حضرت حفلة في العمل وبعدها بساعتين باشرنا العمل، كان مسؤول المجموعة قد جهز ما يكفي من طعام وشراب، لذلك بدا كل شيء يسير بشكل حسن.
المجموعة كانت مؤلفة من رجال ونساء، وكان بعض البحرينيين يبدون استياء لمنظر البحارة النساء الأميركيات وهن ينقلن الأمتعة الثقيلة، وقد اقتدى مراقب بحريني من رئيس المجموعة وسأله عن سبب تشغيل النساء بهذه الأعمال الصعبة، فنظر اليه وقال ببساطة «لان هؤلاء النسوة قادرات على ذلك»، وكان ذلك جوابا مفحما، لذلك فهم البحريني الرسالة منه ومضى في سبيله وهو يهز رأسه، ورغم ان البحرين واحة من واحات الليبرالية الا ان النسوة العربيات لا يعملن في أعمال صعبة، لان الرجال العرب لا يسمحون لهن بذلك.
عند الساعة الخامسة كنا قد انتهينا، فشكرت المتطوعين على جهودهم، وفي تلك الليلة توجهت الى فندق الهوليداي ان للعشاء، وكنت احتفظ بعدد من «كوبونات» الطعام منذ ان كنت في قيادة البحرية، ورأيت ان هذه الآن فرصة مناسبة لاستخدامها، وحين انتظمت في الصفوف شاهدتني احدى قادة القوى البحرية، اقتربت مني وقالت ان من غير المناسب ان ألبس زيا عسكريا في مكان عام، فشكرتها وتجاهلت ملاحظتها، وبينما كنت انتظر دوري اقترب مني رجل بزي مدني وأظهر لي أوراقه، وهو من قوى أمن البحرية، وقد تم تعيينه في قيادة البحرية، وحذرني بان لباسي العسكري يعرضني لعقوبة من قبل الأدميرال، لذلك غضبت، لاسيما ان هذا الأدميرال لم يجعلني أشعر بالهدوء، واذا لم تكن هناك مشكلة بالنسبة للحكومة البحرينية فما شأن البحرية بذلك؟ لكني لم أرغب في اثارة المشكلة أكثر، كما انه ليست لدي أوامر خطية بذلك ولا طاقة لي بالتعرض لاستجواب من قيادة البحرية، لذلك غادرت الفندق وعدت الى فندق الدبلومات.

الخميس 28 مارس 1991
لم تكن عملية الشحن الجوي جاهزة تماما، أخبرني مجدول الرحلة بان الطائرات ستصل في اليوم التالي صباحا، لذلك بدأت منذ الساعة الخامسة صباحا الاتصال بالظهران، في السابعة اتصل الكابتن عباسي وقال ان هناك مشكلة في «البالات» المعبأة وان أكثرها لن تقبل شحنة بالطائرات كون تلك المستوعبات يمكن ان تتحرك في وضعها الحالي وهذا يشكل خطرا، أمضيت سحابة اليوم أعالج هذه المشكلة لكن بقليل من التقدم، وأبلغني المسؤولون عن الشحن بان أكثر من نصف المستوعبات مرفوضة، وقاموا هم ببعض الاصلاحات لكنهم فشلوا في تضبيط الوضع برمته.
غفوت وأنا قلق في تلك الليلة خوفا من الغد، فقد كان هناك أكثر من 150 مستوعبا اعتبرتها جاهزة، فهل سيقبلونها فعلا كما هي؟. وفي اليوم التالي بدأت عملية المناولة، وقد نقل كل الجنود «اليهود» الى البحرين. وكان سيعقد اجتماع «seder» (احتفال يهودي خاص بذكرى خروجهم»، على متن السفينة كونارد برنسيس، فكرت في الحضور، حيث يمكن تأجيل العمل لمدة 48 ساعة لكني لم أكن متأكدا من رد فعل الكويتيين على اطالة سفري.
الجمعة 29 مارس 1991
في الخامسة تركنا أنا وجون الفندق، وبعد ساعة كنت في المطار في انتظار الطائرات، وفي السابعة تقدم ضابط بالبحرية وسألني «ماذا تنتظر يا سيدي؟»، فقلت انني انتظر طائرات سي. 130 لنقل المواد الى الكويت، تأملني قليلا وابتسم، ثم علق «ليس لدينا طائرات سي 130 مجدولة على لائحة الطائرات الواصلة الى المطار قبل الساعة الثانية عشرة ظهرا، واذا كانت غير مجدولة فهي لن تصل.
ذلك أقلقني لكنه لم يكن تحت السيطرة، وبعد نصف ساعة عاد وقال لي انه بامكاني العودة الى الفندق، وخلال لحظة سمعت دوي صوت طائرة تهبط، قلت له: ألا تعتقد ان هذه هي الطائرة، نظر الجندي وأجاب «لكن ليست لدينا طائرات في الجدول الآن، ما الذي يجري؟»، فنظرت اليه وقلت: ربما هذه طائرتنا؟ وبالفعل شاهدناها تهبط على المدرج فأسرعنا معا نحوها، فتقدم هو وسأل قائد الطائرة «ما مهمتك؟». فتطلع الطيار نحوي وقال «يا سيدي الكولونيل هذه هي اول طائرة من المجموعة، وعفوا على تأخرنا».
بدا ضابط البحرية مندهشا وقال «أول طائرة؟» وفي تلك اللحظة سمعنا صوت طائرة أخرى مثلها، ثم أخرى وثالثة، فرافقت الطيارين لمعاينة الشحنات والتي قسموها على طائراتهم، وقالوا انهم سيبدأون بالنقل الى الكويت مادامت بلا دخان من حرائق النفط الآن، مرة بعد مرة حتى يتم نقل كل المواد، وكانت الرحلات الجوية في سماء الكويت محدودة بسبب قلة الرؤية التي تهدد بالغاء الرحلة، وقد طرت من الفرح، صعدت انا وجون الى الطائرة الأولى المسافرة، وفي العاشرة والنصف وصلنا الى مدينة الكويت، نتيجة تجاوب الطيارين وتفهمهم لمهمتنا الانسانية.
كان رالف نوريس وستان غريغيسبي في انتظارنا بمطار الكويت، وقد طلبت منهما ابلاغ ابراهيم ليرسل متطوعين، ان عناصر الجيش سينزلون الحمولة لكن أمر نقلها الى المستودع يعود الى الكويتيين، تركت جون للاشراف على العمل وعدت الى معسكر الحرية.
دخلت الى مركز العمليات وأبلغت الكولونيل يونغ قائلا له: انا الكولونيل بروكس يتحدث معك، ومعي الآن 136 مستوعبا احضرناها من البحرين، وهي عبارة عن مولدات ومواد غذائية وغيرها، واذا اردت سأرسل لك قائمة بتلك الأشياء هذا اليوم.
ابتسم رالف وقال «ايفان، لقد كسبت الرهان ضدي لقد كنت مرتبكا قليلا»، فأجبته: يا عزيزي أنا كنت أراهن على ما أحب ان أنجزه، ضحك وقال ان من المتوقع ألا أنجز الشيء الكثير من البحرين لانني ذهبت دون اذن رسمي، وبالتالي لن يحق لي طلب المساعدة رسميا، ثم
أضاف رالف «كنت أعرفك منذ ان كنت ملازما وأثق في قدراتك في العمل».
أخبرني الكولونيل بيسيلي بانه يريد حضور اجتماع جمعية الهلال الأحمر، وكان هناك طلب متزايد على السيارات العسكرية من قبل القطاع المدني، وهو يريد ان يتأكد من مدى ضرورة هذه الطلبات، أقلني مايك الى الاجتماع في العاشرة مساء والتقينا هناك بالجمعية ورابطة الجمعيات.
كان الدكتور ابراهيم مرتاحا جدا لعودتي وفرحا لاحضار مواد الاغاثة الانسانية، وسألني «هل بقيت مواد في البحرين شخصنا؟»، فأخبرته بان هناك بعض المواد، وهي في حاجة الى مهمة كهذه لجلبها، فهز رأسه وقال انه سيقوم بذلك في يوم أو يومين.
السبت 30 مارس 1991
خلال اجتماع الفريق طرحت مسألة السفر ثانية الى البحرين، ونصحوني هذه المرة بان أقدم كل شيء مسبقا، لكني حصلت على وعد من الجنرال موني بان يوقع لي اذنا بالذهاب، كما يلي «ان الشخص المذكور هو ضابط ويقوم بمهمة عسكرية ذات طبيعة مهمة»، وهذا تبرير قانوني لتحركي، وكانت الطائرة هذه المرة أكبر من السابق، كما تمنى لي الجنرال موني حظا طيبا، قائلا: «لقد نجحت يا ايفان في المرة السابقة وعليك الآن ان تكمل ما بدأته».
في الثامنة والنصف وصلت الى مقر الهلال الأحمر للتنسيق مع ابراهيم، وهذه المرة سنسافر معا، وقد ارتحت لقراره لان بوسعه الاطلاع على حالة المواد، وكنا في انتظار المزيد من الشحنات ولم أكن أريد القيام بمزيد من الرحلات، كذلك فان استخدام الطائرات العسكرية ليس متاحا دائما للشؤون المدنية، ولقد تركت النهاية السريعة للحرب الأمور جيدة ولا حاجة معها للعمل الكثير والمكلف.
أخذت أفاوض جون سبتزر على طائرة عسكرية لكني لم أكن واثقا تماما من انني قادر على مفاوضة أحد الكويتيين بهذا الشكل، وقد ذهبت مع د.ابراهيم الى السفارة الأميركية للحصول على اذن من القسم القنصلي.
ولكنهم ردوا علينا بطريقة دبلوماسية قائلين «حسنا، المسألة ليست اما أبيض أو اسود»، ولم يكن هناك جواب سهل، ونظرا الى ميل الوضع الأمني والطوارئ أكثر فأكثر نحو الاستقرار أصبحت هناك حاجة أكبر لمزيد من الاهتمام «بالوثائق» والتقييد باللوائح، لهذا طلبوا مني تعبئة طلب سفر بخصوص رحلتي تلك.


 
عودة
أعلى