جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة الأولى
بروكس: استغربت عناد صدام حسين كثيراً وكنا نتوقع إعلان العراق الانسحاب من الكويت قبل الحرب
ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
الجزء الأول: عملية درع الصحراء
إهداء إلى الشعب الكويتي (لاسيما المتطوعين منه في جمعية الهلال الأحمر) الذي حصل على حريته كما يستحق. مع التقدير
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
الفصل 1
تسلمت كتاب إحالتي على التقاعد في مطلع ديسمبر 1990، بعد بلوغي سن الستين. وفي اليوم ذاته تسلمت أيضا كتابا بالتحاقي كضابط احتياط بقوات «عملية درع الصحراء». في يوليو 1990 شاركت في مناورة مشتركة وهي «إنتيرنال لوك» لمدة أسبوعين، إذ حدث غزو عراقي لدولة الكويت والسعودية. وقد بلغت هذه العملية ذروتها مع التدمير على الورق «لقوات التدخل السريع»، ومنها تدمير لواءين مجوقلين، والاضطرار لمواصلة لواء ميكانيكي الحرب عن طريق البحر الى الظهران (السعودية).
تطوعت للخدمة العسكرية في 20 أغسطس. وأرسلوني الى «فورت براغ «بشمال كاليفورنيا للتدرب على الأجواء المتوسطية. كنت ضابطا في وحدة الشؤون المدنية بالجيش، وهي وحدات لم تعد تحظى بثقة كبيرة من القوات المسلحة بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه الوحدة كانت مطلوبة لمرافقة الوحدات الخاصة SOF (في حرب فيتنام كانت وراء الخطوط). وبعد تسريحي مؤقتا بسبب كبر السن، أعادوني للخدمة في 11 ديسمبر 1990، على أن يرسلوني الى السعودية فورا، وهذا ما كان فعلا.
الأربعاء 12 ديسمبر 1990
أوصلتني زوجتي الى فيينا (فرجينيا)، ومنها ذهبنا بالحافلات الى فورت براغ، حيث أمضينا يومنا الأول هناك. وكان أول شيء قمت به بعد التحاقنا بوحدتي الأفراد واللوجستيات هو أخذ أوزاننا وأطوالنا واعطونا أحذية.
الخميس 13 ديسمبر 1990
بعد تناول الفطور حضرنا درسا حول الحرب النووية والبيولوجية والكيميائية، وحقن الأتروبين، من كابتن لا يفقه شيئا في هذه المسائل. ثم انتشرنا في أرض المعسكر. حتى حان وقت الغداء، وأعقبه توزيع ألبسة عسكرية لدى الآمر شبيغلميير، قائد العمليات الخاصة. وقد ألحقوني بفصيلة عسكرية، حيث قدم لنا ضابط أمن العمليات بعض المعلومات الأمنية عن يوم الانتشار للقوات، وهو 7 أغسطس.
استجوبوني حول موقفي وخبراتي بلا تحديد. ولكن المحقق سألني عن مشاكل الفرد اليهودي في العالم العربي. وأعقب ذلك استماع الى معلومات حقوقية، شملت قانون إغاثة المدنيين الخاص بالجنود والبحارة SSCRA. وأبلغونا بعدم السماح لنا بأي مقابلة أو قبول كتب أو مجلات ومعلومات، وضرورة تحويلها الى مكتب الشؤون العامة.
الجمعة 14 ديسمبر 1990
هذا يوم خصص للفحص الطبي للتأكد من صلاحيتنا للخدمة في الخارج. ولم يفتني إبلاغهم بأنني لا أهتم بالأمور الدينية، لمعرفتي ان هذا لا يناسب الخدمة في المنطقة العربية. ثم حضرنا اجتماعا، لكن تبين أن لا أحد يعرف الى أين سنمضي أو ما الذي سيحدث.
السبت 15 ديسمبر 1990
استكملنا الفحوص الطبية، واختبارات اللياقة العامة بعد الظهر. ثم كان إرسال أول دفعة من المتطوعين الى دوفر. وقد عينت ضابط ارتباط للشؤون المدنية في قيادة البحرية برفقة «فرانكي راي». وأبلغوني أنني سأرسل الى الرياض، على ان ألتحق بقائد البارجة «لاسال».
الأحد 16 ديسمبر 1990
واصلنا التدريب العام لكنه كان سطحيا. وبدا لي ان التحضيرات للحرب مسؤولية فردية. وقد طلبت (مع بعض الشروط) زيارة أصدقاء لي. وفي المساء صرفوا لنا أدوية عصبية، بعضها لم يكن يتم ذكره خلال التدريبات كلها، وهي ساعدت على تحسين معنوياتنا، على أن تسافر طلائع وحدتنا الى دوفر خلال 24 ساعة.
الاثنين 17 ديسمبر 1990
كان مقررا أن نغادر في الساعة الثانية.، مع تسلمنا معدات التمويه والثياب الحربية. ولكن كان هناك أمور اخرى لم نحصل عليها فتأخرنا بعض الوقت.
الثلاثاء 18 ديسمبر 1990
وصلنا الى دوفر عند الخامسة فجرا، والى المطار في الحادية عشرة. وبقينا ننتظر. وهناك التقيت صديقا قديما من العام 1953.
الأربعاء 19 ديسمبر 1990
انطلقنا بالطائرة في الواحدة ليلا، الى جزر اللازورد البرتغالية. ولم نكن نعرف أين وجهتنا لقلة النوافذ بالطائرة.
الخميس 20 ديسمبر 1990
وصلنا «راين مين»، ونقلونا بالحافلات الى مقر منظمة الخدمات المتحدة. وهناك أخذنا استراحة طويلة. وبعد الظهر صعدنا الى الطائرة واتجهنا الى المملكة العربية السعودية.
الفصل الثاني
الالتحاق بالبحرية
يبدو انني وضعت في المكان الخطأ تماما، حيث لا حاجة للقوات البحرية بالخدمات المدنية، كما سيتضح لي.
الجمعة 21 ديسمبر 1990
وصلنا الى الظهران خلال سبع ساعات، مع حلول الظلام، ونمنا في خيام عسكرية. حاولنا مرارا الاتصال بقيادة الجيش الوسطى لكن بلا جدوى بسبب صعوبة الاتصالات، فضلا عن تشابك وانشغال الخطوط المكثف. ومرة فقط كدت أنجح في الاتصال لكن صفارة إنذار محذرة من صواريخ سكود دوت، فهرعنا الى ارتداء ثيابنا الواقية. وتبين انه إنذار كاذب، وان صاروخا إسرائيليا من نوع «جيريكو» كان قيد الاختبار، لا أكثر.
اتصلت بالميجور ستيف غريكو في البحرين فخف لمساعدتنا بسيارته. ورأيت ان البحرين «لؤلؤة» وسط بحر من الأصولية، وان فيها أسماء إنجليزية أكثر من أرلنجتون بفرجينيا. واستمتعنا بوقت جيد هناك، لاسيما في مقر وحدة الدعم الإداري قرب الشاطئ في المنامة. وتقرر ألا تلبس قوات الشؤون المدنية «البيريه» العسكرية الخمرية اللون، باعتبارها قوات غير مجوقلة، كما منعنا من ارتداء اللباس العسكري داخل المدينة.
السبت 22 ديسمبر 1990
كان هناك أربعة أماكن للجيش: الإدارة، الاستخبارات، التدريب والعمليات، اللوجستيات، ويمكن إلحاق قوات الخدمات المدنية بها. وقد التقيت بالعديد من الأفراد من هذه الأسلحة، مثل جون شيروين، غلين فلتشر، بيتر هوستا، بريان المتخصص في العمليات وآخرين.
كان أول عقبة اصطدمت بها هناك هي عدم قبول القيادة البحرية بوثيقتي الأمنية، والتي لم أتمكن من تصديقها في الرياض، واضطررت لمخاطبتهم في مريلاند لتزويدي بنسخة مصدقة منها. بعد ذلك راجعت السفارة الأميركية لإبلاغهم عن التحاقي. وفي وقت لاحق قابلت أنا ورفيقي الرقيب «رايت «الأدميرال روبرت سوتون، الذي أعجب بخبرتي كضابط كيميائي، دون ان يدري انها مجرد حبر على ورق كما قرأها في سيرتي الذاتية.
الأحد 23 ديسمبر 1990
لدى التحاقي بالقيادة البحرية تلقيت أول تعنيف من الكابتن «كاس» البحري بسبب فلة الانضباط. وكان كاس ضابط احتياط قديماً، وفي الخمسينيات من عمره ومهتما بالسياسة.
ولكن المشكلة التي واجهناها كانت تعييننا لدى القوات الدعم البحري NAVLOG أو في القيادة البحرية المركزية NAVCENT بشكل فعلي، واستقر بي المطاف رسميا كضابط في عمليات التسجيل البحري.
الأثنين 24 ديسمبر 1990
قضيت وقتا في مراجعة ملفات الخطط القتالية، واستنتجت ان القيادة الوسطى قد حولت كل مسؤولية الشؤون المدنية الى قيادة قوات الشرق الأوسط CMEF. وفهمت ان مخطط العمليات يوضح أن من المفترض ان يتولى كبير الضباط داخل كل بلد قيادة العمليات المدنية. كما انها تطلب تقديم تقرير يومي للقيادة المركزية عن طريق قيادة الجيش الوسطى يتضمن نشاطات الخدمات المدنية.
الثلاثاء 25 ديسمبر 1990
إنه يوم عيد الميلاد، ولكنهم أجلوا العطلة ليوم غد بسبب حالة الاستنفار. وقد مر بطيئا علي، بين البحث عن الرسائل والأعمال العادية. ثم نظمت قيادة العمليات حفلا ترفيهيا لموسيقى البوب للشقيقتين آن جوليان وماري أوزموند، بعد أن منعتا من الدخول الى السعودية.
وفي هذه المناسبة تحدثت مع الكابتن كاس بشأن تعييني. قلت له ان البحرية بحاجة الى ضابط ارتباط عسكري، ولا حاجة بهم الى خدماتي في الشؤون المدنية. ولأن البحرية متواجدة في البحرين منذ 1947 بأعداد قليلة، فلا مشكلة في تعيين ضابط ارتباط لهذا العدد الكبير من القوات الآن. لذلك اتصلت بالقيادة الوسطى لكنه كان يوم عطلة في الرياض. وفيما بعد أبلغتهم بأن الكابتن كاس ليس بحاجة الى ممثل للشؤون المدنية في البحرين.
الأربعاء 26 ديسمبر 1990
استيقظت في التاسعة، وتوجهت الى وحدة الدعم الإداري، حيث اتصلت بالقيادة الوسطى للجيش CENTCOM، وقيادة المركزية للجيش ARCENT، لكن بلا طائل. وكان هناك رجل إيراني يدعى «حمزة»، قالوا لي انه يستطيع ان يعمل كل شيء هناك حتى داخل القيادة.
ذات مرة رن الهاتف، فأجبت. كان المتكلم من البنتاغون، بشأن تحديد طلب الأدميرال سوتون لحوامة لنقله في زيارته المقبلة الى واشنطن العاصمة. وقلت لهم انني لا أدري، لأكتشف بعد إقفال الخط انني ارتكبت حماقة تتعلق بالسرية. وقد خشيت من العواقب، ولم أتخلص من الخوف إلا بعد أن التقيت مدرسا مصريا للغة الإنجليزية، فحدثني عن عدم ارتياحه في البحرين، ولكن همه هو كسب المال.
الخميس 27 ديسمبر 1990
في الاجتماع الصباحي سجلت ملاحظات للاجتماع المقبل، ثم قمت بزيارة للمستشفى الميداني. وناقشنا موضوع اللباس والأعتدة المضادة للأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية.
بعد العاشرة قمت بزيارة الى السفارة الأميركية. وكانت هناك مشكلة المؤن لدى البحارة. ولم يوافق الضابط المسؤول في قوات على تنظيم المواد الطبية المشتركة وفتح المخزن لهذا الغرض، داخل القاعدة البحرية. واتصلت بالآمر جون جاسكيت بشأن وضعي، باعتباره محامي دفاع على متن السفينة الحربية «لاسال».
ثم حضرت اجتماعا أمنيا حول الفنادق والعبور برئاسة الآمر «هوسر»، وفهمت أنه لا توجد أي خطط بهذا الشأن. وحضر الاجتماع بريطانيون وكنديون، وضابط الأمن سكوت كارسون، فأصبح صديقا لتشوك ترومبيتا من يومها. وكانت لي عدة اتصالات حول تلك الأمور كلها مع آخرين.
الجمعة 28 ديسمبر 1990
قمت مع الرقيب رايت بزيارة البارجة «بلو ريدج»، حيث قدمت نسخة من سيرتي الذاتية والعسكرية للقومندان سانتوس. ولكني ارتكبت هفوة حين أخبرتهم بأن علي السفر الى أميركا في أبريل. ولما سألوني عن السبب، قلت لهم انه من أجل حضور مناسبة ابني الذي سيبلغ سن الثالثة عشرة (وهي مناسبة تسمى Bar Mitztah عند اليهود). وفيما بعد أخبرني صديق بأن سلاح البحرية لا يثقون باليهود. وبالفعل، عندما سألت عن العطل الدينية قال لي أحدهم: ولماذا تسأل؟ أنت اليهودي الوحيد هنا، ولا عطلات لك.
السبت 29 ديسمبر 1990
رتبت لقاء مع الكولونيل الجوي «كرومراين» في السفارة الأميركية. ولدى عودتي علمت ان التدريب على الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية قد ألغي. كذلك تلقيت اتصالا في تلك الليلة من ستيف غريكو العائد من هاواي. فقد ناقش وضعي مع الكولونيل جيم غوليك، ورأى ضرورة مساعدتي.
الأحد 30 ديسمبر 1990
ذهبت لحضور اجتماع السفارة. وهناك طرحت أسئلة تتعلق بإخلاء المدنيين الأميركيين، وأكثريتهم يعملون في المدرسة الخاصة بوزارة الدفاع. لكن القنصل تنصل من المسؤولية عن المدرسة. وأبديت فيما بعد ملاحظات قاسية بهذا الصدد.
الاثنين 31 ديسمبر 1990
أبلغوني ان العمل يبدأ في الوحدة منذ السابعة صباحا. والجيش يفضل رؤية الأفراد وكأنهم مشغولون، بغض النظر عن حقيقة انشغالهم. ومن ثم اجتمعت مع الكابتن كاس فأخبرني بأن البحرية بحاجة الى ضابط ارتباط.
وعقد اجتماع لضباط الشؤون المدنية في الظهران لكنهم لم يسمحوا لي بحضوره. فاعترضت، وقبل الظهر أبلغني الكابتن كاس انهم قبلوا بحضوري.
===============================================
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب قدمها
الحلقة الثانية
مساء 15 يناير 1991 كان يوماً عصيباً.. وتوقعنا قيام الجيش العراقي بضربة استباقية
ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
الجزء الأول: عملية درع الصحراء
إهداء إلى الشعب الكويتي (لاسيما المتطوعين منه في جمعية الهلال الأحمر) الذي حصل على حريته كما يستحق. مع التقدير
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
في الحلقة السابقة كشف الكولونيل الأميركي ايفان بروكس عن تفاصيل الاعداد اللوجيستي التي سبقت حرب تحرير الكويت المعروفة باسم «عاصفة الصحراء»، وكيف كان متذمرا من وجوده بل عمل في البحرية الأميركية.
وكشف عن ارساله رسالة لأخيه يحمل فيها قيادته مسؤولية تعرض أحد الافراد لعمل إرهابي.
الفصل 3
الفوضى تدب
الثلاثاء 1 يناير 1991
ذهبت الى المستشفى الميداني لأفهم ما حدث بشأن المعدات الواقية من أسلحة التدمير الشامل. تحدثت مع الكولونيل توم ماكنوغير، الذي خدم في معهد بروكنغز، وعمل محللا لدى محطة سي ان ان. ومشكلته ان تحليلاته كان يثبت خطؤها دوما! لقد كان يقول ان الوضع في الكويت سينتهي بلا نزاع. وقد خالفته الرأي، لشعوري بان لا مجال سوى الحرب. والمهم انني فهمت من إحدى المجندات بأنه لا يريد أن يساعدني، قائلا عني « إنه كثير الشكوى».
ما أدهشني هو ان القوات البحرية كانت تستأجر عمالا لإنشاء قاعدة مؤقتة. وكان ذلك العمل سيحتاج الى حوالي ربع مليون دولار. وتساءلت عن سبب عدم تشغيل القوات البحرية من المتسكعين، وتوفير المال. واستنتجت انهم كانوا لا يقيمون وزنا للقضايا المالية.
الأربعاء 2 يناير 1991
توجهت باتجاه الدمام لحضور اجتماع الشؤون المدنية في المستشفى الميداني، ومقره في منزل على الشاطئ مستأجر من أميرة سعودية. وهناك التقيت الميجور جون ويدين، وحدثته عن مشاكلي مع قيادة البحرية. كان في الاجتماع ممثلون من مختلف الوحدات (الوسطى، العسكرية، البحرية، القوات الجوية الوسطى، القوات الخاصة، المارينز) وآخرون.
وفهمت ان الهجوم سينطلق من منطقة «الشعيبة» (الكويت)، ولهذا فإن البحرية سيكون لها الدور الحاسم، وبإمكاني تقديم المساعدة لها. وسألت عن دور قيادة البحرية الوسطى بالنسبة لضابط شؤون مدنية. فأوضح الكولونيل كير ان لدى هذه القيادة سلطة في المنطقة الساحلية، ريثما تطهّر قوات المارينز المنطقة الساحلية. وقد يستغرق هذا من 6- 8 ساعات.
حملني الكولونيل كير رسالة رسمية وجهها الجنرال شوارتسكوبف للمسؤول الأمني في البحرين، الكولونيل كروراين، بالسفارة لتعزيته بوفاة زوجته. وقررت أن أطلق شاربي، كتقليد عسكري خلال اندلاع الحرب، وهو ما جعلني كالعرب.
الخميس 3 يناير 1991
أخذت أحضر للانتقال الى موقع قوات الدعم البحري ( نافلوغ). وقد تلقينا شحنة من الكمبيوترات اليابانية. لكن كانت هناك عراقيل، وشعرت بأنني وضعت في المكان الخطأ. وتساءلت عن مستقبل الجيش الأميركي في محيط من الضياع!
الجمعة 4 يناير 1991
عادت البارجة «بلو ريدج» وسيزورها الأدميرال آرثر. وبالفعل فقد تعرفت عليه وهو في طريقه عبر موقع وحدتنا. واتصلت أكثر من مرة بالمسؤولين في البارجة لمعرفة ما حدث بشأن وضعي، لكن بلا فائدة تذكر.
السبت 5 يناير 1991
اتصلت بالقائد بيل كونيلي بشأن وضعي، وأجاب بأن وحدة الشؤون المدنية غير ضرورية لهم وانني شخصيا لن يتم تعييني في القيادة البحرية. قلت لغلين إيكلي إنني ضائع بين تبعيتي لهذه القيادة أو لتلك القوات. وكان جوابه هو : اذا كنت تفكر في العمل مع قيادة الجيش الوسطى ومع القيادة البحرية فأنت جاسوس في هذا المكان، ولسنا في حاجة إليك!
الأحد 6 يناير 1991
بدأت أحضر أجهزة الكشف عن الأسلحة الكيميائية للدورة التدريبية المرتقبة. وبعد الظهر تلقيت رسالة برفض حضوري للاجتماع القانوني. ولم أفهم السبب وراء هذا الموقف السلبي مني.
الاثنين 7 يناير 1991
بدأت الدورة منذ الصباح. وكان هناك كلام وشكاوى تتعلق بجدوى استخدام جهاز الكشف عن المواد الكيميائية، لأنه لا يوجد متخصصون في مثل هذا النوع من الأجهزة.
الثلاثاء 8 يناير 1991
هذا يوم العطلة الأسبوعية. ولم أغادر السرير حتى لتناول الشورما اللذيذة في وسط المدينة. وكان علي التأكد من أن الحضور أمس في الدورة استفادوا من التدرب على الجهاز.
عند الخامسة مساء سمعنا انفجارين في البحرين. وصرخ غلين بالجميع للاختباء. ولم يعرف أحد مصدر الانفجارين. لكن البعض قال انها ألغام في الميناء أو كسر الطائرات للحاجز الصوتي.
الأربعاء 9 يناير 1991
بدأت الدورة صباحا على الأجهزة. وطلبت من القيادة وصلا بتسلمهم 40 جهازا ( قيمة كل منها 25 ألف دولار ). وبعد العمل أبلغني رئيس الأركان الكابتن دودلي بوك ان عناصر الشؤون المدنية بحاجة الى مساعدة. وكان هؤلاء قادمين من كاليفورنيا وليس لديهم ثياب ولا مال.
ومن المصاعب التي واجهوها هو الدفع لهم بشكل يومي (لأن هذا غير مسموح في الميدان لأكثر من شهر)، ومشاكل نقص المياه في الموقع جنوبي المنامة، ثم نقص المولدات والأجهزة والأغذية. وهكذا اتصلت بقيادة الجيش الوسطى وأخبرتهم بالأمر. وقالوا لي إن الوحدات الصغيرة قد تواجه خطر الإرهابيين إذا تشتتت، وهي بحاجة الى بنادق يجب علي تأمينها.
الفصل 4
التحضير للحرب
مع اقتراب موعد شن الحرب تزايد التوتر لدينا. بدت المبادرات الروسية والأخبار من داخل أميركا مطمئنة بأن العراقيين على وشك الانسحاب من الكويت. وقد استغربت عناد صدام حسين، حيث كان بإمكانه تفويت الفرصة على الجميع بالاعتراف بأن احتلال الكويت كان عملا متعجلا وانه مستعد للانسحاب، وكذلك القبول بانتخابات حرة في الكويت. وفي هذا الشأن، المواطنة في الكويت ستكون محصورة بالمواطنين الذكور من العائلات التي سكنت الكويت في العام 1920.
الخميس 10 يناير 1991
اتصلت بالقيادة العسكرية في السعودية بشأن تأمين الأسلحة الفردية لكن دون جدوى. وأجريت عدة اتصالات أخرى لهذا الغرض، منها اتصال بالميجور جيف كرستيانسن في القيادة. وقلت له إنني بحاجة الى 40 بندقية. وكان علي كتابة «برقية» الى القيادة المركزية في بيرل هاربر، بينما أراد الأدميرال سوتون تحضير القوة الرئيسية للبدء بالتحضير لخطط ما بعد الحرب هناك.
الجمعة 11 يناير 1991
اتصلت بكرستيانسن وقال انه أمن لي عشرين بندقية فقط. فأخبرت مشاة البحرية بذلك فأرسلوا طائرة عسكرية لنقل البنادق الى الرياض. ومع ذلك انتظرت ثلاثة أيام لكي يوقع رئيس الأركان في مشاة البحرية وصل استلام الأسلحة.
السبت 12 يناير 1991
اجتماع أمني في التاسعة صباحا. لقد كان النشاط الإرهابي يتزايد، ونحن نراوح في المكان. كان علينا ان نبقى مستعدين حتى تصلنا مساعدات، ولكن في البحرين ذلك صعب.
لم أجد ما يكفي من العناصر لتشغيل الأجهزة الكاشفة للتلوث الكيميائي. أحد المحللين أرسل لي نسخة من فيلم ألعاب أنتجه بعنوان « كابوس عربي: حرب الخليج» فاستمتعت به.
الأحد 13 يناير 1991
منع رئيس الأركان الجميع من حمل السلاح. وكان لدي مسدس من عيار 45 من وحدتي. وعلمت ان السلطات البحرينية أعلنت انها ستطلق النار على أي رجل تضبطه حاملا السلاح. وقد ارتكبت هفوة لدى دخولي الحمام بأن نسيت مسدسي عند المغسلة، وخرجت فلم أجده. بحثت كثيرا عنه وسألت، واخيرا قيل لي انهم أخذوه وأعادوه الى مخزن الأسلحة.
الإثنين 14 يناير 1991
أنهيت مخطط إعادة الانتشار وارسلته الى بيرل هاربر. ثم تابعت عملي المقيت في الشؤون المدنية.
الثلاثاء 15 يناير 1991
نظمت بمساعدة الرقيب رايت دورة قصيرة لعناصر البحرية. وناقشت مع الكولونيل ماكنوغير لإرسال رايت الى الرياض لإيجاد عمل له بدلا من حراسة الباب الرئيسي هنا. ثم حجزت له بالطائرة ليسافر يوم الخميس.
أرسلت الى شقيقي رسالة حول قرار منع حمل الأسلحة لدينا، ومحملا المسؤولية لرئيس الأركان عن أي حادث تتعرض له العناصر من قبل إرهابيين بسبب هذا القرار، معبرا عن أملي بألا ينشر هذا الكلام.
وهذا المساء كان صعبا علينا، لأنه آخر يوم في المهلة التي أعطاها بوش لصدام حسين. فقد توقع الكثيرون قيام الجيش العراقي بضربة وقائية، وهو ما كان يدور بين الناس.
وقد بدأوا بتوزيع كمامات على الأفراد للوقاية من أسلحة التدمير الشامل من عربة عسكرية وصلت الى الفندق. وسألت القائد هناك عما يحدث، فقال « إننا ذاهبون الى الحرب». ورأيت كيف أخذ الموظفون في الفندق يذرفون الدموع توجسا، حيث تلقوا أوامر بحمل أقنعتهم الواقية أيضا.
فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية KTF
هو فريق برئاسة د. ابراهيم ماجد الشاهين رئيس الهيئة العامة للاسكان «سابقاً» ولاحقاً وزير الدولة لشؤون المجلس البلدي «السابق» ومقرها في واشنطن وكانت تنسق مع وزارة الخارجية والبنتاجون.
وتضم من الجانب الكويتي قيادات الدولة من جميع مؤسساتها لوضع خطة اعادة البناء وشراء المعدات الخاصة بكل وزارة ومؤسسة لارجاع الاوضاع في الكويت المحررة لوضعها الطبيعي، واثناء فترة التحرير توفير المواد التموينية.. الخ لحاجة المواطنين تحت الاحتلال والتنسيق فيما بينها في ذلك.
وكان يساعدهم فريق متخصص من الجانب الاميركي ومنهم انبثقت مجموعة من ضباط الارتباط والذين كانوا يعملون مع المؤسسات المختلفة لمتابعة نشاطها وتوفير احتياجاتها.
والاسم الانكليزي مختصر KFT ويعني «قوة الهدف الكويتي»
وكما قال لي د. ابراهيم ماجد الشاهين رئيس اللجنة عند سؤاله عن الاسم «فقال بان الاسم الاميركي ليس له علاقة بالاسم الكويتي للجنة وقال افضل استعمال الاسم الرسمي والذي صدر بقرار من مجلس الوزراء وهو فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة الثالثة
الكويتيون كانوا قلقين من حجم المعونات المالية المخصصة رغم مساعداتهم لدول العالم
ترجمة شاهر عبيد - تقديم د. إبراهيم بهبهاني
الجزء الثاتي: حرب عاصفة الصحراء
إهداء إلى الشعب الكويتي (لاسيما المتطوعين منه في جمعية الهلال الأحمر) الذي حصل على حريته كما يستحق. مع التقدير
لا شك في ان الحياة تجارب، نتعلم منها الكثير من الدروس والعبر. وقد يحدث ان نلتقي مصادفة بأناس غير متوقعين، فيكونون كالبلسم والدواء حين نكون في أشد الحاجة إليه، حيث تلفنا الكوارث، فتعم الفوضى العامة ونعاني من الضياع. وهذا ليس أمرا نادرا، وقد يحدث في أي مكان.
كانت تجربة الغزو العراقي للكويت قاسية بكل ما في الكلمة من معنى، من بداية الاحتلال حتى خروجي من الكويت في 20/10/1990، وكنت خارجا لتوي من سجن دام 26 يوماً قضيتها في مبنى محافظة العاصمة. كانت تلك الفترة، بالغة المرارة، وشكل الخوف فيها عاملا أساسيا، لا سيما انه ترافق مع هروب أو ابتعاد الذين عرفتهم، وهم المفروض أن يكون لهم دور يعوّل عليه في ذلك الوقت. حتى هؤلاء أصبحوا عاجزين عن المساعدة والوقوف الى جانبك.. وفي لحظة واحدة، تمثل عامل «الخوف» وكل ما درسناه من نظريات في هذا المجال أمامنا، من دون الدخول في التفاصيل.
بعد خروجي من الكويت احتضنتنا البحرين الشقيقة حكومة وشعباً (كأخوة لاجئين) أنا وأهلي، فتبدد عامل «الخوف» جزئياً من نفوسنا. لكننا بدأنا نواجه مشكلة أخرى تضاف الى رواسب الخوف مشكلة حب الظهور والقيادة.. ربما هو الشعور بالفراغ مع انقطاعنا عن أعمالنا وحياتنا!
وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر تعرفت على الكولونيل الاميركي «إيفان بروكس» في غمار انشغال الجيش الأميركي في مهمات عسكرية لمواجهة محنة الغزو. كان لتكليف الكتيبة 352 للشؤون المدنية التي يتبع لها بروكس تأثير كبير جداً على عملنا الإنساني، وشكل تحولاً نوعياً واضحاً في سير مهمتنا. ولطالما رددت بأن الدور الذي قام به «إيفان» وكتيبته للشؤون المدنية فاق التصور، ويكاد يقترب من الخيال. وكثيرا ما ذكرني وجوده الى جانبنا بالمثل «رب أخ لك لم تلده أمك». كان هذا الرجل يسجل كل حركاتنا وسكناتنا، مصورا حالة القلق التي أحاطت بنا. ومن ثم فوجئنا في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بمجموعة من المتطوعين والمتطوعات من الجيش الأميركي يقومون، من حيث لا ندري، بمساعدتنا، نحن متطوعو الهلال الأحمر، على أداء العمل.
لقد تمكن «إيفان» من تحريك قافلة الهلال الأحمر من البحرين، يوم 28/2/1991. ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل ساعد بعد ذلك على إدخال قوافل مساعدات تموينية عديدة وصلت من البحرين أو اسبانيا وعدد من جمعيات الهلال والصليب الأحمر عبر العالم. وعندما استدعت الحاجة الماسة استطاع هو بالتعاون مع متطوعين ومتطوعات من البحرية الأميركية والقوات الجوية، توضيب مئات البالات (جمع بالة) من مواد الإغاثة، لنقلها جواً الى الكويت، حيث بلغ مجموع الحمولة التي قاموا بنقلها حوالي 2000 طن. ثم تولى عملية نقلها من مطار الكويت الدولي الى مخازن الهلال الأحمر في الجابرية والري، ومنها الى مخيم اللاجئين في العبدلي.
وكنت أقضي مع «إيفان» معظم ساعات يومي في التشاور والتنسيق والعمل في إطار الهلال الأحمر. وطوال تلك الفترة، كنا معا بالتأكيد، ما لم يكن يقوم بعمل ما في مكان آخر، محاولاً حل مشكلة أو معضلة عندي أو حتى عند غيري، دون أن ينسى تسجيل كل ذلك.
واليوم، حيث أجلس وأنغمس بقراءة مذكراته تغمرني السعادة بسبب ما كان يشعر به من احترام وأخوة وود، ليس مني ومن متطوعي الهلال الأحمر فقط، بل حتى على مستوى الحكومة في مقرها بمنطقة الشامية، وكذلك من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية والسفارة الكويتية لدى البحرين وحتى الحكومة البحرينية (ممثلة بالدفاع المدني).
لقد طلب مني الأخوه في جريدة «النهار» وضع مقدمة لكتاب «إيفان» كما سجله من واقع مذكراته بعنوان «جوشوا في الأرض غير الموعودة».. وفي اعتقادي أن دقة ما سجله هذا الرجل وما قدمه من خدمات للكويت في تلك الآونة يستحق الشكر والتقدير. ولاحقاً، علمت بأنه «يهودي». وأعتقد أن من أخبرني بذلك توقع أني سوف أتراجع، ولكن ذلك لم يحركني قيد شعرة، لما قدمه للكويت. فمرحباً به مهما كان جنسه (أو دينه أو مذهبه).. يقول السيد الخميني - رحمة الله عليه - في إحدى فتاواه: إذا استولى شخص على بيتك فمن حقك الاستعانة بجارك حتى لو كان كافراً لإخراجه من بيتك. ونحن استعنا بالولايات المتحدة لطرد الغازي، وبهذا الشخص الأميركي اليهودي، فأثبت أنه انسان مخلص في مساعدته لنا حتى تحرير الكويت. وهو لم يبد لنا في أي وقت من الأوقات تعصباً لمذهبه.. لقد تعامل هو معنا بصدق، فبادلناه هذه المعاملة بالمثل. وأنا على يقين بأن القارئ سيصل لهذه النتيجة عينها بعد قراءة هذه المذكرات.
الفصل 5
الحرب: أصبحت أشك في إمكانية تنفيذ أي مهمات وخدمات كأفراد في الشؤون المدنية. وكان هناك مشروع لنقلي للعمل في مجال اللوجيستيات وكنت مدربا ضد التلوث من أسلحة التدمير الشامل. كتبت رسائل للأقارب والأصدقاء، ووصلتني رسالة من والدي بقبولي للوضع مهما كان بالغ الشدة.
الأربعاء 16 يناير 1991
رن الهاتف في منتصف الليل، حيث اتصلوا من فورت براغ ليخبروني ان فريقا من الشؤون المدنية وصل الى البحرين ويحتاج الى من يساعدهم. وقد انتهى الإنذار الأميركي لصدام. ولم نكن متأكدين من توقيت الحرب، لأن هناك فارقا بالتوقيت بين البحرين وأميركا، لاسيما أننا على أبواب شهر رمضان في مارس.
الخميس 17 يناير 1991
في الساعة 3.12 تلقيت مكالمة من فليتشر، فقال لي: إيفان، لقد بدأت الحرب! يجب عليك أنت ورايت النزول الى الدور السفلي من الفندق في غضون نصف ساعة. وكنا في البهو نستمع ونرى الغارات الجوية والقصف بشكل حي في التلفزيون متعدد الفضائيات.
تم تكليفي في الشؤون المدنية بشبكة «السكود» لمراقبة الهجمات الصاروخية من طراز سكود، وبقيت أعمل حتى منتصف الليل.
الجمعة 18 يناير 1991
كانت مناوبتي تبدأ من منتصف الليل. وقد اكتشفت ان محطة السي ان ان كانت تتحدث عن إحراز تقدم في تدمير الأهداف، لكنها كانت متشككة بمستقبل الحرب. ومع استمرار الحرب تواصلت الهجمات الصاروخية، وكان علينا تجهيز المعدات المضادة للأسلحة الكيميائية.
وجهت بضعة صواريخ عراقية الى اسرائيل، مع التخوف من انها محملة برؤوس لغاز الأعصاب. وكنت أخشى أن ترد اسرائيل وتوسع نطاق الحرب. وكنت قلقا على اسرائيل، لأنني وإن لم أزرها لكنني اعتبرتها بلدي الثاني. وتساءلت: هل يمكن لاسرائيل التي لا علاقة لها بتلك الحرب ان ترد بقنابل نووية؟ لكن بعد عدة ساعات اتضح ان صواريخ السكود كانت ذات رؤوس تقليدية فقط.
السبت 19 يناير 1991
استمرت الحرب وأعمال القصف. وطلبت من قيادة الجيش تزويدنا بخمسة آلاف فلتر و2500 بدلة ضد الأسلحة الجرثومية. ولكنهم قالوا لي عليك الاتصال في الغد. وأصبحت ناقما على تعامل البحرية معي.
الأحد 20 يناير 1991
اتصلت للاطمئنان عن وضع رفيقي رأيت الذي أرسلناه الى الرياض. كما اتصلت ثانية بقيادة الجيش لطلب الأعتدة المضادة للأسلحة الكيميائية. ولم أحصل على جواب شاف.
في الساعة التاسعة والنصف ليلا تلقينا تعليمات للمرة الأولى بالاستعداد لهجمات صواريخ السكود. لكن الصواريخ لم تحدث أي أضرار.
الإثنين 21 يناير 1991
أمضيت وقتا كبيرا في متابعة تأمين المعدات لكني لم أتوصل الى نتيجة من قيادة الجيش في الرياض ولا وحدة الشؤون المدنية. وكان ذلك محبطا جدا لي، لكن ما العمل؟ وقد تواصلت هجمات صواريخ السكود مستفيدة من حالة الطقس للانتشار وكانت المنطقة الشرقية ( الرياض، البحرين) هي المستهدفة بهذه الصواريخ. وكانت القيادة البحرية هي المسؤولة عن مراقبة تلك الهجمات.
كان أكثر شيء محبط هي المعدات المضادة للأسلحة الكيميائية، لا سيما ان الأدميرال سوتون أعطى أوامر لعناصر البحرية برفع استعداد هذه الأسلحة الى الدرجة الثانية، وهي تتضمن ارتداء البزات والأحذية الخاصة بها. لكن الجنود الذين كانوا في الفنادق بقوا منسيين. شعرت ان كل شيء هنا يسير بشكل خاطئ، وأن الحرب لا يمكن أن تدار بهذه الطريقة أبدا.
مراقبة صواريخ «سكود».. محادثات كويتية
22 31 يناير 1991
وصلت القوات التي سميت «القوة الكويتية» KTF الى أرض المعركة، وهي الوحدات العسكرية التي تم تشكيلها من أجل التحرير، والمؤلفة من مسؤولين حكوميين كويتيين وعسكريين أميركيين، وهؤلاء في غالبيتهم من الفرقة المعنية 352 في الشؤون المدنية. في بداية الامر كان مقررا أن يرأس هذه القوات الاميركية الكولونيل «هوارد موفي»، لكن بعد ان تم تفعيلها في مطلع ديسمبر 1990 تغلبت اعتبارات سياسية على المنطق، ما دام ذلك ممكنا وكان هذا هو النهج الذي اتبع في حرب الخليج عمليا، ولم يكن ممكنا لضباط الاحتياط ان يتولوا القيادة الفعلية للقوات الا بعد ان وصلت الى الكونغرس شكاوى مصدرها «مكتب الحرس القومي».
وهكذا تم تعيين الكولونيل راندي ايليوت قائدا جديدا لفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية، ومن الواضح ان هذا الفريق يأتي في المرتبة الثانية بعد قيادة مكتب الشؤون المدنية 352 وقد وضعت في الخدمة الفعلية بواشنطن، حيث اضطلعت بمهمة التخطيط لتحرير دولة الكويت واستعادة سيادتها حتى قبل استكمال تشكيل قيادة القوات عموما، وكان هناك تعاون وثيق بين فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية هذه ووزارة الخارجية والبنتاغون، وبالتالي تمكن الكولونيل ايليوت من تشكيل قيادة ميدانية مستقلة.
الاستخبارات
كان الكولونيل ايليوت قائدا في البحرية 14 - GS تابعا للخارجية (مكتب الشرق الأوسط)، ويدرك جيدا مدى تعقيدات الوضع السياسي العالمي، وكان واضحا انه لم يكن يقيم وزنا كبيرا للجنرال «موني»، كما سارع مساعدوه الى التعبير عن ازدرائهم لضابط كبير لم يكن سوى مساعد لمدير معهد عال في حياته المدنية، وكان يوصف بأنه الافضل والألمع، واذا لم تصدق فيمكنك أن تسأل أي رجل من فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية حيث سيؤكدون لك ان هؤلاء هم الصفوة في قيادة مكتب الشؤون المدنية.
هذا الموقف الذي لم يتضح الا مع بداية الحرب أدى الى صراع داخلي لم يخدم أحدا من الاطراف، كان الكولونيل ايليوت نشطا وكفؤاً ولو كان هو القائد فان قيادته كانت ستعطي نتائج جيدة.
من جهة أخرى، كان الجنرال موني هادئا بلا ادعاء وقيادته يصعب تحديدها في الغالب كان المرء يحار اذا ما كانت في اتجاه محكم، في حين كان مساعده الكولونيل ادوارد كنغ قليلا ما يظهر قيادة متماسكة أمام عناصره على كل حال، كان الجنرال موني هو القائد الاقدم وهي حقيقة طالما تم تجاهلها من قبل فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية ولم أستطع شخصيا ان أفهم لماذا الجنرال موني لم يعط أوامر مباشرة من أجل جعل قيادة هذه القوات خاضعة للقيادة عموما، لكن ذلك لم يحدث.
عندما وصلت وحدات القوة الكويتية KTF الى المملكة العربية بدت قيادة القوات الوسطى ARCENT قلقة لانها ستدخل بثياب مدنية، حيث منعوا ارتداء البزات العسكرية. وكانت سمعتها كقوات طليعية قد سبقت وصولها. كان العقيد رون سميث، وهو محامي تلك القوات قد دخل مع قوات القيادة الوسطى وفاز بحب أعضائها حين أبدى ملاحظة تقول ان وحدته كانت تحت رعاية وزارة الخارجية، وأرسلت للرئيس مباشرة هذه المعلومات، ولم تكن تحت اشراف القيادة المركزية «السنتكوم» . وفهمت من ذلك انه اذا كانت وزارة الدفاع ستدفع مرتبات أفراد القوة الكويتية فان سعيها للاستقلال سيكون معرضا للخطر، فكان هؤلاء عسكريين ومكانتهم تابعة للقائد العسكري، لكن الوحدات التدخل الكويتية كانت القوات الوحيدة الراغبة في دعم جهودي الشخصية، لهذا أصبحت أنا جزءا أساسيا من قوامها وان يكن بشكل غير رسمي ودون أوامر، لكني كنت سأدعم أي شخص كان يمكن ان يساعدني للحصول على منصب شرعي.
بدأ ذلك اليوم عاديا، وعند الظهر كنت أقوم باتصالات للحصول على معلومات من القوات البحرية من القيادة الوسطى حول الاسلحة النووية والبيولوجية. ولم تكن اتصالاتي بالشخص المطلوب متوافرة، بينما كان مساعده يدرك أهمية الامر. وعند الساعة الثانية والنصف أرسلت تقريرا عن تحركاتي الى الوحدة N4، وقد طلبت مني قوات الحماية الثابتة MOPP توفير 250 بزة عسكرية بشكل عاجل، مئة بزة من القياس المتوسط و150 من قياس كبير، مع 514 زوج من الاحذية المضادة للكيماويات وأوراق مقاومة للتلوث . وفي مكان تصبح المواد البيولوجية والنووية ذات أهمية كبيرة كان ذلك الطلب يبدو صعب التحقيق.
كنت كضابط ارتباط للشؤون المدنية افتقر لأمر مهمة قانونية. وكنت مدركاً ان وضعي في القيادة البحرية مشكوك فيه. وقيل من وراء ظهري ملاحظات مفادها «لماذا لم نستطع الاحتفاظ بالرقيب «رايت» هنا وارسال الكولونيل إلى الرياض؟». وكنت على اتصال خفيف مع غلين إيكلي. ثم وجدت على مكتبي رسالة ملفوفة. لم أعرف شيئاً عن الرسالة فأخذت أقرأها، كانت الرسالة تركها هناك بلا انتباه ضابط صف وهي تعكس وجهة نظرة في كفاءتي، وتقول: «لقد طلبنا: وتم تعيين ضابط ارتباط عسكري، وهو ضابط احتياط من «دي سي» ومحام، لكنه متخصص في الشؤون المدنية... ويفترض ان يتقابل مع الحكومة العربية المحلية حول مسائل مدنية/ عسكرية. وهو رجل يهودي (حتى النخاع!). وأنا مقتنع ان أحد الضباط الكبار بالجيش وجد في ذلك فرصة مسلية لكي يتخلص من لغط يدور في الخفاء.. وهذا الرجل كان بطول قامتي ووزنه 250 باونداً، وله باع طويل في المعارك والكتابة، وهو يهودي الأصل. وقد تضايق لأننا لم نسمح له بالعمل في مجال تخصصه».
شعرت وكأن أحدهم صفعني على وجهي. وكنت أعرف وأعمل مع كاتب الرسالة. وبينما كان يصعب ان اعتبره صديقاً لي فانني كنت أجهل حقيقة رأيه فيَّ. وربما كان علي ألا أقرأ تلك الرسالة، لكني كنت لا أعرف مضمونها حين رأيتها. وحاولت ان استذكر من كان صاحبها بعد ان قرأتها.
صورت الجزء الخاص من الرسالة وجلست أحملق في الجدران لمدة من الوقت. وكان من الصعب علي مواجهة ذلك الضابط مرة أخرى، والاعتراف أمامه بانني قرأت الرسالة. وقد شعرت بالاحباط، لكني تضايقت أكثر من افتراءاته، وهو الضابط الذي يرى أكثرهم انه غير مؤهل أبداً لعمله. وكان أكثر ما أثارني هي اشارته الى وزني، حيث ان وزني ما كان يزيد على 185 باونداً.. وبدا واضحاً انه كان يسخر مني. أما الزلّة الثانية فهي حول العرق الذي انتمي اليه، مع انني غفرت له ذلك مما لا أحبه، ولكنه مما يمكن التسامح فيه. لكن اذا كانت هذه هي سمعتي فان فرصة حصولي على منصب رفيع في سلاح البحرية أمر متعذر.
وفجأة تلقيت ذات يوم اتصالاً هاتفياً من ضابط بالبحرية، يدعى د. ستيف وينال. وكان هذا تم تعيينه قائداً لقوات الحملة البحرية M&F ومقرها في «الجبيل» بالسعودية. وهذا الضابط كانت له علاقات تربطه مع جمعية الهلال الأحمر الكويتية KRCS التي كانت تنشط من البحرين خلال احتلال الكويت وأخبرني النقيب وينال انه أخذ اسمي من قيادة فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية كوني ضابط اتصال مدنياً في البحرين، وكانت تلك هي أول اشارة الى ان تلك الوحدات قد وصلت الى المملكة العربية السعودية.
سألني هو «هل يمكنني مساعدة جمعية الهلال الأحمر الكويتية أو نقل أخبار الأحداث التي تجري على الأقل؟». تلك الرسالة بدت لي مشجعة كبداية، لأنها تشير الى سبب تعيين ضابط اتصال مدني في موقع العمليات، لهذا وافقت فوراً على حضور الاجتماع. وقبل ان انطلق اتصلت بقائد الحملة البحرية وأبلغته بالأمر. وافق الكابتن «بوك» على حضوري للاجتماع لكنه قال لي: «هذا اجتماع لا معنى له.. لا تتوقع ان يؤدي الى نتائج عملية.. وإذا كنت ستحضره فانها ستكون مسؤوليتك». وأذكر انني وافقته الرأي.. وقررت الذهاب بصفتي مراقباً ولكي أنقل الأخبار الى جماعتي في الرياض.
الحلقة الرابعة
عدد من الفلسطينيين تطوعوا للتدريب مع العراقيين وشكلوا قوة شبه عسكرية السلطات الكويتية قدرت عدد الأسرى بـ 25 ألفا من بينهم 8 آلاف جندي محتجزين
الجزء الأول: عملية درع الصحراء
إهداء إلى الشعب الكويتي (لاسيما المتطوعين منه في جمعية الهلال الأحمر) الذي حصل على حريته كما يستحق. مع التقدير
في الجزء الرابع من مذكرات الكولونيل الأميركي المتقاعد إيفان بروكس عن «عاصفة الصحراء» يستعرض تفاصيل أكثر اقترابا من ساعة الصفر وانطلاق الحرب المشهودة، ليس فقط لعدد الدول المشاركة فيها ولا لكم العتاد والأسلحة والقنابل الرهيبة التي تعادل وزن مدينة أميركية كاملة، إنما لأنه لم يحدث في التاريخ أن يجتمع كل هذا العدد ومن مختلف بقاع العالم من أجل تحرير دولة اعتدت عليها دولة أخرى جارة وشقيقة لها.
وفي هذا الفصل يذكر بروكس أنه أمضى وقتاً كبيراً في متابعة تأمين المعدات إلا أنه كان محبطاً جداً من بطء التجهيزات، لافتاً إلى أن المنطقة الشرقية كانت هدفاً لصواريخ سكود.
التقيت الكابتن وينال تلك الليلة في الفندق عند الساعة السادسة والنصف وناقشنا معاً الاغاثة الطبية. وقال ان من الصعب عليه الوصول الى البحرين، وان جمعية الهلال الأحمر الكويتية في حاجة الى مساعدة، وان عليّ حضور اجتماعاتها المسائية.
وفي الثامنة والنصف مشيت مع «ستيف» على الرصيف من الفندق، حيث مبنى جمعية الهلال الأحمر البحرينية، حيث تستضيف مثيلتها الكويتية خلال الحرب. دخلت مع ستيف الى المكتب الخلفي، حيث كان يعمل عدد من الكويتيين. وهناك التقيت الأمين العام للجمعية الكويتية د. إبراهيم بهبهاني.
ود. إبراهيم بهبهاني- وهو يفضل مناداته بهذا الاسم فقط، هو جراح فم. وكان يلبس الثياب العربية، وبدا انه يكبرني بسنوات عدة (وكنت في سن 42)، وقدرت بانه في منتصف الخمسينيات.. وكان رجلاً مميزاً في مظهره.. وقدمني للأعضاء العاملين معه - زوجته واخت زوجته وبعض النسوة الأخريات.. وفي الواقع لم أفهم اسماءهم ولا علاقاتهم، وتساءلت إذا كانوا جميعاً زوجات له.. وقد حظيت باستقبال حار هناك، وطلبوا مني الانتظار للانتهاء من بعض الأشغال. فكانت الخطوط الهاتفية مشغولة دوماً، وبدا د. إبراهيم هو الرجل الوحيد الذي يتخذ القرارات.
قدموا لي القهوة، وأدركت ان الكويتيين يقدرون هذا المشروب حق قدره - القهوة التركية والحلوة جداً. وكانت خبرتي سابقاً مع القهوة التركية فقيرة. والآن عرفت ان هذا الشراب القوي لذيذ أيضاً حين يكون محلى بالسكر. وحاولت ألا أزعج أحداً، فجلست في انتظار، مع الحرص على ألا أضع رجلي بشكل متصالب. (حيث تعلمت في «فورت براغ» ان اظهار نعل الحذاء يعتبر إهانة للآخرين).. وطبعاً عرفت محاذير التدخين أمام العرب. وبينما اعتبرت ذلك أمراً غير عادي لكنني اكتشفت ان معظم الكويتيين مدخنون ولا يمانعون في سيجارة تعرض عليهم كضيافة. والواقع ان التدخين عادة مقبولة اجتماعياً في منطقة الخليج أكثر منها في أميركا.
مرت عشر دقائق، فرافقني د. إبراهيم مع الكابتن وينال الى غرفة الاجتماعات في الدور العلوي، وقد انضمت الينا د. أنيسة الرشيد، وهي متطوعة في الجمعية الكويتية.. وهذه الطبيبة هي طبيبة أسنان ولها خلفية تاريخية مشوقة.. فقد كانت متزوجة من رجل كويتي، ثم تزوجت ثانية من عراقي، وكان عمها أردنياً (من مواليد العراق، لكنه مطلوب للسلطات العراقية لمعارضته النظام العراقي)، وكانت زوجته (حماتها) بريطانية، واثنان من ابنائها أميركيان (كونهما ولدا في أميركا)، بينما ابنها الأصغر من البدون.
بعد قليل توافد عدد من الكويتيين الى قاعة الاجتماع، من بينهم ثلاثة من أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ICRC، وممثل من الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب والهلال الأحمر، وعدد من الكويتيين. كان د. جمال الغانم، طبيب كويتي، هو الرجل الثاني بعد د. إبراهيم يهبهاني في الجمعية، وفي سني تقريباً كما بدا لي، قبل ان اكتشف انه في أواخر العشرينيات من عمره.
كان ذلك أول ظهور لي في منظمات الإغاثة الدولية / أو المنظمات التطوعية الخاصة IRO/PVO. فحاولت ان أتعرف على طبيعة عملهم ومسؤولياتهم، لأنني كنت لا أعرف الكثير عن ذلك، كما لم أسمع باتحاد جمعيات الصليب والهلال الأحمر. وقد شرح لي ذلك كله جيان باشيتا، رئيس وفد هذه الجمعيات، وهي جمعيات دولية برئاسة وعضوية أشخاص سويسريين حصرا، ودورها هو المحافظة على الحياد في العالم وتقديم الخدمات حسب اللوائح الدولية للأسرى وغيرهم. ورابطة جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر هو تنظيم على مستوى وطني، ويعمل في أي بلد يسمح له بالعمل داخل أراضيه للقيام بمهام انسانية. وكان مقرراً ان يسافر د. «لارس نايس» وهو نرويجي الى أفغانستان لكنه توقف في البحرين بسبب حرب درع الصحراء.
دار النقاش حول دور ومسؤولية كل من اللجنة الدولية ICRC واتحاد جمعيات الصليب والهلال الأحمر والجمعية الكويتية. وكان د. إبراهيم حريصاً على التأكيد دوماً ان جمعية الهلال الأحمر الكويتية هي منظمة تطوعية وليست حكومية، وان أعضاءها جميعا متطوعون وان مصادرها المالية محدودة. لكن هذه الجمعية لم تقدم السبيل لتأمين تمويل مستمر للنهوض بواجباتها الانسانية في نقل وحيازة مواد الاغاثة والملاجئ وما الى ذلك. قال د. «نايس» ان أي جهود إغاثية تقدم بلا تكاليف ولا اكراه، لكن د. إبراهيم اجابه بأنه لا يرى ذلك، حيث ان الجمعيات المتفرعة عن الاتحاد كانت تريد ان تقدم مواد الاغاثة وليس تكاليف نقل المواد، وانهم في حاجة الى تعويضات من الجمعية الكويتية، وهو أمر لم يتمكن د. إبراهيم ان يضمنه. لذلك فان جمعية الهلال الأحمر الكويتية رغبت بكل وضوح إفهام الجميع انها ممتنة لأي مساعدات ولكنها لا تستطيع استخدام هذه المواد فقط إذا كانت متواجدة على أراضي «الطرف المستفيد». وبدا واضحاً لي ان الرابطة كانت تعتبر ان الكويتيين يملكون «جيوباً عميقة» وانهم مستعدون تماماً لدفع ثمن أي مواد اغاثة.
وكان ممثلو الجانب الكويتي يطلبون ضمانات بأن أي جهود اغاثية يجب ان تتم تحت اشرافهم وان الجهود الدولية ستكون مخصصة للحاجات والمطالب التي تخص جمعيتهم وقال «باشيتا» ان دوره لا يسمح بمحاباة طرف دون طرف آخر وان جمعية الهلال الكويتية كانت تأمل في التوسط بين المتجادلين حتى وان كانت الجمعيات الوطنية لم يسمح لها بان تدخل الى الكويت ذاتها.
وكنت أنا أراقب فقط، وقد تعاطفت مع الطرف الكويتي، لشعوري بان المواد الاغاثية يجب تقديمها وان أي مناقشة للتعويضات المالية يمكن معالجتها بعد نهاية الحرب. وهذا ربما لا يتفق مع القانون المتفق عليه، ولكني شعرت بأن ضرورات الوضع أهم من التفاصيل المتعلقة بالقوانين العادية.
اختتم الاجتماع دون التوصل الى حلول محددة. ووافق الكل على اجتماع مسائي عادي في الثامنة والنصف لدراسة المستقبل. سألني د. إبراهيم اذا كنت سأتابع حضوري، فأكدت له استمرار تواجدي. وحين غادرت مع الكابتن وينال قدم د. ابراهيم الى كل منا حقيبة كانت تحتوي على طاقية «بيسبول» مع لوغو عليه «الكويت حرة» فكانت ذكرى رائعة.
رجعت الى الفندق ودونت ملاحظاتي. وحين قدمت التقرير للملحق كنت كتبته خلال مناوبتي الليلية وأرسلته لممثلي الشؤون المدنية لدى القيادة الوسطى بالفاكس، ولم يكن في مقر قيادة الجيش جهاز فاكس ولكني كنت متأكداً من ارسال التقرير عن طريق القيادة الوسطى،. وقد فاتني ان «المعرفة هي قوة» وان عناصر الهيكل القيادي مهتمون في وفرة الأعداد أكثر من الاهتمام باحتياجات المهمة عموماً.
شعرت ان اتصالات مستقبلية يجب ان تتم بين قيادة الجيش ومقر القيادة الوسطى والقوات الكويتية بهدف التأكيد على الفهم الدقيق للعلاقة القائمة بينها. وكنت راغباً في نمو سلسلة من المسؤوليات والتنسيق لدى هذه الأطراف مع الجهود العسكرية الموجهة عبر القيادة الوسطى، في حين مقر قيادة الجيش يعمل كوسيط تنفيذي للشؤون المدنية ضمن منطقة المسؤوليات.
الأربعاء 23 يناير 1991
بدأت فترة مراقبتي اللاسلكية عند منتصف الليل. كانت ساعة «سكود» تعمل مع الإعلان عن الهجوم الصاروخي. وبدا جلياً ان الهدف كان بعيداً باتجاه الغرب. ومن خلال متابعة محطة «سي ان ان» فهمت ان تل أبيب كانت مستهدفة، ورغم القيام بالاتصالات العادية لكن تفكيري تركز على انني أمام مهمة حقيقية - على الرغم من الموقف السلبي لسلاح البحرية. وعند الساعة السادسة انتهت فترة حراستي، وهي الفترة الأهم. وهذا التأكيد على أهمية موقعي لدى سلاح البحرية حطم رغبتي في استمرار تعاملي الناجح مع الكويتيين.
وفي تمام السادسة والنصف التقيت القائد «إيكلي» حيث بدا غاضباً، فسألني: إيفان، ماذا تفعل؟ أعتقد ان أوامر مهمة أصدرت لك بعدم الاتصال بأي من المواطنين الذين هنا»؟ وأخبرت «غلين» ان البحرينيين وليس الكويتيين هم المعنيون باستضافتنا، وانني لا أرى بحرينيين هنا، فقال لي ان أجوبتي كأجوبة المحامين وانه يتوقع مني التوقف عن هذه الاتصالات. لكني قلت انني أعمل في مجال تخصصي، وان هذه اللقاءات هي السبب في دعوتي للخدمة. وكان واضحاً ان علاقاتنا يمكن ان تنزل لمستوى أدنى أكثر مما تخيلت.
اتصلت بقيادة الجيش قبل النوم وأخبرت توم ماكنوغير بما حدث. فحذرني من مغبة إغضاب قيادة الاسطول البحري، فقلت انه لابد من استعداد «ايكلي»، وهو «رئيسي» الظاهر. وما كدت اترك الهاتف حتى قال لي غلين ان الوقت حان لتقرير وضعي بشكل نهائي مع قيادة الجيش، فقلت له ان المكتب المناوب هناك لن يبدأ عمله حتى الساعة 12:30 وانا في حاجة الى النوم.
عدت الى الفندق لأنام قليلاً. وفي الساعة 12:40 عدت الى الملحق فاتصلت بقيادة الجيش لأنهي القضية مع غلين، وحين تحدث هو مع الكولونيل «لي فانيت» أخبره بانه غير راض عن وجودي في قيادة الاسطول.. لكن القضية لم تحسم، وبعد مغادرة غلين تابعت الحديث مع «لي». وقالت هي لي ان هذا «الرجل واضح انه لا يريدك والعكس صحيح».. وكان علي الانتظار حتى يبدأ عمل القوة الخاصة بالكويت.
عدت الى الفندق وغفوت. ثم استيقظت عند السابعة والنصف وذهبت الى قاعة الطعام ومن ثم الى جمعية الهلال الأحمر البحرينية لحضور الاجتماع مع جمعية الهلال الأحمر الكويتية. تلك الليلة كنت الأميركي الوحيد هناك. وتتابع النقاش كالسابق ليركز على المسؤوليات والسلطة لدى اللحنة الدولية للصليب الأحمر وللجمعية الكويتية للهلال الأحمر.
سألني د. ابراهيم اذا اجري اتصال بين وزارة الصحة البحرينية والجيش الأميركي. ونظراً لتجربتي مع القوات البحرية أدركت انها ستعترف بسيادة البحرين فقط، مع قليل من التفاوض مع مسؤولين في الصحة. وأحببت ان أي اتصالات كهذه يجب ان تتم عن طريق السفارة الأميركية.
كان الكويتيون قلقين حول حجم المعونة المالية المخصصة للكويت. فقد ساعدوهم بجهود انسانية كثيراً من دول العالم، وهم الآن يواجهون أزمة ويحتاجون لوقوف العالم معهم.
كانت جمعية الهلال الأحمر الكويتية طلبت خمسة ملايين دولار من الاتحاد. ومع تصاعد الأزمة دمجت اللجنة الدولية لجمعيات الصليب والهلال الأحمر هذا الطلب مع مطالب أخرى في دول المنطقة ليكون بقيمة 141 مليون دولار، وخشي الكويتيون من عدم صرف هذه المخصصات لمصلحة بلادهم وحدها، بينما قالت اللجنة الدولية ICRC انها تقبل هذه المساعدات على مضض. وبدل ذلك أرادت ان يكون بالإمكان تخصيص المساعدات كما تراه مناسبا. ومع تقدم النقاش ازداد تعاطفي مع الجانب الكويتي. وقد أراد هؤلاء ان يعرفوا «ما المساعدات التي لديكم وأين تخزن؟ ومتى ستصل؟».
أما اللجنة الدولية فتحدثت بشكل مبتذل على لسان ممثلها الدكتور «نايس» الذي قال «لم يسبق ان فشلنا في عملنا» وأضاف عبارات مثل «عندما تكون المساعدات مطلوبة ستكون موجودة». كدت لا اصدق ذلك، لان احد السويسريين سألني «يبدو يا كولونيل أنك لا ترضى بذلك، هل يمكن ان تقول لي متى فشلت اللجنة؟»، واجبته بانني لم ار سوى قليل من النجاح الفعلي في مثل تلك المهمات، ولكن بالنسبة للمبتدئين فان الحرب العالمية الثانية في نظري لم تحقق نجاحاً، فطالب ممثلها بتوضيحات أكثر.
قلت ردا على اسئلة اخرى انه «عندما فتشت اللجنة الدولية «نموذج» معسكرات الاعتقال الألمانية في تيريسندشتات قدموا فاتورة صحية نظيفة للالمان، وكان ذلك نجاحا واضحاً»، فبدا هو مصعوقا وقال انه «مندهش لانك تعرف هذه المعلومات عن تيريسندشتات، لكننا نعلم ان تلك عملية مزيفة»، حيث كان صهري في فريق التفتيش، وعلى كل لم يستطع الصليب الاحمر ادانة ألمانيا لان ذلك كان سيعيق وصولنا الى الرايخ». فلم أرد عليه.
كنت متعاطفا مع الكويتيين، فقد كانت جمعية الهلال الاحمر الكويتي جمعت مساعدات كبيرة في النرويج، وكذلك 50 مليون ين لليابان.
على أي حال، كانت جمعية الهلال الأحمر الكويتية في حاجة أيضاً الى ما قيمته 5 ملايين من المساعدات الطبية ومواد الإغاثة على أن تتوافر في البحرين. وكررت الرابطة موقفها المحايد، وقالت إنه نظراً لأنه «أوسلو» وفرانكفورت وأغلبية العواصم الأوروبية يمكن الوصول إليها في مدى ساعات قليلة، فإن من الأفضل إبقاء المواد في أراضي الدول المقدمة لها خوفاً عليها من الضياع في أرض المعركة. واعتبر د. نايس أن أي تحويل للمواد إلى البحرين قد يجعلها عديمة الفائدة بسبب صعوبات نقلها بعد نشوب الحرب (فهناك مخاطر براً وبحراً وجواً).
كذلك مع ذلك فالجمعية في حاجة الى خمسة ملايين في حين هي في البحرين.
كذلك فان حجم المساعدات التي طلبوها ستكون 3500 - 4000 طن متري - وهذا حجم يصعب نقله جوا، وقالت الجمعية الكويتية بغضب انها تريد ايصال هذه المساعدات الى ايديهم ردا على ما قاله الدكتور نايس حول صعوبات النقل. وبصرف النظر عن حجم الحصة من اصل 141 مليون دولار فانه يريد تسلم 5 ملايين حالا. وقال الدكتور ابراهيم بهبهاني ان نحو 50 طناً من المساعدات الطبية والاغاثية موجودة في البحرين، وهناك 3.5 اطنان فقط من قبل الجمعية الكويتية.
شعرت بالقلق. فإذا جمعية الهلال الأحمر الكويتية لم تحصل على طلبها من المواد فإنها ستتوجه لطلب نقل أي مساعدات متوافرة من جهات أخرى، ومن بينها طائرات النقل العسكرية الأميركية. وكنت أنا معنياً بزيادة قدرات النقل المدنية وليس باستبدالها بمواد عسكرية. ويجب بذل جهود خاصة لمنع الشحن العسكري من الانخراط في نقل مواد الاغاثة المدنية التي يمكن أن تقوم منظمات الإغاثة المدنية بنقلها.
وأراد جيان باشيتا مناقشة هذا الموضوع مع الفرق المدنية، لاسيما المعنية بالصحة العامة والنظافة العامة والمياه... الخ، وهي أمور تتحمل مسؤوليتها فرق عمل خاصة، وفهمت أن علي ابلاغ عناصر معينة عن ضرورة التنسيق المطلوب
وفيما كانت رابطة جمعيات الصليب والهلال الأحمر تعقد اجتماعها، بدا واضحاً أن جمعية الهلال الأحمر الكويتية شعرت بأن أي مناقشات مقبلة لن تكون مجدية قبل وصول المساعدات التي طلبتها إلى البحرين.
انتهى الاجتماع، ورجعت للفندق استعدادا لمناوبتي الليلية، وطلبت قيادة الجيش على الهاتف، وأمضيت المساء مع جمعية الهلال الأحمر الكويتية، ومع ذلك لم أشعر بحاجتي الى النوم رغم التعب، ولكني شعرت بأنني احقق شيئا ملموسا، وهو ما تعتبره قوات الدعم البحري مضيعة للوقت، وكان صعباً علي قضاء فترة «حرب الخليج» في فندق خمسة نجوم، ولا اعمل سوى اللعب باصابعي، وأنني «كنت اراقب الاسطول البحري وهم يشربون الجعة».
الحلقة الخامسة الطائرات الحربية العراقية تهرب إلى إيران.. بداية النهاية
في الحلقة السابقة من مذكرات الكولونيل الأميركي المتقاعد ايفان بروكس عن «عاصفة الصحراء» ذكر بروكس أن السلطات الكويتية قدرت عدد الأسرى للجنة الصليب الأحمر الدولية بـ 25 ألف أسير من بينهم 8 آلاف جندي احتجزوا بالكويت، اضافة الى قيام الأردن واليمن باغلاق سفارتيهما في الكويت ما يعني اعترافهما بشرعية الغزو.
وفي الحلقة الحالية يكشف بروكس عن تفاصيل يومية جديدة في آلية عمل وحدته القابعة في قاعدة الظهران السعودية وخطط تأمين المناطق المستهدفة لهجوم صواريخ سكود فالى التفاصيل:
الخميس 24 يناير 1991
عندما تسلمت مناوبتي وجدت جهاز اللاسلكي معطلا، فأمنا بطارية جديدة وعدت للعمل الساعة الثانية عشرة والربع ولم تحدث أمور كثيرة خلالها، وبعد الانتهاء من عملي في السادسة صباحا لم اعد الى الفندق. فقد كانت علاقتي مع البحرية تتدهور كل يوم.
وكنت بحاجة الى توجيه من القيادة العليا. لذلك اتصلت عند الساعة العاشرة والنصف اتصلت بالكولونيل «ايد ميلر» في القيادة الوسطى للتباحث حول وضع اللجنة الدولية للصليب الاحمر. ولم أتمكن من الاتصال بقيادة الجيش بسبب تعطل هواتفها. وأملت أن أجد لدى «ايد» بعض العون، لكن الوضع بقي متعبا.
وفي الساعة العاشرة مساء طلب الدكتور نايس مني حضور اجتماع خاص، حيث كان يأمل بحلحلة الوضع مع جمعية الهلال الأحمر الكويتية، واعتبر طلب خمسة ملايين دولار امراً منفصلا عن المبلغ الكلي (141 مليونا) ويمكن ارسالها الى البحرين. ورغم طلب الجمعية الكويتية (الذي قال د. نايس انها تتضمن تكاليف النقل) فان الاتحاد كان سيقتطع تلك النفقات، وكان الاتحاد الدولي يستعد لارسال فرق الى الكويت بالتزامن مع تحريرها، وتضم ثلاثين شخصا وما بين 10 - 12 آلية وكميات ماء وأغذية تكفي لستة ايام، وتقرر عقد اجتماع في اليوم التالي لمناقشة تلك الأمور.
وقبل تسلم نوبة الحراسة ارسلت بالفاكس هذه الملاحظات الى القيادة الوسطى، لكني لم اتسلم اي رد من الجيش يتعلق بجدوى جهودي، وعلمت ان الوضع سيحل عاجلا ام آجلا.
الجمعة 25 يناير 1991
عند منتصف الليل تسلمت مناوبتي، وبعيد ذلك بقليل تلقيت اتصالا من القيادة الوسطى، ارسلوا لي كتابا حول عملي في الاغاثة. وعدت لارسله الى البحرية لانهم لم يتسلموا نسخة منه وقلت لهم انني لم اتسلم شيئا. وبدأت اتساءل عن التعليمات التي كانت ترد واذا ما كانت البحرية تتجاهلها.
منذ السابعة والنصف صباحا بدأت بالاتصال بالقيادة الوسطى، أخيرا ابلغوني عند الحادية عشرة بان الكولونيل ميلر سيتصل بي، لكنه لم يتصل واتضح لي ان هذه المحاولات من قبلي بالاتصال غير مجدية لدى البحرية، وقررت الاستغناء عنها مرة واحدة.
في حوالي الظهر اتصل الكولونيل وينال متسائلا عما كان يجري، وقال لي ان الدكتور بهبهاني لايزال غير مرتاح لتأكيدات الاتحاد الدولي، وانه كان يحاول الشراء من السوق المحلية بنحو مئة الف دينار بحريني من المواد، وأرسلت بالفاكس نسخة الى ستيف من تقاريري - وبعد ساعتين اتصل بي د. بهبهاني لدعوتي الى اجتماع عند الساعة الرابعة والنصف عصرا، الا ان اتصال الكويتيين بي لم يكن محببا لدى البحرية، فحرصت على البقاء بعيدا عن القائد ايكلي قدر الامكان. ولانه كان مسؤولا عن المناوبات النهارية وكنت انا مناوبا في الليل فانني على ثقة من قلة مشاهدتي له.
عند الرابعة عصرا اتصل د. ابراهيم بهبهاني في الفندق وقال ان الاجتماع تم تأجيله حتى الثامنة والنصف.
وكان لقائي بالدكتور بهبهاني على انفراد، حيث تناقشنا حول موقف الاتحاد. وبدا ان دفاعي عن موقفه لاقى قبولا لدى الكويتيين. ومحاولتي لتخليص موقف كل طرف واصطفافي الى الجانب الكويتي جلب ارتياحا للدكتور بهبهاني وزملائه الكويتيين. صار الوضع منذ تلك الساعة «انا وهؤلاء» معا مقابل الاتحاد الدولي وبيروقراطية. واصبح الكويتيون اصدقاء لي، فهناك «اخوة الحرب» وكذلك «اخوة الازمة» واذا كانت حرب الخليج مجرد عملية عسكرية سريعة فان الازمة خلقت صداقات ارجو ان تستمر حتى نهاية العمر معهم.
اخبرني الدكتور بهبهاني بأنه يمثل الجمعية الكويتية للهلال الاحمر، وقد ابلغته حكومته بان جميع الترتيبات قد اتخذت، كذلك ابلغ سرا من وزير الصحة بتأمين كل ما يمكنه، وحين باشر في هذه الجهود تلقى اتصالا من الحكومة الكويتية يوم 24 يناير بايقاف عمليات الجمع والنداء الدولية للصليب الأحمر ICRC ورابطة الجمعيات/ League. وهكذا اصبح في مواجهة وضع معقد بانه لم يكن متأكدا حول موعد ارسال المساعدات اللوجيستية.
كانت قضية التأمين الشخصي تشكل مشكلة في مجال النقل لان الطيران ليس لديه تغطية تشمل «منطقة العمليات العسكرية»، لكن جمعية الهلال الاحمر ستحصل على مقدار محدد من الاجهزة فورا بدلا من الوعود غير المادية حول المساعدات المستقبلية، واذا كان ذلك يشمل تأمين اعتمادات مالية «للتأمين على الحياة» فان ذلك يسري على الطيران ايضا.
بعد نصف ساعة دخل د. نايس وأكد لنا ان الاتحاد واللجنة الدولية سيقدمان المواد اللازمة، وطلبت امكانية تدوين ذلك كتابة فرد الدكتور نايس ان منظمات الاغاثة الدولية لا تقدم ضمانة خطية رسمية بذلك فيما بينها، وان عملها يقوم على النوايا الحسنة، وكان عسيرا علي فهم ذلك الامر. ونظرا لخبرتي كمحام كنت افضل صياغة عقد اتفاق خطي، كذلك كان الكويتيون مقتنعين واثنوا على موقفي في التصدي بوضوح لموقف الاتحاد. وكانت ثقتهم في الجهود الدولية بسبب فقدانهم وطنهم في الحضيض. وحتى تلك الساعة كانت الجمعية الاميركية للصليب الاحمر ARC فقط هي التي ردت بوجوب عقد اتفاق ثنائي، وطلبت «كعربون» مبلغ نصف مليون دولار مقابل «النفقات التنظيمية والادارية» وكان ذلك موضع غضب دائم، ثم انها رفضت لاحقا المطالبة بتلك الأموال.
على كل حال، يومئذ كان الاعتقاد السائد بين الكويتيين ان الجمعية الاميركية تطالب بذلك المبلغ، وعندما طلبوا مني رأيي حول هذا قلت لهم انني لا أفقه في هذه الامور. ثم الحوا علي وقالوا ان لي رأيا يحترمونه، فقلت اخيرا انني لا ارى فائدة في دفع هذه المبالغ لتكون «نفقات ادارية مقدما».
أصبحت الاتصالات بين جمعيات الاغاثة الدولية مشوشة، وكان البنك الدولي، ووزارة الصحة الكويتية والجمعية الكويتية للهلال الاحمر قد طلبوا من الاتحاد واللجنة الدولية ICRC توفير المساعدات مبكرا، لكن الرد على هذا الطلب لم يرسل الى الجمعية الكويتية وهو ما اثار شكوك وقلق الدكتور بهبهاني.
كانت هناك طلبات اولية لمواد لوجيستية بما يعادل 250 الف دولار قدمت في البحرين يوم 15 يناير. وحتى تاريخه لم يتم تسليم اي شيء منها. وكان اتفاق الاتحاد واللجنة الدولية قد وقع يوم 8 يناير 1991 بالدعوة الى توفير 141 مليون فرنك سويسري (وليس دولاراً) مخصصة للمنطقة كلها التي ستتأثر بالحرب. اما مبلغ خمسة الملايين فرنك المخصصة للكويت فكانت ستعتبر بندا مستقلا، رغم انها عمليا من ضمن تلك المبالغ، وكان السبب في تحديد مبلغ بسيط للكويتيين نابع من نظرة العالم الى انهم اثرياء.
استمر الجدل بين د. بهبهاني ود. نايس بشأن نفقات الشحن وكان الاتفاق مبهما، وليس مفهوما من الذي سيدفع تكاليف الشحن من مكان شراء المواد الى الكويت والبحرين. واخيرا اتفق الرجلان على ان الجمعية الكويتية لن تطالب بأي نفقات حتى وصول المواد الى المنطقة وتسلمها من قبل الجمعية.
وخططت الجمعية ان تدخل الى الكويت في اقرب فرصة بعد تسلمها الاذن بالدخول، وكان يجب الحصول على الاذن لذلك من حكومة الكويت وفريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية، وبالتعاون مع السلطات العسكرية، ولأن رئيس الجمعية كان موجودا خارج البلاد فان الدكتور بهبهاني أصبح هو المسؤول بالكامل عن ختم العمليات في البحرين واعادة فتحها في الكويت، وقد اخبرني بأنه اراد ان تكون الجمعية الكويتية من بين الجمعيات الاولى التي ستدخل الى الكويت.
وعقب الاجتماع ذهبت الى المبنى الملحق، وفي الساعة العاشرة اتصل الكولونيل ويللر من القيادة الوسطى وطلب موافاته بآخر الانباء عن الكويتيين وحول الجهوزية، فأرسلت له تقريراً حول الاجتماع الذي عقد.
السبت 26 يناير 1991
بعد تسلمي مناوبتي تلقيت اتصالا من القيادة الوسطى G5. وكان ذلك رقمهم الجديد، وبدا ان الاتفاق العام هو انني اقوم بعمل ما هو مفيد ولكني مازلت تحت امرة البحرية وتابعا لها عمليا. وفي الثانية عشرة والنصف ليلا اتصل بي الميجور «ستروناك» وقال لي ان بامكاني تلقي اتصالاته اللاسلكية على الموجة 1350 وبدت هذه مهمة لا معنى لها.
استمرت المناوبة. ووفرت لنا هجمات صواريخ «السكود» فرصة ان نعمل شيئا ما على اقل تقدير، كذلك حيث اتضح لنا مدى عدم دقة تلك الاسلحة ومدى عطالة صواريخ «باتريوت» المضادة للصواريخ، فان صواريخ «سكود» فقدت صفة تخويفها لنا، وقد اطلقت تلك الصواريخ على الظهران، و أحيانا كنا نشاهدها، وسماع صوت الرؤوس الحربية من مسافة بعيدة. كان الاهالي لا يذهبون الى الملاجئ، بل يتجمعون على اسطح المنازل والشرفات للتعرف على اماكن القتال. وعند الساعة 3:34 اعلنت شبكة القيادة «نحن نتعرض لهجوم صواريخ سكود»، وكررت ذلك. وكانت «المناطق المستهدفة تشمل....». وأعلنت هذا فورا عبر شبكة اللاسلكي المحلية، واكتشفت ان المحطة البريطانية BRI لم تكن تدري بمستويات الاجراءات الخاصة بالوقاية MOPP ولم يكن امرا مساعدا كون الاجهزة البريطانية مختلفة عن تلك الاميركية في مجال التدريب الكيماوي. وخلال نصف ساعة اعطيت اوامر بالاخلاء الكامل، وبقيت محافظا على صمودي مستيقظا. كان احد الموضوعات التي تحظى بالنقاش هو ان الطائرات الحربية العراقية تهرب الى ايران، هل كان معنى ذلك بداية نهاية حرب متعاظمة؟ وفي الساعة السادسة تم اعفائي من مهمة التجول مع قيادة الاسطول.
ذهبت للنوم عدة ساعات، ثم عدت للعمل عند الساعة الحادية عشرة وقد ناقشت مع القائد «هوسر» موضوع واجباتي كضابط ارتباط، هو اكد لي انني لم اكن ضابط شؤون مدنية، وليس علي العمل بهذه الصفة. وبعد مرور نصف ساعة اتصلت بالقيادة الوسطى لكي اؤكد لها طبيعة هذه المسؤوليات مع الاسطول، ولم يكن قد ارسل لهم اي شيء بهذا الخصوص.
حوالي الساعة الواحدة حاولت تحديد مهمة «مركز منطقة العمليات الخلفية RAOC للاسطول البحري»، اتصلت بمكتب المارشال في قيادة الجيش اكثر من مرة، ولم يجبني احد، ثم علمت ان الضابط كان لديه مكاملة، ولان لديه هاتفاً خليوياً ولكنه لا يستطيع الرد على مكالمات دولية، لكن كانت هناك مهمة اخرى يجب القيام بها.
كذلك، نظرا لان الاسطول البحري لم يكن متفهما لطبيعة علاقتهم مع بقية القوات الارضية فان الجيش اعتبر ان البحرين هي «آخر ملجأ». وراح ضباط البحرية يشتكون من انهم لا يعتبرون طرفا من «الخطة الدفاعية» وان شبكاتهم الاتصالية كانت غير متلائمة ابدا مع شبكة الجيش، لكن اذا كان العراقيون سيدخلون في عمق الاراضي السعودية فان الخطط لدى القيادة الوسطى ستلجأ الى الانسحاب الى البحرين أخيرا. وبقي هذا التضارب بينهما بلا حلول.
في الساعة الخامسة عصرا جلست مع الكويتيين وكانت بعض مواد الاغاثة قد وصلت مسبقا، وهناك 28.5 طنا في مصر، ثم 3.5 اطنان منها من اللجنة الدولية وما بين 10 - 12 طنا يجب نقلها من مصر. وكان الكويتيون يجهزون للذهاب الى الكويت حين تهدأ العمليات الحربية، ولديهم ثلاث سيارات اسعاف وما بين 7-10 آليات. وكان عليهم الحصول على اذن من وزارة الداخلية للتحرك. فقد كان الدخول الى الكويت المحررة مقتصراً على افراد الجيش باستثناء جمعية الهلال الأحمر التي لديها الاذن من الجيش الكويتي للدخول الى الاراضي الكويتية حين تريد ذلك.
نداء الخمس ملايين فرنك سويسري
من القواعد الدولية ان رابطة الجمعيات تقوم باصدار نداء عن حدوث أي كارثة في العالم، خصوصا اذا طلبت الجمعية الوطنية ذلك حتى يوم 8/1/1991 لم نكن نعلم لماذا تتجاهلنا رابطة جمعيات الهلال الاحمر والصليب الاحمر حتى كان حضور السيد سليمان الغماري مسؤول مكتب الشرق الاوسط وشمال افريقيا في رابطة الجمعيات (لاحقا وزير الصحة الليبي) حيث علمنا منه ان وزارة الصحة قد طلبت منهم ادارة المستشفيات العامة في الكويت لمدة ثلاثة أشهر مع احضار الطاقم المطلوب والادوية وخلافه، وقد أرسلت الوزارة لذلك مندوبين الى جنيف لوضع الاطر العامة لهذا الاتفاق، وان الرابطة قد قامت بكل المطلوب بما فيه تحضير مستشفيات ميدانية ونداء جمعية الهلال الاحمر الكويتي يعتبر شيئا بسيطا في اطار هذا الاتفاق، لكن لاحقا أصبحت الوزارة سلبية ولم تكن ترد على اتصالاتهم أو رسائلهم وحاولت عند وجود السيد الغماري في البحرين الاتصال بالمسؤولين في وزارة الصحة بخصوص الموضوع، لكن دون فائدة حتى أتاني الجواب «سلباً»، ما يعني ان الذي طلب ذلك قد تراجع ولم يحفظ كلمته للمنظمة الدولية، وفي النهاية ناقش المسؤول احتياجات الجمعية وتم الاتفاق على اصدار نداء بمبلغ خمسة ملايين فرنك سويسري خارجا عن نطاق أي اتفاقية مع وزارة الصحة أو اللجنة الدولية للصليب الاحمر.
الحلقة السادسة التقارير تؤكد: 350 ألف فلسطيني و200 ألف كويتي في الكويت العاصمة
في الحلقة السابقة تناول الكولونيل الأميركي ايفان بروكس في مذكراته عن «عاصفة الصحراء» عددا من المشاكل التي حدثت في تلك الاثناء سواء في قاعدته البرية المرتبطة بالبحرية الاميركية او الاجتماعات التي كان طرفا فيها بين جمعية الهلال الأحمر الكويتية ورابطة الجمعيات واللجنة الدولية للصليب الأحمر في سبيل توفير المساعدات اللوجيستية ومراكز تجميعها في عدد من الدول العربية والاوروبية وكيف سارت الاتفاقات لنقلها.
وفي هذه الحلقة يذكر بروكس تفاصيل اخرى قد يشعر القارئ للوهلة الأولى بأنها عادية إلا أنه مع تحليل الارقام والبيانات الواردة تعطي معلومات في غاية الأهمية خاصة للاجيال الشابة سواء التي لم تكن ولدت بعد او التي لم تكن تدرك كثيرا عن المجتمع الكويتي قبل الغزو واثناء وبعد التحرير.. فالى التفاصيل:
الأحد 27 يناير 1991
خلال مناوبتي تلك الليلة اخذت اراجع عند الساعة الثالثة صباحاً خطط «مركز العلميات لقاعدة التجمع BCOC، وكان واضحاً ان الشؤون المدنية مكلفة بمسؤولية «قيادة قوات الشرق الأوسط» CMEF. وعرفت من خبرتي ان ذلك يلقي تجاهلاً.
انهيت مناوبتي بلا حوادث عند الساعة السادسة، فعدت الى الفندق لتناول الفطور والنوم، وعند العاشرة اتصل بي الكولونيل واينل، لم يستطع تأمين اتصال مع القوة الكويتية، ويحتاج الى رقم هاتفهم، فاعطيته الرقم وعدت للنوم.
في حوالي الثانية بعد الظهر اتصلت بي القوات الكويتية KTF كان الميجور جون هاربيل والكولونيل «دون ماكيني» يريدان المجيء الى البحرين لحضور اجتماع مسائي لجمعية الهلال الاحمر الكويتية.
وبعد ست ساعات استقبلتهم في الفندق وقدمت لهم نسخاً من تقاريري واسباب عملي فيما بدا انه خارج نطاق تخصصي وكنت اعرف الميجور هاربيل لانه احد الافراد في وحدتي بينما كان الكولونيل ماكيني من الفرقة 354 للشؤون المدنية وكان هذا محبوباً، وطلب ان يشرب الجعة! ومع ان علبة «هنيكان» كانت تكلف سبعة دولارات فانه لم يجد حرجا في طلبها، وعندما اخبرته عن متاعبي الحالية مع البحرية امرني بأن اصمت وابقى مستمتعاً بالفندق وشرب الجعة، وقلت له انني لا اتناول الكحول واستغرب الامر.
وبعد ساعة ذهبنا الى مقر الهلال الاحمر لحضور اجتماع دوري كان الهدف الرئيس من الاجتماع هو تقديم فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية والجمعية على امل اقامة تحالف معهما، وكانت فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية قلقة جداً بسبب الاصابات بين المدنيين والمعلومات الواردة من الكويت تفيد بأن المستشفيات تغص بالمصابين من العراقيين والفلسطينين، واذا تم تدمير خطة منشآت تحلية المياه فسيكون هناك وضع مأساوي.
تركز النقاش حول قائمة محددة بالمواد والاماكن الخاصة بتخزينها، وطلبت فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية من جمعية الهلال الاحمر ومن الاتحاد الدولي واللجنة الدولية مطالب محددة، وقالت فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية لنا: ان جمعية الصليب الاحمر الاميركية سوف تكون مظلة لجميع وكالات المساعدات التطوعية في اميركا، وقال د. نايس ان الاتحاد الدولي واللجنة الدولية يجب ان ينسقا معاً جهودهما لتجنب الازدواجية في العمل الاغاثي.
الدكتور ابراهيم بهبهاني قال ان اي جمعية تطوعية تحتاج الى شهادة تخليص لدخول الكويت، ولهذا فهو لا يتوقع مشكلة، فالكويتيون لديهم بطاقاتهم المدنية - وهي ستطبع بألوان خاصة للتعرف على حامليها من الكويتيين والزائرين، وقدر ان عدد سكان مدينة الكويت هو حوالي 200 الف ونحو 350 الف فلسطيني.
وبالنسبة الى القوى البشرية فان لدى الجمعية عشرين طبيباً مع 15 ممرضة كلهم في البحرين، مع 25 طبيباً و11 ممرضة في دولة الامارات، وما مجموعه 120 في جدة بالسعودية، ثم 36 في الرياض وستون طبيبا وممرضة مع اربعين سائق سيارة اسعاف في مصر.
وهناك متطوعون عددهم من 100-150 رجلا وستين امرأة في البحرين وحوالي مئة متطوع واربعين متطوعة في الرياض.
وطلب ثانية جداول بالمواد الغذائية، واخيرا نوقشت امور متفرقة، وكانت قوات الدفاع المدني البحرينية تقوم بدورة تدريبية مدتها اربعة ايام لمتطوعين كويتيين، فقد كانت هناك كارثة تتعلق بمركز الطوارئ EOC يجب تحديدها، وكذلك مسؤولية نقل العسكريين الى ايدي المدنيين خلال تقدم القوات.
التقارير الواردة من الكويت الى الجيش العراقي كان يدخل الى الاماكن السكنية ويصادر المواد الغذائية، وسبق ذلك تقارير اشارت الى وجود كميات هائلة مخزنة من الاغذية للاهالي. ولكن ذلك قد يؤدي الى حاجة ماسة وكبيرة من المواد الغذائية المخصصة للمدنيين، وبذلك انتهى الاجتماع على ان يعاود اللقاء في يوم الخميس عند الساعة السابعة مساء.
الإثنين 28 يناير 1991
مرت فقرة المناوبة بسلام، لولا لعبة «سوبر باول مونداي»، والسوبر باول يجب لعبها حتى الساعة السادسة مساء يوم الاحد لهذا بدأت في الساعة الثانية بالنسبة لنا. ففي فترة الاستراحة كنا نشاهد هذه اللعبة لدقائق، وحين عدت الى الفندق بعد السادسة مساء ذهبت الى الفراش وكان لدي ضيف من امن الموانئ في سلاح البحرية، الذي أخبرني بانه لا يفضل السكن في الفندق.
عند الساعة الخامسة مساء اتصل د. بهبهاني ليقول ان عناصر من المقاومة الكويتية اتصلوا بالهاتف النقال، وقالوا ان الوحدات العراقية توزع كمامات الغاز على الجنود منذ 24 ساعة وكذلك واقيات عسكرية اخرى، فضلا عن تخزين الاغذية المصادرة من المدنيين، وقد رأيت ان هذا مهم وابلغته الى سلاح البحرية في غضون نصف ساعة، كما حاولت ايصاله الى القيادة الوسطى لكن لم استطع حتى التاسعة ليلا، وفي الحادية عشرة بدأت استعد لمناوبتي الليلية.
الثلاثاء 29 يناير 1991
حدث تطور مهم خلال عملي، فالقوات العراقية بدأت تغزو اراضي المملكة العربية السعودية ووصلت الى مدينة الخفجي، هل كان ذلك بداية حرب ارضية؟ لم تكن الاستخبارات متأكدة بينما تبين ان محطة سي ان ان هي افضل المصادر.
وفي اليومين التاليين كنت اعتمد على البرقيات كأفضل مصدر وعلمت ان الاميركيين كانت لديهم صورة اوضح عما يحدث في حرب الخليج مما لدينا.
عند الثامنة والنصف ليلا كنت مصدر المعلومات الرسمي الوحيد العامل، حيث ترك لي سلاح البحرية مهمة العمل لوحدي، لذلك توجهت الى المستشفى الميداني للحصول على كتيب ميداني حول معالجة الاصابات بالاسلحة النووية والبيولوجية، وجدت نسخة وحيدة منها في المستشفى وسمحوا لي باستعارتها وكانت البحرية بحاجة ايضا الى خطة لتركيب حمامات تنظيف من الملوثات، وهو مجال لا افقه شيئا عنه، وكانت هناك حاجة للقيام باجراءات اساسية للحماية SOP ضد تلك المواد، وتوقعت ان توكل هذه المهمة الي.
وفي الساعة الواحدة عدت الى ملحق مبنى القيادة حيث فهمت ان البحرية يبحثون عني لتعليم الجنود هذه الامور في الصباح، وكنت اعتقد سابقا ان الحرب الغت هذه الصفوف التعليمية، وكان القائد ايكلي سعيدا حين ذكرني ان المراقبة ليست سوى جزء صغير من واجباتي.
اتصلت بقيادة الجيش عند الساعة الثانية ظهرا لاخبر الكابتن وانيل عن الجمعية الكويتية للهلال الأحمر، وبدا واضحا تطور علاقتي بالقائد ايكلي، علما بان الانسجام كان مفقودا بيننا وفي الساعة الثالثة التقيت الكولونيل جاك فارس، وهو ضابط بحرية الذي وصل للتو من السفينة بيدل هربور، وينحدر من اسرة عسكريين حيث قلد والده وساماً بعد موته وسميت باسمه احدى البوارج.
وكنت راغبا في التحدث الى هذا الجندي قبل اي شيء وفورا تفهم مشكلتي، ولكنه في حاجة الى نوع من القرار الواضح.
الأربعاء 30 يناير 1991
تسلمت مناوبتي عند منتصف الليل، وكانت اخبار احتلال الخفجي تقلقنا خاصة، وفي الصباح اتصلت بالكابتن وانيل لاطلعه على آخر الانباء.
ثم اتصلت بقيادة الجيش والقيادة الوسطى واخبرتهما عن موعد اجتماع الجمعية الكويتية KRC وفريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية وقال لي ايد ميلر انه سيحاول حضور الاجتماع، وحين اتصلت فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية علمت ان قوات سلاح البحرية MEF ارسلوا ضابطاً مخضرماً، وهو جراح وضابط ارتباط لدى القيادة البحرية، وكذلك ممثلين لقيادة الجيش والقيادة الطبية فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية «جورج باراد» دون ماكيني، كولبورن وندار (الخدمات الانسانية)، جون هاربل، هيرب سميث (الصحة العامة).
اتصل كالفن متشل الملحق السياسي من السفارة الاميركية في الساعة الثانية عشرة ظهراً وكان يعرف عن لقاءاتي واراد ان اطلعه على كل التفاصيل، فارسلت له كل ملاحظاتي.
وفي الثانية ظهرا ابلغت د. ابراهيم بهبهاني حول امكانية حضورهم في الاجتماع المقبل، وبعد ساعة اتصل بي ايد ميلر معتذراً عن الحضور لكنه طلب بعض المعلومات، هل البحرية لديهم ما يكفي من ادوية واغذية لوقت الضرورة على متن بوارجهم التي يمكن ان تصبح ملجأ لايواء المصابين؟ هذا ما عملت على معرفته.
الخميس 31 يناير 1991
أخذت في مناوبتي بتجميع المعلومات عن الادوية المخزونة لدى البحرية، وتحققت من وجودها في كل البوارج، لكنهم لا يصرفون للجنود سوى نسبة النصف لوقت الطوارئ، وكانت هناك ثلاث سفن AFS,AOR,AOE لديها هذه المواد لوقت الحاجة، وخلال هبوب اعصار «هوغو» تم جمع مواد الاغاثة مسبقا وتجهيزها للضرورة، ولكن العمليات الحربية اكثر اهمية، وتعقبها الاصابات المدنية.
وصلت تقارير كثيرة عن استعادة مدينة الخفجي، لكن لا شيء مؤكداً وتلقيت بعد منتصف الليل اتصالا من الكولونيل كلارنيل موران يطلب حضوره الى جمعية الهلال الاحمر الكويتية، لكن ما دام هو يرتدي الزي العسكري فان حضوره في البحرين كان غير مقبول، على امل ان يعود يوم الثاني من فبراير.
وفي الصباح لم اعد الى الفندق بل بقيت في الملحق وبوجود الكولونيل فارس في البحرين كان استمرار بقائي هناك يثير اللغط واردت ان اشارك في القرار.
هكذا تناقشنا اكثر معا حول واجباتي ومسؤولياتي، وتبين لي انه لا يعرف كيف يحل مشكلتي.
بدأ اجتماع جمعية الهلال الاحمر الكويتية في الساعة السابعة مساء وكان اوسع اجتماع من نوعه، حيث بدأ فعليا في تمام الثامنة وقد حضره من فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية «رالف يونغ» هيرب سميث (من الطب الوقائي/ الصحة العامة)، جورج بادار (التدريب) اندرو ناتزيوس جون هاربل، دون ماكنزي، وحضر من الجمعية الكويتية د. إبراهيم بهبهاني، د. أنيسة الرشيد، د. جمال الغنيم، ومن الاتحاد الدولي للجمعيات الصليب والهلال الأحمر LEAGUE واللجنة الدولية لجمعية الصليب الاحمر حضر جيان-باتيستا باشيتا، بيير جورجيو نمبريني، جينس آملي، لارس نايس.
وكان هناك ايضا ستيف واينل، بيل بيلدر، جيم ليسلي، ديفيد هاينز، داريو كابوتشي.
بدأت المناقشات بمقدمة من ممثلي فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية وتحديدا بقيادة الكولونيل رالف يونغ، اللجنة الدولية قالت ان هناك اربعة ممثلين في البلاد لكنهم يتوقعون وصول اثنين آخرين، ثم تحول النقاش الى قضية الاغاثة ومن المعروف ان 15 الف طن من المواد الغذائية تكفي لمليون شخص مدة شهر، وقالت اللجنة ان هناك ما يكفي من المواد مخزنة في قبرص و«انتويرب» بما يكفي لنحو 1.8 مليون شخص كذلك كانت السعودية مستعدة لتخصيص عشرة بالمئة من مخزونات المواد لديها للكويت.
وقال الكولونيل سميث انه في حاجة الى طعام، وسرعان ما جاؤوا بكمية منه الى القاعة وقد صدمني ذلك، لكن احداً لم ينبس بكلمة، ولحسن الحظ تم تقسيم الموجودين الى مجموعات عمل، للعمل بشكل مستقل، وتم تأمين مخزون من المواد الطبية في البحرين، واصبحنا نعرف اي انواع من الناقلات نحتاج اليها لارسال المواد الى الشمال واخيرا تم تحديد الاجتماع اللاحق في اليوم التالي عند الساعة الحادية عشرة، ولان ذلك كان اجتماعاً لمتخصصين فقد شعرت بالعزلة وعدم جدوى وجودي.
وناقشت هذا الوضع مع الكولونيل يونغ الذي قال لي بأنني شخص نافع في مكاني هناك، كما انه شعر ان من الواضح ان الكويتيين كانوا يثقون فيّ ويرغبون في التعاون معي، وشكوت له بان البحرية سيمنعون تعاوني معهم، فاجاب بانه سيبحث امر انتقالي للعمل مع فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية، مع استمرار بقائي في البحرين وبعد ذلك عدت الى الملحق لاتابع مراقبة صواريخ السكود.
الحلقة السابعة الكويت للكويتيين.. والأردن يرفض استقبال المزيد من اللاجئين
في الحلقة السابقة تناول الكولونيل الأميركي إيفان بروكس في مذكراته عن «عاصفة الصحراء» عدداً من التفاصيل سواء في وحدته العسكرية بالقوات البحرية الأميركية أو ما كان يحدث في الكويت، إضافة الى تفاصيل الاجتماعات ما بين جمعية الهلال الأحمر الكويتي من جهة والمنظمات الدولية المناظرة العاملة في هذا المجال.
وذكر بروكس أنه تم اعداد المؤونات الغذائية على اعتبار أن 15 ألف طن تكفي مليون شخص لمدة شهر فقط وكشف أن الحكومة السعودية كانت مستعدة لتخصيص 10 في المئة من مخزونات الغذاء لديها للكويت، كما أشار إلى أن الجيش العراقي كان يداهم البيوت ويصادر الأغذية وقال ان تلك المعلومة كانت بمنتهى الأهمية للأجهزة المعنية.
وفي هذه الحلقة يواصل بروكس سرد يومياته فإلى التفاصيل:
طريد من سلاح البحرية
(1-8 فبراير 1991)
كانت علاقتي بالكويتيين تتقدم باطراد، لكنها كانت سلبية مع سلاح البحرية الاميركية هؤلاء كانوا يضايقهم انني اتلقى اتصالات من الكويتيين، فقد كانوا غير متفهمين ماذا يعني ان تقيم علاقة جيدة مع مجموعة متطوعين لأغراض انسانية من المنفيين، وكنت لذلك انتظر من البحرية قرارا سيئاً.
شعرت ان موقفي من الكويتيين كان طبيعيا، فأنا احترمهم واعمل معهم، لكن الاهم انني كنت مراقبا محايدا، وحين كانوا يريدون اتخاذ قرار مستعجل كنت اتخيل عواقبه. وكنت ارغب في توضيح خياراتهم وإبلاغهم اي قرار سيقبله الاميركيون، وفي الوقت ذاته تأكدت من انهم يتفهمون بانهم ملتزمون برغبات اميركية. ومع تعاظم شأن عملي مع جمعية الهلال الأحمر الكويتية ازددت رغبة في تجاهل ضغينة البحرية، وكان ذلك سيؤدي الى نتيجة واحدة فقط.
الجمعة 1 فبراير 1991
عند منتصف الليل بدأت عملي لست ساعات، وبدلا من النوم اخذت بالاستعداد لاجتماع الساعة التاسعة مع فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية وجمعية الهلال الاحمر الكويتية، أكملت الاستعدادات، وكان ذلك لقاء عمل فقط، حيث حضر كل طاقم اللجنة الدولية للصليب الاحمر، والكولونيل بادار مع سميث والميجور هاربيل عن فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية، ثم الدكتور بهبهاني والدكتورة انيسة من جمعية الهلال الأحمر الكويتية.
كانت هناك ثلاثة موضوعات مطروحة للنقاش وهي: تعريف اللاجئين ووضعهم، وضع أسرى القوات المعادية ثم توصيف القانون الدولي ومتطلباته ليكون محايداً.
كان دور القوات الاميركية هو المساعدة على دعم الحكومة الشرعية الكويتية والمواطنين الكويتيين. لكن من هو المواطن الكويتي؟ خلال فترة الاحتلال نقل العراقيون آلاف الفلسطينيين ومواطني الدول المحايدة TCN، والقوات الاميركية لن تكون قادرة على معرفة من هو الكويتي من غيره. الدكتور ابراهيم قال ان هذه ليست مشكلة مهمة لان الحكومة لديها سبع نسخ من سجلات المواطنين، كذلك ان جميع المقيمين في الكويت «من المواطنين وغيرهم» لديهم بصمات اصابع، وقد تم تحديث هذه السجلات حتى تاريخ 2 اغسطس 1990، وهناك نسخة منها في البحرين ولدى الامم المتحدة.
ونظراً لوجود آلاف الاشخاص في الكويت فإن وضعهم سيعتبر أنهم من المقيمين او اللاجئين، لكن من سيكون مسؤولاً عن الاشخاص المبعدين؟ وما المسؤولية القانونية للامم المتحدة وقوات التحالف؟ ومن سيدفع نفقات الصيانة واعادة تثبيت هؤلاء الناس؟ وهل الكويت لديها ما يكفي من المساكن للجميع؟ ثم أين وكيف ستتم عملية انشاء المراكز المعنية وبأي سرعة؟ وهل الكويت ستطرد هؤلاء الناس؟ فإذا كان الامر كذلك فأين سيذهبون؟ ومن سيدفع تكاليف ابعادهم؟
هذه الاسئلة كانت صعبة وأدت الى مواقف حرجة - لاسيما حول الفلسطينين. فهؤلاء عاشوا في الكويت منذ عشرات السنين، والعديد منهم سدد للكويت ديونها عبر الوقوف على الحياد خلال الغزو العراقي او العكس. والآن الكويتيون يقولون انهم يريدون الكويت للكويتيين، لكنه موقف سيلحق الضرر بنحو نصف مليون لاجئ. اذا، ماذا سيكون وضع الفلسطينيين؟ فإعادة اللاجئين ليس هو الحل لأن هؤلاء بلا وطن اصلاً. ومع ان العديد منهم لديهم وثائق أردنية، فان الاردن أعلنت انها لا تستطيع استقبال المزيد من اللاجئين. لكن اذا كانت معسكرات اللجوء او الاعتقال ستقام للفلسطينيين لتكون وطنا لهم، فمن سيدفع تكاليف تلك المعسكرات؟ سألت اذا كان المبعدون Displaced Persons قد نقلوا الى العراق، وفي هذه الحالة هل تكون وكالة الغوث هي المسؤولة عنهم؟
شكلت الاردن نقطة مهمة في الصراع، وأظهرت محطة «سي ان ان» مدى شعبية صدام حسين هناك، كما ان الملك حسين كان عليه ان يسير على حبل دقيق للتوازن بين قوات التحالف والعراق، وهي قضية بدا لي انها حسبت جيداً في وزارة الخارجية الاميركية.
تعقدت الامور اكثر، وكان عدد من الفلسطينين تطوعوا للتدريب من قبل العراقيين، مشكلين قوة شبه عسكرية، لكن هل كان لديهم اسلحة وبزات ومنشآت عسكرية لتكفل لهم وضعهم كقوة قتالية بموجب اتفاقيات جنيف؟ وما المخاطر التي يمثلونها للحكومة الكويتية الشرعية، وكيف يمكن وضع حد للمخاطر؟
بالنسبة الى الاسرى المعادين فقد اكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على «اتفاقية العام 52» وهي ليست احدى مكونات اتفاقيات جنيف لكنها مقبولة كونها تقليداً يمارس في العالم. فقد لا يقبل الاسرى عودتهم الى وطنهم الاصلي ولا سبيل الى فرض الامر عليهم بالقوة، ومن شأن ذلك ان يخلق مجتمعاً جديداً من عديمي الجنسية، وتكون الجهات التي تحتجز هؤلاء هي المسؤولة عنهم، لكني اعتقد ان الكويتيين لم يكونوا راغبين في تحمل وزر أي جنود عراقيين قد يرفضون العودة الى العراق، واذا تم نقلهم قسراً تحت اشراف القوات الاميركية فان الولايات المتحدة ستكون مسؤولة قانونياً عنهم، ومتى عادت الاراضي الى العراق فان على الولايات المتحدة تقديم ضمانات لسلامتهم الى ان يتم التوصل الى مكان يستوعبهم.
في ظل الاتفاقية الاميركية السعودية حول اسرى الحرب كان هؤلاء الافراد سينقلون الى السعودية. فهل ادرك السعوديون تبعات قضية عدم اعادة الاسرى؟
كانت هناك ثلاثة حلول: اولاً، السماح لهؤلاء اللاجئين بالبقاء كلاجئين في الكويت «وهو ما قد ترفضه الكويت»، ثانياً، البحث عن بلد يقبلهم كلاجئين، »وهو ما سيكلف وقتاً وأموالاً»، وثالثاً، اقامة معسكرات لجوء «وهو امر مكلف وليس حلاً نهائيا لان مدة اقامتهم غير محددة».
قدمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر حلولاً اخرى، وتمنت الحصول من العراق على قوائم باسماء الذين تم اسرهم في الكويت، وقدرت السلطات الكويتية ان هناك حوالي 25 ألف اسير اعتقلوا في العراق من بينهم ثمانية آلاف جندي كويتي احتجزوا خلال الغزو «اللجنة الكويتية لحقوق الانسان» التي كان يرأسها ايضاً وكيل لوزارة العدل كانت تسعى لتعريف وتحديد الاماكن المخصصة لهؤلاء بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الاحمر وغيرها من المنظمات الدولية.
كان مواطنو الدول الاخرى TCN لديهم مشاكلهم الخاصة، فهم «اشخاص غير محميين» في القانون الدولي نتيجة للعلاقات السابقة بين بلدانهم ودولة الكويت، لذلك فان سفارات بلدانهم هي المسؤولة عن وضعهم وأمنهم، وقدر ان نحو 50-70 الف اردني كانوا يقيمون في الكويت. الاردن واليمن هما الدولتان الوحيدتان اللتان أغلقتا سفارتيهما لدى الكويت، ما يعني ضمناً الاعتراف بشرعية «ضم» العراق للكويت. وقالت اللجنة الدولية ان ابناء هذه البلدان هم «أشخاص محميون بموجب البروتوكول الرابع لاتفاقية جنيف، ويتمتعون بالحقوق والامتيازات الممنوحة لامثالهم».
كان يفترض بالجمعية الكويتية ان تقوم بدور بسيط حتى يتم اعادة تشكيل وزارة الصحة مجدداً، وكان هدف اللجنة توفير الاغذية والمأوى والمساعدات الطبية الطارئة، الا ان الحكومة الكويتية لم تكن مستعجلة في عملها، وكانت هناك حاجة لان تضطلع بقوة في تأكيد المسؤوليات التعريفية والجداول الزمنية الخاصة بتوفير المساعدات للمناطق المحررة في الكويت.
وتشكلت فكرة لدى الكويتيين ان اللجنة الدولية للصليب الاحمر كانت تساعد العراق بينما كانت هذه اللجنة في الواقع تلاقي عنتاً من العراق. وقد تمت الاشارة الى هذا الفارق بين الحياد والموقف المتمثل في امكانية انتهاك كلا الطرفين للبروتوكولات، علما انني رأيت ان من الصعب على الكويتيين الاستمرار بالتمسك بهذه القضية «هناك فارق كبير بين الفهم النظري والقبول للاتفاقية الدولية».
وعدت ايران بتقديم 150 ألف طن من الاغذية لاعمال الاغاثة داخل الكويت، واعتبرنا ان ذلك سيكون باسم دول المنطقة لان هذه الكميات الغذائية كانت كافية لعشرة ملايين شخص لمدة شهر- وهو يمثل سبعة اضعاف عدد سكان الكويت آنذاك.
لكن كيف السبيل لنقل تلك المواد الى تلك الاماكن؟ ومن سيقدم آلية لتوزيعها؟ كانت الامم المتحدة والجمهورية الاسلامية الايرانية على اتصال خفيف ببعضها وهذا واقع غير مناسب. أرادت فرق الطوارئ واعادة البناء الكويتية ان تصل الى المخزونات الطبية في البحرين لكي تقرر اي مساعدات تلزمها، والكميات التي كانت في القاهرة هي 150 طنا لكن عملياً كل المخزونات الطبية في الخليج كانت تخص وزارة الصحة الكويتية وليس جمعية الهلال الاحمر الكويتية «بما في ذلك جزء من الموجود في البحرين».
كانت المياه حاجة كبرى، فاذا تعطلت محطات التحلية فأين يمكن الحصول على مياه الشرب؟ وعدت تركيا بتوفير 400 صهريج مياه «سعة كل منها 5 آلاف غالون» على ان تأتي عبر الاراضي السورية والاردن والسعودية. لم يكن هذا هو افضل الطرق لكنه الأنسب في تلك الظروف، الا انه كان هناك 53 صهريجاً جاهزة للتحرك، بينما الباقي غير متاح لارتباطاتها بمشاريع داخلية. ولان القافلة تحتاج الى نحو اسبوع لتصل فقد ساورتنا شكوك في وصول المياه في الوقت المناسب، واعتبرنا ان الشهر الاول سيكون محرجاً، وبالتالي لابد من تركيب أجهزة تنقية بالتناضح لضمان توفير كميات من المياه.
خلال الاستراحة أخبرني د. ابراهيم بهبهاني ان وزارة الخارجية الكويتية رفضت عرضاً بالمساعدة من جمعية الصليب الاحمر الاميركية ARC بسبب النفقات الباهظة التي طلبتها الجمعية، ولذلك تحمل وزير الصحة شخصياً المسؤولية عن ذلك القرار، ورغم قلة اهتمامي بالامر فقد تخوفت من عواقب هذه الخطوة على العلاقات بين البلدين.
خرجنا للغداء في وقت الظهر، حيث قدت افراداً من فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية عبر الشارع الى فندق «دبلومات» وتناولنا الطعام في المطعم المقابل على ساحل البحرين، وكانت اسعاره مرتفعة، حيث وصل سعر طبق «تشيزبرغر» والمقالي الى عشرة دولارات، ناهيك عن اسعار المواد الاخرى. وأبلغت القيادة الوسطى عن الوضع الطارئ للامدادات، كما أخبرت فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية بالتطورات الجديدة، وانتهى الاجتماع عند الرابعة مساء.
وفي ذلك المساء قمت بمراجعة الملاحظات التي دونتها مع الدكتور بهبهاني خلال الاجتماع، وعدلت قليلاً عليها وأرسلتها الى القيادة الوسطى. عند الساعة 21.05 اتصلت بالقيادتين العسكرية والوسطى واقترحت ان اكون «مندوبهما في البحرين» وطبعاً لم تكن أي منهما حاسمة في اجابتها. حيث قالت قيادة الجيش ان المناقشات الخاصة بوضعي يجب ان تتبع القوات البحرية بينما قالت القيادة الوسطى انها لم تتفهم طبيعة المشكلة، وكانت تلك اول مرة أتكلم للكولونيل «بوب وورد»، مدير الشرطة العسكرية «فرع الشؤون المدنية» وبدا انه يجهل تماماً هذا الوضع، وأعدت التحدث عن وضعي فدهش لذلك، قال انه ابلغ الكولونيل «كير» في قيادة الجيش للتحرك - وهو ما لم يحدث ووعد الكولونيل بالنظر في هذه المسألة.
عند الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق بدأت مناوبتي، وكنت أقضي مزيداً من الوقت مع الكويتيين من أفراد البعثة حتى أصبح وضعي لا معنى له لدى قوات البحرية.
صهاريج المياه التركية
أرسلت الحكومة التركية أعداداً كبيرة من الصهاريج ولكن الواضح انهم لم يبلغوا بما ستحمله هذه الصهاريج وهو «الماء» والصهاريج كانت للزيت وحين وصلت هذه الصهاريج للكويت كانت المياه ملوثة بالزيت ولم يتم الاستفادة منها لتزويد المستشفيات بالمياه، وقد تدخلت وحدات الشقيقة الكبرى «المملكة العربية السعودية» ومقرها في منطقة صبحان عند المستشفى العسكري عند علمها بالمشكلة وحاجة المستشفيات وخصوصا وحدات غسيل الكلى، قامت بجميع افرادها من مسؤولين من ضباط وجنود بعملية تزويد المستشفيات بحاجتها من الماء سواء من الموجود لحاجة الجيش السعودي او باحضار كميات أخرى من السعودية.
الحلقة الثامنة التقديرات الأولية: 60 % خسائر قوات التحالف عند اختراق الحدود...
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل ايفان بروكس في يومياته عن «عاصفة الصحراء» تفاصيل عن تقديم ايران 150 ألف طن من المواد الغذائية تكفي 10 ملايين شخص لمدة شهر وذكر ان الكويتيين لم يكونوا راغبين في تحمل وزر أي جندي عراقي لا يريد العودة الى العراق وكذلك المبدأ المهم وهو ان الكويت يجب ان تكون للكويتيين وهو ما يعني ابعاد الفلسطينيين وما يعنيه ذلك من مشاكل كانت كبيرة ومعقدة جداً، خاصة ان الاردن كانت ترفض استقبال المزيد من اللاجئين، وللكلفة المادية المترتبة على ذلك.
وكشف بروكس عن ان وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء الكويتي رفض وقتها عرضا بالمساعدة من الصليب الأحمر الأميركي لكلفته الباهظة.
وفي هذه الحلقة يكشف بروكس عن تفاصيل جديدة.
السبت 2 فبراير 1991
عدت من مناوبتي الى الفندق للنوم، وفي الساعة 11:20 وصل الكولونيل «موران» مع اخرين، للعثور على معلومات حول الامدادات الغذائية في مسرح العمليات. وكان هو قد عين في الوحدة السابعة، بينما عين بعض اقرانه في قيادة وحدات بحرية، ونظراً لان العسكريين لا يفقهون الشيء الكثير في الشؤون المدنية فإن اكثر هؤلاء قيل لهم انهم سيكونون جزءاً من موجة اولية للهجوم، وقدرت الخسائر بحوالي 60 في المئة عند اختراق الحدود، فكانت معنويات الكولونيل هابطة. كذلك فان الضباط العاملين في الشؤون المدنية اكبر بنحو عشرين سنة من الجنود المقاتلين، وهم غير مدربين على أمور القتال.
الا ان الكولونيل موران Moran كان يحاول تقدير الموارد الغذائية في مناطق الكويت التي سيتم تحريرها، وقد دقق مع الامم المتحدة في هذا الامر لكن لم تكن هناك امدادات موجودة في البحرين لدى منظمة درء الكوارث بالامم المتحدة. UNDRO وعند الظهر تماماً اتصلت مع كالفن ميتشل في السفارة الاميركية وشرحت له هذه المشكلة فوعدني هو بانه سيدقق الامر مع السفارتين الفرنسية والبريطانية لتحديد الاحتياجات الغذائية.
الأحد 3 فبراير 1991
بعد انهاء مناوبتي في الصباح لم اعد الى الفندق، فقد تم تحديد اجتماع للوحدتين 5/N3 لشرح الموقف وذلك في الساعة 11:30 حيث يتعين على جميع الضباط حضوره.
وعندما انتهى الاجتماع طلب مني الكولونيل «فاريس» pharris ان انتظر قليلاً، وعند الساعة 2:00 اخبرني ان مهمة ضابط الشؤون المدنية في البحرين غير ضرورية، لذلك، بعد مناقشة الامر مع القوات البحرية تقرر ان اغادر البحرين خلال 24 ساعة! وقد ابلغني هو ذلك بطريقة مهذبة، وفهمت ان ذلك ضد رغبته، مع ان غلين ايكلي كان سعيداً بهذه الخطوة.
اتصلت فوراً بالقيادة الوسطى وتحدثت الى «لي فانيت» وسألتها هل أغادر الى الرياض ام الظهران؟ لكنها لم تكن متأكدة من ذلك، وقالت لي ان علي البقاء في البحرين حتى يتقرر كل شيء في قيادة الجيش، وهكذا بقيت أفكر: انني لو بقيت صامتاً لاصبحت في قيادة الشؤون اللوجيستية للبحرية.
في الساعة الواحدة ظهراً اتصلت بقيادة الجيش وتحدثت مع توم ماكنوير، ونصحني بالانتقال الى القوة الكويتية. ولان توم هذا لم يدعم عملي فانني فهمت فوراً انه يريد ان اكون بعيداً عنه.
عاودت الاتصال بالكابتن وينال وشرحت له الوضع، فشجعني على الاستمرار بالعمل مع جمعية الهلال الاحمر الكويتية، لكن دون دعم عسكري. رأيت هذا الامر صعباً جداً، وحاولت الاتصال بالقوة الكويتية طوال ساعة حيث تحدثت مع الكولونيل يونغ، وقد طلب مني التحدث مع الكولونيل فارس، فأعطيت له السماعة.
ورغم انني لم اسمع كل ما دار بينهما من كلام فقد كان سياق الكلام واضحا. قال رالف لجاك انني خدمت جيداً في وحدة الشؤون المدنية في البحرين، وطلب ان تقدم البحرية دعمها لي مادياً لأتمكن من العمل مع الكويتيين، بينما سيفتش الجيش عن موازنة مالية مستقلة ويدعمني من جهته، وقال الكولونيل فارس ان ذلك طلب معقول وانه سيدعمه لدى قيادة الاسطول. وحين وضع السماعة في مكانها قال لي انني اصبحت معفياً من المراقبة لصالح الاسطول البحري وبامكاني العمل مع الكويتيين الا انه حذرني من ان هذا العمل وان كان عادياً في نظره لكنه بحاجة الى موافقة الكابتن كاس kass في قيادة البحرية.
شكرت جاك وفكرت في الامور. فبعد العمل مع البحرية لمدة شهر ليس لي الحق في طلب معونتهم المادية او رأيهم وقررت ان اجد دعماً لحل ما «لأسوأ الظروف» الممكن ان تحدث، لهذا اتصلت بالمستشفى الميداني 47- وهو اكبر المستشفيات المتنقلة في البحرين. ولكني لم استطيع التحدث الى القائد هناك، لذلك عدت الى غرفتي بالفندق مقتنعاً بانني عثرت على حل معقول، فنمت مرتاح البال. استيقظت صباحاً وتناولت الفطور في الفندق، ثم بعد الثامنة اتصلت بالمستشفى الميداني 47 ورتبت لقاء مع قائده عند الساعة العاشرة.
الإثنين 4 فبراير 1991
ذهبت في الموعد المحدد وبدأ الاجتماع. قدمت نفسي للقائد، الكولونيل آلن ميس، واخبرته بانني التقيته أكثر من مرة في السابق، لكن ربما هو لا يعرفني، فأكد لي أنه يتذكرني. شرحت له طبيعة مهمتي في البحرين كضابط ارتباط للشؤون المدنية وعدم تجاوب البحرية معي. ولدهشتي قال هو «أعرف الشؤون المدنية»، فشعرت بالارتياح وأخبرته أن القوى البحرية ستكمل تأمين الأغذية والمأوى لكني احتجت إلى دعم في حال رفضتني تلك القوات. وقال الكولونيل ميس إن جنوده يسكنون في فيلات وإذا لا مانع لدي فسيأمر بأن أبقى في المستشفى الذي يوجد داخل خيمة، فشكرته وقلت له إن هذا عرض سخي.
عدت الى ملحق القيادة واتصلت بالقوة الكويتية وأخبارهم بقراري.
وقد كنت أتحدث مع رالف يونغ حين دخل الكابتن كاس الى المكتب وقال لي: «أما زلت هنا حتى الآن يا كولونيل بروكس؟ لا أريدك في هذا المكان. ولقد أعطينا أوامر بأن تجهز لك غرفة في الساعة العاشرة هذا الصباح. وإذا لم تنتقل اليها بسرعة فأعتقد أن ثيابك وأشياءك سترمى في الممر». وكان القائد إيكلي يتكلف الابتسام في فناء المبنى.
لم أدهش لذلك لأنني كنت أعرف أسلوب الكابتن كاس في القيادة. وقد أبلغت رالف بهذا الوضع وبأنني سأنفذ مخططي بأسرع مما هو متوقع.
وعند الساعة الثانية بعد الظـهر أبلغت القوات الكويتية والقيادة الوسطى وقيادة الجيش بشأن وضعي. وقد شجعني الجميع على البقاء في البحرين لإكمال مهمتي فاتصلت بالمستشفى الميداني واخبرت الكابتن ميس بما حدث.
بعد ساعتين تركت غرفتي بالفندق لأذهب الى خيمة متوسطة على رمال البحرين. فقدم الفندق لي فاتورة، ومع أن الوجبات والاقامة كانت على نفقة القوات البحرية فإن المكالمات الهاتفية على حسابي وبعضها دفعها الرجل الذي كان يسكن معي، وهو من سلاح البحرية، فأخبرت الفندق بأن يحملوا هذه النفقات للرجل الذي سيبقى في الغرفة.
وفي الخيمة أصبحت مقيماً رسمياً وكنت استخدم هاتفهم النقال، واعطيت رقمي للقوات الكويتية وجمعية الهلال الأحمر. كنت قادراً هنا على مرافقة الكويتيين أكثر من قبل، ولكني لا أملك سيارة، لذلك كنت أذهب الى مقر الجمعية بسيارة أجرة. لكني كنت سعيداً اكثر بالقيام بما هو مفيد وبقضاء وقت طويل معهم. وخلال جلسة مسامرة قلت للقيادة العسكرية إن رجلاً يهودياً في الخليج أمر مثير للقلق - ولهذا فإن من المفضل أن أترك تلك البيئة المعادية للسامية - حيث غادرت سلاح البحرية «وانتقلت للعيش بين العرب» (حتى وإن كنت مع جنود أميركيين) ولأنني سأرافق الكويتيين فسأكون أول ضابط يهودي منذ أيام «جوشوا» يكون قائداً لقوات عسكرية عربية».
في الساعة الثانية اتصلت بالقوة الكويتية وتحدثت مع الميجور بروس ألكان. وأخبرني هو أنهم بحاجة إلى رؤية المخزن وما فيه من مواد اغاثة في البحرين. وكنت سأحضر الترتيبات للقيام بهذه الإجراءات.
الثلاثاء 5 فبراير 1991
في الثامنة والنصف اتصلت بالدكتور جمال الغانم وجهزت مخزن المواد الطبية للتفتيش. وحين أخبرت القوة الكويتية بذلك قالوا ان امكانية وصولهم الى البحرين محدودة، وانهم لا يعلمون متى سيتمكنون من العودة الى هناك.
ثم اتصلت في الثانية مع القوة الكويتية وتكلمت مع الكولونيل «بنيت يونغ» فأرشدني الى تجهيز المخزن الطبي فقط، كما كان علي أن أجهز عقود العربات والسائقين والخيام والأشياء الضرورية.
أبلغت قيادة الجيش بالوضع في حوالي الخامسة عصراً، واتصلت فوراً بالدكتور جمال لأبلغه بتلك التطورات الأخيرة. ونظراً لأنني كنت خبيراً في الأمور القانونية والتدريبية وليست لدي خبرة بالأمور الطبية ذهبت الى خيمة القيادة وطلبت من الكولونيل ميس أن يوفروا لي طاقماً طبياً لمساعدتي في عملية التفتيش. في تلك الأثناء ترك د. جمال رسالة في خيمة العمليات. وفي الساعة الثانية رددت على رسالته وأخبرته بالوضع القائم. وقال لي هو ورفاقه (وكانوا يشغلون غرفتين في فندق ريجنسي) إنه في حال حاجتي للاقامة فإنه بإمكاني الانتقال في أي وقت الى عندهم. وشكرته قائلاً: إن همي الآن ينحصر في التعاون مع جمعية الهلال الأحمر وأنني في وضع أفضل للمساعدة مما كنت مع القوات البحرية.
أخيراً اتصلت مع بروس ألكان ثانية وطلبت ارسال رسالة تحية للمستشفى الميداني لشكرهم على مساعدة ضابط الارتباط المدني.
الأربعاء 6 فبراير 1991
أصبح الوقت كله ملكي. فكانت أيامي بلا عمل إلا مع الكويتيين منذ ساعات المساء. ذلك أدى إلى نوع من الارتباك لدى الفريق الطبي في المستشفى المتنقل - ذلك أنهم رأوا أنني لا أعمل الشيء الكثير خلال النهار وكذلك في الليل، وأنني كنت أرتدي الثياب المدنية وأغيب لساعات طويلة في كل مرة. وقد أصبحت معروفاً باسم «الكولونيل فلاغ» Flagg. وحين يسأل أحدهم عن طبيعة عملي كنت أجيب «سأقول لكم ماذا أعمل ولكني عندئذ لابد من أقضي عليك».
في الصباح عدت لمناقشة أمر المهمة الملحة للمستشفى المتنقل مع الكولونيل ميس. قلت انه في حال كانت هناك اصابات خفيفة فإن المستشفى قد يستطيع استيعاب الاصابات المدنية. كذلك يمكنه التقدم لمعالجة الاصابات بعد عزل عنصر مهم منه، وفي حوالي التاسعة وصلتني تفاصيل اضافية حول قضية العزل عن الميجور فروست.
في الثانية عشرة كنت أنتظر د. جمال خارج المدخل الرئيسي، مع أنني لم أحدد أي مدخل له، الأمامي أم الخلفي. وأخذت لذلك أتنقل بين المدخلين حتى وصلت بعد قليل. كان الكولونيل مايك هيث (ضابط صيدلي) وأنا نعاين المواد الاسعافية الموجودة في مخزن البحرين - نيوزيلندا Banz. أخذت صوراً للمواد لأرسلها الى القيادة العسكرية. وكنا نحتفظ باللقاحات داخل صناديق مبردة جيداً، وتحتوي على لقاء ضد الحصبة (ألفي جرعة) ولقاح بوليو (500 - 750) لقاحاً، ثم للتيفوئيد (20 ألف جرعة)، وضد الكوليرا (10 آلاف جرعة)، لقاح ضد الدفتريا والتيتانوس و»البرتوسيس» ومضاد لسم العقارب والأفاعي، وعبوات فارغة (للثلج فقط)، ولقاحات ضد سم الأفعى.
وقال د. جمال الغانم إن الكويت خالية من الأفاعي والعقارب، وهذه الأدوية أرسلت مجاناً من مصر. لذلك هناك أربعة سوائل موجودة في 22 «بالة» ( بكل منها 25 - 26 علبة)، ويوجد داخل كل بالة 4 رزم، وكان عدد البالات ثمان اضافة الى ثماني باليتات مقدمة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وعموماً، قدّر الكولونيل هيث أن ما بين 7 - 10 ناقلات صغيرة ستكون كافية لنقل هذه الأشياء (حمولة كل منها 2.5 طن). وكان الحجم أهم من الوزن في النقل. وكانت هناك شحنات أخرى مخبأة في ( سيترا) الى الجنوب بعشرة كيلومترات. وأصبح الحمل يعادل 25 في المئة من المواد المتبقية. وقال د. ابراهيم انه كان على اتصال مع الشركات المدنية وسيكون السائقون متواجدين في غضون 48 ساعة. ولم يتم تأمين المواد من الهلال الأحمر، بل من الحكومة الكويتية، مع حراسة من الهلال الأحمر.
في الساعة الثالثة عصراً اتصلت مع بينيت يونغ وأبلغته عن نتائج المعاينة. وبعد ساعتين اتصلت مع القيادة البحرية وطلبت الإذن باستخدام الكمبيوترات لديهم وأجهزة الفاكس، لكنهم رفضوا طلبي، فاتصلت بالدكتور ابراهيم وناقشت معه تلك النتائج كلها.
الحلقة التاسعة الهلال الأحمر تطلب 300 سترة واقية تحسباً لضربات بالأسلحة الكيماوية
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي ايفان بروكس في يومياته عن عاصفة الصحراء عددا من الأحداث من أهمها ان التقديرات الأولية التي قدرها الخبراء العسكريون تصل الى 60 في المئة خسائر قوات التحالف عند اختراق الحدود.
كما ذكر اشارات كثيرة عن اعداد الجرعات الوقائية وأنواعها كاحتياطات صحية سواء تحسبا لأي حرب جرثومية أو لانتشار عدوى بين الجنود وتفاصيل أخرى كثيرة عن أوضاع قوات الارتباط الخلفية التي تقوم على تقديم المعونة والدعم اللوجستي للقوات على جبهة الحرب، إضافة الى الاعداد لمهمات ما بعد التحرير.
الخميس 7 فبراير 1991
رجعت الى القيادة البحرية لاستخدام كمبيوتراتهم في الساعة الثامنة صباحاً بهدف حفظ تقاريري. كنت واثقاً من عدم قبولهم لكن ماداموا يملكون العديد من الأجهزة فما المانع من استخدام واحد منها؟ ورآني القائد إيكلي وسألني عن سبب عودتي، وحين أخبرته بأنني هناك لاستخدام الكمبيوتر فقال إنني لم أعد تحت إمرتهم وليس مسموحاً لي ذلك. قلت بنفسي إن هذا ليس غريباً على هذا السلاح حقاً.
وعند الساعة الثانية عشرة عدت الى المستشفى. وأخبرني الكولونيل ميس بأن لديه اجتماعا اسبوعيا، في كل يوم أربعاء، في السفارة الأميركية وأن بإمكاني الحضور معه، وكان ذلك مدعاة للمقارنة في التعامل قياساً مع سلاح البحرية.
كذلك طلب هو من الميجور فوستر بأن يطلعني على تفاصيل مهمة المستشفى الطارئة. وكان هذا المستشفى أقيم في البحرين خلال أكتوبر 1990 من قبل القيادة العليا (الفرقة الطبية 44) ليكون وحدة طبية متنقلة Hu للأغراض العسكرية والإنسانية، ولكن مع ذلك لم تكن هناك حاجة ماسة لمهمته الطارئة.
على كل حال، تصرف الميجور فوستر في الاطار النظري، فأفادت خططه كنموذج مولّد لتوفير الامداد الطبي في أرض المعركة. ويتكون المستشفى المتنقل من ثلاث وحدات، كل منها قادرة على توفير عشرة أسرّة في وحدات صغرى للعناية الفائقة ICU، وثلاثين سريراً طبياً. كذلك، بوسع الوحدة التابعة للقيادة توفير مئة سرير للعناية الطبية (ويصل عددها الاجمالي الى 400 سرير). وتتركز الفكرة الأساسية وراء المساعدات الطبية الميدانية من تأمين المعالجة للجنود واخلاء المصابين، ثم الدعم الميداني الطبي والعلاج العام (وهذا يمكن أن يصل الى الف سرير). والمستشفى الميداني هو مستشفى ثانوي، ولديه مختصون لكن ليس أنصاف مختصين. وهناك مستشفيان في موقع العمليات هما المستشفى 47 والمستشفى 300.
في العادة يكون لدى المستشفى الميداني حوالي 40 سيارة بحمولة 1.5 - 2 طن، وفي الميدان تم اختصار عملية نقل المواد الى تسع عربات، ما يعني ان هناك حاجة للاستعانة بعربات نقل خارجية إذا كان يتوجب خدمة الأماكن المتقدمة. وربما يكون الموقع البعيد يحتاج الى 72 ساعة (بسبب فحوص أشعة إكس X-ray، والعناية طارئة مع وحدة عناية فائقة)، ويقوم الطاقم الطبي على إقامة الخيم وهي المتخصصة ومكيفة، وتحمل الوحدة مواد ضرورية وادوات تكفي لمدة 5 أيام.
ونظراً للتقديرات الخاصة بالإصابات العسكرية فإن أي بعثة إنسانية يمكن اعتبارها موضع نقاش، كان هناك نقص في العناية الطبية العسكرية المتخصصة، حتى بالنسبة الى المنشآت الطبية الأوروبية والمستشفيات المدنية المحلية.
وإذا أريد استغلال وحدة العلاج المتقدمة لمساعدة المدنيين فإن بإمكانها مساعدة حوالي مئة مصاب في كل من المجالات التالية: طب الأطفال، التوليد، طب النساء، الباطنية، طب الأسرة، طب العظام، الأنف والأذن والحنجرة والعيون، وهناك طلب لإضافة طب الأسنان والطب الوقائي، وفحص الأغذية.
وبعيد الساعة الثانية عشرة اتصل جيان باتشيتا، حيث كانت فيزات دخول موظفي اللجنة الدولية ICRC قيد الإنجاز. إن المسائل البيروقراطية قائمة دوماً خلال الحروب. والمدنيون الذين يخططون للمرور عبر الأراضي السعودية ينبغي أن تكون لديهم جوازات سفر وفيزا دخول صالحة.
وعند الساعة الواحدة نقلت ما لدي من معلومات الى فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية، وطلبت اعداد وثيقة خطية حول وضعي كوني أعمل لمصلحتهم. وقيل لي إنهم «يعالجون الأمر». وفي الساعة الخامسة أبلغت القيادة الوسطى حول وضعي الذي كان يبدو غائماً.
الجمعة 8 فبراير 1991
أبلغت الملحق لدى القيادة بذلك من أجل طباعة الوثيقة لدى القوة البحرية. وعند الساعة الثانية عشرة اتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية حيث علمت عندئذ ان اجتماعاً يتم في الظهران مع اللجنة الدولية ICRC. وكان ذلك يتعلق بي شخصياً. لكن لماذا لم يدعونني إليه؟
هل معنى ذلك إمكانية ابعادي مجدداً؟ وفي الساعة الثالثة تبددت مخاوفي عندما اتصل بي د. إبراهيم الذي لم يكن مدعواً للاجتماع ايضاً، وأراد أن يعرف موضوع ذلك الاجتماع.
وفي الساعة السابعة تلقيت رسالة من فريق الطوارئ حول حقيقة الاجتماع. وكان موضوعه للتعريف ولا علاقة للدكتور ابراهيم أو لي شخصياً بالأمر. وبعد نحو ساعة علمت أن جمعية الهلال الأحمر الكويتية ستتسلم 28 طناً من المستلزمات الطبية خلال الساعات المقبلة، فقمت في الساعة التاسعة بابلاغ القوة الكويتية بذلك.
الفصل 8
مدينة الخيام (9 - 17 فبراير 1991)
كنت أسكن وحدي في خيمة متوسطة الحجم متعددة الأغراض، وكان هناك متسع جيد فيها، وأشعر بالراحة حيث أتحرك على مزاجي نهاراً وأذهب لحضور اجتماعات الجمعية الكويتية للهلال الأحمر في المساء. ولذلك أقوم باتصالات مع الجمعية ومع فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية وبعض الوحدات العسكرية الأخرى للتنسيق، وكل ذلك جهد شخصي، وخلافاً لما كنت سابقاً مع قوات البحر لم يعد بي حاجة للتظاهر بالانشغال، ولا أواجه ضباطاً أنانيين يريدون صنع مجد شخصي لهم.
كنت أتناول طعامي في خيمة عادية قريبة، لكن الطعام لم يكن جيداً قياساً بالفندق ولكنه متوفر. وكنت أذهب إلى تلك الخيمة لأشرب الكوكاكولا أو عصير البرتقال. زجاجات مياه الشرب ومساحيق التنظيف متوافرة في خيمة القيادة، وكذلك غسل الثياب لدى وحدة الدعم العسكري، حيث أغسلها مساء وأجلس للقراءة ريثما تجف. كان ذلك كمسكن عاد لي.
كانت خيمة الخدمة المشتركة USO على مسافة قصيرة وفيها تعرض أفلام مؤجرة مختلفة، من الكوميديا حتى الدراما مع أنه كان هناك تأكيد على الأفلام الحربية مثل «توب غون»، ممفيس بيل وغيرهما. وكان المتطوعون في تلك الخيمة من الجالية الأميركية، أكثرهم يعمل لدى مدرسة وزارة الدفاع. ولأن المدرسة في ايام راحة كان المعلمون لديهم وقت فراغ طويل. وكان الى جانب الأفلام هناك تعليم للرقص واللغة العربية وأشياء أخرى. وهناك لا تجد الحلويات بكثرة مساء، فكان الجو محبباً.
لم أبلّغ عن أي إنذارات عن صواريخ سكود في منطقة المستشفى - أو أنني لم أسمعها، وكنت أتعجب من دقة مراقبة البحرية للصواريخ بعكس هنا.
ذات مساء جاءت جماعة الخدمة المشتركة ثياباً عربية، هي الثوب والغترة، لالتقاط الصور ونحن نلبسها. وأرسلت صورتي الى اسرتي فلم تتعرف زوجتي علي، متسائلة عن سبب ارسالي صورة لعرب إليها، لكن أولادنا أخبروها عن وجودي بالصورة.
تبدأ البرامج المسائية عادة منذ السابعة، أي قبل ساعة من موعد ذهابي الى الكويتيين المجتمعين، علماً أن الاجتماعات نادراً ما تبدأ في موعدها المحدد، ولكن هذا غير مهم عندي. فليس لدي ثمة ما أفعله غير ذلك. كما أن الكويتيين كانوا كرماء فيقدمون لي القهوة التركية والحلويات المحلية.
كان هناك وقت عادي و»وقت كويتي». والمرونة هي مفتاح النجاح. ولعل أصعب أمر علي هو أن أتفهم سبب عدم رغبة الدكتور بهبهاني تحديد وقت محدد للاجتماع في اليوم التالي. وقلت له انني أتمنى أن أراه في وقت «كذا» وكان يرد بقوله «إنشاء الله». ولم أفلح في جعله يرد بكلمة «نعم، سنلتقي غداً في الساعة (كذا)» خلال مرافقتي له. وكان لهذه الفكرة البسيطة دور كبير في التمييز بين أهمية الوقت بالنسبة للغربيين ولدى المسلمين.
كان المستشفى الميداني على مسافة أميال من مبنى جمعية الهلال الأحمر البحرينية، لذلك يتعين علي استئجار سيارة أجرة. والمساومة مع سائق التاكسي مسألة تحتاج إلى خبرة في الخليج. فأسعار التاكسي قابلة للأخذ والرد، ويجب معرفة الأجرة قبل الصعود إليها. وكانت الأجرة عادة الى مبنى الجمعية ما بين 2 - 3 دنانير بحرينية، تبعاً للسائق، وكانوا يزيدون الأسعار فأقول انني اعتدت أن أدفع ما بين 2 - 3 دنانير سابقاً، فيقتنع بهذا الأجر. وبعد انتهاء الاجتماعات كان أحد الكويتيين يوصلني الى خيمتي، اما د. إبراهيم أو أنه يكلف أحدهم بايصالي الى «داري».
أصبحت اجتماعات الجمعية عملاً ممتعاً بحد ذاته. ومع أن مضمون تلك الاجتماعات متشابه لكن القضايا التي تطرح كانت مهمة. وكثيراً ما كت أتساءل عن سبب تأخر اتخاذ قرارات حاسمة. إلا أن الجمعية كانت منظمة تطوعية، والقرارات بحاجة إلى اجماع وليس بالفرض، علماً أن أحداً لم يتعرض لمسألة قيادة د. ابراهيم للجمعية.
السبت 9 فبراير 1991
سألت ثانية فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية عن اجتماعهم مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فقالوا ان الاجتماع كان مشابهاً لما حدث في البحرين. لكن بعض أفراد فريق الطوارئ لم يكن حاضراً في الاجتماعات السابقة أراد أن يلتقي جماعة اللجنة الدولية. وأخبرني الكولونيل يونغ بأنني سأرافق الجمعية الكويتية الى الأراضي الكويتية متى حصلت على الإذن بذلك.
وفي الساعة العاشرة اتصلت بقيادة الجيش وأبلغت الميجور «ترومبيتا» أن وضعي يبدو قد تعدل. وبعد ساعة اتصلت بالدكتور ابراهيم وأخبرته بما قيل لي صباحاً.
وعند الساعة الواحدة اتصلت بفريق الطوارئ لكن الخطوط كانت مشوشة، وأخيراً، بعد أربع ساعات هاتفت الكولونيل هيرب سميث وأخبرته عن الاجتماع الأخير للجمعية الكويتية.
وفي الساعة السابعة اتصل د. ابراهيم وقال إن المزيد من الامدادات قد وصل لكن الكويتيين بحاجة الى 300 بزة واقية وتأمين نقل جوي للمواد عندما أعطي الأمر بالتقدم. وإذا كانت المواد الكيماوية ستستعمل من قبل العراقيين فإنه يتوقع وقوع خسائر فادحة، وسيحتاج أفراد البعثة الكويتية التطوعية إلى تلك البزات الواقية.
الأحد 10 فبراير 1991
في التاسعة صباحاً اتصل د. جمال ليقول ان المواد الإضافية وصلت، وإنها تدخل الى المخازن. كان الكويتيون يطلبون مساعدتي في التفكير بنصب الخيم التي تسلموها سابقاً من عدد من جمعيات الصليب الأحمر. تجاوزت ما لدي من خبرات في هذا المجال واتصلت بالمستشفى الميداني 47 لتوفير المساعدة المطلوبة أرسلوا لي ضابط صف متقدم لمساعدة الكويتيين، وكانت الخيمة جاهزة للتدريب بعد ظهر الثلاثاء.
تحدثت عند الظهر مع د. ابراهيم بشأن الانتقال الى الظهران لحضور اجتماع مع فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية. ومع أن العسكريين كان يمكنهم قطع الحدود البحرينية السعودية بسهولة إلا أن العرب ليس لديهم هذه الإمكانية. وفي حين اعتقدت أن الكويتيين بحاجة الى فيزا لكن في الواقع كان العرب الخليجيون ليسوا بحاجة اليها عملياً. على أي حال، كان البحث يتركز على أن سيارة مسافرة تحتاج إلى أربع ساعات لقطع الحدود. وكان على د. ابراهيم التأكد من أن انتقال المتطوعين الكويتيين كان مؤمنا لهم سلفاً إذا ما أردنا دخول الأراضي الكويتية في الوقت المحدد.
كان الأميركيون والممثلون للحكومة الكويتية يريدون استنباط خطة عمليات متماسكة للتقدم. وبعد ست ساعات تم إلغاء الاجتماع - ذلك ان الدكتور «عبد الرزاق « والذي كان مريضاً وأراد تأجيل الاجتماع الى وقت لاحق.
عند الساعة الثانية أبلغت فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية عن وضع الجمعية الراهن. وكان علي الاعتماد على الدكتور ابراهيم ومن ينوب عنه لتحديد سرعة التقدم. وكنت أفهم سبب قلق الكويتيين ورغبتهم في العودة الى وطنهم، وأنهم مستعدون للتحرك وقت الضرورة. وكانت مشكلتي الكبرى هي التأكد من مغادرتهم بعد حصولهم على الإذن وليس قبله. ولم تصدق القيادة العسكرية إن متطوعي الجمعية الكويتية سيبقون مع الجمعية بعد دخول الكويت. ولأن الجمعية الكويتية هي إحدى الجمعيات القليلة التي تسلمت الإذن بالدخول مبكراً فإن القيادة العسكرية شعرت أن عدداً من الكويتيين قد تطوعوا ببساطة من أجل العودة الى وطنهم، وأنهم سوف «يبتعدون» حالما يدخلون، ولم أستطع تحديد مدى الإنهاك الذي سيصيب الجمعية الكويتية، لكني اعتبرت تلك مشكلة داخلية. وكضابط ارتباط أميركي شعرت بأن علي تقديم المساعدة لهم في التحرك شمالاً.
«الخوف»
لقد كانت الحكومة مهتمة لعدم قبول المتطوعين من العسكريين لانهم مطلوبون للالتحاق بوحداتهم، وكان بعضهم يفضل العمل تحت مظلة الهلال الاحمر لتجنب الخطر من الاشتباكات.
وقد ذكرت سابقاً ان عامل «الخوف» هو سبب رئيسي للتطوع او عدمه.. رغم ان الجمعية قد دربت في البحرين اكثر من 350 متطوعاً ومتطوعة، الا انه حين اعطيت الاشارة لدخول الكويت عدد من تقدم للدخول كان أقل من مائتي متطوع ومتطوعة.
وبدخولنا للكويت اختفى عدد كبير منهم ليذهبوا الى بيوتهم، وجاءتني اعداد اخرى تريد العودة للبحرين لان الاوضاع رغم انها لم تكن سيئة، الا ان عامل «الخوف» كان واضحاً، ودبرنا سيارة نقل ركاب لاخذ من يريد الرجوع الى البحرين بعد اربعة ايام ومن تبقى معنا لم يتجاوز الخمسين متطوع ومتطوعة، الا ان متطوعينا ايام بداية الغزو التحقوا بالجمعية وكان لهم دور رئيس بعد التحرير كما كان اثناء «بداية» الاحتلال.
الحلقة العاشره 25 مليون دولار كلفة المستشفى 47 الميداني
في الحلقة السابقة ذكر الكولونيل الأميركي ايفان بروكس في يومياته عدداً من الاشارات عن حجم الاستعدادات اللوجيستية الضخمة والتفكير في كل صغيرة وكبيرة شاردة أو واردة سواء عن التفاصيل اليومية في منطقة القيادة أو الكويت خلال التحرير أو خطط ما بعد التحرير.
وأستذكر بروكس كيف كان يقضي أوقات الراحة في السمر والترفيه على قلتها وأسعار التنقلات حين ذهابه للاجتماعات وغيرها من التفاصيل:
حلقة 10
الإثنين 11 فبراير 1991
اتصلت بالدكتور جمال في الصباح. طلب قيام متطوعي الجمعية بزيارة المستشفى الميداني 47 للاطلاع على كيفية عمل مثل هذه المستشفيات. بدا ذلك جيداً لي فطرحت الموضوع على الكولونيل ميس. وفي الساعة العاشرة اتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء وأخبرتهم عن هذا المشروع، فعبروا بدورهم عن الرغبة في هذه الزيارة، وقالوا ان الأميركيين والكويتيين هناك يهمهم الحضور. وقد وجد هؤلاء مصدراً ربحياً لتسويق البزات الواقية - وذلك في نيوجيرسي! وبعد ساعة نقلت للكويتيين معلومات (تتعلق بالسعر والمصدر).
بعد الظهر شعرت بالألم واتصلت بالجهة المعنية، إذ كنت مصاباً بالأنفلونزا، لكن لم يكن لدينا متسع من الوقت، فتناولت دواء Tylenol وتابعت العمل. وعند السادسة مساء أعلنت أن الخيمة المعدة للتدريب ستكون جاهزة للتدريب في اليوم التالي. وكانت هناك أسئلة عما إذا كان د. جمال بحاجة الى إذن رسمي من الحكومة البحرينية لكني تركت هذا الأمر للكويتيين. ولأن عدداً قليلاً من الخيم كانت ستؤخذ من المخزن لنصبها ومن ثم اعادتها ثانية إليه فإنني شعرت أن هناك قلة خبرة في إدارة العمل. وكان علي أنا والرقيب لقاء الدكتور جمال وبعض المتطوعين في العاشرة والنصف من اليوم التالي.
الثلاثاء 12 فبراير 1991
أكدت منذ الصباح على لقاء الدكتور جمال. ولدهشتي التقينا في الموعد المقرر عند موقع البحرين/ نيوزيلند Banz. وهناك أخذنا ما يكفي من الخيام من كل شحنة على أمل الحصول على خيمة لكل منا على الأقل. الخيام النمساوية سهلة التركيب. وهكذا أصبح لدينا خيمة تتسع لثمانية أفراد بلون ابيض ويعلوها رمز للصليب الأحمر، إلا أن الخيام التشيكية كانت حكاية مختلفة، لأنك لا تدري أيا هو جانبها، وأيا هو الأرض، ولم تكن مرفقة بتعليمات لتركيبها، بل كان الأمر منوطاً بمعرفتنا.
نصبنا الخيام فكان المنظر غريبا، كيف أن يهودياً يعلم كويتياً من عالم الصحراء كيفية نصب الخيمة. الحقيقة أن الكويتيين كانوا يجيدون نصب خيامهم الخاصة، وكما قال الرقيب فإن حماستهم ومعنوياتهم كانت تعوّض عن معرفتهم القليلة. وحين سألت جمال عن سبب حاجتهم للمساعدة من الأميركيين أجابني بأن أغلب تجربتهم في نصب الخيام إنما جاءتهم من قبائل «وينيباغوز»- وهذا سوء فهم اضافي.
اتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية في الساعة الثانية فقالوا إنهم يتمنون تأجيل الاجتماع والجولة في المستشفى الى يوم الأحد، وأخبرت د. ابراهيم عن هذا كله، ودونت ما لديه من قوائم بالمواد الطبية التي طلبها.
جلست أصيغ ملاحظاتي فاتصل بي خلال ذلك د. ابراهيم وقال إن عقود الشاحنات التجارية فشلت. كانت شركات النقل قالت للدكتور ابراهيم ان تلك العربات ستكون جاهزة في غضون 24 - 48 ساعة، وذلك قبل بدء الحرب. وكانت قوات التحالف منشغلة في تأمين المواد المخزنة، ومعظم شركات النقل ملتزمة في هذه الأعمال. ذهلت لذلك. فالعقود ليست موقعة مع انني كنت أعتقد أن الكلام الشفهي يحترم جداً في الخليج وأكثر مما هو في أميركا.
وسألني د. ابراهيم عن امكانية قيامي بتأمين واسطة نقل أميركية. فأجبته بأن هذا مستحيل. وشرحت له الظروف ومدى النقص الحاد في تأمين عملياتنا الد خاصة. لذلك فتأمين شاحنات لنقل مئات الأطنان من المواد الطبية المدنية الكويتية سيكون أمراً مستحيلاً. زد على هذا ان هناك سبباً رئيساً لتفعيل مهمة ضابط ارتباط مدني وهو الارتقاء جيداً بالمساعدة المدنية وتقليل الاعتماد على وسائل النقل العسكرية.
أخبرت الدكتور ابراهيم بضرورة الاستمرار للتحضير لتأمين وسائل نقل تجارية، من أي مصدر كان وافادتنا بما يحدث ومن ثم اتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية وابلغتهم بهذه الورطة.
الأربعاء 13 فبراير 1991
عند الثامنة صباحاً ذهبت الى وحدة الشؤون الادارية مشياً على الاقدام، علني أؤمن جهاز كمبيوتر لكتابة تقريري الذي سأقدمه الى قيادة الجيش وفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية ، ومع ان وحدة الدعم الاداري كانت ملحقة بالقوات البحرية لكن امكانية تأمين جهاز كمبيوتر هناك لم تكن ميسرة.
اتصلت بعد ساعة ونصف الساعة بجمعية الهلال الاحمر الكويتية ورتبنا لاجتماع يوم الاحد. وعدت فوراً الى خيمتي. وفي الحادية عشرة تم استدعائي الى خيمة العمليات. كانت الجمعية على الخط، وأبلغوني ان شحنة الادوية الطارئة من جمعية الصليب الاحمر الايطالية سوف تتأخر. وبعد ساعتين اتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية لتأكيد المعلومات حول الاجتماع يوم الاحد، لكنهم لم تكن لديهم اي خطط مؤكدة، لذلك أكدت على الزيارة الى المستشفى الميداني واتصلت عند الساعة الخامسة بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية فطلبوا ابلاغهم بالتفاصيل في الغد.
الخميس 14 فبراير 1991
في الساعة التاسعة اتصلوا بي من الجمعية الكويتية، هل تم تأكيد أمر الاجتماع؟ ولكني لم اتمكن من الاتصال بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية حتى ساعات الظهر، وأبلغوني عند الساعة الواحدة انهم سيتصلون بي بعد نحو خمس ساعات.
عدت لاتصل بالقيادة الوسطى حوالي السادسة فقيل لي ان اكثرية اركان القيادة العسكرية تتحرك باتجاه «الجبيل».
ومن الضروري الاتصال بعد الان مع القيادة العسكرية وبعض الجهات الاخرى، وبعد نصف ساعة تحدثت مع فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية بشأن اجتماع يوم الاحد، فكانت الاخبار غامضة.
الجمعة 15 فبراير
في السابعة صباحاً ناقشت الامور مقترحاً زيارة للمستشفى الميداني مع الكولونيل ميس، وأخبرني بضرورة تحضير قائمة باسماء الجنود الذين سيتم استقبالهم في القاعدة. فقمت بسرعة بابلاغ جمعية الهلال الاحمر الكويتية، وخلال ساعة حصلت على قائمة بالاشخاص، ما مكنني من اجراء تصحيحات على القائمة الخاصة بي.
وعند الساعة الحادية عشرة طلبت فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية تعديل الوقت الخاص بالاجتماع، فاتصلت بالكويتيين واخبرتهم بالتعديلات الاخيرة.
وبعد ساعتين تلقيت اتصالا من فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية وابلغوني بتلك التعديلات وقررت ان انتظر قبل ابلاغ احد بهذه التغييرات الجديدة وبعد اربع ساعات من ذلك اتصلوا من فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية مرة اخرى وابلغوني بآخر التعديلات لديهم، فقمت بابلاغ المستشفى وجمعية الهلال الاحمر الكويتي بهذه التطورات التحضيرية الاخيرة.
السبت 16 فبراير 1991
طلبت من جمعية الهلال الاحمر الكويتية في التاسعة صباحاً ان توافينا بمعلومات عن المواد المراد شحنها بشكل اولي. كم من الآليات يتوقعون استخدامها؟ وما المعلومات الارشادية التي يجب تركها للوحدات المقاتلة في مؤخرة الجيش؟ ولدى التخطيط لهذه العملية هناك عشرات الاسئلة التي تحتاج الى اجابات. وكنت حراً في مساعدة الكويتيين قدر ما استطيع، لكن تنقصني الخبرة في التحضير لهذه الاعمال.
ذات مساء كنت برفقة الدكتور ابراهيم وهو يتجه ليوصلني الى البيت فسألني قائلاً «في كل مرة نريد تجهيز خطط معينة او تنظيم امور معينة تكون لديكم قوائم في اذهانكم. اعتقد انكم منظمون جداً. فكم حرباً خضتم؟» نظرت اليه وقلت: حسنا، هي حرب واحدة فقط. فدهش الدكتور ابراهيم متسائلاً عما اذا كان تدريبي العسكري يتضمن مثل هذه التفصيلات. وقد اجبت بان هذا هو عامل حاسم، اعني التدريب العسكري المكثف. ولكن لدى التفكير اكثر في الامر اكتشفت ان السر يكمن في تاريخي العسكري فقد كنت قارئاً نهماً للكثير من تاريخ الحملات العسكرية الى جانب هوايتي للتخطيط العسكري، وعند الساعة الحادية عشرة أبلغت فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية عن تقدم الجمعية الكويتية، لكنني كررت طلبي للمزيد من المعلومات عن الاجتماع الذي سينظم في اليوم التالي، وهكذا عدت الى خيمتي فوجدت فيها جنديا شابا برتبة واسمه «بول ويبو»، فتعارفنا وعلمت انه ضابط من الوحدة الطبية أرسل لاجراء تفتيش على الأطعمة بالمنطقة، وقد زار مركز توزيع اللحوم للجيش وأكد لي انها لحوم مقبولة، ولان والدي كان يخدم في مثل هذه الوحدات لدى الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية فانني استوعبت مهمته بشكل جيد.
باشر «بول» فورا في تمديد أسلاك الأنوار للخيمة وأسهم كثيرا في تحسين وضعنا المعيشي، وبعد ذلك جلبت لعبة «جيغسو» من ألف قطعة كنا نتلهى بها خلال ساعات الفراغ، وكنا نتشارك على وجبات الطعام، كما عرفني بول على الليفتنانت فرانك باسكاريلي، وهو ضابط في الخدمات الطبية ومعالج في الوحدة، وقد حدثني فرانك عن أعظم «أسطورة مدنية» (وربما يجب تسميتها «أسطورة الصحراء») في الحرب، وكانت هناك روايات عدة لتلك الحكاية لكن خلاصتها هي ان أحد جنود المارينز تلقى شريط فيديو من زوجته. وكانت تظهر في ثوب رقيق للبيت وتحّيي زوجها، فهاجمها رجلان وخلعا ثيابها، وحدث ما حدث، وفي نهاية الفيلم تظهر الزوجة لتقول لزوجها «عزيزي، اريد ان تطلقني، والآن حالا!». وأدى ذلك الى صدمة الجندي ما استدعى اعطاء الجندي مهدئات قوية وأعيد الى أميركا، والناس يتناقلون هذه الرواية باستمرار، وهناك حكايات مشابهة لها تروى خلال الحروب، وهذا ما حدث في حرب التسيعينيات كما حدث في النسخة الالكترونية من رسالة «العزيز جون» (وهي رسالة موجهة من امرأة الى زوجها او حبيبها لتقول له ان علاقتهما قد انتهت - المترجم).
عند الساعة الثانية ثم مراجعة المعلومات الخاصة بالاجتماع، ولا شك ان استخدام الهاتف للدعوة الى مؤتمر دولي أمر متعب، ثم ان المعلومات ليست «نهائية»، حيث اتصلت فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية بعد ثلاث ساعات من أجل مراجعتها لآخر مرة.
وفي حين كنت أعرف مدى مرونة جمعية الهلال الأحمر الكويتية، فان المعلومات الخاصة بالمستشفى 47 الميداني لم تكن تنجز بسرعة، كانت هناك مسؤوليات اخرى ملقاة على عاتق موظفي المستشفى، ورغبتهم في القيام بزيارة أمر لم أرد ان أسيئ اليها، وهكذا أرسلت المعلومات حول تغيير الموعد للكولونيل ميس لخطة تسلمي لها.
الأحد 17 فبراير 1991
في العاشرة والنصف صباحا أرسلوا لي من المستشفى سيارة مع سائقها، فأوصلني الى فندق «الدبلومات»، فشكرته وأرسلته الى المستشفى الميداني 47، وبعد ساعة علمت ان الاجتماع تأجل حتى الثانية ظهرا فأبلغت المستشفى بهذه التطورات.
بدأ الاجتماع في الثانية والنصف، ولم يكن هناك أشياء مستجدة، وكنت عصبيا عديم الصبر فطلبت من المجتمعين وقف النقاش مبكرا للعودة الى المستشفى، لكن يبدو انني كنت الوحيد الذي ظهر مستعجلا ثم اخيرا قال الكولونيل يونغ ان الأفضل ان ننهي الاجتماع.
وقد أسر هولي قائلا انني الضابط الوحيد في الموقع الذي يبدي جرأة لطلب اجتماع بهذا الوزن، وبحلول الساعة الرابعة كنا على أبواب المستشفى الميداني 47، وكان الحرس هناك لا يسمحون للكويتيين والأميركيين (وكلهم يرتدون اللباس المدني) بالدخول، فأسرعت نحو الرقيب آمر الحرس، وأوضحت له الامر، وحين عرفني طلب مني التعرف على كل شخص قبل السماح بدخوله، حتى دخل الجميع.
كان الكونيل ميس وكبار الضباط ينتظرون في خيمة الاعلام وأعطوا الأوامر بالبدء فورا، وقدم الضباط شرحا وافيا وجيدا ومن ثم دعونا لزيارة أقسام المستشفى المتنقل 47» وكان الموقف مؤثرا، وسألهم د. جمال الغنيم عن كلفة المستشفى، فرد المعنيون بانه يكلف نحو 25 مليون دولار، حيث كان الكويتيون يحسبون العدد الذي «ينبغي» عليهم شراؤه، كانت المشكلة تتمثل في توافر هذه المنشآت المحدودة العدد نتيجة لظروف الحرب، حيث كان من الصعب «انشاء» مستشفى ميداني بشكل مستعجل.
لكن الزائرين من الجمعية الكويتية وفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية كانوا متأثرين اعجابا بتلك المنشآت والامكانات والطواقم الطبية في المستشفى، وفي نهاية الجولة شكروا الكولونيل ميس ومعاونيه وغادروا.
وفي ذلك المساء خرجت للعشاء، فعلق عدد من الضباط قائلا انني قمت بعمل جيد، وكانت تلك أول مرة اسمع مثل هذا الاعتراف بفضلي على كل حال كان هؤلاء قليلا ما يتعاملون مع العرب وهذا هو سر الموضوع.
وقد كانت تلك الجولة ناجحة، في حين كانت مهمتي كضابط ارتباط بين فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية وجمعية الهلال الاحمر الكويتية أكثر أمنا من السابق، وكنت أتعلم أكثر حول عملية التنسيق المناسب للامور التدريبية ودورها، كما ان علاقتي مع الكويتيين كانت تحظى باحترام متبادل، وأدركت انني كنت محظوظا، لان قلة من ضباط الارتباط في المنطقة كانوا يكرسون نصف وقتهم للخدمة المدنية، وكل وقتي الآن مكرس لمثل تلك الخدمات.
الحلقة (11) بوش الأب من البيت الأبيض لأهل الديرة: أراكم في الكويت الحرة
في الحلقة السابقة ذكر الكولونيل الأميركي بروكس لمحات كثيرة عن كلفة إنشاء مستشفى ميداني متنقل وحدي صعوبة تأمين وسائل نقل عسكرية لنقل أغراض طبية لجمعية الهلال الأحمر الكويتية، لافتا الى ان قوات التحالف كانت مشغولة بتأمين المواد المخزنة، حيث تصبح تلك المواقع هدفا استراتيجيا لضربات الطيران والمدفعية ان امكن.
وأوضح بروكس آلية التعاون مع جمعية الهلال الأحمر وكيف كانت سعادته بالتفرغ لمهامهم الانسانية ودوره كضابط ارتباط معهم من جانب ومع الجانب الأميركي من جانب آخر.
الفصل التاسع
الاستعداد للتقدم (18 - 27 فبراير 1991)
تطورت علاقتي كثيرا مع الكويتيين وبشكل مطرد. ومرة سألني د. ابراهيم كيف يمكن ان يناديني، فكرت قليلا ثم قلت ان بامكانه مناداتي «مارك»، او «إيفان» او «بروكس»، او ليفتنانت كولونيل او كولونيل او «مقدم». فكر هو للحظة وقال «بروكس اسم قوي»، دعنا نناديك بهذا «الاسم»، وهذا ما أصبح اسمي المعروف لديهم.
وقد نشأت صداقات مع عدد منهم، أحدهم كان يتكلم الانكليزية بلكنة أميركية، وسألته من أين هو؟ حيث كانت لكنته أميركية ثم لهجة «نيو انكلند» او جنوبية، وقال لي انه أمضى ثماني سنوات في ولاية واشنطن، وكان يتقن المصطلحات الأميركية ايضا، وكثيرا ما كنت أشاركه علبة السجائر، والسيجار الكوبي الفاخر.
كويتي ثان كان معلما للتربية البدنية، ويتحدث الانكليزية جيدا لكن ما أدهشني هو لون بشرته، وكان يصعب تمييزه عن الأميركيين، وعلمت ان احدى العشائر الكويتية كانت من «السور».
الدكتور ابراهيم أكمل تعليمه في بريطانيا وزار أميركا مرتين، مرة لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة حول فظائع العراقيين في الكويت، اما الزيارة الثانية ففي اليوم التالي، حيث عاد هو الى لندن، ليتلقى مكالمة من أميركا لحظة وصوله الى مطار لندن، فقد دعاه الرئيس الأميركي الى لقاء معه في اليوم التالي، وقد كان بتاريخ 30 نوفمبر 1990 مع عدد من الشخصيات الكويتية وقال لهم الرئيس بوش: أراكم في الكويت الحرة.
ولذلك عاد الى واشنطن على طائرة كونكورد، والتقى الرئيس جورج بوش، ومن ثم عاد الى لندن والى البحرين.
كان عضو التحالف «لارس باليس» قد أرسل الى أفغانستان، وعين مكانه «بوب غودوين»، الكندي، والذي كان أكثر سلاسة وأنسا، وقد نشأت بيني وبينه علاقة، فكنا نتمازح حول لهجتينا المختلفتين قليلا، وقلت للكويتيين ان الرجل الكندي يشبه الأميركي «لكنه مضجر أكثر»، فكاد يبادلنا الضحك.
بقيت اللجنة الدولية ICRC على عنادها تقريبا مع ان «جيان باتشيتا» قد لان قليلا، وحين كنا نناقش قضية الدخول الى الكويت قال جيان انه ليس بوسعي مرافقة الجمعية الكويتية بسبب وضعي العسكري، وتقدم صوبي د. ابراهيم وأحاط كتفي بذراعه وقال لممثلي اللجنة ICRC ان «المقدم بروكس» قدم لنا دعما أكثر من الآخرين، وهو سيرافقنا، وأنت لن تذهب لذلك وافق جيان على مرافقتي لهم اذا كان ذلك ضروريا، وعندئذ أدركت انني سأدخل الكويت بكل تأكيد.
الإثنين 18 فبراير 1991
استيقظت وتناولت الافطار في الخيمة، وفي التاسعة والنصف اتصلت بفريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية، كانوا بحاجة الى معلومات مفصلة من اللجنة الدولية ICRC حول الفريق الذي سيمهد للدخول الى الكويت، ووعدتهم بأن احصل على تلك المعلومات وأقدمها لهم.
كان لدي متسع من الوقت خلال النهار، وفي الساعة الحادية عشرة طلب أحد افراد المستشفى 47 محاضرة عن معاملة اسرى الحرب الاعداء، كان يريد كيف يمكن التعامل معهم اذا ما تم احضارهم الى المستشفى، ما الاجراءات الأمنية اللازمة؟
وما التبعات القانونية المترتبة على وجودهم؟ ورغم انني خدمت سابقا كمحامي دفاع فاني شعرت ان اللجنة الدولية لجمعيات الهلال والصليب الأحمر يجب ان يكونوا خبراء في هذه المواضيع، وأبلغت المستشفى بانني سأرتب لاستقدام وفد من اللجنة المذكورة لتقديم هذه المحاضرة للمستشفى.
بعد ساعتين طلبت اللجنة الدولية وأوضحت لهم طلبي، فوعدوا بتوفير هذه المساعدة، وقمت ايضا بتأمين معلومات عن فريق العمل الذي سيرسلونه، وعند الساعة الخامسة عدت للاتصال مع جمعية الهلال الأحمر الكويتية وفريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية، وكنت قلقا ايضا على وضعي، فهل طلب فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي رسميا تعييني أم انني سأكون «عنصرا حراً» (او بدقة أكبر «عنصرا زائدا»).
الثلاثاء 19 فبراير
اتصلوا بنا من فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي في الثامنة صباحا، كانت هناك ضرورة لنقل المواد الطبية فورا الى الدمام، المسؤولون الكويتيون أرادوا ان يشرفوا على الأقل على بعض تلك المواد الخاصة بهم، وبعد ساعة ونصف طلبت شاحنة بحمولة 2.5 طن من المستشفى 47 الميداني ولكن آلياتهم مشغولة، وأخبرني الكولونيل ميس بانه سيعمل على تأمين شاحنة في اليوم التالي.
وفي الواحة ظهراً اتصلت بفريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي ظهرا وسألتهم عما اذا كانوا يعرفون طبيعة المواد المستعجلة التي يريدونها وهي اللقاحات؟ واذا كان كذلك، هل لديهم ثلاجات كافية؟ وماذا عن العلب الزجاجية التي في «سيترا» Sitra وبالتالي هل هم يدركون ما هي الكميات التي يحتاجونها؟
رد فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي بأن وزارة الصحة الكويتية أمنت مخزنا لها في الظهران وان بعض المواد على الأقل يجب نقلها فورا، بهدف تهدئة خواطر المسؤولين الكويتيين غالبا، وقلت انني سأكون جاهزا مع المتطوعين الكويتيين لتحميل الشاحنة حالما أتمكن من الحصول على واحدة بأي طريقة كانت.
وعند الثالثة أخبرتني الجمعية الكويتية ان الاجتماع المسائي سيعقد في السابعة والنصف، وسيحضره اتحاد جمعيات الهلال والصليب الأحمر واللجنة الدولية ICRC وجمعية الهلال الكويتية، وخلال الاجتماع أخبرني مندوب اللجنة الدولية ان الدورة التي طلبوا تنظيمها عن معاملة الأسرى ستقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء المقبلين في الساعة الواحدة.
د. ابراهيم قال لي ان الشاحنات المدنية كانت جاهزة للتحرك ونقل الرجال والمواد، وسألته عن نوعية الاجراءات لدى المرافقة، ونظرا لوجود طريق واحد رئيس فقط فمن المحتمل ان يكون مزدحما، ويجب مراقبة الطريق جيدا، هذه المسألة لم ينتبه اليها أحد، وقد ناقشنا الاجراءات المحتملة، ولم تكن لدينا اتصالات لاسلكية وبالتالي فان بعثة المرافقة ستواجه صعوبات في تطبيق اجراءاتها الخاصة.
الأربعاء 20 فبراير 1991
أخبرني الكولونيل ميس في السادسة صباحاً بأن الشاحنة ستكون جاهزة في وقت متأخر اليوم، خرجت لتناول الافطار وعدت الى الخيمة ثم ذهبت الى خيمة الامدادات لتأمين الشاحنة وفي السابعة والنصف كنت لاأزال أحاول معرفة امكانية تأمينها وفي اي وقت. وقيل لي انها ستكون جاهزة في غضون ساعة، لذلك ذهبت ماشيا الى معسكر البحرين ونيوزيلندة Banz في الثامنة والنصف.
بعد ساعة وصلت شاحنة من المستشفى، وتم تحميلها خلال ساعتين ثم توجهت الى الظهران. وقد فهمت ان فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتية كانت تنزل في فندق «أوبيروي» Oberoi، لكن ليس لدي علم يقيني اين هي، وهذه حالة لم تحل دون متابعتي للعمل من قبل وكانت لدي تعليمات عامة، ووصلنا الى الفندق عند الثانية والنصف.
أوقفنا الشاحنة عند المدخل الرئيس ودخلنا وبعد التحية لرجال القوة الكويتية بدأنا انزال الحمولة الى المخزن، على بعد عدة اميال من الفندق وساعدنا في العمل عدد من ضباط الصف الذين رافقونا الى المخزن.
في الرابعة والنصف مساء انتهينا من تفريغ الحمولة، وكانت هناك اسئلة عديدة عن مكان تخزينها بالضبط، هل نضعها هنا؟ لا، دعونا نضعها هناك، وحين انتهينا جاء الكولونيل رالف يونغ للمساعدة، قلت له ممازحاً: «انها في الوقت المناسب».
فوافقني الرأي. وقد أبدى د. «العياد»، وهو الوكيل المساعد لشؤون الادوية، سعادته لوضع قسم من المواد الطبية تحت اشرافه، وكانت تلك هي اول شحنة تصل الى الظهران.
وبدا السائق مذهولا لكثرة عدد ضباط الصف الذين قدموا المساعدة وبسبب حماستهم في العمل، وقد عاد الى المستشفى، فرجعنا مباشرة بعد افراغ حمولة الشاحنة، ولكن طريق العودة لم يكن مريحاً ولم نصل الى البحرين الا بعد السادسة والربع.
وفي السابعة والنصف كنت في مبنى الهلال الاحمر لحضور اجتماع جمعية الهلال الاحمر الكويتية، وهناك اخبرني د. ابراهيم ان مسؤولي جمارك البحرين واجهوا بعض العقبات مع المواد المرسلة، وبينما كانت هذه المواد معفية من الجمارك فان بعض الوثائق لم تكن مكتملة لذلك لم يشأ الضابط لدى الجمارك السماح بادخال المواد لتكون تحت حماية الكويتيين، وبعد الاجتماع عدت الى المستشفى واتصلت في الحادية عشرة بفريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي لابلاغهم عن تلك المشكلة.
الخميس 21 فبراير 1991
السابعة والنصف صباحا اتصلت بالدكتور جمال وأبلغته عن تلك المشكلة مع الجمارك، فقد كانت له علاقة طيبة مع البحرينيين وشعرت ان بوسعه حلها، وادى اتصالي المتكرر مع البحرية الى ايضاح ان أي اتصالات مع البحرينيين يجب ان تكون في أقل مستوى أو ان توقف كليا.
بعد ساعة اتصلت بالكولونيل مكيني، كان وزير الصحة قرر انه يريد المزيد من المعدات الخاصة به وانه جهز شاحنات لارسالها الى البحرين، على أن تصل في الساعة الحادية عشرة، اتصلت بالكويتيين ورتبنا الامر للمتطوعين لتحميل الشاحنات ساعة وصولهم.
كنت أنتظر في مقر القوة البحرينية النيوزيلاندية Banz لكن لم تصلنا أي شاحنات، بقيت منتظرا لساعة ثم عدت الى المستشفى الميداني 47 واتصلت ثانية مع دون ماكيني، لكني لم أتمكن من الوصول اليه، فتركت له رسالة لكي يرد على مكالمتي.
الساعة الواحدة تلقيت اتصالا ردا على رسالتي، أخبرني الكولونيل «دون» انه تم تأجيل ارسال الشاحنات حتى يوم السبت فنقلت الاخبار الجديدة للكويتيين.
ثم اتصل الكابتن «وينال» طالبا قائمة الاسماء التي ستتقدم، ونظرا لعلاقتي الجيدة مع الكويتيين فان مكالماتي مع الكابتن وينال أخذت تتناقص، ولم أفهم حقا علاقته مع جمعية الهلال الأحمر الكويتية أو كيف يتماشى دوره مع القيادات، مع انني كنت راغبا دوما في تقديم المساعدة التي يطلبها مني.
وفي السادسة عصرا توجهت الى ملحق السفارة لأحمل البريد الذي يخصني، وكنت غيرت عنواني البريدي فكانت أكثرية الرسائل تصل الى العنوان السابق لدى القوات البحرية وهؤلاء لا يكلفون أنفسهم عناء ارسالها لي، الا حين يأتيني صديق فيحمل بعضها لي، وقوبل وصولي الى قيادة القوات البحرية ببرود كبير، وبالكاد حصلت على رسائلي الشخصية، ولم أفهم حقا سبب هذا الموقف الجامد من قبلهم.
بدأ اجتماع جمعية الهلال الاحمر الكويتية عند الساعة السابعة، وكان معظم ما نوقش فيه مكررا. الا ان د. ابراهيم قال انه حين يدخل الكويت فانه قد يستخدم الجوامع كمراكز طوارئ طبية، وقد دهشت لهذا الاقتراح، ذلك ان كل ما تعلمناه من مصادرنا العسكرية كان يؤكد على الطبيعة القدسية للجامع، وكنا نؤكد على قدسية تلك الأماكن وتحريم استخدامها لأغراض غير دينية. هل يمكن استخدام المساجد كمراكز طبية؟ الدكتور ابراهيم لم ير أي مشكلة في ذلك اذا ما دعت الحاجة.
بعد انتهاء الاجتماع طلب مني د. ابراهيم ان أنزل معه الى الدور السفلي من المبنى. وهناك عرفني على رجل كويتي يرتدي الثياب التقليدية العربية، وهو العقيد زيد، وسألت هذا الضابط ما اذا كان برتبة عقيد أم مقدم، فأجابني انه برتبة عقيد بوزارة الداخلية، وانه قادم من الطائف وكان سيذهب مع د. ابراهيم لتناول العشاء فطلبا مني مرافقتهما.
تطوع العقيد زيد لقيادة السيارة، وحين صعدت اليها لاحظت ان لوحة السيارة كانت تحمل الرقم «15» (حيث الرقم المفرد في البحرين خاص بالأمير فقط، في حين الرقم المزدوج فمخصص لافراد الاسرة الملكية، والارقام الثلاثية للمسؤولين الحكوميين). ولم أكن أعلم ما اذا كان هذا يسري أيضا في دولة الكويت، لكن بدا واضحا ان العقيد زيد كان شخصية كبيرة. توجهنا معا الى فندق ريجنسي وخلال تناولنا وجبة العشاء بقيت أفكر في غرابة ما يحدث، ان يجلس رجل يهودي أميركي على مائدة العشاء مع ضابط رفيع من وزارة الداخلية الكويتية. وكانت وزارة الداخلية عادة توزع الضباط من «البوليس السري» على القطعات الميدانية. وفكرت كيف انني كنت أجلس بجانب «هنري هملر» الكويتي.
حرصت على اظهار حسن السلوك. وكان العشاء رائعا حقا، والعقيد زيد كريما جدا، وقال انه كان لديه ملكية مشتركة في مدينة فيل في أميركا Condomimium Iu Vail وانه يتطلع الى زيارتها قريبا، وسألته عن سبب اختياره لتلك المدينة الباردة، فأجاب ببساطة لانه يريد التغيير، وبعد العشاء أوصلني هو ود. ابراهيم الى المستشفى.
في الحادية عشرة والنصف ليلا اتصلت بالكولونيل ماكيني وأبلغته بآخر التطورات وعدت الى خيمتي حيث قضيت الليل هناك.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (12)
صواريخ السكود تدمر مهاجع في الظهران.. وباتريوت تكلفتها باهظة جداً شهر رمضان يبدأ 17 مارس والجو الحار يعني تأجيل الحرب البرية
مساعدات الهلال الأحمر
9 شاحنات قادمة من الظهر ان حمولتها ما بين 205- 5 أطنان دعم لوجيستي لبدء الحرب في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي ايفان بروكس في يومياته لمحات عن دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب للقاء عدد من الكويتيين بالبيت الأبيض منهم د. ابراهيم بهبهاني، وأشار الى الترتيبات والضوابط الصارمة التي وضعها الصليب الأحمر الدولي على الراغبين في دخول الكويت بعد التحرير.
وذكر بروكس اشارة عن العقبات الجمركية للمواد المرسلة الى البحرين من مساعدات وغيرها.
وعبر عن ذهوله ودهشته لاقتراح د. ابراهيم بهبهاني لاستخدام المساجد كمراكز طوارئ طبية، ظنا منه ان قدسية المساجد تتنافى مع استعمالها في أغراض أخرى.. فالى تفاصيل جديدة:
الجمعة 22 فبراير 1991
بدت الحرب البرية موشكة، لكننا لم نعلم متى أو ما اذا كانت ستبدأ، كان شهر رمضان المبارك سيبدأ في 17 مارس، ونعلم انه سيسبب عرقلات تنسيقية محتملة لدى الكويتيين، كذلك فان الجو سيكون حارا في أواخر أبريل، وهو سبب للعديد من المشاكل في الحرب المتنقلة، وما كان علينا الا الانتظار والتحضير للحرب.
في الساعة التاسعة صباحا اتصلوا من فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية قائلين ان الشاحنات في الطريق الينا، وقلت لهم: انتظروا لحظة، كنت أعتقد انها ستأتي يوم السبت! فأجابوا كن أكثر مرونة يا كولونيل».
هكذا أبلغت الطرف الكويتي بان يتنظروا مني مكالمة، وفي العاشرة والربع كنت انتظر في معسكر القيادة البحرينية النيوزيلندية Banz، وكنت اجلس على حافة الطريق قرب المدخل.. وطال انتظاري.
وفي الواحدة والنصف عدت الى خيمة العمليات واتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية ، فأبلغوني بأن «الشاحنات» تم إلغاء تحركها ونحن نأمل في ان تتحرك في الغد فضحكت.
في هذا المساء ذهبت لحضور اجتماع جمعية الهلال الاحمر الكويتية، ولم يكن هناك اشياء جديدة، واستمر الكويتيون يسألويني عن موعد بدء الحرب البرية، كما لو كنت أعرف ذلك بالفعل! وقلت لهم انهم ربما ادري مني بالامور لانهم يستمعون أكثر الى محطة سي. ان. ان.
إلا انني دفعت د. ابراهيم للابقاء على العقود مع الشاحنات المستأجرة.
لم يكن لدي علم خاص، ولكني ادركت ان شيئاً ما سيحدث على الفور، ولا اريد الاشغال بالبحث عن شاحنات الا في حال وصلتنا اوامر بالتقدم..
وبدا الكويتيون غاضبين لاستئجار شاحنات بلا انتفاع منها، وأعتقد انني كنت أقامر بأموالهم. ولكن هنا ايضاً كان القرار هو قرار د. ابراهيم، اما انا فلم أكن أقدم سوى النصح، وكانوا يسمعونه.
السبت 23 فبراير 1991
وصلت مكالمة الى خيمة العمليات في الثامنة والنصف صباحاً. كان فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية ترسل شاحنات عسكرية لنقل المواد الطبية لوزارة الصحة، وكان من المنتظر ان تصل في غضون ثلاث ساعات. وفي العاشرة والربع مشيت الى مقر القوة البحرينية / النيوزيلندية banz اذ ربما يكونوا مبكرين اليوم، وفي هذه الحال لم ارد ان يسأل عني احد، ولاشك في ان الشاحنات لم تصل. لذلك اتصلت بالظهران عند الحادية عشرة وخمسين دقيقة، فقيل لي انها ستصل عند الثانية بعد الظهر.
وفي الثالثة والنصف ألغيت مهمة الشاحنات. وهكذا قضيت يوماً بطوله في انتظار شاحنات لم تأت! القضية الوحيدة المهمة التي حدثت كانت حالة فوضى في المكان، فقد كان احد الاشخاص في القوة banz البحرينية / النيوزيلندية يخلق الفوضى، ولكن قوات الشرطة اعتقلت الرجل وأبعدته، هل كان ينذر ويتوعد؟ وهل كان يمثل خطراً ما؟ لم اعرف هذا، ولم أكن ميالاً لمعرفة هذه الامور.
لدى عودتي الى الخيمة علمت ان المستشفى الميداني 47 كان يزداد. كانوا يتوقعون وقوع ضحايا وارادوا استخدم الخيمة التي انام فيها لذلك تم نقلي انا والكابتن «ويبو» الى خيمة أخرى في مكان آخر قريب. وهناك كنا نشارك بالمسكن مجموعة من عناصر الاتصال، وبالتالي لم يكن المكان الجديد مريحاً كالسابق، لكني كنت على يقين ان بقاءنا هناك لن يطول.
اجتماع الجمعية الكويتية المسائي عقد متأخرا عن موعده المعتاد ساعة كاملة، وأخبرني د. ابراهيم ان علي الا أعمل بشكل حميم مع ضابط ارتباط جمعية الهلال الأحمر الكويتية في الظهران. وعندما استفسرت عن السبب أجابني «بأنه كويتي تقليدي».
الآن أصبح عندي فكرة مسبقة عن الكويتي التقليدي قبل ان التقي احدهم - كشخص متغطرس، وكسول وكل ما يريد هو اعطاء الأوامر للآخرين دون محاولة ازعاج نفسه. لكن لم يكن في وسعي النظر الى هؤلاء الأصدقاء الجدد والقول «طبعاً أنا أفهم ماذا تقصدون!». لذلك تلفت حولي وسألت د. ابراهيم عما يقصده بذلك التعبير «كويتي كلاسيكي».
قال د. ابراهيم «كما تعلم، انه الشخص المتغطرس والجلف والخامل وقليل الانجاز». هززت برأسي بأنني فهمت قصده، ما أسر الحاضرين على الطاولة. أحد الكويتيين قال بحق «كلنا هنا كويتيون. فهل تريد ان تقدم للكولونيل انطباعاً خاطئاً؟». فضحك الجميع وتابعنا العمل.
الجدير بالذكر انني كنت أنسجم مع الكويتيين أكثر من معظم الأميركيين. بعض الأصدقاء عزوا ذلك الى التراث القديم العرقي (حيث يقولون «اننا والعرب أبناء عم»). ومهما كان السبب فيمكن ان اعترف ان الكويتيين الذين عملت معهم هناك كانوا من أروع الناس الذين تعاونت معهم.
وعند الساعة الثانية مساء نشب نقاش بين د. جمال ود. ابراهيم. وبينما كانت الاجتماعات تدور باللغة الإنكليزية من أجلي، فقد كان هذا الاجتماع باللغة العربية في أكثره. ولابد ان شيئاً ما قد طرأ. ولأن الجميع كانوا متلهفين وفاقدي الأعصاب في انتظار ما سيحدث فان ما خمنت حدوثه شيء ليس بالهين. وقد فهمت ان هناك نقاشاً حول المسؤولية عن خدمة جمعية الهلال الأحمر. كان د. جمال والمتطوعون الشباب يتطلعون الى مزيد من العمل وهددوا بترك الجمعية. ولم يخف د. ابراهيم رغبته في قيادة الجمعية كما يريد لها ان تكون، وبالتالي لم يكن اسفاً على خروج من يرد الخروج منها.
دهشت للأمر. وفي كل صباح كانت تتزايد الدلائل على تحرك جمعية الهلال الأحمر لدخول الأراضي الكويتية. والآن تجدهم منقسمين على أنفسهم. وكانت أية شكوك حول فاعلية الجمعية في نظر القيادة الوسطى يجب ان تكون مبررة، مع انتهاء مهمتي الشخصية، وقد رجوتهم جميعاً لأن يتعاونوا معاً، لكن د. جمال بدا متعنتاً. كان يرد ان يتعاملوا معه بصفته طبيباً، بينما كانت الصليب الأحمر يريد منه ان يعمل في المجال اللوجيستي، وهكذا خرج من الاجتماع وقال ان متطوعين كثيرين ستقيدون به. ووجدت نفسي أمام سؤال: مع من يجب ان أقف؟ كان د. ابراهيم هو المرجع الذي أعود اليه ولا مجال لكي أتركه. لذا، كل ما رجوته هو ان تنتهي اختلافاتهما الى خير.
الأحد 24 فبراير 1991
كانت الشاحنات قادمة من الظهران، فاتصلوا بي من فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية عند التاسعة والنصف ليبلغوني ان هناك خمس عربات على الطريق، ممولة كل منها خمسة أطنان، مع أربع شاحنات حمولة الواحدة 2.5 طناً، وكان الكولونيل ماكيني يرافقها.
وما ان وصلت حتى راح يخبر فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية بذلك. ونظراً لالغاء مهمتها سابقاً فانني قررت الانتظار حتى تصل فعلاً ومشاهدة الكويتيين. زد على هذا ان الحرب البرية قد بدأت فعلاً، والجميع مستمر بجانب المذياع ليسمع الأخبار من محطة سي. ان. ان.
عند الساعة الواحدة وصلت الشاحنات ومعها الكولونيل ماكيني في عربة القيادة. فسارعت الى ابلاغ د. جمال وطلبت منه مساعدة في تحميل البضاعة. وفي الحال وصل هو مع عدد منهم قبل الساعة الثالثة وباشروا العمل، وتوجهت مع «دون ماكيني» الى معسكر القوة البحرينية النيوزلندية Banz، حيث أخذ يلتهم ما لديهم من جعة وحلويات، ثم رافقته الى وحدة التعبئة الادارية والمستشفى الميداني.
كان لديه جهاز هاتف نقال للاتصال بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية . وحين شاهد خيمتي قال انها مناسبة للاستراحة. وافقته ولكني قلت ان لدي مهمة مقبلة. وعلق بانه كان عليّ السكوت على وضعي السابق والبقاء مع القوات البحرية، حيث الحياة المرفهة هناك - وهو ما ليس في وسعي تحمله. وفي حوالي الثالثة الا ربعاً كانت الشاحنات محملة كلها، فقادها ماكيني عائدا الى الظهران. وعدت أنا الى خيمتي وأبلغت فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية بذلك.
الإثنين 25 فبراير 1991
بقي أطنان من المواد الطبية في البحرين.. واتصلت فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية في الصباح وقالوا انهم ارسلوا إلينا شاحنات بحمولة 25 طناً. وفي الساعة الحادية عشرة كنت في انتظار وصولها لدى القوة البحرينية النيوزيلندية، لكن العربات لم تصل. وبعد الثالثة اتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية ، حيث علمت ان الشاحنات ستتأخر حتى الغد.
بدأت اجتماع الجمعية الكويتية في الساعة السادسة مساء، على ان يكون مختصراً لأن د. ابراهيم سيحضر اجتماعاً مع السفير الكويتي لدى البحرين بعد ساعة. وهكذا أوجزنا الاجتماع، وطلب مني د. ابراهيم مرافقته.
توجننا الى مبنى السفارة التي تبعد نحو نصف ميل، وكانت تحت حراسة جيدة، لكن سمح لنا بالدخول. واستقبلنا السفير د. فيصل الحجي. وبعدها تناولنا الشاي فورا كعلامة للضيافة العربية في فناجين صغيرة تبعاً للتقاليد. جلست استمع الى كلام السفير بالعربية المختلطة باللغة الانكليزية. وتحدث د. ابراهيم للسفير الحجي عن الدور الذي أقوم به الى جانبهم فشكرته على ذلك. وقد سأل السفير ما اذا كان ممكنا لنا نقل بعض موظفيه حين نتحرك نحو الكويت. قلت له ممكن لكن في حدود ضيقة. ومن ثم شكرنا على جهودنا تجاه الكويت، وانتهى اللقاء معه. خرجنا وأوصلني د. ابراهيم الى خيمتي في المستشفى الميداني 47 مباشرة.
جلست مساء أتابع «السي. ان. ان» فشاهدت صواريخ السكود وهي تدمر المهاجع في الظهران، وتلحق الاصابات بوحدة الاحتياط. وقد سرت اشاعات تتناول فشل صواريخ الباتريوت في التصدي للسكود العراقية. وعموماً، ان أغلب الظن ان المدفعية المضادة للطيران ADA كانت تعمل من مسافة بعيدة وان النظام بكامله كان يعاني من خلل فني. وبعد ذلك بأسابيع سمعت في مدينة الكويت ان صواريخ السكود كانت تنفجر في السماء. وكان الضابط المسؤول عن منظومة الباتريوت لديه نوعان من الأوامر: تدمير كل صواريخ السكود التي تطلق، لكن من عدم الاسراف في صواريخ الباتريوت بسبب تكلفتها الباهظة. لذلك قرر الآمر المسؤول بان السكود لم تكن تشكل خطرا كبيراً، ولكن حين تبين خطورة السكود عملياً كان وقت الرد عليها قد فات.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة(13)
اتصال فجر 28 فبراير 1991: استعدوا لدخول الكويت الحرة
عدد من المتطوعين
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الاميركي ايفان بروكس في يومياته الاستعدادات النهائية للحرب البرية وكيف كان الانتظار والقلق خاصة في جانب الكويتيين، وذكر ان شهر رمضان كان في مارس ما يعني ان الجو الحار المتزايد يعني تأجيل الحرب البرية.
وتحدث بروكس عن احساسه تجاه الكويتيين الذين يتعامل معهم مؤكدا انهم افضل من تعامل معهم على الاطلاق، مستذكراً مقولة عدد من اصدقائه تعليلاً لذلك ان اليهود والعرب ابناء عم.
وأوضح ان صواريخ سكود العراقية ظلت تطلق على مدى فترات متتابعة كاشفا ان القيادة الاميركية لم تكن تريد الاهتمام بها كثيرا ورصدها بصواريخ باتريوت نظرا لكلفتها المادية العالية.. فإلى التفاصيل جديدة:
حلقة 13
الثلاثاء 26 فبراير 1991
كنت في انتظار وصول الشاحنات عند الحادية عشرة كما أخبروني في الثامنة والربع. أخذت أتمشى قرب الخيمة ثم توجهت قبل الموعد الى خيمة القوة النيوزيلندية البحرينية، لكن الشاحنات لم تصل حتى الساعة الواحدة، فاتصلت بالمتطوعين الكويتيين لتحميلها.
خلال ساعة وصل المتطوعون وباشروا تحميل الشاحنتين في أقل من ساعتين. لكن أحد السائقين السعوديين اختفى. سأل الكويتي زميله عنه فقال لهم انه ذهب لزيارة شقيقه وتناول الشاي عنده. ولم نتمكن من الاتصال بالرجل. وعندما عاد أخيراً تبين انه تناول مشروبات جعلته غير قادر على قيادة الشاحنة والحال لم يكن هناك حل لولا ان احد المتطوعين الكويتيين تطوع لقيادتها الى الظهران كونه قد تعود على قيادة سيارات مثلها.
فكرت في الامر فالسيارة مستأجرة ولا تخضع لأحكام القوانين العسكرية، هل يمكن ان اترك مدنيا كويتيا يقود تلك الشاحنة؟ لذلك سألت السائق الآخر عن الحل، فقال انه لا يرى في ذلك اي مشكلة، وطبعاً قد يؤدي الامر الى فقدان السائق لوظيفته فطلبت من المتطوع الكويتي الصعود ونقل المواد الى الظهران شمالاً.
بدأ الاجتماع في الجمعية مساء، حيث ظهر النشاط على المتطوعين الكويتيين بسبب تقدم المعارك البرية، وكانوا يسألون عن لحظة تقدمهم الى الكويت، واوضحت لهم ضرورة فك عقدة ارتباطهم بالقيادة الوسطى، وطلب فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي من د. ابراهيم ومني الذهاب الى الظهران لحضور اجتماع كان موعده في الساعة الثانية، لكننا لم نغادر البحرين الا في تلك الساعة فوصلنا متأخرين ساعتين، وكانت هناك مناقشة لتقييم الوضع، وبدا ان الامور باتت واضحة وان الحرب موشكة على الانتهاء.
استدعي د. ابرهيم للقاء وزير الصحة الكويتي، ومع ان الاجتماع كان مخصصاً للكويتيين فقط لكنه طلب مني مرافقته لحضوره، الأمر الذي حظي بموافقة الكولونيل يونغ، الذي قال لي «اذا كان الدكتور ابراهيم يحتاج اليك فيجب ان ترافقه يا إيفان»، وهكذا ذهبنا معا وعرفوني على الحاضرين، كان الجميع يتحدث باللغة العربية فلم أفهم ما كان يدور.
تلفت حولي فرأيت رجلاً بثياب عربية لكنه يشبه الكولونيل سميث.
لم اشأ ان احملق فيه، فاختلست نظرة ثانية نحوه متشككا، ثم ثالثة فرأيته يلوح لي بيده، اجل، كان هو الكولونيل سميث، وابتسم لي وهو بتلك الثياب، وهو ما يعتبر اهانة لدى العرب.
بعد انتهاء الاجتماع سلمت عليه فقلت «ما الذي فعلته يا كولونيل؟ كيف يمكنك ارتداء هذه الثياب الكويتية؟» فقال «عزيزي ايفان، ان الكثير من المعلومات التي وصلتنا لا معنى لها، وانت لو كنت تعرف الكويتيين ستدرك انهم يرون في ذلك مجاملة لهم ان تلبس ثيابهم الوطنية والواقع انني وصلت للتو من الامارات، حيث ارتديت هذه الملابس هناك»، سألت د. ابراهيم فأكد لي صحة ما قاله سميث، وما دام المرء يلبس تلك الثياب بشكل لائق فان الاهالي يعتبرون الامر مجاملة لهم، تأخر بنا الوقت وعلينا ان نعود الى البحرين فغادرنا المكان بعد الحادية عشرة والنصف ولم نصل حتى الثالثة صباحاً، اوصلني د. ابرهيم الى خيمتي بالمستشفى.
لم افهم معنى النقاش بين جمعية الهلال الاحمر ومسؤولي الحكومة، لكني عرفت فيما بعد ان وزير الصحة رفض السماح للمتطوعين الدخول الى الكويت دون تصريح منه، وكان هناك جدل حول من سيحظى «بشرف» مساعدة شعبه، واراد الوزير ان يكون موظفو وزارته «أول الداخلين».
الأربعاء 27 فبراير 1991
كان متوقعا أن يكون ذلك اليوم حافلا بالعمل في الصباح الباكر اتصل بي د. ابراهيم لمرافقته في مقابلة مع مكتب الدفاع المدني، وفي التاسعة التقينا بعض المسؤولين من الدفاع المدني، حيث رتب د. ابراهيم لدخول متطوعي الجمعية لدى الجمارك حين يسمح لهم بدخول الاراضي الكويتية، وكان ذلك آخر لقاء يجمعني مع المسؤولين البحرينيين الذين كانوا ودودين ومتعاونين. كان الكابتن عبدالعزيز عباسي، آمر اكاديمية الشرطة البحرينية للتدريب يقوم بدوره في الاتصال مع جمعية الهلال الاحمر الكويتية نيابة عن حكومة بلاده وقد عرض تقديم مساعدة لنا متى أردنا ذلك.
وفي الساعة الواحدة عقدت جمعية الهلال الاحمر الكويتية احد اجتماعاتها بعد الظهر، وعلم ان الحرب البرية كانت تسير بشكل حسن، وبدا ان بامكاننا دخول الاراضي الكويتية في غضون اسبوع اواسبوعين، وكان من الضروري ترتيب كل الامور، حيث قام د. ابراهيم وانا ببحث كل المتطوعين للبقاء مستعدين للمغادرة ساعة يحين اوان ذلك وكنت انا وابراهيم متعبين جدا من العمل في الليلة الماضية، لذلك لم يعقد اجتماع مسائي للجمعية كالعادة.
الفصل 10
التحرير 28 فبراير - 1 مارس 1991
قررت اللجنة الدولية للصليب الأحمر 1982 والاتحاد الدولي لجمعيات الهلال الأحمر والصليب مرافقة القوات المقاتلة الى داخل الكويت باسرع ما امكنهما، دون انتظار التصريح الرسمي بالمرافقة الذي طلب من متطوعي الجمعية الكويتية الدخول الى الاراضي الكويتية، كان توقيت البعثة الكويتية من هؤلاء يثير التساؤل- حيث اردنا عودة المساعدة الانسانية العاجلة من المنظمات الكويتية لكننا في الوقت عينه لم نشأ التسبب في وقوع اصابات بين المدنيين، والتصريح الرسمي قد يأخذ اكثر من اسبوع فلا احد يعرف متى يصل، وانا يهمني جاهزية الجميع للتحرك عند الطلب، طالباً منهم الصبر.
الخميس 28 فبراير 1991
استيقظت من نوم عميق على وقع الحركة داخل الوحدة، وادركت انه الصباح، قيل لي ان هناك من يريد التحدث معي على الهاتف بشكل عاجل! ارتديت ثيابي بسرعة وهرعت الى خيمة القيادة كان على الخط الميجور «كولبورن ويندر» من فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي، في الظهران.
قال الميجور ويندر «ايفان، هل لك ان ترسل المتطوعين الكويتيين لدخول الكويت عند الساعة الثانية عشرة؟» فاجبته بان ذلك ممكن، وشعرت بالابتهاج والتوجس والقلق معاً، فقد صدر التصريح الرسمي، لكني كنت اجهل الموقف في مدينة الكويت - ما اذا كانت سليمة ام انها تعرضت للدمار؟ حالة الطرق ومن هي القوات هناك؟ فقد كنت اعرف الاشياء التي تبثها محطة سي ان ان، وليس لدي المجيور ويندر سوى التصريح الصادر عن القيادة الوسطى لذلك قلت له اننا مستعدون للتحرك واغلق الخط.
في الواقع لم استوعب متى اراد منا التحرك لانني كنت شبه نائم من التعب، هل قال ظهر الغد، اي يوم الخميس، بعد عشر ساعات؟ ام كان يقصد الجمعة؟ حاولت طويلا اعادة الاتصال بالظهران حتى تمكنت من التكلم مع ويندر، فاكد لي ان تحركنا سيكون بعد عشر ساعات وان فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي ترغب في مرافقة متطوعي جمعية الهلال الاحمر لها من الظهران عند الساعة الثانية عشرة ظهرا. ذلك يعني ضرورة مغادرتنا البحرين في الساعة التاسعة لاجتياز الحدود. فالبحرين والسعودية مجتمعان منفصلان، وهي حقيقة كان الجيش الاميركي يتجاهلها عادة، مثيراً العديد من اسباب التذمر من قبل البحرينيين والقوات البحرية الأميركية، فكان عليهم إن يوضحوا للشيخ ابن خليفة سبب حالات الدخول عبر الحدود. وبسبب ظروف الحرب كان يسمح للجنود بالعبور من نقاط التفتيش والمراكز الجمركية، لكن ذلك ممنوع على للمدنيين.
اتصلت بالدكتور ابراهيم حيث بقي في فندق «دبلومات» وحالما رد علي بادرته بالقول «ابراهيم، علينا ان نتحرك نحتاج الى الجميع من عناصر وآليات وسائقين ومواد، لكي ننطلق في الساعة التاسعة».
ولم يصدق هذه الاخبار فقد كنا ننتظر منذ بداية الهجوم البري دون ان نكون متأكدين متى سننطلق وما اذا كان متطوعو الجمعية سيتقدمون الى الكويت، بلدهم، وسألني هو اذا كان وزير الصحة وافق على تحركنا، ولاني كنت اجهل حقيقة المشاكل بين الحكومة وجمعية الهلال الاحمر فانني لم استوعب سؤال د. ابراهيم، وقلت له اننا سنتحرك بموافقة من القيادة العسكرية.
تمت الموافقة على اعطاء سائقي السيارات المستأجرة اجورهم لبضعة ايام، ذلك كان بمصادفة الحظ وليس نتيجة للخبرة اذا السائقون الآن جاهزون مع سياراتهم التي افرغها المتطوعون من امتعتهم، لم يعد امامهم الان سوى اعادة التحميل.
كانت الحملة الآن تتكون من ثلاث سيارات جيب وميني باص وشاحنة صغيرة مع آلية «ريكر» وسبع سيارات اسعاف (وكلها اشترتها جمعية الهلال الاحمر الكويتية ويقودها متطوعو الجمعية) اضافة الى باصات تتسع لاربعين راكبا مستأجرة وست تريلات.
اتصلت بالدكتور ابراهيم وأكدت له ان الاخبار تأتي تباعاً وهي صحيحة، وذلك افرحني ولكن بقيت مشكلة تخصني، اذا بقيت دون انتقال في القانون الدولي كنت شخصيا كضابط مقاتل لا اتمتع بحق الانتقال بسيارات الصليب الاحمر الا اذا نزعت عني الصفة العسكرية، وطبعا كان ذلك مستحيلاً، وبالتالي علي ان اقول الوداع للوفد الكويتي الا اذا صعدت مع المرافقة الاميركية.
حزمت أمتعتي وارتديت بذلتي العسكرية وودعت رفيقي في الخيمة. وعند الساعة الرابعة اتصلت بزوجتي «أنانديل» من هاتف مستأجر في فرجينيا.
قلت لها «مرحبا. اردت فقط ان اخبرك أنني على اطراف مدينة الكويت».
وكنت اريد ان تعلم عن تقدمنا، فضلا عن اهمية ان اكون بين اول الداخلين الى الكويت.
وخلال الساعتين التاليتين حاولت تأمين مركبة، حتى قدم لي المستشفى الميداني 47 مركبة مع سائقها ليوصلني الى الظهران، ومع ان السائق كان سيغادر الى الكويت فان الكولونيل ميس - آمر المستشفى - لم يتمكن من تحمل فكرة خسارة المركبة، وعذرته.
كان علي تأمين انطلاق البعثة في الوقت المحدد. وضعت كل امتعتي في شاحنة عسكرية (حقائب وصناديق وألبسة).
ولم يكن لدي خريطة للتعرف على الطرق نحو الشمال ولا خريطة لمدينة الكويت ذاتها، لذلك كنت اقود المجموعة في منطقة اشتباكات دون ان تكون لدي فكرة ما عن وجهتي سوى جهة الشمال، الا انني افترضت ان الكويتيين يعرفون مناطقهم، فضلاً عن اللوحات المكتوبة بالعربي والانجليزي على الطريق، كذلك ساعدنا ان هناك طريقا واحدا فقط صوب الشمال.
اوصلوني الى مبنى جمعية الهلال الاحمر البحرينية عند الساعة السابعة صباحاً كانت بعض الاليات تصل تباعاً لكن اكثرها لم يصل وكانت صدمة للدكتور ابراهيم حين شاهدني في الزي العسكري كذلك صدمت انا مثله بسبب الملابس التي اختار ارتدائها - البنطلون مع سترة جلدية من طراز «جامعة جورج واشنطن» وكنت انا طالباً في تلك الجامعة، كلية الحقوق وسألته ممازحاً بأن السترة تعود لصهره. 20 عاماً وأنا غاضب
يقول الدكتور ابراهيم بهبهاني: لقد عشت عشرين سنة وانا زعلان لايقاف دخولنا للكويت من مبنى وزير الصحة رغم ان الاوامر منه شخصياً ومن الطائف كانت واضحة بدخول الهلال الاحمر خلف القوات مباشرة وكانت الشاحنات محملة بمواد الاغاثة من بداية الحرب الجوية في 17/1/1991، ونهاية يوم الاربعاء 27/2/1991 خرجت من جمعية الهلال الاحمر البحريني عند منتصف الليل، والمتطوعون والمتطوعات مجتمعون وفي حالة احتجاج وهيجان لما حصل بالنسبة لدخول القافلة، حتى أفاجأ بتلفون من الكولونيل بروكس حوالي 2:20 فجر 28/2/1991 يقول لي د. ابراهيم استعد سنتحرك بعد عشر ساعات للكويت فقلت لكنا لا نحمل هويات الدخول فهي محجوزة عند وزير الصحة، فأجاني «هنا الجيش الأميركي». This is the american army
فهمت منها بان امر الدخول من الجيش الاميركي واليوم بعد عشرين سنة اكتشف بان دخولنا كان بأمر فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي، برئاسة د. ابراهيم ماجد الشاهين، والذي كان يعلم عن استعداداتنا وتتعاون مجموعته معنا مباشرة واذكر ان سيدي حضر صاحب السمو الشيخ صباح الاحمد في تلك الفترة كان وزير الخارجية وكان حاضراً في مكتب السفير محمد ابوالحسن في نيويورك يوم 28/11/1990 بعد جلسة مجلس قدمني له سعادة السفير وبعد المجاملات وشكره على دورنا في جلسة مجلس الامن يوم 27/11/1990 تحدثت معه عن دور الهلال الاحمر في فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي فطلب د. ابراهيم ماجد الشاهين وطلب منه ضم الهلال الاحمر الى فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (14)
11 ليلاً على الحدود الكويتية .. الشباب يرقصون فرحاً ويقبلون التراب
في الحقة السابقة تحدث الكولونيل الاميركي ايفان بروكس عن عدد من التفاصيل المهمة قبل دخول الكويت الحرة وكيف جاء الخبر اليه بالاستعداد للدخول هو والفرق المعاونة من جمعية الهلال الاحمر الكويتي واللجنة الدولية للصليب الاحمر.
وكشف بروكس عن الخلافات بين وزير الصحة الكويتي وقتها وجمعية الهلال الاحمر، مؤكدا ان الوزير رفض السماح للمتطوعين بالدخول الا باذن شخصي منه.
وذكر عددا من الاشارات في يومياته التي بين ايدينا تدل دلالة واضحة على تصور المجتمع الغربي - عامة - والاميركي تحديدا للمجتمعات الخليجية.. وهنا تفاصيل جديدة:
لم نضيع الوقت فعملنا لتجهيز الامور استعداداً للانطلاق وقد اكد لي د. جمال ان هناك شاحنات ضخمة ستنتظرنا على الحدود السعودية، واننا سننطلق من الهلال الاحمر في حافلات مستأجرة وسيارات اسعاف.
بعد ساعة اتضح اننا نسير على «التوقيت الكويتي» كان الناس يتقاطرون فرادى بينما كنت اتوقع رؤية طوفان من البشر في الساعة التاسعة تبين لي صعوبة الانطلاق في الوقت المحدد، حيث ان اسوأ خطأ ترتكبه القوات هو عدم تحديد ساعة الانطلاق RP وتأخير تصاريح البعثة، نظراً لعدم وجود طريق آخر رئيس من الظهران الى الكويت فقد «علمت» انه سيكون مزدحماً، وخشيت من ان فقدان الفرصة قد يؤدي الى الغاء المهمة عدت لاتصل بالظهران فعلمت ان فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي يواجه مشاكل خاصة به طلبوا مني ان الاقيهم في المدينة الصناعية (على أطراف الظهران) عند الساعة الواحدة والنصف.
شهدت الساعاتان التاليتان سيلاً من العائلات، كانت الحافلات ملأى بالمتطوعين والمواد الغذائية والملابس والأشياء الأخرى مما كان الكويتيون يعتقدون اننا بحاجة لها كان اكثرية المتطوعين من الشباب وجاءت عائلاتهم لوداعهم ذلك ان الحكومة الكويتية طلبت من مواطنيها ارجاء عودتهم الى الكويت الى ان يتم تأمين الخدمات الضرورية لهم وتم تخصيص حافلات لكل من الجنسين على حدة.
كان التلفزيون البحريني مشغولا باجراء مقابلات مع الناس، وحرصت شخصيا على عدم الظهور في الصور كذلك فان هذا هو اول مجهود اغاثة كويتي، ويجب ان يكون عملهم موثقاً.
وقد اجرت الحكومة البحرينية ترتيبات لتأمين مرافقة لنا بالدراجات حتى الحدود السعودية، ومن هناك سترافقنا الشرطة السعودية حتى الخفجي ارتحلنا في الساعة الحادية عشرة، وكانت محاولة الحفاظ على النظام لذلك العدد من الآليات امر صعب لعدم وجود اجهزة لاسلكية في الاليات، فضلاً عن ان حالة الهياج العاطفي كان امراً طبيعياً حالما وصلنا الى الطرق الرئيسة شاهدنا السفارة العراقية فانفجر الركب بهتافات مدوية وذكر في ذلك بمشهد الجمهور في لعبة كرة القدم بالكلية.
وكان اكثر المتطوعين الكويتيين في سن الدراسة الجامعية، فكانت هتافاتهم وايماءاتهم طبيعية ومقبولة.
واكبنا عند المسير عدد من الآليات المدنية حتى المنطقة الحدودية، وهي تشرع ابواقها قوية وسط التمنيات بالخير، فوصلنا الحدود السعودية في الواحدة والنصف في العادة تلك المسافة تحتاج الى نصف ساعة لقطعها لكننا استغرقنا ساعتين ونصف اي بسرعة ثلاثين كيلو مترا في تلك الظروف، وبينما كان الكويتيون ينهون اجراءات سفرهم عند الجمارك الحدودية تقدمت لاتفقد المجموعة الاميركية عند المدينة الصناعية، لكن دون جدوى، اتصلت بفريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي لاتقصى اخبارهم فاخبروني ان استمر في طريقي «حتى مطار الكويت الدولي، وهناك سألتقي بهم».
كان رجال الجمارك منهمكين في التفتيش الذي طال. فالجمارك البحرينية انهت معاملاتنا بسرعة بينما لم يكن السعوديون يعلمون حقيقة اوضاعنا.
المفتشون السعوديون طلبوا من الجميع النزول من العربات وان يتقدم كل فرد من البعثة الى بوابات العبور ذلك ادى الى طوابير من سيارات العابرين العاديين، فطلبت من د. ابراهيم معالجة الموقف بينما رافقته كضابط ارتباط اميركي، لكن عدم قدرتي على التحدث بالعربية وضعني في موقف حرج، وان كان وجودي مفيداً للكويتيين.
وبينما تمكن الكويتيون بالحصول على موافقة كبار الضباط لانهاء التخليص الجمركي لكن العناصر الادنى مرتبة لم يبلغوا اوامراً بتشريع العمل، وبعد عدة ساعات من الجدل والاخذ والرد سمح للبعثة بالمرور، فقدت صبري مما جرى، بينما كان الكويتيون يواجهون الموقف برباطة جأش قالوا لي ان ذلك يستغرق في الأحوال العادية بين 12-24 ساعة لانهاء الاجراءات الجمركية، وخلال كل المدة كان رجال المرافقة السعوديون ينتظروننا، لكنهم ليس لديهم الحق في التدخل مع الجمارك السعودية، ويبدو ان البيروقراطية هي هي في كل بلدان الدنيا!
كان يجب اعادة سيارتي العسكرية الى البحرين، وقلت هذا للدكتور ابراهيم، فأبلغني بنقل امتعتي الى سياراتهم والصعود معهم، ولكني قلت ان وضعي كعسكري لا يسمح بذلك قانونيا، لكنه اجابني بانني كنت اساعد الكويتيين طوال تلك المدة وانهم لن يتخلوا عني الآن، لذلك وضعت امتعتي في ثلاث سيارات وصعدت معه في السيارة.
رافقت د. ابراهيم بينما كان الآخرون ينهون اجراءات دخولهم على الحدود حيث دخلنا الى مكتب. وهناك كان علينا ان نقل مسافرين الى الكويت، وهما دكتورة من وزارة الصحة ومساعدة وكيل وزارة النفط.
وكانت هذه الوكيل المساعد هي ممثل حكومي لدى «المنطقة المقسمة»، اي بما فهمت انه منصب مفوض في «المنطقة المحايدة». ومن الناحية القانونية كان هؤلاء لا يحق لهم الصعود في سيارة جمعية الهلال الاحمر مع البعثة، ولكن وضعهم ليس سوى نسخة مماثلة لوضعي.
وحين تحركت حافلتنا كان عليها التوقف في محطة للتزود بالوقود. وتساءلت عن سبب عدم انتباه احد الى ملئها بالبنزين قبل ان ننطلق. وهكذا توقفنا في المحطة التالية التي يتوافر فيها مواد غذائية كتلك المنتشرة على الطرق السريعة في اميركا، ونزل الجميع لقضاء حاجاته من طعام وشراب وغير ذلك، ما جعلنا نتأخر نحو ثلاث ساعات هناك.
شعرت بعبثية المجهود من اجل المحافظة على النظام، فكانت السيارات تتسابق ويتجاوز بعضها بعضا، وتأكدنا من ان الجميع فهم باننا سنتوقف قبل الخفجي، وان على جميع سيارات البعثة البقاء قرب بعضها، علما ان بعض السيارات كانت مستأجرة منذ شهور وبعضها في حالة غير مثالية، ما جعل تحركنا لا يزيد على خمسين كيلومترا في الساعة، وكان د. ابراهيم يقود سيارة الاسعاف وبقي في مقدمة الرتل.
وكنا حريصين على دفع بعض السائقين للتحرك بشكل اسرع، وعدم السماح لآخرين تجاوز السرعة 125 كم/ ساعة، وخلال تقدمنا نحو الشمال شعرت وكأنني داخل كاتدرائية صغيرة لا تتوقف اجراسها عن الرنين. وكنت شخصيا سائقا متحفظا. ومع انني كنت مدركا ان السرعة 125 كم/ ساعة تعادل 78 ميلا، فقد بدت هذه السرعة كبيرة في نظري.
كان الطريق حديثا وشبه خال من الحركة، وكنت اشعر بتعاطف مع الكويتيين، لذلك لم اترك فرصة التفرج تفوتني مقاوما الرغبة في النوم، حاولت غير مرة ان اقود السيارة بدلا من ابراهيم لكنه كان يرفض دوما، قائلا لي «انتم الاميركيون تسيرون ببطء شديد».
كنت اجلس الى جواره، واكثر من مرة سقط على رجلي مغلف كان يضعه امامي، فاعيده الى مكانه، حتى سئمت وقلت له ان يضعه في مكان آخر، فقال لي ضعه في جيبك، رفعت المغلف قبالة الضوء. كان فيه مبلغ مئة دولار اميركي، فقلت انني لا استطيع وضعه في جيبي لانه يحتوي على ورقة نقدية، سألني: أليس هو لك؟ كنت اعتقد انه لك»، ولما اكدت له انه ليس لي امسكه ورماه على المقعد الخلفي.
دهشت لسلوكه وسألته: هل هكذا تتعامل مع المال؟، فأشار الى حقيبة للنفايات تحت رجلي طوال الطريق، وقال: «هل تعلم ماذا في داخل هذه الحقيبة هنا؟». قلت: هي تعني ان فيها غير النفايات؟ فضحك وقال ان فيها مئة الف دولار، وواضح ان الدولار كان عملة مشتركة يومئذ في الكويت، وقلت له متندرا ان عليه توخي الحذر لانني لو علمت بان لديه كل هذه المبالغ لهاجمت سيارة الاسعاف.
على الرغم من ان المسافة الحقيقية بين المنامة والكويت هي 540 كيلومترا لكن الطريق بدا طويلا جدا. وكانت حركة المرور خفيفة جدا على الطريق، حيث مررنا بمجموعة من القوات تسير الى الشمال، مع انني لم اعرف الى اين.
توقفنا في بعض الطريق عند استراحة بمنطقة «ابوحررّية» وهي آخر استراحة قبل الخفجي وحدود الكويت. وهناك تشتت المتطوعون بسرعة واشتروا كل ما في البقالة تقريبا من مواد مثل الخبز والحليب والمشروبات والسجائر. اما انا فاكتفيت بشراء بعض الخبز والكعك والدخان. كان البائع يفضل العملة البحرينية او الاميركية. ومن الطبيعي انني كنت اجهل اسعار المواد وكم يريد ثمنها ولكن ما طلبه مني بدا سعرا مناسبا.
بعض المتطوعين دخلوا الى المطعم، لتناول الدجاج مع الارز، وحيث كان هناك جنود من جنسيات مختلفة، وحاولت التعرف على طبيعة الاوضاع في الشمال، لكن لا احد منهم كان يعلم ماذا يجري على وجه التحديد، وفي المكان ذاته كانت دورات المياه معمولة على الطريقة السعودية، ولكنني كنت ادخر بعض المحارم الورقية في جيوب بزتي الرسمية وفي خوذتي، ولاحظت كثرة الكتابات بلغات عديدة على الجدران، كما في اي مرافق مماثلة في العالم، واكثريتها عبارة عن كتابات رومانتيكية او اشارات مقنعة الى شخصية صدام حسين.
اخيرا، تجمعنا ثانية وانطلقنا لكي نتوقف على مسيرة ثلاث ساعات. ولدى وصولنا الى الخفجي التي كانت مسرحا لمعارك برية في السابق لم اشاهد الكثير من آثار تلك الحرب، كانت المدينة بلا انوار ولا مظاهر حركة فيها، مع قليل من الدمار، عجبت من ذلك لكوني كنت اسمع باستمرار الاخبار من السي ان ان قبل بضعة اسابيع. في الحادية عشرة ليلا وصلنا الى حدود الكويت، وكانت الاذاعة الكويتية تبث الاغنية ذاتها وتكررها مرة بعد مرة وكانت اشبه بزعيق شاب بالغ يردد اسم «الكويت» بلا توقف في الحان غير منسجمة، عندئذ اخذ الكويتيون يهتفون فرحا، وتوقفت الحافلات وترجل الجميع وهم يحمدون الله على نعمة التحرير، وكنت متفهما تماما لمشاعرهم الدافقة ولم اتذمر بسبب توقفنا هذا عند الحدود.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة(15)
الكويت شبه مهجورة يلفها الظلام.. والطريق إلى المطار مكدس بالآليات المدمرة
شوارع الكويت مهجورة الأدخنة تتصاعد من آبار النفط
المواطنون يطلقون الرصاص بغزارة في الهواء ابتهاجاً ولا أدري ما مغزي ذلك
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي ايفان بروكس عدداً من مظاهر الفرصة الغامرة التي انتابت الكويتيين حوله حين علمهم بالتوجه الى الكويت المحررة.
ورصد بروكس كيف جاء سيل العائلات والحافلات مملؤة بالمتطوعين والمواد الغذائية رغم أن الحكومة - فيما يعلم- طلبت من مواطنيها التمهل قليلاً حتى تأمين الحد الأدنى من حاجياتهم.
وأشار الى كيف كان السير الى الحدود الكويتية والاجراءات السعودية، وحال الطريق بمجرد دخول المنفذ الحدودي والسيارات المحترقة المكدسة والأليات العسكرية.. وهنا تفاصيل جديدة.
الجمعة 1 مارس 1991
لم يكن هناك احد في المركز الحدودي، وهذا ادهشني حيث توقعت ان اجد جنودا اميركيين وكويتيين او سعوديين يحرسون المنفذ. ومع انه لم يكن هناك احد لكننا اخذنا نلف وندور وسط ركام هائل بسبب ما لحق الطريق من تخريب حديث. فما كان طريقا مزدوجا للذهاب والاياب اصبح الان ساحة مملؤة بالعربات المدمرة حتى طمست معالم الطريق، لهذا كان تقدمنا بطيئا جدا، اذ كان يتوجب احيانا الانعطاف بزاوية قائمة فوق الرمال والمواد، مرت ساعتان على هذه الحال الى ان وصلنا الى طريق مقبول، لكننا فوجئنا بابلاغنا ان احدى الناقلات الضخمة انقلبت في حفرة وتهشمت بشكل لا امل منه، فاضطررنا الى ايقاف الحملة وعدنا انا والدكتور ابراهيم ادراجنا للتحقق مما حدث هناك.
كانت تلك القاطرة تحاول تجاوز جرار يسير ببطء شديد، فغرقت في الرمال حتى مستوى منتصف العجلة، ولم تتمكن الجرافة التي لدينا من انتشالها، فرجعنا الى القافلة عند الحدود في انتظار وصول مساعدة، وخلال فترة انتظار وصلت دورية سعودية لكن سياراتهم لم تفلح في تقديم اي مساعدة، لذلك تأكدنا من ان السائق لديه ما يكفي من طعام وشراب وتركناه لنتابع سيرنا باتجاه الكويت شمالا.
وصلنا الى مدينة الكويت في الثانية والثلث صباحا، فكانت مدينة شبهة مهجورة ويلفها الظلام، تولى د. ابرهيم قيادة الركب عبر المدينة صوب مطار الكويت الدولي، وكانت جوانب الطريق تغص بالآليات المدمرة، واكثرها سيارات مدنية، الى جانب عدد من الدبابات الروسية الصنع هنا وهناك، وبكلمة لقد كانت الكويت ساعتها مدينة اشباح حقا، مدينة بلا حياة ولا شيء فيها سوى العربات الفارغة في كل مكان، ولم نشاهد اي جثث حتى.
كانت حملتنا هي الوحيدة المتحركة في المدينة، بينما كانت النفايات وآثار الدمار في كل مكان، لذلك كنا نسير بعكس السير، كانت انوار الآبار البترولية وحدها التي تؤنس الليل الساكن في المدينة، وتشير الى وحشة المكان المدمر.
يقع مطار الكويت عند اطراف المدينة، حيث تركز التدمير الهائل. فالآليات المحترقة تسد الطرق الرئيسة، ما اضطرنا الى تحويل وجهة سيرنا هنا وهناك فيما بينها الى ان وصلنا الى المطار اخيرا، لم يكن هناك اثر لاحد في المكان، اوقفنا الركب عند مداخل المطار ورافقت د. ابراهيم لاستكشاف المنطقة، وعندها فقط شاهدت جنديين اميركيين من قوات المارينز.
سألت الجنديين عن موقع تمركز القوات فأخبراني انهم مع باقي قوات الحملة الاولى MEF، ولكننا لم نر اي جنود أبدا، وكانت تلك القوات تتمركز على اطراف المطار وليس في وسط المدينة، ولم يكن لديهم اي علم بوصول وحدتي العسكرية.
عدنا انا ود. ابراهيم الى مجموعتنا، كان بعض المتطوعين من طول الرحلة التي تجاوزت سبع عشرة ساعة، ولاسيما النساء اللواتي كن في حاجة الى استراحة، فما العمل؟ وحين سألوني قلت انني لا اعلم اين هي وحدتي، سألت د. ابراهيم اذا كان لديه اي اقتراحات فاشار بان نتوجه الى مستشفى مبارك، ونظرا لكونه يعرف المدينة فقد وافقته الرأي، وهكذا عدنا الى قلب المدينة صوب مستشفى مبارك.
كان المستشفى مناراً بمولدات خاصة، بينما انتشر بعض الناس في الخارج، وبعضهم كان مسلحا باسلحة من نوع AK-47 او بنادق ام 16، وكنت احمل مسدسا من عيار 45 مع خمسة مخازن احتياطية، لذلك كنت واثقا من الموقف، لكن تبين لنا انهم مواطنون كويتيون، وما ان دخلنا حتى أتوا لملاقاتنا وتحيتنا بحرارة، والدموع تملأ عيونهم، عرفني د. ابراهيم على قريبيه، احدهما عقيد متقاعد في القوى البرية والثاني مدني. وكلاهما كانا بين رجال المقاومة، فرحبا بنا بحرارة شأنهم شأن كل الحاضرين، وعندها طلب مني بعضهم ان اوقع لهم على اوراق العملة التي كانت بحوزتهم.
وفيما اخذت اوقع اسمي سألت د. جمال عن سبب ما يفعلونه، فضحك وقال لي: ذلك لانك اول جندي اميركي يرونه في الكويت، وها هم يسمونك «محرر الكويت!».
كانت الساعة اصبحت الثالثة فجرا، وأكثرية المتطوعين توجهوا الى منازلهم، بعد ان اخذوا تعليمات بالعودة لبدء العمل في الصباح، اما انا فوقفت جانبا في الطقس القارس، كدت اتجمد، ربما بسبب التوتر وقلة النوم والاجهاد، فسألت احد الاصدقاء: كيف يمكن ان تكون الكويت باردة بهذا الشكل؟ قال لي: هكذا هو الطقس هنا بارد حتى يكاد ينفذ إلى العظام!
جلست انتظر في ردهة المستشفى، لكن بعض المرضى ارتاب من وجودي، واخيرا قال لي ابن عم د. ابراهيم ان توتر المواطنين كان بسبب مسدسي الذي احمله، واذا ما كنت سأسخره للمقاومة، فقلت انني لا استطيع ان اخبئ المسدس في حضور غرباء، لكن العقيد المتقاعد طمأن الجميع بأن الامور عادية.
سألني موظف بالمستشفى اذا كنت اريد الدخول الى المسجد، فقد كان هناك تسع جثث لعراقيين، كذلك يوجد هناك 23 عراقيا آخرين تم اسرهم في اجنحة المستشفى، فرحبت بفكرته لتفقد المكان، شكرت ذلك الطيب واعتذرت بلباقة منه، فزيارة مشرحة في بواكير النهار ليس امرا مبشرا.
بعد تأمين حراسة المستشفى من قبل المتطوعين توجهت برفقة د. ابراهيم الى فندق كبير بقرب السفارة الاميركية، كانوا يتخذون منه مركزا اعلاميا، وحين علموا طلبوا من د. ابراهيم اجراء مقابلة معه، وكانت عمته (والتي بدت اصغر سنا منه) بقيت في الكويت طوال فترة الغزو، وكانت كثيراً ما تتحدث عبر التلفزيون عن الحياة تحت الاحتلال العراقي، لكن د. ابراهيم اعتذر ساعتها على ان يتحدث للصحافة في وقت لاحق.
نزلت في غرفة مستقلة في الدور الرابع مع عدد من الفنيين. وبينما كنت اناقش معهم الوضع بمجمله فوجئت بدخول «سام دوبلدسون» الى هناك ليدعوني الى الغداء، وهو عبارة عن قطعة خبز قديمة، رفضت تناول الطعام، وأخذ يتساءل عن سبب وجودي في الفندق، فهم لم يسبق وان شاهدوا اميركيين قبلي في المدينة، وارادوا معرفة موعد وصول القوات اليها. والواقع انهم ربما كانوا يعرفون أكثر مني هذه الامور. بعد ذلك انتظرت عودة د. ابراهيم حيث رافقته الى مستشفى مبارك.
لدى خروجنا من مبنى الفندق اقترب منا موظف وقدم لنا «لوغو» للفندق لحمله وقال معتذرا «يؤسفنا ان ليس لدينا مياه ولا كهرباء، ارجو ان تعودوا بعد عودة الفندق للعمل مجددا». وحيث اقبلنا على سيارتنا واجهت بعض الجنود الاميركيين قرب السفارة. هؤلاء اخبروني ان عددا من افراد فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية وصلوا الى الكويت ولكنهم لم يكونوا متأكدين من مكانهم الحالي.
أرشدوني الى قاعة البيت الدولي لكي استريح قليلا. وكانت القاعة أشبه بجو كلية للطلبة، رغم ان القمامة كانت متراكمة في انحاء المدينة مؤخرا. ولما كنت متعبا جدا فقد غفوت بسرعة، وبعد ثلاث ساعات ايقظوني، فسألتهم «ماذا هناك؟» فاجابوا «لا شيء لكن هناك بعض الفلسطينيين في الجوار». ولما سألت عما اذا كان هناك اي تهديد، قالوا «كلا، لا تهديد ابدا». بعد قليل تهيأت للعمل بعد ان استقر بي المطاف، ومرت ايام قليلة حيث قال لي بعض الكويتيين ان بعض الفلسطينيين اطلقوا رشقات نارية صوب المستشفى، ولهذا كانوا قلقين على سلامتي. والواقع انني لم اتأكد من تلك الواقعة آنذاك ومن ثم نقلوني الى وحدة العناية القلبية في المستشفى، هناك غفوت ثلاث ساعات ثم استيقظت للعمل.
كانت مشاهداتي في مدينة الكويت خلال النهار مملؤة بالاثارة. فقد كان الدمار في كل مكان، لكن ليس كما توقعت. وقد قلت للكولونيل «دون ماكيني» في اليوم التالي «كنت اتوقع ان ارى هنا صورة برلين لعام 1945. لكن ما رأيته هو صورة ديترويت 1991»، كان الكويتيون يملأون الشوارع على الرغم من قلة الحركة المرورية، ولا يكفون عن الشكر لله واميركا، ذلك ذكرني بالافلام التي رأيتها عند تحرير باريس خلال الحرب العالمية الثانية. وكان الشيء المفارق هو رؤية مقيمين من جنسيات غير كويتية يشكرون الله واميركا ايضا، وادركت ان الاحتلال والتحرير كانا تجربة لا تنسى، عواطف الناس كانت جياشة حيث رأيت الكويتيين يجلسون على جوانب الطرق ويطلقون نيران اسلحتهم الآلية ابتهاجا في الهواء، الا انني لم افهم ماذا يعني ذلك فالرصاصات المنطلقة لابد وان تستقر في مكان ما، لانها تطلق عشوائيا، وخلال عدة ايام سمعت ان عددا لا يقل عن ستة عشر شخصا اصيبوا جراء ذلك «بسبب الرصاص المتطاير»، وان كنت اسمع عمليا ما يؤكد هذه الاخبار، لكن عبارات الشكر كانت مسموعة بشكل دائم.
حين غادرت المستشفى اقترب مني طبيب ومعه كمامة غاز عراقية وجدها في الغرفة، قلت له ان مثل هذه الاشياء الخاصة بالحرب يجب عدم لمسها - فقد تكون مفخخة، ورغم ان مثل هذه الحالات كانت نادرة لكن من الضروري تجنبها. وعند الساعة الثالثة والنصف طلب مني مدير مستشفى مبارك العمل على تأمين مياه الشرب النظيفة والتخلص من جثث العراقيين. فأخبرته بانني قليل الحيلة دون مساعدة من وحدتي، ولا أعلم أين هي آنذاك.. وفي تلك الأثناء اندفع الى غرفة المدير عدد من ضباط الكتيبة 96 المكلفة مهمة الارتباط المدني. كان هؤلاء يجرون مسحاً لمنطقة معطوبة ويريدون معرفة ما يحتاجه المستشفى من مساعدة. فشرحت لهم الأمر فوعدوا بالتحرك لمعالجة الوضع. وفي آخر اللقاء قال مدير المستشفى ان العراقيين كانوا يدفعون رواتب عن الاسابيع الأخيرة بعملة عراقية «مزيفة». وقد جعل الأميركيون من ورقة الـ25 ديناراً عراقياً ذكرى لوجودهم، حيث كانت صورة صدام حسين على أحد وجهيها ضمانة لصحتها، لكن ما حدث أنهم كانوا يسلمون أوراقاً نقدية لونها باهت، ما يعني ان العراقيين كانوا ينسخونها نسخاً. وقد تناول ضابط من الكتيبة 96 ورقة منها وأخذها «لأغراض استخباراتية».
في الساعة الخامسة عصراً رافقت د. ابراهيم الى الفندق الدولي وكان فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتية قد وصلت فرحبنا بأفرادها. وكان الوضع غير منظم بعد، فطلبوا مني متابعة عملي كالعادة.
بعد ساعتين ذهبت مع ابراهيم الى السفارة الفرنسية، حيث كلف الجنود الفرنسيين بازالة الألغام والقنابل المفخخة في المدينة. طلب د. ابراهيم منهم المساعدة في تنظيف مقر جمعية الهلال الأحمر الكويتي الملاصق لمستشفى مبارك، فوعدوا القيام بذلك، وغادرنا عائدين الى الفندق لتقصي أخبار الفريق. وفي الطريق مررنا على بيت زوج ابنة عمة د. ابراهيم وأخذناه معنا. وكان مديراً للجمعية الكويتية لرعاية المعاقين - والذي كان يشغل شقة من ثلاث غرف سكنية. وكان العراقيون يستخدمون المستشفى المخصص لهم مقرا لقيادتهم، ما اضطر زوج ابنة عمة د. ابراهيم (هاشم تقي) نقل الأطفال المعوقين الى شقة يسكن في حولي.
كان في تلك الشقة أكثر من 50 طفلاً، كلهم بحاجة الى عناية مركزة من عشرين ممرضة وموظفاً، ظلوا يقومون بواجبهم حتى نهاية شهر الحرب (وكانوا جميعاً من جنسيات غير كويتية مختلف).
أخذنا فريق عمل من «آي بي سي» ABC الى الشقق، حيث قاموا بعمل فيلم عن هؤلاء الأطفال المعاقين الذين كانوا بحاجة الى الحليب والأغذية و»الحفاظات»، تضم لقاءات مع الموظفين وتفاصيل عن الواقع القائم. وكان ذلك مشهداً محزناً حقاً.
عقب انتهاء الفريق من العمل أعدناهم انا وابراهيم الى الفندق الدولي في الساعة العاشرة، ومن ثم تابعنا طريقنا الى المطار بحثاً عن قيادة الجيش الوسطى. كان المطار لايزال مقفراً، ولم اعرف اذا كانت وحدتي وصلت الكويت أم لا. عدنا أدراجنا الى مستشفى مبارك بعد الحادية عشر والنصف وقضينا ساعة كاملة في مناقشة الحاجة الى النقل والمياه، وكان علينا ايضاً ان نحسب حساب الناقلة والسائق الذي تركناه عند الحدود الكويتية. وقد قضيت ليلتي في غرفة بالمستشفى، ولكنها كانت غير مريحة اجمالاً بسبب نقص الخدمات والمياه خاصة.
الحلقة (16) حرائق الآبار البترولية حولت نهار الكويت إلى شتاء نووي
آليات عراقية مدمرة
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي إيفان بروكس وصفاً شاملاً لحالة الكويت بعد التحرير مباشرة وكيف كانت شبه مهجورة يلفها الـظلام الدامس بتأثير الحرب ونيران النفط المشتعلة والطرق غير الصالحة للارتياد والتنقل والمزدحمة بالآليات العسكرية والسيارات الخاصة المدمرة.
وذكر بروكس كيف اتجه هو ود. إبراهيم بهبهاني إلى المطار بحثاً عن اشخاص ومكان يصلح لاتخاذه مركزاً، وكيف اتجها بعد ذلك الى مستشفى مبارك باعتباره الوجهة الأفضل، وأشار إلى أن عدداً من رجال المقاومة رحبوا به باعتباره بطلاً من أبطال التحرير.. وهنا تفاصيل جديدة.
الجزء 3: هدوء الصحراء
الفصل 11
من الكويت إلى البحرين وعودة منها (2-8 مارس 1991)
بدأت العمل الجدي مع انتهاء الحرب، علماً انني لم أكن أعلم انها انتهت حقاً أم لا. سرت اشاعات بانه تم الاتفاق على وقف اطلاق النار، أو في الطريق الى وقفه. كانت مدينة الكويت بلا كهرباء ولا هواتف ولا مواصلات، فكلها معطلة الوسيلة الممكنة للاتصالات كان الهاتف المحمول لدى عدد من الكويتيين.
الأيام التي أعقبت الحرب مباشرة عاشت المدينة أياماً شكلت تجربة حقيقية للكويتيين. النساء المسنات اللاتي كن عادة لا يقربن من الغربيين أصبحن يتوددن للجنود الأميركيين وكانت وسائل النقل معدومة.. خلال الليل لم يكن هناك الكثير من السيارات المتحركة على الطرق باستثناء السيارات العسكرية أو السيارات الحكومية والشاحنات لكن الصورة تنعكس تماماً في النهار، حيث تشهد الطرق في المدينة حركة مرورية واسعة. وكانت حرائق الآبار البترولية كفيلة بتحويل ساعات النهار الى جوّ مظلم، تبعا لحركة الريح وظروف الطقس، وكثيراً ما كنت أقول لرفاقي: «لقد سمعت بالشتاء النووي من قبل، لكنني الآن أشهده بأم عيني».
جنبات الطرق كانت تغص بالدبابات والمدافع العراقية المتروكة، بينما كانت الحجرات القذرة التي أقامها العراقيون كالأعشاش تملأ الأمكنة. وهذه حجرات مصنوعة كيفما اتفق من مواد مهترئة، ويعيش فيها جنودهم حياة بدائية قلما تعرف النظافة بينما ملأوا «الأماكن الحصينة» بمخلفات الاحتلال.
وخلال الأيام الأولى للتحرير كان البنزين قليلاً، وأعلنت الحكومة ان الوقود والأغذية سيكونان بلا ثمن الى حين عودة الأمور الى نصابها. لكن محاولة الكويت اعادة الحياة الى مجاريها أدت الى طوابير من السيارات أمام محطات الوقود. ذكرني ذلك بأزمة البنزين في أميركا عام 1973. لهذا أخذت صوراً لتك المشاهد - العرب في انتظار دورهم للتزود بالوقود!
وكان كافياً لنا ان نرفع «صليباً أحمر» أو قيادة سيارة عسكرية لاعطائنا الأفضلية في الزحام. ومرة ملأت خزان سيارتي فاقترب مني موظف المحطة. تساءلت هل سيطلب مني ثمن البنزين؟ لكني فوجئت بانه يقدم لي ورقة دينار ويطلب مني ان أوقع له على «أوتوغراف». وسمعته يشكر الله والجيش الأميركي على نعمة التحرير بالتأكيد.
كان الأمر محرجاً في بعض الأحيان. وكانت تلك الأيام أيام بهجة للكويتيين، حيث كان شارع الخليج يغص بالسيارات المحملة بالمحتفلين مدنيين وعسكريين مصريين وسوريين وكويتيين وبريطانيين وفرنسيين وأميركيين. ومن غريب المصادفات ان أقوى الهتافات كانت لتحية القوات البريطانية والأميركية - «الله، الكويت، بوش، الأمير»، وبهذا الترتيب بالضبط كان واضحاً ان شعبية جورج بوش (الأب) هي الأعلى حتى انني اقترحت ان يأتي ليكمل حياته في الكويت بعد انتهاء مدته الرئاسية.
السبت 2 مارس 1991
كان ذلك الصباح «مظلماً وكئيباً»، الدخان المتصاعد من آبار البترول المحترقة حول النهار الى ليل حقيقي. أخذني د. ابراهيم الى مبنى الهلال الأحمر. وكان المتطوعون فيها موزعين على المستشفيات في حين تولى آخرون أعمال اعادة التأهيل للمبنى الجديدة.
في غمرة انشغالنا هناك أطل «جيان باشيتا» وبقية فريق اللجنة الدولية ICRC، حيث وصلوا الى مدينة الكويت وقاموا بترتيبات لاشغال «البيت الثاني»، وهو فندق مجاور للفندق الدولي، ليكون مقراً لعملهم. ولكنهم حصلوا على قسم من مبنى الهلال الأحمر بدلاً من الفندق. وكان فريق اللجنة الدولية يبدون تحفظاً متزايداً، وكأنهم يلومون الأميركيين على التعجل في اتخاذ القرار. الا ان جيان نفسه كان ودياً بعكس الآخرين.
جاء ظهور الكويتيين والفلسطينيين فورياً، حيث أقبلوا لمعرفة ما الذي حدث لاصدقائهم واقاربهم خلال أيام الاحتلال، ولم يكن لدي ثمة الكثير من الاجوبة عن تساؤلاتهم. لهذا تابعت مهمة تنظيم مبنى الجمعية. وكان هناك الكثير من العمل لإعادة تأهيلها.
خرجت عند التاسعة صباحا، فشاهدت أميركياً بثياب الصحراء المموهة يسأل المتطوعين الكويتيين. اقتربت منه، ورأيت انه لا يضع أي رتبة ولا غير ذلك. ربما هو من الاعلام. وحيث كان المتطوعون منهمكين في العمل فإن من الصعب تأخيرهم لإجراء مقابلات صحافية.. دنوت منه وسألته عن هويته.
بادرته بالسؤال فالتفت الي بسرعة وقال: «أنا مشغول.. أرجوك أن تبتعد وتهتم بعملك». فشعرت بالاهانة، لاسيما انني كنت متعباً ولم أنم كثيراً.. فسألته: هل أنت جندي أميركي؟ فأجاب قائلاً: «أظن انني قلت لك ان تبتعد وتهتم بشؤونك. هيا، اذهب». ازددت غيظاً.. وفكرت: أنا الذي عملت لايصال هؤلاء المتطوعين الى هنا، هل يمكن ان اترك هذا المغفل يرهقهم بالأسئلة؟
قلت له في حسم: أعتقد ان من الأفضل ان تعطيني هويتك حالاً.. فقدم أوراقه لي بسرعة، فلم أتمكن من قراءة اسمه ولا الوحدة التي ينتمي اليها.. كررت طلبي: أريد رؤية أوراقك فوراً.
بدأ ان اسلوبي اثر فيه، حيث انه جاء ليرافقني الى الخارج.. وقال لي: «استمع الي رجاء، لقد حذرتك بأن تبقى بعيداً عن طريقي.. والآن خذ هذه واقرأها جيداً ودعني أكمل عملي».
نظرت في أوراقه وعرفت انه كان أحد عناصر التحقيق في القوى البحرية NIS. وفهمت لحظتها ان ما تجنبته سابقاً قد حل مكانه مشكلة أخرى مع هؤلاء. لكني تماسكت وقلت له: الآن فهمت لمصلحة من تعمل. هل انت تتبع وحدة الدعم الاداري أم القوات البحرية؟ فاجأه سؤالي هذا فأجاب بانه يعمل مع وحدة الدعم الاداري، وأضاف انه يفتش عن متعاملين مع الجيش العراقي أو جنود عراقيين هاربين ويختبئون في الكويت.
نظرت اليه وقلت له: «هؤلاء الأشخاص الذين تتعامل معهم بهذا الصلف وصلوا الى الكويت بالأمس فقط. وأنا جئت بهم الى هذا المكان من البحرين، واذا كان لديك أي اسئلة فيمكن ان توجهها اليّ شخصياً. لهذا أطلب منك ان تغادر هذا المكان حالاً. امتعض وقال انه سيرى ما يمكن فعله وخرج. كان مبنى الهلال الأحمر يحرسه رجال المقاومة الكويتيون، و هم مسلحون ببنادق 47-AK، فأوصيتهم بألا يسمحوا لهذا الرجل بالعودة ثانية. كان كل الشباب الكويتيين مسلحين بهذه الأسلحة أو ببنادق أم 16، ولكن ما أزعجني هو امتلاكهم لبذلات تمويه للصحراء. فقد كان لدي مجموعة واحدة منها، و ها هم يظهرون في المجتمع وهم يلبسونها.
وأخيراً أصبح الزي الشائع للمقاومة الكويتية هو كنزات «نايكه» Nike وبذلة مموهة وبندقية 47-AK لدى الشباب عموماً.
توجهت مع د. ابراهيم الى المطار للبحث عن وحدتي. وكان هناك مجموعة كبيرة من الجند على الطريق، فقصدنا رئيسهم فوجودنا انه «دون ماكيني». تبادلنا التحية وسألته عن موقع الفرقة 352 المكلفة بالشؤون المدنية، فقال انهم في منطقة «صبحان» وقفنا مع دون ماكيني قبالة المطار نتفرج على حرائق آبار النفط بينما أخذ لنا د. ابراهيم صوراً تذكارية. وأخبرني ماكيني ان أفراد الفرقة كانوا يلهون وهم يتقدمون نحو الشمال.
ثم انه قال أيضاً «كما تعلم، لقد فقدت احترامي للاسرائيليين».
تساءلت عن مصدر هذه الملاحظة، موجهاً سؤالي له، فقال: «منذ سنوات بعيدة ودولة صغيرة كاسرائيل تواجه ملايين العرب. ولكن بعد متابعتي لأداء الجيش العراقي صار لزاماً ان اعترف ان اسرائيل تراجع اداؤها كثيراً، صحيح؟ وما أعنيه هو انها تقاتل العرب».
كان علي ان نتحقق مع د. ابراهيم عن «قضية حاضنات الأطفال»، حوالي الساعة الحادية عشرة. فقد شاع على نطاق واسع ان الجيش العراقي أخذ كل المعدات الطبية من المستشفيات، وانهم رموا بالأطفال الخدّج من حاضناتهم التي شحنت الى بغداد، تاركين المواليد الجدد في مواجهة مصيرهم. وقد طلبوا من الهلال الأحمر البحث عن تلك الأجهزة في المستشفيات. من الواضح ان لكل حرب ضحاياها من الأطفال. ذلك ما حدث سنة 1914 حين غزا الألمان بلجيكا، حيث تكاثرت الحكايات آنذاك عن قتل الأطفال واغتصاب الراهبات. ولم يتضح بطلان تلك الروايات الا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
حين وصلنا كانت أكثرية الأجهزة في مستشفى مبارك في أماكنها، والحاضنات موجودة هناك لكن ماذا عن بقية المستشفيات؟ توجهنا الى مستشفى الصباح ومستشفى العدان للتأكد، ولاشك في وجود الكثير من الشهود على تلك الحادثة الرهيبة، في كل المستشفيات التي تفقدناها لم يعترف احد بارتكاب فظائع. زرنا أجنحة الخدج وكانت الحاضنات فيها.. أخيراً توقفنا عن البحث يائسين من العثور على دليل.
بعد مضي سنة على حرب «عاصفة الصحراء» بث برنامج «سكستي فينتس» فيلماً عن ذلك الحادث، ملقياً الكثير من الشك حول حدوثه الفعلي. وقد استغربت استمرار تصديق تلك الحادثة كل تلك المدة. وقد علمت ان د. ابراهيم بهبهاني قد «عثر على دليل شاهد». فاتصلت به في يناير 1992، فأخبرني ان قابلة أردنية «شاهدت» الحادثة. قابلة أردنية يعني انها فلسطينية، كونها أبعدت من الكويت. وشعرت بان روايتها محاطة بالشك لأنها كانت تريد العودة الى الكويت. عندئذ نبهت د. ابراهيم حول «الروايات المدنية» وقلت له انني شككت في عدم عثورنا على شاهد حي في تلك الأيام عقب التحرير مباشرة. ومنذ ذلك التاريخ أشارت الصحف العراقية الى طبيب ووصفته بانه «كذّاب كبير». وكنت أعرف ابراهيم حق المعرفة، وأعلم مدى صدق أفكاره ومعتقداته.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة(17)
«شكراً.. أميركا».. هدية من طفلة كويتية حملتها معي لبلادي
لقطات من تحرير الكويت
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي إيفان بروكس جوانب كثيرة من مظاهر الاحتفالات الشعبية العفوية في الكويت ابتهاجا بالتحرير وفي مناطق كثيرة وأشار الى احتفال العديد من الجنسيات المختلفة وليس المواطنين فقط، اضافة الى تنوعهم ما بين العسكريين والمدنيين.
وذكر ان الخدمات كانت شبه مدمرة بالكامل مع غياب تام للمواصلات والاتصالات، لافتا الى ان الحكومة الكويتية قررت توزيع الأطعمة والبنزين مجانا على المتواجدين بالبلاد مما أحدث طوابير كثيرة وطويلة أمام محطات البنزين.
وأضاف بروكس أنه قام بالتقاط صور لتلك المشاهد لانها ذكرته بالطوابير نفسها في أميركا عام 1973 وهنا تفاصيل جديدة:
في ابريل 1992 نشرت «كرول اسوشييشن» تحقيقاً مستقلاً حول قضية «الحاضنات»، وتوصلوا الى ان بعض ما ذكر حولها كان صحيحاً بالفعل. وجاء تقريرها موثقاً ولا مجال لتكذيبه. وأنا شخصياً أرى ان العراقيين ارتكبوا فظائع بحق الأطفال بشكل غير منهجي غالباً، وهو ما فعلوه أيضاً فيما يخص العنف الذي مارسوه ضد الكويتيين عموماً.
عدنا في الساعة الواحدة ظهراً الى جمعية الهلال الأحمر، وكان علينا تحديد أماكن تخزين المواد لدينا. دخلنا الى مدرسة مجاورة فوجدنا غرفها جيدة ومناسبة، لاسيما ان المدارس مقفلة.. هكذا طلبنا من المتطوعين تنظيفها ونقل ما لدينا من مواد طبية اليها. ثم اتصلنا بابن عم د. ابراهيم لزيارته وتناول الغداء عنده.
كان الطريق الى منزله يعج بالدبابات العراقية المدمرة، فطلبت من د. ابراهيم ان يتوقف عند أحدها، فترجلنا وأخذنا صوراً مع دبابة كانت في عرض الشارع. كان البيت الذي ذهبنا اليه غريباً من الخارج لكنه ذو فخامة وأرضيته من الرخام. وقد اعتذر الرجل هو وزوجته عن بساطة الطعام مع انه جيد في مثل تلك الظروف داخل الكويت. وكان أولادهما يتناولون الطعام مع ضابط أميركي، ولكن طفلتهما الصغيرة أهدتني قلباً مصنوعاً من الورق عندما خرجنا، وقد كتبت عليه «شكراً، أميركا»، فكنت حريصاً على حمله معي الى بلادي.
خرجنا وتوجهنا الى الفندق الدولي. الطرقات مليئة بالقمامة المتراكمة ورائحة الأماكن خانقة. التقيت عدداً من عناصر فريق الطوارئ واعادة البناءالكويتية، وحدثوني انهم باتوا ليلتهم في عرباتهم على الطرقات، وانهم عانوا جداً من الروائح المتصاعدة في المكان، سألوني عن سبب عدم شعوري بالضيق من الجو، فقلت لهم، ان زميلتي في وحدة الغوث الدولية كانت تتناول الارز التايلندي المطهو في الميكرويف، فاذا كنتم تعتقدون ان هذه الروائح نتنة هنا فما عليكم الا ان تجربوا العمل في تلك الاماكن، وكانت القمامة والجثث المتفسخة في المدينة تنتشر في كل مكان لكن الروائح فيها تبقى افضل من رائحة مكتب حكومي في القيادة التي عملت فيها. وفي اعتقادي ان الحقيقة اغرب من الخيال.
وقد اقسمت على ان أشكر لزميلتي بسبب ما لقنتني من «تدريب» حول هذا كله.
داخل الفندق الدولي حيث ذهبنا كانوا يعملون مكاتب جديدة، ابرزها مكتب المعلومات المشتركة JIB، حيث يوزعون دبابيس توضع على قبة السترة وعليها العلمان الاميركي والكويتي، اخذت ثلاثة أكياس من تلك الدبابيس وقلت لهم انني سأوزعها على اصدقائي الكويتيين وفي تلك الساعة لم انتبه الى انها مرغوبة جداً، لهذا احتفظت بعدد منها لي ووزعت البقية على متطوعي الهلال الاحمر الذين أعرفهم.
وقد طلب د. ابراهيم مني الحصول على ثلاثمئة دبوس منها.
أوصلني ابراهيم الى المطار الدولي في الساعة الثالثة لكي أبحث عن رفاقي في الوحدة بصبحان، وهي منطقة صناعية تبعد نحو كيلومتر من المطار وهي كانت مستودع الكتب المدرسية واستعادها الجيش الاميركي، فأصبحت منطقة تخييم حرة، سألت د. إبراهيم عن معنى «صبحان» فقال ان لها علاقة بالاسم التكريمي «صبحان»، وزاد اذ سمعني الفظها «سوبحان» فهي «صبحان» علامة الصباح.
عندما دخلنا من البوابة الرئيسة كان علي ان أشرح للامن انني جندي من الفرقة 352، وأردفت قائلا ان آليات الهلال الاحمر يجب ان يسمح لها بالدخول، هكذا أوقفنا السيارة وتعرفنا على قوة الشؤون المدنية المشتركة CCAIF.
لم أكن متأكدا من استقبالي هناك وعندما عدت الى وحدتي، هل سيستقبلونني، ام أن قائد الوحدة سيقول لي «انت يابروكس يفترض انك ستكون ضابط ارتباط للبحرية الاميركية، فبأي حق انت تتجول على هواك في مناطق الخليج؟
شاهدت الجنرال «موني» فاقتربنا وابراهيم منه، حييته وقلت له: انا الكولونيل بروكس ايها الجنرال، وأقدم لك الدكتور ابراهيم بهبهاني، الامين العام بالوكالة للهلال الاحمر.
رد الجنرال موني تحيتي ورحب بالدكتور ابراهيم وقال لي «لقد سمعت اشياء طريفة رائعة عن عملكم يا كولونيل أنت والكويتيون. ارجو ان تستمر بذلك». فسررت بذلك بشكل يفوق الوصف، اذ ان اخباري تتردد هناك وتحظى بموافقة قيادتي باعتباري أعمل في مدينة ثرية لقد كانت مهمتي جيدة وأصبحت تحظى بتشجيع القائد العام.
أخذونا في جولة في داخل المجمع، حيث يتواجد عدد من الوحدات العسكرية ومن بينها بعض القوات البريطانية. وضعت امتعتي جانبا وطلبت الى «دون ماكيني» تحديد المكان الذي سأقيم فيه، ومن ثم رافقت د. ابراهيم في طريق العودة الى المدينة.
كانت هناك أوامر لتحذير الجنود من النزول الى مدينة الكويت اثناء الليل، لكني وجدت ان الكويتيين اكثر ما يجتمعون للتحادث والنقاش ليلا، فحضرت لقاءات عدة وكان د. ابراهيم يجدد الالتقاء باصحابه ويعلم ما الذي حدث خلال غيابه عن الكويت. واخيرا، في حوالي الحادية عشرة ليلا، أوصلني الى صبحان. وفي الطريق كنت أتحدث الى د. ابراهيم وسألته عن رأيه بما يجري، فقال انه مرتاح لما حدث. وبعد كل هذه الأشهر من العمل فقط صارحني بانه بدأ يشعر بالانهاك، حتى أنه أصبح يغفو وهو يقود سيارته. وهكذا ودعته على ان التقيه في الصباح التالي في مبنى الهلال الاحمر.
دخلت الى مركز العمليات وهناك عرفت المبنى الذي سأبقى فيه، وجدت افراد وحدتي في السرداب وسط ركام من أنابيب المياه المكسرة، والمياه المتسربة منها، وقد انتقيت لي «مكانا جافا» وفتحت امتعتي، وعلقتها في الاماكن المخصصة.
الأحد 3 مارس 1991
السادسة والنصف صباحا، كانت الشمس تشرق، وها قد عدت الى وحدتي، حيث علمت ان العمل لم تتغير ساعاته، المشكلة كانت ان نفرا قليلا من زملائي بقوا في صبحان، وساعتهم «عادية» بينما الوقت في ساعتي مختلف، اي «حسب توقيت الكويت»، وانني نادرا ما أعود قبل الحادية عشرة والنصف ليلا، بعد ان استيقظت وارتديت ملابسي ونظفت أسناني لم تكن هناك «بواليع» صالحة واضطررنا للشرب من زجاجات معبأة.
وصل د. ابراهيم في التاسعة الى «كامب فريدوم» أخبرني انه يريد ان يعود الى البحرين من أجل مساعدة بقية متطوعي الهلال الاحمر- لإحضار المزيد من المتطوعين وما بقي هناك من أغذية ومعدات، بحثت الامر مع الجنرال موني فوافق. لكني كنت في حاجة الى وسيلة نقل واردت تجنب اثارة مشكلة «لانني لا حق لي كعسكري ان استقل سيارة اسعاف».
قال الكولونيل «اليوت» للميجور «ويندر» ان بامكانه ان يستخدم سيارته ويرافقني الى البحرين، وكانت طلباتنا هي ان نؤمن هذه الاشياء ونعود خلال يوم او يومين ولكني قلت للجنرال ان الامر قد يؤخرنا لمدة اطول. وكان ضابط ارتباط لدى منظمة الاغاثة الدولية IRO وجمعيات المتطوعين الخاصة PVO في الهلال الاحمر، واسمه «كولبورن»، وادعى ان وجوده في الظهران، بينما كانت اللجنة الدولية للصليب الاحمر والهلال الاحمر وجمعية الهلال الأحمر الكويتية في البحرين، ادى الى عرقلة التنسيق معي. وفيما يبدو كان يسعى الى ان يقيم علاقة عمل مع الكويتيين خلال الرحلة.
توجهت برفقة د. بهبهاني الى مبنى الجمعية، واخبرت كولبورن بأنني سأعود اليه بعد نحو ساعة ثم ناقشت مع الدكتور ابراهيم مسائل تخص البعثة المقبلة.
على الرغم من انني نسيت لكن د. جمال ذكر ان الشاحنة المفقودة قد تم العثور عليها، الشاحنة التي تركناها على الحدود مع السعودية اخرجها «تراكتور» من الحفرة الترابية وعاد سائقها لينضم الى رفاقه، ورغم هذه التفاصيل التي كانت تحدث فانني لانتهاء هذه المشكلة، ولا أخفي انني كنت قد غفلت عن تلك الآلية تماما.
كانت هناك ست عربات مخصصة للرحلة الى البحرين، احد الكويتيين المتطوعين ويدعى «نجيب» ترك عائلته في البحرين، وسيبقى ممثلا للجمعية في البحرين، وكان متحمسا للامر، طلبت منه ان يعود الى «كامب فريدوم» لأتمكن من نقل الميجور ويندر وخلال تحركنا نحو الطريق العام شاهدت تجمعا للدبابات، وهي فرصة جيدة لالتقاط صورة، طلبت من نجيب ان يتمهل واقتربنا من اقرب دبابة، ثم اعطيته الكاميرا، ليأخذ لي صورة بجانب الدبابة، وحين دنوت منها رأيت ان الدبابات كانت تحاصر منطقة وان كل مدافعها كانت متوجهة صوب منطقة سكنية مجاورة.
سألت: لمن هذه الدبابات يا نجيب وماذا تفعل هنا؟ فأجاب انها دبابات كويتية وانها ستقوم بتمشيط المنطقة بحثا عن اسلحة. وعدت اسأله: لكن ماذا تعني بذلك؟ فقال لي «هذه المنطقة هي حولي، ويسكنها غالبية فلسطينية».
قلت له: اذا دعنا نبتعد يا نجيب من هنا! وبالفعل ركبنا في سيارته فسألته: لكن لماذا لم تحذرني من ذلك؟ فرد بقوله «انت لم تسألني عنها».
لابد ان الكويتيين كانوا يضمرون شيئا من الازدراء للفلسطينيين، وكان احد أغراض عملنا كضباط ارتباط هو الحيلولة دون وقوع مجزرة ضدهم، خلال الحرب العالمية الثانية كان تحرير فرنسا برهانا على ان الايام الاولى بعد التحرير ربما تشهد تسوية العديد من الاحقاد وكنا مهتمين بتجنب الحرب الاهلية.
في الواقع كان في الكويت ثلاثة تيارات هي: جماعة آل الصباح «الموالين للعائلة الحاكمة والنظام الملكي»، والتيار الديموقراطي وهم الذين بقوا في الكويت أثناء الاحتلال ولهذا يشعرون بأحقيتهم في التمثيل بالحكومة»، والفئة الثالثة هم الفلسطينيون «وبعضهم عاش في الكويت اكثر من أربعين سنة، وكثيرون منهم تعاونوا مع العراقيين او تعاطفوا معهم لاقتناعهم بان صدام حسين كان يجسد طموحاتهم»، الا ان كل ذلك كان يجب ان يتم تناسيه لان أي حرب أهلية في الكويت بعد التحرير لن تجلب موافقة دول العالم ووقوفها معهم.
أوصلني نجيب الى «كامب فريدوم» ومشيت الى مركز العمليات. هناك وجدت الميجور ويندر جاهزا للانطلاق، فوضعت امتعتي القذرة في سيارته وعدت معه الى مبنى الهلال الاحمر في الحادية عشرة، ومع انه كان يجب ان نغادر مباشرة لكننا بقينا ساعات عدة ليجتمع الفريق كله، سألني د. ابراهيم اذا كان يمكن للوكيل المساعد للنفط وطبيب من وزارة الصحة السفر معنا الى الظهران فوافقت على ذلك. ولكن كان من الصعب العثور على الطبيب بسبب سوء الخدمات الهاتفية بالمدينة. هكذا سرنا بعد ثماني ساعات من الموعد الاصلي، ولكن عدم توافر الاتصالات اللاسلكية بيننا شتت شملنا وتوقفنا للتجمع عند مخرج الطريق العام، حتى ظهرت طلائع شاحناتنا واتفقنا ان نسير سويا، على ان نلتقي على الحدود السعودية البحرينية في حال تفرقنا.
ولدى خروجنا من مدينة الكويت بدأ واضحا ان حركة المرور داخلها أخذت تتزايد، مع العديد من القوافل الداخلة اليها، وفي الطريق كنا نتحادث مع الوكيل المساعد والطبيب، فضلا عن سماعنا أشرطة عن نوادر حدثت خلال الحرب العالمية الثانية، وقد سألوني عن رأيي في مدينة الكويت، وعن «مشكلة الفلسطينيين»، ولكني هربت من الاجابة، لعلمي ان هذه قضية سياسية وليس من السهل الخوض فيها، لكن الرجلين ألحا علي قائلين «أوقف هذا الشريط، يا كولونيل، وقل لنا مارأيك في موقف الحكومة الكويتية» فأجبت: أنا كشخص مدني أعمل مع الولايات المتحدة، وكضابط ايضا، وأصدقكما القول ان عندي ما يكفي من المشاكل مع حكومتي، ولا حاجة بي لانتقاد الدول الاخرى، وعلى الرغم من اصرارهما على سماع رأيي فقد أمضينا ثماني ساعات على الطرق، واخيرا قلت لهما «هناك تشعبات كثيرة في المسألة، وهناك العديد من الفلسطينيين المقاومين مع الكويت- وهؤلاء خاطروا بحياتهم من أجل الكويت، هل ستكافئوا هؤلاء الناس باعطائهم الجنسية؟».
وكانت صدمة لي حين سمعت جوابهما بالرفض «كلا! وألف كلا هذا أمر غير وارد، نحن قد نقدم لهم تعويضات مالية ونسمح لهم بالعيش في الكويت لكن ليس أكثر من ذلك».
اسمتعت اليهما لكني لم استوعب ما سمعت، لقد كنا نتحدث ليس عن تدفق مواطنين جدد باعداد كبيرة، والكويتيون سيرفضون قبول فلسطيني واحد! وفكرت في داخلي بان هؤلاء لم يتعلموا من تجاربهم.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (??)
عسكري كويتي فتح النار على عقيد أميركي بحوزته مجوهرات
الأضرار التي لحقت بآبار النفط وشوارع الكويت
في الحلقة السابقة ذكر الكولونيل الأميركي إيفان بروكس عدداً من المشاهد المهمة والملاحظات الأهم منها ما قامت به القاذفات الأميركية بتدمير رتل من الآليات العراقية بطولة 1600 متر في اتجاه الشمال الى العراق، لافتاً إلى أنها كانت محملة بكل شيء يمكن حمله من بيوت المواطنين الكويتيين إلا أنه تم تدميرها بالكامل.
وأشار في ملاحظة مهمة جداً الى أنواع من قذائف المدفعية المصنوعة من اليورانيوم المخصب بما لذلك من آثار بيئية خطيرة.
وذكر أن ضابطاً عراقياً كان على الحدود العراقية وحينما رآه وسأله هل أنت أميركي وحين تأكد طلب تسليم نفسه اليه وحينما تسلمه ضابط كويتي قال له: لو كنت أعرف ذلك لما سلمت نفسي.. وهنا تفاصيل جديدة:
بين 9 - 14 مارس 1991
لم تكن مدينة الكويت بعد التحرير بلا أخطار محدقة. فالاسلحة والذخائر والقنابل كانت تملأ أراضيها. وكل ليلة كان الرصاص يتطاير بغزارة في السماء، ونتلقى التعليمات المشددة بعدم الخروج الى أي مكان ليلا بمفردنا.
بالنسبة لي لم أسأل عن الأسباب والتفاصيل، ولا ما اذا كانت تلك التعليمات موجهة للأميركيين وحدهم. وقد كنت دوما مرافقا للكويتيين، وهذا أفضل من مرافقة أحد الأميركيين، لان المواطنين يعرفون الاماكن في المدينة، لكن ماذا عن العودة بعد غروب الشمس؟ وكانت أكثرية الاجتماعات التي أحضرها تعقد أثناء الليل.
قبل أسبوع تقريبا تعرض أحد ضباط قواتنا لاطلاق نار من رجل كويتي. وخلفية هذا الحادث أتاحت المجال واسعا للإشاعات التي استمرت طوال بقائنا في الكويت. ذلك الضابط كان يفحص محطة توليد كهربائي فتلقى انذارا بضروة مغادرة المكان من أفراد في الجيش الكويتي وجنود في الوحدات الخاصة الأميركية، الا ان الضابط لم يأبه بهم وعاد الى المنطقة، فأطلق جندي كويتي النار عليه فجرح جرحا خطيرا لكنه أسعف بسرعة وعولج من اصابته في الصدر، الا ان الإشاعات لم تتوقف. وسرت التساؤلات حول طبيعة عمله. وحين ذهب الميجور جون هاربل لاحضار سيارة الضابط (برتبة عقيد) وجد فيها كمية من المجوهرات وكان شريك العقيد المصاب يرافق هاربل، وانشغل برمي الاشياء عبر النافذة . الا ان جون طلب منه أن يتوقف عن ذلك لان كل شيء سيتم تخزينه ريثما يتم التحقيق بصفة رسمية في الأمر. وطرح التساؤل: هل ان العقيد أطلق عليه النار وهو يسرق؟ وقد قيل أيضا أنهم عثروا عنده على مستودع مملوء بالمقتنيات النفيسة. غير ان الحقيقة أي كانت محاطة بالإشاعات. وبعد سنة من ذلك الحادث ذكر ان العقيد المصاب أصيب بالشلل وأحيل على التقاعد. وقال آخرون ان هذا غير دقيق ونفوا اصابته بالشلل، في حين ادعى البعض انه لم تتم محاكمته لاسباب تتعلق بـ« مخاطر سياسية». فلا أحد يتمنى ان يلقى القبض على جندي أميركي يمارس السرقة. هل كان هناك قرار واع وعلى مستوى عال للتعتيم على تلك الحادثة؟ لقد علمت من الضابط الذي قام بالتحقيق في تلك الحادثة ان قرارا كهذا ربما اتخذ فعلا لاعتبارات تتعلق بعمل البعثة. كما ان اقامة الدعوى تحتاج الى وقت طويل جدا، وتكاليف باهظة كانت حاجيات اعادة بناء الكويت أهم من ذلك.
كذلك هناك قضية «السيارة القناصة»، وهي سيارة من نوع «شيفر» بيضاء تهاجم الجنود الأميركيين في المدينة وتقنصهم، وقد سمعت ذلك أكثر من ثلاث مرات، لكن لحسن الحظ أن أحدا لم يصب بأذى جراء أعمال القنص، بقدر ما نبهتنا الى المخاطر المحدقة.
وكنت أتجول في الكويت برفقة د. ابراهيم ليلاً. ومن المحتمل ان هذا كان غباء من جانبي وليس لشجاعتي، مع انني لم أكن أخشى على نفسي الا لسبب واحد. لقد كانت الحاجة الى مزيد من المتطوعين تتزايد لأن أجهزة الاتصال كانت كلها مشلولة، وكان هذا هو شاغلي البحث عن متطوعين جدد.
ولقد عثر د. ابراهيم على جواب لهذه الحاجة، وهي المساجد. وذات مساء توجهنا الى أحد المساجد وطلب مني هو انتظاره في السيارة، ثم دخل لمناشدة المصلين لمد يد العون بالتطوع، ونجح في هذا المسعى. وما ان خرج حتى انطلقت طلقات خطاطة خضراء في الفضاء على مسافة قريبة من مكان وجودنا. بقيت في السيارة غير المضاءة، اذ لا يوجد مجال للخروج منها ولفت الانتباه الى وجودي. وحين رجع ابراهيم بعد نصف ساعة شعرت بالطمأنينة لاننا سنبتعد عن المكان، وتساءلت: هل كانت تلك طلقات من أسلحة المبتهجين باستعادة المدينة لحريتها أم انها رصاصات قناصة؟ ذلك لم يكن واضحا لي.
لدى عودتي الى مركز العمليات ليلاً كنت أجلس مع مجموعة من رفاقي، وسرعان ما وزعت مهمات على المجموعة التي سميناها «فرسان الطاولة المستديرة المربعة». فكان الرقيب «لاري لي» عضوا نشطا في ادارة الشؤون النفسية في القوات الأميركية USACA0POC. وفي اطار حرب «عاصفة الصحراء» تم تكليفه بمهمة التنسيق العملياتي للشؤون المدنية CCATF، وكنت التقيته لاول مرة عندما كنت في «فورت براغ» خلال أغسطس 1990، ولأول وهلة لم يكن لدي انطباع جيد عنه. وذات ليلة كنا في مكتب الضابط المسؤول فسألني: هل تظن حقا انهم سيسمحون ليهودي بدخول السعودية؟ أعني ان ذلك لا معنى له، ثم انه ذكر ملاحظات مزعجة لي فأدركت انه عسكري بائس. لكن حين تعمقت علاقتي أكثر به عرفت انه كان يعبر عن مخاوفه لا أكثر، والواقع ان الرقيب «لي» كان جنديا محترفا، ولم يكن يسخر من انتمائي الديني بقدر ما كان يثير التساؤل. ولما التقيته في الكويت هنأني على ما قمت به، فسألته: هل فوجئت بي يا لاري؟ فأجاب: كنت أدرك أنك أهل لكل ما فعلته، وتفضل ان تفشل بنبالة. والحقيقة ان ذلك صحيح، لانني لم أفشل الا في علاقتي مع القوات البحرية. وكان هو مع الكولونيل مايك نيكلسون «ملوك الغنائم» حين نجتمع، حيث كان لديهما أشياء للذكرى من عدد الحرب العراقية الى الخوذات وحتى الاسلحة المضادة للطائرات، ما تحتاج الى شاحنات عديدة لحملها. وكان مركز العمليات لديهما أشبه بمتحف حربي وفيه مختلف الاعتدة والأجهزة، فكان مكملا للاعتدة التي كانت تنتشر قبالة الشارع بما فيها الدروع والمدفعية والآليات الكثيرة التي استخدمها الجيش العراقي وتركت هناك حيث وضعت عليها بطاقات من قبل الادارات العسكرية التاريخية، والتقطنا صورا عديدة في جوارها.
الميجور تشوك ترومبيتا كان ضابطا يمثل «الشمال الأميركي» Algonquin وله خدمات طويلة في الجيش الأميركي. وذات مرة سألني أحد معارفه حين ذكر اسمه: هل تريد أن تقول ان ترومبيتا لايزال حياً؟». وكانت له شخصيته القوية التي جلبت له عداوات كثيرة من المتنفذين. واعتدت أن أقول عنه انني عرفت تشوك ترومبيتا منذ ان كان برتبة نقيب، بمعنى أن هذا ما عرف به في كل وحدات الجيش الأميركي. وبهذه الصفة خدم في أماكن نادرة كضابط ارتباط مع قائد أركان الجيش الكويتي، وهو كثيرا ما يستدعى لشرح واقع القوات الكويتية لقادة الوحدات الأميركية.
بعد ليلة في المدينة كان شيئا مريحا ان نعود لكي أراجع أحداث النهار، كذلك فالنزاع بين قيادة الشؤون المدنية (352) ووحدات فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي شكلت مصدرا للفكاهة والاشاعات، فقد كان أفراد تلك الوحدة المجندون يشعرون بأنهم يعاملون معاملة غير لائقة ولم يخفوا مشاعرهم بالغضب، كان عدد من هؤلاء العسكريين كجنود احتياط أكبر من نظرائهم في الخدمة الفعلية، وبالتالي لم تعط لهم الفرصة الجيدة لاختبار خبايا الخدمة العسكرية الارضية، لذلك فان تأمين متطوعين لتنظيف مخلفات الجيش هي مسألة يتم تجنبها على الملأ، وقد عمل قائد المقر «بريان رايلي» مع الرقيب أول فرتز ماثيوز كل ما في وسعهما، لكن تشغيل المجندين ضمن مجموعات شكل عاملا مناهضا لعملية استخدامهم بشكل تقليدي، وبقي النزاع مستعرا ولم يحسم، حيث شعر عدد من المجندين بالاهانة وسوء التعامل من القيادة.
حاولت ان أفهم الى متى سنبقى في مدينة الكويت، هل يمكن العودة الى الوطن في غضون شهرين؟ فقد كان ابني سيبلغ سن الثالثة عشرة (وهي سن مهمة لدى اليهود، كما ذكرنا). وكنت دائم التفكير في هذا الأمر، وتسلمت رسائل متتالية يسألني فيها عن وضعي، كما ان زوجتي أرادت ان تعرف متى يمكن ان أعود. ونظرا لانني كنت عسكريا منذ أواخر أغسطس حتى نوفمبر فانني شعرت بأن في امكان الجيش اما تسريحي مبكرا أو السماح لي بالسفر لفترة محدودة الى أميركا. لذلك فاتحت بوب غودوين بالامر، لانني رغبت في ابلاغ د. ابراهيم ووحدات فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي عن أسباب غيابي. ورغم انني لم أناقش مسائل دينية مع الكويتيين فانني رأيت من المناسب ان يعرفني هؤلاء كضابط في الجيش الاميركي لا أكثر. وقد أمطروني بأسئلة عديدة: لماذا توقف الجيش الأميركي عن التقدم أكثر؟ ولماذا لم تتخلصوا من صدام؟ وهل «الموساد» سيقتل صدام؟، ودهشت لتلك الاستفسارات، وتساءلت لماذا يريد الكويتيون ان يقوم الاسرائيليون بقتل صدام؟ وكنت أسمع الجواب عينه وهو «لأنهم سينجزون هذه المهمة على خير وجه».
إعادة الخدمات الى مدينة الكويت كانت تجري على قدم وساق، لكن على مهل. وكان عدد من المسؤولين خارج البلاد والمكاتب معظمها مغلقة، وجاء الاعلان عن فرض حالة الطوارئ لمدة تسعين يوما ليسهم في مفاقمة الاوضاع. الهلال الاحمر وحدها كانت تتمتع بكامل الصلاحية للعمل من قبل الجيش الكويتي.
وبدأت المساعدات الدولية تتدفق على الكويت، وكان ديفيد ويتليسي ممثلا اللجنة الدولية للهجرة، وهذه المنظمة هي وكالة صغيرة مقرها في جنيف (سويسرا) فتولت شؤون اعادة الجاليات الدولية في الكويت الى بلدانهم والمساعدة على ايجاد دول لنقل اللاجئين، وكان لها ثلاثة ممثلين فقط في الكويت، فكانوا نشطاء جدا هناك.
الا انه عندما جاء ديفيد في بداية الامر سأل: أين يمكن لي أن أجد سيارة أجرة؟ تبادلت النظرات أنا وبوب وضحكنا. لقد كان كل شيء خارج الخدمة في المدينة، وعليك احضار كل ما تحتاجه معك من الخارج، وبينما كان بوب يشرح لي الهدف من وجود هذه المنظمة تعهدت رابطة جمعيات الصليب الأحمر والهلال الاحمر وجمعية الهلال الاحمر الكويتية باعارته سيارة، وكان ذلك أفضل أجر يعطي مقابل العودة الى المدينة لشخص من الأشخاص.
جوشوا في الأرض غير الموعودة..
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (21)
القوات المشتركة نقلت دباً إلى السعودية لإجراء جراحة له واكتشاف فيل مصاب بطلق ناري
طابور من السيارات
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي إيفان بروكس ملاحظات كثيرة تكشف عن خفايا كثيرة ليست معلومة - على الأقل - للأجيال التي لم تعش تلك التجربة الأليمة، حيث ذكر عدداً من الأخطار الأمنية التي سجلها منها وجود سيارة «شيفر» بيضاء كان بها قناص يهاجم الجنود الأميركيين ويطلق عليهم النار، لافتاً إلى أن الكويت بعد التحرير كانت مملوءة بالأسلحة والذخائر والقنابل، اضافة الى اطلاق النار بين الحين والآخر.
وذكر واقعة اطلاق النار على ضابط أميركي برتبة عقيد أسفرت عن إصابة كان يمكن أن تكون قاتلة له.. وهنا تفاصيل جديدة:
السبت 9 مارس 1991
أصبحت معتادا على الاستيقاظ باكرا، ومع تزايد الحركة والانوار بات ذلك عاديا. توجهت الى مركز العمليات لحضور اجتماع فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي الصباحي، وكان كل فريق يجتمع على حدة، فبقيت العضو الاقدم في مجموعة الخدمات الانسانية.
في الاجتماع نوقشت مهمات كل جندي ومدى تأثر التنسيق على العمل ولأنني بلا سيارة كنت محتاجا لمن يقلني الى الخارج، كان العقيد جورج بادار سيذهب الى الفندق الدولي والهلال الاحمر في حاجة الى مزيد من الاعلام والدبابيس، وكان جورج مشغولا بشؤون عائلية، وكان الكولونيل «بيت» باترنوستر من اللواء المدني 354 عضوا في وحدات فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي، وعلى علاقة دائمة مع جورج فرافقنا، لافترق أنا عنهما حين ألتحق بالكويتيين.
وصلنا الى الفندق الدولي في الساعة 9.30 فذهبت لاحضار الدبابيس لكنها لم تكن متوافرة لدى مكتب الاعلام المشترك، فقلت لهم انني سأعود لذلك الغرض بعد يوم أو يومين، فالجميع في الهلال الاحمر كان يطلب تلك الدبابيس له ولأسرته. ومهما كان ذلك تافها لكن تلك الدبابيس كانت تمثل شيئا رمزيا. بعد ذلك ذهبت الى الهلال الاحمر الذي ينبغي ان يعمل خارج اطار التكليف الحكومي، وقد أصبح هم المجتمع الاكبر تأهيل دور الرعاية المنتشرة في أماكن عدة داخل المدينة فيما يعرف بالمعاهد الخاصة، وكان المرضى في هذا الدور قد عانوا من سوء الرعاية والاوضاع غير الصحية.
كانت أحوال دور الرعاية الصحية في الصليبخات مرعبة وجذبت اهتمام الرأي العام العالمي. لذا خف المجندون للمساعدة من أجل اطعام المرضى وتغيير الشراشف وغير ذلك، وكان هذا الدور الخاص بالمعوقين يحظى باشراف الدولة، التي تفعل كل ما في وسعها لتحسين الاوضاع الصحية فيها. وهو ما حدث لكن بشكل غير أساس كأولوية. ولم تكن وزارة الصحة هي المسؤولة عن دور الرعاية المذكورة، بل تقع ضمن مسؤولية وزارة الشؤون الاجتماعية. وهذه الوزارة في كل دول العالم تركز على الدعم الشعبي لجهود الحكومة. وحيث يتعين على العدد القليل من المرضى الذين يتم قبولهم فيه ان ينتظروا، لكن هذا لم يكن كذلك في الكويت. وكان هناك خطر انتشار الامراض نتيجة الاصابة بالكرات العنقودية، فضلا عن نقص الكادر الطبي.
ناقشت هذا الامر مع د. ابراهيم. وشعرت بأن متطوعي الهلال الاحمر على أتم الاستعداد للمساعدة. والى هذا كانت حاجات اللاجئين على الحدود تتزايد، في حين كان عدد المتطوعين يتناقص. فقد كان حجم العمل مرهقا لان عددهم الاصلي ليس كبيرا. وكانت هناك حاجة الى متطوعين جدد للنهوض بالمهمات الصحية المتزايدة. ومع انه لا سلطة للهلال الاحمر مباشرة على دور رعاية الاجتماعية فان عددا من متطوعي الجمعية توجهوا الى هناك، ونقلوا أنباء غير سارة. وتعين على المتطوعين الكويتيين والاميركيين التعاون لدرء خطر تفشي الامراض، وقد تركزت الانظار على تلك الدور، حيث كان للتقارير المرسلة عن حالة المرضى تأثير كبير على الناس. الا ان الصحافة ركزت على منطقة أخرى، وهي حديقة الحيوان، هناك كانت الحيوانات في الداخل في حالة يرثى لها. وقد عمل الكولونيل رالف يونغ رئيس وحدة الخدمات الانسانية لساعات طوال في هذا المجال. وقد قلت بشكل شبه ساخر لدون ماكيني: انت تعلم أنه بعد خمسين سنة، حين يجلس المؤرخون لتدوين التاريخ الحقيقي حول الوضع الخدمي الانساني في مدينة الكويت فان العقيد رالف سيكون بطلا لهذه الاعمال، لاسيما أن صوره وأخباره ستملأ الصحف.
التعليمات التي كنا أصدرناها لتجنب أسئلة الصحافيين حول الشؤون المدنية فيما يخص القوات الأميركية حول فورت براغ ونورث كارولينا اصبحت من الماضي الآن. وفي حين ان المركز الاعلامي الذي أقامه رالف كان يغيظني لكن عليّ ان أعترف بأنه كان احد الضباط القلائل الذين أثبتوا جدارة كبيرة، وكانت هذه الوحدة المكلفة بشؤون المدنيين منشغلة تماما، في حين الضباط الاخرين في هذه الوحدة أكثرهم كانوا يقضون الساعات في الثرثرة ونقل الاخبار حول ما الذي يتوجب عمله، دون أن ينجزوا تلك الاعمال. أما رالف فكان من طينة أخرى، حتى حين كنت أفقد أعصابي معه كان يظل متوازنا مع مرؤوسيه ويوجههم لاداء العمل بشكل جيد.
خلال الغزو عمد الجنود العراقيون الى استخدام الحيوانات في الحديقة كهدف للهو وكمصدر للحوم الطازجة، وقد تولى شقيقان كويتيان مهمة الاعتناء بالحيوانات المتبقية لكن ذلك لم يكن كافياً، مع أنه لفت انتباه العالم. بالنسبة لي كنت أكثر اهتماماً بتأمين الطعام للناس في حين كانت القوات المشتركة تناقش قضية نقل دبّ الى السعودية لاجراء جراحة له. واكتشفوا ان فيلا أصيب بطلقة، عن طريق فحص الفيل بجهاز لكشف المعادن. على أي حال، هذه كانت مجرد مسائل تافهة مع أني لم استطع مقاومة التفكير في كيفية توجه الصحافة للتدخل لاعادة ترتيب اولوياتنا في تنظيم اعمال الاغاثة. وقد تحول جورج بادار وبيت باترنوستر الى «حماة مساعدين للحيوانات في الحديقة».
ناقشت تشعبات ايجاد برامج تغذية مستقلة مع بوب غودوين ود. ابراهيم. فالهلال الاحمر لديه الإمكانية لاطلاق هذه البرامج، لكن كان علينا ان نتأكد من ان توزيع الاغذية سيكون عادلاً أي أنه يكون للجميع الحق في الحصول على الطعام بصرف النظر عن خلفيته العرقية او بلدة الاصلي. كذلك تساءلنا عن امكانية اصدار بطاقات توزيع خاصة، لكن كيف نضمن وصول الجميع الى حقهم؟ نصح بوب بأن يتم توزيع الاغذية على اساس «من يصل اولا يعطى حسب الدور»، في حين كان لي شخصيا رأي مخالف. فهذا المبدأ لن يكون عادلاً مع انه ناجح كطريقة توزيع.
وفي ذلك اليوم التقيت د. ابراهيم بعد الظهر في بيت الشامية. وقد تحول ذلك البيت الى «مقر للحكومة» خلال فترة الطوارئ. حين وصلنا الى هناك عند الرابعة عصرا انتظرنا في الصالون، وتناولنا الشاي معاً. كان بعض الجماعات من المواطنين يتناقشون في القاعة، فقال لي د. ابراهيم ان الشيخ احمد الحمود الصباح، ابن عم الامير، وهو محافظ الجهراء يومئذ، سيصل. وقد وصل فعلاً.
كان الشيخ أحمد يرى ضرورة التحرك لمعالجة وضع اللاجئين في المنطقة الحدودية. وكانت الحكومة ترى ان من الواجب نقلهم الى داخل العراق. السياسة الاميركية اتجهت الى دعم موقف الكويت، مع ان صناع السياسة في اميركا كانوا قلقين حول التبعات الدولية لقرار نقل اللاجئين الى العراق. فهمنا ذلك من الصحف الدولية، ونصحنا الشيخ بضرورة التعامل بهدوء مع ملف اللاجئين.
وافق الشيخ على ما طرحناه وعدم طرد اللاجئين لكنه طالب بحل آخر لهذه المشكلة. كان رأيه ان المعسكر المؤقت للاجئين على بعد كيلومتر من الحدود العراقية سيشكل «مصدر قلق»، ومكاناً محتملاً للجوء المزيد من العراقيين. ثم طلب منا ان نذهب الى هناك لمعاينة الوضع. وبعد اللقاء انتقلنا الى غرفة اخرى وتناولنا وجبة طعام من المطبخ الكويتي، قوامها لحم الخروف والدجاج والارز، فكانت لذيذة رغم اني لا افضل لحم الخراف.
الأحد 10 مارس 1991
في صبيحة يوم اللقاء مع فريق الشؤون الانسانية تحدثت عن د. ابراهيم طلب الشيخ، فتطوع الكولونيل وبادر لمرافقتي الى الحدود. وفي الساعة التاسعة التقينا د. ابراهيم بمقر الجمعية وتوجهنا الى بيت الشامية. وكان دخول هذا البيت دوماً بمنزلة مغامرة. وهو محروس من قبل جنود كويتيين واميركيين، فاصبح مقراً للقيادة العسكرية. وقد أحيط البيت برشاشات. الا ان ابراهيم كان معروفاً ولذلك كان دخولنا اليه سهلاً. وهناك رحب بنا الشيخ واخبرنا بأن طائرته الهليوكبتر من نوع «بوما» ستصل حالاً لنقلنا.
في العاشرة والنصف وصلت الطائرة وصعدنا إليها، فاتجهت بنا شمالاً. وخلال الطريق مررنا فوق «طريق الموت». وقام قائد الطائرة بالتحليق فوق الآليات المدمرة بكثافة لنشاهد الموقع أكثر.
هبطت الحوامة في المنطقة الحدودية ودرسنا الوضع. لاحظنا ان المعسكر كان في حالة توسع والكويتيون يشعرون بالأسى. اراد الشيخ اغلاق المعسكر، او الابقاء عليه لكن مع نقله الى جوار الحدود، أرادت قوات التحالف بقاء المعسكر مكانه لان الحدود مملوءة بالألغام وتشكل خطراً حقيقيا للاجئين، لكن الشيخ لم يتراجع عن موقفه. وقد شعرت بان الحكومة كانت سخية جدا في السماح للاجئين بالبقاء على الأراضي الكويتية اصلاً.
دعانا افراد الجيش الكويتي هناك الى الغداء، حيث تناولنا لحم الخروف الطازج. وقد التقيت ساعتها الكولونيل «دون سافولد» الذي كان يشغل مساعد قائد المنطقة الوسطى 5-G. وكان هو ضابطا قوياً حيث رقي بسرعة الى قائد المواقع الاجنبية FAO. وكان هو أفضل من يعالج الوضع، فكان رأيه مطابقا لموقف الشيخ.
جلسنا الى الغداء حول اطباق واسعة، دون ملاعق. وحرصت على ان اتناول الطعام باليد اليمنى. وقد اخذنا صورا بعد ان سمح لنا الشيخ بذلك لهذه الوليمة واحتفظت بها.
بعد الغداء بدأنا نناقش الوضع مع متطوعي الهلال الاحمر هناك، حيث التقيت شاباً كويتيا اسمه محمود كنت قد حملته معي من البحرين. محمود هذا ابدى حماسة كبيرة، لاسيما انه دائم التفاؤل والابتسام، فنظر الى مسدسي وطلب مني احضار مسدس مثله له. قلت له انه متطوع في الهلال الاحمر ولا يجوز ان يكون مسلحاً. فرد «أجل. هذا صحيح، لكني مصر على اقتناء هذا السلاح». اخبرته بأنني مسؤول عن مسدسي الشخصي ولا يمكنني، كما لا أريد، اعطاءه سلاحاً. فتبسم وتبادلت معه الضحك.
اخيرا عدنا الى الحوامة. وفي الطريق اليها رأيت شخصين من اللاجئين يتم تفتيشهما. كانا يقفان وقد عصبت اعينهما بغترتيهما. سألت جنديا كويتيا عما كان يجري فقال انهما عسكريان عراقيان ولايزال بحوزتهما بطاقتاهما المدنيتان. سارعت لالتقاط صورة للحادث وتابعتهما وهما يساقان الى الباص العسكري. ثم عدنا الى الكويت ولم ادرك انني فقدت «دفتر» حساباتي ونظارتي حتى اليوم التالي في المعسكر. وكان لدي زوج نظارات احتياطية لكن كيف يمكن تعويض الدفتر الذي سجلت عليه كل فلس انفقته خلال خدمتي. والآن ضاع كل شيء.
بعودتنا الى مدينة الكويت ناقشنا عواقب برنامج اعادة تنظيم مخيم اللاجئين وتعديل مكانه. كان ذلك يتطلب متطوعين اكثر وشحنات اغذية اكبر بشكل منتظم. حاجتنا الى متطوعين دفعت د. ابراهيم الى التوجه الى وزارة الإعلام. وكانت تسود المدينة علامات الفوضى التي تراها على كل جدران الابنية وبخاصة غرف الإرسال. الا ان الجميع كانوا مرحبين بالدكتور ابراهيم، وهكذا تم الاعلان عبر الاذاعة لطلب متطوعين من الكويتيين. وبينما كان هو يتكلم قدموا لي الشاي داخل استديو الاذاعة واشعلنا لفافات التبغ معاً.
بعد ذلك رافقت د. ابراهيم الى منزل الشيخ صباح الناصر. وكان المكان يغص بالزائرين فلم احفظ اسماءهم. وكان لدى الشيخ هاتف للاتصال بالاقمار الصناعية فتحدثت مع اصدقاء لي في الغرب، أما د. ابراهيم فاستخدم هاتفه للاتصال بلندن لطلب الدعم من عمه. وكان يتحدث معه باللغة العربية فلم افهم مضمون الحديث. وقضيت وقتاً طيبا في ضيافة هؤلاء المواطنين الطيبين.
كنت اعلم ان لدى د. ابراهيم عملاً مهماً يجب ان ينجزه، وقد وعد بالعودة الى مقر الهلال الاحمر عند الثامنة لعقد اجتماع مع الوحدة الخامسة للقوات الخاصة. ومع اقتراب الموعد ادركت انه لن يعود في الموعد. وكنت احيانا أسمعه يعتذر باسمي اذا ما ألححت بضرورة الاسراع فيقول لمواطنيه «بسيطة. انه اميركي، وعليكم ان تتفهموا ذلك». اما في الكويت فالناس لا يحرجون الآخرين باستعجالهم مثلاً.
كنت ابدو نافد الصبر، الامر الذي يضحك منه الكويتيون. وحين انهى د. ابراهيم مكالمته الهاتفية كان علينا ان نغادر المكان. لكن ما ان وصلنا الى الباب حتى سألني الشيخ اذا كنت متزوجاً فأجبته: نعم. لكن لم السؤال؟ فقال «أريدك ياكولونيل ان تخبرني متى اتصلت آخر مرة بزوجتك؟».
فكرت في الامر وقلت له انني كلمتها قبل ان نتحرك الى مدينة الكويت مباشرة فنظر الي وقال «لن نستطيع تركك تغادر حتى تتكلم مع زوجتك هيا، خذ الهاتف واتصل». وكان ذلك صاعقا لي لاننا تأخرنا عن موعد الاجتماع، وسأتحدث مع زوجتي؟!. شكرت الشيخ وقلت ان ذلك سيؤخرنا عن الاجتماع، لكنه اصر هو ود. ابراهيم على اتصالي بأسرتي. مدينة الكويت، بلاماء ولا كهرباء ولا خدمات. وها أنا ذا اتكلم بالهاتف الى زوجتي في «أنانديل» بفرجينيا. وقد ردت هي عليّ فقلت لها «أهلاً يا حبيبتي. احزري من أين اتصل؟». فردت «أين أنت يا إيفان؟». فاخبرتها بأن الامور تسير على خير مايرام. وفي داخل المكان لم اتمكن من سماع صوتها جيدا. لكنها قالت لي ان الجميع مشتاقون لي وان كل شيء هناك جيد. فودعتها وشكرت الشيخ على مبادرته اللطيفة.
لدى العودة الى جمعية الهلال الاحمر الكويتية برفقة د. ابراهيم التقينا ضابطا برتبة كابتن من الوحدة الخامسة للقوات الخاصة. كان اتباعه يساعدونه في العمل داخل المدينة وقد تطوع رجاله لتوزيع الطعام. وباركنا جهوده لان توزيع الاغذية في حاجة الى الكثير من الايدي، حيث استعنت انا بجنود اميركيين لهذا الغرض. ثم اعطيناه خريطة المواقع واخبرناه ليكون مع رجاله هناك في الساعة السابعة صباحاً في اليوم التالي.
الحلقة(18) العلم الأميركي وصور جورج بوش أكثر ما طلبه الكويتيون
ل
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي إيفان بروكس تفاصيل الحياة في الكويت في المرحلة الأولى لما بعد التحرير والمشاعر المختلطة بالفرحة الكبيرة والحذر والقلق للمفاجآت الواردة وايضاً الحزن الكبير لما حل بالبلاد من دمار.
وذكر عدداً من الملاحظات عن حال البيئة الكويتية وما اعتراها من ضرر بالغ يزكم الأنوف، من حرائق تحول نهار البلاد إلى ليل وتنير الليل في مفارقة لا تصنعها إلا الحرب.. وهنا تفاصيل جديدة:
الإثنين 4 مارس 1991
سرنا طوال الليل وأدركت أنني لم ار الحدود الكويتية في ضوء النهار.
وفي الرابعة والنصف التقينا عند الحدود المؤدية للبحرين، أبلغت المتطوعين بأننا سنلتقي في مبنى الهلال الأحمر البحريني الساعة التاسعة ثم تابعت طريقي مع «كولورن» الى الظهران لايصال الرجلين المرافقين لنا، وكل منهما ينزل في فندق مختلف، وبعد ايصالهما عدت برفقة الميجور «ونيدر» من الظهران ودخلنا الى البحرين، توجهنا الى المستشفى 47 حيث زرت رفاقي القدامى، وحين رويت لهم ما حدث في الكويت كانوا في غاية الشوق لتلك الاخبار، لكننا كنا متعبين، لذلك بقينا عندهم في خيمة اعدت لاحد المرضى واسترحنا قليلاً بعد الظهر.
في الساعة الثامنة والنصف اخرجت ثيابي لتنظيفها، واخذت فيلما مصوراً حديثاً في الكويت، ثم توجهنا انا وكولبورن الى مبنى جمعية الهلال الأحمر البحرينية لبدء العمل كنا جميعاً نشعر بالتعب واتفقنا على ان نذهب للاستراحة لنعاود اللقاء في السادسة مساء.
حين كنت في الكويت كان اكثر ما يطلبه المواطنون مني هو العلم الأميركي وصور جورج بوش. وقد وعدتهم بان احاول جمع اكبر قدر منهما، وكنت حين طلبوا مني هناك صورة جورج بوش لاول مرة قلت لهم «انتم تمزحون، أليس كذلك؟». لم أكن اصدق ان هناك من يحرص على اقتناء صورة الرئيس. لكنهم كانوا جادين في طلبهم كما ادركت، وفكرت اين يمكن لي ان أجد كمية من الاعلام والصور في البحرين، فتبادر الى ذهني السفارة الاميركية، فتوجهت الى مبناها الجديد لكني واجهت مشكلة، لقد كنت اضع شعار عناصر فريق الانقاذ من الاضرار DCU، ومعي الطلقات LBE مع خوذة Kevlar، ولا أدري اذا كان ذلك مسموحاً داخل السفارة، لذلك نزعت عني عدتي ومسدسي وخرجت من دونها في سيارة مع كولبورن، على اساس انني سأدخل واخرج من السفارة في خمس دقائق فقط.
اقبلت على المدخل وقلت للحرس انني اريد رؤية المسؤول القنصلي، وهي ستيفاني كروننغبرغ، وكنت اعرفها من ايام عملي في البحرية وأنا في البحرين، معتبراً ان هذه مقدمة معقولة لمقابلتها، لكن ستيفاني لم تكن هناك فأحالوني الى «ريك روبرتز» مسؤول العلاقات العامة بالسفارة، فأخبرته انني قادم من الكويت وأريد اعلاماً وصور الرئيس طلبها كثيرون مني وقد دهش لهذا الطلب، واذ كنت اول أميركي يشاهده منذ التحرير من الذين دخلوا الى الكويت، وهكذا دعا عدداً من الموظفين الى مكتبه وكلهم محمل بالاسئلة لي.
مرت عشرون دقيقة، ثم قلت لهم إن معي رفيقا ينتظرني بالسيارة. وقد حصلت من السفارة على ست صور رسمية للرئيس وبضعة اعلام صغيرة، عدت الى السيارة لاجد ان كولبورن غاضب وصرخ في وجهي «خمس دقائق! كنت سأنتظر خمس دقائق اخرى وأعود الى المستشفى».
فاعتذرت له، لكنه لم يهدأ مع كل ذلك.
عدنا الى المستشفى في صمت، فذهب كولبورن ليستريح ومضيت انا لأنهي بعض الاعمال، وكان ممثل مكتب التحقيقات البحرية في الكويت يضايقني. فماذا لو قدم شكوى رسمية ضدي؟ لذلك قفزت من فوق السياج لوحدة الدعم الاداري وتوجهت الى مقر وحدة التحقيقات البحرية، التقيت مع سكوت كارسون، مسؤول الامن الأقليمي، فشرحت له ما جرى لي في الكويت سألني سكوت عن اسم ذلك العنصر فقلت له انني لم اعرف اسمه، فطمأنني بان ذلك هو «تصرف شخصي» من مكتب الجندي ذاته ولا داعي للقلق، فشكرته وطلبت إليه ألا يسمح بتكرار هذه الفعلة مرة ثانية. عدت الى المستشفى وغفوت. وفي الساعة السادسة ذهبت مع كولبورن الى مبنى الهلال الأحمر لحضور الاجتماع، حيث طرح سؤالاً يتعلق بتاريخ عودة الفريق الى الكويت. وكان المتطوعون الكويتيون يتقاطرون من كل حدب وصوب، اسبانيا ولندن وأميركا ومصر، وأراد د. جمال التأكد من امكانية مرافقتهم لنا كلهم، وكان جوابي له اننا هنا لمساعدة الهلال الاحمر ولكننا في حاجة الى وقت محدد لعودتنا.
في هذه البعثة، بخلاف الاولى، كنت انوي جعل موعد سفرنا عند السادسة صباحا والالتزام بالوقت، لكن د. جمال وافق بصعوبة على ذلك، وفي ختام الاجتماع ذهبنا الى السفارة الكويتية في البحرين، هناك قابلنا السفير «الحجي» بالترحيب وطلب ان يرافقنا في العودة، وقلت له ان بإمكانه ان يركب معنا، وفي الساعة العاشرة مساء اختتمت اجتماعنا، حيث عدت انا وكولبورن الى المستشفى.
الثلاثاء 5 مارس 1991
أوينا للفراش متأخرين لنستيقظ بعد الثامنة، توجهت الى وحدة الشؤون الادارية واحضرت فيلما لأشاهده، في طريق العودة مررت على مقر جمعية الهلال الاحمر البحريني حيث علمت ان بعض المتطوعين من الخارج سوف يصلون لاحقا وان البعثة مؤجلة ليوم الخميس، كان هذا تطورا خارج السيطرة لكني اخبرت د. جمال بضرورة التبكير في المغادرة يوم الخميس. لهذا كان هناك متسع من الوقت لدينا انا وكولبورن، للتعرف على البحرين.
أخيرا ذهبت الى الملحق لاخذ الرسائل الخاصة بي، وحدثت هناك مشادات بيني وبين قوات البحرية لان قسما كبيرا من الرسائل كان لديهم ولم استطع الحصول عليه. وحين رجعت الى المستشفى كان كولبورن في الخارج بسيارته، وكانت ثيابنا وأقنعتنا اكثرها في العربة، وهذه مشكلة لنا بالتأكيد، وسألني كولبورن إذا كنت اعتبر تلك مشكلة فشرحت له الامر، فطلب مني تقديم حل لها، ولاسيما ان مغادرتنا اصبحت قريبة وقد تطول، فكرت قليلا، وقلت: لماذا لا تترك المفتاح لدى غرفة العمليات؟ وهنا يمكن ان نطلب منهم ألا يعطونه الا لواحد منا فقط تحت طائلة المساءلة القانونية، فقال كولبورن ان تلك السيارة تخصني، وقد تتعرض للسرقة، وقلت له ان هذه قاعدة عسكرية ومؤمنة، لكنه لم يقتنع فأضفت: حسنا اذا، ما دمت انا أعلى رتبة منك فاني آمرك بأن تترك المفاتيح مع الرقيب، وذلك بأمر خطي لك بحيث لا تتحمل انت المسؤولية.
إلا ان كولبورن أذهلني برده اذ قال «اننا في فريق الطوارئ واعادة البناء الكويتي لا نتعامل بمنطق العسكر»، فأغضبني وعجزت عن تفسير موقفه، وصرخت في وجهه قائلا: يجب ان نفهم الان انك في الخدمة العسكرية وانني آمرك بذلك مباشرة، فاذا رفضت الامر فسأطبق بحقك المادة 15 من نظام الخدمة العسكرية، لذلك فكر قليلا وتقبل الامر الواقع وتسليم المفاتيح لمركز العمليات، الا أنه بسبب علاقتنا تأثرت بذلك وأخذت منحى «فاترا».
الأربعاء 6 مارس 1991
أخذ الضجر منا كل مأخذ حتى يوم الاربعاء ذاك نتيجة تباين مواقفنا انا وكولبورن، وتزايدت الخلافات بيننا أكثر من المتوقع ولم يعد يجمعنا معا سوى العمل.
عند التاسعة صباحا توجهت الى الهلال الاحمر البحريني مؤكدا لهم ان البعثة ستغادر صباح اليوم التالي، ثم توجهت الى السوق لشراء بعض الحلي، حيث اشتريت عقدي ذهب من عيار 21 لابنتي ولزوجتي وجعلت اسميهما محفورين عليهما باللغة العربية، اذ انني اعتبر سائحا ايضا رغم اني جندي، ووعدني الصائغ بإنهاء تلك المهمة مساء ذلك اليوم، فدفعت له ثمن العقدين.
عدت الى جمعية ،الهلال الاحمر البحريني، كان المتطوعون الكويتيون ينزلون امتعتهم التي كان يحملها اعضاء البعثة، وقد ساعدت احدى المتطوعات في ادخال امتعتها لتخزينها في المبنى فشكرتني بلكنة انكليزية بريطانية رائعة، قلت لها: هل انت خريجة احدى الكليات اللندنية؟ فأجابت ان هذا صحيح، وسألتني كيف عرفت ذلك، فقلت: لان لكنتك جميلة وصحيحة، وكان المتطوعون الكويتيون العائدون من أوروبا يلبسون الجينز الحديث، ويصلون تباعا عند ذلك وينزلون المزيد من البضائع التي تتكدس، وكنت اخشى الا تكون هناك اماكن لتخزينها، لكني تركت الامر للدكتور جمال وزميله نجيب وحين ذهبت الى محل المجوهرات وجدت ان العقدين غير جاهزين ووعدني صاحبه بارسالهما الى مقر الجمعية عند الساعة الثامنة مساء.
في البعثة التقينا للمرة الاخيرة في التاسعة الا ثلثا وكان الوضع غارقا في الفوضى لكن برنامج رحلتنا يسير بانتظام وبإمكاننا التحرك في الساعة السادسة صباحا، وأكد لي د. جمال اننا سنراعي هذا التوقيت.
المشكلة عندي ان قطعتي الذهب لم ترسلا لي في الموعد المقرر، وحين ذهبت الى محله وجدته مغلقا، وقفت دون ان اعرف ماذا افعل، وأدركت ان المواعيد ليست محل احترام في الخليج كما علمت جيدا، ولكنني اثرت الانتظار حتى ظهر صاحب الذهب في حوالي التاسعة فدفعت له باقي الثمن ورجعت ادراجي الى الفندق وحاولت الاتصال بالكويت فلم افلح.كانت الشبكة غير مؤهلة جيدا، لذلك اتصلت بما تبقى من فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي في الظهران لاطلعهم على الوضع، وطلبت منهم ابلاغ وحدة الشؤون الادارية المدنية المناوبة بأننا سنتحرك في صباح اليوم التالي، بحيث يتمكنون من ايصال هذه الاخبار للكويتيين.
الخميس 7 مارس 1991
استيقظت مع كولبورن في الرابعة فجرا، ارتدينا ثيابنا بسرعة وتوجهنا الى مبنى جمعية الهلال الاحمر فوصلناه في الخامسة، كانت الحافلات والعربات الشاحنة جاهزة والمتطوعون الكويتيون يتوافدون اليها، وكان العديد من الآباء يحضرون لتوديعهم.
كان الكابتن «عبدالعزيز العباسي» من الدفاع المدني من وزارة الدفاع البحرينية موجودا لمساعدتنا داخل الاراضي السعودية، وهكذا تحركنا في الساعة السادسة صباحا بالضبط، وحين بلغنا الطريق الدولية توجهنا الى المنطقة الحدودية، وكان المتطوعون الكويتيون الذين وصلوا متأخرين يسيرون خلف الركب، فشرعوا ابواق سياراتهم لكي نتوقف، فقلت للدكتور جمال ان بإمكان هؤلاء الركوب في الحافلات حين وصلنا الى الحدود لكي لا تكثر من وقفاتنا ونتأخر عن الوصول.
وعند وصولنا الى الحدود واجهتنا الضابطة الجمركية هناك بتشدد اصعب من المرات السابقة، وانا الذي كنت اعتقد انهم باتوا يعرفوننا اكثر من ذي قبل، لكنها البيروقراطية الغبية، ومع ذلك قام الكابتن العباسي بجهود مشكورة ساعدتنا كثيرا على الحدود البحرينية، حيث اراد رجال الجمارك فرض رسوم كبيرة على حمولتنا، ولم نغادر الحدود حتى الساعة الحادية عشرة، فتوجهنا شمالا عبر الاراضي السعودية، وبعد ساعة توقفنا للاستراحة فتفرق افراد الحملة في المتاجر لشراء الحاجيات، حتى افرغوا تلك المتاجر الصغيرة من كل ما يؤكل ومر وقت طويل قبل ان نتجمع ثانية لمتابعة المسير، قبيل الانطلاق اخبرني د. جمال ان احدى المتطوعات الكويتيات تعرضت للتحرش في ذلك المكان، وفكرت ان المعتدي لابد انه اميركي، وذلك لعلمي ان مثل هذه الافعال لا تحدث الا نادرا في الخليج، الا ان د. جمال قال ان الفاعل رجل سعودي، حيث اقترب منها وشدها من يدها واراد خطفها، ذلك صدمني جدا وسألته عن حالتها فأجاب بأن المرأة صرخت مستغيثة وتمكنت من الهرب، ولكن السعودي لاذ بالفرار فلم يكن هناك اي معنى في الابلاغ عن ذلك الحادث، وعلى اي حال كانت المرأة بخير ولذلك تابعنا طريقنا.
يوميات ضابط أميركي عن الحرب
الحلقة (19) القاذفات الأميركية دمرت كل الآليات العراقية بطول 1600 متر على «طريق الموت»
ا
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي إيفان بروكس عدداً من اللمحات التي سجلها في يومياته عن مشاهد متفرقة من الدفع بعدد من المتطوعين الكويتيين إلى الكويت المحررة للعمل على تأمين المساعدات الإنسانية والجهود التطوعية، لافتاً إلى أن رفاقه في المستشفى 47 الميداني في البحرين كانوا في غاية الشوق لمعرفة ماذا حدث وماذا رأى بروكس في الكويت المحررة.
وذكر أن أكثر شيء كان يطلبه المواطنون الكويتيون منه أعلام أميركا وصور بوش، وهو ما عمل على تأمينه من السفارة الأميركية في البحرين.. وهنا تفاصيل جديدة:
حلقة 19
عند الرابعة عصرا وصلنا الى مكان يسمى «أبوحددية» للاستراحة الاخيرة قبل دخول الكويت، وهناك اعدنا التزود بالوقود مع علمي بوجود محطات تزود عسكرية مجانية امامنا، لكني لم ارد ان اتخلى عن صحبتي ودفعت خمسة دنانير بحرينية، كان من الصعب التحكم بالوقت نظرا لتفرق افراد الحملة مجددا، وحين سرنا لم يكن سهلا السيطرة على اغطية المواد والامتعة بسبب قوة الريح. اضطر د. جمال الى التوقف غير مرة واعادة شد الحبال. ذلك فقدنا بضعة اشياء لم تحزم جيدا، لاسيما علب السجائر «المارلبورو». كانت الحدود بين السعودية والكويت تتخذ شكل منفذ حدودي حقيقي، فقد غصت المنطقة بأفراد الجمارك وامتلأت بالسيارات، ولان انتظارنا لدخول الكويت طال فقد انتهزنا الفرصة للاستراحة والنوم من عناء السفر.
كان كولبورن اكثر استفادة مني في هذا لانني بقيت في السيارة، شاهدت رجلا اميركيا يركض بين السيارات المتوقفة ويصيح «هل من احد يتحدث الانكليزية هنا»؟ انا مراسل محطة «سي إن إن» وليس لدي وثيقة دخول الى الكويت. وكانت هذه المحطة ومراسلها بيتر آرنيت في بغداد ملازما لنا وكأنها شبكة «جين فوندا حرب الخليج». لذلك شعرت بضرورة تقديم مساعدة لهذا الرجل. وبينما انا مسترخ في سيارتي بلباس عسكري كامل، اقبل الاميركي نحوي وقال «هل تتكلم اللغة الانكليزية»؟.
لم أعد أطيق الانتظار فنظرت اليه ببرود وقلت: مهلا، مهلا. وما ان سمع ذلك مني حتى بدا مرتاحا وأخذ يشرح لي بأنه كان يملك اذنا بدخول الكويت، نظرت اليه وكأنني اصم فأراني اوراقه السعودية. حملت تلك الورقة وقرأتها بتمهل ثم اعدتها اليه بشكل مقلوب فنظر اليّ وقال «هل انت أمّي؟» فأجبته: لا، ابدا. لكنني لا اجيد العربية، عندئذ صرخ في فرح «هل انت اميركي؟»، وقد اعجبني ذلك الاستنتاج السريع الذي يميز اهل الصحافة، وسألني «هل يمكن ان اركب معك وأدخل الى الكويت؟»، وفي تلك اللحظة وصل الميجور ويندر كولبورن استعدادا للمسير، فقلت للمراسل: انا متأسف، لماذا لم تطلب الاذن من «بيت أرنيت»؟ ثم تحركنا وتركناه على الحدود.
دخلنا مدينة الكويت في الساعة التاسعة، وكان د. إبراهيم في استقبالنا، وهكذا تم توزيع المهام على المتطوعين وتوجهوا الى بيوتهم حتى النهار التالي، انتحيت مع د. بهبهاني جانبا واعطيته اكثرية ما حملت من اعلام اميركية مع صور جورج بوش، وكنت حريصا على الا ابلغ عن مصدرها، وبعد هذا توجهت مع كولبورن الى منطقة صبحان.
الجمعة 8 مارس 1991
أيقظوني في السادسة والنصف صباحا ليخبروني باجتماع سيعقده الكولونيل رالف يونغ «لفريق العمل». ومع اني لم اكن ضمن فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي بشكل رسمي، الا ان علاقتي بالهلال الاحمر جعلتني اعتبر واحدا من افرادها.
في الاجتماع حدد رالف مهمة الافراد مع رحلة الى الهلال الاحمر مع الكولونيل جورج بادار. وعند التاسعة وصلنا لمقر الجمعية لكن د. بهبهاني لم يكن قد وصل بعد فانتظرنا طويلا. اخيرا غادر جورج وبقيت انا، ولم يصل د. إبراهيم حتى الحادية عشرة والنصف، حيث طلب مني ان ارافقه الى الحدود العراقية الكويتية. كان هناك عدد من اللاجئين العراقيين الذين هربوا الى داخل الكويت طالبين اللجوء اليها، لكن الكويتيين لم يكونوا متحمسين لاعطائهم حق اللجوء.
توجهنا انا ود. إبراهيم وبوب غودوين من اللجنة الدولية للصليب الاحمر الى هناك، حيث وصلنا الى «طريق الموت» Highway of death وهو الذي شكل ابرز جانب في حرب الخليج. وكانت قافلة عسكرية للعراقيين ارادت الهرب خارج مدينة الكويت قد ضبطت هناك وتعرضت لنيران القوات الجوية الأميركية، فدمرت عرباتهم على الطريق وتسبب ذلك بأزمة عبور على تلك الطريق، ما ادى الى «غضب كبير» من قوات الجو لقوات الحلفاء، وفهمت فيما بعد ان عددا من الطيارين في القوات الجوية قد تجمعوا هناك في انتظار الإشارة لهم بمتابعة القصف والتدمير. ذلك ادى الى ما شكل اهم مظاهر الحرب وان لم يكن الامر معروفا على نطاق واسع، فقد اكتشفت احدى الطائرات من غير طيار RPV تابعة للسفينة الحربية «لاسال» أمر العربات الهاربة واشتبكت معها، وخلال انتظار الطائرات المغيرة لدورها في عملية القصف قام زوج من القاذفات مع مدفعية A-T0S بتمشيط الطريق كله.
حاولت السفينة لاسال الاتصال بالطيارين اللذين ينفذان الهجوم لكن احدهما فقط استجاب للنداء، وقال «لاسال» نحن مشغولون جدا الآن وليس بوسعنا التحدث معكم، فهذه مهمة على جانب من الصعوبة «والاهمية».
كانت حصيلة ذلك الهجوم تدمير كل آليات على الطريق على طول 1600 متر بشكل تام، وكانت الآليات، وهي عبارة عن حافلات وسيارات وشاحنات وسيارات عسكرية، ومعدات حربية عراقية كثيرة، ومع هذا فان العراقيين ما كانوا ليهربوا خالي الوفاض.
هكذا تحولت المنطقة الى كومة كبيرة من الاسلاب التي غنموها من المدنيين الكويتيين مثل اجهزة التلفزيون والراديو والكمبيوتر والاسرة ومختلف انواع الاثاث. وقد ذهلت لتنوع تلك الاشياء التي دمرت في العملية الجوية، وهي اشياء عادية. وكان علينا ان نمر في ذلك الطريق «طريق الموت» الذي كان مليئا بالحفر والقطع التي يمكن ان تؤثر على إطارات السيارات وكان الطريق محفرا من مختلف الاشكال من الطلقات التي تنجم عن مدافع A-10 S الآلية (وهي اسلحة تطلق قذائف اليورانيوم المخصب من عيار 30مم وخارقة للدروع بكل اشكالها) وشكلت تلك المعركة لحظة رعب في الحرب مع انني لم اشاهد جثث قتلى خلال مرورنا، وحاولت ان اتجول هناك بين الانقاض للاستطلاع، ورأيت اشخاصا مدنيين وعسكريين يلتقطون اشياء من بين الانقاض للذكرى - وفكرت ان هذه هي اروع طريقة للانتحار.
توقفنا لالتقاط الصور ثم تابعنا السير ورغم كل ما يقوله الآخرون عن تلك المناظر المرعبة لكنني شخصيا ارى بشكل أولي ان هؤلاء كانوا معادين وان مقتل الكثيرين منهم يقلل عدد المشاكل المستقبلية.
عند الساعة الرابعة وصلنا المنطقة الحدودية، بعد ان مررنا بسلسلة من الآبار النفطية المحترقة بين طريق الموت والحدود، فيما تصاعدت سحب الدخان الكثيف باعثة موجات من الحرارة في الجو، وكانت الحرائق احدى مشاهد الحرب المرعبة، واثرت بي اكثر من منظر الدمار في طريق الموت، لقد كانت الدبابات والآليات هدفا للهجوم، لكن ما فعلته القوات العراقية كان ارهابا، وجريمة بحق البيئة لعقود مقبلة.
كان كل شيء عاديا على الحدود. عدد من اللاجئين يحاولون تأمين اماكن لهم قبل دخولهم الى العراق على بعد نحو ميل جنوب الحدود. وكنا نحمل معنا شاحنة من الخيم والمواد الغذائية مع عدد من المتطوعين الكويتيين لتوزيعها على اللاجئين.
كانت هناك وحدة عسكرية كويتية اقامت لها مركزا شمال منطقة اللجوء. وتتولى مراقبة اوضاعهم. وكنت لا أرى سوى المتطوعين من الهلال الاحمر والجنود الاميركيين، بينما استمر توافد اللاجئون. وكان اللاجئون من جنسيات مختلفة ومن عديمي الجنسية، وكان عدد من عديمي الجنسية يسكنون في مدينة الكويت لكنهم هربوا شمالا ريثما تتوقف الاعمال الحربية. اقترب مني احد العراقيين وقال بالانكليزية «هل انت أميركي؟» فأجبته بنعم فأردف «انا ضابط عراقي، واريد ان اعلن استسلامي»، دهشت لذلك، ثم فكرت في عواقب فعلته: فأنا عسكري غريب في الكويت. وتبعا للقوانين الدولية فليس للضباط في دولة اجنبية أحقية التعامل مع الاسرى الاعداء، لذلك ناديت جنديا كويتيا وقلت: هذا جندي عراقي، هل يمكن ان تبقيه تحت نظرك في الحجز؟ فقبل طلبي. وحين تم نقل الضابط العراقي قال «لو كنت اعلم انك ستعيدني الى الكويتيين لما اعلنت استسلامي» فأجبته: هناك ما ينص على ذلك في القانون الدولي.
كان في ذلك الموقع عدد من الاميركيين منهم جو غتيير، وهو مدني من وحدة الدعم الخارجي. وكانت هناك حاجة للاغذية ومياه الشرب فاقترح غتيير ان ترسل القوات الاميركية وجبات طعام جاهزة للهلال الاحمر في اليوم التالي.
كان العمل يجري على قدم وساق في المعسكر المؤقت ولكن مع قليل من التنظيم، وقال بوب غوردين ان من الافضل ان نترك اللاجئين يركبون خيامهم بعد تقديم ارشادات لهم، لكن مثل هذه الارشادات لم تكن كافية ابدا، فما ان يتسلم هؤلاء تلك الخيم من الهلال الاحمر حتى تدب الفوضى، فضلا عن عدم شعوري بالارتياح لبعض اللاجئين. ذلك ان بعض الاسر جاؤوا بسياراتهم وجعلوا الخيام ظلا لها. هل كان هؤلاء من «البدو»؟ فاذا كانوا بدوا فإن اطعامهم سيكون بمثابة نقطة جذب لغيرهم - على مسافة اميال، حيث يأتون للحصول على الاغذية والمياه التي توزعها الجمعية، وقد ناقشت هذا الامر مع بوب فقال ان بامكاننا تعديل هذه الترتيبات لاحقا، اما الان فكل ما يلزم هو الحفاظ على آلية مناسبة لتوزيع مواد الاغاثة.
بدأ المخيم يتسع في الصحراء، فسألني بوب اذا كنت ارغب في زيارة العراق، وكان ذلك امرا لا يقاوم عندي فالعراق من بين شعوب الأرض قاطبة ربما هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يتاح لي زيارتها في ظروف عادية. وهكذا رافقته الى الحدود حيث امنت لنا الشرطة العسكرية الدخول عبرها. وهذه القوات كانت مكلفة بعدم السماح لاحد الدخول الى الكويت اذا كان يحمل سلاحا، لذلك حذرونا من السفر أبعد من ثلاثة اميال على الطريق نحو البصرة.
ترجلنا من السيارة وأخذ بوب لي صورا على الحدود اشد وضوحا، وفي تلك اللحظة فكرت لو كان بامكان المزيد من اليهود «الدخول» الى العراق باعداد تفوق ما كان موجودا في نصف القرن الماضي، بعد ذلك توجهنا غربا لنشاهد اللواء المدرع الثالث وهو يعبر الى داخل الاراضي العراقية،. وتبادلنا الصور على دبابات «ابرامز ام 1 وايضا «برادلي ام ح» وغيرها، وحيث كنا نتابع عبور القوات تساءلت عن الشعار المميز لقوات التحالف - حيث كان مرسوما على كل الآليات الاشارة «V» مقلوبة، وذلك لتمييزها عن القوات المعادية، لكنني لم اكن متيقنا من ذلك، فالعراقيون كانوا يضعون شارة «» «الدلتا» على آلياتهم، لهذا فقد يصعب على الطائرات المهاجمة التمييز بين الطرفين. كذلك كانت الشارة «V» المقلوبة تمثل الرقم 8 بالعربية، ومن هنا تساءلت عما اذا كان ذلك مجرد مصادفة.
ان البقاء في الصحراء امر متعب، فالقنابل غير المنفجرة تملأ الارض في كل مكان، فحذرت بوب من تلك المخاطر، ولكنه رد قائلا: «اسمع يا إيفان» لقد حضرت معارك كثيرة، فلا تكن خوافا وتقدم النصح لي»، وقد اتضح لي انه على حق، اذ انني كنت متحذلقا حقا لكني لم انس للحظة ان الدوس على لغم او قنبلة لم تنفجر سيكون مسؤوليتي.
عدنا الى المخيم انضممنا الى د. إبراهيم وكان ذلك مع المغيب وعلينا ان نعود الى الكويت على طريق الموت مبكرا، ورأى إبراهيم انه سينام تلك الليلة في المخيم، لان 110 من الاسرى الكويتيين سيصلون في اليوم التالي وكانت وزارة الدفاع قد ابلغت الهلال الاحمر بان 1200 عائدا اضافيا سيصلون خلال الايام المقبلة.
لم نعد نبالي بالحرائق النفطية لاننا نسير في العتمة، لذلك خففنا سرعتنا الى حد كبير، وقدرنا اننا سنصل عند الساعة التاسعة ليلا، وحين وصلنا فعلا اوصلني بوب الى صبحان حيث مركز العمليات لاثبت حضوري وذهبت الى سريري للنوم.
الحلقة (??) عسكري كويتي فتح النار على عقيد أميركي بحوزته مجوهرات
الأضرار التي لحقت بآبار النفط وشوارع الكويت
في الحلقة السابقة ذكر الكولونيل الأميركي إيفان بروكس عدداً من المشاهد المهمة والملاحظات الأهم منها ما قامت به القاذفات الأميركية بتدمير رتل من الآليات العراقية بطولة 1600 متر في اتجاه الشمال الى العراق، لافتاً إلى أنها كانت محملة بكل شيء يمكن حمله من بيوت المواطنين الكويتيين إلا أنه تم تدميرها بالكامل.
وأشار في ملاحظة مهمة جداً الى أنواع من قذائف المدفعية المصنوعة من اليورانيوم المخصب بما لذلك من آثار بيئية خطيرة.
وذكر أن ضابطاً عراقياً كان على الحدود العراقية وحينما رآه وسأله هل أنت أميركي وحين تأكد طلب تسليم نفسه اليه وحينما تسلمه ضابط كويتي قال له: لو كنت أعرف ذلك لما سلمت نفسي.. وهنا تفاصيل جديدة:
بين 9 - 14 مارس 1991
لم تكن مدينة الكويت بعد التحرير بلا أخطار محدقة. فالاسلحة والذخائر والقنابل كانت تملأ أراضيها. وكل ليلة كان الرصاص يتطاير بغزارة في السماء، ونتلقى التعليمات المشددة بعدم الخروج الى أي مكان ليلا بمفردنا.
بالنسبة لي لم أسأل عن الأسباب والتفاصيل، ولا ما اذا كانت تلك التعليمات موجهة للأميركيين وحدهم. وقد كنت دوما مرافقا للكويتيين، وهذا أفضل من مرافقة أحد الأميركيين، لان المواطنين يعرفون الاماكن في المدينة، لكن ماذا عن العودة بعد غروب الشمس؟ وكانت أكثرية الاجتماعات التي أحضرها تعقد أثناء الليل.
قبل أسبوع تقريبا تعرض أحد ضباط قواتنا لاطلاق نار من رجل كويتي. وخلفية هذا الحادث أتاحت المجال واسعا للإشاعات التي استمرت طوال بقائنا في الكويت. ذلك الضابط كان يفحص محطة توليد كهربائي فتلقى انذارا بضروة مغادرة المكان من أفراد في الجيش الكويتي وجنود في الوحدات الخاصة الأميركية، الا ان الضابط لم يأبه بهم وعاد الى المنطقة، فأطلق جندي كويتي النار عليه فجرح جرحا خطيرا لكنه أسعف بسرعة وعولج من اصابته في الصدر، الا ان الإشاعات لم تتوقف. وسرت التساؤلات حول طبيعة عمله. وحين ذهب الميجور جون هاربل لاحضار سيارة الضابط (برتبة عقيد) وجد فيها كمية من المجوهرات وكان شريك العقيد المصاب يرافق هاربل، وانشغل برمي الاشياء عبر النافذة . الا ان جون طلب منه أن يتوقف عن ذلك لان كل شيء سيتم تخزينه ريثما يتم التحقيق بصفة رسمية في الأمر. وطرح التساؤل: هل ان العقيد أطلق عليه النار وهو يسرق؟ وقد قيل أيضا أنهم عثروا عنده على مستودع مملوء بالمقتنيات النفيسة. غير ان الحقيقة أي كانت محاطة بالإشاعات. وبعد سنة من ذلك الحادث ذكر ان العقيد المصاب أصيب بالشلل وأحيل على التقاعد. وقال آخرون ان هذا غير دقيق ونفوا اصابته بالشلل، في حين ادعى البعض انه لم تتم محاكمته لاسباب تتعلق بـ« مخاطر سياسية». فلا أحد يتمنى ان يلقى القبض على جندي أميركي يمارس السرقة. هل كان هناك قرار واع وعلى مستوى عال للتعتيم على تلك الحادثة؟ لقد علمت من الضابط الذي قام بالتحقيق في تلك الحادثة ان قرارا كهذا ربما اتخذ فعلا لاعتبارات تتعلق بعمل البعثة. كما ان اقامة الدعوى تحتاج الى وقت طويل جدا، وتكاليف باهظة كانت حاجيات اعادة بناء الكويت أهم من ذلك.
كذلك هناك قضية «السيارة القناصة»، وهي سيارة من نوع «شيفر» بيضاء تهاجم الجنود الأميركيين في المدينة وتقنصهم، وقد سمعت ذلك أكثر من ثلاث مرات، لكن لحسن الحظ أن أحدا لم يصب بأذى جراء أعمال القنص، بقدر ما نبهتنا الى المخاطر المحدقة.
وكنت أتجول في الكويت برفقة د. ابراهيم ليلاً. ومن المحتمل ان هذا كان غباء من جانبي وليس لشجاعتي، مع انني لم أكن أخشى على نفسي الا لسبب واحد. لقد كانت الحاجة الى مزيد من المتطوعين تتزايد لأن أجهزة الاتصال كانت كلها مشلولة، وكان هذا هو شاغلي البحث عن متطوعين جدد.
ولقد عثر د. ابراهيم على جواب لهذه الحاجة، وهي المساجد. وذات مساء توجهنا الى أحد المساجد وطلب مني هو انتظاره في السيارة، ثم دخل لمناشدة المصلين لمد يد العون بالتطوع، ونجح في هذا المسعى. وما ان خرج حتى انطلقت طلقات خطاطة خضراء في الفضاء على مسافة قريبة من مكان وجودنا. بقيت في السيارة غير المضاءة، اذ لا يوجد مجال للخروج منها ولفت الانتباه الى وجودي. وحين رجع ابراهيم بعد نصف ساعة شعرت بالطمأنينة لاننا سنبتعد عن المكان، وتساءلت: هل كانت تلك طلقات من أسلحة المبتهجين باستعادة المدينة لحريتها أم انها رصاصات قناصة؟ ذلك لم يكن واضحا لي.
لدى عودتي الى مركز العمليات ليلاً كنت أجلس مع مجموعة من رفاقي، وسرعان ما وزعت مهمات على المجموعة التي سميناها «فرسان الطاولة المستديرة المربعة». فكان الرقيب «لاري لي» عضوا نشطا في ادارة الشؤون النفسية في القوات الأميركية USACA0POC. وفي اطار حرب «عاصفة الصحراء» تم تكليفه بمهمة التنسيق العملياتي للشؤون المدنية CCATF، وكنت التقيته لاول مرة عندما كنت في «فورت براغ» خلال أغسطس 1990، ولأول وهلة لم يكن لدي انطباع جيد عنه. وذات ليلة كنا في مكتب الضابط المسؤول فسألني: هل تظن حقا انهم سيسمحون ليهودي بدخول السعودية؟ أعني ان ذلك لا معنى له، ثم انه ذكر ملاحظات مزعجة لي فأدركت انه عسكري بائس. لكن حين تعمقت علاقتي أكثر به عرفت انه كان يعبر عن مخاوفه لا أكثر، والواقع ان الرقيب «لي» كان جنديا محترفا، ولم يكن يسخر من انتمائي الديني بقدر ما كان يثير التساؤل. ولما التقيته في الكويت هنأني على ما قمت به، فسألته: هل فوجئت بي يا لاري؟ فأجاب: كنت أدرك أنك أهل لكل ما فعلته، وتفضل ان تفشل بنبالة. والحقيقة ان ذلك صحيح، لانني لم أفشل الا في علاقتي مع القوات البحرية. وكان هو مع الكولونيل مايك نيكلسون «ملوك الغنائم» حين نجتمع، حيث كان لديهما أشياء للذكرى من عدد الحرب العراقية الى الخوذات وحتى الاسلحة المضادة للطائرات، ما تحتاج الى شاحنات عديدة لحملها. وكان مركز العمليات لديهما أشبه بمتحف حربي وفيه مختلف الاعتدة والأجهزة، فكان مكملا للاعتدة التي كانت تنتشر قبالة الشارع بما فيها الدروع والمدفعية والآليات الكثيرة التي استخدمها الجيش العراقي وتركت هناك حيث وضعت عليها بطاقات من قبل الادارات العسكرية التاريخية، والتقطنا صورا عديدة في جوارها.
الميجور تشوك ترومبيتا كان ضابطا يمثل «الشمال الأميركي» Algonquin وله خدمات طويلة في الجيش الأميركي. وذات مرة سألني أحد معارفه حين ذكر اسمه: هل تريد أن تقول ان ترومبيتا لايزال حياً؟». وكانت له شخصيته القوية التي جلبت له عداوات كثيرة من المتنفذين. واعتدت أن أقول عنه انني عرفت تشوك ترومبيتا منذ ان كان برتبة نقيب، بمعنى أن هذا ما عرف به في كل وحدات الجيش الأميركي. وبهذه الصفة خدم في أماكن نادرة كضابط ارتباط مع قائد أركان الجيش الكويتي، وهو كثيرا ما يستدعى لشرح واقع القوات الكويتية لقادة الوحدات الأميركية.
بعد ليلة في المدينة كان شيئا مريحا ان نعود لكي أراجع أحداث النهار، كذلك فالنزاع بين قيادة الشؤون المدنية (352) ووحدات فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي شكلت مصدرا للفكاهة والاشاعات، فقد كان أفراد تلك الوحدة المجندون يشعرون بأنهم يعاملون معاملة غير لائقة ولم يخفوا مشاعرهم بالغضب، كان عدد من هؤلاء العسكريين كجنود احتياط أكبر من نظرائهم في الخدمة الفعلية، وبالتالي لم تعط لهم الفرصة الجيدة لاختبار خبايا الخدمة العسكرية الارضية، لذلك فان تأمين متطوعين لتنظيف مخلفات الجيش هي مسألة يتم تجنبها على الملأ، وقد عمل قائد المقر «بريان رايلي» مع الرقيب أول فرتز ماثيوز كل ما في وسعهما، لكن تشغيل المجندين ضمن مجموعات شكل عاملا مناهضا لعملية استخدامهم بشكل تقليدي، وبقي النزاع مستعرا ولم يحسم، حيث شعر عدد من المجندين بالاهانة وسوء التعامل من القيادة.
حاولت ان أفهم الى متى سنبقى في مدينة الكويت، هل يمكن العودة الى الوطن في غضون شهرين؟ فقد كان ابني سيبلغ سن الثالثة عشرة (وهي سن مهمة لدى اليهود، كما ذكرنا). وكنت دائم التفكير في هذا الأمر، وتسلمت رسائل متتالية يسألني فيها عن وضعي، كما ان زوجتي أرادت ان تعرف متى يمكن ان أعود. ونظرا لانني كنت عسكريا منذ أواخر أغسطس حتى نوفمبر فانني شعرت بأن في امكان الجيش اما تسريحي مبكرا أو السماح لي بالسفر لفترة محدودة الى أميركا. لذلك فاتحت بوب غودوين بالامر، لانني رغبت في ابلاغ د. ابراهيم ووحدات فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي عن أسباب غيابي. ورغم انني لم أناقش مسائل دينية مع الكويتيين فانني رأيت من المناسب ان يعرفني هؤلاء كضابط في الجيش الاميركي لا أكثر. وقد أمطروني بأسئلة عديدة: لماذا توقف الجيش الأميركي عن التقدم أكثر؟ ولماذا لم تتخلصوا من صدام؟ وهل «الموساد» سيقتل صدام؟، ودهشت لتلك الاستفسارات، وتساءلت لماذا يريد الكويتيون ان يقوم الاسرائيليون بقتل صدام؟ وكنت أسمع الجواب عينه وهو «لأنهم سينجزون هذه المهمة على خير وجه».
إعادة الخدمات الى مدينة الكويت كانت تجري على قدم وساق، لكن على مهل. وكان عدد من المسؤولين خارج البلاد والمكاتب معظمها مغلقة، وجاء الاعلان عن فرض حالة الطوارئ لمدة تسعين يوما ليسهم في مفاقمة الاوضاع. الهلال الاحمر وحدها كانت تتمتع بكامل الصلاحية للعمل من قبل الجيش الكويتي.
وبدأت المساعدات الدولية تتدفق على الكويت، وكان ديفيد ويتليسي ممثلا اللجنة الدولية للهجرة، وهذه المنظمة هي وكالة صغيرة مقرها في جنيف (سويسرا) فتولت شؤون اعادة الجاليات الدولية في الكويت الى بلدانهم والمساعدة على ايجاد دول لنقل اللاجئين، وكان لها ثلاثة ممثلين فقط في الكويت، فكانوا نشطاء جدا هناك.
الا انه عندما جاء ديفيد في بداية الامر سأل: أين يمكن لي أن أجد سيارة أجرة؟ تبادلت النظرات أنا وبوب وضحكنا. لقد كان كل شيء خارج الخدمة في المدينة، وعليك احضار كل ما تحتاجه معك من الخارج، وبينما كان بوب يشرح لي الهدف من وجود هذه المنظمة تعهدت رابطة جمعيات الصليب الأحمر والهلال الاحمر وجمعية الهلال الاحمر الكويتية باعارته سيارة، وكان ذلك أفضل أجر يعطي مقابل العودة الى المدينة لشخص من الأشخاص.
الحلقة (21) القوات المشتركة نقلت دباً إلى السعودية لإجراء جراحة له واكتشاف فيل مصاب بطلق ناري
طابور من السيارات
في الحلقة السابقة استعرض الكولونيل الأميركي إيفان بروكس ملاحظات كثيرة تكشف عن خفايا كثيرة ليست معلومة - على الأقل - للأجيال التي لم تعش تلك التجربة الأليمة، حيث ذكر عدداً من الأخطار الأمنية التي سجلها منها وجود سيارة «شيفر» بيضاء كان بها قناص يهاجم الجنود الأميركيين ويطلق عليهم النار، لافتاً إلى أن الكويت بعد التحرير كانت مملوءة بالأسلحة والذخائر والقنابل، اضافة الى اطلاق النار بين الحين والآخر.
وذكر واقعة اطلاق النار على ضابط أميركي برتبة عقيد أسفرت عن إصابة كان يمكن أن تكون قاتلة له.. وهنا تفاصيل جديدة:
السبت 9 مارس 1991
أصبحت معتادا على الاستيقاظ باكرا، ومع تزايد الحركة والانوار بات ذلك عاديا. توجهت الى مركز العمليات لحضور اجتماع فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي الصباحي، وكان كل فريق يجتمع على حدة، فبقيت العضو الاقدم في مجموعة الخدمات الانسانية.
في الاجتماع نوقشت مهمات كل جندي ومدى تأثر التنسيق على العمل ولأنني بلا سيارة كنت محتاجا لمن يقلني الى الخارج، كان العقيد جورج بادار سيذهب الى الفندق الدولي والهلال الاحمر في حاجة الى مزيد من الاعلام والدبابيس، وكان جورج مشغولا بشؤون عائلية، وكان الكولونيل «بيت» باترنوستر من اللواء المدني 354 عضوا في وحدات فريق الطوارئ وإعادة البناء الكويتي، وعلى علاقة دائمة مع جورج فرافقنا، لافترق أنا عنهما حين ألتحق بالكويتيين.
وصلنا الى الفندق الدولي في الساعة 9.30 فذهبت لاحضار الدبابيس لكنها لم تكن متوافرة لدى مكتب الاعلام المشترك، فقلت لهم انني سأعود لذلك الغرض بعد يوم أو يومين، فالجميع في الهلال الاحمر كان يطلب تلك الدبابيس له ولأسرته. ومهما كان ذلك تافها لكن تلك الدبابيس كانت تمثل شيئا رمزيا. بعد ذلك ذهبت الى الهلال الاحمر الذي ينبغي ان يعمل خارج اطار التكليف الحكومي، وقد أصبح هم المجتمع الاكبر تأهيل دور الرعاية المنتشرة في أماكن عدة داخل المدينة فيما يعرف بالمعاهد الخاصة، وكان المرضى في هذا الدور قد عانوا من سوء الرعاية والاوضاع غير الصحية.
كانت أحوال دور الرعاية الصحية في الصليبخات مرعبة وجذبت اهتمام الرأي العام العالمي. لذا خف المجندون للمساعدة من أجل اطعام المرضى وتغيير الشراشف وغير ذلك، وكان هذا الدور الخاص بالمعوقين يحظى باشراف الدولة، التي تفعل كل ما في وسعها لتحسين الاوضاع الصحية فيها. وهو ما حدث لكن بشكل غير أساس كأولوية. ولم تكن وزارة الصحة هي المسؤولة عن دور الرعاية المذكورة، بل تقع ضمن مسؤولية وزارة الشؤون الاجتماعية. وهذه الوزارة في كل دول العالم تركز على الدعم الشعبي لجهود الحكومة. وحيث يتعين على العدد القليل من المرضى الذين يتم قبولهم فيه ان ينتظروا، لكن هذا لم يكن كذلك في الكويت. وكان هناك خطر انتشار الامراض نتيجة الاصابة بالكرات العنقودية، فضلا عن نقص الكادر الطبي.
ناقشت هذا الامر مع د. ابراهيم. وشعرت بأن متطوعي الهلال الاحمر على أتم الاستعداد للمساعدة. والى هذا كانت حاجات اللاجئين على الحدود تتزايد، في حين كان عدد المتطوعين يتناقص. فقد كان حجم العمل مرهقا لان عددهم الاصلي ليس كبيرا. وكانت هناك حاجة الى متطوعين جدد للنهوض بالمهمات الصحية المتزايدة. ومع انه لا سلطة للهلال الاحمر مباشرة على دور رعاية الاجتماعية فان عددا من متطوعي الجمعية توجهوا الى هناك، ونقلوا أنباء غير سارة. وتعين على المتطوعين الكويتيين والاميركيين التعاون لدرء خطر تفشي الامراض، وقد تركزت الانظار على تلك الدور، حيث كان للتقارير المرسلة عن حالة المرضى تأثير كبير على الناس. الا ان الصحافة ركزت على منطقة أخرى، وهي حديقة الحيوان، هناك كانت الحيوانات في الداخل في حالة يرثى لها. وقد عمل الكولونيل رالف يونغ رئيس وحدة الخدمات الانسانية لساعات طوال في هذا المجال. وقد قلت بشكل شبه ساخر لدون ماكيني: انت تعلم أنه بعد خمسين سنة، حين يجلس المؤرخون لتدوين التاريخ الحقيقي حول الوضع الخدمي الانساني في مدينة الكويت فان العقيد رالف سيكون بطلا لهذه الاعمال، لاسيما أن صوره وأخباره ستملأ الصحف.
التعليمات التي كنا أصدرناها لتجنب أسئلة الصحافيين حول الشؤون المدنية فيما يخص القوات الأميركية حول فورت براغ ونورث كارولينا اصبحت من الماضي الآن. وفي حين ان المركز الاعلامي الذي أقامه رالف كان يغيظني لكن عليّ ان أعترف بأنه كان احد الضباط القلائل الذين أثبتوا جدارة كبيرة، وكانت هذه الوحدة المكلفة بشؤون المدنيين منشغلة تماما، في حين الضباط الاخرين في هذه الوحدة أكثرهم كانوا يقضون الساعات في الثرثرة ونقل الاخبار حول ما الذي يتوجب عمله، دون أن ينجزوا تلك الاعمال. أما رالف فكان من طينة أخرى، حتى حين كنت أفقد أعصابي معه كان يظل متوازنا مع مرؤوسيه ويوجههم لاداء العمل بشكل جيد.
خلال الغزو عمد الجنود العراقيون الى استخدام الحيوانات في الحديقة كهدف للهو وكمصدر للحوم الطازجة، وقد تولى شقيقان كويتيان مهمة الاعتناء بالحيوانات المتبقية لكن ذلك لم يكن كافياً، مع أنه لفت انتباه العالم. بالنسبة لي كنت أكثر اهتماماً بتأمين الطعام للناس في حين كانت القوات المشتركة تناقش قضية نقل دبّ الى السعودية لاجراء جراحة له. واكتشفوا ان فيلا أصيب بطلقة، عن طريق فحص الفيل بجهاز لكشف المعادن. على أي حال، هذه كانت مجرد مسائل تافهة مع أني لم استطع مقاومة التفكير في كيفية توجه الصحافة للتدخل لاعادة ترتيب اولوياتنا في تنظيم اعمال الاغاثة. وقد تحول جورج بادار وبيت باترنوستر الى «حماة مساعدين للحيوانات في الحديقة».
ناقشت تشعبات ايجاد برامج تغذية مستقلة مع بوب غودوين ود. ابراهيم. فالهلال الاحمر لديه الإمكانية لاطلاق هذه البرامج، لكن كان علينا ان نتأكد من ان توزيع الاغذية سيكون عادلاً أي أنه يكون للجميع الحق في الحصول على الطعام بصرف النظر عن خلفيته العرقية او بلدة الاصلي. كذلك تساءلنا عن امكانية اصدار بطاقات توزيع خاصة، لكن كيف نضمن وصول الجميع الى حقهم؟ نصح بوب بأن يتم توزيع الاغذية على اساس «من يصل اولا يعطى حسب الدور»، في حين كان لي شخصيا رأي مخالف. فهذا المبدأ لن يكون عادلاً مع انه ناجح كطريقة توزيع.
وفي ذلك اليوم التقيت د. ابراهيم بعد الظهر في بيت الشامية. وقد تحول ذلك البيت الى «مقر للحكومة» خلال فترة الطوارئ. حين وصلنا الى هناك عند الرابعة عصرا انتظرنا في الصالون، وتناولنا الشاي معاً. كان بعض الجماعات من المواطنين يتناقشون في القاعة، فقال لي د. ابراهيم ان الشيخ احمد الحمود الصباح، ابن عم الامير، وهو محافظ الجهراء يومئذ، سيصل. وقد وصل فعلاً.
كان الشيخ أحمد يرى ضرورة التحرك لمعالجة وضع اللاجئين في المنطقة الحدودية. وكانت الحكومة ترى ان من الواجب نقلهم الى داخل العراق. السياسة الاميركية اتجهت الى دعم موقف الكويت، مع ان صناع السياسة في اميركا كانوا قلقين حول التبعات الدولية لقرار نقل اللاجئين الى العراق. فهمنا ذلك من الصحف الدولية، ونصحنا الشيخ بضرورة التعامل بهدوء مع ملف اللاجئين.
وافق الشيخ على ما طرحناه وعدم طرد اللاجئين لكنه طالب بحل آخر لهذه المشكلة. كان رأيه ان المعسكر المؤقت للاجئين على بعد كيلومتر من الحدود العراقية سيشكل «مصدر قلق»، ومكاناً محتملاً للجوء المزيد من العراقيين. ثم طلب منا ان نذهب الى هناك لمعاينة الوضع. وبعد اللقاء انتقلنا الى غرفة اخرى وتناولنا وجبة طعام من المطبخ الكويتي، قوامها لحم الخروف والدجاج والارز، فكانت لذيذة رغم اني لا افضل لحم الخراف.
الأحد 10 مارس 1991
في صبيحة يوم اللقاء مع فريق الشؤون الانسانية تحدثت عن د. ابراهيم طلب الشيخ، فتطوع الكولونيل وبادر لمرافقتي الى الحدود. وفي الساعة التاسعة التقينا د. ابراهيم بمقر الجمعية وتوجهنا الى بيت الشامية. وكان دخول هذا البيت دوماً بمنزلة مغامرة. وهو محروس من قبل جنود كويتيين واميركيين، فاصبح مقراً للقيادة العسكرية. وقد أحيط البيت برشاشات. الا ان ابراهيم كان معروفاً ولذلك كان دخولنا اليه سهلاً. وهناك رحب بنا الشيخ واخبرنا بأن طائرته الهليوكبتر من نوع «بوما» ستصل حالاً لنقلنا.
في العاشرة والنصف وصلت الطائرة وصعدنا إليها، فاتجهت بنا شمالاً. وخلال الطريق مررنا فوق «طريق الموت». وقام قائد الطائرة بالتحليق فوق الآليات المدمرة بكثافة لنشاهد الموقع أكثر.
هبطت الحوامة في المنطقة الحدودية ودرسنا الوضع. لاحظنا ان المعسكر كان في حالة توسع والكويتيون يشعرون بالأسى. اراد الشيخ اغلاق المعسكر، او الابقاء عليه لكن مع نقله الى جوار الحدود، أرادت قوات التحالف بقاء المعسكر مكانه لان الحدود مملوءة بالألغام وتشكل خطراً حقيقيا للاجئين، لكن الشيخ لم يتراجع عن موقفه. وقد شعرت بان الحكومة كانت سخية جدا في السماح للاجئين بالبقاء على الأراضي الكويتية اصلاً.
دعانا افراد الجيش الكويتي هناك الى الغداء، حيث تناولنا لحم الخروف الطازج. وقد التقيت ساعتها الكولونيل «دون سافولد» الذي كان يشغل مساعد قائد المنطقة الوسطى 5-G. وكان هو ضابطا قوياً حيث رقي بسرعة الى قائد المواقع الاجنبية FAO. وكان هو أفضل من يعالج الوضع، فكان رأيه مطابقا لموقف الشيخ.
جلسنا الى الغداء حول اطباق واسعة، دون ملاعق. وحرصت على ان اتناول الطعام باليد اليمنى. وقد اخذنا صورا بعد ان سمح لنا الشيخ بذلك لهذه الوليمة واحتفظت بها.
بعد الغداء بدأنا نناقش الوضع مع متطوعي الهلال الاحمر هناك، حيث التقيت شاباً كويتيا اسمه محمود كنت قد حملته معي من البحرين. محمود هذا ابدى حماسة كبيرة، لاسيما انه دائم التفاؤل والابتسام، فنظر الى مسدسي وطلب مني احضار مسدس مثله له. قلت له انه متطوع في الهلال الاحمر ولا يجوز ان يكون مسلحاً. فرد «أجل. هذا صحيح، لكني مصر على اقتناء هذا السلاح». اخبرته بأنني مسؤول عن مسدسي الشخصي ولا يمكنني، كما لا أريد، اعطاءه سلاحاً. فتبسم وتبادلت معه الضحك.
اخيرا عدنا الى الحوامة. وفي الطريق اليها رأيت شخصين من اللاجئين يتم تفتيشهما. كانا يقفان وقد عصبت اعينهما بغترتيهما. سألت جنديا كويتيا عما كان يجري فقال انهما عسكريان عراقيان ولايزال بحوزتهما بطاقتاهما المدنيتان. سارعت لالتقاط صورة للحادث وتابعتهما وهما يساقان الى الباص العسكري. ثم عدنا الى الكويت ولم ادرك انني فقدت «دفتر» حساباتي ونظارتي حتى اليوم التالي في المعسكر. وكان لدي زوج نظارات احتياطية لكن كيف يمكن تعويض الدفتر الذي سجلت عليه كل فلس انفقته خلال خدمتي. والآن ضاع كل شيء.
بعودتنا الى مدينة الكويت ناقشنا عواقب برنامج اعادة تنظيم مخيم اللاجئين وتعديل مكانه. كان ذلك يتطلب متطوعين اكثر وشحنات اغذية اكبر بشكل منتظم. حاجتنا الى متطوعين دفعت د. ابراهيم الى التوجه الى وزارة الإعلام. وكانت تسود المدينة علامات الفوضى التي تراها على كل جدران الابنية وبخاصة غرف الإرسال. الا ان الجميع كانوا مرحبين بالدكتور ابراهيم، وهكذا تم الاعلان عبر الاذاعة لطلب متطوعين من الكويتيين. وبينما كان هو يتكلم قدموا لي الشاي داخل استديو الاذاعة واشعلنا لفافات التبغ معاً.
بعد ذلك رافقت د. ابراهيم الى منزل الشيخ صباح الناصر. وكان المكان يغص بالزائرين فلم احفظ اسماءهم. وكان لدى الشيخ هاتف للاتصال بالاقمار الصناعية فتحدثت مع اصدقاء لي في الغرب، أما د. ابراهيم فاستخدم هاتفه للاتصال بلندن لطلب الدعم من عمه. وكان يتحدث معه باللغة العربية فلم افهم مضمون الحديث. وقضيت وقتاً طيبا في ضيافة هؤلاء المواطنين الطيبين.
كنت اعلم ان لدى د. ابراهيم عملاً مهماً يجب ان ينجزه، وقد وعد بالعودة الى مقر الهلال الاحمر عند الثامنة لعقد اجتماع مع الوحدة الخامسة للقوات الخاصة. ومع اقتراب الموعد ادركت انه لن يعود في الموعد. وكنت احيانا أسمعه يعتذر باسمي اذا ما ألححت بضرورة الاسراع فيقول لمواطنيه «بسيطة. انه اميركي، وعليكم ان تتفهموا ذلك». اما في الكويت فالناس لا يحرجون الآخرين باستعجالهم مثلاً.
كنت ابدو نافد الصبر، الامر الذي يضحك منه الكويتيون. وحين انهى د. ابراهيم مكالمته الهاتفية كان علينا ان نغادر المكان. لكن ما ان وصلنا الى الباب حتى سألني الشيخ اذا كنت متزوجاً فأجبته: نعم. لكن لم السؤال؟ فقال «أريدك ياكولونيل ان تخبرني متى اتصلت آخر مرة بزوجتك؟».
فكرت في الامر وقلت له انني كلمتها قبل ان نتحرك الى مدينة الكويت مباشرة فنظر الي وقال «لن نستطيع تركك تغادر حتى تتكلم مع زوجتك هيا، خذ الهاتف واتصل». وكان ذلك صاعقا لي لاننا تأخرنا عن موعد الاجتماع، وسأتحدث مع زوجتي؟!. شكرت الشيخ وقلت ان ذلك سيؤخرنا عن الاجتماع، لكنه اصر هو ود. ابراهيم على اتصالي بأسرتي. مدينة الكويت، بلاماء ولا كهرباء ولا خدمات. وها أنا ذا اتكلم بالهاتف الى زوجتي في «أنانديل» بفرجينيا. وقد ردت هي عليّ فقلت لها «أهلاً يا حبيبتي. احزري من أين اتصل؟». فردت «أين أنت يا إيفان؟». فاخبرتها بأن الامور تسير على خير مايرام. وفي داخل المكان لم اتمكن من سماع صوتها جيدا. لكنها قالت لي ان الجميع مشتاقون لي وان كل شيء هناك جيد. فودعتها وشكرت الشيخ على مبادرته اللطيفة.
لدى العودة الى جمعية الهلال الاحمر الكويتية برفقة د. ابراهيم التقينا ضابطا برتبة كابتن من الوحدة الخامسة للقوات الخاصة. كان اتباعه يساعدونه في العمل داخل المدينة وقد تطوع رجاله لتوزيع الطعام. وباركنا جهوده لان توزيع الاغذية في حاجة الى الكثير من الايدي، حيث استعنت انا بجنود اميركيين لهذا الغرض. ثم اعطيناه خريطة المواقع واخبرناه ليكون مع رجاله هناك في الساعة السابعة صباحاً في اليوم التالي.