القذافي وبعض حارساته (ارشيف)
إعداد سليمة لبال
وُصف بالكتاب «الصادم»، إنه كتاب آنيك كوجين، الذي صدر قبل خمسة أيام في فرنسا، ويكشف فيه الكاتب الاستغلال الجنسي، الذي ذهبت ضحيته المئات من النساء الليبيات والأفريقيات والأوروبيات على يد معمر القذافي، الذي كان يستعرض رجولته وفحولته عليهن تحت مسمى ملك ملوك أفريقيا.
لا يزال الموضوع من المحرمات حتى في ليبيا الجديدة، التي تحاول غسل عار الماضي، لكنه حقيقة نجح كبير محققي صحيفة لوموند أنيك كوجين في كشفها، بعد أن أماط اللثام في كتابه الجديد عن القذافي، هذا الرجل الذي كان يتباهى بدفاعه عن المرأة وعن حقوقها في العالم العربي. لكن بعيدا عن هذه الصورة وعن صورة القذافي في ثوبه البدوي، يكشف كتاب «الفرائس في حرم القذافي» عن انتهاكات جنسية جسيمة كان الدكتاتور معمر القذافي بطلها.
يستند المؤلف في كتابه في البداية إلى شهادة امرأة شابة في الثانية والعشرين من عمرها، حطم القذافي حياتها، بعد أن اختيرت حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها من قبل مدرستها لتسلم باقة ورد للرئيس، أثناء زيارة تفقدية قادته للمدرسة. تم اختطاف هذه الفتاة في اليوم التالي، ومن ثم ضمت إلى حرس القذافي من النساء، قبل أن تتعرض مرات عدة للضرب والاغتصاب في باب العزيزية.
أجرى مؤلف الكتاب أيضا مقابلات أخرى مع نساء القذافي، وكان جميعهن يعانين من صدمات نفسية، بسبب الطريقة التي كان يعاملهن بها القذافي، الذي حول ليبيا، وفق الكاتب، إلى حرم، عاثى فيه فسادا، بعد أن أصبح الاستغلال الجنسي القاعدة الأساسية فيه.
كان القذافي يختار من يحب وتشتهي نفسه من النساء اللواتي ينتمين إلى عامة الشعب، وكان يكلف عناصر الجيش بانتقائهن من الجامعات أو صالونات الحلاقة، حيث كن يؤخذن بالقوة إلى إقامته ثم يخضعن لفحص دم، تقوم به ممرضاته غالينا او ايلينا أو كلوديا.
وأما النوع الثاني من النساء الذي كان يفضله القذافي، فكن المغنيات المشرقيات وعارضات الأزياء وزوجات رؤساء الدول الجارة، اللواتي كان يغدق عليهن بحقائب ممتلئة بالدولارات أثناء زياراتهن لليبيا.
ويقول أحد معاوني القذافي عن علاقته بالنساء «كان القذافي يحكم ويذل ويستعبد ويعاقب بالجنس»، وهو ما يؤكده هذا التحقيق الذي يروي تفاصيل الألف ليلة وليلة من الكوابيس التي كان النساء يعشنها.
«صفعتها جعلتني اتمايل من شدة قوتها. أطيعيه وإلا سيدفعك بابا القذافي الثمن غاليا، تحاولين الظهور في ثوب فتاة صغيرة، أيتها المنافقة، بينما تعرفين جيدا ماذا يريد، من الآن فصاعدا ستستمعين إلينا أنا وأبي معمر القذافي وستطيعين الأوامر من دون أن تناقشي، أتفهمين».
ثم غابت وتركتني وحيدة في ذلك الفستان غير اللائق.. بكيت لساعات طويلة ومشيت لساعات أيضا في تلك القاعة، لم أفهم شيئا، كان كل شيء مدمرا.
ما الذي أفعله هنا؟ ما الذي يريدونه مني؟ والدتي ستموت قلقا علي ومن المؤكد أنها كلمت والدي في طرابلس ويمكن أن يكون قد عاد إلى سرت. سيشعر بالإهانة والضيق لأنه تركني أخرج من البيت وهو الذي كان يمنعني من ذلك طول الوقت، لكن كيف يمكن لي أن أروي لهم هذا المشهد الوحشي مع أبي معمر؟ من المؤكد أن والدي سيصاب بالجنون.
كنت لا أزال أتنهد من شدة البكاء، حين جلست الممرضة الشقراء، التي لن أنسى صورتها، حين جلست إلى جانبي بهدوء وسألتني «ما الذي جرى؟ احكي لي القصة».
كانت تتحدث بلكنة غربية وقد عرفت بعدها أنها أوكرانية، تعمل لمصلحة القذافي وأنها تدعى غالينا، لم أستطع أن أقول لها شيئاً ولكنها أدركت أني أشعر بالخوف.. وبدأت تقول «كيف يمكن أن يفعلوا هذا بطفلة؟ كيف يجرؤون على ذلك؟
المكتب السري
لم يكن د. فيصل كريكشي يتصور أبداً ما اكتشفه في نهاية أغسطس من عام 2011، حين أحكم السيطرة هو ومجموعة من المتمردين على جامعة طرابلس.
ما اكشفه الدكتور حين فتح بالقوة باب شقة سرية تقع تحت القاعة الخضراء التي كان القذافي يحب إلقاء محاضراته فيها، ما اكتشفه كان سيئاً للغاية ويتجاوز كل ما يمكن أن يتصوره المرء من سوء.
كان الدهليز يقود إلى صالون كبير يحتوي على أرائك جلدية بنية اللون، وكان هناك ممر يقود إلى غرفة نوم من دون نوافذ لكنها منجدة ومؤثثة.. لكن ليست هذه الغرفة التي أثارت دهشة من اكتشفها وإنما الغرفة المقابلة التي كانت عبارة عن قاعة لفحص أمراض النساء، كانت مجهزة بالكامل، وتحتوي على سرير وجهاز عرض وجهاز سونار ومعدات وكتيبات باللغة الإنكليزية.. لم يخف د. كريكشي تذمره مما رأى، وقال «كيف لا أصاب بصدمة»، هكذا قال لي هذا المختص المعروف الذي عُين عميداً للجامعة بعد الثورة. «لا شيء يبرر وجود مثل هذه التجهيزات، وإذا ما كانوا يخافون من أي حالة استعجالية، فهناك مركز أمراض النساء التابع للمستشفى، والذي لا يبعد سوى 100 متر عن مقر الجامعة»
إذاً، لماذا كل هذه التجهيزات؟ وأي ممارسات غير شرعية كان يقوم بها القذافي بعيداً عن الأنظار هنا في حرم الجامعة؟ أنا أرجح احتمالين: القيام بعمليات إجهاض وإعادة ترميم غشاء العذرية والقيام بكل ما هو ممنوع في ليبيا، ودون أن أتحدث عن الاغتصاب، أجد نفسي مجبراً على تصور سلوك جنسي مضطرب كان يحدث هنا».
أماكن الصيد
كل الأماكن التي تتردد عليها النساء، كانت مصدراً لتزويد القائد بالجميلات، بما في ذلك السجون، حيث كانت إحدى حارساته تمر لالتقاط صور السجينات الجميلات لعرضها عليه، كما كانت صالونات التجميل المصدر المفضل، الذي كان حرس القذافي من النساء يزرنه باستمرار إلى جانب حفلات الأعراس.
كان القذافي يعشق حضور حفلات الأعراس، حيث كانت النساء ترتدين أجمل الملابس، وإذا ما تعذر عليه الذهاب، كان يكلّف مبعوثين عنه بالتقاط صور وفيديوهات، وقد أكد لي مصور من مركز طرابلس ذلكـ وقال لي إنه كان يتعذر بآلاف الحجج، حتى لا يسلم باب العزيزية نسخاً من حفلات الأعراس التي كان يصورها، كما أكدت لي بعض الشابات أنهن كن يرفضن الذهاب إلى بعض حفلات الأعراس التي تنظم في فنادق طرابلس الكبيرة حتى لا يقعن ضحية القذافي.
أما عدد من الآباء، فكانوا يعيشون الرعب القاتل، وكانوا يمنعون بناتهم من حضور أي حفلات أو لقاءات اجتماعية أو عروض أزياء، خوفاً من أن يحدث لهن ما يحدث مع غيرهن في باب العزيزية، لأن إقامة القذافي المجهزة كقلعة حصينة لا تتوقف عن استقبال مجموعات من المتمدرسات والعسكريات الشابات.
حادث دبلوماسي في دكار
في الأول من سبتمبر من عام 2001، نظمت مئات من عارضات الأزياء القادمات من دول أفريقية عدة، عرض أزياء في طرابلس بمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين لتسلم القائد معمر القذافي مقاليد الحكم في ليبيا، وقد ساهمت سفارات ليبيا في مختلف الدول في توجيه الدعوات إلى جميلات عالم الموضة، بعد أن وضع القذافي تحت تصرفها مبالغ مهمة من المال.
وفي السنغال، كلّفت السفارة توأمين هما نانسي وليلى كامبل ابنتا الممثل السنغالي، بمهمة انتقاء الفتيات عن طريق كاستينغ تم إجراؤه في الشارع بالتعاون مع عارضة أزياء شهيرة، وانتهت العملية بتحديد موعد لنحو مائة سنغالية للتنقل بتاريخ 28 أغسطس إلى طرابلس لقضاء أسبوع هناك.
في اليوم المحدد، وعند الساعة السابعة صباحاً، كانت المدعوات جميعهن في مطار دكار، كن نحيفات وطويلات وطموحات جداً، فيما كان القائم بالأعمال الليبي في دكار يسهر على استقبالهن، حين كانت طائرة من نوع بوينغ استأجرتها الدولة الليبية من مالطا في انتظارهن.
لكن قبل إقلاع الطائرة، باغت أفراد الشرطة والدرك مطار ليوبولد سيدار سانغور، بسبب عدم توافر الفتيات على فيزا وكانت الغالبية منهن قاصرات.. أبلغت السلطات السنغالية بالأمر، فتدخلت الحكومة بسرعة وأعلنت عن محاولة تهريب فتيات صغيرات. من جهته وصف وزير الخارجية السنغالي شيخ تيديان غاديو القضية التي تورط فيها دبلوماسيون ليبيون، بالأمر غير المقبول وغير الودي، قبل أن يؤكد أن السنغال ليست غربالا. بعد ساعات من ذلك تدخل وزير الداخلية السنغالي الجنرال مامادو نيانغ، الذي أكد في بيان له ان الفتيات اللواتي كان البعض يحاول تهريبهن خارج التراب الوطني، كن في الواقع سيتوجهن إلى شبكة مختصة في الدعارة الدولية وأنه سيخطر الانتربول بذلك.
كان يشترط ألا تقل قامة النساء عن 1.70م
لا شيء كان يكبح الدكتاتور، ففي نوفمبر من عام 2009 توجه رئيس مكتب القذافي عن طريق شقيقته إلى وكالة هوستاسواب للمضيفات الايطاليات، ليضمن لفائدة قائده، الجمهور الذي يحب. فعلى هامش ندوة لمنظمة الفاو حول المجاعة في العالم في روما، أراد القذافي أن يتوجه بكلمة إلى جمهور من النساء.
أُخطرت الوكالة في وقت متأخر بالأمر، فلجأت إلى الرسائل الهاتفية والانترنت للبحث عن فتيات يزيد طول قامتهن عن 1متر و70 سنتيمترا على الأقل، وأن يكن جميلات وأنيقات ويرتدين أحذية بكعب عال، دون ميني جيب او ألبسة عارية.
استجابت مئتا شابة للإعلان وحضرن في الموعد المحدد إلى فندق كبير، وكن يعتقدن بأنهن سيحضرن فقط اجتماعا ينتهي بتناول مشروبات لأنهن قبضن 60 يورو فقط لليلة، لكن لا واحدة منهن تصورت بان الباصات التي حضرت لنقلهن، ستنقلهن إلى مقر اقامة السفير الليبي، حيث التحق بهن القذافي على متن ليموزين بيضاء اللون، ليلقي عليهن خطابا عن الإسلام، هذا الإسلام الذي يحترم المرأة ويقدسها.
لكن القذافي لم يتوقف عند هذا الحد، حيث نسج علاقات قوية مع هذه الوكالة الايطالية، ما سمح له بتنظيم العشرات من الرحلات لمجموعات تتكون من 12 إلى 26 امرأة، وكان يدفع تكاليف هذه الرحلات من مال الدولة «لتعميق ثقافة وطريقة عيش الليبيين».
18/09/2012
كتب
«اللمسة السحرية».. كلمة سر القائد لحرسه الشخصي «القذافي» كان يخطط لاغتصاب كل فتاة يضع يده على رأسها - (2)
القذافي وحارسات يتجددن باستمرار (ارشيف)
إعداد سليمة لبال
في السادس عشر من نوفمبر من عام 2011، نشرت أنيك كوجين في صحيفة لوموند الفرنسية تحقيقاً مطولاً بعنوان «الانتهاكات الجنسية للقذافي»، روت فيه قصة صوريا ذات الاثنين وعشرين ربيعا، التي اختطفتها عصابة القذافي وعزلتها عن العالم منذ كانت في الخامسة عشرة من عمرها.
صحافية «لوموند» عادت إلى ليبيا هذه السنة، وبحثت عن قصص اغتصاب مشابهة، كان بطلها القذافي في كتابها «الفرائس.. في حرم القذافي» الذي صدر قبل أيام في باريس عن دار غراسيت.
عادت الصحافية إلى المدرسة التي اختطفت منها صوريا، التي تقع في مدينة سرت، لكن مديرها أُصيب بفورة غضب، حين حدثته عن قصة الفتاة، ونفى نفيا قاطعا أن يكون القذافي قد زار المدرسة من قبل.
كنت أستعد لمغادرة المدرسة، حين لمحت فجأة مجموعة من المدرسات في غرفة صغيرة في الطابق الأول.. ذهبت إليهن للاستماع إلى قصصهن، كنّ يتحدثن جميعهن في الوقت ذاته، وتتنافسن في سرد القصص والذكريات.. كانت الواحدة تبدأ قصة ما، فتقاطعها الأخرى لإثرائها بالمزيد من المعطيات، قبل أن تتدخل ثالثة وتصرخ في وجههما «انتظرا، لدي ما هو أسوأ».. وأما أنا فلم أستطع مجاراتهن ولا تدوين كل ما كنّ يقلنه...
• هل يتعلق الأمر باختطاف للفتيات؟
كل سرت على علم بالقضية، نعم سرت القذافية.. شرحت لي إحدى المدرسات وقد زيّن الكحل عينيها، ذلك في قولها «كان القذافي يُحكم قبضته على الجميع في مدينته وفي قبيلته وفي عائلته، فيما كانت المدرسة تربينا على دينه، لكن الجميع كان يعرف أن القذافي ليس سوى حقير ودنيء وكاذب، من يقول غير ذلك؟ أو يقول إنه يجهل هذه الحقيقة؟».
تؤكد خمس من زميلات هذه المدرسة أنهن شعرن بالاشمئزاز من الكلام الذي وجهه لي مدير المدرسة، «لقد هرب المدير السابق، وكان من حاشية القذافي، لكن للأسف المسؤولون الجدد يتبعون في الغالب المسار القديم، مثلما هو الأمر بالنسبة لنا، قبل أن نشترط على الوزارة رحيله بالقول إنه لا يزال يواصل انتقاد التدخل الغربي في ليبيا، ويسمم عقول الصغار بذلك». إحدى المدرسات أكدت لي أنها درست في الثانوية التي درست فيها صوريا، وأنها شاهدت القذافي وهو يتجوّل في قاعة الجمباز، لكنها لا تتذكر صوريا، لكن المؤكد بالنسبة لها هو أن القذافي مر من هنا.
تؤكد النساء أن كل الظروف كانت مناسبة جدا للقذافي للقاء فتيات شابات، حيث كان يدعو نفسه في آخر لحظة لحفلات الزفاف، وتقول إحدى الفتيات «غالبية أصحاب الدعوات كانوا متملقين، غير أن أخوالي وهم من عائلة القذافي، كانوا يمنعونني من الظهور في المناسبات العامة».
يتمارض كي تزوره التلميذات
لقد كان يدعو التلميذات لزيارة كتيبة الساعدي، حيث مقر إقامته من أجل مهرجان للأغاني «لقد ذهبت مرتين مع المدرسة، ثم منعني والداي من العودة، لقد قال لي أخي إن هذا المكان، هو مرتع كل الأخطار والمشاكل، وإن لم نعاني من سهام القذافي، فمن المؤكد أن سهام عصابته من الحراس والعسكريين من مختلف الرتب لن تخطئنا أبدا، لأن سلوكياته معدية».
«لقد كان يتمارض ويتعمّد الظهور شاحب الوجه، حتى تذهب الطالبات لعيادته «...» كنت في السادسة عشرة من عمري وطالبة في ثانوية الفكر الطليعي، حين أبلغنا أحد الأساتذة بمرض «أبي القذافي».. لقد أحضروا لنا حافلة لنقلنا إلى الثكنة، وهناك استقبلنا في خيمته.. كان يرتدي جلابة بيضاء (العباءة الرجالية الطويلة التي يرتديها أهل المغرب العربي)، وقبعة قطنية، بنية اللون ولقد احتضننا الواحدة تلو الأخرى، شعرنا برهبة كبيرة ورعب، لكن لم يبد عليه أبداً المرض».
وأما أخرى، فتتذكر أن مدرستها هي من نقلها إلى الكتيبة نفسها لتحية الرئيس الجزائري الكولونيل الشاذلي بن جديد «كان القذافي بحاجة دوماً إلى أن يحيط به عدد من الشابات، وكنا نساهم في ذلك ونغذي ولعه المرضي هذا». وتقول إحدى المدرسات «في أحد الأيام، نظّمت مجموعة تنحدر من مدينة مسراتة حفلة ولاء رسمية وكبيرة للقائد معمر القذافي. لقد كان يحب هذا النوع من الحفلات، وكان يشعر بالقلق دوماً من مسألة ولاء ودعم مختلف القبائل له».
هناك في تلك الحفلة، لاحظ فتاة شابة، هي صديقة هذه المُدرّسة، وفي اليوم التالي جاء أفراد من الحرس للبحث عنها في مدرستها، فرفض المدير ورد بأن الوقت غير مناسب لأنها تجري امتحاناً، لكنها اختُطفت في ذلك المساء خلال حضورها حفل زواج.
غابت هذه البنت ثلاثة أيام، اغتصبها خلالها القذافي، وبعد أن عادت إلى بيت والديها، تزوجت من أحد حراس القذافي «لقد روى لي والدها وهو أستاذ القصة وترجّاني أن أنتبه، حتى لا أقع فريسة القذافي أنا الأخرى».
طلبت جميع من التقيتهن من اللواتي وقعن في فخ القذافي ألا أذكر أسماءهن، لا شيء بسيطاً في سرت، فالعديد من السكان يتأملون في صمت تلك المرارة وذلك العار والتشاؤم الذي بات لصيقاً بمدينتهم، لكنهم باتوا مقتنعين بأن النظام الجديد سيُدفّعهم، طويلاً، ثمن علاقتهم الوطيدة مع من كان القائد.
لمسة القذافي السحرية
لم يتصور د. كريكشي، أبداً، «اللمسة السحرية» التي اكتشفها في أغسطس من عام 2011، برفقة مجموعة من الثوار أثناء تفتيشهم جامعة طرابلس. فطبيب النساء هذا (55 عاماً) الذي تكوّن في إيطاليا ورويال كوليج في لندن، يعرف جيداً أن المنظومة الجامعية كانت فاسدة جداً في ليبيا، وكان يعلم، أيضاً، بوجود شبكات مراقبة، أنشأتها اللجان الثورية كوسيلة للدعاية للقذافي في كل الكليات، ويعرف، أيضاً، أن الشعب الليبي لم يمح أبداً من ذاكرته تلك الإعدامات العلنية، التي أقرها القذافي في حق عدد من الطلبة المعارضين له في عامي 1977 و1984، لذلك لم يفاجأ حين اكتشف في إحدى الليالي، وبعد معركة عنيفة في الجامعة، سجناً هو عبارة عن مجموعة من الحاويات، ومكتباً لرئيس جهاز المخابرات عبد السنوسي.
كانت أدراج هذا المكتب ممتلئة بملفات تتضمن معلومات عن عشرات الطلبة والأساتذة وقائمة بأولئك الذين تقرر التخلص منهم، لكن ما اكتشفه صدفة، وهو يحاول استطلاع أركان الجامعة، بحثاً عن قناصين محتملين داخل الجامعة، هي تلك الشقة السرية التي تقع تحت القاعة الخضراء التي كان يحاضر فيها، وكانت عبارة عن غرفة نوم وصالون وجاكوزي وحمام، بالإضافة إلى غرفة أخرى مجهزة لإجراء مختلف الفحوصات الخاصة النساء.
كان د. كريكشي يتحدث بصوت عميق ورزين، وكان يزن كلماته، ويعي قيمة ما اكتشفه، ولقد أسر لي بأنه كان طبيب النساء الذي يتابع ابنتي القذافي، عائشة وهناء، «كان هذا الأمر يضعني في وضعية حرجة جداً، كانت عائلة القذافي تعترف بكفاءتي، غير أني لم أكن أطلب منها شيئاً، لكن، أحياناً، كانت الشابتان تتحدثان عن دهشة والدهما مني، لقد كان يقول إني لا أطلب سيارة ولا بيتاً، وبالفعل لم أكن أطلب شيئاً».
كان د. فيصل كريكشي يعرف شهية معمر القذافي للفتيات الشابات، وقد سمع البعض يتحدث ذات مرة عما كان يسميه القذافي «اللمسة السحرية» وهي يده التي كان يضعها على رأس فرائسه، حتى يدرك أفراد حرسه مراده، فيكملون المهمة.
ويعترف هذا الدكتور الذي يُدرّس لطلبته مادة التخطيط العائلي، ويخصص درساً سنوياً عن هذا الطابو، يعترف بأن ممارسات القذافي الجنسية هي من أكثر الطابوهات في المجتمع الليبي.
لا أحد خاطر بنفسه وتطرق إلى الموضوع ولا أحد تحرك لحماية التلميذات، كان الجميع يفضلون عدم الاطلاع على ما يحدث أو الصمت، وأما بالنسبة لضحايا هذا الوحش، فلم يكن بوسعهن غير الصمت أو مغادرة مقاعد الجامعة بهدوء وبعيداً عن الأنظار.
لا أحد يستطيع تقدير عدد ضحايا القذافي من تلميذات المدارس وطالبات الجامعات، غير أن د. كريكشي أبلغني بأنه عثر على ثمانية أو تسعة أقراص مضغوطة في تلك الشقة الواقعة تحت القاعة الخضراء في جامعة طرابلس، وتتضمن تسجيلات للاعتداءات الجنسية الوحشية التي نفذها القائد في ذلك المكان، لكنه اعترف لي بأنه دمرها جميعها.
لكن، لماذا دمر هذا الدكتور هذه الفيديوهات؟ أليست دليلاً وإثباتاً، كان من الضروري الاحتفاظ بها؟
لقد رد الدكتور على سؤالي بالقول: «علينا أن نعود إلى سياق الأحداث، لم تكن الحرب قد وضعت أوزارها بعد، ولم أكن استطيع أن أضمن ألا تقع هذه الفيديوهات في أيد غير أمينة، وإلا تقع الفتيات الضحايا، ضحية مرة أخرى للمساومة او الضغوطات، كان أهم ما يشغل بالي هو حماية الفتيات» إنه رد فعل غريب، لكن المسؤولية ثقيلة جدا.
الموضوع لا يزال من التابوهات
ألم يكن من واجب العدالة اتخاذ هكذا قرار ؟ لقد صدم اكتشاف شقة سرية للقذافي داخل الجامعة، الجميع بمن فيهم الطلبة والأساتذة وكل رواد الجامعة، لكن الصمت لا يزال يخيم ولا تزال الألسن أيضا تفضل أن تخرس أو تعبر عن اشمئزازها من الدكتاتور، دون الخوض في أي تفاصيل أو قضايا اخرى.
كنت أود استقراء رأي الطالبات المحجبات في الموضوع، لذلك كلفت احدهم بسؤالهن عن انتهاكات القذافي الجنسية، لكنه اعتذر واكتفى بإرسال رسالة هاتفية لي تضمنت «سأتخلى عن الفكرة، الموضوع من التابوهات».
من المؤكد أن هناك شهودا، وأناسا لاحظوا عناصر يشتبه في تورطها او سمعوا عن فتيات تعرضن لاعتداءات القذافي، الا يوجد أحد في ليبيا بمقدوره التنديد بهذا النظام والقضية؟
بدا لي أن رئيس تحرير أسبوعية ليبيا الجديدة وهو شاب، بدا لي الوحيد، الذي لا يزال مصرا على كسر جدار الصمت، حيث قال لي «كانت لي صديقة تنحدر من عائلة ريفية من منطقة عزيزية، وجاءت إلى طرابلس لدراسة الطب. وخلال زيارة للقذافي إلى الجامعة، وضع يده على رأسها، فجاء حرسه الشخصي في اليوم الموالي إلى بيتها لإخطارها بأن القائد اختارها لتنضم إلى مجموعة حارساته. رفضت العائلة، فبدأت التهديدات تطال شقيقها، ما دفعها في النهاية إلى قبول لقاء القذافي الذي اغتصبها وعزلها طيلة أسبوع كامل ثم تركها ومنحها مبلغا من المال. لم يستطع والدها استقبالها مرة اخرى بسبب الإذلال والمهانة اللذين يشعر بهما فيما تخلت هي تماما عن فكرة العودة إلى الجامعة... لقد ضاعت، لكنها اليوم تشتغل رسميا في بزنس السيارات.. في الواقع أنا أدرك تماما أنها تعيش من التجارة بجسدها».
كتب
صوريّا تروي عذابها واغتصابها: القذافي طحنني (3)
القذافي لم يترك الوقت لصوريا كي تسمع امها وعماتها
ترجمة وإعداد انيس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
> صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبوها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
لقد ولدت في ماراغ في احدى قرى الجبل الأخضر، بالقرب من الحدود المصرية، في السابع عشر من شهر فبراير عام 1989. نعم، في السابع عشر من هذا الشهر الذي يستحيل على الليبيين ان ينسوه من الآن فصاعدا. انه اليوم الذي بدأت فيه الثورة التي اطاحت بالقذافي في عام 2011. والذي يفترض ان يتحول الى يوم عيد وطني.
لقد رزق والدي بثلاثة اخوة سبقوني وباثنين ولدا بعدي، اضافة الى اختي الصغرى. وكنت انا اول بنت تولد، وكان أبي مجنوناً بحبي. لانه كان يريد ان تكون لديه ابنة، كان دائما يريد صوريا. كان يفكر في هذا الاسم حتى قبل ان يتزوج. وغالبا ما كان يروي مشاعره لحظة ولادتي. كان يقول باستمرار لي «أنت جميلة» جميلة للغاية.
كان سعيداً جداً بولادتي الى درجة انه نظم وليمة تليق بحفل زواج. الضيوف، الموسيقى والعشاء.. كان يريد كل شيء لابنته. ذات الحقوق مثل اخوتها. وكان يحلم بان اصبح طبيبة. وقد شجعني عندما كنت في الثانوية على التسجيل في صف العلوم الطبيعية. ولو سارت الامور في حياتي بشكل طبيعي اعتقد انني كنت سأدرس الطب. من يدري؟ ولكن لا اريد ان يحدثني احد عن عدم المساواة مع اخوتي الصبيان، علماً بأنه لا توجد ليبية واحدة بمقدورها ان تحلم بهذه المساواة. يكفي النظر إلى أمي، وهي عصرية للغاية، كم كانت مضطرة للتخلي عن الكثير من احلامها.
كانت لديها احلام هائلة تحطمت جميعها. لقد ولدت في المغرب. في منزل جدتها التي كانت تحبها حباً جماً. ولكنها كانت من ابوين تونسيين، كانت تتمتع بالكثير من الحرية، ذهبت الى باريس عندما كانت شابة عزباء لتتعلم مهنة الحلاقة النسائية. وهناك تعرفت على والدي، الذي كان يعمل موظفا في السفارة الليبية. وكان يحب باريس كثيرا ويحب السهر، لقاؤهما الاول كان في سهرة رمضانية، وكان الجو لطيفاً جميلاً بعيداً عن القمع في ليبيا. كان بمقدوره تعلم اللغة الفرنسية، كما كان يُقترح عليه، ولكنه كان يفضل اللهو والتنزه والتمتع بالحرية في كل دقيقة، وهو اليوم نادم لانه لم يتعلم اللغة الفرنسية، لان ذلك بالتأكيد كان يمكن ان يغير مجرى حياتنا.
غرة داخل قفص
على أي حال ما ان وقع نظره على أمي حتى اتخذ قراره وطلب يدها وتزوجا في مدينة فاس في المغرب، حيث كان يقيم جدي (والد امي)، وبعدها نقلها الى ليبيا. وكانت الصدمة كبيرة بالنسبة لوالدتي. لم يخطر ببالها قط انها ستعيش في القرون الوسطى، وهي التي كانت مدللة وتتابع آخر صيحات الموضة، وكانت تتبرج وتسرح شعرها، اضطرت لوضع الغطاء الابيض التقليدي، وتقييد تحركاتها خارج المنزل، وكانت اشبه بالنمرة داخل القفص. كانت تشعر بانها خدعت فهذه ليست الحياة التي وعدها والدي بانها ستعيشها، كان يحدثها عن السفر بين باريس وطرابلس وانه سيطور عمله بين البلدين.
وخلال ايام عدة وجدت نفسها في بلاد البدو، فانهارت، فاتخذ والدي الاجراءات اللازمة ونقل عائلته الى بنغازي، ثاني المدن الليبية في الشرق، وكانت المدينة تعتبر دائما انها متمردة على السلطة المركزية في طرابلس. ولم يكن بمقدوره نقلها الى باريس حيث كان يسافر إليها بانتظام، وهكذا فإنها عاشت في مدينة كبيرة وتخلصت من لبس الغطاء وحتى مارست نشاطها عبر ادارة صالون للنساء وكأن ذلك كان يخفف عنها.
بقيت تائهة في احلام العودة الى باريس. وكانت تقص علينا ونحن صغار النزهات في جادة الشانزليزيه وتناول الشاي مع صديقاتها في المقاهي الباريسية، والحرية التي تتمتع بها الفرنسيات، اضافة الى نظام الضمان الاجتماعي، حقوق النقابات وجرأة الصحافة، باريس، باريس، باريس كانت تتردد دائما الى ان سئمنا سماع كلمة باريس.
وكان تأنيب الضمير يعذب والدي، فقرر فتح مطعم في الدائرة الخامسة عشرة في العاصمة الفرنسية على ان تتولى والدتي ادارته. ولكن للاسف اختلف مع شريكه وطارت الفكرة. وكاد ان يشتري شقة في حي الديفانس بــ25 الف دولار يومها وتردد وهو نادم اليوم.
الذكريات الأولى
اذاً في بنغازي بدأت اولى ذكرياتي المدرسية، وهي غير واضحة في ذاكرتي، ولكني كنت اذكر انها أيام سعيدة. كان اسم المدرسة «اشبال الثورة»، وكان لدي اربع رفيقات وكن لا نفترق. وكان «اختصاصي» تقليد المعلمين ما إن يغادروا حصة الدرس. كما كنت اقلد وبسخرية مدير المدرسة. ويبدو ان الله وهبني القدرة على التقاط تعابير الناس وحركاتهم وطريقة سيرهم، وكنا نبكي من فرط الضحك. كنت احصل على علامة صفر بالرياضيات، وكنت متفوقة للغاية باللغة العربية.
لم يكن والدي يكسب كثيراً، وبات عمل والدتي لا بد منه، الى درجة انها أصبحت تؤمن مدخول البيت، وكانت تعمل ليلاً ونهاراً، وكانت تأمل دائماً بحصول شيء ما يسمح لنا بمغادرة ليبيا، وكنت أعرف انها كانت تختلف عن بقية الامهات، وحتى كان البعض يعيرني بالمدرسة بانني ابنة التونسية، وكان ذلك يجرحني، وكانت سمعة التونسيين انهم متحررون وعصريون، وفي بنغازي هذه الصفات لم تكن حميدة، وكنت من غبائي وغيظي احنق على والدي لانه لم يقترن بامرأة ليبية، وكنت أتساءل عن الأسباب التي دفعته للزواج بأجنبية، وعما اذا كان قد فكر بأولاده؟ يا الهي كم كنت حمقاء.
الانتقال إلى سرت
وعندما بلغت الحادية عشرة من عمري أعلن والدي اننا سنغادر لنعيش في مدينة سرت، الواقعة على البحر الأبيض المتوسط بين بنغازي وطرابلس، وكان يريد الاقتراب من مسقط رأسه، من والده وهو رجل تقليدي، تزوج أربع مرات من أقاربه وأولاد عمومته، ان الحياة في ليبيا هكذا، حيث العائلة تحاول ان تبقى مجتمعة في عرينها الذي يعطيها القوة والدعم اللامشروط. في بنغازي لم تكن لنا جذور ولا علاقات كنا كالأيتام.
على الأقل هذا ما قاله والدي لنا، ولكن كان لخبر الانتقال الى سرت وقع الكارثة بالنسبة لي، اهجر مدرستي؟ صديقاتي؟ انها مأساة، لقد مرضت حقاً، وبقيت في السرير لمدة أسبوعين غير قادرة على الذهاب الى المدرسة.
وفي نهاية المطاف غادرت، ولم أكن سعيدة لانني كنت في المدينة التي شهدت مسقط رأس القذافي، وفي احاديثنا في المنزل لم يتم التطرق اليه، كانت والدتي تكرهه، فقد كانت تغير قناة التلفزيون عندما ترى صورته، وكانت تسميه «منفوش الشعر»، وكانت تردد باستمرار، حقاً هل هذا الإنسان شكله شكل رئيس، واعتقد ان والدي كان يخاف ويفضل عدم التعليق. كان لدينا شعور بالفطرة انه كلما تجنبنا الحديث عنه كان ذلك أفضل، وأي كلام كان يمكن ان يصدر ويخرج عن نطاق العائلة كان يمكن ان يُنقل ويتسبب لنا بمشاكل كبيرة، ولم نعلق صور له في المنزل، ولم يناضل أحد من اخوتي في سبيله، وبشكل غريزي كنا حذرين.
أبي.. عمي عمر
وفي المدرسة كان الأمر مغايراً كلياً الى درجة العبادة، صوره كانت موجودة دائما، وصباح كل يوم كنا ننشد النشيد الوطني أمام ملصق عملاق لصورته على العلم الأخضر، وكنا نهتف «انت قائدنا ونسير خلفك».. وفي الحصة أو في الملعب خلال الاستراحة كان التلاميذ يرددون «ابي.. عمي معمر»، «عمو معمر»، وكان الاساتذة يتحدثون عنه وكأنه نصف إله، لا بل حتى كأنه إله، وكان يتحين علينا ان نسميه «بابا معمر».
وكان الهدف من الانتقال الى سرت الاقتراب من العائلة والاندماج بها، ولكن عملية الزراعة لم تنجح.
وكان سكان سرت «يفاخرون بقربهم من القذافي، يشعرون وكأنهم اسياد العالم، وكانوا يتصرفون كارستقراطيين في البلاط، وينظرون الى سكان المدن الأخرى وكأنهم في الأرياف».
ثمن التقاليد
ان تكون من الزنتان فأنت مسخرة، أو موضع سخرية، ان تكون من بنغازي فأنت مهزأة، وان تكون من تونس فهذا عار، ومهما فعلت والدتي كانت مصدر الخزي، وعندما فتحت بالقرب من المنزل، في شارع دبي، صالوناً تهافتت عليه سيدات سرت، فان الاحتقار قد زاد، علماً انها كانت موهوبة، وكان الجميع يعترف بتسريحاتها الجميلة وبمكياجها الرائع، وأنا على قناعة ان الاحتقار كان نابعا من الغيرة، فليس بمقدوركم تخيل كم ان مدينة سرت كانت تقبع تحت وطأة التقاليد والحشمة، ويمكن لامرأة ان تُشتم في الشارع اذا سارت سافرة، حتى اذا كانت بمفردها متحجبة فانها كانت موضع شكوك، ما الذي تفعله خارج منزلها؟ الا تبحث عن مغامرة؟ أليس لها علاقة؟ والناس يتجسسون على بعضهم، يراقبون ما يحدث في المنزل الواقع مقابل منزلهم، العائلات تحمي بناتها وتتحدث عن بنات الاخرين بالقيل والقال، وآلة النميمة كانت تعمل باستمرار.
عقوبة مضاعفة
وفي المدرسة كانت عقوبتي مضاعفة. لم اكن فقط ابنة التونسية، بل ايضا ابنة الصالون، وكنت اوضع منفردة على طاولة واحدة. ولم اتمكن من مصادقة ليبية واحدة، لكن في وقت لاحق، ولحسن الحظ، تعرفت على فتاة ليبية الاب وفلسطينية الام، وبعدها على مغربية ومن ثم على فتاة ليبية الاب وام مصرية، وحتى عندما كنت اكذب واقول ان امي مغربية لم تكن الامور افضل. وهكذا فإن حياتي تمحورت حول صالون والدتي. الذي اصبح مملكتي، كنت اركض اليه عندما ينتهي دوام المدرسة، وفيه كنت احيا من جديد، كانت هناك متعة حقيقية. كنت اساعد والدتي، وكان هذا الامر يولد لدي سعادة لا توصف. فقد كانت تركض في الصالون من زبونة إلى اخرى، علما بان لديها اربع موظفات. كنا نصفف الشعر، نقوم بالماكياج والعناية بالبشرة، صدقوني عندما اقول لكم ان نساء سرت اللاتي يختبئن خلف الحجاب كن في غاية التعقيد ومتطلبات جدا. وكان اختصاصي الحواجب وتنقية البشرة بخيطان الحرير، لنتف الوبر من الوجوه. وكنت احضر الزبونات للماكياج وكانت هذه المسألة من اختصاص والدتي. وعندما كانت تنتهي من عملية الماكياج كانت تصرح بي «صوريا اللمسة الاخيرة» وكنت اضع احمر الشفاه والعطر.
صالون والدتي
تحول صالون والدتي بسرعة إلى مكان تتواعد فيه نساء سرت الصوريات، ومن بينهن نساء قبيلة القذافي.
عندما كانت المدينة تستقبل القمم الدولية كانت النساء الأعضاء في الوفود الاجنبية تزرن صالون والدتي، زوجات القادة الافارقة والرؤساء الاوروبيين والاميركيين، واذكر بشكل خاص زوجة رئيس نيكاراغوا، التي طلبت تسريحة ترفع شعرها الى الاعلى وان ترسم الكحل على عينيها لتبدوان كبيرتين.
ذات يوم جاءت جوليا رئيسة بروتوكول زوجة القائد واصطحبت امي لكي تصفف شعرها، وهذا كان الدليل على ان شهرة والدتي قد ذاعت للغاية، وقد ذهبت لقضاء عدة ساعات للاهتمام بصوفيا فاركش وتلقت اجراً زهيداً اقل من التعرفة العادية في الصالون. وعادت في حالة من الغضب لانها شعرت بانها أهينت.
وعندما جاءت جوليا مرة ثانية لاصطحابها الى منزل معلمتها رفضت ذلك متذرعة بانها غير قادرة على مغادرة الصالون لانه يعج بالزبائن. وفي المرات التالية كانت والدتي تختبئ وتطلب مني ان اقول لرئيسة بروتوكول زوجة القذافي انها غير موجودة.
شخصية أمي قوية وهي رفضت دائما الرضوخ.
نساء متعجرفات
كانت نساء قبيلة القذافي متعجرفات، فاذا ما اقتربت من احداهن لاسألها عما اذا كانت تريد ان تصبغ شعرها او تقصه او تصففه كانت تنظر الي بازدراء، وتقول لي من انت لكي تتحدثي معي؟ ذات صباح وصلت امرأة من قبيلة القذافي وكانت في غاية الاناقة ورائعة الجمال فقلت لها بشكل عفوي «كم أنت جميلة» فإذا بها تصفعني على وجهي، تحجرت في مكاني وركضت نحو أمي وهمست قائلة اصمتي ان الزبونة دائما على حق. وبعد ثلاثة اشهر دخلت السيدة نفسها الى الصالون وتقدمت باتجاهي وقالت لي ان ابنتها، التي هي من عمري، قد ماتت بمرض السرطان واعتذرت مني، وكان ذلك اغرب من الصفعة.
ذات مرة، حجزت عروس الصالون لها بمفردها يوم عرسها ودفعت دفعة على الحساب، وبعدها الغت الحجز وعندما رفضت والدتي ان تعيد لها ما دفعته راحت تصرخ وتكسر كل ما استطاعت تحطيمه ولم تكتف بذلك، فاتصلت بقبيلة القذافي وجاؤوا وحطموا الصالون، وعندما جاء احد اخوتي وحاول ان يمنعهم تعرض للضرب، وعندها جاءت الشرطة اوقفت شقيقي واودعته السجن. ليخرج منه بعد ستة أشهر وآثار التعذيب على جسمه، وخرج من السجن بعد مفاوضات طويلة بين القبائل واتفاق ادى الى الافراج عنه، وعلى الرغم من الاتفاق أجبر القذاذفة الذين يسيطرون على كل المؤسسات والهيئات في سرت، والدتي على اقفال الصالون شهرا اضافيا، وجعلني هذا الأمر في غاية الغضب.
لم أعرف حب المراهقة
اخي الأكبر ناصر كان يخيفني ويمارس سلطته عليّ، ولكن العلاقة مع اخي عزيز، الذي يكبرني بسنة، كانت متواطئة، وعندما كنا نذهب الى المدرسة ذاتها كان يحميني ويدافع عني ويغار عليّ وكنت مرسالا أو وسيطة غرامياته الصبيانية، أما أنا فلم أكن أفكر بالحب اطلاقاً، وقد أكون أنا منعت نفسي باللاوعي لانني كنت أعرف ان والدتي صارمة للغاية.
لم أحلم بفتى، واعتقد انني سأندم طيلة حياتي لانني لم أعرف حب المراهقة، كنت أعرف انني سأتزوج لان هذا مصير كل النساء، وكان يجب عليّ عندها ان أتبرج لزوجي، لم أكن أعرف شيئاً عن جسدي، ولا عن حياتي الجنسية، عندما جاءتني «العادة» للمرة الأولى سارعت لأعلم والدتي، التي لم تقل لي شيئاً.
كنت أشعر بالعار عندما أشاهد على شاشة التلفزة، مع صبيان العائلة الدعايات للفوط الصحية النسائية.
أذكر عندما كانت والدتي وعماتي يقلن لي انه عندما يصبح عمري 18 سنة فانهن سيحدثنني عن عدد من امور الحياة، ولكنهن لم يتمكن من ذلك لان معمر القذافي قد سبقهن الى طحني.
كتب
صوريّا تروي عذابها: القذافي اعتدى عليَّ.. وطلب أن أناديه «بابا»! - (4)
صوريا تقبل {بابا} القذافي
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبوها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
في صباح يوم من أيام ابريل 2004 وكان عمري 15 سنة، قال مدير الثانوية لكل التلاميذ في الملعب «ان القائد سيمنحنا الشرف الكبير بزيارة المدرسة غداً، وهذه فرحة كبيرة وأنا اعتمد عليكم لكي تصلوا على الوقت وبانتظام، وان تكون ثيابكم المدرسية رائعة لانه يجب عليكم ان تعطوه الصورة الرائعة عن المدرسة كما يحبها وكما يستحقها».
يا له من خبر! يا لها من مفاجأة سارة، ليس بمقدوركم ان تعرفوا أي وقع لمشاهدة القذافي، صورته كان ترافقني كل حياتي، منذ ولادتي صورة كانت في كل مكان على جدار المدن، في الدوائر الحكومية في قاعات البلديات وغرف التجارة على دفاتر المدارس والأوراق النقدية، كنا نعيش دائماً تحت نظراته، وفي عبادته، وعلى الرغم من ملاحظات والدتي كنت أكن له عبادة تخوف، لم أحاول ان أتخيل حياته لانني كنت أضعه فوق البشر في نوع من جبل الأولمب حيث يحكم بنقاوة.
في اليوم التالي، ركضت الى المدرسة بلباس المدرسة وعلى رأسي شريطة بيضاء وكنت أنتظر بفارغ الصبر كي يشرحوا لنا كيف سيتم النهار.
وما كادت الحصة الأولى تبدأ حتى جاء استاذ الى الصف وقال لي انه تم اختياري لكي اسلم القائد الزهور والهدايا، أنا ابنة الصالون التي يرفض التلاميذ مخالطتها، يا لها من صدمة، لقد فتحت عيني كبيرتين ووقفت والفرح يشع منهما ولسان حالي يقول ان كل فتيات الصف يغرن مني، تم اقتيادي الى قاعة كبيرة حيث كان يحتشد عدد كبير من التلاميذ الذين تم اختيارهم، وطلب منا ان نرتدي الملابس التقليدية الليبية، وغيرنا ملابسنا وساعدنا الاساتذة على وضع الاغطية التقليدية على رؤوسنا.
ورحت أطرح الأسئلة على الاساتذة، وأتوسلهم ان يشرحوا لي كيف يجب ان أتصرف، هل انحني أمامه؟ هل أقبل يده؟ هل يجب ان أردد شيئاً ما أمامه؟ كان قلبي يخفق بقوة فيما كان الجميع منهمكا بجعلنا رائعين.
وعندما استعيد بالذاكرة ذلك اليوم افكر بانني كنت النعجة التي تقاد الى المذبح للتضحية.
كانت قاعة الاحتفالات مملوءة بالاساتذة والتلاميذ وبالهيئة الادارية، والجميع كان ينتظر بعصبية، وكانت مجموعة من الفتيات تقف عند مدخل القاعة لاستقبال القائد، وكنا نلقي عليهن النظرات المتواطئة التي تقول كم انتن محظوظات، أو سنتذكر هذا اليوم طيلة حياتنا، وكنت امسك بباقة الورود وارتجف مثل الورقة.
كانت ساقاي كأنهما من القطن ووجه الي احد الاساتذة نظرات قاسية، وقال لي «قفي جيداً يا ثريا»، وفجأة وصل وسط حشد من الحارسات واصوات فلاشات عدسات التصوير، كان يرتدي ثوباً أبيض والصدر مغطى بالنياشين وبالعلم، وعلى كتفيه شال «بيج» بلون الطاقية التي على رأسه، وحيث يظهر من تحتها الشعر الأسود.
عندما يبتسم القائد
مرت اللحظات بسرعة البرق ، قدمت له باقة الورود وأخذت بيده بيدي وقبلتها ثم انحنيت، وشعرت إنه يضغط على يدي بطريقة غريبة. وراح ينظر إلي من أعلى إلى اسفل، وضغط على كتفي، ووضع يده على رأسي وراح يداعب شعري، وكان ذلك نهاية حياتي، لان هذه الحركات، وكما علمت لاحقا، كانت تعني لحرّاسه انني اريد هذه الفتاة بعد انتهاء الزيارة. في تلك اللحظة كنت اطير من الفرح، راكضة الى صالون والدتي لاروي لها الحدث. وقلت لها «بابا معمر ابتسم لي.. اقسم لك يا ماما انه داعب شعري». وكنت فرحة واريد ان يعرف الجميع ما حصل لي. وقالت والدتي، وهي تصفف شعر احدى الزبونات، يجب الا تبالغي.
وقلت لها ولكن انه زعيم ليبيا والمسألة ليست بسيطة!
فقالت لي آه نعم، لقد اغرق البلاد وشعبه في القرون الوسطى وتتحدثين عن قائد.
اشمأززت من حديث والدتي وعدت الى المنزل لانتشي بفرحي. والدي كان في طرابلس، اخوتي لم يبالوا كثيرا، باستثناء عزيز الذي لم يكن يصدق ما كنت اقوله له.
وفي اليوم التالي عندما عدت الى المدرسة لاحظت ان الاساتذة قد غيروا طريقتهم بالتعامل معي، فقد كانوا عادة يزدرونني فإذا بهم يتعاطون معي بحنو. وذهلت عندما نادى الاول يا صوريا الصغيرة، وقال لي الآخر قررت استئناف الدراسة؟ وعندها قلت في نفسي ان الامر غير طبيعي. ولكنني لم اقلق لان ذلك حصل غداة عيد قدوم القائد.
وعند انتهاء الدوام عند الساعة الواحدة بعد الظهر عدت الى الصالون لاساعد والدتي. عند الساعة الثالثة بعد الظهر دخلت ثلاث من نساء القذافي الى الصالون، وكانت فايزة في المقدمة بلباسها العسكري والمسدس على وسطها وتتبعها سلمى ومبروكة باللباس التقليدي الليبي، وسألن: أين والدة صوريا؟
وسرن باتجاه والدتي، والصالون ممتلئ بالزبائن، وقلن لها اننا من اللجان الثورية وكن مع معمر صباح امس عندما زار المدرسة، وكانت ثريا رائعة في اللباس التقليدي، وتصرفت بلباقة، ونحب ان تهدي باقة ورد جديدة لبابا معمر، ويجب ان تأتي معنا حالاً.
ــــ الوقت ليس مناسباً، كما ترين ان الصالون مزدحم بالزبونات وانا بحاجة إلى ابنتي.
ــــ المسألة لا تأخذ أكثر من ساعة.
ــــ ويمكنها ان تمكيج نساء من اوساط القائد.
ــــ والحالة هذه الامر يختلف، انا سآتي معكن.
ــــ لا على ثريا ان تقدم باقة الورد.
كنت اتابع الحوار بذهول وفرح، والدتي كانت حقا منهمكة بالزبونات في ذلك اليوم، وكنت منزعجة قليلاً، لانها كانت تتردد، فعندما يتعلق الامر بالقائد لا يمكن ان يرفض الطلب.
وانتهى الامر بوالدتي ان وافقت، ولم يكن لديها خيار آخر، ولحقت بالنساء الثلاث الى السيارة الرباعية الدفع التي كانت متوقفة امام الصالون، وقد ادار السائق المحرك قبل ان نستقر بالسيارة. مبروكة جلست الى الامام وانا بين سلمى وفايزة. وقد لحقت بنا سيارتان من الحرس. وبمقدوري ان اقول وداعاً لطفولتي.
حضّروها!
سارت بنا السيارة مسافة طويلة. ولم اتمكن من تحديد الوقت، الذي بدا لي وكأنه يتطاول الى ما لا نهاية، لقد تركنا مدينة سرت وسرنا في الصحراء. كنت انظر امامي من دون التجرؤ على طرح الاسئلة. واخيرا وصلنا الى صداده، الى نوع من المخيم. كانت هناك سيارة رباعية الدفع وخيم كثيرة ومقطورة فاخرة للغاية. توجهت مبروكة باتجاهها وطلبت مني اللحاق بها. وظننت انني شاهدت في سيارة كانت تعود ادراجها الى سرت احدى الفتيات اللاتي استقبلن القائد في المدرسة في اليوم السابق. وكان يفترض ان تطمئنني هذه المسألة. ولكنني احسست بقلق لا يوصف عندما صعدت الى المقطورة. وكأن كل اعماقي ترفض هذا الوضع. وكأنني شعرت تلقائيا وبغريزتي ان شيئاً سلبياً للغاية يخطط له.
كان معمر القذافي داخل المقطورة جالساً على مقعد تدليك احمر كالامبراطور بيده مفتاح التشغيل وريموت كونترول، تقدمت منه لأقبل يده التي مدها لي برخاوة وكان يشيح عني بنظره «اين فايزة وسلمى؟» سأل مبروكة بصوت منزعج. «انهما على وصول». كنت مصدومة لانه لم يلتفت الي بنظرة وكأنني غير موجودة. مرت دقائق عدة من دون ان يلتفت الي وكنت لا ادري اني اخبئ وجهي، وانتهى به الامر ووقف وسألني «من أين جاءت اسرتك؟».
ــــ من الزنتان.
ــــ لم تتحرك على وجهة أي عضلة. «حضروها» قال قبل ان يترك الغرفة.
اشارت الي مبروكة إلى ان اجلس على مقعد في زاوية صالون المقطورة. ووصلت المرأتان وكأنهما في منزليهما. ابتسمت لي فايزة واقتربت مني وامسكتني من ذقني وقالت لي «لا تخافي يا صوريا يا صغيرتي». وغادرت وهي تقهقه بأعلى صوتها. وكانت مبروكة تتحدث عبر الهاتف وتعطي تعليمات وتفاصيل مفيدة لوصول شخص ما. وعلى الارجح فتاة مثلي.
اقفلت الخط والتفتت الي قائلة «تعالي لنأخذ مقاساتك لنعطيك الملابس. ما هو مقاس صدريتك؟». كنت في غاية الصدمة وقلت لها «لا اعرف لان امي هي التي تشتري لي ملابسي».
ظهر الانزعاج على وجهها ونادت على فتيحة، وهي امرأة اخرى صوتها وجسمها اشبه بالرجال ولكن صدرها الكبير وحده يشير الى انها امرأة. نظرت فتيحة الي وصافحت يدي وغمزتني قائلة «اذاً انت الجديدة؟». واضافت «من أين جاءت هذه؟». وأحاطت المازورة حول خصري وصدري، وبعد ان انتهت من أخذ المقاسات خرجت مع مبروكة من المقطورة. بقيت بمفردي بداخلها لا اجرؤ لا على الحركة ولا على النداء.
وحل المساء وانا لا أفهم شيئا. ماذا ستقول والدتي؟ هل اخبروها انني سأتأخر؟ ماذا سيحصل لي؟ وكيف سأعود إلى المنزل؟
وبعد مضي وقت طويل عادت مبروكة الى المقطورة. وكنت مسرورة برؤيتها. اخذتني من ذراعي، من دون التحدث الي، الى نوع من المختبر، حيث كانت توجد ممرضة شقراء، وسحبت مني كمية من الدم لاجراء فحوصات مخبرية.
وقادتني فتيحة الى حمام وقالت لي انزعي ملابسك كم انك مشعرانية، يجب ان ننزع كل هذا الشعر ووضعت الكسحة السكر على رجلي وذراعي ثم استخدمت شفرة الحلاقة وقالت لا يجب ابقاء الشعر عند جنس المرأة، كنت مذهولة ومنزعجة. وظننت ان هذه الاجراءات الوقائية الصحية تتعلق بكل من يقترب من القائد.
وبعد الحمام قالت لي مبروكة وسلمى سنعطيك الملابس المناسبة، ويجب ان تتبرجي لرؤية البابا معمر.
ــــ كل هذا لالقاء التحية على البابا معمر؟!
أريد ان اعود الى منزل اهلي.
ــــ «في ما بعد! ولكن يجب عليك قبل ذلك إلقاء التحية على معلمك».
ــــ اعطتني مبروكة سترينغ وانا لم ار شيئا مثل هذا في حياتي. ثم فستانا ابيض حريرا يلبس جسمي، يكشف عن صدري وعن ظهري.
وبعد ان عطرتني وقادتني في ممر الى ان توقفت امام غرفة. فتحت الباب ودفعتني امامها كان القذافي مستلقياً على السرير، وعارياً كلياً، يا للرعب، لقد خبأت وجهي بيدي وتراجعت إلى الوراء مصدومة، لقد ظننت أن خطأ رهيباً حصل، وهذا ليس وقت ارتكابه، يا إلهي استدرت لكي أخرج من الغرفة، وكانت مبروكة تقف ورائي عند عتبة الباب، وتقاسيم وجهها قاسية، فهمست لها بأنه عار كلياً وكنت أظن أنها لم تنتبه إلى ذلك، فدفشتني قائلة: ادخلي، أخذتني من ذراعي وأجبرتني على الجلوس على السرير إلى جانبه، لم أتجرأ على النظر إليه، فقال لي استديري يا عاهرة.
لم أكن أعلم معنى هذه الكلمة، وقلت لنفسي إنها رهيبة مبتذلة تعني امرأة ساقطة، لم أتحرك حاول جذبي إليه، فقاومت شدني من ذراعي ومن كتفي فتمسمر جسمي.
فشدني إليه من شعري، وقال لي: لا تخافي أنا باباك، أليس هكذا تنادينني؟ ولكني، أيضاً، شقيقك، وأيضاً، عشيقك وصبيك، أريد أن أكون كل ذلك، لأنك، من الآن وصاعداً، ستعيشين معي دائماً.
اقترب وجهه من وجهي وشعرت بأنفاسه، بدأ بتقبيلي في رقبتي وعلى خدي وبقيت مثل المخشبة، أراد ضمي فابتعدت، اقترب مني فأدرت رأسي وبدأت بالبكاء أراد أن يحضن رأسي بين يديه فنهضت فأمسك بذراعي دفعته عني، فغضب وحاول أن يطرحني على السرير بقوة فقاومته، وتعاركنا راح يصرخ، فظهرت مبروكة «أنظري إلى هذه القحبة»، قال وهو يصرخ بأعلى صوته، «إنها ترفض ما أطلبه، علميها فهميها وأعيديها إليّ».
توجه إلى حمام إلى جانب غرفة النوم، فاخرجتني باتجاه المختبر ونهرتني قائلة: كيف تجرأت على التصرف هكذا مع سيدك، إن دورك يقوم على الانصياع له!
- أريد أن أعود الى المنزل.
- لن تتحركي من هنا فمكانك هنا.
- أعطني أمتعتي أريد أن أعود لرؤية أمي.
كادت صفعتها ترميني أرضاً، حيث ترنحت من شدتها، أطيعي الأوامر وإلا بابا معمر سيدفعك الثمن غالياً جداً، لقد أدعيت أنك فتاة صغيرة أيتها المنافقة، بينما أنت تعرفين جيداً ما الذي ينتظرك، من الآن وصاعداً، ستصغين إلى ما نقوله لك أنا ومعمر، ستنفذين الأوامر من دون نقاش، واختفت لتتركني بمفردي في هذا الفستان الساقط وشعري على وجهي، فبكيت لساعات طويلة، وأنا متقوقعة على نفسي في الصالون.
وأنا لا أفهم شيئاً، ذهني محير، ماذا أفعل هنا؟ ماذا يريدون مني؟ أمي ماتت من شدة القلق ويمكن أنها اتصلت بوالدي الذي عاد إلى سرت وأخذ عليها كيف أنها تركتني أرحل، وهو الذي لم يكن يوافق على أن أغادر المنزل، كيف بمقدوري أن أخبرهم بما حصل مع بابا معمر، والدي سيجن، وكنت لا أزال أجهش بالبكاء، عندما جاءت الممرضة الشقراء ولن أنسى في حياتي أنها جلست إلى جانبي ومررت يدها على وجهي بحنان، وقالت لي: ما الذي حصل؟ أخبريني. كانت تتحدث بلهجة أجنبية، وعلمت فيما بعد أنها أوكرانية تعمل في خدمة القائد واسمها غالينا. لم أتمكن من أقول لها أي كلمة.
غلبني النعاس، أيقظتني مبروكة صباح اليوم التالي عند الساعة التاسعة، أعطتني ملابس رياضية فأملت أنني سأعود إلى منزل أهلي، وسألتها هل سأغادر إلى المنزل الآن؟ قلت لك لا! هل أنت صماء؟ لقد شرحنا لك إن حياتك باتت نهائياً هنا، وحياتك السابقة قد انتهت وقلنا ذلك لأهلك، وقد تفهموا الوضع بشكل جيد.
- لقد اتصلت بأهلي!
اقتربت مني سلمى: أريد أن أقول لك المسائل بوضوح: معمر يريد مضاجعتك، يريد أن يفض بكارتك، أن يأخذك، من الآن فصاعداً أنت ملكه، ولن تتركيه من الآن فصاعداً. توقفي عن نزوتك فالمقاومة لا تجدي نفعاً معنا.
جاءت فتيحة وقالت لي لا تقاومي فهكذا تكون الامور ابسط. اذا وافقت فإن الامور ستكون جيدة بالنسبة لك. ويجب عليك ان تطيعيه.
بكيت وبقيت منبطحة وقلت لنفسي اذاً انا سجينة ما هو ذنبي؟
انتهى الأمر
عند الساعة الواحدة بعد الظهر. جاءت فتيحة وألبستني فستان حرير ازرق، قصير للغاية، واخذتني مبروكة من يدي وجرتني بقوة باتجاه غرفة القذافي وقالت لي هذه المرة ستحققين رغبات معلمك وإلا فانني سأقتلك، فتحت الباب ودفعتني الى داخل الغرفة. كان القائد جالساً على طرف السرير يرتدي ملابس رياضية ويدخن سيجارة. راح ينفخ دخانها باتجاهي. وقال لي «انك قحبة. امك تونسية اذاً انك سافلة. كان يأخذ وقته وينظر الي من أعلى إلى أسفل ومن اسفل الى اعلى. وقال لي اجلسي الى جانبي. سأنفذ كل طلباتك. سأهديك المجوهرات والفيلا الفاخرة، سأعلمك قيادة السيارة. وسأشتري لك سيارة، وبمقدورك ان تسافري الى الخارج لمواصلة دراستك اذا رغبت بذلك. سأصطحبك معي إلى اي مكان تريدينه. ان رغباتك هي اوامر بالنسبة لي.
ــــ اريد ان اعود الى امي.
وقف، اطفأ سيجارته وصرخ في وجهي: اسمعيني جيدا انتهى الأمر. انتهى. انتهت مسألة العودة الى المنزل. فمن الآن وصاعدا انت معي. وعليك ان تنسي كل شيء.
لم يكن بمقدوري ان اصدق ما قاله لي. كان ذلك خارج نطاق الفهم او قدرتي على فهمه. شدني الى السرير وعض ذراعي. واوجعني. وحاول تعريتي وانا كنت اشعر انني عارية في الفستان الازرق. كان الامر رهيبا. ولم يكن بمقدوري ان اتركه هكذا. تمسكت بالفستان فراح يصرخ: انزعيه ايتها الساقطة القذرة. طرحني على السرير فقاومته. فوقف والشرر يتطاير من عينيه ودخل الى الحمام، فكانت مبروكة في اللحظة التالية في الغرفة، وعلمت فيما بعد ان جرسا كان موجودا بالقرب من السرير يضغط عليه.
هذه اول مرة تقاومني فتاة بهذا الشكل. ان هذا بسببك لقد طلبت منك ان تعلميها، وعليك ان تفعلي ذلك وإلا فانت ستدفعين الثمن.
سيدي دعك من هذه الفتاة العنيدة، مثل البغلة لزمها لامها واحضر لك غيرها.
-حضري هذه فانا اريدها هي.
كيف بمقدوري ان انام؟ استعدت المشهد في غرفة القذافي ولم اعثر على اي مبرر لما عشته. ماذا قالوا لأهلي؟ أكيد اخفوا عنهم الحقيقة. ولكن ماذا قالوا؟ والدي كان يرفض ان ازور ابنة الجيران وكان يجب علي ان اعود الى المنزل قبل غروب الشمس، ماذا سيقول؟ ماذا يتخيل؟ هل سيصدقونني ذات يوم؟ ماذا قالوا للاساتذة في المدرسة عن غيابي لتبريره؟ لم اغمض عيني طيلة الليل، وعند الفجر وعندما بدأت بالانهيار وصلت مبروكة، قفي وارتدي هذا الزي العسكري سنغادر الى سرت.
ــــ سنعود الى منزل والدتي؟
ــــ لا سنذهب إلى مكان آخر.
إلى المسلخ
انطلقت المقطورة.. وبعد حوالي ساعة من السير طلب منا ان ننزل منها، وتم توزيعنا على عدة سيارات، عندها ادركت ان الموكب كبير جدا.
كانت هناك فتيات جنديات كثيرات للغاية، كنت أصغرهن سنا، وكان هذا يدفع بالعديد منهن لمراقبتي. كان عمري يومها 15 سنة. ولكن فيما بعد التقيت بفتيات لم تتجاوز أعمارهن الـ 12 سنة. في سرت غاص الموكب في ثكنت كتيبة السعدي. تقاسمت غرفتي مع فريدة، إحدى حارسات القذافي وعمرها 23 سنة، وضعت سلمى على سريري حقيبة، وقالت لي هيا الى الحمام وصفقت بيدها بسرعة: استحمي وارتدي قميص النوم الازرق.
النقاش انتهى. وقفت أنظر إليها، وهي توضب أمتعتها بدقة. وأنا غير قادرة على ارتداء الملابس، وكانت الحقيبة مليئة بالسرينغ وقمصان النوم القصيرة. عادت سلمى وصرخت بي، لقد قلت لك أن تحضري نفسك. وبقيت واقفة حتى غيرت ملابسي وارتديت قميص النوم الازرق. جعلتني انتظر بالممر، ووصلت مبروكة وعلامات الغضب على وجهها، فدفعت بي الى إحدى الغرف واقفلت الباب خلفي.
كان عاريا ايضا، مستلقيا على سرير كبير في غرفة من دون نوافذ.
«تعالي يا قحبتي» قال لي، وفتح ذراعيه. «تعالي ولا تخافي»، دُفعت الى المسلخ وأنا أفكر بالهرب، ولكنني كنت أعرف أن مبروكة تقف خلف الباب، بقيت جامدة في مكاني، نهض فجأة وشدني اليه بقوة فاجأتني، رماني على السرير قبل ان يلقي بثقله عليّ، حاولت ان أدفعه، لكنني لم أتمكن من ذلك، عضني في رقبتي، في خداي، في صدري، حاولت ان أقاوم وأنا أصرخ، «لا تتحركي أيتها العاهرة القذرة»، ضربني على صدري بقوة، وبعد ان تمكن من السيطرة عليّ اغتصبني بعنف.
صوريّا تروي عذابها مع القذافي: ليلى طرابلسي اتصلت به وطلبت أن يتصل بها - (5)
الحارسات دائماً مع القذافي
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبوها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
لن أنسى أبداً كيف دنّس جسدي وروحي، وكان ذلك مثل الخنجر الذي لم يخرج وبقيت مديته في داخلي. خارت قواي ولم أعد قادرة على الحركة، فرحت أبكي، نهض وتلقى منشفة حمراء كانت بالقرب منه، مررها بين فخذي وخرج الى الحمام، وعلمت لاحقاً ان الدم الذي خرج مني كان بالنسبة له ثميناً جداً لممارسة الشعوذة، فنزفت لمدة ثلاثة أيام، وكانت غالينا تعتني بي، وقالت لي انني أصبت بجروح داخلية، لم أكن اشتكي، ولم أعد أطرح الأسئلة، بينما هي قالت لمبروكة كيف بمقدوره ان يفعل ذلك؟ ان هذا رهيب، ولكن مبروكة كانت غير مبالية، انقطعت شهيتي، ولم أتذوق الطعام الذي كان يؤتى به الى غرفتي، كنت ميتة ــ حية، وكانت فريدة تتجاهلني كلياً.
بعد أربعة أيام جاءت سلمى، وقالت لي ان معلمك يريدك، وقادتني مبروكة الى غرفته ليعاود الكرة مستخدماً العنف ذاته، والكلمات المذلة الجارحة، وعدت انزف من جديد، فحذرت غالينا مبروكة وقالت انه يجب عدم الاقتراب مني لان وضعي خطير. وفي اليوم التالي اقتدت الى غرفته بعد الفجر بقليل، كان يتناول فطوره، الثوم مع عصير البطيخ وحليب الناقة، وضع في المسجلة شريط أغاني بدوية قديمة وطلب مني الرقص: أرقصي يا (...)، كان يصفق بيده ويقول هيا هيا أرقصي.
كان التسجيل رديئاً وكلمات الأغاني بالية وكانت النسوة تدخل إلى الغرفة وتخرج إما لتسليمه قصاصات ورق وإما لإزالة الفطور، وكن غير مباليات بوجودي، وكان يطلب مني أن أواصل الرقص ارقصي يا (...) من دون أن يزيح عينيه عني فالتقطني من جديد. وفي مساء اليوم نفسه، أجبرني على التدخين. وعندما قلت له لا أريد التدخين أشعل السيجارة ووضعها في فمي وقال دخني تنشقي السيجارة، ابلعي الدخان.. وعندما كنت أسعل كان ينفجر ضاحكاً.
في اليوم التالي، استقبلني مع زجاجة ويسكي. وقال لي لقد حان الوقت الذي يجب أن تتعلمي فيه الشرب يا (...). كنت أسمع دائماً أن القرآن حرّم الكحول، وأن القذافي إنسان مؤمن، ويتقي ربه، في المدرسة وفي التلفزيون كانوا يتحدثون عنه كأفضل مدافع عن الإسلام، وكان في خطاباته يستشهد، دائماً، بالقرآن، ويؤم المصلين، وكانت الصدمة كبيرة جداً عندما رأيته يشرب الويسكي. فهو بالنسبة لنا كان أب الليبيين، المدافع عن العدالة، وإذا به يخرق كل القواعد التي كان يدّعي الدفاع عنها. كل ما كان الأساتذة يعلمونني إياه في المدرسة، وكل ما كان والداي يؤمنان به، وقلت لنفسي آه لو أنهم يعلمون.
صب لي كأس ويسكي وقال لي اشربي يا (...). بللت شفتاي فكرهت الطعم وشعرت بحرقة. اشربي إنه مثل الدواء.
وفي المساء نفسه، غادرنا جميعاً إلى طرابلس. كانت هناك عشرات السيارات والمقطورة وشاحنة محملة بالمعدات، خصوصاً الخيم. وكل الفتيات كن من جديد ترتدين الزي العسكري. والفرح كان بادياً على وجوههن لأننا سنغادر بينما كان اليأس يسيطر عليّ. حاولت التفكير في طريقة للهرب، ولكن سرعان ما اقتنعت ألا فائدة من ذلك لأنه لا يوجد أي مكان في ليبيا يمكن الهرب إليه من القذافي، شرطته، ميلشياته وجواسيسه. حتى داخل العائلة الواحدة كان يمكن أن يكون هناك مخبرون، لقد كنت سجينته، وتحت رحمته، الفتاة التي كانت إلى جانبي بالسيارة قالت لي: آه يا صغيرتي لقد قيل لي إنهم أخذوك من المدرسة. لم أرد عليها وصرخت الفتاة التي كانت تجلس إلى جانب السائق إننا جميعاً في الوضع نفسه!
باب العزيزية
وأخيراً طرابلس.. جارتي في السيارة كانت في غاية السعادة عندما شاهدت المنازل الأولى عند مدخل المدينة، وأنا أيضاً شعرت بالاطمئنان قليلاً، وقالت إحدى الفتيات لقد طفح الكيل في سرت، ولم أكن أعرف ماذا أقول، ولكنني كنت أسجل كل ما أسمعه، سار الموكب حوالي اربع ساعات، وكان يرعب السيارات التي يتجاوزها والمارة أيضاً، بدأ الليل بالهبوط وكانت المدينة تبدو عن بعد كشبكة من الطرقات والأبراج والأضواء. فجأة خفف الموكب السرعة ليدخل من باب واسع يؤدي الى مبنى محصن، الجنود وقفوا في حالة تأهب. وضع الفتيات وارتياحهن كان يشير وكأنهن وصلن الى منزلهن، وقالت لي إحداهن «هذا باب العزيزية».
بالطبع كنت أعرف اسم باب العزيزية، من في ليبيا لا يعرفه؟ إنه مركز السلطة بكل رموز قوتها، مكان إقامة القذافي المحصن، ويقع غرب طرابلس، وفي أذهان الليبيين باب العزيزية يرمز الى الرعب. كنت ذات يوم قد مررت برفقة والدي أمام الباب الكبير حيث ترتفع صورة عملاقة للقائد وجدرانه تمتد عدة كيلومترات، ولم يخطر ببال أحد أن يسير الى جانب الجدران، لأنه كان سيُتَهم بالتجسس أو يُطلق عليه النار لمجرد قيامه بأي حركة قد يراها الحراس مشبوهة. وقيل لي إن سائق سيارة تاكسي مسكين قد قضى حتفه لأن عجلة سيارته قد انفجرت عند أحد الجدران ومات داخل سيارته بانفجار، حتى قبل أن ينزل منها لفتح صندوق السيارة. وكل الهواتف النقالة لا تعمل في محيط باب العزيزية.
قطعنا الباب الرئيسي، ودخلنا في مكانا بدا لي واسعاً للغاية وعلى جانبيه مبان لها نوافذ ومداخل صغيرة، يفترض أن تكون مهاجع الجنود. كان هناك النخيل والعشب الأخضر والمرجة، وحدائق، وجمال، ومبان متواضعة، وعدة فيلات
تختفي خلف الأشجار. بوابات الأمن كانت كثيرة وكنا نعبرها الواحدة تلو الأخرى، ونجتاز جدرانا يتوالى بعضها خلف بعض ولم أفهم تصميمها الهندسي، لم يبد لي المكان عدائيا.
توقفت السيارة أمام بناء كبير. ظهرت مبروكة فجأة وكأنها سيدة المنزل: «إدخلي وضعي حوائجك في غرفتك!». لحقت بالفتيات اللواتي دخلن من باب تلاه باب أمني مزود بكاشف للمعادن. الجو كان رطبا للغاية. كنا في طابق تحت الأرض. أشارت أمل، التي كانت جارتي في السيارة، الى غرفة صغيرة لا يوجد فيها نافذة، وقالت لي «هذه غرفتك». داخل الغرفة توجد مرآة عملاقة وسريران وجهاز تلفزيون صغير وحمام. استحممت، وحاولت أن أنام. ولكنني لم أتمكن. أدرت التلفاز ورحت أبكي بصمت لدى سماعي الأغاني المصرية.
أوامر المعلم
في منتصف الليل جاءت أمل الى غرفتي وقالت لي «ارتدي قميص نومك.. القائد يريد أن يرانا معا!».
كانت أمل رائعة الجمال. والسروال القصير وقميصها الحفر الذي تلبسه كان يظهر جمال جسمها الى درجة انني ذهلت به شخصيا. ارتديت قميصا أحمر. وصعدنا درجا صغيرا لم انتبه له يقع الى جانب غرفتي. وجدت نفسي مع أمل أمام باب غرفة القائد التي تقع مباشرة فوق غرفتي. وكانت واسعة جدا تغطي المرايا أقساما في جدرانها وفي وسطها سرير كبير له قبة حمراء تشبه العرش أشبه بأسرة ألف ليلة وليلة. كانت هناك طاولة ورفوف عليها كتب و«دي في دي» ومجموعة من الزجاجات والقوارير من العطور الشرقية كان يعطر بها رقبته دائما. كما كان هناك مكتب وعليه كمبيوتر كبير. ومقابل السرير كان هناك باب جرار يؤدي الى الحمام، والى جانب المكتب كانت توجد زاوية خاصة بالصلاة ونسخ قيمة من القرآن. أشير الى هذه النسخ لأنها كانت دائما تحيرني. فأنا لم أر القذافي يوما يصلي، باستثناء مرة واحدة في أفريقيا عندما كان يؤم الصلاة. وعندما أتذكر ذلك اقول يا له من ممثل.
عندما دخلنا الى الغرفة كان بملابس رياضة حمراء. ولما شاهدنا نادى علينا بأعلى صوته «أيتها (...) تقدما وارقصا. هيا، هيا!». وضع شريط الموسيقى نفسها وراح يتمايل معها. «لديك نظرات ثاقبة يمكنها أن تقتل»، كم من مرة سمعت هذه الأغنية السخيفة! لم يكن يسأم منها.
أمل بدأت ترقص.. وأنا بقيت في مكاني أنظر إليها بحذر. اقتربت مني وراحت تشجعني على مواكبة حركاتها، بينما كان القذافي يصرخ «نعم يا (..) نعم».
خلع ملابسه وطلب مني أن أواصل الرقص، ودعا أمل الى الجلوس بالقرب منه. وراحت تداعبه. ظننت أن الوقت قد حان لكي أغادر الغرفة. وعندما استأذنته قال «لا.. تعالي الى هنا يا (..)!». راح يداعبني بعنف و(...) بينما كانت أمل (..). أمسك بشعري بقوة وقال لي «إنظري ما يجب أن تتعلميه!». طلب من أمل الخروج وانقض عليّ.
يخاف من مبروكة
كانت مبروكة تدخل وتخرج وكأنها لا ترى شيئا. كانت تنقل له الرسائل. وكان آخرها «اتصلت ليلى طرابلسي وهي تطلب منك أن تتصل بها»، وعندما أنهت جملتها قالت هذا كل شيء فأنت منهمك بأشياء أخرى. صعقت عندما سمعتها تقول له هذه الجملة... كان بمقدورها أن تقول له كل شيء وأي شيء. أعتقد أنه كان يخاف منها.
ذهب الى الحمام وبعد دقائق نادى اعطني منشفة. المناشف كانت بمتناول يده، ولكنه كان يحب أن أخدمه. "عطّ.ري ظهري!"، أمرني، وأشار الى جرس بالقرب من جهاز الفيديو، طلب مني أن أضغط على الجهاز، وفي اللحظة ذاتها دخلت مبروكة، فقال لها «أعطي لهذه (..) دي في دي لكي تتعلّم مهنتها!».
بعد خمس دقائق دخلت سلمى الى الغرفة ومعها الأفلام الخلاعية، وقالت لي «عليك أن تشاهديها وتتعلمي منها، لأن المعلم سيغضب إذا لم تقومي بواجبك المدرسي».
عُدت الى غرفتي واستحممت، وجاءت أمل الى الغرفة، وكان قد مضى أسبوع لم أتحدث خلاله مع أحد. ولم أعد أتحمل الوحدة والخوف. فقلت لها: لا أدري ماذا أفعل هنا، هذه ليست حياتي، وهذا شيء غير طبيعي؟! لقد اشتقت لوالدتي، هل برأيك يمكن ان أتحدث إليها بالهاتف؟
«سأبحث الموضوع مع مبروكة»، قالت لي أمل. ونمت منهارة القوى.
من هو المجنون؟!
عند الساعة الثامنة صباحا طُرق باب غرفتي بقوة، ودخلت سلمى وقالت لي»عليك أن تصعدي الى غرفة القائد كما أنت. المعلم يريد أن يراك!». كان لا يزال في السرير، وقال لي «تعالي الى هنا يا (..)!». مزق ملابسي واغتصبني من جديد، وسألني «هل شاهدت الأفلام يا (..)؟ الآن يفترض أن تكوني قد تعلمت!». ونهض ليتناول حبات الثوم التي تجعل رائحة فمه لا تُطاق. وقال لي «اخرجي الآن!». وعند الباب التقيت بغالينا، وممرضتين أوكرانيتين كانتا تهمان بالدخول الى غرفته، فهمت أنه مجنون. ولكن من كان يدري ذلك؟ أبي، أمي، الليبيون.. الجميع كان يجهل ما يحدث في باب العزيزية. كان الجميع يخافه، لأن مقاومته أو مجرد انتقاده يعني السجن أو الموت. كان مرعبا حتى عندما كنا نناديه «بابا معمر»، أو ننشد النشيد الوطني أمام صورته. ولكن تخيل ما فعله بي. ما ألحقه بي من عار وذل.. ذلك لا يصدق، حقا إنه لا يُصدق! إذن من سيصدقني؟ لن يكون بمقدوري أن أروي قصتي لأحد، لأن الأمر يتعلق بالقذافي، ولأن الناس ستظن أنني أنا المجنونة.
كانت كل هذه الخواطر تجول برأسي عندما دخلت أمل إلى غرفتي وطلبت مني ألا أبقى فيها. صعدنا عدة درجات، ووجدت نفسي في مطبخ كبير للغاية وحديث للغاية ومزود بكل الأدوات الكهربائية، وتزينه صورة كبيرة لفتاة شابة سمراء، أكبر مني بالسن قليلا. قالت لي أمل إنها هناء القذافي، ابنة القذافي بالتبني، وعلمت لاحقا أنها لم تمت في العام 1986 خلال الغارة الأميركية على طرابلس، التي تمت بأوامر من الرئيس الأميركي رونالد ريغان. وهذا الأمر لم يكن سراً في باب العزيزية، وكانت هناء الأبنة المفضلة للعقيد.
أعدت أمل القهوة، ثم أخرجت من جيبها هاتفا نقالا، فسألتها كيف تمكنت من الحصول على الهاتف؟
فقالت لي «هذا سرّي. وعليك أن تعلمي أنه مضى على وجودي عشر سنوات بين هذه الجدران».
ضيفات القذافي
كان المطبخ يمتد إلى نوعٍ من الكافيتيريا التي بدأت تمتلئ رويدا رويدا بالفتيات الجميلات، برفقة شابين من التشريفات يحملان حقائبهن، وعندما سألت أمل عنهن قالت لي إنهن ضيفات معمر، وإنه يستقبل أمثالهن باستمرار، «أرجوك كوني كتومة، ولا تطرحي عليّ الأسئلة!»، أضافت أمل.
ورأيت الممرضات الأوكرانيات يسحبن عينات من دم الفتيات. وقلت لنفسي حتى الضيفات يخضعن للفحوصات الطبية.. اختفت أمل، ففضلت العودة إلى غرفتي، ماذا كان بمقدوري أن أقول للضيفات الفرحات بفكرة لقاء العقيد، ساعدوني على الخروج من هنا؟!
قبل أن انتهي من إخبار قصتي كنت سأنتهي في القبر.
كنت مستلقية على سريري عندما دخلت مبروكة وطلبت مني أن أشاهد الأفلام الخلاعية على الأقراص المدمجة. وقالت إن هذا أمر. فبدأت بمشاهدة أحد الأفلام وانا أجهل كل شيء عنها، كنت في غاية الاشمئزاز وسرعان ما استغرقت في النوم، إلى أن أيقظتني أمل وطلبت مني أن نتناول الغداء سوياً. شيء لا يصدق كيف نأكل عند القذافي. الصحون كانت معدنية وقذرة لدى رئيس ليبيا. وبعد الغداء دعتني أمل لزيارة غرفتها، وفاجأتنا مبروكة في الغرفة وراحت تصرخ: كل واحدة في غرفتها، ووبخت أمل لأنها كانت تعلم أن ذلك ممنوع. وقالت لها إنه يجب عليها ألا تعيد الكرة.
في منتصف الليل جاءت مبروكة وقالت لي إن المعلم ينتظرني. فتحت باب غرفته ودفعتني إليه.
طلب مني أن أرقص وأدخن. ثم أجبرني على تعاطي الممنوعات وهو يصرخ {تنشقي.. تنشقي وسترين النتائج». والنتيجة انني رحت أسعل وأشعر بنوع من الوجع في بلعومي وأنفي وعيني. شعرت أنني أريد التقيؤ. كان يتعاطى المخدرات بشراهة.. كنت بين الوعي واللاوعي.. رأسي يدور ولم أكن أعرف أين أنا وكأنه مملوء بالضباب. وقف وراح يصفق مع الموسيقى ويُجبرني على التدخين فانهرت على الأرض. ارتمى فوقي واعتدى عليّ... ثم نهض وبدأ يقرأ كتابا، وبعد دقائق ترك الكتاب جانبا ورمى جسده الثقيل عليّ .... وبوحشية.. وبعدها وقف وتوجه الى مكتبه حيث جهاز الكمبيوتر .. ثم عاد ليوسخني من جديد.. ولم يتركني إلا عند الفجر.
أمرٌ عاجل!
جاءت أمل تطلب مني ان نتناول الغداء سوياً. لم أكن أرغب بتناول الطعام، ولا برؤية أحد.. ولكنها ألحت. وكان الغداء وجبه «كسكس»، وبينما كنا نأكل مرت مجموعة من الشباب منطلقين فرحين مرتاحين وسألوا أمل «هل هي الجديدة؟}، وأومأت أمل برأسها، فتقدم الشباب وعرفوا عن أنفسهم: جلال، فيصل، عبدالحليم، عدنان وحسام، ثم توجهوا الى غرفة القائد.
في هذا اليوم حصلت لي ثاني أكبر صدمة في حياتي.. وحتى مجرد تذكر تفاصيل ذلك ينهك قواي الجسدية والعقلية.. فهذا الوحش الذي كان يتمتع بحصانة كاملة ولم يكن لديه حدود للفحش والشذوذ والانتهاكات على أنواعها (....) هو نفسه الذي كان يحكم البلاد لأكثر من 42 عاما ويتحكم برقاب العباد وأهل ليبيا ومواطنيها وأجيالها.
نادتني مبروكة، قائلة «إن معلمك يطلبك»، وبلغتها تلك كان يعني ذلك أن أتعرى.
أُخذت إلى غرفة العقيد، فتحت الباب على مشهد مجون (..). هممت بالخروج، ولكن حسام صاح {يا معلمي صوريا هنا»، ودعاني للرقص معه. تجمدت في مكاني. فأمرني القذافي بأن أقترب منه.. كما تمنيت الموت في تلك اللحظات..
وفجأة دخلت مبروكة، طلبت من الجميع الخروج «وفورا»، ومن المعلم «أن يتوقف»، لأن لديه أمرا عاجلا... فقال لي «اغربي عن وجهي!».
عدت إلى غرفتي وتوجهت إلى الحمام، حيث قضيت الليل بكامله تحت الدوش، استحم وأبكي.
إنه مجنون. كلهم مجانين. منزل مجانين لا أريد أن أبقى فيه. أريد أهلي، وإخوتي. أريد العودة إلى حياتي السابقة. وهذا الأمر لم يعد ممكنا. لقد دمر كل شيء إنه حقير وهو الرئيس.
عندما جاءت أمل إلى غرفتي توسلت إليها أن تطلب من مبروكة السماح لي بالعودة إلى أمي لأنني لم أعد قادرة على التحمل.
وللمرة الأولى رأيت التأثر على وجه أمل وهي تخبرني «يا عزيزتي الصغيرة إن قصتك تشبه كثيرا قصتي. أنا أيضا أُخذت من المدرسة، وكان عمري 14 سنة». عُمرها اليوم 25 وحياتها جحيم.
تنويه
نشرت القبس في حلقة الامس من الكتاب مفردات بذيئة واردة فيه كما هي، مع ان ذلك لا ينسجم مع اسلوب القبس والقواعد التي تتمسك بها، لكننا تجاوزنا ذلك لنظهر، بشهادة شاهد عيان، اي درك من الانحطاط وصله الطغاة والمستبدون في حياتهم، وحقيقتهم القذرة.
مع الاشارة الى عدم نشر مثل هذه التعابير، وهي كثيرة جدا في الكتاب على لسان القذافي.
غلاف الكتاب
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبوها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
علمت ذات صباح أن القذافي وشلته سيتوجهون الى داكار في زيارة رسمية، وبأنني لن أكون في عداد الوفد. هذا الخبر أسرني كثيراً، لأنني سأرتاح لمدة ثلاثة أيام. سأتمكن من التنقل بين غرفتي والكافتيريا، حيث ألتقي بأمل. معظم الفتيات سيبقين في باب العزيزية يشربن القهوة ويثرثرن، وأنا أبقى صامتة بانتظار معرفة أي معلومة تساعدني على فهم هذه الجماعة المختلة. للأسف لم تكن هناك أشياء جوهرية تُقال. عرفت فقط أنه بمقدور أمل أن تغادر خلال النهار باب العزيزية مع سائق. كانت حرة.. ومن ثم كانت تعود. كيف كان ذلك ممكناً؟ لماذا لا تهرب؟ هناك الكثير من المسائل التي أجهلها.
علمت أيضاً أن معظم الفتيات اللاتي كان الجميع يعتقد أنهن من حارسات الثورة، كان لديهن بطاقات هوية بأسمائهن وصورهن ولكن بكنية بنات معمر القذافي مكتوبة بالخط العريض وموقعة باسم القائد شخصيا مع صورة صغيرة له. لقب الفتيات كان بالنسبة لي مسألة خارقة، غريبة. ولكن البطاقة كانت على ما يبدو أشبه بمفتاح سحري للتنقل في باب العزيزية، وحتى الذهاب الى المدينة وتخطي الأبواب الأمنية التي يحرسها جنود مسلحون. علمت فيما بعد أن أحداً لم يكن يصدق أن الفتيات كن بنات العقيد. وأن الجميع كان يعرف لماذا كانت الفتيات في باب العزيزية، ولكن الفتيات كن يتمسكن ببطاقاتهن. كان الجميع ينظر إليهن كـ(....)، ولكن (.....) القائد الأعلى، وكان هذا يقتضي احترامهن.
في اليوم الرابع عادت الشلة. وكان ضمن موكب القذافي فتيات أفريقيات، شابات صغيرات للغاية وأخريات أكبر سناً، بعضهن باللباس الأفريقي التقليدي والبعض الآخر بالجينز. كانت مبروكة تتصرف مثل سيدة المنزل معهن: "أمل، صوريا أحضرا القهوة والحلوى!". كنا نمضي الوقت بين المطبخ وقاعة الجلوس. وكانت الفتيات يتلهفن لرؤية العقيد، بينما كان في مكتبه مجتمعاً مع عدد من الأفارقة، الذين يبدو عليهم أنهم من أصحاب الشأن. وعندما خرج هؤلاء بدأت الفتيات بالصعود الى غرفة القائد، وكنت أرغب بأن أقول لهن احترسن إنه وحش، وأيضاً أن أطلق نداء استغاثة: ساعدوني لأخرج من هنا. لاحظت مبروكة نظراتي، وبدا عليها الإنزعاج من وجودنا لأنها طلبت من فيصل أن يقوم بالخدمة، وطلبت منا بصرامة التوجه الى غرفنا.
خلال الليل جاءت سلمى واصطحبتني الى غرفته. جعلني أدخن عدة سجائر، الواحدة تلو الأخرى وكان يدفعني لقول ما يشاء...ويملي علي أي كلمة استخدم كان ذلك مذلاً، لم أكن سوى (...) بعد ذلك وضع أغنية نوال غاشم، المغنية التونسية، وطلب مني أن أرقص، وأرقص وأرقص، عارية كلياً هذه المرة. وجاءت سلمى، فقال لي «يا حبيبتي بمقدورك المغادرة»، ما الذي جرى له؟ من قبل كان يكيل لي الشتائم عندما يتحدث معي.
كوني قوية!
في اليوم التالي جاءت شرطية الى غرفتي اسمها نجاح، قالت لي مبروكة أنها ستقضي معي يومين، وكانت الفتاة توحي بأنها لطيفة تتحدث عن الأمور بوضوح وبقليل من قلة التهذيب. كانت تحب الكلام، وبدأت في المساء تقول لي «إنهم حقيرون، لا يفون بوعودهم، لقد بات لي معهم سبع سنوات، ولم يمنحوني أي مكافأة، لم أحصل على شيء، لا أملك شيئا على الإطلاق، لا أملك منزلا». توخيت الحذر، وقلت لنفسي قد تكون هنا لاستدراجي الى الكلام، ولكنها سرعان ما تمكنت من دفعي الى الحوار.
- علمت أنك الجديدة، هل بدأت الاعتياد على العيش في باب العزيزية؟
- ليس بمقدورك أن تعرفي كم أنني مشتاقة لرؤية أمي!
- ستعودين..
- لو كان بمقدوري الاتصال بها فقط!
- ستعرف بسرعة ماذا تفعلين!
- هل لديك نصيحة تمكنني من الاتصال بها؟
- إذا كان لدي من نصيحة لك فهي أنه عليك ألا تبقي هنا.
- ولكنني أسيرة هنا! ليس لدي أي خيار!
- أنا أبقى يومين، ألبي طلبات القذافي، أحصل على مبلغ من المال، وأعود الى بيتي.
- لكنني لا أريد ذلك، هذه ليست حياتي!
- تريدين الخروج من هنا؟ عليك أن تلعبي دور المزعجة، أن تكوني مُضجرة! قاومي، اصرخي افتعلي المشاكل.
- لكنهم سيقتلوني، أنا اعرف أنهم قادرون على ذلك، عندما قاومته ضربني واعتدى علي.
- عليك أن تعرفي أنه يحب الشخصيات القوية.
بعد ذلك، استلقت نجاح على السرير وراحت تشاهد فيلما خلاعيا، وقالت لي "يجب أن تتعلمي دائما. تعالي وشاهدي!"، وهذا الطلب دفعني الى الحذر منها من جديد، فقبل قليل طلبت مني أن اقاوم!
عادة التدخين
في الليلة التالية استدعاني القائد الى غرفته. كانت نجاح في حالة (..) لأنها ستلتقيه مجددا، وسألتني لماذا لا أرتدي قميص نوم أسود؟ وعندما فتحنا باب غرفته كان عارياً، وهجمت عليه نجاح قائلة اشتقت لك يا حبيبي، فقال تعالي الى هنا يا (..)، ثم التفت إليّ بنظرة غاضبة وقال: «ما هذا اللون الذي أكرهه، اغربي عن وجهي وغيري مبلاسك!». شاهدت أمل عند باب غرفتها، طلبت منها سيجارة وعندما دخلت الى غرفتي دخنتها، وكانت تلك أول مرة أدخن فيها سيجارة بملء إرادتي، ولأول مرة شعرت بالحاجة الى التدخين.
لم تترك سلمى لي الوقت لأنهي السيجارة: «ماذا تفعلين؟ معلمك بانتظارك!». عندما دخلت غرفته كانت نجاح تمثل المشهد في الفيديو، فقال لي «شغلي الموسيقى وارقصي!»، ولكنه سرعان ما انقضّ عليّ، و(...) واعتدى علي، ثم أمرني بالمغادرة.. غادرت وكل جسدي يؤلمني.
عندما عادت نجاح الى الغرفة سألتها لماذا اقترحت علي أن أرتدي لوناً يكرهه، فأجابت من دون أن تنظر إلي «غريب أمره، عادة يحب اللون الأسود. في نهاية المطاف أليس هذا ما كنت ترغبينه لكي يتركك وشأنك؟».
وتساءلت فجأة عما اذا كانت هناك غيرة بين فتيات القذافي وقلت لنفسي لتحتفظن به لأنفسهن.
في اليوم التالي استيقظت ولدي رغبة بالتدخين. ذهبت الى الكافيتريا للقاء أمل. كانت تحتسي القهوة مع فتاة أخرى، وطلبت منها سيجارة. أخذت هاتفها وتحدثت مع أحدهم قائلة "هل يمكن أن تذهب وتُحضر لنا علبتي مالبورو لايت وسليم؟". لم أكن أصدق أن الأمر بهذه السهولة، الاتصال بسائق لهذه الغاية؟! وكان السائق يترك الطلبية في المرآب، فيذهب موظف في المنزل لإحضارها. قالت لي أمل إن السجائر ليست جيدة لصحتي.
ـ ولكنك تدخنين، ونعيش مرة واحدة!
ـ نظرت إلي مطولاً وابتسمت بحزن.
لقاء أمي
بدأ شهر رمضان يقترب. ذات صباح علمت أن الجميع سينتقل الى سرت. تسلمت الزي العسكري من جديد. استقلينا السيارة، ولعدة لحظات شعرت بالشمس تداعب وجهي، ولدى وصولنا الى كتيبة السعدي اقتربت مبروكة مني وقالت "تريدين رؤية أمك؟ سترينها". توقف قلبي عن الخفقان. كنت أحلم باللحظة التي تضمني بذراعيها، وأفكر كل يوم بما سأقوله لها.
كانت الكلمات تخونني. كنت أستعيد قصتي من بدايتها، وأحاول طمأنة نفسي بأنها ستفهم كل شيء من دون أن أدخل في التفاصيل.
آه يا إلهي، رؤية أهلي وأخوتي.. أختي الصغيرة نورا...
توقفت السيارة أمام العمارة البيضاء، رافقتني سلمى ومبروكة وفايزة الى المدخل، صعدت الدرج بسرعة، كانت والدتي تنتظرني، أخوتي كانوا في المدرسة، بكينا وتعانقنا، قبلتني، راحت تنظر إلي وتهز برأسها، وتمسح عينيها من الدموع، «آه يا صوريا لقد حطمت. قلبي. اخبريني.. اخبريني!». لم يكن بمقدوري الكلام، كنت أقول لها لا برأسي وأضعه على صدرها. فقالت لي بهدوء «فايزة أخبرتني أن القذافي (...) يا ابنتي الصغيرة! ما زلت صغيرة جداً لكي تصبحي امرأة».
كان صوت فايزة يصعد من الدرج ويقول «يكفي الآن! إنزلي!». تمسكت والدتي بي وقالت لفايزة «اتركي لي ابنتي! كان الله بعوننا. ماذا سأقول لأخوتك؟ الجميع يسأل عنك، مرة أقول إنك ذهبت الى تونس لزيارة عائلتي، ومرة أقول إنك في طرابلس مع والدك. أكذب على الجميع. ماذا سنفعل يا صوريا؟ ما الذي سيحل بك؟».
انتزعتني فايزة من ذراعيها، فسألتها أمي وهي تبكي، «متى ستعيدينها إلي؟».
«ذات يوم»، قالت فايزة، وغادرنا الى الكتيبة.
المرض ليس استثناء
كانت مبروكة بانتظاري «معلمك يريدك»، دخلت الى الغرفة التي اغتصبني فيها أول مرة قبل عدة أسابيع، ووجدت غالينا تدلك القذافي والى جانبها أربع ممرضات. بقيت أمام الباب بلباسي العسكري، وما زلت متأثرة بلقائي مع أمي. كم أن هذا الرجل يثير اشمئزازي، هذا الوحش الذي يظن نفسه إلهاً. رائحة الثوم والعرق تفوح منه، ولا يفكر إلا بالنكاح. ما إن غادرت الممرضات حتى أمرني بخلع ملابسي. كنت أتمنى أن أصرخ بوجهه وأقول له يا حقير... لكنني انصعت لأوامره.
"(...). تعلمت درسك؟ كفي عن تناول الطعام لأن وزنك قد زاد، وأنا لا أحب هذا. وبعد أن انتهى .. جرني الى الحمام وصعد الى حافة المغطس و(...) علي.
تقاسمت فريدة معي الغرفة. وهي أول فتاة تعرفت عليها خلال إقامتي الأولى في الكتيبة. كانت مستلقية على السرير، شاحبة الوجه، وعرفت أنها مريضة ومصابة بالتهاب الكبد.
ـ ولكن العقيد يخاف من المرض!
ـ نعم، ولكن يبدو أن مرضي غير معدٍ جنسيا.
ـ وكيف تنتقل العدوى؟ وبدأ الخوف يدخل الى قلبي.
في المساء دعانا القذافي إليه. كان عاريا ومتلهفا. فطلب من فريدة الإقتراب منه، وقال لها يا (...) تعالي. فقلت له هل بمقدوري المغادرة؟ ألقى علي نظرات مجنونة "ارقصي!". وقلت لنفسي إنه (....) مريضة وهو يريد (...). وهذا ما حصل وطلب من فريدة أن ترقص بدورها.
بقينا ثلاثة أيام في سرت. طلب مني خلالها أن اذهب الى غرفته عدة مرات، أحيانا كنت مع فتاة أخرى وأحيانا مع اثنتين وأربع. لم تكن نتحدث، فلكل واحدة قصتها ولكل واحدة مصيبتها.
شهر رمضان
وأخيرا جاء شهر رمضان، بالنسبة إلى أسرتي كان شهراً مقدساً. وكانت والدتي صارمة، حيث يمنع الأكل في المنزل منذ الفجر وحتى مغيب الشمس. كنا نحترم مواعيد الصلاة، وكانت والدتي أحيانا تأخذنا إلى المغرب أو تونس لنقضي شهر الصوم مع جدتي وجدتها. منذ طفولتي لم أكن أتخيل انه بمقدور أحد عدم احترام الصوم والصلاة.
عشية بداية شهر رمضان، حيث يتعين على المسلمين أن يستعدوا روحانياً لبدء هذه المرحلة الخاصة، من خلال ضبط ولجم الشهوات، فتك القذافي بي طيلة ساعات طويلة، كنت أقول له إن هذا ممنوع واننا في شهر رمضان، وعادة كان يكيل لي الشتائم، وبين تأوهاته قال لي "إن الطعام فقط ممنوع". تولدني شعور بأنني كافرة.
لم يكن يحترم شيئاً، كان يخرق كل تعاليم ديننا، نزلت إلى غرفتي مصدومة، كنت بحاجة إلى التحدث مع أحد، لأمل أو لأي فتاة أخرى، كنت مصدومة للغاية، ولكنني لم أجد أحدا. كان محيط تحركاتي محدوداً، غرفتي، غرفته، المطبخ والكافيتيريا، وأحياناً صالونات الاستقبال القريبة من مكتبه، والملاصقة لقاعة الرياضة الخاصة به، سمعت خطوات فوق رأسي، وفهمت ان أمل وفتيات أخريات قد دخلن إلى غرفته، في أول أيام رمضان. وعندما ألتقيت بهن في المساء عبرت لهن عن ذهولي وصدمتي وقلت لهن إن ما قمن به حرام وخطير، فانفجرن بالضحك، وقالت الفتيات «إنه رمضان القذافي».
لقد أمرني بالصعود إلى غرفته طيلة الشهر المبارك، في النهار والليل. كان يدخن (..) يضربني (..).
الغيرة والانتقام
في الليلة السابعة والعشرين، علمت أن القذافي يستعد لاستقبال شخصيات من علياء القوم. استدعتنا مبروكة وطلبت منا أن نقوم بخدمة الضيوف. عجت الصالونات بالضيوف، أفريقيات رائعات الجمال ورجال بالزيين العسكري والمدني مع ربطات عنق، لا أعرف منهم أحدا، سوى نوري مسماري المدير العام للبروتوكول، والغريب فيه أن لحيته وشعره شقراوان وعيناه خضراوان.
وكنت قد شاهدته في وقت سابق على التلفزيون وكان الأمر طريفا بالنسبة لي أن أراه يتنقل بين الضيوف. وصل سعد الفالح، وكان يبدو أنه يعرف الفتيات جيدا، حيث راح يوزع عليهن مغلفات بداخلها 500 دينار كمصروف جيب، كما قيل لي. شعرت عدة مرات أنه ينظر إلي واقترب مني قائلا: «أنت الأخيرة، كم أنت جميلة»، ضحك ولمس خدي. مبروكة التي كانت تراقب المشهد نادته قائلا «سعد تعال!». لحظتها همست أمل في أذني بأن أذهب وبسرعة الى غرفتي "لأن الأمر بغاية الخطورة».
غادرت الصالون بسرعة وقلبي يخفق خوفا. وبعد حوالي ساعتين دفعت مبروكة باب غرفتي. كان ممنوع علي أن أقفله. وأمرتني بأن أصعد الى غرفة القذافي. ذهبت وسارت مبروكة خلفي. كان باب غرفته مفتوحا وكان يهم بارتداء ملابسه الرياضية. نظر الي بشرر وقال «تعالي يا (...)، تتسلين مع شعرك الجميل لإغراء الجميع؟ تلعبين دور الجميلة وتتبرجين لتفتنيهم. هذا أمر لا أستغربه فأمك تونسية».
- سيدي أؤكد لك انني لم أفعل أي شيء.
- يا (...) تتجرئين على القول إنك لم تفعلي شيئا؟
- لا لم أفعل شيئا. وماذا بمقدوري أن افعل؟
- شيء لن تتمكني من القيام به مرة ثانية يا (...).
أمسك بشعري بقوة اركعتني. وطلب من مبروكة أن تحضر له سكينا. ظننت أنه سيقتلني. كان الشرر يتطاير من عينيه. وكنت أعرف انه قادر على كل شيء.
مدت مبروكة له السكين. وكان يمسك دائما بشعري، وصرخ وهو يقطعه أتظنين انك ستتمكني من التلاعب بهذا. انتهى الأمر.
كانت خصل الشعر الأسود تسقط إلى جانبي وهو يواصل التقطيع. وفجأة أدار ظهره وقال لمبروكة «واصلي العمل!».
كنت أجهش بالبكاء، أرتعش من الخوف. ظننت أنه في كل مرة يرفع فيها السكين كان يستعد لنحري. شعرت أنه قطع شعري حتى كتفي.. وأحيانا أكثر، لأنني لم أعد أشعر بوجود شيء على رقبتي. كانت مجزرة حقيقية.
«كم صرت بشعة»، قالت لي فريدة، من دون أن تبالي بالسبب. ولم أر العقيد بعد ذلك عدة أيام. ولكنني تمكنت من رؤية زوجته.
كان يوم العيد. بالنسبة إليّ تعودت أن اشهد عيدا عائليا جميلا. ولكن ما الذي يمكنني انتظاره في يوم العيد في باب العزيزية؟
جاءت مبروكة في الصباح. جمعتنا وطلبت منا ارتداء ملابس أنيقة ومحتشمة، لأن زوجة القائد ستأتي لزيارتنا. كنت قد شاهدت صورها في الماضي. ولكن لم يسبق لي ان التقيتها أو صادفتها. وفهمت ان لها منزلاً خاصا بها في باب العزيزية. ولكن القذافي لا يبات فيه على الاطلاق، ولا يلتقي بها إلا نادرا في المناسبات الرسمية. القائد «عدو تعدد الزوجات» يعيش مع عدد من النساء، ولكن ليس مع زوجته. وكل ما نعرفه انه يلتقي ببناته كل يوم جمعة في فيلا غابة المرابط الواقعة على طريق المطار.
كان لاعلان قدوم زوجة العقيد وقع الصاعقة عليّ. عبيدات الجنس يتحولن إلى خادمات. عندما دخلت صفية إلى المنزل الفخم متعالية، وتوجهت إلى غرفة القائد، كنت في المطبخ مع بقية الفتيات نجلي الأواني. ونمسح الأرض.
وما ان غادرت ساندريلا المنزل حتى جاءت مبروكة، لتقول لنا ان الأمور عادت إلى طبيعتها.
وبالفعل فور مغادرة زوجته استدعاني سيدي وأمرني بالرقص. كما استدعى عدنان، أحد العناصر السابقة للوحدات الخاصة، وهو متزوج من احدى عشيقات العقيد ووالد لطفلين، وصرخ به: دورك الآن يا (...)!
غداً: الحريم
القذافي يخطب في خيمته التي نصبها في داكار خلال زيارته للمدينة
القذافي كان متعلقاً بالشعوذة .. ويحضر السحرة من أفريقيا - (7)
ممرضة القذافي الاوكرانية غالينا دائماً كانت تحقن القذافي لتجعله غير قادر على الانجاب
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبيها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
انتشر خبر أن القائد سيذهب الى تشاد في زيارة تستغرق ستة أيام. مبروكة، فايزة وسلمى كنّ في عداد الوفد الذي سيرافقه، إضافة الى عدة فتيات. وجدتها مناسبة لأحاول رؤية والدتي من جديد. حاولت أن أقنع مبروكة بأن تسمح لي بزيارتها أثناء غياب القائد، ولكنها رفضت، قائلة: «تبقين في غرفتك، على استعداد للالتحاق بنا في أي لحظة إذا رغب سيدك برؤيتك.. ارسل لك طائرة لإحضارك».
قررت أن أريح جسدي. هذا الجسد المزرق والمدمى بجروح (...) لا تندمل. هذا الجسد التعب الذي لم يكن سوى آلام ولم أعد أحبه.
كنت أدخن، أغفو، وأتسلى بمشاهدة كليبات الأغاني على التلفزيون. لم أكن أفكر في شيء.
نصف ساعة للتسوّق
عشية عودة القائد حصلت لي مفاجأة سارة، إذ تلقى أحد سائقي باب العزيزية أوامر باصطحابي، ولمدة نصف ساعة فقط، الى المدينة لأنفق الـ500 دينار التي تلقيتها في شهر رمضان. كان ذلك مذهلا، اكتشفت من جديد دفء الربيع. كانت الشمس تبهر عيني، كنت مثل أعمى يبصر النور لأول مرة في حياته، ففي غرفتي الواقعة تحت الأرض، والخالية من النوافذ، كان الجو دائما رطباً الى درجة أن مبروكة كانت تحرق فيه الأعشاب لطرد رائحة العفونة.
السائق قادني الى حي راقٍ، واشتريت بيجاما رياضية وأحذية وقميصا، ندمت عليها فيما بعد، فأنا لم أكن أعرف ماذا اشتري. لم أحصل في حياتي على مال خاص بي. كنت تائهة كلياً، كيف ألبس؟
بين غرفته وغرفتي لم أكن بحاجة الى شيء. كم كنت حمقاء، كان الأجدر بي أن أفكر بشراء كتاب أتسلى به، شراء شيء يساعدني على الحلم، حتى أستطيع الهروب ولو في الأحلام، كتاب يعلمني الحياة، أو قلم وأوراق لأرسم أو أكتب مذكراتي. وكل هذه الأشياء كانت ممنوعة عنا في باب العزيزية.
لم أفكر في أي شيء مهم أو مفيد. كنت أنظر حولي وكلي رغبة في أن أبتلع كل شيء بعيني. كنت كمن أصيب بدوار، دمي يغلي، شعرت بنفسي وكأنني هيكلا عظميا تُرك في المدينة لعدة دقائق ولا أحد يعرف عني شيئا، ولا أحد يدري شيئاً عن قصتي، لا المارة انتبهوا لي.. البائع أعطاني كيس مشتريات وهو يبتسم لزبونة عادية.
مرت بالقرب مني مجموعة من الفتيات في المرحلة الثانوية يضحكن ويتحادثن، لا يفكرن إلا بالدراسة والضحك. مبروكة لم تكن خلفي، السائق كان لطيفا. ولكنني كنت أشعر أنني مراقبة، الهرب ليس الحل. ولكن الثلاثين دقيقة التي قضيتها في التسوق وعشت خلالها ما يشبه الحرية مرت كثلاثين ثانية.
كنت أُعامَل كعبدة
في اليوم التالي عادت الزمرة. سمعت جلبة في الطابق تحت الأرض، وقع خطوات، أبوابا تفتح وتوصد، وأصواتا ترتفع، تجنبت الخروج من غرفتي، ولكن سرعان ما ظهرت مبروكة عند عتبة الباب لتقول لي: «الى فوق!». لم تعد تقل لي يجب أن تصعدي، أو سيدك يريد أن يراك. باتت تتواصل معي بأقل ما يمكن من كلمات وبأكثر ما يمكن من الإزدراء. نعم كنت أُعَامل كعبدة.
خلال صعودي الدرج الى غرفة المعلم شعرت وكأن كهرباء تسري في جسدي.
«آه يا حبيبتي.. تعالي الى جانبي»، قال لي عندما رآني. وسرعان ما انقض علي وهو يصرخ يا (...) ويتأوه. كنت بالنسبة له الـ(...) التي يفعل بها ما يشاء، ويشبعها ضربا.
لم أكن إنسانة بالنسبة له.
قاطعه صوت يقول «سيدي، إننا بحاجة إليك، الأمر ملحّ».
أبعدني بيده، وأمرني بأن أخلي الغرفة. نزلت الى غرفتي الرطبة.. وتعمدت ولأول مرة مشاهدة فيلم إباحي. كانت تجربتي معه كلها تعذيب... كان الأمر بالنسبة لي محيرا وغريبا.
صوت أمي
بعد يومين جاءت فايزة الى غرفتي مع ورقة صغيرة «هذا رقم والدتك، بمقدورك أن تتصلي بها من المكتب». ردت والدتي على الهاتف: «آه صوريا، كيف أنت يا ابنتي الصغيرة. يا الله كم أنا سعيدة بسماع صوتك! أين انت؟ متى سأتمكن من رؤيتك؟ هل أنت بصحة جيدة؟»..
كان يحق لي بدقيقة واحدة، مثل السجينات. قالت فايزة كفى. وبيدها ضغطت على الهاتف وأقفلت الخط.
مكايد نجاح
ذات يوم حصل شيء غريب. الشرطية نجاح جاءت كعادتها لقضاء يومين مع العقيد، كما يحصل من وقت لآخر. ومن جديد تقاسمت الغرفة معي، وأنا دائما أتوخى الحذر معها، خاصة عندما تسرّ لي بأشياء. ولكن جرأتها كانت تسليني.
«لدي خطة لأخرجك قليلا من باب العزيزية»، هذا ما قالته لي، مضيفة: «أعتقد أنك بحاجة الى ذلك».
ـ هل تمزحين؟
ـ لا، على الإطلاق. يكفي أن تكوني حذقة. هل تحبين أن تذهبي معي برحلة صغيرة بكل حرية؟
ـ ولكن يستحيل أن يسمحوا لي بالخروج!
ـ كم أنت انهزامية! يكفي أن تدعي أنك مريضة، وأنا أتكفل بالباقي.
ـ هذا لا معنى له. الممرضات الأوكرانيات سيعتنين بي.
ـ دعي الأمر لي. فأنا سأعد سيناريو، ويكفي أن توافقي.
ذهبت لرؤية مبروكة. لا أدري ماذا قالت لها، وعادت لتقول لي لدينا الضوء الأخضر. لم أصدق ذلك.
جاء سائق يدعى عمار ليخرجنا من باب العزيزية.
ـ ماذا قلت لمبروكة؟
ـ اصمتي! في البداية سنذهب الى منزلي، وبعد ذلك سنذهب لنرى أحد الأشخاص.
- هذا شيء لا يصدق! كيف فعلت ذلك؟
- هيه!! إن اسمي نجاح ليس عن عبث!
- ولكن لا يوجد لدي ملابس!
- لا تقلقي! سنتقاسم ملابسي.
ذهبنا إلى منزلها. غيرنا هدومنا. وقادتنا شقيقتها بسيارتها إلى فيلا جميلة في ضاحية النظارة.
«أنت حرة هنا»
بدا صاحب الفيلا سعيدا باستقبالنا.
قالت له نجاح هذه صوريا التي حدثتك عنها. تأملني الرجل مطولا، وادعى أنه مهتم بي، وسألني «اخبريني هل هذا الكلب يؤذيك؟».
صعقت من جرأته. من هو هذا الرجل؟ وهل بمقدوري أن أثق به. انتابني شعور غير مريح. ولم أجاوب على سؤاله.
كان هاتف نجاح يرن من دون انقطاع، وعرفت أن مبروكة على الطرف الآخر من الخط، لكن نجاح لم تكن تجيب، بل اكتفت بوضع جهاز الهاتف جانبا. سألتها باستغراب ألا تردين عليها؟ لم تجاوب، واكتفت بمد كأسها إلى الرجل الذي ملأه بالخمر. كنت لا أصدق ما أرى، في هذا البلد الذي يمنع فيه شرب الكحول هناك من يشربونه- مثل القذافي- وبكثرة وينتقدون القائد؟!
مد الرجل بكأس إلي، وبدا عليه الانزعاج من رفضي. وراح يلح «إشربي.. إشربي.. أنت حرة هنا!». كانت نجاح وشقيقتها تشربان وترقصان في الوقت نفسه، والرجل يراقبهما بنهم. وكانتا في حالة سكر تام..
الفخ
وصل رجل آخر، فشعرت بالفخ، لم تنجدني منه نجاح. ادعيت أنني متعبة. فأشار إلى غرفة. وكنت حذرة. وبسرعة صعدت نجاح مع الرجلين إلى الطابق الأعلى وكان هاتفها يرن. لم يتعرض لي أحد. ولكنني استيقظت والخوف يسيطر علي. أيقظت نجاح وكانت في سبات. لم تتذكر أي شيء. رن الهاتف، وكان صوت مبروكة على الطرف الآخر من الخط. سمعتها تصرخ بأعلى صوتها «السائق يبحث عنكما منذ يوم أمس. ستريان ماذا سيفعل بكما سيدكما!».
نجاح اضطربت وارتعبت. لقد كذبت علي وخانتني. ونصبت لي فخا بشعا لترميني كفريسة للرجال. كانت تثير اشمئزازي، فبعد أن خطفني القذافي أرادت أن تجعل مني (....).
العودة كانت عنيفة للغاية. مبروكة لم تكن موجودة. وطلبت منا سلمى أن نصعد فورا إلى غرفة القائد. كان الغضب يتطاير شررا من عينيه، صفع نجاح بقوة وهو يصرخ «اخرجي الآن، لا أريد أن أراك ثانية على الإطلاق!».
أما أنا فرماني على السرير وصبّ كل غضبه على جسدي. وعندما انتهى ردد بصوت منخفض: «كل النساء (..). حتى (..) كانت كذلك». اعتقد أنه كان يتحدث عن أمه.
فتاة لكل يوم
مر شهر من دون أن يمسني. فقد جاءت فتاتان جديدتان من مدن الشرق. الأولى كانت في الثالثة عشر من عمرها من البيض والثانية من درن وعمرها 15 سنة.
شاهدتهما تصعدان الى غرفته: جميلتان، والبراءة على وجهيهما كما كنت قبل سنة. كنت أعرف ماذا ينتظرهما، ولكنني لم أجرؤ على التحدث معهما ولا حتى بالإشارة.
لم تبقيا فترة طويلة. كان يريد الفتيات كل يوم. كل الأيام. كان يجربهن ويلفظهن أو يعيد استخدامهن، ولم أكن أعرف ماذا يعني ذلك.
كانت الأيام تتوالى، الفصول، الأعياد الوطنية، الأعياد الدينية، أشهر رمضان، فقدت معنى الوقت، في الليل كما في النهار، كانت الإضاءة هي ذاتها تحت الأرض. وحياتي كانت في محيط ضيق وفق أهواء ورغبات ومزاج العقيد.
عندما كنا نتحدث عنه فيما بيننا، لم نكن نلفظ اسمه أبدا، كنا نقول إن حياتنا تدور حوله. ولم يكن هناك خلط بينهما. لم أكن أعلم شيئا عن أحوال البلاد ولا ما يجري في العالم. أحيانا كانت إشاعات تتحدث عن قمة أفريقية، أو زيارة رئيس دولة مهمة. معظم اللقاءات كانت تتم في الخيمة الرسمية، حيث كان يذهب إليها بسيارة غولف صغيرة. وقبل كل لقاء أو مقابلة صحفية، كان يدخّن الحشيش أو يستنشق الكوكايين. كان دائما تحت تأثير المخدرات.
ضيوف كبار
كانت تنظم الحفلات والكوكتيل في صالون المنزل، وكان يدعى إليها كبار مسؤولي النظام والوفود الأجنبية. كنا نراقب النساء لأنهن كن وحدهن يثرن اهتمامه. وكانت مهمة مبروكة تكمن في جذبهن الى غرفته: طالبات، فنانات، صحافيات، عارضات أزياء، زوجات كبار المسؤولين والضباط. وكلما كان الأب أو الزوج مهماً، كانت الهدايا قيّمة. كانت الغرف الملاصقة لمكتبه تشبه مغارة علي بابا. شاهدت حقائب نسائية من أفخر الماركات، وحقائب سامسونيات مليئة بالدولارات، وأحجار ألماس، وعلب مجوهرات، وعقوداً ذهبية كانت تهدى في مناسبات الزواج.
كانت معظم النساء يخضعن لفحص الدم، وكانت الممرضات الأوكرانيات يقمن بذلك بتكتم تام في مكتب مقابل لمكتبه. لا أدري إذا كانت نساء قادة الدول نجين من ذلك أم لا. وكنت أتسلى برؤيتهن وشعرهن مسرّح. ولكن عندما تنزل يكون الوضع مغايرا. ويحل الشعر المنكوش مكان التسريحات.
ليلى طرابلسي، زوجة دكتاتور تونس زين العابدين بن علي، كانت من أكثر المقربات للعقيد. جاءت لرؤيته عدة مرات، مبروكة كانت تعبدها، وتقول لها عندما تراها حبيبتي ليلى.. وكانت في غاية السعادة عندما تتصل لتعلن عن قدومها.
مع مرور الوقت رأيت زوجات قادة أفارقة جئن الى منزل القذافي ولا أعرف أسماءهن. سيسيليا ساركوزي، زوجة الرئيس الفرنسي، جميلة، ممشوقة، نظراتها متعالية، قالت لي بقية الفتيات إنها خرجت من مقطورة القذافي في سرت. رأيت مرة طوني بلير ولوح بيده وعلى وجهه ابتسامة فرحة.
الصيد في صحراء سرت
انطلاقاً من سرت، كنا نتوجه أحيانا الى الصحراء. كان القذافي يحب أن يضرب خيمته وتحيط به الجمال، كان يقيم في الخيمة لشرب الشاي والحديث مع شيوخ القبائل لساعات طويلة، لكنه لم يكن يقضي الليل في الخيمة، كان يفضل الراحة في المقطورة، حيث كان يدعونا للالتحاق به. وفي الصباح كان يجب علينا مرافقته إلى الصيد. وكان يتعيّن علينا أن نرتدي أزياءنا العسكرية، للإبقاء على أسطورة حارسات القذافي.
زهرة، وهي المجندة الوحيدة الحقيقية، كانت تحرص على أن نبدو وكأننا مثلها، وقد طلب منها العقيد أن تعلمني كيف أستخدم سلاح الكلاشينكوف، كيف أفككه، وأعيد تركيبه، وتنظيفه وحتى إطلاق النار. ولكنني رفضت أن أطلق النار ولم أطلق طلقة واحدة في حياتي.
اكتشفت أيضا تعلق القذافي بالشعوذة، وكان ذلك تحت تأثير مبروكة مباشرة، التي كانت تذهب لاستشارة السحرة والمشعوذين في كل أفريقيا، وأحيانا كانت تأتي ببعضهم لرؤية العقيد.
لم يكن يحمل تعويذات، ولكنه كان يضع دهانا غريبا على جسمه، الذي كان مدهونا دائما، وكان يردد باستمرار كلاما مبهما، غير مفهوم، ويضع الى جانبه باستمرار المنشفة الحمراء.
وأينما ذهب كانت الممرضات الى جانبه، غالينا، آلينا، وكلوديا.. وكن يرتدين زي الممرضات الأبيض والأزرق، وكن يعملن في المستشفى في باب العزيزية، ويشرفن على صحته بشكل يومي ويراقبن غذاءه. وعندما كنت أعبر عن خشيتي من أن أحمل منه، قيل لي إن غالينا تحضّر له حقنا تجعله غير قادر على الإنجاب.
واشتكت لي منه غالينا ذات مرة، ولكن هل هناك امرأة لم يحاول امتلاكها ولو لمرة واحدة؟
هربت مع هشام لنتزوج فأعادوني بالقوة إلى باب العزيزية (8)
غلاف الكتاب
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبيها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
ذات يوم اُغرمَ جلال بي، أو على الأقل هكذا ظننت. صدقت أنه يحبني، لأنه كان ينظر إليّ باستمرار، ويبتسم لي عندما يلتقيني بالقرب من المطبخ، ويُسمعني كلمات الإطراء. كل هذا أدى إلى إصابتي باضطراب نفسي.
كنت أرغب في أن يهتم بي أحد. لم أكن أعلم أنه من المثليين. كنت جاهلة حتى اكتشفت ان مجون القذافي لايقتصر على النساء، بل شمل الرجال أيضاًص، وبعضهم كانوا من كبار ضباط الجيش. كنت بحاجة إلى الحنان. والتهبت مشاعري عندما شعرت بأن رجلا ناعماً يظهر لطفه نحوي.
كان جلال يبحث باستمرار عن مناسبة للقائي وملامسة يدي. كان يهمس لي بأنه يحبني، وأنه يفكر في الاقتران بي. مرة قال لي «ألم تلاحظي أنني أنظر إليك باستمرار، ومنذ اليوم الأول لوصولك إلى هنا»؟
جلال تخطى المحظور، وقال للقائد إنه يرغب في الزواج مني. فاستدعانا نحن الاثنين، وراح يسخر منا، قائلا «هكذا إذن.. تدّعيان أنكما تتبادلان الحب... ولديكما الجرأة لقول هذا لي.. أنا سيدكما! كيف تتجرئين يا (...) على حب رجل آخر غيري؟ وأنت أيها الحقير، كيف تتجرأ على النظر إليها؟».
جلال كان ينظر إلى الأرض، ولم يجرؤ على رفع نظره. وأنا أيضا كنت مثله.
طردنا القائد من غرفته. ومنع جلال، الذي كان من الحرس، من الدخول الى المنزل لمدة شهرين.
جاءت مبروكة إلى غرفتي لتقول لي بدورها: «يا حقيرة، لم يمض على وجودك هنا سوى ثلاث سنوات وبدأت في التفكير بالزواج».
إلى أفريقيا
بعد عدة أشهر تم الإعلان عن عزم القائد على القيام بجولة كبيرة في أفريقيا. قيل لي إنه سيزور خمس دول أفريقية في أسبوعين. الجميع رافق العقيد. بنات القذافي ارتدين ملابسهن العسكرية. في الساعة الخامسة من صباح يوم 22 يونيو 2007، كنت في عداد الموكب للتوجه الى المطار. قادتنا السيارات الى سلم الطائرة. وعندما دخلت الى الطائرة لمحت جلال، وكان القائد على متن طائرة أخرى.
حطت بنا الطائرة في باماكو عاصمة مالي، ولم أكن قادرة على تخيل مثل ذلك الاستقبال الذي كان بانتظارنا، لقد كان جنونيا: مد السجاد الأحمر للعقيد، الذي ارتدى بزته البيضاء.. رئيس مالي ووزراؤه وكبار ضباط جيشه كانوا في استقباله، ويحارون كيف يمكنهم إرضاء ملك ملوك أفريقيا.
والأهم من ذلك كان الاستقبال الشعبي: الحشود ترقص وتغني، وتهتف بأعلى صوتها «أهلاً بمعمر». لم أستطع أن أصدق ما كنت أرى وأسمع، وسرعان ما سيطرت مبروكة على سير العمليات. أشارت إلينا بالتجمع جانبا والصعود بالسيارات الرباعية الدفع التي كانت تنتظرنا ويقودها ليبيون.
من شمال غينيا إلى جنوبها
وصلنا الى فندق ليبيا، حيث طلبت منا امرأة من البروتوكول، اسمها سناء، الانتظار في الصالون. بعد ذلك انطلق الموكب المؤلف من أكثر من مائة سيارة.
كانت بداية الرحلة قاسية، فقد قطعنا حوالي ألف كلم من شمال غينيا الى جنوبها لنصل الى كوناكري العاصمة.
ما كان يشغل الفتيات هو موضوع الفندق الذي سينزلن فيه. كن يأملن بأن تكون الإقامة في فندق فاخر، حيث توجد المسابح وعلب الليل والمراقص.
وهذا ما حصل لهن. أما أنا فلم تتح لي فرصة الانضمام إليهن، إذا أمرتني مبروكة بالذهاب الى مقر إقامة القذافي، حيث تقرر أن تكون إقامتي ايضا، وكان ذلك في مبنى كبير أشبه بقصر. تقاسمت غرفتي مع فتاة أخرى اسمها عفاف. وفي منتصف الليل جاءني الأمر بالالتحاق بالقائد. وجدته جالسا في منتصف الغرفة، كان عاريا تماما وفي يده منشفته الحمراء يمسح بها وجهه باستمرار.. ثم وقف، وراح يقطع الغرفة في الطول والعرض. كانت ملامح وجهه مهمومة، حتى خيل إلي أنه لم ينتبه لوجودي.. ظل على تلك الحال حتى ساعات الفجر الأولى، ثم انقض عليّ.
في اليوم التالي، انضممت الى الشلة، أمل وجلال والآخرين. كان الفندق حيث ينزلون رائعا للغاية، والأجواء كانت جميلة، لم يسبق لي ان رأيت أو عشت مثلها. وبعد ساعات قليلة أمرتني مبروكة بأن أعود الى مقر العقيد في المساء، لكنها سرعان ما غيرت رأيها وسمحت لي بالبقاء مع المجموعة. لا أعرف من طلب منها ذلك وأقنعها بالموافقة.
التحقت بالمجموعة في مرقص الفندق. كان الجميع يشرب الكحول ويرقص مع الأفارقة. بدأت لي عائلتي وكل القيم التي تربيت عليها بعيدة للغاية. شعرت وكأنني على كوكب آخر. كان جلال يراقبني من بعيد، التقت نظراتنا، وكنت سعيدة جدا. اقترب مني وهمس بأذني: «لا تشربي الكحول»! وقد أثر ذلك في نفسي كثيرا. لقد كان لطيفا، وطيبا. كانت الموسيقى تصدح والمرقص ممتلئا وتتصاعد منه حمى الحلبة. قضيت الليلة في الفندق مع البقية.
أمضينا يومين في ساحل العاج، وبعدها انطلق الموكب باتجاه غانا، قضينا ساعات وساعات في السيارات باتجاه أكرا، حيث كانت تُعقد القمة الأفريقية.
لم تشكل جولة القذافي الأفريقية نهاية آلامي، بل على العكس، كانت بداية تقهقري.
ففي اليوم التالي لعودتنا من أفريقيا، استدعاني، بحضور مبروكة، وقال لي باشمئزاز «لم أعد أرغب فيك يا (...)». وفي أحد الأيام فاجأتني مبروكة بقولها إن بإمكان أمي أن تزورني في باب العزيزية. وهذا ما حصل. وحدها أمل كانت لطيفة معها فيما عاملها الباقون بازدراء.
لم تمض أيام قليلة حتى عاود طلبي الى غرفته واعتدى عليّ بطريقة وحشية.
اللقاء بهشام
أمل، واحدة من فتيات القذافي، استطاعت إقناع مبروكة بالسماح لها باصطحابي الى منزل والديها. وهذا ما حصل. وكدنا نتعرض لمشكل كبير عندما اصطدمت سيارة أمل بسيارة رجل في الطريق، وكان الرجل في قمة اللطف والأخلاق. تبادلنا الابتسامات، ولم أقاوم سحر عينيه السوداوين ونظرته الثاقبة. كان وسيماً، ورياضياً مشبعاً بالطاقة والحيوية. شعرت أنني وقعت في حبه منذ اللحظة الأولى، لكن أمل لم تترك لي مجالا لأتحدث معه.
في اليوم التالي، التقيت به صدفة في مدينة الملاهي، حيث كان يعمل. تبادلنا النظرات من جديد، وبادر بالتعريف عن نفسه. كان اسمه هشام، وتبادلنا أرقام هواتفنا. وكان ما فعلت يصب في خانة المحظورات في قاموس باب العزيزية.
اليوم عمري 18 سنة، ورفيقاتي حصلن على شهادة الثانوية العامة، بعضهن تزوج، والبعض الآخر دخل الجامعة، كنت أحلم أن أكون طبيبة أسنان، لأن الأسنان هي أول ما يظهر عندما يبتسم الإنسان. لكن القذافي وحاشيته حطموا أحلامي وسرقوا حياتي.
لقائي بهشام جعلني أشعر بالقوة. وها أنا أعُبّ.ر عن غضبي بوجه القائد شخصياً. فعندما أمرني - كعادته - بأن أتعرى، وناداني يا (...). صرخت بوجهه وسألته بتحد «لماذا تنعتني بـ (..)؟ أنا لست (..)».
اشطاط القذافي غضبا «اخرسي يا (..)!» صرخ بي، ثم اعتدى عليّ بعنف شديد، ثم أجبرني على تنشق الكوكايين.. حتى أغمي عليّ.
بقيت حبيسة الفراش يومين، وكانت صورة هشام في ذهني وحدها تجعلني أتمسك بالحياة. وعندما علم القذافي بأن الآخرين عرفوا بما حصل عاقبني بشدة.
في منزل أمل
أمل كانت تحبه كثيرا ومعجبة به، لأنها كما قالت لي «مدينة له بأشياء كثيرة.. المنزل الذي يسكن فيه والداها، والسيارة، ونمط الحياة المريح». كانت قوية جدا، وتقول للقذافي كل ما تريده، حتى أنها نعتت سعد الفالح بـ(...) عندما وصفها بـ(...). ومع ذلك كانت دائما فرحة وكريمة ومضيافة.
ولأنها قوية استطاعت إقناع مبروكة بالسماح لنا بالذهاب الى منزل والديها مرة ثانية.
خلال اقامتي في منزل أمل، اكتشفت الحياة التي تعيشها خارج باب العزيزية. كان لديها شبكة علاقات واسعة تشمل رجال أمن وشرطة، ورجال أعمال ومسؤولين في السلطة، وتقبض منهم عمولات لقاء خدمات تقدمها لهم.
اكتشفت أنها تحاول استخدامي أنا شخصيا لاستمالة رجال أثرياء، فعلاقتي بباب العزيزية تجعل تسعيرتي باهظة للغاية. وفي إحدى السهرات التي حضرتها شخصيات ليبية بارزة ومعروفة، عرض أحدهم، وكان من أقارب القذافي المعروفين، مبلغ 5000 دينار لقاء قضاء ليلة معي. أمل أخذت المبلغ كله ولم أتجرأ على مطالبتها بشيء.
الهروب مع هشام
ذات يوم أخبرتني والدتي- عبر الهاتف - أن إيناس، صديقة طفولتي، موجودة في طرابلس، وتريد رؤيتي. ذهبت لزيارة إيناس. التفّت كل الأسرة حولي. كان الجميع ينظر إليّ بصمت واستغراب. سألني أحدهم عن علاقتي بباب العزيزية، وكنت أشعر من نظراتهم انهم يعرفون ما يحدث معي.
انتبهت لنفسي بأنني بدأت أتصرف بشيء من التهور والجنون: الإقامة في منزل أمل، وزيارة منزل إيناس، ومكالماتي مع هشام، وردي في وجه القذافي... وقلت في نفسي ول.مَ لا؟! وسارعت للاتصال بهشام وطلبت منه أن يأتي ويصطحبني معه. وبعد دقائق كنت مع هشام نجوب شوارع طرابلس. أخذني الى منزل صغير يملكه في الضواحي، وفوجئت عندما قال لي «ارتاحي! أنا أعرف قصتك، ولن أدع أحدا يمسك بسوء بعد اليوم». كانت أمل هي من أخبرت هشام بقصتي.
- أنت لا تعرفني يا هشام، ستدفع ثمن ذلك غالياًَ. سأتسبب بدخولك السجن.
قضيت ثلاثة أيام سعيدة مع هشام. قضيت اليوم الأول كله أبكي، واعتقد انني كنت أفرغ دموعاً تراكمت خمس سنوات. كان هشام في غاية الرقة، تمكن من تهدئتي، كان يطبخ، ينظف ويمسح دموعي، لم أكن وحيدة.
الإعلان عن هروبي فجّر قنبلة في باب العزيزية.
جاء رجال الأمن وفتشوا منزل أهل هشام: «أين ابنكم؟ يجب أن يعيد الفتاة التي خطفها». اتصل به اشقاؤه والهلع يسيطر عليهم. بعد ثلاثة أيام استسلمنا، ذهبت الى منزل أمل التي خيرتني بين أن تأخذني الى منزل أهلي أو الى باب العزيزية. اخترت الذهاب الى أهلي.
في منزل أهلي
كان لقائي بهم محرجا ومؤلما. لقد فقدوا ثقتهم بي كليا. كان الجو ثقيلا في المنزل، ولم يكن هناك ما نتحدث به. أمي، التي منعتني من الخروج، كانت تنظر إليّ وكأنها تريد قتلي، وكأنني ساقطة. ونظرات والدي كانت مملوءة بالشك. سألني عن هشام، وأخبرته أننا اتفقنا على الزواج.
ذات صباح طرق باب المنزل سائق جاء من باب العزيزية، وقال إنهم يطلبون حضوري الى هناك.
عدت الى باب العزيزية، كانت مبروكة مثل لوح الثلج، قادتني الى المختبر لإجراء فحوصات الدم. انتظرت حوالي الساعة في صالون مع سلمى، وبعدها أمرتني بالصعود الى غرفة القائد. كان في ملابسه الرياضية: «يا لك من (...)، أعرف أنك عاشرت رجالا آخرين». ثم بصق في وجهي، وقال «لم يعد لديك سوى خيار واحد.. ستنامين عند أهلك، وعند الساعة التاسعة صباحا تكونين هنا. ستتعلمين انضباط الحرس الثوري».
غداً: الهروب
آنيك كوجين
كان للقذافي مجموعة عُرفت بـ{مكتشفي المواهب} وكانت مهمتها اختطاف فتيات صغيرات
فنانون مصريون ولبنانيون زاروا القذافي وعادوا بـ {سامسونايت} (9)
آنيك كوجين
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبيها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
في اليوم التالي، عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً، طرق سائق من باب العزيزية باب منزل أهلي.
إذاً سأذهب لأعمل، ولا أدري ما هي طبيعة العمل، كل ما كنت أرغب فيه هو ألا أرى القائد. ماذا يمكن أن تفعل حارسة الثورة؟ وكيف سأدافع عن الثورة؟
وجاءني الرد على تساؤلاتي بسرعة. كان عليّ أن اقدم المشروبات لضيوف القائد الأفارقة.
كنت في المنزل نفسه. مع الأشخاص أنفسهم. وكانت مبروكة تراقبني باستمرار، وكنت أعمل حتى الساعة الثالثة فجراً، ولم يعد لدي غرفة خاصة بي لأن فتاة جديدة أخذت مكاني. ومع ذلك طلبني القائد الى غرفته. لقد أوقع بي.
في اليوم التالي اتصل بي والدي في السر، كانت المكالمة سريعة، قال لي: «صوريا الموضوع مهم، تعالي وبسرعة مع جواز سفرك!».ولحسن حظي أن مبروكة نسيت أن تصادر جواز سفري بعد عودتنا من أفريقيا. نجحت في اختلاق عذر واهٍ وخرجت من باب العزيزية وذهبت الى حيث كان والدي بانتظاري، وذهبنا سويا إلى السفارة الفرنسية لطلب تأشيرة. وبفضل علاقة والدي مع إحدى موظفات السفارة قيل لي انني سأحصل على التأشيرة في غضون أسبوع. عدت بعد ذلك إلى باب العزيزية، ولم يعرف أحد أين كنت. تابعت عملي كخادمة. كان منزل القذافي دائما يعج بضيوف من الشخصيات البارزة، ومن نجوم الفن وبينهم مصريون ولبنانيون، وكانت هناك دائما حقيبة يد «سامسونايت» ممتلئة بالدولارات تنتظر أحدهم قبل مغادرته.
وفي منزل أهلي كنت غريبة، كنت المثال السيئ للجميع: أمي راحت تقضي معظم وقتها في سرت مع شقيقي وأخي الصغير. لم تكن الأمور على ما يرام. كان والدي يقول لي «ما هذه الحياة؟ وأي نموذج تعطيه لأخويك ولبقية أفراد الأسرة؟»، ففضلت العودة إلى باب العزيزية والإقامة هناك.
مختبر تحليل الدم من جديد. خادمة في النهار، بانتظار استدعائي خلال الليل. وفي أحد الأيام تشجعت وطلبت إجازة من القذافي، بحجة أن والدتي مريضة جداً. أعطاني عشرة أيام. وفي الوقت نفسه كذبت على أهلي وذهبت لقضاء عدة أيام مع هشام في منزل ريفي استعاره من أحد أصدقائه. أخبرت هشام بأنني أخطط للذهاب الى فرنسا، صارحني بحبه مرة ثانية وقال «أحبك ولا يمكنك أن تغادري». لكن بالنسبة لي كان الذهاب الى فرنسا الحل الوحيد فحاشية القذافي في باب العزيزية لا يدعوني وشأني، وعائلتي تنبذني. في ليبيا أنا دائما مراقبة وملاحقة وقد أعرض حياة هشام للخطر.
يوم السفر
أيقظني والدي باكرا، كان وجهه شاحبا، الرعب يسيطر عليه، كان يرتدي بدلة قاتمة اللون ونظارات شمسية سوداء، ليبدو مثل الجواسيس أو رجال عصابات المافيا. وأنا ارتديت «جينز»، ووضعت غطاء كبيراً أسود اللون ونظارات شمسية تأكل وجهي.
اتصلت بأمي في سرت لأودعها، كانت المكالمة سريعة وباردة، وانطلقنا الى المطار.
ــــ ما بالك يا صوريا أراك غير مبالية؟
ــــ لست بغير مبالية، ولكنني أشعر بالهدوء، فماذا يمكن أن يحدث لي أخطر مما حدث معي حتى الآن؟ أن يقتلوني؟! سيكون ذلك خلاصي.
في المطار كان والدي شديد التوتر. طلب من أحد اصدقائه الا يظهر اسمي على قائمة المسافرين. وفي قاعة الانتظار كان يشيح بنظره يمنة ويسرة، وكان يخال أي مسافر جاسوسا للقذافي سينقض علينا بين لحظة وأخرى.
حتى لحظة اقلاع الطائرة لم يكن قادراً على النطق بكلمة واحدة. وكانت يداه تقبضان على حافتي المقعد بقوة، حتى حطت الطائرة في مطار روما، فضحك، وقال لي إنها المرة الأولى التي يضحك فيها منذ سنوات عدة.
لقد اختار التوقف في روما لتمويه وجهة سيرنا.
دخلت الى دورة مياه النساء، نزعت عني الغطاء الأسود، تكحلت ووضعت أحمر الشفاه وتعطرت، فنحن سنسافر الى باريس.. وسأبتعد عن حياة العذاب.
في باريس
وصلنا باريس، وركبنا مترو الضواحي السريع باتجاه ضاحية كرملين ــــ بيستر، التي تسكنها غالبية من العرب، وذهبنا للقاء صديق والدي، كان الطقس بارداً جداً، أمضينا الليلة في فندق صغير عند مدخل الدائرة الثالثة عشرة لجهة بورت ديتالي (بوابة إيطاليا)، القريبة من الطريق الدائري حول العاصمة.
استيقظت في وسط الليل، وأنا بحاجة إلى سيجارة، لقد أصبحت مدمنة على التدخين، كنا على موعد مع صديق والدي في مقهى قريب من الفندق. كانت مجموعة من الفتيات يدخن على الرصيف بشكل طبيعي. شرب والدي فنجان القهوة. وخرج بعدها ليدخن سيجارة خارج المقهى، ودخلت أنا إلى مرحاض المقهى ودخنت سيجارة. دعانا حبيب إلى منزله الواقع عند بوابة شوازي. وبينما كنا عنده اتصلت والدتي لتقول إن سائقاً من باب العزيزية قد جاء يسأل عني. كان صوت والدتي يرتجف على الهاتف. امتقع وجه والدي وأنهار، نقله حبيب إلى المستشفى ولم يخرج إلا في المساء، بعد ذلك قرر العودة إلى طرابلس فورا، أعطاني ألف يورو واشترى لي خطاً للهاتف النقال، ذهبت مع حبيب لوداعه في المطار، حيث قال لي: «إذا كتب الله لي الحياة، فسأرسل لك المزيد من المال»، كنت أعلم أنه يريد أن يقول إذا لم يقتلوني، لم يقبّلني.. اكتفى بالتلويح بيده، فبكيت.
بداية الضياع
استأجر لي حبيب غرفة بالقرب من منزله. ذهبت لزيارة الحي اللاتيني وأماكن أخرى. كنت أشعر بأنني حرة، وكنت أردد ذلك في داخلي من دون أن أكون مقتنعة كلياً.
في اليوم التالي، تحدثت مع والدتي عبر الهاتف وقلت لها: أنا في مقهى دوفيك، ووجدته كما وصفته لي تماما. كنت اعلم انني بذلك اضرب على وترها الحساس، فقالت لي: «التاريخ يعيد نفسه. انك تسيرين على اثر خطواتي قبل عشرين سنة».
كنت يقظة في مصروفي، فوالدي ترك لي ألف يورو والغرفة تكلفني 25 يورو، اضافة الى التنقلات والاكل، كنت اكتفي بالتفرج على واجهات المحلات.
تعرفت على مجموعة من الأشخاص، قادني ذلك الى ضياعي في باريس، وتركت الفرصة تفلت مني لأعيد بناء حياتي. فقد وضعت ثقتي بأشخاص غير جديرين بها. كنت في العشرين من العمر، ولم أعرف من الحياة سوى ما أجبرني عليه القذافي من فسق وانحراف، وصحبة أمل وما رافقها من علاقات ساقطة. لم يكن لي أي خبرة في الحياة المهنية، ولا في العلاقات الاجتماعية، وكيفية استغلال الوقت وإدارة المال، ولا في العلاقات المتوازنة بين الرجل والمرأة، لم أقرأ صحيفة في حياتي.
في أحد الأيام التقيت بوردة، كانت من أصل جزائري، ولم يمض على وجودها في باريس زمن طويل. وعندما عرفت أنني من ليبيا فرحت كثيرا الى درجة أنها راحت تصرخ بأعلى صوتها:
ــــ ليبيا، القذافي يا للروعة. انه من الشخصيات التي اقدرها. انه بطل. ليس بمقدورك ان تتخيلي كم انني معجبة به.
ــــ تعجبين بالقذافي. ولكنه نصاب.
ــــ لا شك انك تمزحين. ألا ترين كيف يتحدى الأميركيين؟ ألم تسمعي خطاباته؟ انه عربي حقيقي. وهو شخصية فذة.
استمر النقاش إلى ان وصل صديقها، ماركيز، وهو يعمل حارسا في ملهى ليلي في ضاحية مونتري. عرضا عليّ ان أذهب لقضاء السهرة معهما. أعجبتني الفكرة. ذهبنا الى مطعم لبناني يتحول إلى ملهى ليلي بعد منتصف الليل، مع فرقة موسيقية وراقصة شرقية.
الجميع كان يتحدث باللغة العربية. «انظري إلى يمينك!»، قالت لي وردة، «هناك رجال ينظرون إليك. كوني لطيفة معهم، فهم يدفعون ثمن العشاء والمشروب. تعالي ارقصي معي!». لحقت بها عل مضض، وأنا أتساءل الى أين يا ترى تريد جرّي؟ تحرش بنا رجال بإلحاح وجرأة، حتى أن بعضهم وضع نقودا في جيوبنا كما كانوا يفعلون مع الراقصة.
لاحظ مدير الملهى توتري. فجاء إلي وقال لي: حقا انك ليبية؟ اخذ المايك وقال: «أريد أن أحيي ليبيا القذافي»، ثم راح يردد أغنية ليبية تمجد الزعيم.
وددت لو أن الأرض تنشق وتبتلعني، هل يمكن أن يلحق بي الى هنا؟!
بقيت في غرفتي لمدة أسبوع، لا أخرج منها سوى لشراء السجائر، وشحن الهاتف النقال برصيد للمكالمات.
ظل القذافي يلاحقني في كل مكان، شعرت وكأن لباب العزيزية عيوناً في باريس، فجواسيس القذافي سبق أن قتلوا معارضين في كل أنحاء العالم. وشعرت بأنني في نفق بلا مخرج.
في إحدى الليالي عبر جرذ غرفتي فتملكني الرعب. دفعت أجرة غرفتي واتصلت بحبيب، الذي استضافني في منزله، ووعدني بتدبير غرفة أفضل في مكان أفضل. ولكنني فوجئت به وهو يتسلل الى غرفتي عند الفجر. صرخت، حملت حقيبة يدي وخرجت إلى الشارع البارد والخالي من المارّة. فكرت بوردة، اتصلت بها، لكنها لم تجب. سرت حتى مدخل مترو الأنفاق وانتظرت أن يفتتح أبوابه. جلست على مقعد، فجاءني متشرد سكير يزعجني، اتصلت بهشام لم يردّ بدوره. جلست في أحد المقاهي، وفجأة وصلت مجموعة من رجال الأمن، اضطربت، ظننت أن مذكرة توقيف دولية أصدرها القذافي بحقي، كنت أرتعد من الخوف، تقدّم مني شرطي من أصل مغربي وطلب أوراقي. شاهد جواز سفري وقال لي: «مم تخافين؟ لديك تأشيرة وأنت في فرنسا بصورة شرعية». أعطاني رقم هاتفه وغمزني بطريقة فيها الكثير من الإيحاء، الأمر الذي أثار اشمئزازي.
دخلت مجموعة من الفتيات المقهى، كنّ في غاية الأناقة، لحقت نظراتي بهن بإعجاب، حتى أن إحداهن لاحظت أنني أحدق بهن فنهرتني باحتقار وحقد.
تعلم الفرنسية
النادل خلف بار المقهى كان يتكلم العربية. قلت له إنه يتعين عليّ أن أتعلم اللغة الفرنسية. لقد بات الأمر ملحّاً. فنصحني بأن أسجّل في مدرسة الاليانس فرانسيس، قرب المونبارناس. كتب لي العنوان على ورقة، ولكني ضعت في الطريق. دخلت مقهى لأستريح، وهناك وقع نظري على حبيب، صديق والدي. ومن كثرة ما ألحّ قبلت بأن يساعدني في الحصول على عمل ومكان للإقامة. وكان أول ما ساعدني به أن أوصلني الى مدرسة اللغة.
في مدرسة الاليانس فرانسيس التقيت بفتيات جزائريات نصحنني بأن أذهب الى مدارس البلديات، لأنها مجانية. إحداهن اقترحت عليّ أن تقودني بسيارتها إلى بلدية الدائرة السادسة، قاعة الانتظار كانت مليئة بالعرب والأفارقة.
كان الدرس الأول «الأحرف الأبجدية» التي درستها في المدرسة في سرت. صدمتني هذه المسألة، وجعلت تحمسي لتعلم اللغة الفرنسية يتراجع، لانه يلزمني الكثير من الوقت، على الأقل عدة أشهر، ولم أكن أعرف كيف سأتدبر أموري. اتصلت بوردة، وقلت لها إنني في الشارع، فاقترحت عليّ أن أسكن عندها، بشكل عفوي، قالت لي إنها تسكن بمفردها مع ابنها الصغير. وهكذا وجدت سكناً مؤقتاً. مع رفيقة تحاول جذبي إلى الرجال.
اللقاء بعادل
طلبت مني مرافقتها الى عند صديقها ماركيز، وخفت إذا رفضت أن أجد نفسي مجدداً في الشارع.
في المطعم ـــ الملهى عرّفتني على رجل تونسي أنيق ولطيف، اسمه عادل. وقع في حبي، كنت واضحة معه، قلت له إنني أحب رجلاً آخر، وأريد أن أبقى وفية له، لم يضغط عليّ، كان لطيفاً. وتصرّف بطريقة لائقة معي. كان يكتفي بالقدوم الى المطعم ويدعوني مع وردة الى العشاء. وهكذا قضيت اول ثلاثة اشهر في باريس، انتهت بعدها صلاحية تأشيرتي وبدأ الخوف يسيطر عليّ. وعرفت من وردة أن جميع الفتيات العاملات عند ماركيز وضعهن مثل وضعي. بدأت العلاقة مع وردة تتدهور، ووصلت بها الأمور الى منعي من فتح الثلاجة بحجة أن محتوياتها تخص ابنها الصغير، وكنت قد صرفت كل النقود التي أرسلها لي والدي، الذي نصحني بأن أجد عملا حتى لو كان ذلك في غسل الصحون. اقترح عليّ عادل أن يستقبلني في شقته، وان نتعايش كصديقين. كانت شقته فسيحة، وهكذا قضيت ستة أشهر في ضاحية بانيو الباريسية. كان عادل لطيفاً جدا، وكان يسعى جهده ليكون رقيقا معي ولا يزعجني. كان يدير مؤسسة بناء، يغادر في الصباح ويترك لي 50 يورو. وكنت أثق به. وعندما اخبرته بقصتي في باب العزيزية صدقني، فقد حدثه أصدقاء ليبيون عن خطف البنات من المدارس، بينما لم تصدقني وردة اطلاقا، وكنت كالحمقاء عندما اخبرتها حكايتي، لأنها كانت تدافع عن القذافي بشراسة. وكانت تقول لي «انه شرف العرب، الوحيد الذي يرفع رأسه، ويحمل المشعل، انه قائد بالمعنى المُشرف للكلمة، ولا يمكنه ان يتصرف بهذه الدناءة. ومن العار عليك ان تتفوهي بهذا الكلام ضده للفت الاهتمام إليك!».
لكن ذات مساء، جاء عادل إلى غرفتي وألحّ عليّ أن أضاجعه. فوافقت، لأنه كان حساساً وصادقاً في مشاعره، حتى أنه قال لأصدقائه إنه يريد الزواج بي. صدقته. ولكني بقيت صارمة، فأنا بانتظار هشام. بدأت الغيرة تأكل صدره، خصوصاً أن عادل رد على مكالمة هاتفية بينما كنت استحم، وتوتر الجو بينهما. وسمعت عادل يقول لهشام يا (..). لم أتحمل هذه الخيانة من قبله. بأي حق يرد على مكالماتي الهاتفية؟ اتصلت بهشام الذي رفض أن يرد عليّ.
نادلة وجلاية صحون
قررت مغادرة شقة عادل. كنت قد تعرفت على فتاة مغربية، اسمها منار، عن طريق رجل مصري. عرفتني على صاحب مقهى رضي أن أعمل لديه كنادلة، وكنت أتقاسم الغرفة التي تعلو المقهى مع منار، ولكن بعد فترة بدأت منار تغازلني بإلحاح. كما أن صاحب المقهى كان يقفل الباب الحديدي الجرار ليحول المكان إلى ملهى ليلي ترقص فيه الفتيات وهن عاريات كلياً. غادرت المقهى من دون أن آخذ أمتعتي.
لم تنقطع العلاقة مع وردة. التي عرفتني على فتاة تونسية تملك مقهى. بدأت أعمل في جلي الصحون، وتعلمت تسجيل الطلبيات والخدمة في القاعة. وقدمت لي صاحبة المقهى مكانا للسكن مع فتاة مغربية.
بدأ الزبائن يترددون على المطعم لرؤيتي.. البعض اعتقاداً منهم بأنني سأستسلم لرغباتهم، والبعض الآخر لمعاملتي مثل خادمتهم في منازلهم. والمسؤول عن المقهى بات يلح لكي أبقى في القاعة وسط هذه الأجواء التي تضغط عليّ.
وذات يوم رأيت الفتاة المغربية، التي تتقاسم معي غرفتي، تسرق أمتعتي فطفح الكيل.
من جديد، لا أدري إلى أين أذهب، اتصلت بالرجل المصري استقبلني في شقته الكبيرة، ولم يكن يعيش بمفرده فيها، كان يتقاسمها مع مجموعة من الرجال.
لم يزعجني أحد منهم، ولكنني لم أكن مرتاحة، وكنت اتساءل عن معنى وجودي في باريس، وأي مستقبل ينتظرني، فأنا لا أتكلم الفرنسية، وأقيم في البلاد بشكل غير شرعي، ويمكن للشرطة أن تعتقلني في اي لحظة من اللحظات. في هذا الوقت القاتم اتصل هشام فولد الامل.. انه يفكر بي في الوقت الذي انا بحاجة اليه.
قلت له: انا بحاجة اليك متى ستأتي،؟ وكان رده: لن آتي اتسمعينني؟ ظننت انك قادرة على ان تكوني وفية ولكنك غير قادرة على ذلك.
العودة إلى ليبيا
اتصلت بوالدتي ورحت أعاتبها وألومها على كل ما جرى ويجري معي. أهاجم والدتي بينما المسؤول عن المصائب التي حلت وتحل بي هو القذافي.
أمي كانت حنونة جدا معي، وقالت لي: «صوريا.. يا ابنتي لا تقولي حماقات، عودي الى المنزل، فرنسا لا تناسبك، عودي إلينا. سنخبئك، ولن ندع أحدا يعثر عليك.. والدك تعرض لبعض المضايقات عندما عاد وانتهى الأمر. لا أريد أن تكوني حزينة في باريس!».
قررت العودة. اتخذت قراري في لحظات. وردة، ولأول مرة، ساعدتني بحق. اتصلت بأحد معارفها في شرطة المطار لتخفف من قيمة المبلغ المستحق عليّ جراء إقامتي كل هذه الاشهر بشكل غير شرعي. وهكذا اكتفى الشرطي بمبلغ 1500 يورو بعد ثلاثة أيام قضيتها في مطار شارل ديغول، وكانت والدتي بعثت لي ألفي يورو.
في 26 مايو 2010 عدت إلى ليبيا بحقيبة خفيفة للغاية.
القذافي اعتبرني متوحشة وقال {هذا ما أحبه بالضبط} (10)
حارسات القذافي كن دائما في الواجهة
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبيها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
لم يكن أحد بانتظاري في مطار طرابلس، ولم أقل لأحد إنني سأعود إلى ليبيا.
اتصلت بهشام.. صُدم: «أنت هنا في ليبيا؟ إبقي في مكانك!»، وصل بسيارة رباعية الدفع مع اثنين من أصدقائه، أخذ حقيبتي بيده، نظرت إليه فاستعدت ثقتي بنفسي.
توجهنا الى المنزل الريفي ذاته، وكانت المواجهة.. كانت كلماته قاسية للغاية، قال إنني خيبت أمله، خصوصا بعدما تقاسمت شقة مع رجل في باريس. كان رأيه أنه يستحيل أن تكون بين الرجل والمرأة علاقات صداقة مجردة من الشهوات.. عاتبني بقسوة شديدة، ثم بدأ يخبرني عن الضغوطات والمشاكل التي تعرض لها على يد أمن النظام.
أخبرني هشام كيف أن أمن باب العزيزية جاءوا يسألون عنه مرات عدة، وكيف سجنوا شقيقه، بينما كان هو متواريا عن الأنظار في تونس، وكيف تعرض لكل أنواع المضايقات، والتهديد بالقتل، كيف أن هاتفه كان مراقبا طوال الوقت. قال لي أيضا إن سمعته تعرضت للتشويه وإن الناس كانوا يعيرونه بي ويقولون له إنه أخطأ كثيرا بحق نفسه عندما عشق إحدى (..) القذافي. حتى أن أعز أصدقائه كانوا يقولون له الشيء نفسه وينصحونه بالابتعاد عني لأنني «ساقطة».
قلقت على أهلي.. ماذا حل بهم، الضغوط التي تعرضوا لها، والى أي عقاب؟
لقد أهملتهم كليا وكنت منشغلة بحياتي، أي ثمن سيدفعون أو دفعوا لقاء هروبي الى فرنسا؟
طلبت من هشام أن يعيدني الى المطار لكي اتصل بأهلي من هناك واتظاهر بأنني وصلت للتو. قادني الى المطار بصمت وكنت غارقة بأفكاري، كيف يمكنني ان اتخيل ان باب العزيزية يتركنا نعيش بسلام؟
وبينما أنا بانتظار أهلي في المطار التقيت بأمل. كانت مسافرة الى تونس مع شقيقتها الكبرى.
- صوريا، يا لها من مفاجأة! الى أين أنت ذاهبة؟ سمعت انك كنت في باريس!
- هذا غير صحيح؟
- لا تكذبي علي! قمت بالتحقيقات اللازمة، التقيت بهشام، وأحد أصدقائي في المطار قال لي كيف غادرت مطار طرابلس. لكن لا تخافين.. لقد احتفظت بهذه المعلومات لنفسي، ولكن بمقدورك تخيل غضب العقيد معمر ومبروكة!.
وصل والدي مع شقيقتي الصغيرة، أكد لي أن أمن باب العزيزية بحث عني بإلحاح، ومارس كل أنواع الضغوط للعثور عليّ، ولم يقل لي أكثر من ذلك.
كان علي ألا أدع أختي الصغيرة تعرف أي شيء عن حياتي التي أهرب منها، حيث نبهها والدي، وأقنعها بأنني كنت في تونس عند أهل أمي.
وعندما أصبحنا أنا ووالدي بمفردنا، انفجر بي غضباً وبحرقة: «لماذا عدت. يا صوريا؟، لماذا تريدين أن تلقي بنفسك في فم الذئب، لماذا يا صوريا؟ لقد ارتكبت كل المخاطر بفرح من أجلك، كنت مستعداً للموت في سبيل إنقاذك مما كنت فيه، ولكن هنا ليس بمقدوري أن أفعل أي شيء لأحميك، لا شيء على الإطلاق، وهذا ما يكاد يصيبني بالجنون، لقد نجحت بابعاد الخطر عنك في بلد حر، وها أنت تضيعين فرصتك، بارتكاب الجنون من خلال تعرضك لجنون باب العزيزية!».
إننا الدولة
وفي صباح اليوم التالي سافرنا الى سرت، قطعنا من 4 الى 5 ساعات بالسيارة، ولم نتحدث إلا قليلاً، لم يهدأ غضب أبي. ذهبنا الى صالون أمي مباشرة. ضمتني الى صدرها وقالت لي «أنت جميلة جدا». أخذت يدي بيديها، رجعت قليلاً الى الوراء لتتأملني، لم أقل لها إن وردة دفعتني الى هذا الاسمرار الاصطناعي قبل أن أعود الى ليبيا.
هشام أيضاً لم يعجبه لوني الأسمر.
- تواصلين العمل يا أمي، لماذا لا تتوقفين؟ تبدين لي وكأنك متعبة؟
- يا صوريا.. يا ابنتي، بأي عالم أنت تعيشين؟! من يصرف على الأسرة؟! كيف كان يمكننا أن نرسل لك الأموال الى باريس لولا هذا الصالون؟!
ما كدت أن اضع حقيبتي في غرفتي حتى رن هاتفي. كانت مبروكة على الخط. جاءت المكالمة كطعنة خنجر. تجاهلت الرد في البداية، فاتصلت مرة ثانية وثالثة، دخل الرعب الى قلبي. تملكني شعور بانها معي في الغرفة. وأخيراً اجبت على المكالمة، وجاءني صوتها مثل كابوس:
- صباح الخير يا أميرة.. لقد زرت. فرنسا؟ كيف كانت الرحلة؟
- من قال لك انني كنت في فرنسا؟
- هل نسيت أننا الدولة، وأن أجهزتنا تعرف كل شيء عنك وعن غيرك؟ واننا نتدخل متى نشاء وحسب رغبتنا.. عرفنا بوصولك قبل أن تطأ قدماك أرض المطار.. وتركناك تذهبين بمشيئتنا.. تعالي فوراً الى سيدك، إنه يطلبك!
- أنا في سرت.
- تكذبين، لقد بحثنا عنك في سرت.
- انا موجودة الآن في سرت.
- حسناً سنكون هناك الأسبوع المقبل مع سيدك، كوني على ثقة بأنه سيعثر عليك أينما كنت ومهما فعلت.. ومرة ثانية أقول لك إذا تركناك تسرحين على هواك فثقي بأنك تفعلين ذلك بمشيئتنا وليس لأننا لا نعرف.
بعد أيام عدة اتصلت بي مبروكة مرة ثانية:
- أين أنت؟
- في صالون والدتي.
- سأصل فوراً.
لم أكد أخبر أمي باتصال مبروكة حتى رنّ الهاتف مجدداً: اخرجي فوراً أنا أمام الصالون.
كانت سيارتها «مركونة» أمام صالون حلاقة والدتي، والباب مفتوحا، صعدت إلى السيارة وانطلق السائق بسرعة.
كنت أعرف إلى أين نتجه، وكنت أخشى من عواقب ما ينتظرني. ماذا بمقدوري أن أفعل. إذا لم أرد أن ألحق مكروهاً بعائلتي، أو يصابوا بأي أذى؟
فريدة ومبروكة وسلمى
استقبلتني سلمى بابتسامة ممتلئة بالازدراء، أخذتني فاتية من ذراعي، وقالت لي «تعالي بسرعة إلى المختبر، يجب أن تخضعي لفحوصات كاملة». لم أقاوم. اندفاعي نحو الحياة همد. أصبحت حركاتي آلية.
انتظرت نحو ثلاث ساعات، ثم جاءت سلمى وقالت لي: اصعدي إلى غرفة سيدك. كان يرتدي ملابس رياضية حمراء. ألقى عليّ نظرات شيطانية. وقال: تعالي يا (..). أمضيت ما تبقى من الليل في الغرفة إلى جانب فريدة. كان جسدي مُدمى، والحقد يعتمر نفسي، وكنت ألعن الساعة التي عدت فيها إلى ليبيا. لمت نفسي كثيراً لأنني فشلت في فرنسا ولم أستطع أن أجعل لحياتي بداية جديدة. لم أحسن التصرف، لأن الجميع نظر إليّ كفتاة «سهلة وساقطة»، كما يقول القذافي. وكأنه بما فعله معي كتب هذه العبارة على جبيني.
بدأت فريدة تلعب بأعصابي. فقالت لي «أعرف فتيات أخريات ذهبن إلى فرنسا لـ(...)، إنهن حقيرات! من دون شرف ولا إخلاص ومن دون قيم أو أخلاق. فتيات منحطات يعدن لرؤية بابا معمر مطأطئات الرؤوس».
فقدت أعصابي، انقضضت عليها. ضربتها. كنت في حالة هيجان لم أمر بها من قبل. لم أعد قادرة على ضبط نفسي. انفجرت. جاءت مبروكة وحاولت تفريقنا عن بعضنا، ولكنني كنت مثل اللبوة الهائجة التي لن تترك فريستها. أمسكت بفريدة التي كانت تبكي من الخوف، فصرخت مبروكة بوجهي وحاولت إبعادي. فقلت لها «اخرسي أنت!». صُدمت مبروكة وكذلك فريدة، لم يسبق أن تجرأ أحد على التحدث مع مبروكة بهذة الطريقة والجرأة، كان الجميع يخاف من «المعلمة الكبيرة»، حتى القذافي كان يحسب لها ألف حساب. كانت سلمى تسمع كل شيء، فهجمت عليّ وصفعتني بقوة، حتى أن علامات أصابعها الخمسة ظلت ظاهرة على خدي عدة أيام. قالت لي سلمى: «من أنت لكي تتجرأي على الحديث بهذا الشكل مع مبروكة؟!».
اقتدت عبر أروقة إلى غرفة مظلمة تفوح منها رائحة نتنة، خالية من النوافذ وغير مكيفة، وكانت الحرارة في الخارج تبلغ نحو 40 درجة، وكانت الحشرات في كل مكان. أجهشت بالبكاء ورحت أنتف شعري حتى خارت قواي وانهرت على الحصيرة.
في حضرة القذافي
بعد ساعات عدة جاءت فاتية لتقول لي سيدك ينتظرك. دخلت فرأيت رأس فريدة على صدر العقيد تقبله وهي تبكي:
- صوريا شريرة ومجنونة لو تعلم يا سيدي كيف ضربتني!
مد اصبعه باتجاهي وقال: «يا (....) كيف لك أن تصفعيها؟». اقتربت مني فريدة وصفعتني مرتين، فنهرها العقيد، وقال لها «قلت لك صفعة واحدة»، وكان يتبعها بنظرات مجنونة، ثم التفت نحوي وقال: «آه إنك تعجبينني هكذا.. ما فعلته يعجبني حقا.. إنك متوحشة، وهذا ما أحبه بالضبط.. هذا الغضب في أعماقك.. هذه الجرأة.. هذا ما أعشقه» مزق ملابسي وطرحني على السرير.
- أرجوك لا تفعل شيئا! انني أتألم! أرجوك!
- النمرة تقاوم، أحب طبعك الجديد، إن فرنسا هي التي أعطتك هذه القوة وهذا الغضب.
- ولما رأى انني أنزف بكثافة أخذ منشفته الحمراء وراح يضغط لتجميع الدم، هذا طيب! آه كم هو طيب.
- أرجوك انني أتألم. توقف. انني أتألم كثيرا.
فصرخت من شدة الألم، ضغط على الجرس، فجاءت الممرضة الأوكرانية كلوديا، وهي ممتلئة الجسم، حمراء الشعر، ووجهها ملائكي، قادتني إلى المختبر وأعطتني دواء ضد الآلام، ومرهما لتخفيفها، كانت حركاتها واثقة، ويبدو انها معتادة على معالجة هذا النوع من الآلام.
كنت أهمّ بالعودة إلى غرفتي ولكنني عدت أدراجي لكي أتجنب وفداً افريقياً كبيراً جاء لمقابلة القائد في خيمته.
صباح اليوم التالي كان من المفترض أن يغادر الجميع إلى طرابلس، وقفت منتصبة أمام مبروكة، وقلت لها سأبقى هنا لأنني مريضة. فقالت لي: «لقد أصبحت عنيدة متكبرة وغير محمولة. لم تعودي تساوين شيئاً، عودي أدراجك!».
سلمى ألقت بوجهي ألف دينار كأنها تدفع أجرة (..) بعد اتمام عملها القذر، وأمرتني «اخرجي! السائق ينتظرك».
هشام يهجرني
أسرعت إلى السيارة، وكان هشام قد حاول الاتصال بي أكثر من عشر مرات. وترك رسالة «إذا لم تردي عليّ فهذا يعني انك مع الآخر، لأنه سينتصر دائماً. لم تعد لدي الرغبة في علاقة غريبة، أفضل أن نقطع علاقتنا». فتحت نافذة السيارة ورميت الهاتف.
عدت إلى المنزل، حيث كانت والدتي تكاد تموت من الرعب. وكانت قد حاولت الاتصال بي أكثر من مرة. قالت لي إنها لم تعد لديها القدرة على تحمل الوضع الذي وضعت العائلة فيه. قلت لها إنني بحاجة لتغيير حياتي، أن أبدأ من جديد، لقد انتهى باب العزيزية.. انتهى هشام.
- هشام. لقد التقيت بهذا الرجل مجدداً؟ لقد كذبت عليّ؟
- هذا الرجل يا أمي هو الذي أعطاني القدرة على البقاء على قيد الحياة، ولن أنساه أبداً.
نظرت إليّ والدتي نظرة اشمئزاز وكأنني كنت الجلاد ولست الضحية. وكأن هشام والقذافي ينتميان إلى العالم الفاسد والفاسق نفسه، وهذا ما لا قدرة لي على تحمله.
اضطربت الأجواء في المنزل من جديد، مجرد وجودي كان يثير حفيظة والدتي، لم أعد ابنتها، كنت امرأة لطخها الرجال وفقدت كل قيمة.
نظراتها، ملاحظاتها كانت تقتلني. كانت توجه إليّ أصابع الاتهام، ولكنها كانت تتماسك ولا تقول لي بما تفكر، لم أعد قادرة على التحمل.
- والدك وأشقاؤك لا يستحقون ما فعلته بنا.. لقد أصبحنا مسخرة عند الجميع.
- عمن تتحدثين يا أمي؟ إذا كان الناس يعرفون شيئاً، فأنت من أخبرهم!
- الناس ليسوا أغبياء.. الجميع لاحظ مسرحيات غيابك، وسيارات باب العزيزية أمام المنزل، يا للعار، بات علينا أن نسير إلى جانب الجدران، بينما كنا عائلة محترمة، يا للخسارة.
فضلت المغادرة إلى طرابلس مع والدي، المدينة كانت أكبر، وكان لدي متسع للتنفس. جاء هشام ذات يوم وركن سيارته أمام المنزل وحاول التحدث معي.. خفت من رد فعل الجيران، سارعت للاتصال به من هاتفي الجديد، واقنعته بالرحيل وعدم محاولة رؤيتي مرة ثانية. ما نفع رؤيته من جديد؟ كيف يمكن لي أن أعرّض حياته للخطر. أزلام القذافي وزبانيته لن يتركوه. كنت أعلم أن العقيد قادر على القتل لأقل من ذلك.
عندما جاءت والدتي لقضاء يوم الجمعة معنا في طرابلس، تجرأت لأحدثها عن أوجاع في صدري، وإن كان بشكل غير مباشر. فسبب (...) و(..) أصبح صدري مثل صدر امرأة عجوز، عندما رأته انشغل بالها وقالت لي إنني بحاجة إلى طبيب بكل تأكيد.
اعطتني أربعة آلاف دينار، واتخذت التدابير اللازمة، لكي أسافر إلى تونس لرؤية اختصاصي مع شقيقي الأصغر، فأي امرأة تحترم نفسها لا تسافر بمفردها.
حفل زواج أخي
عندما عدت الى ليبيا كان هناك اختبار آخر ينتظرني، زواج اخي عزيز من فتاة من سرت. كان يفترض أن أكون سعيدة. فحفلات الزواج تشكل مناسبات للأفراح والتعارف واللقاءات. كل الفتيات في عمري يعشقن ذلك. نرتدي أجمل الفساتين، ونصفف احلى تسريحات الشعر ونراقب الأقارب، ولكن كيف لي الا اخشى النظرات، الاسئلة والاشاعات التي اثارها غيابي؟ كنت خائفة وغيورة. العروس كانت جميلة للغاية، عذراء ومحترمة، أما أنا فكان لدي الانطباع انني قد استهلكت.
حاولت ألا ألفت الأنظار. والدتي كانت مستاءة للغاية لأنني لم ارتد فستانا طويلا، ولأنني اخترت بدل ذلك ارتداء بلوزة وجينز. كنت أخدم الجميع.
وعندما كان أحد من الضيوف يطرح سؤالا عليّ كنت أجيب انني ذهبت الى المدرسة في طرابلس، ومن ثم الى كلية طب الأسنان. كنت أقول إن كل شيء كان طبيعيا في حياتي، وإنني سأتزوج بالطبع.. سأتزوج يوماً ما. كانت عماتي يقلن لي انه يوجد لديهن عرسان لي، انقذت الموقف.
عاد عزيز الى المنزل ليعيش مع زوجته، أخليت الغرفة الكبيرة له ولعروسه. وبعد أيام بدأ يضايقني ويلعب دور رب العائلة. بدأ ينزعج من سجائري، ويهددني بالضرب.
عدة مرات، جاء سائق من باب العزيزية، وكان يغادر بمفرده باستمرار، وكان الجميع يتعاون لاقناعه بأنني غير موجودة.
في أحد الأيام ارتكبت الخطأ الذي أطاح بثقة أمي بي الى غير رجعة. كان هذا في نهاية عام 2010، عندما تحججت بباب العزيزية كتغطية لقضاء عدة أيام مع هشام. ولدى عودتي الى المنزل أعلنت الحرب، إذ اكتشفت أن باب العزيزية كان يبحث عني. وكان في ذلك ضياعي.
آنيك كوجين
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبيها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
في 15 فبراير خرج سكان بنغازي إلى الشوارع، أغلبهم من النساء، أمهات، شقيقات، وزوجات سجناء سياسيين اغتيلوا عام 1996 في سجن أبو سليم. كانت الجموع تحتج على اعتقال محاميهم. الخبر صدم الجميع. كان الأمر مثيراً. فهذا الغضب، ورغم أنني كنت قد بدأت أشعر به لدى الناس، إلا أنني لم أكن لأتخيل إلى أين يمكن أن يؤدي هذا الغضب.. إلى ثورة تطيح بالنظام؟!
كان معمر القذافي في ذهني وذهن كثيرين يبدو كأنه «أبدي» ولا يمكن زعزعة سلطته بأي شكل من الأشكال. من أين جاء المتظاهرون بكل تلك الجرأة والقوة لكي يشهروا كراهيتهم للعقيد. كانت مشاهدة هؤلاء الأبطال وهم يهتفون بسقوط النظام تنعش القلوب والآمال.
انكسر الخوف وذهبت الرهبة التي كانت تطغى على المشهد الليبي في كل مرة يكون فيها القذافي جزءا من الصورة. المتظاهرون قالوها بصراحة وعلناً بأنهم يكرهون القذافي. بدأ الناس يروون النكات ويؤلفون خبريات عن الزعيم.. بدأوا يسخرون منه انتقاما وتنفيسا عن القمع والكبت الذي سجنهم فيه لأكثر من أربعة عقود.. كانوا يعبرون الى أي درجة هم يحتقرونه ويحقدون عليه.. كانوا يفعلون كل هذا وأكثر وهم يعرفون أنهم لو فشلوا في ثورتهم فسيتعرضون لأقصى أنواع العقاب. فلطالما كانت أرواحهم ومصائرهم ومستقبلهم بين أيدي العقيد.
ثورتي الخاصة
في السادس عشر من فبراير، وربما لأن الأجواء العامة من حولي أثرت بي، قمت بثورتي الخاصة. قلت في نفسي، هم (أهلي والناس) يعتبرونني ساقطة! فليكن إذن.. تركت عائلتي وصممت على الالتحاق بشباب الثورة، لكن أحدا لم يرحب بوجودي. فمشاركة النساء الرجال في أي عمل، حتى لو كان ثورة، هو بحسب التقاليد والأعراف الليبية تصرف ممنوع، وغير مقبول بتاتا، وغير أخلاقي، وفي مستوى العلاقة خارج إطار الزواج.
لكنني لم أكن أفكر هكذا.. فما همتني القوانين والأعراف والتقاليد بعد كل الذي عانيته من الرجل الذي يُفترض به أن أول من يطبقها! فكرت أن أذهب وأعيش مع هشام، غير مبالية بكل ما قد يحصل لي، وكنت أسأل نفسي: هل سيتجرأون على محاكمتي لأنني أريد العيش مع الرجل الذي أحبه، بينما سيد ليبيا سجنني واعتدى علي لسنوات طويلة وحطّم حياتي؟
استقررت مع هشام في منزل صغير في ضواحي طرابلس. كان قد بدأ يعمل لدى صياد سمك (غطاس يصطاد الأخطبوط)، وكنت سعيدة بالبقاء في المنزل أنتظره وأحضّر الطعام له.
رغبت جدا في أن أشارك في تظاهرة السابع عشر من فبراير، ولكن ذلك كان مستحيلاً، لأنني كنت بعيدة عن ميدان التظاهرات. جلست أمام شاشات التلفزة، حيث كانت قناة «الجزيرة» تغطي مباشرة أخبار الثورة. كنت أرتعش وأصرخ فرحة وأردد «يا لها من جرأة! يا لها من ثورة وأيام عظيمة نعيشها! الليبيون ينتفضون».
قررت أن أنسى باب العزيزية، ومحوت من ذاكرة هاتفي كل الأرقام المتعلقة بأفراد الجماعة هناك. كنت مطمئنة لأنني كنت واثقة بأنهم كانوا منشغلين عني الآن بأشياء أكثر إلحاحاً، عوضا عن البحث عني وبأنهم سيظلون هكذا الى الأبد.
تمكّن هشام بفضل بعض العلاقات في محكمة طرابلس أن يعقد قراننا بالسر. لم نعلن ذلك لأهلنا، لأنهم ما كانوا ليوافقوا بأي حال من الأحوال. عقد الزواج طمأنني حتى ولو أنني علمت لاحقاً أن لا قيمة له.
إيمان العبيدي
ذات يوم بثت «الجزيرة» صورة إيمان العبيدي التي دخلت الى فندق فخم، حيث كان ينزل الصحافيون الأجانب وصرحت بأن رجال القذافي قد اعتدوا عليها. بُث المشهد على شاشات التلفزة، لم يكن ليصدق قبل الثورة. كانت إيمان تصرخ بأعلى صوتها وهي تروي ما حدث لها، بينما كان رجال القذافي يحاولون منعها من الكلام. حاول الصحافيون الدفاع عنها، إلا أنها تعرّضت للخطف بالقوة، وحاول رجال القذافي الترويج بأنها مجنونة أو (..)، ولكنها كشفت ما تعرضت له آلاف النساء الليبيات، لأنني لم أشك في روايتها، وصدقتها لأنني كنت أكثر من يعرف أن رجال العقيد يعتدون على النساء على غرار سيدهم.
أصدقاء هشام أخبروه بأن باب العزيزية يقوم بحملة تنظيف ويريد تصفية الفتيات اللاتي بتن شاهدات على أعماله، ولم يعد بمقدورهم السيطرة عليهن.
علمت أن رجال كتائب القذافي قد بحثوا عني في منزل أهلي وهددوهم. وأن والدتي خافت وغادرت الى المغرب. وأنهم أخضعوا والدي للتحقيق أكثر من مرة، وكانوا يضغطون عليه كي يسلمني لهم، بالرغم من أنه كان يقول لهم في كل مرة إنني مع والدتي في المغرب.
كانوا يفعلون الشيء نفسه مع أهل هشام. يسألون عني وعنه ويهددون إخوته ووالده وأقاربه.
إلى تونس
وفي أحد الأيام جاء هشام والرعب والقلق يسيطران عليه:
- يجب أن أبعدك عن هنا.. سأعمل بكل الطرق حتى أرسلك الى تونس.. ليس لدينا يوم واحد نضيعه!
طلب من أحد الأصدقاء، يقود سيارة إسعاف، أن يقلني الى الحدود التونسية، ومن هناك لجأت الى أقاربي.
كنت أتابع التطورات يوميا، ضربات الأطلسي، تقدّم الثوار، وحشية الحرب، كنت أعيش في حالة اضطراب دائم. أردت العودة الى ليبيا، إلا أن هشام رفض. كان يخاف أن يظن المتمردون أنني متواطئة مع جماعة القذافي، ومن المقربين منه.
وكانت هذه الفكرة تجعلني أُجَن، أنا متواطئة مع القذافي؟ أنا التي خُطفت وعُوملت كالعبيد؟ أنا التي ليس لها أمل في الحياة سوى أن ترى القذافي يتنحى ويحاكَم ليدفع ثمن ما فعله بي؟ كنت أقول له إن مخاوفه هي شتائم لي، سمعت إشاعات تقول إن نجاح وفريدة قد قتلتا فانتابني الخوف.
في شهر أغسطس، ومع بداية رمضان، سمعت في البداية أن عرّافة توقعت موت القذافي وتحرير طرابلس في العشرين منه. فعدت الى طرابلس، وتحديدا الى منزل هشام الريفي. ولم يكن بمقدورنا البقاء، لا ماء، لا غاز، ولا كهرباء ولا بنزين. ضربات الأطلسي تتواصل، وكانت الفوضى عارمة.
هشام في عداد المفقودين
في الثامن من أغسطس، جاء رجال القذافي يطلبون منه ومن شقيقه المشاركة في عملية ليلية بالقرب من الزاوية، فهمت أنهم يريدون إخلاء عائلة عبر المركب، ولم أفهم التفاصيل، أو أنه لم يرد أن يطلعني على كل شيء، لكي لا أقلق، وكان القلق على وجهه، لم يكن لديه أي خيار، غادر في المساء ولم يعد.
تلقيت اتصالا هاتفيا، وقيل لي إن غارة للأطلسي أصابت المركب، ركضت إلى منزل والدة هشام، كانت تنتحب، أخذتني بذراعيها وضمتني، الله يشهد كم أنها كانت تعارض زواجنا. رحت أطرح عليها الأسئلة، ولكنها لم تكن تعرف شيئا. كانت المعلومات مجتزأة ومتناقضة، تمكن شقيقه من السباحة تسع ساعات ليصل الى الشاطئ. وكان مصابا في ساقه، أما هشام فلا أحد يعرف عنه شيئا، اعتُبر ميتا، ولم نتمكن من دفنه لقد دُمرت.
التحرير
تحررت طرابلس في 27 أغسطس، نزل الناس الى الشوارع، كانت الفرحة عامرة. كانت النساء تخرج الى الشوارع مع الأطفال، ويحملن علمنا الجديد. الرجال كانوا يرقصون ويطلقون النار من رشاشاتهم، ويصرخون «الله أكبر». وكانت مكبرات الصوت تبث أغاني الثورة. استقبل الثوار كأبطال حقيقيين. فتحوا السجون احتلوا باب العزيزية، كان المشهد خياليا، زغردت وصفقت للمقاتلين. وشكرت الله الذي منحنا أكبر يوم في تاريخ ليبيا. وكنت في قرارة نفسي أبكي في الوقت ذاته. لم يعد موجودا.
كان التلفزيون يبث صورا مذهلة للثوار في باب العزيزية. يعرضون أمتعة للقذافي. كنا نسخر من ذوقه وذوق أولاده.
كانت الأقدام تدوس على صوره. عرضت التلفزة صور منزله العائلي، حيث غرفته مجاورة لغرفة زوجته. لم يكن لدى أحد أي فكرة عما كان يحدث خلف جدران باب العزيزية.
لم يكن بمقدور أحد أن يتخيل أن مجموعة من الفتيات البائسات كن يعشن في قبو منزله. سكنت مؤقتا لدى صديقة لهشام. ولكن والدي كان قلقا.
في 28 أغسطس وافقت على السفر معه الى تونس، ثم عدت الى طرابلس في نهاية سبتمبر. ولكن ماذا أفعل بحياتي؟ عمري 22 عاما، لكنني أشعر كأنني أعيش منذ دهر. جسمي ضعيف، ليس لديّ أي أمل، لا أموال، لا دراسة ولا مهنة، البقاء مع عائلتي أصبح مستحيلا، إخوتي يعرفون الحقيقة.
بالمقابل لا يسمح لامرأة بأن تنزل في فندق بمفردها. كما لا يوجد صاحب شقة يوافق على تأجير فتاة عزباء للعيش بمفردها. ابنة خالتي وافقت على مرافقتي من تونس إلى طرابلس، ولكن ماذا أفعل لاحقا!
سمعت أن المحكمة الجنائية الدولية قد رفعت شكوى ضد القذافي بتهمة الجرائم ضد الإنسانية، ووضعت كل آمالي بقوة شهادتي، يجب أن يُصغى إليّ، لأنني كنت أريد أن أراه خلف القضبان، ولأنني كنت أريد مواجهته وأضع عيني في عينيه وأسأله: لماذا؟ لماذا فعلت بي هذا؟ لماذا اعتديت عليّ؟ لماذا سجنتني؟ لماذا أجبرتني على تعاطي المخدرات؟ لماذا علّمتني التدخين وشرب الكحول؟ لماذا سرقت حياتي؟.. لماذا؟
مات مثل جرذ
ولكنه مات، تم إعدامه في 20 أكتوبر من قبل الثوار، بعد خروجه من مجرور، إنها مهزلة القدر. كان يصف الليبيين بالجرذان، شاهدت صوره على التلفزيون وهو مدمى الوجه وجسمه ممدد كلحم فاسد، وكنت غاضبة لأنه نجا من المحاكمة، قضى دون أي حساب من الليبيين الذين داسهم لمدة 42 سنة، دون أن يَمْثُل أمام العدالة الدولية والعالم أجمع وأمامي أنا شخصياً.
أخبرت قصتي لعدد من الثوار الذين اقتادوني الى أكاديمية النساء العسكرية، وتم الاستماع إليّ مطولاً، كما تم التأكيد أن هناك فتيات كثيرات مثلي. تم منحي مؤقتاً شقة من الشقق المصادرة من أنصار القذافي، شعرت أنني في أمان، وكان شعوراً خاطفاً، لأن أحد الثوار اعتدى عليّ، ففتاة مثلي صاحبة ماض حافل.
هذه المرة رفعت شكوى قضائية، ولم أتراجع عنها رغم التهديدات، فليبيا اليوم يجب أن تكون دولة القانون، اضطررت لأن أنتقل من الشقة، وأن أعيش متخفية، وأتجاهل الشتائم التي أتلقاها على هاتفي النقال، والتي تزداد عنفاً.
أعتقد أنني قلت كل شيء. لم يكن الأمر سهلاً. عليّ أن أواصل حياتي وأتأقلم مع الاضطرابات التي تعتصر داخلي، والمشاعر المتناقضة التي تنتابني ولا تتركني أعيش بسلام. مشاعر الخوف، والعار، والحزن، والندم تقضّ مضجعي. وأظن أنني لن أتمكن من تخطي كل هذا، ولن أنسى يوما ما تعرّضت له وكيف دُمرت حياتي قبل أن أعيشها.
بالنسبة لأهلي أنا فتاة ضائعة، فتاة للقتل، يفكر إخوتي بقتلي لـ«غسل العار»، كما يقولون. الجريمة تغسل العار وتنتقم للشرف، وأنا ملطخة وألطخهم وأبكي موتي.
أريد أن أعيد بناء حياتي في ليبيا الجديدة، وأتساءل عما إذا كان ذلك ممكناً.
انتهت قصة صوريا.
وغداً تحقيق للكاتبة انيك كوجان حول ما روته صوريا
هكذا.. تحولت سرت الى هياكل ودمار
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
بعد قصة صوريا تبين ان هناك قصصاً عديدة تشبهها وان فتيات كثيرات كن ضحايا للعقيد.
وفي الجزء الثاني من كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي الكاتبة الحقائق التي استقتها لتؤكد صحة ما سمعته من صوريا وعنها.
صوريا لا تغش. إنها تخبر ما عاشته، ولا تخجل مما تعرفه ولا تردد بالقول إنها لا تفهم. لم ألمس أي رغبة لديها بالمبالغة في رواية قصتها، أو بتسليط الأضواء على دورها. عندما كنت أطلب منها تفاصيل إضافية أو مزيد من الدقة كانت تقول «آسفة لا أعرف أكثر. لم أكن موجودة». إنها تريد أن يصدقها الناس. وهي تريد أن تكون روايتها ذات مصداقية.
كان هناك اتفاق بيننا يقضي بأن تلزم الصمت عوضا عن أن تحدثني بأشياء غير دقيقة، أو غير صحيحة، لأن أي عملية غش أو تزوير للحقائق، ولو كانت صغيرة، تطيح بشهادتها.
قالت كل شيء. كانت تصحح ما يقوله والدها عندما يحاول أن يأخذ حريته قليل اًبالحديث عن التطورات بشكل يناسبه.
أحياناً، وبينما كانت تروي تفاصيل ما تعرضت له، كانت تستخدم عبارات فجة وتقولها كما هي «بالعربي المشبرح»، رغم معرفتها بأنها عبارات غير لائقة. ولكن كيف كان بمقدورها أن تتصرف بشكل مختلف؟! كانت أحياناً تتسلى عندما تشعر أن هناك صعوبة بالترجمة. وكانت تقول لي «أتساءل عن أي كلمة ستستخدمين لقول هذا! أنا لا أسهل عليك المهمة؟»
ولكنها راوية قصة رائعة. كانت ترد على الأسئلة بشجاعة وجرأة أثرتا بي كثيراً.
كنا نلتقي كل يوم منذ بداية عام 2012 في شقتها المؤقتة في طرابلس. ونادراً في غرفتي في الفندق. كانت تروي لي حكايتها مع القذافي بشغف. تحرك يديها. تقلد الشخصيات تنتقل من القذافي إلى مبروكة.
كيف يمكنني أن أنسى مشاعرها وهي تستعيد بذاكرتها اللحظات المصيرية التي جعلت الفظاعات لا تفارقها؟ أحيانا كان الحزن يغلب على فقدانها الأمل؟ القلق في تخيل مستقبلها؟ ولماذا أخفي انفجارنا بالضحك بعد انتهاء حوارنا الطويل، حيث كانت تضع التلفزيون على قناة تبث الكليبات المصرية وتعقد «المنديل» على خصرها وتعلمني الرقص الشرقي: «قفي مستقيمة الظهر، افتحي ذراعيك، صدرك إلى الأمام، ابتسمي بطريقة ليس بمقدور أحد مقاومتها، يلا.. هزّي خصرك!»
رواية الأب
العلاقة بعائلتها لم تنفك عن التدهور.. والعزلة بينهما زادت اتساعا.
وقد سنحت لي فرصة لقاء والدها في يناير 2012 وكانت الهموم تطغى على محياه. جاء لزيارتها فجأة، ولم يكن يعرف بوجودي، ولم يقل لزوجته.
كان ينظر إليها بحنان لا متناه، ويقول: «كانت، ومنذ نعومة أظافرها، تُشيع الفرح في المنزل. وُلدت ومعها حس الفكاهة. ويوم اختفت غادرت السعادة منزلنا. وحل محلها الحزن، الذي لم يغادرنا إطلاقا».
يلوم نفسه لأنه لم يكن في سرت عندما زار العقيد مدرسة ابنته: «لو بمقدورك تخيل كيف عشت قضية باقة الورد تلك التي قدمتها صوريا للعقيد. أعيد تذكرها يوميا مئات المرات. انني واثق أن هناك متواطئين جاؤوا الى صالون زوجتي للتأكد من أن صوريا موجودة. كما أنني أشك بأن مدير المدرسة كان بدوره متواطئاً مع زمرة القذافي ليضع أمامه فتيات يعجبنه. وكان يكفي بعد ذلك أي حجة لكي تتعرفن عليه».
«بت أعرف الآن، وبكل تأكيد، أنه كان للقذافي عصابات مجرمة في كل المناطق للقيام بهذا العمل القذر».
كان يغلق قبضته بقوة، ويهز رأسه، ويغرق في أفكاره وندمه: «لو كنت موجودا ما كنت تركت صوريا تغادر مع النساء الثلاث بحجة سخيفة حمقاء! عندما أخبرتني زوجتي، من دون أن تتجرأ على قول كل شيء- كل ليبيا تعلم أن هواتفها مراقبة- توجهت الى سرت مباشرة. الجو كان رهيبا. لم نغمض أعيننا لا في الليلة الأولى ولا في الثانية ولا في الثالثة. كدت أصاب بالجنون. تمنيت لو أن الأرض تنشق وتبتلعني. رفيقات صوريا، أساتذتها، جيراننا وزبونات الصالون يسألون عنها +أين هي؟+ عدت الى طرابلس وبات بمقدور والدتها القول إنها مع والدها في العاصمة. في لحظة من اللحظات فكرت في رفع دعوى. ولكن عند من؟ وضد من؟ ولماذا؟ صوريا غادرت بسيارة تابعة للبروتوكول تحيط بها حارسات القذافي، أي عملية احتجاج كانت مستحيلة. من يفكر في جهنم أن يرفع دعوى على الشيطان؟».
العار أو الموت
عندما تأكد الأهل بعد فترة أن صوريا فريسة القذافي انهاروا.
«الخيار كان العار أو الموت، لأن الاحتجاج أو الشكوى كان يعني حكم الإعدام علينا. ففضلت أن أختفي في طرابلس ونسيت في يومها طعم السعادة».
كان والد صوريا يتمنى لو أن العدالة تنصف ابنته، وأن تعود مرفوعة الرأس الى المنزل، وقد غسل العار أمام العائلة ولكن هذا مستحيل «كل الناس الذين يحيطون بنا يشكون بقصة صوريا، ويعتبرونني جبانا ونصف رجل من أشباه الرجال، وفي مجتمعنا لا توجد شتيمة أقسى من هذه. وهي تلطخ ابنائي، حطمتهم، عقدتهم، غير قادرين على تخيل مخرج لكي يظهروا أنهم رجال سوى قتل أختهم. إن هذا رهيب! لم يعد لديها أي فرصة في ليبيا، إن مجتمعنا تقليدي، أحمق وبلا أي شفقة أو رحمة، هل تعلمين كل ما أرغب به هو أن تتبناها عائلة أجنبية، أقول هذا والأسى يحز في قلبي!».
إلى سرت
كان يتعين علي الذهاب الى سرت، مدينة القذافي، أردت رؤية المنزل الذي كبرت صوريا في داخله، صالون الحلاقة والمدرسة التي قدمت فيها باقة الورود.
رفضت صوريا مرافقتي، ولكنها قالت إنها تتفهمني وكانت تتساءل عما حل بسرت مدينة القذافي، التي حولها من مدينة صغيرة لصيادي الأسماك الى عاصمة للولايات الأفريقية المتحدة، والتي شهدت معارك طاحنة في خريف عام 2011. تعرضت مدينة سرت لقصف الأطلسي العنيف، ويجري الحديث عنها الآن وكأنها مدينة أشباح. تتآكلها أمراض جنون العظمة، التي دمرتها، ومن خلاله الاحتماء بها في ساعاته الأخيرة جذب إليها القذافي حمى النيران والقذائف والقصف، وهو بذلك لم يقدم لها أي خدمة.
بعد أن قطعت مسافة 360 كلم تخللها التوقف على الحواجز، حواجز الثوار، والعواصف الرملية، التي كانت تحجب الرؤية، لاحت المدينة في الأفق. وبشكل أدق بدا هيكلها العظمي.
منازل قتالية خالية، مهجورة، تعرضت للقصف والنهب، مبان حيطانها سوداء وقد فتح القصف فيها فجوات. منازل ومبان رسمية مدمرة كليا.
الجزء الذي توجد فيه شقة صوريا في شارع دبي كان سليما. بالكاد نرى أثر الحرب على المباني البيضاء المؤلفة من ثلاثة أو أربعة طوابق. مداخل البنايات طليت باللون الأخضر. لون القذافي. علما بأن القذاذفة قد أبعدوا من المدينة، وقد يكون السبب باستخدام هذا اللون هو استخدام كميات الطلاء الموجودة فيها. محلات الملابس والعطور قد أعيد فتحها، وفي شارع قريب يقع صالون حلاقة أم صوريا.
تقدمت من إحدى العاملات فيه، فقالت لي بأنه يتعين عليّ أن أعود في يوم آخر، لأن المواعيد ممتلئة حتى المساء، سألت عن صاحبة المحل فقالت لي انها غير موجودة اليوم.
في مدرسة باقة الورد
ذهبت الى المدرسة، التي خطفت منها، مدرسة الثورة العربية، وهي عبارة عن بناء كبير أبيض اللون، لم يُصب بأي طلقة أو أنه أعيد ترميمه بشكل جيد، كانت الساعة الواحدة بعد الظهر، وكانت التلميذات في الملعب يرتدين اللباس الموحد الذي وصفته صوريا لي، بنطلون أسود وقميصا طويلا وغطاء أبيض.
استقبلني المدير محمد علي مفتي وأخبرني أن المدرسة أصبحت تعتمد نظام الدوامين، لأن هناك مدرستين قد دُمرتا كلياً بقصف الأطلسي. وشرح لي حجم المشاكل التي واجهها لكي يتمكن التلامذة ال 913 من بدء العام الدراسي في 15 ديسمبر، أي بعد أسبوعين من بدء العام الدراسي في كل ليبيا، نظراً لأن المعارك في سرت استغرقت وقتاً طويلاً وكان يتعين تغيير النوافذ والأبواب والتمديدات الصحية، وطلاء البناء بكامله. وقالي لي إن الكمبيوترات وأجهزة التلفزيون والمكتبة والمختبرات قد نهبت كلياً.
وقد تبرع السكان لكي لا يتأثر أولادهم، وأخبرني عن تأثير الحرب في التلميذات والأزمات العصبية التي يصبن بها. فبعض العائلات فقدت خمسة من أفرادها.
فأحيانا كلمة أو صورة تفجر هيستيريا لدى بعضهن، لم نعد بحاجة الى مساعدات إجتماعية بل الى أطباء نفسيين. وبالنسبة للبرامج أكد لي أنها لم تشهد تغييراً يذكر باستثناء إلغاء البرامج السياسية.
عندما سألته عن المدير السابق قال لي إنه لا يعرف عنه شيئا، غادر ليبيا، ويبدو أنه من أنصار القذافي.
ولما طرحت عليه السؤال عن زيارة العقيد في ابريل 2004 الى المدرسة والهدايا التي قدمتها له الفتيات الجميلات وخطف إحداهن ليجعلها عبدته ويعتدي عليها رد علي قائلا «إن هذا غير صحيح، لأن القذافي لا يزور المدارس»!
ولكنني التقيت بفتاة شهادتها جدية، وأعطتني الكثير من التفاصيل، قلت هذا بهدوء، ولكنه راح يصرخ بأعلى صوته ويردد «هذا غير صحيح.. هذا هراء».
ولكن الصحف كانت تنشر صوره لدى زياراته للمدارس؟
«لا، ليس في سرت. إنها مدينته، لم يأت الى أي مدرسة في سرت. في هذه المدرسة كان أولاد أقارب القذافي، إن ما تقولينه هو لتوسيخ سمعته.. إنها حقارة. قد يكون توجه للتلميذات عبر مؤتمر فيديو».
ارتأيت أن أكتفي بهذا الحد، ولم أعطه اسم صوريا كي لا يُثأر من أسرتها، لأنه على ما بدا لي من هذا المدير إن سرت لم تطو الصفحة بعد.
حكايا المعلمات
كنت أهم بمغادرة المدرسة، ولكنني لمحت في إحدى القاعات مجموعة من المعلمات الشابات، أحطن بي عندما دخلت الى القاعة. وما إن بدأت أتحدث معهن حتى أقفلن الباب. كن يتحدثن في الوقت ذاته، أخبار الثورة، وعندما طرحت السؤال عليهن حول خطف البنات، كل سرت كانت على علم بهذه الممارسات.
قالت لي إحداهن: «كان يسيطر على سكان المدينة. على قبيلته، عائلته. المدرسة انشأتنا على عبادة شخصه، ولكن الجميع كان يعلم أن القذافي كان حقيراً عندما يتعلق الأمر بالأخلاق والذي يقول إنه يجهل ذلك فهو منافق كبير».
زميلاتها الخمس أكدن الشيء ذاته، وأعربن عن اشمئزازهن مما قاله المدير. وقالت إحداهن «للأسف.. إن المسؤولين الجدد هم من طينة المدير السابق ذاته الذي فر مع أنصار القذافي». وأكدت أخرى أنها درست في المدرسة ذاتها، وأنها شاهدت القذافي عندما زار قاعة الرياضة. لم تتذكر صوريا، ولكنها متأكدة أن القذافي جاء الى المدرسة. وتذكرت مُدرسة أخرى الخطاب الذي ألقاه العقيد في جامعة سرت، وكيف أن الحركة في المدينة قد تعطلت، لأنه عندما كان يأتي كان كل شيء يتوقف.
وقالت لي المدرسات إنه كان يستغل كل المناسبات للقاء الشابات الصغيرات. كان يدعو نفسه لحضور الأفراح في اللحظة الأخيرة، وكانت معظم العائلات تعتبر أن القذافي خصها بالتكريم، «ولكن أخوالي، المنتمين الى عائلته، كانوا يمنعونني من الظهور أمامه، كان يدعو التلميذات لزيارته في كتيبة السعدي. ذهبت مرتين مع المدرسة بمناسبة مهرجان الأغنية، ولكن أهلي منعوني من التوجه لاحقاً، وقال لي أخي إن مقر الكتيبة هو مكان المخاطر، وإذا لم يأت الأمر منه فان الخطر يمكن أن يأتي من زمرته، من كبار ضباطه حتى من أي عسكري لأن أخلاق القذافي السيئة تُعدي من حوله كان عمري 16 عاما وكنت في ثانوية +الفكر الطليعي+، عندما جاءنا أحد المدرسين وقال لنا إن بابا معمر مريض. أقلتنا حافلة نقل إلى الثكنة حيث استقبلنا تحت الخيمة. وكان يحضننا الواحدة تلو الأخرى. وكنا خجولات ولم تظهر عليه أي من علامات المرض».
وتذكرت معلمة أخرى أنها ذهبت مع المدرسة لتحية الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في ثكنة السعدي. «كان القذافي بحاجة دائما لإحاطة نفسه بالفتيات الشابات. وكنا نشكل أداة دعائية له».
قالت مدرسة أخرى، من مصراتة، إن قبيلتها نظمت ذات يوم حفلا كبيرا رسميا للولاء للقائد. «كان يحب هذا النوع من التظاهرات، لأنه كان حريصا على ولاءات القبائل التي كانت تشكل له دائما مصدر قلق. ولفتت نظره شابة صديقة لعريفة الحفل. وفي اليوم الثاني ذهب الحرس الثوري لإحضارها من المدرسة. رفض المدير السماح للتلميذة بمغادرة المدرسة، لأن الفتاة كان لديها امتحانات. ولكن في المساء تم اختطاف الفتاة خلال حفل زفاف. اختفت ثلاثة أيام. اعتدى عليها القذافي. عادت بعد ذلك وتم تزويجها لأحد حراس القذافي. والد الفتاة، وهو أستاذ في المدرسة أخبرني مأساة ابنته وتوسل إلي أن أكون حذرة».
دق جرس عودة الحصص. وقفت المعلمات وطلبن مني ألا أنشر أسماءهن، فالأمور ليست بسيطة في سرت. لأن الكثير من السكان يحقد على السلطة الجديدة، ويعتقد أنها ستدفعه ثمن ارتباطها العضوي مع القذافي.
إن تتبع خطوات صوريا ليست مسألة سهلة. خاصة انني كنت أخشى أن ألفت الانتباه إليها، والى عائلتها، وأن أوقظ غضب أشقائها، والإساءة إلى مستقبلها في ليبيا. إذن يجب أن تبقى قصتها سرّية.
شهادة حياة.. وعادل
وحدها حياة، قريبتها التونسية وصديقتها، كانت تستقبلني بترحاب. وكانت تحنو على صوريا وتشهد على محاولاتها الهادفة للهروب من وطأة ضغط العائلة.
أما الفتيات اللاتي عشن مع صوريا في باب العزيزية أو التقت بهن هناك فقد رفضن لقائي.
أمل (الأولى) تزوجت وتوسلت أن ننساها. أمل.ج. (الثانية) أصبحت مدمنة على الكحول وتعيش على ذكريات الحنين للقذافي وتخشى أن تشي صوريا بها.
سائق واحد وسيدتان كانوا في بروتوكول القذافي تذكروا صوريا. فلم يكن يسمح إلا للقلة بالنزول إلى الطابق الواقع تحت الأرض في منزل القذافي. في باريس ساعدني عادل، صديق صوريا التونسي، على فهم فشل تجربتها الفرنسية. تحدث إليّ عن صوريا بحنين وعطف: «لقد وصلت الى فرنسا محطمة، مدمرة. لم تكن لديها أي تجربة مهنية، لم يكن عندها أي فكرة عن الانضباط بالمواعيد. ولم تكن لديها أي تجربة في الحياة الاجتماعية، كانت كفتاة صغيرة لم تتعلم الحياة، أو كعصفور صغير تعلم الطيران، ولكنه في كل مرة كان يصطدم بزجاج الغرفة عندما يحاول الخروج منها، اهتم بها بقدر استطاعته».
استقبلها في بيته عندما لاحظ أنه لم يعد بمقدورها البقاء عند وردة، حاول أن يساعدها في العثور على عمل- بما في ذلك التدرب في صالون حلاقة نسائية، ولكن للأسف صوريا لم تصمد لأنها لا تتكلم اللغة الفرنسية. اتصل بإحدى المحاميات لكي تحصل على إقامة، كان يسد احتياجاتها اليومية لعدة أشهر. كان الأمر مرعباً عندما يراها تكافح وتفشل دائماً. «خدعتها الوعود الكذب، استغلها رجال لا يفكرون إلا باستغلالها جسديا. خطأ ثريا الأول هو أنها لم تجبر نفسها على تعلم اللغة الفرنسية مباشرة، ثم العلاقات التي أقامتها. وردة وغيرها من الذين التقت بهم في مقهر ماركيز، لأنه من السهل جداً العيش في وسط يتكلم اللغة العربية، ولكن هذا يمنع كل اندماج في المجتمع الفرنسي. كل إمكانية للانخراط فيه. إجراء دورات تدريبية تأهيلية، العثور على عمل. وكان نفس ثريا قصيرا، ونمط حياتها لا يساعدها، فهي غير قادرة على النوم قبل الساعة الرابعة صباحاً، ولا تستيقظ قبل الساعة الحادية عشرة. غير قادرة على التأقلم مع النظام والانضباط، ولا تتحمل أي أمر، من أي كان، وكأنه بعد القذافي لم يعد يحق لأي شخص أن يمارس عليها أي سلطة».
عادل استقبل ثريا كأخته الصغرى، علماً أنه كان مُغرماً بها، «ومن لم يكن يقع في حبها. عندما كانت ترقص في المركز، كانت بقية الفتيات يغرن منها».
كانت تقضي أوقاتها في النهار تدخن، وتتحدث على الهاتف، تشاهد التلفزيون، وتبكي أحياناً بسبب الذكريات والقلق من المستقبل. كانت تقول كل شيء لعادل، وحتى عن القذافي، وكانت تتحدث عنه بخليط من الحقد والغضب والاحترام، وكانت تحتج بشدة عندما يثير المسألة الأخيرة معها. وليس مستغربا أن تختلط مشاعر الاحترام بلفظه، وبالمشاعر تجاه الرجل الذي كان يتحكم بمصيرها.
«كنت أعرف أنها كانت تريد أن أخصص لها المزيد من الوقت، وأن أتنزه معها خلال النهار، وأن أتأقلم مع نمط حياتها بعيداً عن ضغوط الحياة والعمل، ولكن ليس بمقدوري أن ألبي رغباتها، لأنني كنت أعمل طيلة النهار كالمجنون، وهي لم تكن تستوعب أنه ليس من السهل على المهاجر النجاح في فرنسا من دون ذلك. من دون العمل، لم تكن جاهزة وكان التعايش بيننا صعباً في النهاية».
لم يتخل عنها عادل عندما عملت في المقهى الأول، ولا في الثاني. كان يقوم بزيارتها ويتبضع قبل ذلك. كان يرى أنها غير قادرة على الاكتفاء بما تكسبه.
عندما اتصلت به لتقول له، إنها قررت العودة إلى ليبيا لم يصدقها. قال لها إن هذا غير ممكن. اتصلت به بعد ساعات عدة من مطار طرابلس.
فقال لها «لقد ارتكبت يا صوريا خطأ فادحاً». فردت «لم يكن لدي خيار آخر»... «تحملي النتائج إذن».
القذافي كان يستغل اسم ابنته عائشة لجذب الشابات إلى مقره
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
بعد قصة صوريا تبين ان هناك قصصاً عديدة تشبهها وان فتيات كثيرات كن ضحايا للعقيد.
وفي الجزء الثاني من كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي الكاتبة الحقائق التي استقتها لتؤكد صحة ما سمعته من صوريا وعنها.
حرصت أن أروي قصصاً أخرى غير قصة صوريا، وأن أتعرف إلى المآسي التي عاشتها شابات أخريات غير حياتهن لقاؤهن بالقذافي وقلبها إلى بؤس، حتى أثبت حقيقة ذلك النظام الذي تورط فيه الكثيرون ولفترة طويلة.
الكثيرات من هؤلاء فررن من ليبيا، خوفاً من أن يتعرضن للاعتقال بتهمة التواطؤ مع العقيد، لأنهن كن يسكن في باب العزيزية، وارتدين الزي العسكري، واستفدن، بطريقة أو بأخرى، من الامتيازات الممنوحة لزمرة القذافي.. والأخطر أنهن كن يحملن ما كان يعرف بـ «هوية بنات القذافي».
ظواهر الأمور كلها ضدهن، ولا أظن أن واحدة منهن كانت ستغامر وتقول للثوار إنها لم تختر نمط الحياة ذاك بمفردها. أي رحمة كان يمكنهن انتظارها من الذين يدعوهن بـ (...) القذافي. ولم يكن يتخيل أي مصير سوى السجن، الكثيرات تحاولن اليوم العيش في تونس، مصر، أو بيروت، وتمارسن غالباً المهنة ذاتها التي فرضها عليهن القذافي. وهناك الكثيرات من حالفهن الحظ للانخراط مجدداً في المجتمع الليبي، ولكن هذا كان قبل الثورة على النظام. وبين هؤلاء من تم تزويجهن بالقوة من قبل القذافي، لبعض حراسه، بعد أن سئم منهن. والبعض اخترن أن يخضعن لعمليات جراحية خوفاً من الفضيحة وحتى لا يقعن فريسة الانتحار الاجتماعية أو يتعرضن لعمليات انتقام من رجال العائلة باسم «غسل العار».
القذافي ترك فرائسه فرائس في مجتمعهن خصوصاً، وكل منهن اليوم عرضة لأن تكون ضحية ثأر من أهالي الشهداء ومن أنصار القذافي في آن.
امرأة واحدة فقط تحدثت علناً في ربيع عام 2011 وسط المعارك، وهي من حارسات القذافي السابقات، عمرها 52 عاماً. ظهرت على شاشة التلفزة في بنغازي وكانت ترتدي نظارات شمسية كبيرة وتتدثر بعلم الثورة. تحدثت عن المصائب التي حلت بالعديد من النساء مثلها في السبعينات من القرن الماضي، عندما التحقن بالقوات الثورية. صدقت مثل كثيرات غيرها أقوال القائد حول تحرر المرأة الليبية، وإذا بالعقيد يطحنهن ويعتدي عليهن لسنوات طويلة، كانت تصرخ أكثر مما كانت تتحدث.
كانت تدعو أنصار القذافي لفتح عيونهم، والعرب والعالم للثأر لنساء مُنتهكات العرض.
في عز المعارك شكلت مداخلتها التلفزيونية صدمة للناس. وأخيراً تجرأ أحد ليكشف عن حقيقة ما عانت منه «مقاتلات القذافي». امرأة تجرأت ولفظت كلمة «اغتصاب» واتهمت العقيد بها. سقط القناع، وانتهى الرياء، قالتها واختفت.
لم أتمكن من الاتصال بها إلا بعد عام، في ربيع عام 2012، وكانت شعلة الثورة تعتمر في نفسها. وأطلعتني على نبذة من حياتها التي أفسدها القذافي.
قصص عبر وسيط
هناك مجموعة من النساء المرعوبات وافقن على أن يسردن لي حقائقهن. التقيت ببعضهن، في جلسات خاطفة، والبعض الآخر لم يتجرأ على مقابتلي، فاخبرن قصصهن لامرأة ليبية ساعدتني في مشروعي هذا، ووافقن على أن أنشر حكاياتهن شرط ألا أذكر أسماءهن أو أي تفاصيل يمكن أن تسمح بالكشف عن هوياتهن. وقالت لي إحداهن: «سأنتحر إذا اكتشف زوجي أو أولادي أي شيء عن تاريخي». وأنا واثقة بأنها من الممكن أن تفعل ذلك.
إليكم إذن قصصهن كما نُقلت لي.
«ليبيا»
المرأة المدثرة التي ظهرت على شاشة تلفزيون بنغازي، اقترحت عليّ أن أسميها «ليبيا»، وهو بالطبع ليس اسمها الحقيقي. وأرادت من خلال شهادتها أن تعبّر عن الآمال بليبيا الجديدة، بعد التخلص من نير القذافي. حيث أمضت نحو ثلاثة عقود بالقرب من الدكتاتور. أي عاشت حياتها في ظله. هذه الحياة التي أفسدها العقيد. كانت لا تزال في الثانوية العامة عندما اتصلت بها مناضلات شابات يكبرنها سناً وطلبن منها الانضمام إلى اللجنة الثورية في بنغازي. كان ذك في نهاية السبعينات، وبالتزامن مع صدور الجزء الثالث من الكتاب الأخضر الذي كان يدعو فيه القذافي الفتيات إلى التحرر من القيود، وإلى خدمة الثورة وإلى أن يصبحن أفضل حلفاء قائدها. كان يقنعهن بأن الانضمام اللجان الثورية يعتبر امتيازاً، ومفتاح الوصول إلى المواقع القيادية والنخبة.
«ليبيا» فرحت بالطلب، رغم أن أهلها عارضوا وأعربوا عن مخاوفهم وقلقهم. على أي حال لم يكن لديهم أي خيار. كان يمكن أن يقودهم رفضهم إلى السجن. وكان القذافي يأتي إلى الاجتماعات لرفع معنويات الشابات وتشجيعهن. الذكرى العاشرة لثورته كانت تقترب. وكان يريد أن يجعل منها حدثاً ضخماً يشارك فيه العديد من قادة الدول في بنغازي. النساء المسلحات يثبتن أنهن رأس حربة أجمل الثورات.
الفاتح من سبتمبر
تركت «ليبيا» المدرسة، والتحقت باللجان الثورية تتدرب على النظام المرصوص والاستعراض العسكري. تتعلم إطلاق القذائف الصاروخية. كانت تقول لنفسها إن القذافي مُحق بمراهنته على النساء، وبتعليمهن تحطيم القيود والمحرمات، حتى لو أدى ذلك إلى خلافات مع الأهل. وعشية العرض العسكري في الفاتح من سبتمبر عام 1979، الذي ستنقله التلفزيونات أُحيطت علماً بأن القائد يريد استقبال المشاركات في العرض العسكري، ليوجه التحية لهن.
توجهت عشر منهن إلى مقر إقامة العقيد، حيث استقبلهن وعاد إلى جناحه. المناضلات اللاتي رافقن مجموعة الفتيات طلبن من إحداهن، وعمرها 15 سنة، الاتحاق بالقائد. دخلت الفتاة إلى جناحه مملوءة بالفرح وخرجت حزينة، و(..)...الجميع صُدم من المشهد.
عادت الحياة إلى مجاريها، ورجعت «ليبيا» لتعيش لدى والديها، ولكنها لم تعد مجتهدة في المدرسة. كانت ترى رفيقاتها الشابات يدعون الواحدة تلو الأخرى للالتحاق بالقائد في طرابلس وسرت وبنغازي ومصراتة. كان سائق يأتي مباشرة لنقلهن. وأحياناً كن يتنقلن بالطائرة. وما كن يخبرن عنه لدى عودتهن كان كافياً لجعل «ليبيا» محبطة وخائفة.
وجاء دورها بعد ستة أشهر، وكان ذلك خلال زيارة العقيد إلى بنغازي. جاءت مجموعة من الناشطات ذات مساء لمرافقتها إلى مقر إقامته، أجبرنها على التعري ودفعنها إلى غرفته، بالرغم من بكائها وتوسلها: «ارحمني إن أمي ستقتلني!». لكنه اعتدى عليها من دون أن يقول لها أي كلمة، ثم طردها من الغرفة وهو يضربها على (..) ويقول «رائعة يا فتاة»!
العار إلى آخر العمر
«ليبيا» لم تخبر أهلها بشيء عما حدث، ولم تحتج لدى اللجنة الثورية حيث كانت التهديدات بالسجن والموت يومياً بإلقاء المخربين الذين ينتقدون القائد في القبر.
بدأت تنهار وتثير قلق أهلها، الذين ظنوا أنها مغرمة. فقرروا عقد قرانها من دون أن تعرف. وعندما اكتشف الزوج حقيقتها، طلب الطلاق، كانت تشعر بالعار ولم تعد تجرؤ على النظر إلى أي شخص كان، كانت تموت من الرعب بمجرد أن تفكر بأنها ستتصل بأهلها وتقول لهم لقد طلقني زوجي، اتصلت بباب العزيزية، فشجعتها المناضلات على قطع العلاقة مع عائلتها «الرجعية»، والتوجه فوراً إلى طرابلس.
«حريم كبير»
وصلت إلى مقر باب العزيزية، الذي تصفه «ليبيا» بـ «حريم كبير تعيش فيه مجموعة من النساء وفقاً لأهواء القذافي ورغباته وشهواته، أكثريتهن قُدمن له عبر اللجان الثورية، وبعد الاعتداء عليهن لم يعد لديهن مخرج سوى البقاء بخدمته. وكان العقيد يشجعهن على شرب الكحول وتدخين الحشيش والسجائر ويوفر لهن كل ما يرغبن في هذا المجال. والبرنامج لم يكن يتغير، أكل. نوم. (..). كان يطلب القذافي منا أن نأته بشقيقاتنا وببنات عمنا، وأحياناً ببناتنا. وذات يوم في عام 1994، حذّرتُ امرأة من نوايا القذافي تجاه ابنتيها الجميلتين للغاية، صُدمت المرأة وفاتحت القذافي بالموضوع».
وجهت إلى «ليبيا» تهمة خرق قواعد الصمت، وكان يمكن أن تدفع حياتها ثمناً لذلك، فقررت الهروب إلى طُبرق على متن طائرة حربية ومن هناك إلى مصر، حيث تم توقيفها لأنها لم يكن معها تأشيرة دخول. تمكن معارضون ليبيون من نقلها إلى العراق، ومنه هربت إلى اليونان، لكن مخابرات القذافي بحثت عنها، وقبضت عليها وأودعت السجن 18 شهراً، ثم أعيدت إلى باب العزيزية، حيث بقيت حتى اندلاع الثورة «عبدة هرمة إلى جانب الشابات»، كما تصف نفسها.
خديجة
خديجة امرأة شابة غرر بها وأسودت الحياة في عينيها، تعي جيداً أنها اليوم في خطر، وقد تلقت الكثير من التهديدات. التقيت بها في بداية عام 2012، كان مجهولون قد اختطفوها واعتدوا عليها كتحذير لما يمكن أن يصيبها. شفتاها الجميلتان تمتصان السجائر الواحدة تلو الأخرى. تتكلم من دون رغبة. تأكل أظافرها. إنها في السابعة والعشرين من عمرها وليس لديها أي فكرة عما يمكن لليبيا الجديدة أن تقدمه لها. فقد تغيرت ومصيرها في اليوم الذي ألتقت فيه القذافي. كان هذا في عام 2000، عندما كانت طالبة في السنة الأولى في كلية الحقوق في طرابلس، وبسبب خلاف مع المديرة طُردت من الجامعة. في أحد الأيام، وبينما كانت في صالون للتجميل، روت مشكلتها لرفيقة لها، فسمعتها إحدى الزبونات ونصحتها برفع شكواها إلى «الزعيم الرؤوف».
الزبونة قادت خديجة إلى باب العزيزية، حيث استقبلها سعد الفلاح وقادها مباشرة إلى المختبر لإجراء فحوصات الدم. وطلب منها أن تعود في اليوم التالي. كان ذلك غريباً بالنسبة لخديجة، ولكنها صدقت لأنها تريد أن تحل مشكلة الجامعة. وفي اليوم التالي، قادتها بركة (إحدى الحارسات) مباشرة إلى غرفة العقيد. كان عدد كبير من الأشخاص يلتفون حوله. وما إن غادر هؤلاء الغرفة حتى بدأ يراودها عن نفسها بإلحاح. رفضت عرضه فاعتدى عليها من دون أي كلمة.
الابتزاز
وعندما خرجت من الغرفة مصدومة أعطاها سعد الفلاح مغلفاً فيه ألف دينار. وقال لها: «إنك محظوظة لأنه اختارك. إننا نريد أن تعملي معنا». لم تحاول معرفة طبيعة العمل. هربت من باب العزيزية، وغادرت طرابلس ولجأت إلى شقيقتها في جنوب البلاد. تخلت عن الأمل في العودة إلى الجامعة. لكن سرعان ما تعرضت حياة العائلة لهزة كبيرة. فشقيقها الذي كان يدرس في مالطا، لفقت له تهمة حيازة مخدرات ووضع في السجن. عادت الزبونة نفسها لتقنع خديجة بأن وحده القائد قادر على إنقاذ شقيقها من حبل المشنقة. وهكذا انصاعت لعملية الابتزاز التي لم يخجل سعد الفلاح من من الاعتراف بها، عندما قال لها «بمقدورنا تخفيف الحكم من الإعدام إلى السجن 15 عاماً، والمسألة تتعلق بك وبانضمامك إلى الحرس الثوري»!
انحنت أمام رغبات القذافي، وتم نقلها إلى حيث كانت تقيم صوريا. وكان يتم استدعاؤها في أي لحظة في الليل كما في النهار. وسرعان ما كلفت بمهمة إغراء عدد من كبار شخصيات النظام المقربين من القائد، ومنهم سفير ليبيا في غانا. تم وضع كاميرات في شقة فاخرة وكان عليها جذب القادة العسكريين والوزراء وحتى مسؤول جهاز الاستخبارات وابن عم القذافي. كانت مهمتها تزويد القذافي بأدوات لابتزازهم.
وذات يوم، فرض عليها الزواج من أحد حراس القذافي، فكرت في أن هذا الزواج سيعيد احترام المجمع لها. ذهبت إلى تونس وأجرت عملية استعادة عذريتها. وليلة الدخلة وبينما كان المدعوون يتوافدون رن الهاتف «القائد يريد أن تذهب خديجة إلى باب العزيزية فوراً». وهكذا اعتدى عليها هذه المرة فقط ليقول للعريس إنه «السيد»، وإن الزواج «لن يغير شيئاً»!
في فبراير 2011، أراد سعد الفلاح منها عقد مؤتمر صحفي تعلن فيه أن المتمردين اعتدوا عليها، خديجة تنتمي إلى قبيلة الورفلة القوية، ومثل هكذا إعلان ينال من شرف القبيلة، وسيتسبب في موجة من الثأر. رفضت، فضربها واعتدى عليها ثم أحرق جسدها بأعقاب السجائر. أحد الحراس كسر رجلها. خلال الليل ساعدها الثوار على الفرار إلى تونس، حيث بقيت طيلة فترة الثورة.
ليلى
ليلى اليوم في الأربعين من العمر، وهي متزوجة من ابن عمها وتربي أولادها. لكنها تخشى أن يكتشف السر الذي دمر شبابها، روت قصتها وهي تبكي، فهي تبوح بها للمرة الأولى.
عندما كانت مراهقة كانت وصديقة طفولتها، التي هي، أيضاً، ابنة شقيق أحد مساعدي القذافي، تنشطان معاً في إحدى اللجان الثورية، وذات يوم فكرت صديقتها بتنظيم زيارة لمجموعة من بنات المدرسة إلى باب العزيزية، تحمست ليلى للفكرة كثيراً.
استقبلهن العقيد في الطابق الأول من منزله، وكان لطيفاً جداً معهن، يصغي إليهن يشارك في النقاش، وكان يهتم بكل واحدة منهن يسألها عن مسقط رأسها وعن عائلتها وقبيلتها، كان يضحك كثيراً ووقعت الشابات في سحره.
بعد ذلك بعدة أيام، جاءت موظفة في المدرسة إلى صف ليلى، وطلبت منها التوجه إلى مكتب المديرة التي كان مذهولة، وأبلغتها أن سيارة من باب العزيزية تنتظرها أمام باب المدرسة. انتظرت في صالون القذافي قليلاً ثم قادها أحمد رمضان سكرتير القذافي الخاص إلى مكتب القائد. بدأ الأخير يكيل لها المديح حول جمالها وجمال جسمها وراح يداعبه. صدمت ليلى عندما مد القذافي يده إلى (..)، صرخت، وهربت، كان رمضان ينتظرها في الجهة الثانية من الباب، سألها بصوت هادئ «هل انتهيت؟». كانت ليلى تبكي، فقال لها يجب أن تودعي القائد، دفعها إلى الغرفة مرة ثانية..
أعادها السائق الى المدرسة، ولاحظت أن الجميع راح يعاملها بكثير من الاحترام.
في المساء، اتصل بها رمضان، وقال لها إن القائد منحك شرفاً كبيراً باختيارك، كان بكاؤك سخيفاً. وبعد أسبوع جاء أعضاء من اللجان الثورية وحطموا محتويات المنزل، بحجة البحث عن وثائق تثبت تورط والدها في مؤامرة ضد العقيد. تعرض جميع سكان المنول للضرب والإهانة. وفي اليوم التالي اتصل رمضان ليهدد ليلى «هل شاهدت ما يمكن أن يحصل لك ولعائلتك؟ ولكن لا تخافي لأننا سنتولى حمايتك. لانك تعملين للقائد!».
علمت ليلى أن الفخ أطبق عليها. خرجت من المنزل لتجد نفسها في باب العزيزية أمام القذافي الذي قال لها «إن الأمور قد تسوء أكثر.. وهي تتعلق بك وحدك»!
ـ ماذا يجب ان أفعل؟
ـ كوني مطيعة واجعليني أشعر أنني (...)!
عاد سائق باب العزيزية لأصحابها مرة ثانية. تركها رمضان تنتظر في صالون لساعات قبل أن يقودها إلى غرفة المكتبة. وصل القذافي، وقال لها «اخترت لك هذا الديكور لأنني أحب الطلاب والكتب». هجم عليها، رماها على الأرض واعتدى عليها. فقدت وعيها. وعندما استيقظت كان جالساً خلف مكتبه، ينفجر بالضحك، وقال «ستحبين هذا لاحقاً».
بقيت هكذا 3 سنوات، وكان لا ينفك يردد على مسمعها «أنا سيد ليبيا. كل الليبيين ملكي. وأنت أيضاً».
فشلت في المدرسة، وبدأت المشكلات مع الأهل لأنها لم تستطع تبرير غيابها. حتى أنها أُجبرت على السفر إلى مالطا للتخلص من الجنين.. ومنذ ذلك الحين لم يتصل بها أحد من باب العزيزية.
امرأة الجنرال وابنته
القصة التالية رواها لي رئيس تحرير مجلة ليبيا الجديدة محمود مصراتي، نقلاً عن ابنة جنرال في الجيش الليبي.
ذات يوم، جاءت ثلاث من حارسات القذافي إلى منزل الجنرال، ونقلن دعوة من صفية فركاش زوجة القائد لحفل استقبال نسائي. شك الجنرال في الأمر، فهو لم يسمع بهذا الحفل، ولا يحب أن تذهب زوجته إلى باب العزيزية، خصوصاً أنها كانت رائعة الجمال. إحدى الحارسات اتصلت برقم ومدت هاتفها الخليوي إلى الجنرال، كانت مبروكة على الخط «القائد يمنحك شرفاً عظيماً، لأنه يعرف أنك وفي له، ويعتبرك ثورياً حقيقياً».
الجنرال ترك زوجته تذهب، وعندما عادت كانت غريبة الأطوار. بعد ذلك توالت الدعوات، خصوصاً بغياب الجنرال. وذات يوم، عادت الزوجة وفي جيبها مفاتيح شقة فاخرة، قالت إن صديقتها زوجة العقيد أهدتها لها. انتقلت الأسرة إلى الشقة الجديدة وتغيرت ظروف حياتها.
ذات يوم، زارتها مبروكة ومعها دعوة هذه المرة من عائشة (ابنة القذافي) إلى ابنة الجنرال. شعرت الزوجة بالهلع، بينما كادت ابنتها تطير من الفرح.
- «الحفل هذا المساء»، قالت مبروكة «هذه حقيبة مملوءة بالفساتين وكل ما تحتاج إليه الشابة لتكون جاهزة». راقبت الزوجة ابنتها وهي تخرج إلى نهايتها، عندها اضطرت أن تخبر الزوج (الجنرال) الذي أصيب بذبحة قلبية مميتة جراء ما سمعه.
في باب العزيزية، كان العقيد بانتظار الابنة، ورد على استفسارها بالقول «أنا عائشة».
عندما كانت مبروكة تتصل لتستدعي الابنة، كانت تأمر الوالدة بإعدادها وفقاً لذوق القذافي «لا تنسي أن تغطيها بالحنة!».
يصعب تخيل ما تعرضت إليه الفتيات، ليس فقط من الناحية النفسية والجسدية، وإنما من ناحية المخاطر التي تتهددهن في مجتمعاتهن، خصوصاً هذه الأيام. فليبيا تعمها الفوضى، والأصولية تسيطر بقوة السلاح، الله يكون في عون جميع الليبيين، وفي عون ضحايا القذافي خصوصاً.
عرض عسكري بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة الفاتح
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
بعد قصة صوريا تبين ان هناك قصصاً عديدة تشبهها وان فتيات كثيرات كن ضحايا للعقيد.
وفي الجزء الثاني من كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي الكاتبة الحقائق التي استقتها لتؤكد صحة ما سمعته من صوريا وعنها.
حارسات القذافي، اللاتي أطلقت الصحافة العالمية عليهن لقب «أمازون»، ويعني محاربات خياليات أو أسطوريات، قد ساهمن كثيراً في أسطورة القذافي وفي مجده الإعلامي. فمن دون شك لعبن دوراً في التأثير على النفس لا يقل شأناً عن شخصية القذافي ذاتها. بنظاراته الشمسية على غرار مغني الروك وخصلات شعره الأسود ووجهه المنتفخ الذي كانت مستحضرات التجميل تخفي آثار الكوكايين.
كن يتبعنه في كل مكان: ملابسهن العسكرية لم تكن لتخفي مفاتنهن، شعرهن يتدلى على أكتافهن أو يخفينه تحت القبعات العسكرية على أنواعها، وغالباً ما كن مُتبرجات ويضعن الأقراط في آذانهن.
كانت محاربات القذافي بمنزلة رايته. يجذبن المصورين ويعملن على إثارة إعجاب قادة الدول لدى استقبالهن لهم في باب العزيزية أو لدى زيارات القذافي إلى الخارج.
كان يريد أن يظهر بأنه مختلف عن الآخرين، فريد من نوعه، لا يتحمل أي منافسة أو مقارنة. كان يمنع ظهور أي اسم في ليبيا غير اسمه حتى ولو كان كاتباً أو موسيقياً أو رياضياً. فممنوع الحديث عن أسماء لاعبي كرة القدم، يتم الحديث عن أرقامهم فقط. وكان طموحه أن يشغل العالم من خلال تقديم نفسه كرئيس الدولة الوحيد في العالم الذي يتألف حرسه الشخصي من السيدات.
كان القذافي يتعمد في خطاباته أن يظهر بأنه مُحرر النساء، ويخاطب الغرب والعرب بالقول «العقيد معمر القذافي صديق النساء».
وسبق له أن طرح أفكاره المتعلقة بالمرأة في الجزء الثالث من كتابه الأخضر: «المساواة بين الجنسين والتمييز غير مُبرر، حق المرأة بالعمل شرط ان تحترم أنوثتها». ولكنه سرعان ما غير رأيه بالنسبة للنقطة الأخيرة. فقد أنشأ الأكاديمية العسكرية للنساء، ولدى تخريج الدفعة الأولى ألقى خطاباً حماسيا مُلهباً، قال فيه: «إن هذه المدرسة الوحيدة في العالم، الفريدة من نوعها، يجب أن تكون مصدر فخر لليبيا». وطلب من الشابات أن يتحلين بالجرأة والتسجيل في الأكاديمية بأعداد كبيرة لتأكيد التحرر.
وفي الفاتح من سبتمبر 1981 دعا إلى ثورة تحرر نساء الأمة العربية. لأن من شأن هذه الثورة إحداث انفجار يهز كل المنطقة العربية ويدفع بسجينات القصور والأسواق إلى الثورة على جلاديهم. لتبدأ نهاية عهد الحريم والعبودية.
كان الغرب يحلل خطاب القذافي على أن العقيد يتبنى قضايا المرأة، ومن هنا تمسكه بحارساته. يا لها من مهزلة. و«أمازون» أو محاربات القذافي، يرضين غروره كرجل قادر على جذب النساء وسحرهن. وهن يقدمن لوحة ليست ببعيدة عن الحريم في قصور الشرق، وذلك على نقيض الرجل المدافع عن حرية المرأة والداعي الى تحررها. ويعزز هذا التناقض غياب زوجته عن المناسبات الرسمية.
محاربات القذافي!
ولكن من هن محاربات القذافي فعليا؟! هل كن تلك الشابات اللواتي كنا نشاهدهن باللباس العسكري؟ ألم يكن القذافي- وبعد خطفهن- يجبرهن على ارتداء ذلك الزي في أوقات معينة ولأهداف محددة وإعطائهن التعليمات بأن يقلدن الحراس الحقيقيين؟ يا لها من مهزلة.
إذ يكفي أن نلاحظ تصرفات حارسات القذافي عندما زار باريس في عام 2007، ورافقهن على متن المراكب السياحية على نهر السين في نزهة للتعرف الى المواقع الأثرية، كن على سطح كابينة مقصورة المركب، ولكن ليس للسهر على أمر قائدهن، وإنما لالتقاط الصور التذكارية قبل أن يتوجهن الى جادة الشانزليزيه للتبضع، وأيضا في شارع نوبور سان هونوريه الفخم. تلك الشابات لم يتلقين دورات تدريبية لحماية الشخصيات، ولم يتخرجن من الأكاديمية العسكرية. نعم، كن عشيقات القذافي.
«كان منظرهن يثير اشمئزازي»، قال لي سيد قذاف الدم، ابن عم العقيد وقائد عسكري في سجنه في مصراته.
التحقيق عن محاربات القذافي في طرابلس كان صعبا، لم يوافق أحد أن يحدثني عنهن، تبخرن مع القائد. والحديث عنهن يزعج ويثير الاحتقار.
في وزارة الدفاع الليبية قال لي عثمان جويلي، وزير الدفاع الجديد، «إن وجودهن قد لطخ صورة الجيش الليبي، لقد كن يشكلن وصمة عار وصفعة للعسكريين الليبيين. كان القذافي يبرزهن لجذب الأضواء إليه ولتلميع صورته، وكان في الوقت نفسه يُدمر الجيش الليبي. وكانت هذه المسألة لا تطاق. كنت نقيبا في الجيش ووصلت بي الأمور الى درجة أنني كرهت المؤسسة العسكرية وقدمت استقالتي لدى أول فرصة أتيحت لي. كيف يمكن أخذ تلك النساء على محمل الجد؟ كان يلقي بهن في الوحل. من كان يتخيل لحظة واحدة أنه يترك حمايته لهن؟ استخدمهن للاستعراض، للتسلية كيف يمكنني أن أعبر. من دون أن يكون كلامي بذيئاً، وكان الأمر مقرفاً».
ردة الفعل ذاتها لمستها لدى العقيد السابق رمضان علي زرموح رئيس المجلس العسكري في مصراته، الذي كان في طليعة المستقيلين من الجيش، وهو لا يكتفي من السخرية من حارسات القذافي، ولكن من كل نساء الجيش: «مسكينات، كن ينخرطن في صفوفنا بمعنويات مرتفعة للغاية، بفضل خطابات القذافي، التي كان يستخدمها لذر الرماد في عيون العالم، ولإرضاء رغباته الشخصية، لكن مستوى التدريب كان متدنيا جداً والتأهيل العسكري أيضاً. كنا ننظر إليهن كضحايا. لم يكن وجودهن لحمايته، لذا كان يضع رجاله خلفهن».
السماح للنساء بالالتحاق بالجيش لم يكن يحظى بدعم القيادة، ولا بالمجتمع التقليدي الليبي. ويجب الإقرار أن القذافي قد حرق المراحل في بلد كانت فيه المرأة مجرد زوجة وأم، وفي الغالب ربة منزل.
«الراهبات الثوريات»
في عام 1975 أطلق القذافي مفهوم الشعب المسلح. وفي عام 1978 أصدر قانوناً حول إلزامية التدريب العسكري للجميع، خاصة في الثانويات، للشباب والشابات على حد سواء، ما أحدث ثورة، لأن الفتيات بتن مُلزمات بارتداء الملابس العسكرية، ويتلقين تدريبات مدرسيهن من الرجال. «ارتداء المرأة لملابس القتال أهم من فساتين الحرير التي ترتديها البرجوازيات الجاهلات والسطحيات»، قال القائد، طارحاً فكرة «الراهبات الثوريات» اللاتي عليهن التخلي عن الزواج، وتكريس حياتهن للدفاع عن الثورة فقط، أي خدمة القائد.
وكان القذافي يأخذ الراهبات المسيحيات كمثال، وينصح الليبيات بالإقتداء بهن: «الراهبات يرتدين اللون الأبيض رمز الطهارة والنقاوة، ويرصدن حياتهن لمثالهن الأعلى المسيح. وانتن تبقين متفرجات؟ هل الراهبات المسيحيات أكبر من الأمة العربية؟ على الراهبات الثوريات الطاهرات النقيات أن يمتنعن عن الزواج، وأن يرتقين الى ما هو أسمى من الأشخاص العاديين ».
لم ألتق براهبات ثوريات. في زمن القذافي كن ينخرطن في المجتمع، ولا أحد يعرف كم كان عددهن. واليوم لا أحد يعلن عن انتمائه إليهن، ولكني أجريت مقابلتين مع امرأتين برتبة عقيد، كن قد انخرطن باكرا في الجيش:
الأولى سرعان ما خاب أملها، وتؤكد أنها كانت تأمل دائما بتنحي القذافي، واستعادة بعد وفاته بعضاً من الاهتمام بمهنتها. والثانية تنتظر في السجن محاكمتها بتهم ارتكاب جرائم قتل خلال الثورة، وهي تتأرجح بين الحنين والغضب.
زمن الحقيقة
العقيد فاطمة صدقت رسالة القذافي وانخرطت في الجيش، وشكلت جزءا من مهزلة التاريخ. فالليبيون، وبالرغم من آلة الدعاية القذافية، لم يحبذوا فكرة انخراط المرأة في الجيش. ومنذ ثورة 2011 يعبرون عن موقفهم هذا بوضوح، وعن رفضهم لوجود النساء في القوات المسلحة. المسألة ليست سهلة إذن، خصوصا بالنسبة للمسكينات اللاتي خدمن في عهد القذافي.
العقيد فاطمة ورغم كرهها للقذافي اليوم فإنها ترفض الفكرة القائلة إنه يجب إبعاد النساء عن الجيش، وأن يتم استغلال مبالغة العقيد ونفاقه للقول ان النساء غير مؤهلات، لأن هذا «غير عادل، ومهين».
ذات مساء زارتني العقيد فاطمة لرؤيتي في غرفتي في الفندق في طرابلس، كانت متوترة ـ وقالت لي: «بعد زمن الدعاية جاء زمن قول الحقائق».
وتابعت «كانت لدي فكرة رائعة عن السلك العسكري، تكونت لدي من المحاضرات التي كان ضباط الجيش يلقونها علينا في الثانويات، حتى أنني بت مقتنعة أن لا مستقبل لي خارج المؤسسة العسكرية: الدفاع عن الوطن، الرجال والنساء متساوون، مهمة نبيلة.. كان الضباط يحدثوننا عن الثورة الجزائرية ودور الشابات فيها مثل جميلة بوحيرد، التي كانت ضابط ارتباط في جبهة التحرير، وغامرت بحياتها لوضع العبوات والمتفجرات. وغيرها من المقاتلات اللاتي ناضلن لتحرير بلدهن. كان الأمر بطوليا. وكانت الأكاديمية العسكرية للنساء قد بدأت تأخذ شهرة وأهمية كبيرتين: تمارين رياضية، لياقة بدنية، التدرب على استخدام الأسلحة، المحاضرات والامتحانات. بذلت أقصى ما عندي، كنت مقتنعة بشعار الشعب المسلح، رغم غضب والداي مني. المجتمع الليبي لم يكن جاهزا لتقبل هذا الأمر، بينما نحن الشابات كنا متلهفات لذلك».
وجاءت الخدمة العسكرية الإجبارية. وكان على كل مواطن ليبي أن يخصص عدة أسابيع في السنة للتدرّب.
وكان على الجميع المشاركة في هذا المشروع، وكان كل ليبي لديه بطاقة الاحتياط. ولكن فاطمة كانت تجهل أن هناك بطاقات مزورة تسمح للأغنياء بتجنب الخدمة العسكرية.
لكن بعد شهر واحد فقط من التخرج خاب أمل فاطمة. «لقد ضحك علينا. الوعود لم تكن سوى أكاذيب. القذافي كان يحتقر جيشه ولم يكن ينتظر شيئاً من النساء سوى صورة ليبني عليها أسطورة، وتكون له مصدراً لتوريد العشيقات».
عُينت فاطمة مسؤولة عن المدرسة العسكرية المجاورة لباب العزيزية. وكانت مسؤولة رسمياً عن التدريب العسكري اليومي. ولكن بنات زمرة القذافي كن يتكبرن عليها. ولم يكن لديها أي سلطة. بعد ذلك نقلت فاطمة إلى مقر هيئة الأركان العامة. وكان سائق يأتي كل صباح ليقلها إلى مكتبها. ولم يكن لها أي دور. كان راتبها زهيدا. ورويدا رويدا بدأ الندم يستفحل بين الفتيات من دورتها العسكرية. إذن كانت عملية نصب عليهن.
حب الأمة أو الموت
قالت خريجات المدرسة الحربية لبعضهن بعضا أنهن قد أضعن حياتهن. بدأت فاطمة تنسى رقمها العسكري، توقفت عن ارتداء زيها العسكري، أهملت كل ما تعلمته في المدرسة العسكرية، وأهملت أيضا لياقتها البدنية حتى أنها نسيت كيف تفك وتركب الكلاشينكوف. ولو أنها كانت قد اختيرت لتكون من بين حارسات القذافي لكان وضعها تغيّر ولكانت ظروفها أحسن لجهة الراتب والامتيازات والسفر. ولكن معايير اختيار الحارسات كان الطول والجمال، وأن تكون قد لوحظت من مساعدي القذافي، أو من العقيد شخصيا، كما حدث مع سلمى، التي لا يمكن لصوريا أن تنساها.
إن حرس القذافي الشخصي كن عشيقاته. كان يستخدمهن كما يريد ولم تكن لديهن إمكانية المقاومة أو الشكوى. الذكيات منهن استطعن الاستفادة منه والحصول على منازل وسيارات، ولكن لم تكن هناك مقاتلات النخبة.
وكان القذافي يتعمد إدخال نساء سوداوات إلى هذا الجسم العجيب للقول إنه ليس عنصرياً، ويستخدم ذلك في العلاقة مع قادة الدول الأفريقية. حراسه الحقيقيون لا يظهرون في الصور، وهم جميعهم من الرجال ومن مدينة سرت تحديدا.
كانت العقيد فاطمة تنظر بفرح إلى تقدم التمرد ضد القذافي وقد التحقت رسمياً بالثوار في 20 مارس 2011، ووضعت بندقيتها بتصرفهم، وكانت تابعة عسكرياً للكتيبة التي يتولى قيادتها عبد الحكيم بالحاج، قائد المجلس العسكري في طرابلس، ما سمح لها بالإيمان والثقة بمهنتها، وهي تعلم أنه يلزم الكثير في الوقت لإصلاح ما أفسد ولإعطاء الثقة بالنساء العسكريات.
العقيد عائشة
في سجن مدينة الزاوية الصغيرة، على بعد 50 كلم من طرابلس التقيت بالعقيد عائشة عبدالسلام ميلاد، وهي كانت قد رفضت أن تقول لي اسمها في بداية المقابلة، ولكنها غيّرت رأيها في النهاية، وكانت تقول لي إنها تثق بي.
كان لون الزنزانة مطلياً بالأصفر. ولها شباك صغير يطل على ساحة داخلية وفيها فراشات على الأرض وسرير معدني. كما كانت هناك مدفأة كهربائية صغيرة، الإضاءة كانت ضعيفة. ظننت أنه توجد سجينات في الزنزانة الصغيرة. ولكن المرأة الثانية، المنزوية على نفسها ويبدو التعب على وجهها، كانت حارسة الزنزانة. وشرحت لي كيف أنها نامت خمس سنوات في سيارتها، لأن أحداً لم يرد أن يؤجر غرفة لامرأة عزباء وفقيرة، فباتت تفضل أن تتقاسم الغرفة مع سجينتها.
العقيد عائشة كانت تبدو في صحة جيدة: طويلة، ممشوقة القامة، تقاسيم وجهها ناعمة، ترتدي ملابس رياضية أنيقة. وبعد تردد وافقت على أن تخبرني قصة حياتها، ولكنها شددت منذ البداية على أنها عسكرية العقيدة. ولم تنضم إلى زمرة القذافي ولا إلى حارساته.
«كلنا تقريباً اقتحمنا باب الأكاديمية عنوة عن أهالينا، فالشعب المسلح كان يجب أن يكون نصفه من النساء، وإلا فإن هذه النظرية بلا معنى»، قالت لي عائشة مستشهدة بما كان يقوله القذافي ونظريته باخراج الفتيات من المنازل.
تمكنت عائشة من الحصول على شهادة في التمريض بالتوازي مع تخرجها في الأكاديمية العسكرية في عام 1985، وتم نقلها إلى سبها في الجنوب ــ مسقط رأسها ــ لتأهيل فتيات أخريات. ارتقت سلم الترقيات العسكرية بسرعة، وعادت بعد عشرين سنة إلى طرابلس لتلتحق بقيادة الحرس الثوري الخاص بحماية القذافي، وكلفت باختيار حارسات القذافي بشكل منتظم.
-كيف ذلك؟ جميلات؟ لهن شخصيات؟
- ليس هذا الأساس. كنت أريد أن يكون لديهن الحضور القوي، وكنت أفضل أن يكن طويلات. واللاتي لم يكن لديهن الطول الكافي كنت أجبرهن على احتذاء الجزم ذات الكعوب العالية. كل الفتيات كن يحلمن بأن أختارهن، وكن يتوسلنني لذلك، لأن هذه المسألة كانت يمكن أن تغير حياتهن رأساً على عقب، خصوصا إذا لم يكنّ من السلك العسكري، فقد كن يرافقن القائد في تنقلاته، يحصلن على مغلفات مالية مهمة. وكوني على ثقة بأنهن كن يبذلن أقصى جهودهن ليكن على مستوى المسؤولية، التبرج الملابس العسكرية النظيفة والمكوية، لأنهن كن يعرفن أن كاميرات التلفزة العالمية مسلطة عليهن.
وعن تصرفات القذافي مع حارساته، رفضت العقيد عائشة التحدث، فهذا الموضوع سرّي للغاية. كانت تقوم بعملها فقط، أما ما يحدث بعد ذلك فلم يكن من اختصاصها.
- ولكن الجميع كان يعلم أن العقيد كان يتخذ منهن عشيقات؟!
لاذت عائشة بالصمت، وتقلصت عضلات وجهها. كما أنها رفضت الحديث عن مبروكة، وهي المرأة الوحيدة التي كانت تقف خلف القائد بملابس مدنية، وكان الجميع يعرف أهمية دورها في إحاطة القذافي بالنساء. وقالت «راتبي الشهري 832 ديناراً، أي حوالي 500 يورو، وهذا يثبت أنه لم يكن لي علاقة مع تلك الزمرة».
وفجأة التقطت قرطها من أذنها وقالت لي «انظري هذا ليس ذهباً. الكثيرات من حارسات القذافي أصبحن ثريات، اما أنا فلا.. حتى انني مُجردة من حريتي». ولكن بقي لديها «شرفها وكرامتها»، كما تقول. وعزتها بنفسها لأنها رفعت لواء المقاتلات الليبيات عاليا. كانت تؤكد أنها بقيت موالية للقائد وللجيش، وكانت تنفذ الأوامر التي تتلقاها لمحاربة التمرد.
مصير محزن
«وضع العسكريات في ظل القذافي كان محزناً».، هكذا قالت لي نجوى الأزرق نائبة وزير الشؤون الاجتماعية المكلفة هذا الملف. فالأكاديمية العسكرية كانت فخاً نصبه القذافي لتزويده بالنساء، وعندما وجد سبلا أخرى للحصول على الفتيات أهمل الأكاديمية التي تراجع مستواها وأفل نجمها.
ولكن خلال الثورة لجأ النظام الى تعبئة العديد من العسكريات حتى اللاتي لم يكن يهتم بهن، وخصوصا من كن في الثكنات. بعضهن أرسلن للقتال الى جانب المرتزقة، وبعضهن استخدمن خلال حصار طرابلس، حيث كن يقفن على الحواجز في المدينة ويدققن في هويات الأشخاص وأوراق سياراتهم.
ألاعيب القذافي ونظامه، خصوصا من العسكريات، مكروهات من الناس والمتمردين، والعديدات منهن هربن، وكثيرات تم اغتيالهن، وبعضهن تم الاعتداء عليهن أو أجبرن على الالتحاق بالثورة، وتم اقتياد مجموعات منهن الى الجبهة لإرضاء شهوات عناصر الكتائب المسلحة.
إن مصير معظم حارسات القذافي يمكن أن يبقى مجهولاً، فقد تم العثور على جثث تحت أنقاض باب العزيزية، وهذا يشير الى أنه تمت تصفية أعداد منهن على يد النظام نفسه، في شهر أغسطس خلال الساعات الأخيرة للنظام، أي لحظة هرب العقيد، وذلك بعد أن أصبحن غير مفيدات.
مبنى كلية الطب في طرابلس حيث كان للقذافي شقة سرية تحت الأرض
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
بعد قصة صوريا تبين ان هناك قصصاً عديدة تشبهها وان فتيات كثيرات كن ضحايا للعقيد.
وفي الجزء الثاني من كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي الكاتبة الحقائق التي استقتها لتؤكد صحة ما سمعته من صوريا وعنها.
لم يكن بمقدور الدكتور فيصل كرتشي أن يتخيل من الذي سيكتشفه في نهاية شهر أغسطس عام 2000 عندما سيطر مع حفنة من الثوار على جامعة طرابلس. بالطبع، الطبيب المختص بالأمراض النسائية درس في جامعات إيطاليا وبريطانيا، ولندن، وهو الهادئ والرصين، لم يكن يجهل فساد النظام في ليبيا بشكل عام والجامعي وشبكة المراقبة والمخبرين التي وضعتها اللجان الثورية بشكل خاص. كما أنه كان يعرف الكثير عن حجم آلة الدعاية في مختلف الكليات، وهو كان يعرف أن ذكرى إعدام الطلاب شنقاً في عام 1977 و1984 لا تزال راسخة في أذهان الكثير من الليبيين، كما يعي أنه لم يكن يمكنه التدريس في الجامعة من دون إعطاء ضمانات الولاء الكامل للنظام. لذا هو أيضا لم يفاجأ، بعد ليلة المعارك الضارية في الحي الجامعي، بوجود سجن ومكتب لرئيس جهاز المخابرات عبدالله سنوسي داخل الحرم الجامعي، ويحتوي على معلومات حول عشرات الطلاب والأساتذة مع قائمة بأشخاص يجب تصفيتهم. ولكن ما فاجأ الدكتور كرتشي الى اقصى الحدود وأصابه بالصدمه هو ما اكتشفه صدفة بينما كان يتنقل في مباني الحرم الجامعي: لقد وجد شقة سرّية تقع تحت قاعة المحاضرات الخضراء التي كان يحلو لمعمر القذافي إلقاء خطبه ومحاضراته فيها عندما كان يزور الحرم الجامعي. واكتشف الدكتور أيضا أن العقيد كان عندما يتواجد في تلك الشقة يذهب الى أبعد مما يمكن أن تسمح به الظنون. فتلك الشقة كانت تتضمن غرفة نوم مع سرير لشخصين وأضواء برتقالية فاقعة، وحماما فخما جدا. كانت شقة خاصة بزعيم البلاد وتستخدم لمارسة العلاقات الحميمية غير الشرعية. لكن، ليس هذا فقط ما جعل شعر الدكتور يقشعر، بل وأيضا الشقة الأخرى المجاورة، حيث كانت توجد قاعة طب نسائي مجهزة بأحدث التجهيزات: سرير طبي، آلات أشعة، معدات طبية، إضاءة خاصة بغرف العمليات.. «وكيف لي ألا أشعر بالإشمئزاز والنفور وأن أصاب بالصدمة؟! لا شيء على الإطلاق يمكن أن يبرر وجود مثل هذا المستشفى الصغير، لأن مركز الطب النسائي الرسمي يبعد 100 متر فقط عن الحرم الجامعي!». إذن لماذا كانت تلك الشقة؟ وما الممارسات غير الشرعية والفاسقة التي كانت تتم في السرّ وبعيداً عن الأنظار والسمع؟
يقول الدكتور كرتشي «هناك احتمالان: الأول إجراء عمليات للإجهاض، والثاني إجراء عمليات إعادة غشاء البكارة. والاثنان ممنوعان في ليبيا. وإذا أردت ألا أتحدث عن الاعتداء الجنسي فإن الأمر يتعلق بعلاقات جنسية مقلقة».
طبيب العائلة
كان الدكتور كرتشي وهو يتحدث إليّ يزين كل كلمة في كلماته، فهو كان يعي جيدا حجم وحشية اكتشافه، خصوصا أنه كان طبيب ابنتي القذافي- عائشة وهناء- الخاص، وقد وضعه ذلك في موقف غريب.
يؤكد كرتشي قائلا: «كانت عائلة القذافي تحترم خبراتي المهنية»، ويضيف أن عائشة وهناء كانتا تنقلان له استغراب والدهما منه لأنه لم يكن يطلب خدمات بالمقابل. «لم أطلب يوما سيارة أو شقة أو مبلغا من المال أو أي شيء».
كان الدكتور كرتشي يعرف عن ميول القذافي الشاذة تجاه الفتيات الشابات، كما أنه سمع الكثير عن «لمسة القذافي السحرية»، وماذا كان يعني أن يضع يده على رأس فتاة- كإشارة منه لحارساته على أنه قد اختار «الفريسة المقبلة». وكان كرتشي يعرف أيضاً أن تصرفات القذافي الجنسية كانت تشكل أكبر خرق للمحرمات الاجتماعية، ولكن لا أحد كان يتجرأ على التطرق الى الموضوع، أو حتى تحذير الطالبات لحمايتهن. كان الجميع يفضل تجاهل الأمر ويتصرفون على أساس أنهم لم يروا ولم يسمعوا ولن يتحدثوا. أما بالنسبة الى ضحايا «الصياد» فلم يكن لديهن خيار سوى إلتزام الصمت وترك الجامعة.
ويستحيل إعطاء تقديرات لعدد الفتيات اللاتي دعين الى باب العزيزية أو اقتدن الى الجناح الرئاسي السرّي في الجامعة. وقال لي الطبيب كرتشي إنه عندما اكتشف جناح القذافي السرّي في الحرم الجامعي وجد بداخله 6 أقراص مدمجة تتضمن مشاهد لاعتداءات جنسية قام بها القائد في الجناح. وأكد أنه أتلف تلك الأقراص، خوفاً من أن تقع في أيدي أحد يمكن أن يسيء استخدامها، مثل ابتزاز الفتيات اللواتي في الشريط أو قتلهن او ممارسة الضغوط عليهن. فهمُّه الأول كان حماية الفتيات.
كسر الصمت
غريب أمر دكتور الأمراض النسائية هذا! كان الأجدر به أن يحتفظ بتلك الأقراص المدمجة كوثائق وإثباتات، وأن يترك للعدالة أن تأخذ مجراها وتقرر الإجراء المناسب المتعلق بها!
اكتشاف جناح القذافي تحت قاعة المحاضرات في الحرم الجامعي أحدث صدمة في الجامعة. طلبت من شاب جامعي أن يساعدني في العثور على واحدة من الطالبات اللواتي كن من بين ضحايا القذافي. انتظرت جوابه أياما، تلقيت بعدها رسالة عبر البريد الإلكتروني بالرفض والاعتتذار عن التعاون معي، لأن الموضوع يصب في خانة المحرمات.
حاولت أن أعرف المزيد، ولكن لم أجد أحداً قد مستعد أن يعترف بأنه يعرف أو يكون قد لاحظ وجود عناصر تشير الى التحرش الجنسي بالفتيات في الجامعة.
توجهت الى رئيس تحرير مجلة ليبيا الجديدة الذي بدا لي أنه وحده مصمم على كسر الصمت. وقال لي: «كانت لي صديقة من عائلة من أصول فلاحية من منطقة عزيزية، وجاءت لدراسة الطب في طرابلس. ولدى زيارته للجامعة وضع القذافي يده على رأس تلك الفتاة. وفي اليوم التالي قصدتها في قاعة المحاضرات حارسات القذافي وقلن لها إن القائد قد اختارها للإنضمام الى الحرس الثوري. أهل الفتاة رفضوا، وكذلك الفتاة نفسها، فأطلقت الحارسات التهديدات ضد ابنهم (الشقيق). عندها لم يعد أمام الفتاة سوى الوافقة على مرافقة الحارسات للقاء العقيد، الذي أعتدى عليها واحتجزها لمدة أسبوع، ثم أطلق سراحها مع مبلغ كبير من المال وسيل من التهديدات والوعيد إن هي تفوهت بكلمة عن ما تعرضت له».
«أهل الفتاة رفضوا استقبال ابنتهم مجددا في منزل العائلة، فقد أصبحت بنظرهم مصدرا للذل والعار. في الوقت نفسه كان من الصعب جدا على الفتاة أن تعود الى الحرم الجامعي وتتابع دراستها بشكل طبيعي.. وها هي اليوم تعمل في تجارة السيارات، وفي الحقيقة تتاجر بجسدها!».
مسألة شائعة
«إن الصمت هو سيد الأحكام، ولا أحد على الإطلاق سيشهد في قضية اغتصاب»، أكد لي الطبيب. ولكنه تحدث عن قصص عدة أوضحت لي أن الاغتصاب كان مسألة شائعة، خاصة اغتصاب الطالبات، وفي كلية الطب على وجه الخصوص.
في أحد الأيام لاحظت إحدى الطالبات، وكانت من المتفوقات في الدراسة، وعلاماتها كانت دائما مرتفعة، أن خطأ ما حصل في تقييمها الدراسي. فذهبت الى الأمين العام للجامعة تطلب منه أن يتأكد لها من أن خطأ لم يحصل في تقدير علاماتها. المسؤول وعدها بالقيام بذلك، شرط أن تذهب الى «رغاثا»، وهو مركز استجمام لأركان النظام يقع على البحر، وحيث كان أولاد الزعماء وكبار مسؤولي الدولة يقضون أوقاتهم في الفسق والمجون.
كل طرابلس كانت تعرف أن «رغاثا» كانت منطقة لا تحترم فيها القوانين، وكل شيء فيها كان مباحاً. على مدار سنتين ظلت الطالبة ترفض الانصياع لشرط المسؤول، وبالمقابل ظلت درجاتها الجامعية تتدنى بالرغم من كل الجهد الذي كانت تبذله.. حتى أنها وصلت الى مرحلة صارت تحصل على علامة صفر في كل المواد وطردت من الجامعة. «هل بمقدورك تخيل ذلك؟»، سألني الدكتور كرتشي، وأضاف «بعدما انصاعت لابتزازهم كان هناك شخص جاهز ليتوسط للسماح لها بالعودة الى الكلية. ولقد نقلت الى السلطات الجديدة شهادات خمس فتيات تحلين بالشجاعة وأثبتن فساد النظام الحقير».
إن الجناح الواقع تحت قاعة المحاضرات الخضراء سيحمل معه أسراره دون أن يكشفها أحد. ويبدو أن هناك أماكن أخرى قد أعدت للقذافي. فهو كان دائما بحاجة الى نساء، وخاصة عذراوات، وأحيانا الى رجال لإقامة علاقات جسدية معهم. كان يلزمه على الأقل أربع نساء في اليوم، وفقاً لما أكدته لي خديجة الطالبة التي اعتدى عليها وبقيت عدة سنوات في باب العزيزية وأجبرت على الإيقاع برجال النظام. وهذا ما أكده أيضا للصحافة البريطانية «فيصل»، وهو شاب جميل لاحظه العقيد خلال زيارته للجامعة وأجبره على التخلي عن دراسة الحقوق والالتحاق بجهازه الخاص.
و«فيصل»، البالغ من العمر اليوم 30 عاما، يشدد على طبع القذافي العنيف. فقد كان يتناول الفياغرا بكثافة، وكان يؤكد باستمرار أن العديد من النساء كن يخرجن من غرفته الى المستشفى، بسبب إصابتهن بنزيف داخلي.
لقد كان القذافي ساديا وعنيفا للغاية.
إذاً، كانت المدارس والجامعات تشكل له مصدرا لتجديد حاجات رغباته الجسدية.
«هدى الجزارة»
في جامعة بنغازي لاحظ القذافي هدى بن عامر، والدة ابنته هناء، التي يقال إنها ابنته بالتبني، والتي جعلها ابنته الحقيقية. لقاؤه الأول بهدى بن عامر كان عندما كانت الجموع تشهد إعدام طالب شاب معارض مسالم، حيث خرجت هدى من صفوف الناس وراحت تشد الشاب، المتدلي من حبل المشنقة، من رجليه، بكل قوتها لتسريع عملية موته. وأعطاها ذاك التصرف الوحشي شهرة على مستوى البلاد كلها. و«بفضل» هذه القساوة حصلت على لقب «هدى الجزارة»، وفي الحقيقة كان القذافي قد لاحظها في وقت سابق في عام 1976، عندما تصدت لتظاهرات الطلاب، وأكدت تمسكها بالنظام، وراحت تشي بالطلاب المعارضين، وقامت بحملة تطهير.
«لم نر في حياتنا امرأة مثلها»، يقول أحد رفاقها الطلاب القدامى.
كانت طموحات هدى بن عامر تتخطى جرأتها. كانت تخطب بحماسة لا متناهية، تشارك في الاجتماعات حتى ساعة متأخرة من الليل. وكانت تردد تهديدات القذافي للمعارضين بحملة إعدامات جديدة، بعد إعدامات عام 1977. وكانت تتحدث باسم العقيد وكان نفوذها يزداد. وفي المرحلة الأولى سيطرت كليا على الجامعة. كانت تطرد الأساتذة والطلاب الذين ترى أنهم غير قريبين من طروحات النظام. واختفت في بنغازي وذهبت للعيش بالقرب من القائد. وانضمت الى حرسه الخاص قبل أن تعود ويكبر نفوذها وترتبط بشكل علني بالعقيد، الذي عينها رئيسا لبلدية بنغازي، وزوجها لأحد معاونيه عندما عرف أنها حامل منه، وكان شاهد عرسها، ثم عينها رئيسة لاتحاد البرلمانيين العرب، ورئيسة لديوان المحاسبة ووزيرة، وأصبحت من أكبر أثرياء ليبيا. وكان السكان يكرهونها. وأحرقوا منزلها في بنغازي في الساعات الأولى للانتفاضة، وهي اليوم في سجن طرابلس. واعترفت للمحققين أنها أجبرت على هجرة هناء، التي ولدت عام 1985 في 11 نوفمبر، وحملت بها من القذافي وجاءت صافية زوجة العقيد الى دار الأيتام لتبنيها.
مقتنص الفرص
كل الأماكن التي كانت تذهب إليها النساء كانت مصدرا لمد العقيد بفرائسه، بما في ذلك السجون، حيث شوهدت حارسات القائد يلتقطن صوراً لسجينات جميلات. أما صالونات التجميل وحفلات الأعراس فكانت المصدر الرئيس لإصطياد الشابات والتغرير بهن.
كان القذافي يعشق الذهاب الى المهرجانات والأفراح، لأنه الشابات والنساء يكن في أبهى حالتهن ويرتدين أجمل ما عندهن ويتزين ويتبرجن ويتعطرن بأفضل ما لديهن ليظهرن مفاتهن. وعندما لم يكن قادراً على الذهاب شخصيا كان يرسل مبعوثيه، الذين كانوا يحرصون على تزويده بأكبر عدد من الصور وأفلام الفيديو. وكان هو يقضي أوقاتاً طويلة بالنظر الى تلك الصور والأفلام.
أحد العاملين في مجال التصوير في طرابلس قال لي إنه كان يحاول التذرع بالآف الأعذار لعدم تسليم نسخ عن أفلام حفلات الزواج لباب العزيزية، وكان كثيرا ما تطلب منه وبشكل عشوائي أحيانا وانتقائي أحيانا أخرى.
وقالت لي فتيات شابات إنهن أقلعن عن حضور حفلات الأفراح التي كانت تقام في الفنادق الفخمة لكي لا تلتقط صور لهن.
كان هناك أهالي يعيشون حالة الخوف هذه. وكانوا يمنعون بناتهن من السهر خارج المنزل، خاصة عندما تكون المناسبات في منطقة باب العزيزية.
موظفوه، سائقوه، حراسه وجنوده كانوا يكلفون بإحضار صور حفلات الزواج للقائد، بعضهم كان في البداية يظن أنه يتابع أخبار عائلاتهم، ولكن الجميع ندم، وإذا ما أعجبته شقيقة أو قريبة فانه كان يطلب من الشخص الذي يعمل بخدمته تنظيم اللقاء بينها وبين العقيد، وهكذا يصبحون (..).
وإذا كانت العرائس هن اللاتي يعجبنه فكان يفضل الإنتظار ويفتعل الظروف لإبعاد الزوج وجلب الزوجة إليه.
كما نقلت الي أخبار عن الحراس الذين أصيبوا بحالات الجنون عندما اكتشفوا أنه كان (..) زوجاتهن وتمت تصفيتهم بوحشية. وكان الحراس الجدد يشاهدون صور الحراس السابقين وقد قطعت أوصالهم بعد أن ربطت أيديهم وأرجلهم بسيارتين وكل سيارة كانت تنطلق باتجاه معاكس، وكان ذلك لتلقينهم الدروس بما يمكن أن يحصل معهم إذا خانوا القائد.
الممرضات والمعلمات كن أيضا من ضمن أهدافه. وقالت لي مديرة دار حضانة كيف أنه نصب فخاً لإحدى المعلمات وعندما حشرها قالت له أتوسل إليك أنا من الجبل وعندي خطيبي، فقال لها القذافي «لديك الخيار: إما أن أقتله، وإما ان أتركك تتزوجينه وأهديك منزلاً وأتقاسمك معه وتصبحين لنا نحن الاثنين؟!».
سادي ونرجسي
أحد مساعدي القذافي القدامى، وكان من المقربين منه ويعمل معه بشكل يومياً، ولكن لم تكن لديه سلطة القرار، وافق أخيراً، وبعد تردد كبير، على أن يتحدث عن الموضوع.
كان في البداية، ينفي أي علم له بأي شيء عما يسميه حياة العقيد الخاصة، وكان يرفض أن يتدخل بها، وكان لا يبقى في المساء في باب العزيزية، ولم ينزل إلى الطابق تحت الأرض. وهو بطريقة غير مباشرة كان يشير إلى أن ذلك الطابق تحت غرفة القذافي كان مركزاً لكل المخاطر.
وبعد أن تمكنت من كسب ثقته، وبعد أن وعدته بألا أذكر اسمه أو أنشره، حدثني عن وجود «جهاز من (..) مؤلف من الحثالة والحقيرين الذين يدورون في فلكه، ويتنافسون على تنفيذ رغباته».
يمكن أن يُوصف معمر القذافي بأنه مريض جنسياً ويفكر بالجنس دائما. كان يحكم ويذل ويستعبد ويعاقب الآخرين عبر الجنس.
كان لديه نوعان من الفريسات. كانت الشابات المنحدرات من الأوساط الشعبية تشكل غذاءه اليومي، ولكنهن لم تكن لهن أي أهمية بالنسبة له. وللحصول عليهن كان يستند إلى جهازه الخاص القريب من البروتوكول. وكانت تديره مبروكة شريف. كان يأخذ الفتيات غالباً بالقوة. وقليلات كن يجاهرن بفخر بأن العقيد (..). وكان يحرص على تكريمهن بشكل جيد عندما يحققن له السعادة في الفراش، وعندما يوافقن على العودة لزيارته أو على الاتيان بفتايات أخريات.
وكان هناك الأخريات، اللاتي كانت السيطرة عليهن وجذبهن يشكل تحدياً شخصياً وانتصاراً له.
وحتى يحصل عليهن يظهر طول بال وصبرا طويلا: يرسم الاستراتيجيات ويضع الخطط ووسائل مالية مهمة.
كانت هناك المغنيات،.والفنانات، والممثلات، والصحافيات ومذيعات القنوات التلفزيونية الشرق أوسطيات. كان يمكن أن يبعث لهن بالطائرات وبالأموال الطائلة والمجوهرات حتى قبل أن تصلن إلى طرابلس. وكان بذلك يُرضي حبه لنفسه ونرجسيته.
«بمقدوري أن أحصل عليهن جميعاً» كان يقول. ولكن ليس هذا أكثر من كان يهمه.
ما كان يثيره هو أن يتملكهن لساعة واحدة، أو لليلة، أو لعدة أسابيع.
المتربص
كانت بنات أو زوجات كبار رجال المجتمع- سواء من مسؤولي نظامه أو المعارضين- يشكلن الهدف الأكثر أهمية. كان يغري المرأة ليذل زوجها أو والدها أو شقيقها، وهذا أسوأ شتيمة في ليبيا. وإذا انفضح أمر المرأة كان ذلك كفيلا بتدمير عائلتها كلها.
وحتى عندما كانت المسألة تبقى طي الكتمان كان يشعر بتفوقه على الرجل المطعون بشرفه والمخدوع. وكان بذلك يجعله يشعر بأنه يسيطر على الآخر، على الأقل نفسيا ومعنويا.
عاش القذافي، الذي ولد في الخيمة، طيلة شبابه في الفقر، كان يتعطش للثأر. كان يكره الأغنياء، وكان يعمل على إفقارهم، كما أنه كان يحقد على الارستقراطيين الذين كانوا يملكون ما لم يكن يملكه: الثقافة، والتربية، وحسن اللياقة، والسلطة. وقد أقسم على إذلالهم، وهذا كان يمر عبر العلاقات الجسدية.
كان بمقدوره إجبار بعض الوزراء وكبار الضباط على إقامة علاقة جسدية معه. ولم يكن لهؤلاء من خيار آخر غير الانصياع، لأن الرفض كان يعني الموت. وكانت طريقة سيطرته التامة عليهم مذلة الى درجة تجعلهم غير قادرين على البوح بها. وكان يطلب منهم أحيانا أن يرسلوا له نساءهم. وإذا ما رفضوا كان ينصب لهم الأفخاخ الأمنية والاستخباراتية وما الى ذلك. كان يدعو الزوجات بغياب أزواجهن، أو يذهب شخصيا لزيارتهن، وكان ذلك يثير هلع النسوة بهذه الطريقة، ويدب الذعر في نفوسهن.
أما الخطط الجهنمية فكان يرسمها لبناتهم، وكان التحضير لهذا الأمر يتطلب الوقت والنفس الطويلان، ليتمكن من جمع المعلومات عنهن، يرصد أذواقهن، يدرس عاداتهن، متى يخرجن وبعدها كان يطوقهن بفضل حارساته الشخصيات، وتحديدا بـ(..) مبروكة شريف. كانت الحارسات تحدثهن عن مدى إعجاب العقيد بهن وتقديره لهن. كانت توعدهن بالسيارات الرباعية الدفع، أو الــ«بي إم دبليو»، أو بالحصول على شهادة الطب إذا كن في الجامعات، حتى أن الوعود بالنسبة إلى بعضهن كانت تصل لتجهيز العيادات الخاصة لهن، وكل هذه الأمور تصبح ممكنة عندما كن يأتين إليه. وهكذا كان يسيطر على آبائهن في الوقت نفسه.
القذافي مع إحدى حارساته
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد. بعد قصة صوريا تبين ان هناك قصصاً عديدة تشبهها وان فتيات كثيرات كن ضحايا للعقيد.
وفي الجزء الثاني من كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي الكاتبة الفرنسية آنيك كوجين الحقائق التي استقتها لتؤكد صحة ما سمعته من صوريا وعنها.
كانت زوجات قادة الدول الاجنبية وبناتهن يشكلن فريسات اللوكس للدكتاتور، وكان يترصدهن ويمني النفس بهن، وبما انه أصبح ملك ملوك افريقيا, فإن معمر القذافي كان يحلم بتملك زوجات القادة الأفارقة.
وهو بهذه الطريقة يتخطاهم جميعا. واللجوء الى القوة والاكراه لم يكونا ممكنين معهن. اذن كان لا بد من الكثير من الدبلوماسية واللياقة. وانفاق المبالغ الطائلة.
العديد من زوجات الرؤساء فهمن بسرعة انه بمقدورهن الحصول على كل شيء من القائد، ولم تكن تترددن بطلب لقائه شخصياً، للحصول على مساعدة مالية لبناء مستشفى, او لدعم مؤسسة خيرية, وكان القذافي يحب كثيرا هذه المشاريع.
وكان يوزع يمنة ويسرة، وبالطبع كان دائما يسعى لكي تكون الامور في مصلحته.
بعض بنات قادة الدول الافريقية اللاتي كانت تقاليدهن وعاداتهن اقل صرامة من الليبيات لا يترددن في المجيء الى طرابلس والطلب من بابا معمر تمويل دراساتهن او اجازاتهن او مؤسساتهن المهنية مثل انشاء شركة انتاج برامج تلفزيونية، وكان مكتب العقيد وغرفته مفتوحين امامهن. ابنة الرئيس الافريقي (...) السابق دخلت في دائرة المقربين منه وقد رافقته في العديد من الزيارات الرسمية.
وكان العقيد يحب ان يخاطر بجذب زوجات قادة الدول.
والقمم الدولية كانت تتيح له إظهار مواهبه.
{فساد جنسي}
وافقت امرأة في بداية العقد الرابع من العمر، كانت تعمل في بروتوكول القذافي على لقائي، على ان يكون هذا اللقاء وما تقوله لي لكشف حقيقة النظام جزءا من مساهمتها بالثورة التي لم تتمكن من دعمها، وكانت ترغب بذلك، لأن املها خاب بالقائد، بعد ان اكتشفت انها كانت تعيش على اوهام، وبعد ان كانت تظن بأنها تعمل من اجل ليبيا بخدمة رجل مستقيم صاحب رؤية، ولكن الحقيقة صفعتها، عندما اكتشفت الفساد الجنسي الذي دمر كل القناعات. لقد حاولت الحفاظ على الحظ الذي دفعها الى البروتوكول، اي ان يكون عملها في الجهاز الحكومي خالياً من كل الشوائب، ولكنها لم تتأخر لتكتشف ان مرض القذافي بالجنس يلطخ كل النظام ويمكن ان يفجر تنظيم القمم والمؤتمرات الدولية، وزيارات قادة الدول الاجنبية كان البروتوكول مكلفا بها.
لعب بالنار
كان يلعب بالنار ويتقرب من الاحداث الدبلوماسية. كان يدرس كل القواعد. عندما كانت زوجة رئيس دولة أجنبية ترافق زوجها لدى زيارته لليبيا، وكان من المعروف عنها اهتمامها بالمدارس. كانت مهمتنا تنظيم برنامج يستجيب لتطلعاتها - لقاءات مع معلمين، زيارات مدارس..
وفي اليوم المحدد لهذه اللقاءات كانت سيارة من باب العزيزية تأتي لتأخذ زوجة الرئيس الأجنبي لعقد لقاء خاص مع القائد. واجراء مباحثات معه. ولم يكن لهذه المسألة اي معنى.
وفهمت بسرعة انه من الأفضل للسيدة ان تنسى المدرسة. ففي اليوم التالي كانت تتلقى حقيبة يد تحتوي على 500 ألف دولار وعقدا من الذهب أو الألماس.
صيد القمة!
خلال القمة الأفريقية الأوروبية الثالثة التي عقدت في نوفمبر عام 2010 في طرابلس كان جزء من البروتوكول مكلفا باستقبال زوجات قادة الدول وبتنظيم عدة نشاطات يفترض ان تعجبهن. وكنا قد أعددنا لكل واحدة منهن ملفا مع صورتها وسيرتها الذاتية. وكانت هناك مرافقة لكل واحدة منهن. ويوم وصول زوجات الرؤساء وصلت مبروكة إلى مكتب مدير المطار وراحت تتفحص صور زوجات الرؤساء. وطلبت من المدير ان يصور لها نسخة عن ملف تلك السيدة وقالت له انها للقائد.
اليوم الأول مر وفقا للقواعد البروتوكولية حيث يستقر كل وفد في مقر اقامته.
وفي اليوم التالي اتصلت مبروكة بالبروتوكول وطلبت مواكبتها لتسليم الهدايا. فاستقلت سيارة من البروتوكول قادتها الى الفنادق حيث تنزل الوفود واكتشفت موظفة البروتوكول التي رافقت مبروكة كم ان الهدايا كانت نفيسة.
وقالت لي كنت قد ظننت انني رأيت أشياء كثيرة، ولكنني لم أر في حياتي عقودا مثل تلك التي وزعت على زوجات الرؤساء اللاتي بدورهن بهرن بالهدايا. واضافت ان مبروكة قالت لها سترين ماذا اشتريت لصاحبة الصورة. وعندما قدمت الهدية لزوجة الرئيس الأفريقي المعروف حبها للوكس فركت المرأة عينيها اللتين راحت تلمعان مثل حبات الألماس الكبيرة. وقالت لم أكن اعتقد انه يوجد مثل هذا العقد. اظن انه خيالي فردت مبروكة ان القائد يريد رؤيتك ووافقت السيدة الأفريقية.
العشاء الرسمي كان في فندق ريكسوس الفخم وكان القذافي في الوسط كمن يتربع على العرش يحيط به قادة الدول وكانت ثلاث طاولات مستديرات تحيط بطاولة قادة الدول. وكانت الصدفة ان جلست مبروكة إلى جانب زوجة الرئيس الأفريقي الجميلة. وفي نهاية العشاء. وبينما كان الجميع يستعد للوقوف اخذتها من يديها لكي «تصادف» القذافي في طريقها. وبالطبع توقف العقيد وحياها بألف إطراء.
عند الساعة الثانية صباحاً اتصلت مبروكة بالبروتوكول لتسأل عن موعد طائرة الزوجة الجميلة.
- عند الساعة العاشرة.
- سأرسل لك سيارة، عليك تدبر الأمور لكي تكون عند الساعة التاسعة في باب العزيزية.
- هذا غير ممكن لأنه يتعين عليّ أن أدير مغادرة كل الوفود غداً صباحاً.
- حسناً سأتدبر الأمور بنفسي. ولكن عليك أن تأخري إقلاع الطائرة.
الساعة العاشرة صباحاً كان الرئيس ينتظر زوجته في صالون المطار، بعد ساعتين لم تكن الزوجة موجودة. والجميع كان محرجاً، أعضاء الوفد وموظفو البروتوكول.
عند الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر وصلت الزوجة والابتسامة تعلو وجهها والسحاب على جانب تنورتها ممزق.
سيارة تنحرف
ذات مرة أقامت صافية مأدبة عشاء على شرف زوجات قادة الدول الأجنبية في مطعم طرابلس. وعند منتصف الليل بدأت سيارات البروتوكول تنقل زوجات الرؤساء إلى فنادقهن. ولكن إحدى هذه السيارات انحرفت عن الموكب، فقد تلقى السائق أمرا بالتوجه الى باب العزيزية، ولم يتم إبلاغ أحد بالأمر. الوفد الذي كان مكلفاً بمواكبة السيدة اضطرب. وقال مسؤوله، وهو يكاد يختنق، انه عار، ويوجه كلامه للبروتوكول الليبي. أين هي السيدة الرئيسة؟ كيف يمكنكم ان تضيعوا في الليل زوجة رئيس الدولة؟
حاولت طمأنته بأن طرابلس آمنة. وان زوجة الرئيس ربما أرادت الخروج بمفردها، وأنه لا بد من انها ستعود. كان في حالة هلعٍ، لا يدري بمن يتصل. وبما انه لم يكن لدى اعضاء البروتوكول الليبي ما يقولونه، فإنهم فضلوا الاختفاء. وعند الساعة الثالثة والنصف صباحاً عادت زوجة الرئيس إلى الفندق، لقد روت لي قصصا كثيرة تتعلق بزوجات قادة الدول الأجنبية وبوزيرات أجنبيات وسفيرات ورئيسات وفود.
بدون اسماء
كانت محدثتي تنظر اليّ احيانا لمعرفة وقع ما كانت تخبرني به عليّ. وما اذا كنت اصدق ما تقوله من قصص خطيرة. كنت اسجل ما تقوله من دون اي ملاحظات، وكنت اطلب منها ايضاحات وتفاصيل وتواريخ، وكانت تستجيب لطلبي ولكنها كانت تطلب مني دائما الا اذكر اسماء.
ومعظم القصص التي روتها لي اكدها لي شخصان آخران يعملان مترجمين في البروتوكول لدى السلطة الجديدة.
واخيرا هناك فرائس ممنوعة. اذن مرغوبة لدى الذي يأخذ كل الحقوق. عشيقات وزوجات ابنائه واقاربه.
اشمئزاز
كثرت الاشاعات حول هذه النقطة، وقال لي احد قادة الثوار ان كنة من كنائن القذافي اكدت له انها مشمئزة من القيم الاخلاقية لهذه العائلة، وانها اضطرت الى الرضوخ عشر مرات لعمها معمر القذافي.
لم اعر الخبر اي اهتمام لانني وجدت فيه مرة جديدة ان عائلة القذافي ليس لديها اي رادع اخلاقي. ولكن عندما نشرت مجلة ليبيا الجديدة في 28 فبراير 2012 مقابلة مع ابن عم القذافي قذاف الدم في السجن لفت الامر نظري. اذ اتهم القذافي باغتصاب زوجته بوحشية. عن سابق تصور وتصميم، خطط له مسبقا من دون اي رادع اخلاقي او ديني او قانوني.
فعندما يرغب بامرأة لا يبالي بوحدة العائلة او القبيلة وبروابطها. ولكن اللجوء الى المرأة كان بهدف تحطيم زوجها.
وقال قذاف الدم ان ابن عمه ارسله في مهمة عسكرية ليبعده عن زوجته وقد اغتصبها عدة مرات. وطلب منها ان تطلق زوجها لقطع العلاقات مع قبيلة قذاف الدم، وعرض عليها وظيفة خارج ليبيا فوافقت لانقاذ نفسها وابنتها. لانها لا تريد ان تصاب عائلتها بذات المصاب مرتين، فهو كان يلتهمها مثلما تؤكل الوجبة الساخنة الى درجة انه جعلها تكره الساعة التي ولدت فيها.
توجهت الى سجن الهدى في مصراتة لمقابلة احد افراد عائلة القذافي من الذين يقولون ان ابن عمه قد اغتصب زوجته السابقة. وارسلها الى الامم المتحدة للدفاع عن نظامه.
كلام مسجل
وبدأت الحوار معه بسؤال حول مقابلته مع مجلة ليبيا الجديدة.
ــ هناك سوء تفاهم
ــ عفواً؟
ــ لم اتحدث على الاطلاق عن جريمة جنسية.
ــ ولكنك وصفت مناورات القذافي، لابعادك لاجبار زوجتك على (...).
ــ مقاطعا: زوجتي السابقة كانت مخلصة لي دائما وشرفي مصان.
ــ ليست هي المتهمة ولكن القذافي هو المتهم..
ــ ليس متهما بشيء. لقد رفعت شكوى امام القضاء ضد المجلة التي اختلقت اشياء. لا اريد ان يرتبط اسمي بهذا الملف! ولا ينبغي توجيه الانتقادات داخل العائلة الواحدة.
كان من المستحيل عليّ التطرق معه الى التفاصيل، وكنت الف وادور حولها وكان يقول: «لا يجوز ان ننبش قبور الاموات. الله وحده هو الذي يحاسب».
وكان في الوقت نفسه حريصا على التملص من اي تواطؤ مع القذافي: كمثقف لم يكن بمقدوري الموافقة على بعض تصرفاته، وكبدوي وجدت انه يدوس قيمنا، وكعسكري وانا الذي اشرفت على بناء ثكنة السعدي في العام 1979 حيث يوجد قبر والدي، صدمت وارتعدت مفاصلي عندما اكتشفت كيف غير طبيعة المكان بقدومه مع نسائه وهذا يجعلني اتقيأ.
غداة المقابلة توجهت الى مجلة ليبيا الجديدة. قذاف الدم اتصل من السجن ليقول ان قبيلته مستاءة من المقابلة.
ولكن رئيس التحرير اصر على كل كلمة قالها ابن عم العقيد. والذي اكد كل ما كانت تعرفه طرابلس منذ فترة طويلة.
وكانت الحلقة الثانية من المقابلة، في العدد التالي، تتناول موضوعا آخر، وتتصدر صفحتها صورة قذاف الدم يتحدث امام مسجلة الصحافي الذي اجرى المقابلة. نعم ان كلامه كان مسجلا.
القذافي يوبِّخ قائد الأمن المرعب:
سلمى ميلادي جنرال.. وأنت تحت إمرتها (17)
الموكب بعدما قصفته طائرات الناتو
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
صوريا، التي ولدت في المغرب، كانت أيقونة أبيها، كانت لديها أحلام هائلة، تحطمت جميعاً، بعدما انتقلت إلى سرت، وأصبحت هدفاً للقذافي، ثم غنيمة له وجارية!
وفي كتاب «الفرائس في حرم القذافي»، الذي تنشره القبس، تروي قصتها.
الصور الوحيدة التي التقطت لمنصور ضو كانت بعد اعتقاله في العملية نفسها التي ألقي القبض فيها على معمر القذافي، وفي ظروف مشابهة الى حد ما. التقط الثوار الصورة بواسطة كاميرا هاتف نقال في أجواء عارمة من الفوضى. حيث بدا - لحظة توقيف الموكب في طريق الهروب - ضائعا لا يدري أين هو! كان ينزف من جرح تحت عينه اليمنى، أصيب به بشظية عند مدخل الصحراء. لقد كانت صورة المهزوم المرعبة!
بقي منصور ضو حتى اللحظة الأخيرة الى جانب الدكتاتور الليبي. وغادر معه باب العزيزية على عجل، عندما سيطر المتمردون على طرابلس باتجاه منطقة بني وليد، حيث ودَّع القذافي أفراد عائلته قبل أن يتوجها معا الى سرت، ويختبئا في مكان من دون كهرباء أو طعام. حاصرهما المتمردون تدريجياً، حتى لحظة محاولة الهروب التي أفشلتها غارات «الأطلسي».
زارع الرعب في القلوب!
كان منصور ضو مسؤول الأمن الليبي - الى جانب سيف الإسلام القذافي - واحدا من بين القلائل الذين بقوا مخلصين للعقيد القذافي الذين بقوا على قيد الحياة أو تعرضوا للأسر على يد النظام الجديد.
اسمه زرع الرعب في قلوب الليبيين لأكثر من ثلاثين عاما. وكانت آخر أعماله الإجرامية والوحشية: الاغتصاب، والتعذيب، والاعدامات التي ارتكبت بحق الثوار ومؤيدي الثورة.
كل ليبيا تريد أن تسمعه، وتعرف ما عنده من معلومات وأسرار، ولكن «منصور ضو لن يتكلم». هذا ما قاله لي ابراهيم بيت المال، عضو المجلس العسكري في مصراتة والمسؤول عن السجناء العسكريين، رغم أنه سمح لي بلقائه.
التقيت منصور ضو في العاشر من مارس 2012 في قاعة الاجتماعات الكبرى التابعة لمقر قيادة الجيش في مصراتة. كان هادئا، ممشوق القامة، يرتدي جاكيتا عسكريا، وكانت لحيته البيضاء موضبة وقصيرة. رسم على وجهه ابتسامة ساخرة. لقد وافق على مبدأ المقابلة، من دون أن يعرف الموضوع، قد يكون وجد في ذلك فرصة لقضاء بعض الوقت خارج الزنزانة الانفرادية.
ودار بيننا حديث، بدأه بالقول:
- لقد زرتُ فرنسا أربع مرات.. وقد استمتعت كثيرا.
نعم، ولكننا هنا لأنني أجري تحقيقا حول موضوع يعتبر من المحرمات، حول جرائم القذافي الجنسية.
- أنا لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع. القذافي من عائلتي وكان عليّ أن أحترمه. وبالتالي لم يكن من الممكن التطرق معه الى هذا الموضوع. كنت أمنع نفسي من النظر في هذا الاتجاه. كنت أحرص على الاحتفاظ بمسافة بيني وبينه، كان ذلك أفضل طريقة لأحافظ على احترامي لنفسي، كنت هكذا أحمي نفسي.
هل كنت تعرف على الأقل أن القذافي كان يستخدم العنف الجنسي مع مئات من الشابات؟
- لا أنفي ولا أؤكد.. كل شخص يحق له أن يحيا حياته الخاصة.
هل يمكن الحديث عن حياة خاصة عندما تفرض العلاقات الجنسية بالإكراه؟ وعندما تسخّر أجهزة الدولة لها؟
- كان هناك أشخاص على علم بذلك. أما أنا، فلا.
هل تعلم؟
هل كنت تعلم أن شابات صغيرات كن محتجزات في قبو بيته؟
- أقسم أنني لم أنزل مرة واحدة إلى الطابق تحت الأرض، أنا قائد عسكري رتبتي من أعلى الرتب العسكرية في الجيش. لقد ناقشت أطروحة دكتوراه في موسكو حول القيادة العسكرية. عندما كنت أزور إحدى الثكنات، كان الجميع يرتعد خوفاًَ. عرفت دائماً كيف أفرض احترامي، خصوصاً من خلال ابتعادي عن كل المسائل الخاصة والتي لا تهمني.
ما الذي تقصده بكل هذه المسائل؟
.. فجأة شعرت بأنه لم يعد مرتاحاً. من دون أدنى شك كان ينتظر أن أسأله عن قضايا الحرب، عن المرتزقة، ولكن الأكيد ليس عن النساء. وبات حذراً.
كيف كان ينظر قائد عسكري كبير مثلك إلى القذافي عندما يصل مع حرسه النسائي، ومعظمهن لم تكن سوى عشيقاته ولم يكن لديهن أي تجربة عسكرية؟
- لم أكن مسؤولاً عن تنقلاته ولا عن زياراته للخارج. كنت أرفض مرافقته. وخلال الفترة القصيرة التي توليت فيها قيادة كتيبة حماية القائد يمكنني أن أؤكد لك أن فتيات الجهاز الخاص لم يكنّ موجودات.
ألم تكن تشعر بالإهانة من هذه المهزلة؟
- ماذا كان بمقدوري أن أقول؟ لم أكن احتكر الجيش الليبي، حتى ولو أنني لم أكن مرتاحاً لم يكن بوسعي أن أفعل أي شيء.
على أي حال، إن النساء لسن للخدمة في الجيش. هذا يتنافى مع تقاليدنا وأعرافنا كما يتنافى مع الطبيعة. ولو سألوني عن وجهة نظري لما كانت هناك أكاديمية عسكرية نسائية في ليبيا.
هل كان القذافي يؤمن بهذه الأكاديمية حقاً عندما أنشأها عام 1979؟
- ممكن، ولكن الأكيد أن هذه الأكاديمية هي التي أعطته فكرة استخدام النساء بشكل أو بآخر.
ضحك ونظر باتجاه قائد السجن الذي انضم إلينا عله يجد نظرات متواطئة معه.
سلمى ميلادي
سألته عما إذا كان يعرف النساء الحارسات اللاتي حدثتني صوريا عنهن، خصوصاً سلمى ميلادي التي كانت تضع المسدس دائماً على وسطها، وتسهر على أمن القائد وترافقه مثل ظله في كل تنقلاته وتكوي ملابسه وترهب وتعذب الفتيات المستجدات؟
لم يتردد، وقال لي «بكل تأكيد أعرفها»، حتى إنه أقر بالخبرة المهنية التي تلقتها في الأكاديمية العسكرية، ولكنه لم يتمكن من ابتلاع الدور المهم الذي تمكنت من أن تلعبه: «كانت العلاقة الحميمة التي تربطها به تصدمني. ماذا تظنينني؟ حتى انني كنت أصرخ عليها، ولم أكن أمرر الأخطاء التي كانت ترتكبها عندما كانت تحت إمرتي. ذات يوم كنا في الكفرة في جنوب البلاد، وقد وبخَّتها على جهاز الاتصال الداخلي. ورصد القذافي المكالمة وتدخل غاضباً، وقال لي «لا تتحدث معها إطلاقا بهذه الطريقة! سترى ذات يوم سأعينها جنرالا وستكون رتبتها أعلى منك!».. فقدت أعصابي وبدأ دمي بالغليان. ولم أتردد في الرد على القذافي، وقلت له: حتى إذا عينتها جنرالا فستبقى بعيني سلمى ميلادي». وتابع منصور «كل أجهزة شبكة الاتصالات التي كانت مربوطة على الموجة التي كنا نتحدث عليها سمعت هذا الحوار. لقد شعر القذافي بانه أُهين، وقال لي «كيف تتجرأ على التحدث بهذه الطريقة مع قائد الجيش؟!». بعد ذلك أرسل طائرة خاصة لإحضاري الى طرابلس وسجنني ثلاثين يوما».
ثم التفت الي وسألني: «ما رأيك؟ هل هذا يظهر لك أن لدي قيما وأخلاقا وخطوطا حمراء؟!».
جنرال القضايا الخاصة
قيل لي إن منصور ضو لا يسمح لنفسه بانتقاد القائد. وشعرت بأنه يريد أن ينأى بنفسه عن كل مشاركة أو تواطؤ تورط به القذافي، خصوصا هذا الموضوع الساخن.
لم يكشف لي أي أسرار، وكان يتحدث تلميحا. ولكنه أكد لي أن معظم تصرفات القذافي كانت معروفة لدى المقربين منه. وكانت تزعج بعضهم، ولكنهم لم يتفوهوا بكلمة واحدة، ولم يتجرأوا على توجيه أي انتقاد. علاقات القائد بالنساء، سواء كنَّ عسكريات أو لا، كانت في المجال الخاص به. وكانت الصاعقة يمكن أن تقع على أي شخص لا توافقه تلك التصرفات. أما الذين تفهموا، شجّعوا، أو سهّلوا هذا الهوس المرضي لديه، فإنهم حصلوا على سلطات واسعة داخل النظام.
ولم يتمكن منصور ضو من إخفاء احتقاره. وسألته:
كيف كانت نشاطات العقيد في هذا المجال منظمة الى هذا الحد؟
- كانت تتنكر خلف جهاز البروتوكول برئاسة نوري مسماري، الذي كانت الوقاحة أو الجرأة تصل به الى حد كان يتخايل بملابس الجنرال، وكان يطلق عليه اسم «جنرال القضايا الخاصة»، لتجنب نطق الكلمة المناسبة.
أي كلمة؟
- بالكاد أجرؤ على قولها.. «جنرال (..)». كان يبحث دائما عن النساء، كان هذا اختصاصه ومهمته الرئيسية. كان أحيانا «يلم» (..) من الشوارع.
القذافي آمن بالشعوذة
ومبروكة شريف؟
ـ كانت أساسية في العملية. وكانت حتى تحظى بنفوذ أكبر لدى القذافي من مسماري. وكانت ملتصقة به دائما. وكانت تثير اشمئزازي وقد رفضت ثلاث مرات أن أصافح يدها. كانت لديها شبكة، وكانت تهتم ضمن ما تهتم به بنساء بعض قادة الدول. كانت تمارس الشعوذة، وهي بالتأكيد لجأت إلى الشعوذة للسيطرة على القذافي واخضاعه لها.
هل كان القذافي يؤمن بالشعوذة؟
ـ كان ينفي ذلك. ولو كنا نعيش في مرحلة العلوم فان قادة الدول الغربية يستشيرون العرافات، وقد كنا مجموعة حاولت أن تحذره من مبروكة شريف ومسماري، لأنهما كانا يمارسان الشعوذة.
أتذكر جيدا، كنا خمسة من كبار ضباط القيادة العسكرية معه في السيارة، وكنت أنا الذي أقود. قلنا له: احذر، انك ضحية الشعوذة التي يمارسها ضدك مسماري ومبروكة شريف! إنهما يؤثران سلباً في صورتك. هز كتفيه وقال لنا «إن ثقتي مطلقة بهما». كل محاولاتي لتحذيره قد فشلت. لقد كان الرئيس وكنت موظفاً بسيطاً. وأنا في النهاية لست مسؤولاً عن جرائمه.
هل سمحت لك الفرصة للاقتراب من جهاز البروتوكول؟
ـ عمليا، لا. على الاطلاق. لأنني، كما قلت لك، كنت أرفض المشاركة في الزيارات الخارجية، التي كان ينظمها مسماري. وقد طُلب مني أن أذهب الى فرنسا، واسبانيا.. وكان يُوضَع اسمي على لوائح الوفد وكانت تحجز لي الغرف في الفنادق. لكنني كنت أرفض ولم أرد يوما أن أشارك في ذلك.
تشارك في ماذا؟
ـ التحركات حول النساء.
هل لأن الزيارات الرسمية كانت تشكل مناسبات للتهريب؟
ـ سمعت كثيرا من الأشياء. كانت هناك صدامات مع العسكريين الحقيقيين. مسماري كان يتحدث عدة لغات. وكان يتدبر أموره كرئيس البروتوكول لتمويه وصول النساء عبر الوفود أو كصحافيات. وكنت أعلم أن الجهاز الخاص كان يدر الأرباح على المسؤولين عنه، خاصة خلال الزيارات الرسمية الى خارج ليبيا، حيث كان يُتلاعب بالهدايا. وعرفت كيف أحمي نفسي.
خطف صوريا
أثرت معه خطف صوريا من سرت من قبل سلمى ومبروكة واغتصابها المتكرر واحتجازها في باب العزيزية.
شعر بالأسى وهز برأسه، وقال «لم اُستَشر حول هذا النوع من المواضيع. وكان يمكن أن أعارضها. وكان على الأرجح زجني في السجن. أقسم لك، لأنني لا أعرف شيئاً عن الطابق تحت الأرض في منزل القذافي. لان هذا ضد قيمي. لأنني عسكري محترم. والد وجد. هل يمكنك أن تتخيلي أني يمكن أن أغتصب أحدا؟ أو (..)؟ لا على الإطلاق. وأنا لا أستطيع أن (...) امرأة إذا لم تكن راغبة في ذلك»!
سادت لحظات من الصمت. وبدا لي وكأنه يسترسل بأفكاره.. تنهَّد. ألقى نظرة على حراس السجن. رفع يديه الى السماء، وقال: «كان عليه أن يكون الأب الروحي للأمة.. هذا رهيب!».
هل فعلا فوجئ منصور ضو بالقذافي أم أنه كان يمثل علي؟
هل يمكن تخيل مسؤول الأمن في ليبيا يُصدم عندما يُتحدَّث أمامه عن الجرائم الجنسية التي ارتكبت في باب العزيزية، بينما العديد من الموظفين (حرس، سائقون، ممرضات..) كانوا على علم بها؟
- لم أكن أرافقه عن كثب. كنا أقارب، بقيت الى جانبه حتى النهاية. ودعمته عندما كان مصابا بجروح وساعدته على الاختباء. وأقسم أن هذه المعلومات تشكل صدمة بالنسبة إلي.
هل يمكن القول إن الجنس كان سلاحا سياسيا؟
ـ تعريف جيد أن المسألة كلاسيكية. والجميع يستخدم سلاح الجنس. حتى في فرنسا. عندما زرت باريس أول مرة، علمت أن جهاز الاستخبارات الفرنسي قد أرسل إلي امرأة تونسية لكي تُوقع بي. وكانت مسألة طبيعية، ولكن الفرنسيين لا يعرفونني ولا يطاردونني. أنا الصياد. القذافي غالباً أرسل فتيات للإيقاع بأقاربه وبكبار المسؤولين في ليبيا، بعضهم وقع في الفخ.
هل كنت تعلم أنه كان يجبر بعض الوزراء على إقامة علاقة جنسية معه؟
- هذا لا يفاجئني. كان هناك الكثير من الطموحين، كان هناك من يرسل له نساءه أو بناته للحصول على رضاه! وهذا يشكل ذروة الذل والمهانة في الثقافة الليبية، وهو يشير الى أشباه الرجال.
لقد حاول حتى اغتصاب زوجات أبناء عمه.
- يجب ألا يكون المرء رجلاً للقبول بالمس بزوجته.
كيف كان عليهم ان يتصرفوا؟
- أن يقتلوا المغتصب. وأن ينتحروا.
ليس بمقدورك أن تجهل أنه اغتصب نساء ضباط كبار في الجيش؟
- بمقدوري أن أؤكد لك أنه لم يقترب من عائلتي، وعملت كل شيء لأحميها.
كيف؟
- كنت أمنع زوجتي من الصعود الى أي سيارة لا أقودها أنا أو أحد ابنائي، لا يوجد لدينا سائق، باستثناء حالة واحدة كنت من وقت لآخر ألجأ لخدمات شقيق زوجتي، وكان أكثر حذراً مني لأنه كان يغار.
كنت تحذر القذافي؟
- لم ندعُه الى عرس ابني. في اليوم الثالث جاءت صافية للتهنئة وأخذت صورة مع ابني وزوجته، هذا كل شيء.
لماذا؟
- لأنني لا أريد لعائلتي المحترمة من الجميع أن تتورط في هذا النوع من التصرفات. وقد تم العرس في منزلي الخاص، لأنني أخشى من كاميرات الفنادق. وكانت الفرقة الموسيقية مؤلفة من النساء. حفل الاستقبال من النساء باستثناء ابني. وقد منعنا استخدام الهواتف النقالة لكي لا تلتقط الصور.
هل تعتقد انك لو كنت دعيت القذافي الى العرس كان يمكنه أن يختار فريسة؟
- ما كان ليتجرأ على المس بإحدى مدعواتي، لأنه كان يعلم كيف يمكن أن يكون رد فعلي. ولكن كنت أفضل أن يكون بعيداً، لأنه لو جاء الى العرس لكانت (..) قد رافقنه وهن دائماً يبحثن، وهذه المسألة كانت ترعبني!
هل تندم لأنك خدمت رجلاً قليل الاحترام حتى اللحظة الأخيرة؟
.. عدَّل من جلسته، وأخذ وقته في التفكير بالإجابة عن السؤال، ثم قال:
- في البداية، كنت مؤمناً به، ولم تكن لدي أي فكرة عن كل ممارساته. الآن وقد مات فماذا ينفع الندم الشخصي؟ أحتفظ بهذه المسألة لنفسي، وهي في أعماق أعماقي، لقد حميت أسرتي. هذا هو الأساس، وأنا اخضع من الآن فصاعداً لقضاء الشعب الليبي، وسأقبل حكمه، ولو كان الإعدام.
نهض ليغادر، وانتظر الحراس لمواكبته الى زنزانته. التفت إلي، وقال: «عندما وصلت الى هنا في مصراتة كانت الحرب قد أدمت المدينة، فقدت الكثير من الدم، وصلت شبه ميت، لقد عُولجت وعُوملت باحترام، وأنا أريد أن اؤكد ذلك، أنام على فراش أحضره مدير السجن من منزله، أعطاني ملابس، اكتشفت متعة الحديث مع أناس طيبين، قاتلوا الى جانب التمرد وهناك روابط شبه أخوية بيننا.. وهذا غريب، أليس كذلك؟!».
غداً: مطارد الفرائس
آنيك كوجين
منصور ضو خلال مقابلة مع الوكالة الفرنسية داخل زنزانته
مغنِّية من غرفة القذافي إلى المصرف .. وهديتها مليون يورو (18)
الرئيس الأوكراني فيكتور يوتشينكو مستقبلا الرئيس الليبي معمر القذافي خلال مراسم إستقبال في كييف
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
وفي كتابها «الفرائس في حرم القذافي»، تواصل المؤلفة الفرنسية آنيك كوجين نقل مارواه نساء ورجال كانوا من ضحايا مجون القذافي أو شهوداً عليه.
عودة إلى طرابلس. هذه المدينة الغريبة هي في الوقت ذاته عصرية: تكثر فيها ازدحامات السير، تائهة ولا تعرف ما هي، هل لديها سحر مختبئ؟ من دون أدنى شك!
في المدينة القديمة المحاطة بالأسوار، يمكن أن تحد الأسواق والأبواب الخشبية المحفورة منازل قديمة تعود للحقبة العثمانية، مساجد رائعة وقصور سرية، وقد يكون هناك في وسط المدينة بقايا آثار جميلة من الحقبة الإيطالية. وفي ساحة التحرير في الصيف، بمقدور الأطفال اللهو والركض.
ولكن في شتاء عام 2012، البارد، لم أكن أنتبه إلى سحر هذه العاصمة الغريبة، التي تمتد على ساحل البحر المتوسط ولا ترضى بالتطلع إليه.
عبرت المدينة في سيارة تاكسي بحالة مزرية، وكان السائق يسخر ويغوص وسط الازدحام، لا يحترم أولويات المرور ولا قواعده، ولا يتوقف عند الإشارات الضوئية. وكان ينشد أغاني الثورة مع الراديو. لم يقل ما إذا كان يعرف العنوان الذي أقصده. «يا الله»، قال لي ردّاً على سؤالي.
كان يتوقف فجأة ليسأل عن طريقه، فيعود أدراجه. وعندما اكتشف - بفرح كبير - أنني فرنسية، بدأ يصرخ: «شكراً للرئيس الفرنسي فرنسوا ساركوزي». كنت أبتسم وأرسم إشارة النصر بإصبعي. وكان هو يقول إن تدخل «الأطلسي» لدعم الثورة يتطلب عرفاناً بالجميل إلى الأبد.
الشتاء كان قاسياً على سكان طرابلس. معظم الورش الخاصة والعامة معطلة، العديد من القطاعات الاقتصادية تضررت بشكل كامل، دفعت بقطعان من العاطلين عن العمل إلى الشوارع.
المتمردون يتأخرون في ترك الكتائب المسلحة التي قاتلوا في صفوفها. يحنون إلى اللحظات القوية التي صهرتهم، ونشوة النصر لا تزال تعتمر في قلوبهم. وهم في الوقت نفسه على استعداد للاشتباك مع ميليشيا منافسة. يترددون باختيار مستقبلهم، غير قادرين على تحديد ما سيقدمون عليه في المدى القريب.
بدأت الأصوات تعلو منددة بغياب شفافية السلطة الجديدة، أي المجلس الوطني الانتقالي، الذي لم يتم الكشف عن كل أعضائه. وأيضاً للتنديد بعدم فعالية الحكومة المؤقتة.
كان يجري الحديث عن نوايا انفصاليين في الشرق ونزاعات يقودها أنصار القذافي في الغرب، ولكن في طرابلس، حيث تم ردم مبنى باب العزيزية كلياً تمهيدا لتحويله - ذات يوم - إلى حديقة عامة كبيرة، يبدو أن الوقت قد حان، ومحاوريّ لا يدرون ما يفعلون.
من أجل المعلومة
عندما اتصلت ببعضهم. كان رد الفعل الأول ينم عن اضطراب، «كيف حصلت على رقمي؟». «من الذي أعطاك رقمي؟». «لماذا تتصلين بي؟». «لا علاقة لي بهذا الموضوع، لا تذكري اسمي على الإطلاق! لا يحق لك أن تدمري حياتي!».
وأحياناً، كان الرعب يأخذ شكل الغضب المرفق بالتهديدات، وغالباً ما كان يهدأ. كان يجب التفسير والطمأنة، والإكثار من الوعود بعدم كشف الأسرار. الكثير من المواعيد، التي حصلت عليها بعد كفاح طويل، كانت تلغى في اللحظة الأخيرة، أو تؤجل من دون إعطاء أي تفسير. أحد القادة المفترض أن يقودني إلى شاهد أساسي اختفى ولم يعد يرد على مكالماتي الهاتفية، وقيل لي إنه نقل إلى مستشفى في طرابلس، ومن ثم إلى تونس، حتى قيل لي إنه مات.
والمصدر الآخر سافر فجأة. والثالث مريض. ظهرت كل المؤشرات التي أعطتني إياها صوريا أنها صحيحة. الخطف، الحجز، الاغتصاب، مسخرة حارسات القذافي، التردد الدائم على غرفة القذافي من قبل شبان وشابات، هوس العقيد الجنسي.
بقي أن أفهم كيف كانت تعمل تلك الشبكات التي كانت توفر للقذافي الضحايا الشابات يومياً، وعلى مدى سنوات؟! كان المتواطئون في كل مكان.
من المؤكد أنه كان يوجد رجال يعرفون ذوقه تماماً ويعرفون الطريقة التي تضمن لهم رضاه وتسمح لهم بالتالي بالحصول على الامتيازات. وهناك النساء اللاتي مررن بسريره وكن يعرفن أنه من خلال مد القائد بالفتيات يشققن طريق الثروة: وزيرات، شرطيات، مدرسات، موظفات مصارف، حلاقات نسائية، موظفات في الفنادق، السياحة، الأعمال.
منصور وكيلاني
خلال مقابلاتي كان يتردد اسمان باستمرار، عبدالله منصور، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية، وهو مقرب جداً من العقيد، وعلي كيلاني، وهو من الجيش، ومعروف أنهما شاعران، والاثنان أدارا الإذاعة والتلفزيون الليبي، وعلاقاتهما بالوسط الفني كانت تسمح لهما بالوصول إلى عشرات الشباب والشابات الساذجين، وكانت لهم تطلعات للدخول إلى عالم الفن والتلفزيون. وكل تجربة لمعرفة القدرات المهنية كانت تشكل مناسبة لتقديم فريسة جديدة للدكتاتور. واللقاءات التي كان يجريانها في الفنادق الفاخرة ويظهران كسيدين محترمين كانت سرعان ما تكشف أنهما قوادان.
وكانت لهما الاتصالات مع مغنيات وراقصات وفنانات حول المتوسط. وكانا يجدان ألف حجة لتوجيه الدعوات لهؤلاء لزيارة القذافي. وكانا ينظمان السهرات والحفلات.
فمثلا، القذافي أعجب بإحدى مقدمات البرامج الخاصة بالأطفال على قناة «إم بي سي}. فاتصل عبدالله منصور بإدارة القناة لدعوة المذيعة إلى ليبيا بحجة أن الحكومة تريد تكريمها على قدراتها المهنية الكبيرة.
كذلك حاول منصور جذب صحافية لبنانية أيضا لفتت نظر العقيد، فأرسل لها الأموال لإقناعها بالمجيء إلى طرابلس، بعد أن أوهمها بأن شركة إنتاج تلفزيونية لمشاريع فنية (وهمية) بانتظارها. كانت ترصد مبالغ طائلة لخدمات كهذه تخص العقيد فقط، وكانت تلك الأموال بتصرف منصور الى جانب طائرة خاصة. وكان لمنصور شبكة في العديد من الدول العربية، مصر، لبنان، الأردن، تونس. وكانت العمولات كبيرة للغاية، خصوصاً إذا ما أعلن القائد عن ارتياحه للخدمات التي توفّر له.
في الدول الأفريقية كان العقيد يُشغل شركات مختصة بالخدمات الدبلوماسية وعددا من الشخصيات المحلية لينظموا له الحفلات واللقاءات الخاصة التي كان يحرص على أن ينعم بها خلال زياراته الرسمية الى تلك الدول. وكان يهتم أن تكون الجمعيات التي تعنى بشؤون المرأة من ضمن تلك اللقاءات، ليضمن استمرارية الحفاظ على سمعته كــ «بطل» مدافع عن قضايا المرأة. وكان يغير بروتوكول الزيارات الرسمية والدينية مثل عيد المولد في تومبوكتو عام 2006 واغاديس عام 2007 لفرض مثل هذا النوع من الاجتماعات، التي تشكل له مناسبات للعثور على صديقات يبقين مخلصات له. وكان لا يتأخر عن توزيع العطاءات والميداليات التي تحمل صورته اضافة الى العقود النفيسة.
«الغني والكريم»!
وكانت الصديقات الجديدات يتحولن الى لجان تنظم له اللقاءات اللاحقة، التي كان يحب ان تكون استعراضية صاخبة، وكان خلالها يختار الشابات الصغيرات لزيارة ليبيا.
الدعوة كانت في غاية البساطة، فسمعة القذافي في البلدان الأفريقية أنه «غني وكريم}. وكانت الحقائب الممتلئة بالأموال تسافر في عداد الوفد، وكانت معروفة ومنتظرة مثل خطاباته المعادية للأميركيين وملابسه الغريبة، والجميع كان يجد الدعوات لزيارة ليبيا مسألة طبيعية، ألم يكن يسوق ليبيا على أنها جنة النساء، وقال لي شاب ليبي درس في نيجيريا انه كان يلتقي أحياناً في المقاهي والملاهي مجموعة فتيات من نيجيريا ومالي في حالة من الفرح والهيجان لأنهن سيسافرن في اليوم التالي الى طرابلس.
لقد كن يعلنّ صراحة بأنهن يأملن في لقاء بابا معمر الذي كان يحب إسعاد الفتيات الشابات ويدعوهن الى قضاء إجازاتهن المدرسية في بلده، الم يكن الرجل الاكثر اهتماماً بالنساء بين كل رجال العالم!
فاطمة
فاطمة هي التي روت لي حكايات تلك الزيارات. كان موعدي معها في بهو فندق كارينتا الفخم، هي التي لوحت بيدها لي. وكانت تعرف كل الذين يعملون في الفندق. كانت بيضاء البشرة، عمرها 36 عاما. عرّفت عن نفسها بأنها موريتانية، تعيش منذ 20 شهراً في طرابلس بفضل معمر القذافي.
كيف وصلت. إلى هنا؟
- المسألة في غاية البساطة (انفجرت بالضحك..). كانت هناك امرأة نيجيرية متزوجة من طوارق يعرف مبروكة اقترحت عليّ في عام 2003 زيارة طرابلس مع اربع من صديقاتي. العرض كان مغريا: بطاقة طائرة، إقامة في فندق أربع نجوم، السياحة في ليبيا على نفقة الحكومة، ومصروف جيب.. من يرفض مثل هذا العرض؟ ماذا كنت ستفعلين لو كنت مكاني؟ بالتأكيد كنت ستقولين نعم من دون تردد وبسعادة كبيرة؟
كنت سعيدة، لأنها أجابت عن سؤالها بنفسها، لأن نعم من قبلي لم تكن مسألة طبيعية. وواصلت كلامها:
- الدعوة بالنسبة إليّ كانت هدية من السماء. وصلت الى مطار طرابلس مع صديقاتي. كان جلال (الشاب المخنث المغرم بصوريا) بانتظارنا، وقادنا الى فندق مهاري - 5 نجوم - كان يديره لفترة مؤقتة نوري مسماري. وقد سلَّم كل واحدة منا مغلفا يحتوي على 500 دينار (300 يورو) لكي نذهب ونتسوق، قبل أن يبدأ برنامج الزيارة السياحي. وبعد عدة أيام طلب منا أن نرتدي ملابس أنيقة لأننا سنذهب لزيارة بابا معمر.
جاءت سيارة من البروتوكول وأقلتنا الى باب العزيزية وهذا كان يشير الى أننا ضيفات مهمات.
العالم يحب ليبيا
- قادتنا مبروكة الى صالون في منزل القذافي الذي وصل وهو يرتدي ملابس رياضية حمراء، كان بسيطا. اهتم بكل واحدة منا سأل عن أهلها، عن اسمها عن قبيلتها، عن لغتها وعن وسائل تسليتها، وما إذا كنا نحب ليبيا؟ وقال إنه سعيد بان كل العالم يحب ليبيا.
كان في غاية اللطف والمرح. وفي لحظة من اللحظات التفت الى مبروكة وقال لها «ستكون مسألة جميلة لو أن فاطمة تعمل معنا. لأنني لاحظت انها تتكلم العربية، الطوارقية، السواحلية والفرنسية وهذه المسألة مهمة بالنسبة الينا». بدت لي مبروكة منزعجة، ولكنها قالت «نعم».
عدنا الى الفندق ونحن نكاد نطير من الفرح لأن بابا معمر اهتم بكل واحدة منا. استمرت الإجازة 3 أسابيع. جلال والسائق كانا دائما تحت تصرفنا. وتلقينا هدايا كثيرة.
«قنبلة» من مالي
تؤكد فاطمة أنها لم تر القذافي ثانية خلال هذه الزيارة. ولكنها سرعان ما عادت الى طرابلس مع مجموعة أخرى من الفتيات، بينهن فتاة من مالي دلوعة وصفتها بــ «القنبلة» وقالت إن القذافي جُنَّ بها.
وأضافت فاطمة «كانت الفتاة المالية ترتدي «تي شرت» من دون كم يلتصق بجسمها، وكان ذلك يتسبب لنا في بعض المشاكل في شوارع طرابلس. لكن القذافي كان يحب هذا. كان يرسل لها طائرة خاصة صغيرة ويستدعيها باستمرار. وفي كل مرة كان يخرج من الغرفة، حيث كنت انتظر أمامها مع مبروكة، كان يقول لمبروكة «اهتمي جيدا بضيفاتي»، وكان هذا يعني الهدايا والأموال. وكان جلال يعطينا ساعات رادو، تيسو وغيرها من الماركات، إضافة الى الأساور والأقراط الذهبية، عقود مع صورة القذافي محاطة بألماس، ولدى مغادرتنا كانت توزع علينا مغلفات تتراوح بين 2000 و20 ألف دولار. حسب الضيفات اللاتي كنت أرافقهن الى طرابلس.
القاسم المشترك
تتناسى فاطمة دورها، وكانت تتهرب من الإجابة عن عدد من الأسئلة من خلال الضحك، نحن الموريتانيات موهوبات للعلاقات العامة والتجارة. وبالنسبة اليّ هذا التعريف يعادل (..) وكانت تقول لي نحن الموريتانيات لا نحب النظام ونختار رجالنا بأنفسنا، وليسوا هم الذين يختاروننا. ويبدو أنها ساقت الى القائد مجموعات كبيرة من الفتيات من عدة دول. وآخر مرة اصطحبت 17 فتاة من نواكشوط لإحياء عيد المولد النبوي. وباتت علاقتها بباب العزيزية معروفة من الجميع. فقد كانت وسيطة بين الوزراء والسفراء ورجال الأعمال الأفارقة وبين باب العزيزية. مبروكة كانت تهتم بنساء وبنات الرؤساء الأفارقة اللاتي يردن رؤية القذافي، أما أنا فكان حقل نشاطي أوسع بكثير. وبدا واضحا أنني أصبحت من المقربين جدا للعقيد، لقد رافقته الى سرت وبنغازي عبر الصحراء. كانت تحضر الاحتفالات بالعيد الوطني وترافق زوجته وابنتيه عائشة وهناء التي كانت تقف دائما خلف شقيقتها الكبرى.
كان لديها ذكريات جميلة وأعمال مزدهرة حيث قالت لي إن سائقي باب العزيزية كانوا في طليعة من يشهد على الزيارات النسائية.
حسين السائق
أحد هؤلاء السائقين، واسمه حسين، كان يعمل في جهاز البروتوكول، أكد لي انه كان يقود الفتيات من فندق مهاري الى المطار. وقال «كن يأتين من كل البلدان والاتجاهات، من مدن ليبية، ولبنان، والعراق، ودول خليجية، والبوسنة، وصربيا، وبلجيكا، واسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا وأوكرانيا. كانت أعمارهن لا تزيد على عشرين عاما، وكن في غاية الجمال حتى من دون ماكياج. وكان بينهن قاسم مشترك واحد، وهو: الشعر الطويل».
«كان شخص من البروتوكول مكلفا باستقبالهن وقيادتهن الى الفندق. حيث يقضين عدة ساعات أو أيام قبل أن يأتي حسين لينقلهن الى باب العزيزية. وغالبا حوالي الساعة الواحدة صباحا. وكان يبقى في السيارة في المرآب حتى الخامسة صباحا. ليعيد الفتاة الى الفندق. وكانت سيارة تابعة للحرس تسير خلف سيارته.
بعضهن كن يخرجن من باب العزيزية سعيدات، والبعض الآخر منهن يخرجن حزينات. بعضهن كن يغادرن في اليوم التالي. وبعضهن يعدن عدة ليال على التوالي».
جميعهن كن يصلن الى طرابلس مع حقائب صغيرة، وغالبيتهن يغادرن مع عدة حقائب كبيرة. وكان حسين عبر مرآة السيارة الداخلية يكتشف رزم الدولارات. «أقسم لك على رأس ابني أن إحداهن أخرجت من حقيبة سامسونايت ممتلئة بأوراق مائة الدولار، ورقة مائة دولار لفتها كخرطوم وتنشقت الكوكايين، مائة دولار أكثر من راتبي الشهري. رافقت مغنية أمضت الليلة لدى القذافي الى المصرف، حيث تسلمت الأمر بأن أسحب لها مليون يورو من المصرف من فئة الخمسمائة يورو. وفي هذا اليوم قررت ترك وظيفتي، فقد كنت مشمئزا للغاية منها. وكنت قبل ذلك أعتقد انها وظيفة محترمة».
سألت آخر صديق لحسين كان مكلفا بالاهتمام بالبنات اللاتي ينزلن في فندق كورانيتيا، أكد لي أن الممرضة الأوكرانية كانت تأخذ عينة من دمه في الفندق أمام الجميع للقول للفتيات اللاتي اخترن لزيارة باب العزيزية أن هذا التدبير الغريب ينطبق على الجميع من دون استثناء.
إشكالات دبلوماسية
هوس القذافي كان يثير غضب رجال الأمن الأجانب أحيانا. فقد روى أحد وزراء خارجية السنغال كيف انه رفض بشدة بقاء المرأة الوحيدة في عداد وفده في طرابلس تلبية لطلب القائد.
وزير آخر طلب تفسيرا، لم يحصل عليه، حول الأسباب التي تدفع بالسلطات الليبية لاخضاع الفتيات الموريتانيات المدعوات الى ليبيا لفحوص طبية ضد الإيدز.
وزير آخر قال إنه رصد صوراً كان مبعوثو القذافي يرونها للناس بحثاً عن فتيات لفتن نظر العقيد خلال زيارته للنيجر. ووزير آخر فتح تحقيقا سرعان ما أغلقه بعد أن عرف أن فتيات مدعوات من قبل القذافي قد صودرت جوازات سفرهن واحتجزن في فندق مهاري. وحرصُ نوري مسماري على عرض أجمل الفتيات على القائد أدى ذات يوم الى فضيحة دبلوماسية بين ليبيا والسنغال.
في الفاتح من سبتمبر عام 2001 كانت مئات عارضات الأزياء الأفريقيات مدعوات للمشاركة بالذكرى الثانية والثلاثين لوصول العقيد القذافي الى السلطة.
وكان المطلوب من السفارات الليبية في الخارج ان تساهم بهذه التظاهرة، وقد وضعت إمكانات طائلة لهذه الغاية، وكان عليها أن تنشط في وسط بنات الموضة أو فتيات المرافقة أي (..) اللوكس.
كُلفت شقيقتان توأمان في السنغال نانسي وليلى كومباك وهما ابنتا ممثل سنغالي، وعملتا سابقا مع أجهزة القذافي. وفي 28 أغسطس اعطتا موعدا لمائة فتاة سنغالية في المطار وجهت لهن طرابلس دعوة لمدة أسبوع. في اليوم المحدد عند الساعة السابعة صباحاً كن جميعهن في المطار، طويلات نحيفات رائعات الجمال كلهن أمل، كان القائم بأعمال السفارة الليبية في استقبالهن في المطار وصعدن على متن طائرة بوينغ 727 استأجرتها الدولة الليبية من مالطا، ولكن قبيل الإقلاع طلبت السلطات السنغالية منع الطائرة من الإقلاع لأنهم شكوا بطبيعة المسافرات، بعضهن من دون جوازات سفر، من دون تأشيرات دخول الى ليبيا، بعضهن قاصرات اضطرت الحكومة السنغالية للتنديد بمحاولات تهريب الفتيات ووصف وزير خارجية السنغال هذه القضية المتورط فيها دبلوماسيون ليبيون، بأنها غير مقبولة وغير ودية، وقال إن السنغال ليست «دولة تمرير». وأعلن وزير الداخلية الجنرال مامادو نيانغ أن محاولات تهريب الفتيات من السنغال كانت على علاقة بشبكة دولية للدعارة، وأنه سيطلب من الانتربول (الشرطة الدولية) التحقيق في الموضوع.
استدعت السنغال سفيرها في طرابلس للتشاور وأرسل وفد ليبيا الى داكار للقاء وزيري الخارجية والثقافة، والرئيس عبد الله واد الذي أعلن رسمياً أنه مجروح. واتصل بالقذافي، وهو في حالة غضب شديد. وكان يتعين بذل الجهود الدبلوماسية الجبارة، التي قام بها أحد مستشاريه، وهو الذي روى لي الحادثة، لتجنب قطع العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا.
القذافي وخلفه مبروكة
ترجمة وإعداد انييس خباز
عُرف عن العقيد معمر القذافي انه كان ماجناً، وكلما تقدم به العمر، كان يحيط نفسه بمزيد من الفتيات، يتحرش بهن، ويعاشرهن، ويعتدي عليهن، وكأنه كان يريد أن يثبت «رجولته الدائمة»، كما كان يُخضع شعبه، رجالاً ونساء، لآلة القمع التي استخدمها بلا رحمة ليحصل على ما يريد ومن يريد.
وفي كتابها «الفرائس في حرم القذافي»، تواصل المؤلفة الفرنسية آنيك كوجين نقل مارواه نساء ورجال كانوا من ضحايا مجون القذافي أو شهوداً عليه.
منذ أول لقاء لي مع صوريا، في خريف عام 2011، كان إسما قد تحول الى نوع من الهوس بالنسبة إلي: مبروكة.
لم أكن معتادة على رنة الإسم، علما أنني أعرف معنى كلمة مبروك باللغة العربية وسبل استخدامها، ومكانها في المناسبات السارة. ولكن "مبروكة صوريا" لم يكن فيها أي شيء يسعد أو يبهج، خاصة عندما يخرج من فمها. فالإسم مرتبط بذكريات قاسية بالنسبة لصوريا.
تخيلتها كالحة السواد وتجسد الشر. من هي مبروكة؟! من هي تلك المرأة التي كانت على استعداد لارتكاب كل الجرائم من أجل إرضاء سيدها، الذي لم يكن سوى مجنون؟!
أي علاقة كانت تربطهما؟
هل كانت معجبة به؟
هل فعلت كل ما فعلته بسبب التعطش للغنى والسلطة، أم أنها كانت تستبق رغباته وقذاراته وفسقه؟
هل كانت تخفي ذلا تعرضت له؟
هل كانت تثأر؟
كيف كانت حياتها في باب العزيرية؟
صوريا لم تكن تعرف شيئا لتساعدني في إجراء تحقيقي، أو ربما كانت تعرف القليل فقط. فمبروكة كانت جلادتها وسجانتها وخاطفتها. تلك المرأة حطمت حياتها كليا، وخلال خمس سنوات لم تبذل تجاهها أي إلتفاتة إنسانية.
كانت على علم تام بكل ما كان يجري لصوريا وبأن القذافي كان يعتدي عليها، وهي كانت تسهل عليه الأمور. كانت تعلم، وربما تسمع، الشتائم التي كان يوجهها لتلك الصغيرة، وبالبوحشية التي يعامل بها صوريا.
خمسينية ذات خبرة
«كانت مبروكة (..) بأبشع صورها»، هذا ما قاله لي أحد مساعدي القذافي. وكل من كان مقربا من القذافي كان يعرف أن مبروكة كانت عشيقة العقيد من وقت لآخر. أما خارج باب العزيرية فكانت مبروكة تعطي انطباعا بأنها سيدة محترمة، وكانت تدعي أنها مستشارة الزعيم الليبي، وكانت تستغل الدبلوماسيين بتلك الصفة.
كان عليّ أن انتظر بعض الوقت لكي اكتشف بعض صورها في وكالات الأنباء. مبروكة موجودة تقريبا في كل الصور التي أخذت للقذافي، حيث نجدها دائما واقفة خلفه: عندما كان يفرش له السجاد الأحمر، وهو ينزل من على سلم الطائرة، وفي زياراته الرسمية الى الدول الأجنبية.... كانت تترك الصدارة لحارسات القذافي. وكانت تراقب من خلف بأعين الجوارح. كانت تضع حجابا أسود ولم تكن تضع على وجهها اي نوع من الماكياج، وكانت تقاطيع وجهها منتظمة وفمها قاسياً.
كان ذوقها في اللبس سيئاً للغاية، لا يشير شكلها الخارجي الى الجاه ولا الى الغنى، ولم تكن تستعمل أنوثتها في علاقاتها...
هكذا وصفها لي أحد السفراء الذي التقى مبروكة في أكثر من مناسبة. وأضاف: "ملامحها تشير الى أنها كانت جميلة في صباها، بقي شيء منه". ويقدر السفير عمرها بحدود الخمسين عاما.
كثير من قادة الدول والوزراء والسفراء وغيرهم التقوا بمبروكة، وبعضهم التقاها أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة: خلال زيارة رسمية أو قمة أفريقية أو مؤتمر عالمي.. فسيسيليا ساركوزي، على سبيل المثال، كان لديها فرصة لتعرف مبروكة عن قرب، أثناء المفاوضات الطويلة المتعلقة بالإفراج عن الممرضات البلغاريات اللواتي اتهمن بحقن أطفال ليبيين بدم ملوث بفيروس الإيدز.
تعيّن السفراء
كان الجميع يعرف أن مبروكة هي مسؤولة البروتوكول في باب العزيزية، ولكن الجميع أيضا كان يعرف علاقتها المقربة جدا والحميمة بالقذافي. كانت بكل تأكيد أذنيه. وكان يستخدمها لتمرير الرسائل. وكانت تبذل أقصى الجهود للتأكيد على أن سلطتها تتخطى حدود البروتوكول. كانت موضع ثقة العقيد، وكان بمقدورها التدخل لتعيين السفراء وغيرهم في المناصب العليا.. أو إقالتهم. كان لها بالفعل دور سياسي.
حدث في أحد الأيام أن اتصلت مبروكة بالخلية الدبلوماسية لقصر الإليزيه لتطلب ايضاحات حول السياسة الفرنسية في مالي والنيجر، وكان بعضهم يفترض ان لها تأثيرا في ملف الطوارق. وهي تعرف قادتهم في ليبيا وبعض الدول المجاورة مثل الجزائر، مالي، النيجر وموريتانيا.
إذن كان يتم التعاطي معها بالكثير من الاحترام، مع أن الاستخبارات الفرنسية وصفتها في أحد التقارير بأنها (..)..
التسوق في باريس
قال لي أحد السفراء الفرنسيين إنها كانت تأتي إلى باريس للتبضّع والتسوق. ولكنها كانت تلم الفتيات لترسلهن إلى القذافي، كانت تنزل في فندق الفوكتس، أحد الفنادق الفاخرة على جادة الشانزليزيه، وتشغل بشبكتها واتصالاتها.
ذات يوم التقت بكارولين ساركوزي، أخت الرئيس السابق من ابيه في حفل استقبال، وصلت إلى مكتبها دون موعد معها، المترجم وسائق السفارة طلبا منها أن تقدم إهداء كتابها للقذافي:
«إلى أخي القائد.. آمل أن يسليك هذا الكتاب عن المنازل الباريسية الجميلة».
لقد عثر الثوار على هذا الكتاب في 11 أغسطس في فيللا عائشة القذافي الفاخرة.
كانت فكرة مبروكة أن تجذب يوماً ما هذه المرأة الجميلة إلى العاصمة الليبية.
هل التقت يوماً ما بوزيرة العدل السابقة رشيدة داتي؟ لقد طلبت لقاءها ثانية في {الفوكتس}. لقد أعدت قائمة بالنساء الوزيرات والمهمات، وفي مقدمتهن النساء من المسلمات.
كانت تذهب للتبضع في مخزن العطورات سيفورا لشراء العطور لحريم القائد. تتصل بسلمى وتسألها إذا كان العقيد بحاجة إلى أي شيء.
بودرة للوجه، مساحيق ضد التجاعيد. وكان يفضل الماركة الأميركية ماك MAC. وعندما كان البائع الشاب يسألها عن الرجل الذي تتبضع له، كانت تقول له: {لرجل مثلك}. والبائع لم يكن يتخيل أن مستحضرات التجميل الرجالية تلك كانت للقذافي. وكانت المترجمة بالكاد تلتقط أنفاسها لكي لا تنفجر بالضحك.
الصيادة.. والشبكة
كانت تأخذ وقتها في زيارة المحلات الفاخرة. في المطاعم كانت تجري الأحاديث مع السيدات أو الفتيات الجميلات. كانت تفضّل الفتيات المغربيات أو الخليجيات، لأنه بمقدورها أن تتحدث إليهن بالعربية. للأخريات كانت تلجأ إلى خدمات مترجم اعتاد على تحركاتها. كانت دائما تبدا تحرشها بهؤلاء لاستمالتهن بجس نبضهن حول استعدادهن للسفر الى ليبيا. وكانت دائما تبدأ بسؤال: {هل تعرفين ليبيا؟ إنها بلد جميل.. يجب أن تزوريه يوما وتكتشفينه.. هل ترغبين في قضاء الإجازة؟ بمقدوري أن أدعوك! وبمقدوري أيضا أن أعرفك على قائدنا}.
كانت تلتقط الصور مع فرائسها المحتملة، وتسجل عناوينهن. كانت دائما تصطاد مع إمكانات لامتناهية.
لقد رُويت لي قصة شابة مغربية تعرّفت عليها في الفندق وأقنعتها بزيارة ليبيا. الفتاة وافقت شرط أن توجه الدعوة أيضا الى ابن عمها ويذهبان سويا الى ليبيا. وهذا ما تم، وعادت الفتاة إلى فرنسا ومعها 50 ألف دولار!
الشيطانة
ذات مساء في طرابلس التقيت بأحد قادة الطوارئ من معارفي القدماء، ليعطيني بعض المؤشرات عن شخصية مبروكة. لم يترك لي صديقي القديم الأرستقراطي الوقت لكي أُخرج دفتري وأدون ملاحظاتي. نظر الى عيني وأمسك بذراعي، وقال لي {إنها شيطانة}.
سادت لحظات من الصمت، شعرت خلالها وكأن صديقي يريد أن يستجمع بعض القوة ليزن كلماته أكثر قبل أن يختارها.. ثم قال: {إنها مسكونة بالشر.. وهي مُحنكة.. لا يوجد شيء لا تجرؤ على القيام به لتحقيق أهدافها: الكذب، التجسس، النصب، الخيانة، الرشوة والشعوذة. أنها جريئة الى حد لا يمكن وصفه ولا تخيله.. تتلوى مثل الحية، وبمقدورها بيع الريح في العلب}.
ومما قاله صديقي الارستقراطي أيضا إن: {والدها كان من نبلاء الطوارق، لكنه تزوج من امرأة من نسب متدن من مدينة غات في جنوب ليبيا على الحدود مع الجزائر والنيجر، وأنجب منها مبروكة وشقيقتها الكبرى، وترك أمر تربيتهما الى عبيدٍ له. وهذا تقليد لحماية الأطفال من الأرواح الشريرة عندما كان الآباء يفقدون أطفالا آخرين.
كانت مبروكة مخطوبة في شبابها لأحد أقاربها الذي كان أيضا من نبلاء الطوارق، ولكن فجأة تزوجها مسعود عبد الحفيظ قذاف الدم، الذي كان متزوجاً من ابنة عم القذافي، وكان قائداً عسكرياً. وقد استفادت مبروكة من الامتيازات التي كان يتمتع بها أقارب القذافي واعتادت على السفر والعيش الرغيد، ولكن سرعان ما طلقها مسعود عبد الحفيظ وعادت لتعيش في مدينة غات}.
وعلى عكس أكثرية نساء الطوارق الساحقة فإن مبروكة لم تكن ترتدي الملابس التقليدية، وكانت ملابسها على الطريقة الغربية من دون أي ذوق.
عرف محاوري أنها نسجت علاقة غرامية مع مدير مصرف واختفت، ذهبت الى طرابلس، ولا يعرف المزيد من التفاصيل حول هذه الحلقة من حياة مبروكة.
الطريق إلى القذافي
وما لم يقله لي صديقي الارستقراطي عرفته من أحد موظفي البروتوكول. كانت قد توظفت في السلك البروتوكولي عام 1999 بمناسبة انعقاد مؤتمر قادة الدول الأفريقية، الذي حرص القذافي على أن يعطيه حجماً وبعداً تاريخيين. فأصدر إعلان سرت في 9 سبتمبر عام 1999، الذي حدّد أهداف الإتحاد الأفريقي. شارك في المؤتمر ثلاثيون رئيس دولة أفريقية. وكان هؤلاء اصطحبوا زوجاتهم معهم الى طرابلس. وكان لا بد من استقبالهم في المطار ومرافقتهم في تنقلاتهم (التسوق، صالونات الحلاقة، المؤتمرات) وكان لا بد أن يكون لديهم مترجمون. وكان مدير البروتوكول بحاجة الى أشخاص يتحدثون لغات عدة ولهجات أفريقية.. وهكذا دخلت مبروكة الى دائرة السلطة.
قال لي الشخص الذي وظفها إنها كانت تبدو ريفية متخلفة ولا تمت للأناقة بأي صلة: «كانت تبدو فقيرة للغاية، ولم يخطر ببالي أنها يمكن أن تنجح. وفوجئت كم كانت إرادتها قوية، رأيت ذلك في عينيها، وكانت تتحدث عدة لغات افريقية. تلقت دورة تدريبية مكثفة حول طريقة التحدث والهندام. وفي أول يوم للمؤتمر دخلت مبروكة الى باب العزيزية لمواكبة وفد جاء ليحيي القذافي، وكان هذا كافياً».
«ومساء ذلك اليوم فوجئنا جميعنا عندما جاءت لتخبر مسؤولتها بأنه يتعين عليها أن تجد شخصاً آخر يحل محلها،لأنه، اعتبارا من اللحظة باتت تعمل مع الأخ معمر القذافي مباشرة، قالت لنا ذلك بكل ثقة ومن دون أن يرف لها جفن أو تأبه من قريب أو بعيد لرد فعلنا.. لقد نجحت».
الأسرة التي استقبلتها في طرابلس أشارت لاحقا الى مدى هوس مبروكة بلقاء القذافي، وكانت تقول «يكفي أن التقي به مرة واحدة، مرة واحدة وسيطلب مني أن اعمل بخدمته»، وهذا النجاح يكمن في ممارستها للشعوذة، بحسب محاوري.
وخلال كل هذه السنوات في خدمة القذافي، التقت في العديد من الدول بأكبر مشعوذي أفريقيا وسحرتها ودعتهم إلى طرابلس. رويداً رويداً، أصبحت ملكة لنوع من الحريم يقبع تحت الأرض في بيت القذافي. حيث كانت الشابات الصغيرات حبيسات. بقي قسم منهن سنوات طويلة، أوقعت بهن ولم يعد بمقدورهن العودة إلى الاندماج في المجتمع الليبي. وكانت المصدرة الرسمية للفرائس الجنسية. وقد روى لي محاوري أنها كانت تحب الشبان الصغار الرياضيين مفتولي العضلات وكانت تستخدمهم شخصياً قبل أن ترسلهم للقذافي.
وأخيراً، كانت مديرة الجهاز الخاص المؤلف من تلك الفتيات باللباس العسكري المفترض أنهن حارسات القذافي.
أين هي؟
الويل لمن يشير إلى أن لديه ابنة أو قريبة أو جارة، والويل لمن كان يذهب إلى باب العزيزية، لطلب خدمة أو وظيفة أو مساعدة طبية، فقد كانت تنتظر الفرصة لإلقاء شباكها.
لقد كانت هذه المرأة «وصمة عار على الطوارق»، قال لي أحد زعماء هذا الشعب، وأضاف «كنا نعلم ماذا يعني الجهاز الخاص. فهل استفادت من وضعها للنيل من نسائنا؟ لقد كانت قادرة على القيام بكل شيء، ولكن المرأة الطوارقية تفضل أن تقتل نفسها على أن تخضع لمثل هذه الأعمال».
بالتأكيد، حاولت أن أعرف مكان مبروكة. في بداية شتاء عام 2011، قيل لي إنها هربت مثل معظم المقربين من القذافي وإنها موجودة في الجزائر. والبعض قال إنه رآها في تونس. وذات يوم، قرأت برقية لإحدى وكالات الأنباء تقول إنها عبأت العديد من الشخصيات، بينهم زعماء من الطوارق، لمحاولة إقناع السلطات الجزائرية بمنحها اللجوء السياسي، لكن طلبها قوبل بالرفض.
في مطلع مارس 2012، عرفت أنها فاوضت للعودة إلى الأراضي الليبية وأنها تقيم تحت الإقامة الجبرية برفقة والدتها.
حاولت أن التقي بها، ولكن هذا الأمر بدا مستحيلاً، لكنني فوجئت بأن عثمان حكمت قائد ثوار الزنتان، الذي استجوبها على مدار ثلاثة أيام، كان متسامحاً معها. «لقد أعربت عن ندمها الكبير، حتى أنها طلبت الصفح، وأنها لم تكن تتصرف بملء إرادتها.. لم يكن يوجد أي شخص حر في ليبيا يومها، ورأيت أنها تتعلق كثيراً بأمها العجوز، وأعطتني الانطباع أنها امرأة طيبة، وأرادوا تلبيسها ثوباً أكبر منها».
هذا ما قاله قائد ثوار الزنتان.
امرأة طيبة؟! لم أصدق ما سمعته. هل كان بمقدورها أن تلعب بسجانيها؟ هل يتعين عليّ أن أنقل لهم ملف صوريا؟