كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 7, August 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط
بعدما كشف تيمور مهنا حقيقة الخواجة جورج لنجيب الريحاني، عاد ووفى بوعده إحضار صاحب الأزجال، فعاد إلى المسرح في مساء اليوم التالي ومعه شاب نحيل، يبدو من طبيعته، كما لاحظ نجيب، مهذباً وخجولاً.
جلس الشاب صاحب الأزجال صامتاً يسترق نظرات من حين إلى آخر إلى نجيب الريحاني، الذي لاحظ ذلك، فأراد الدخول معه في حوار بهدف إزاحة الحرج عنه.
* وأديبنا الخجول بقى اسمه إيه؟
ـ بديع خيري.
* اسم فنان. بس قوللي يا عم بديع؟ أنت بقى اللي كتبت الكلام الجميل دا بتاع «الفايظجية» ولا جورج شفتشي؟
ـ لا جورج اللي كتبه.
* كدهه؟ يعني مش أنت؟
= هو عجبك.
* جداً. دا شيء بديع خالص. بديع خيري.
= دا من ظرفك… بس هتفرق إيه أنك تعرف إني أنا اللي كتبته ولا جورج. المهم أنه عجبك وبس.
* واضح إنك راجل مؤدب زيادة عن اللزوم ومش عاوز تفضح صاحبك… بس مش مهم. المهم أني عاوزك تكتب لي زجل تقوله طايفة من الأعاجم، وصلوا لزيارة «كشكش بك عمدة كفر البلاص». ممكن تجيبه أمتى؟
= بكره إن شاء الله.
** كدهه… وتقولي مش أنت اللي كتبت زجل «الفايظجية»!
لم يخيب بديع ظن نجيب وصدق وعده، إذ جاء صباح اليوم التالي يحمل الزجل المطلوب ومطلعه: هاي هاي اعجام إخوأنا… كفر البلاص قدامنا.
لم يترك نجيب بديع خيري يغادر المسرح قبل التوقيع على عقد اتفاق بالعمل في فرقة الريحاني براتب شهري قدره 16 جنيهًا مصريًا.
راح بديع خيري يكتب الكثير من الأزجال التي ضمنها الريحاني إلى مسرحية «حمار وحلاوة» بدلاً من أزجال أمين صدقي الذي ترك الفرقة غير آسف، ظناً منه أنهم سيأتون زحفاً إليه لإنقاذ الفرقة من الضياع، غير أن أزجال بديع بثت روحاً جديدة في الفرقة، حتى إن نجيب وجد عند ختام الشهر الثاني 800 جنيه مصري في خزانة الفرقة، أي أن مبلغ الشهر الأول تضاعف، واستمرت «حمار وحلاوة» لمدة أربعة أشهر بنجاح ساحق، للمرة الأولى في تاريخ المسرح المصري وحققت إيرادات لم تحققها مسرحية سابقاً.
بدأ نجيب الريحاني يلاحظ أن من بين جمهور مسرحه أفواجاً من هؤلاء الذين وفدوا إلى مصر منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، فتوافد الأوروبيون، تحديداً الإنكليز، بإحساس أنهم متفوقون على المصريين مادياً ومعنوياً ومدنياً، بل وعسكرياً، وتعاملوا معهم باعتبارهم شعباً متخلفاً مغلوباً على أمره يسهل استغلاله، فاستغل نجيب الموقف وجعل من شخص «كشكش بك» رمزاً للمقاومة، فعلى رغم ريفيته وسذاجته إلا أن الريحاني جعل في أعماقه كبرياء وعناداً واندفاعاً محموماً للمشاغبة، مع استخدام سلاح المكر والدهاء، فكفل له في أعماله الانتصار دائماً على الخواجة غير المصري، مطالباً دائماً بحقه في ما يملك كمصري.
أعد نجيب رواية جديدة بعنوان «على كيفك» وضع أزجالها الصديق الجديد بديع خيري، ولحنها كامل شامبير الذي سبق ووضع ألحان «حمار وحلاوة».
بلغ الريحاني من الخبرة والحنكة ما جعله يقوم خلال عرض رواية «على كيفك» بدراسة حالات الجمهور النفسية، ويراقب مقدار الأثر الذي تحدثه تلك الأزجال الجديدة في أنفسهم عموماً، خصوصاً أن الريحاني يعرف نوعية جمهوره جيداً، فهو يضم فئات بعينها، لا سيما الطبقة الراقية من الباشوات والباكوات، إضافة إلى بعض الأجانب الموجودين على أرض مصر. فدخل السرور إلى نفسه، ليس بسبب استقبال جمهور لهذه الأزجال والأغاني بطريقة رائعة، بل لملاحظته حدوث تغير في نوعية الجمهور مسرحه، إذ لاحظ فئات جديدة من الطلبة والمثقفين، وعلى رغم سعادته بذلك إلا أنه كان لا يزال يشعر بنقص في نوعية الجمهور، فراح ينقل هذا الإحساس إلى بديع خيري ليكون محور الأزجال التي يكتبها:عايزين نعمل مسرح مصري. مسرح ابن بلد فيه ريحة الطعمية والملوخية… مش ريحة البطاطس المسلوقة والبوفتيك… مسرح نتكلم عليه اللغة اللي يفهمها الفلاح والعامل ورجل الشارع ونقدم لهم اللي يحبوا يسمعوه ويشوفوه.
وجاءت النتيجة كما توقع الريحاني، فقد أحدثت أزجال بديع خيري الجديدة تغيرًا مدهشًا واتسعت دائرة الأعمال وأضحى مسرح «الإجيبسيانة» مقصد الرواد من كل حدب وصوب. حتى في الأيام التي كان يعبر عنها بالأيام «الميتة»، الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وإزاء ذلك قام الريحاني بتشجيع بديع ورفع راتبه من 16 جنيهاً شهرياً إلى 30 جنيها دفعة واحدة، خصوصاً عندما بلغ دخل الفرقة خلال شهرين من العرض ثلاثة آلاف جنيه!
في المقدمة بلا شريك
لم يكتف الريحاني بهذا النجاح، فلا يكفي أن يصل إلى القمة، بل لا بد من الحفاظ عليها. فكر في الاستعانة بمؤلف جديد للفرقة إلى جانب بديع خيري، من شأنه بناء «هيكل الروايات» واستنباط موضوعاتها وابتكار نكاتها، فوقع اختياره على حسين شفيق المصري، الذي قدم للفرقة نوعاً جديداً من الروايات المسرحية، لا يعتمد على الاستعراض والغناء والكوميديا، بل يغوص في أعماق المجتمع المصري ويلقي الضوء على مشاكله وهمومه، واشترك الثلاثي (نجيب وبديع وحسين شفيق) في كتابة رواية بعنوان «سنة 1918 ـ 1920»، وهو عنوان غريب على المسرح المصري عموماً ومسرح الريحاني عموماً، ليصبح الأخير في المقدمة بلا منافس، لدرجة أن الفرقة المسرحية الأخرى بدأت إغلاق أبوابها، واحدة تلو الأخرى.لكن علي الكسار أبى أن يستسلم، وراح يناوش الريحاني وفرقته من خلال أسماء رواياته، فقدم رواية «راحت عليك»، الأمر الذي استفز الريحاني بشكل كبير فرد عليه بعنوان رواية جديدة وضع لها عنوان «فشر»، التي لاقت النجاح نفسه، ما جعل جورج أبيض يقف حائراً أمام هذه الظاهرة، وراح يناقش عزيز عيد في كيفية الخروج من هذا المأزق:
* أنا مش عارف الريحاني بيعمل إيه للجمهور علشان يبقى مسرحه كل ليلة بالشكل دا؟
= بيعمل اللي الجمهور عايزه يا أستاذ.
* مش كل اللي الجمهور عايزه ممكن ينجح كدا… أكيد فيه سبب تاني.
= بصراحة الريحاني بيقدم في رواياته كل حاجة. الاستعراض والمغنى والرواية المحبوكة والضحك. ودا بيخلي الجمهور بيتهافت عليه.
* خلاص. نعمل اللي الجمهور بيحبه… بس بطريقتنا برضه.
انقاد جورج أبيض إلى نصيحة عزيز عيد، واستعان بفتى صغير اسمه حامد مرسي، لينشد بعض القصائد القديمة بين فصول روايته، كذلك كلف الأديب عبد الحليم دولار المصري بكتابة رواية تحاكي روايات الريحاني، فكتب له «فيروز شاه»، واستعان جورج بملحن جديد ليضع ألحان الرواية، كما أنجز ديكورات فخمة ومد الفرقة بملابس جديدة، يغلب عليها الثراء التاريخي الذي يتناسب وأجواء المسرحية… على رغم ذلك كله ظلت الهوة كبيرة بين إيرادات مسرحه وإيرادات مسرح الريحاني، ولم تحدث المنافسة التي كان ينشدها.
لم يكن لدى الريحاني الوقت ليذهب إلى مسرح جورج أبيض كي يشاهد روايته الجديدة، فكلف بعض أعضاء فرقته القيام بهذه المهمة، فعادوا وقد نقلوا إلى الريحاني ما يهمه معرفته عن أحوال الفرقة وحجم الجمهور.
الشيخ سيد
اطمأن الريحاني لكلام أعضاء فرقته وتصدره القمة، غير أنه بينما كان يجلس في صالة المسرح ينتظر أن ينضم بقية أعضاء الفرقة إلى من يجلسون فوق خشبة المسرح لبدء التمرين اليومي، سمع بعضهم يردد أزجالا بألحان جديدة على سمعه لفتت انتباهه بقوة، فسأل شقيقه جورج، باعتباره أحد الذين زاروا مسرح جورج أبيض:
* مين اللي بيقول الكلام دا؟
= دا عبد اللطيف المصري.
* يا أخي ما أنا شايف أن عبد اللطيف اللي بيقوله. أنا قصدي بتاع مين؟
= آه. دا بيغنيه مغني صغير اسمه حامد مرسي في فرقة جورج أبيض.
* يا أخي مين اللي ملحن الكلام دا؟ المزيكا… المزيكا يا جورج.
= أيوه. دي بتاعت شاب من إسكندرية تلميذ المرحوم سلامة حجازي، جابه جورج أبيض من فترة… وهو اللي بيحط كل ألحان الفرقة.
* تلميذ الشيخ سلامة! اسمه إيه الشاب ده؟
= اسمه سيد درويش.
* ومين ما يعرفش الشيخ سيد؟ دا صيته واصل من هنا إلى الشام.
استمر الكسار يضع عينيه على مسرح الريحاني وما يقدمه من روايات، ليضع عناوين روايات الغرض منها، ليس استفزاز الريحاني فحسب، بل لتوصيل رسالة مهمة إلى الجمهور، وهي أن «بربري مصر الوحيد عثمان عبد الباسط» قادراً على منافسة «كشكش بك» بل والتفوق عليه، فقدم رواية بعنوان «الصيت ولا الغنى» وأراد الريحاني أن يرد عليه، فاجتمع الثلاثي (نجيب وبديع وحسين شفيق) ووضعوا رواية جديدة أطلقوا عليها اسم «ولو» وضع بديع أول زجل منها وهو عبارة عن شكوى يتقدم بها جماعة من «السقائين» يشرحون للجمهور آلامهم في الحياة.
سلم الريحاني الزجل إلى الشيخ سيد درويش، الذي وعد أن يأتي باللحن مساء الغد، غير أنه لم يف بوعده ولم يعد في الموعد، بل ولا في اليوم التالي، حتى إذا كان اليوم الثالث أرسل إليه الريحاني عبد اللطيف جمجوم، الذي ظل بجوار الشيخ سيد طيلة الليل، يحاول البحث عن بداية اللحن دون جدوى، ومع أول ضوء للنهار بدأت الحياة تدب في «الحارة» التي يسكن فيها الشيخ سيد، فوصل إلى أذنه صوت أول سقا يدخل الحارة وهو يصيح بصوت جهوري: يعوض الله.
أنتبه الشيخ سيد، وأمسك بذراع جمجوم وهتف:
= خلاص… خلاص يا جمجوم لقيت اللحن اللي أنا عاوزه.
يعوض الله
يهون الله ع الساقين
دول غلبانين
متبهدلين م الكبانية
خواجاتها جونا
دول بيرازونا
في صنعة أبونا
ما تعبرونا يا خلايق
وفي المساء حضر وأمسك بالعود وراح يغني اللحن بصوته، فيما حلق الريحاني طائراً في السماء فرحاً باللحن والكلمات، وبينما هو على هذه الحال ناوله بديع خيري الزجل الثاني للمسرحية وأسمعهما مطلعه:
نبين زين ونخط الودع وندق لكم ونطاهر
وتحبل اللي ماتحبلش ونفك كمان اللي تشاهر
في اليوم التالي كان الشيخ سيد قد وضع اللحن للزجل الجديد، ثم أعقبه زجل استقبال كشكش: ألفين حمد الله على سلامتك… يا أبو كشكش فرفش أدي وقتك.
ظل بديع يوالي الشيخ سيد درويش بأزجال مصرية صميمة حتى اكتملت رواية «ولو» وظهرت للجمهور في ثوب من بديع البيان، وصفاء الألحان، لدرجة أن الريحاني شعر بأن الجمهور كان يسبح أثناء التمثيل في عالم علوي تهزه نشوة السرور والإعجاب، فيقابل كل كلمة أو نغمة بالتصفيق والترحيب.
الاعتراف بنجيب
ذاعت شهرة مسرح الريحاني وارتبطت ألحان سيد درويش به، وراح كل المصريين يرددونها، سواء من الطبقات الراقية أو الطبقات الدنيا وطوائف العمال والفلاحين، وأصبح موضع أحاديث الناس في كل مكان، ولم يعد لهم أحاديث إلا عما خلفته الحرب العالمية وروايات نجيب الريحاني، ما جعله يرفع من راتب بديع خيري ليصل إلى 50 جنيهاً في الشهر.
على رغم هذا النجاح الكبير إلا أن نجيب انتابه إحساس بأن شيئاً ما ينقصه، وهو ما أسر به إلى لوسيين عندما وجه إليها دعوة على العشاء احتفالاً بهذا النجاح:
= حبيبي. كل ما أنظر في عينيك أجد بهما حزناً كبيراً… ليه؟
* للدرجة دي قادرة تدخلي جوه عنيا؟
= أنا جوه قلبك. مش عينك فقط.
* عارفة يا لوسي… كل ما أحقق نجاح جديد أخاف!
= من إيه؟
* بخاف إن النجاح يكون صدفة… وينتهي فجأة.
= اللي أنت بتعمله مش ممكن يكون صدفة. أنت فنان حقيقي… ومش مجرد فنان ناجح بس. فنان بيحب بلده وحاسس بهمومه ومشاكله.
* للدرجة دي أنت فاهمة اللي بنقدمه رغم أنه بالعربي؟
= الإحساس ملوش لغة. الإحساس الصادق بيوصل بأي لغة.
* سيبك من التياترو والنجاح والسقوط. أنت واحشاني جداً.
= أنت أكتر… بس أعمل إيه؟ ماقدرش أكره غريمي لأننا بنحب «المسرح» سوا.
لم يشأ نجيب الريحاني أن يظل شقيقاه بعيدين عنه، فإضافة إلى عمل جورج إلى جانبه كسكرتير خاص لا يفارقه، أوكل إلى توفيق مهمة الوقوف في مدخل التياترو لملاحظة من يدخل ومن يخرج والتصدي لأي مشكلة قد تطرأ من أي من الحضور، إضافة إلى ملاحظة العاملين في التياترو لإنجاز أعمالهم من نظافة وحسن استقبال للجمهور. أما يوسف، فنظراً إلى ظروفه الصحية طلب منه أن يجلس في شباك التذاكر ليكون أميناً على ماله، وفي الوقت نفسه ليبتعد عن اهتمامه بالتنويم المغناطيسي الذي شغل به كثيراً، فشعر شقيقاه بامتنان كبير لحرص نجيب أن يكونوا بجواره. لكن والدته السيدة لطيفة، ظلت على رأيها في التمثيل وفي ابنها «الممثل» الذي لا تزال تخجل من أن تخبر إحدى جاراتها بوظيفته، حتى قادتها الصدفة لتعرف ابنها للمرة الأولى وتعرف أنها والدة أهم شخصية فنية في مصر.
انتهت والدة الريحاني من زيارة ابنة خالتها في شارع الفجالة، ثم استقلت «المترو» عائدة إلى منزلها في مصر الجديدة، جلست إلى جوار الشباك تنظر منه لا تلقى بالاً إلى من يجلس بجوارها، بينما كان يدور حديث بين راكبين في المقعد الخلفي لها انضم إليه راكبان في المقعد الذي أمامهما، فمرت الكلمات عبرها، وهي لا تعيرهم اهتماماً، حتى انتبهت إلى اسم:
ـ أيوه نجيب الريحاني.
= دا حتة ممثل. ماجبتهوش ولادة…
- تصدق يا حامد أفندي أني شفت كل روايات نجيب الريحاني دا.
= كل رواياته!! دا أنت غاوي بقى.
ـ شوف علشان تحس بالفن اللي على أصوله لازم تشوف روايات الريحاني. هو صحيح علي الكسار كويس بس مش زي الريحاني.
- الميزة اللي عند الريحاني أنه راجل وطني بيحب مصر وبيقدم الفن اللي يخدم بلده لأنه حاسس بالناس وهمومهم.
جاءت الجملة الأخيرة لتحسم موقف السيدة لطيفة لتفعل ما ترددت كثيراً في فعله، حيث فوجئ ركاب عربة المترو بالسيدة لطيفة تقف وسط عربة المترو وتصيح فيهم وهي تغالب دموعها: نجيب الريحاني دا يبقى ابني. أنا أم نجيب الريحاني الممثل… نجيب الريحاني ابني… ابني.
«أنا أم نجيب الريحاني.. الممثل» هذه الكلمة التي كانت السيدة لطيفة تأنف من أن «يوصم» بها ابنها، أضحت موضع زهوها وفخارها!
عادت إلى بيتها، وكان أول قرار اتخذته أن تعترف بابنها نجيب وبمهنته التي شرفتها اليوم وسط رهط كبير من ركاب مترو مصر الجديدة:
* اسمع يا توفيق… أنت رايح النهارده التياترو عند أخوك نجيب؟
= أيوه يا أمي. ما أنت عارفة إن نجيب بيحب نبقى جنبه. أنا عارف إن دا مزعلك بس اعتبريه شغل زي أي شغل. وأهو إحنا أولى من الغريب.
* طيب اسمع أنا عاوزة أقولك حاجة بس ما تجبش سيرة لنجيب.
= خير يا أم توفيق؟
* أنا عاوزاك تاخدني معاك التياترو وأنت رايح النهارده.
= إيه؟! بتقولي إيه؟ أم توفيق أنت ناوية على إيه؟ إحنا ماصدقنا الأشيا بقت معدن مرواحك النهارده دا ممكن يقفل التياترو.
* أنت فاهم غلط يا توفيق. أنا النهارده بس عرفت قيمة نجيب وعاوزه أفرح بيه… ولو إن الفرحة اتأخرت كتير قوي. بس بشرط أوعى تقوله… عاوزاه يتفاجئ بيا وسط جمهوره اللي بيحبه.
البقية في الحلقة المقبلة سيد درويش
وجد الريحاني شيئاً جديداً ومختلفاً في ما سمعه من ألحان سيد درويش، ففكر في نقلها إلى مسرحه، غير أنه تردد في الاستعانة به خشية أن يتكرر معه ما فعله أمين صدقي، ما إن يتعود الجمهور على ألحانه حتى يبدأ في التفاوض وإملاء الشروط. لكن مهما كانت الشروط لا بد من الاستعانة به في مسرح الريحاني، وفوراً أرسل شقيقه جورج لإحضار سيد درويش:
* أهلا أهلا اتفضل يا شيخ سيد.
= يزيد فضلك يا أستاذ.
* قوللي يا شيخ سيد أنت عايش هنا في مصر ولا في الإسكندرية؟
= ما تشغلش بالك يا أستاذ. أدي إحنا بنقضوها… شوية هنا وشوية هناك. وأهي ماشية يا سيدنا.
* شوف يا شيخ سيد. أنا سمعت ألحانك البديعة وعجبتني أوي وعاوزك تشتغل معأنا.
= دا يشرفني يا أستاذ. بس ربنا يقدرنا ونقدروا نوفقوا بين هنا وجوق الأستاذ جورج أبيض.
* يا شيخ سيد. أنا بقولك تشتغل معانا لوحدنا. يعني تبقى واحد مننا. تخليك معأنا على طول.
= أيوه يا أستاذ… بس يعني…
* قولي يا أبو السييد… الأستاذ جورج أبيض رابطلك ماهية كام في الشهر؟
= تمنتاشر جيني (جنيه).
* طب يا سيدي. إيه رأيك إحنا هنديك هنا أربعين «جيني».
= يا سيدي يا أبو العباس.
الفيلسوف الضاحك 20: نجيب الريحاني… محدش واخد منها حاجة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 7, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
في الموعد المحدد اندست السيدة لطيفة بين المتفرجين… ولم تنقطع دموعها التي اختلطت بالضحكات طوال العرض. لم يكن العرض يجلب البكاء، لكن فرحتها بإعجاب وتصفيق الجمهور لنجيب كلما غدا أو راح فوق خشبة المسرح أبكتها، وما إن انتهى المشهد الأخير حتى وقفت وسط الصالة تصفق بحرارة قبل أن يبدأ الجمهور بتحية الفرقة. نظر الريحاني إلى من يسبق الجميع بإعجابه فإذ به يجدها أمه.
لم يصدق نجيب الريحاني عينيه، راح يحدق في والدته ووجدها تقترب من نهاية الصالة إلى خشبة المسرح فسبقها ونزل إلى الصالة، قبَّل يدها ورأسها بينما هي تصفق له ونظرت إلى الجمهور:
= دا ابني… أنا أم نجيب الريحاني.
* إذا كنتم حبيتوني ونجحت قدامكم… فدا بفضل ربنا وفضل الست دي… أمي.
التفت إليها.. تعانقا وانهمرت دموعهما.
فرحة غامرة اجتاحت كل خلجة في جسد الريحاني، فقد شعر بأنه اليوم… واليوم فحسب أصبح فناناً كبيراً، فإذا كان قد وصل إلى عقل وقلب السيدة لطيفة ذات الأصول الصعيدية، والتي تتخذ من العادات والتقاليد والأعراف دستوراً لها تسير عليه، فمن الأولى أن يكون قد وصل إلى كل مصري.
بيت الوطنية
وإذا كانت زيارة السيدة لطيفة تركت فرحة كبيرة في قلب نجيب واعتبرها استفتاء شعبياً على نجوميته، فإن زيارة أخرى اعتبرها بمثابة اعتراف رسمي من زعماء الوطن عندما فوجئ في 12 يناير 1919 بمن يدخل إلى الصالة بعد الجمهور وبدء العرض ليجلس في الصف الأول، فنظر ليرى من جاء متأخراً بعد بداية العرض فإذا به يجده الزعيم الوطني سعد زغلول، وللمرة الأولى شعر الريحاني بارتباك فوق خشبة المسرح، فأوقف العرض واتجه إلى الجمهور في الصالة وقال: يسعدني ويسعد أفراد فرقة تياترو الإجيبسيانة أن يشرفه حضور سعد باشا زغلول.
ضجت الصالة بالتصفيق وأضيئت الأنوار… فقام سعد باشا وقدم التحية إلى نجيب ثم استدار وراح يحيي جمهور الحضور ومعهم الريحاني يرددون: سعد سعد يحيا سعد… سعد سعد يحيا سعد… عاشت مصر حرة مستقلة… عاشت مصر حرة مستقلة.
غيرة وحقد
بلغ إقبال الطبقة الراقية على مسرح «الإجيبسيانة» أشده، حتى إن الكثيرين كانوا يحجزون مقاعدهم قبل موعد التمثيل بأيام، سواء من الجمهور المثقف أو من عامة الشعب، فأراد الريحاني أن يستغل هذا الإقبال بطريقة صالحة ويوجهه التوجيه النافع، فراح ينقب عن العيوب الشعبية ويبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد، ثم يضمن ألحان الروايات بما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدوار، كذلك راعى غالباً أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده على حب الوطن وإعلاء شأنه والحفاظ على كرامته، والتغني بمجده الخالد وعزه.
كان من آثار هذا الإقبال أن تضاعف الخصوم والحساد واختلفت أسلحة كل منهم في حرب الريحاني، فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ومنهم من كان ينازله جهارًا على صفحات الصحف اليومية، ولم يكن القارئ يفرد بين يديه إحدى الصحف إلا وجد فيها نهرًا أو نهرين يصبّ فيهما أحد النقاد جام سخطه وغضبه على «كشكش» وصاحبه نجيب الريحاني!
لم يعر نجيب هذه الحملة أي التفات، خصوصاً أن ذلك لم يؤثر من ناحية الإقبال الجماهيري على مسرحه، بل إن التأثير حدث عكسيًا، لأن تهافت الجمهور زاد على حضور رواياته، ما جعل الكاتب الصحافي حامد الصعيدي يرى ألا جدوى من الاستمرار في مهاجمة «كشكش» والريحاني:
= يعني هنكتب إيه أكتر من اللي انكتب. واحد نقعد المدة دي كلها نهاجمه فيطلع لنا برواية يقولنا فيها كلمة واحدة… «ولو»، والجمهور زي ما يكون بيعمل بالعند.. كل ما نهاجمه الإقبال يزيد!!
عندما فشل الحاقدون في الحصول على نتيجة من مهاجمة الصحافة له، فكر هؤلاء أن يتخذوا من البلطجية أداة لمحاربته بغرض إثارة القلاقل وافتعال مشاجرات عنيفة داخل التياترو، لدرجة أن أحدهم في إحدى هذه المشاجرات وجه مسدسه صوب الريحاني، فطاشت الرصاصة ولكن الله سلم.
فكر الريحاني كثيرًا في هذه الحوادث فرأى ألا سبيل إلا محاربة الداء بالداء، فبحث عن رئيس هؤلاء البلطجية وعلم أنه يوسف شهدي فجاء به، وعرض عليه العمل لديه في وظيفة حفظ النظام والأمن في المسرح براتب شهري يتقاضاه، فوافق فوراً وأفلحت الخطة، وتم وقف المشاغبات نهائيًا.
عاد الريحاني إلى التفرغ لعمله، فاستغرق عرض رواية «ولو» على الجمهور ثلاثة أشهر متوالية، ولم ينقص الإيراد اليومي فيها عن الثمانين جنيهاً، وكثيراً ما كان يزيد على ذلك، ما شجعه على العناية بالرواية التالية التي اختار لها اسم «اش» من تلحين الشيخ سيد درويش وأزجال بديع خيري، اللذين أصبحا صديقين حميمين لنجيب.
الثورة والفن
بينما كان الثلاثي الريحاني ودرويش وخيري يعمل على إعداد الرواية مع حسين شفيق المصري، سمعوا بائع الصحف يجري في الشارع وهو يصرخ: القبض على سعد زغلول… القبض على سعد زغلول.
ففي السادس من مارس 1919، استدعى الجنرال واطسون قومندان عام الإنكليز في مصر زعماء القوى الوطنية إلى مقره وحذرهم من أن نشاطهم ضد الحماية يعرضهم لقانون الأحكام العرفية، وحذرهم من التصدي لتشكيل وزارة جديدة بعد استقالة وزارة رشدي باشا، غير أن الزعماء المصريين لم يعيروا لكلام واطسون اهتماماً، فألقي القبض على سعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود وحمد الباسل في 8 مارس 1919، وخرجت الصحف المصرية في التاسع من مارس 1919 لتنقل الخبر للمصريين.
خرجت تظاهرات سلمية يقودها الطلبة تطوف في شوارع القاهرة تهتف بالاستقلال وسقوط الحماية البريطانية على مصر، فبدأت مرحلة الاضطرابات التي تحولت إلى ثورة شعبية عارمة تصدت لها السلطة العسكرية البريطانية بعنف، وبدأت إضرابات العمال والموظفين والمحامين ما أدى إلى توقف الحياة في مصر بالكامل، لتمتد الثورة من القاهرة إلى المدن والأرياف.
شعر الشعب المصري، وفي مقدمه سعد زغلول، بأن عام 1919 لا بد من أن يكون فاصلاً في تاريخ مصر، خصوصاً مع زيادة غرور الإنكليز بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتصرفهم على أنهم أسياد المصريين ويقررون مصيرهم، فضلاً عن إعلانهم «الحماية» على مصر في ديسمبر 1914، وخلع الخديو عباس حلمي الثاني، وفرضوا الأحكام العرفية وعطلوا الجمعية التشريعية، وطغت المصالح البريطانية على مصلحة الاقتصاد القومي المصري بحماية ورعاية المحتلين، ما جعل الشعب يعاني الاستعباد الاقتصادي إلى جانب الاستعباد السياسي. كذلك زاد الأمر تعقيداً بعد أنتهاء الحرب العالمية، ونقض إنكلترا الوعود والمواثيق كافة بأن تنال مصر استقلالها بمجرد انتهاء الحرب.
وجد الريحاني أن روحاً جديدة بدأت تسري في عروق المصريين، مناقشات وتظاهرات… جدد المصريون حيويتهم وأفرزت الثورة شعوراً قوياً «بالمصرية»، وللمرة الأولى في تاريخ مصر خرجت السيدات إلى الشوارع تهتف ضد الاحتلال، ووقف المصريون كلهم: مسلمون ومسيحيون، يدا واحدة ضد المستعمرين الإنكليز فكان شيوخ المسلمين يخطبون في الكنائس والقساوسة يخطبون في المساجد، أضف إلى ذلك أن من هذه النبتة الثورية خرجت حركة نهضة مدنية قامت على أكتاف مثقفين وفنانين مصريين. انتهز الريحاني الفرصة وضرب على ذلك الوتر وضمن رواية «اش» زجلاً كتبه بديع خيري، ولحنه الشيخ سيد درويش، ألقته طائفة من «سياس الخيل» جاء في نهايته:
إن كنت صحيح بدك تخدم مصر أم الدنيا… وتتقدم
لا تقولي نصراني ولا مسلم الدين لله… يا شيخ اتعلم
اللي أوطانهم تجمعهم… عمر الأديان ما تفرقهم
لم تقف قريحة بديع خيري عند هذا النشيد، بل فاجأ الريحاني في اليوم التالي بنشيد آخر، ما إن قرأه حتى دمعت عيناه. نظر إليه سيد درويش وطلب قراءته، فعندما انتهى أمسك الشيخ سيد بالعود وراح يضرب عليه وخرج اللحن وهم جالسون.
أصر الريحاني أن يضمن اللحن في أحداث الرواية تلك الليلة وفاجأ الجمهور به، ورد الجمهور المفاجأة للريحاني وراح يردد النشيد خلف الفرقة قياماً:
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
رد سعدي قبل ما يضيع بين أيديك
أوع مجدي يروح هدر أدام عينيك
شوف جدودك في قبورهم ليل نهار
من جمودك كل عضمة بتستجار
صون آثارك زي ما صانوا الآثار
خلفو لك عزة ما تخلفش عار
حُب أرضك اتخلق في دمنا
واللي ف ارضك ينكره مش مننا
تحت رايتك كل مُرّ يكون زلال
إحنا نفنى قبل ما يفنى الهلال.
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
ظل الجمهور يردد النشيد خلف الفرقة، وبعد إسدال الستار وفي الشارع، وتحول جمهور مسرح كشكش بك إلى تظاهرة شعبية رددت ألحان سيد درويش وأزجال بديع خيري، ما أثار انتباه الوسط الفني كله وأصبح حديث الشارع المصري، لدرجة أن الريحاني وهو في طريقه صباح اليوم التالي سمع مجموعة من الطلبة تردد النشيد في طريقها إلى إحدى التظاهرات.
ما إن وصل نجيب إلى المسرح حتى وجد خيري ودرويش في انتظاره، فقد خرجا معاً بعد انتهاء العرض وسهرا معاً طيلة الليل ولم يأتيا إلى المسرح إلا ومعهما نشيد جديد كتبه بديع ولحنه الشيخ سيد، وفاجأ به الريحاني:
* إيه الحكاية يا عم بديع أنت والشيخ سيد؟ هو الوحي بينزل بالجملة ولا إيه؟
= الثورة يا نجيب… الثورة… لازم كلنا يكون لنا دور.
- وسيدي المرسي آني ما مصدق اللي بيحصل. اللي بيحصل في شوارع مصر كلها ينطق الحجر… وإحنا مش حجر إحنا فنانين ولازم نشارك الشعب.
* ولازم فرقة الريحاني تكون في المقدمة. اللي حصل إمبارح ما خلنيش أنام طول الليل. إن الرواية تتحول مظاهرة تخرج من تياترو نجيب الريحاني دي حاجة كبيرة ومسؤولية لازم نكون ادها.
= وإحنا أدها يا نجيب. بعد ما الإنكليز فشلوا في أنهم يزرعوا فتنه بين المسلمين والمسيحيين. دلوقت عاوزين يفصلوا بين مصر والسودان. ودا مش هيحصل ابدا.
* طب يلا يا شيخ سيد أمسك عودك وسمعنا.
أمسك الشيخ سيد درويش بعوده وراح ينشد ما كتبه بديع خيري:
سرجوا الصندوج يا مهمد… لكن مفتاهه معايا
بهر النيل راسه في ناهية رجليه في الناهية التاني
فوجاني يروهوا في داهية… إذا كان سيبوا التهتاني
يا مصيبة وجاني من بدري… زي الساروخ في وداني
مافيش هاجة اسمه مصري… ولا هاجة اسمه سوداني
اتنين جيران بلا دنجي… والهيطة جنب الهيط
الناس دي بلادي كلانجي… عاوزين خلينا شنيط
واجب وطني
ظلت فرقة الريحاني تؤدي واجبها الوطني في إلهاب حماسة الجماهير مساء، ويردد أناشيدها الشعب في التظاهرات صباحاً. ولم يقف الدور عند هذا الحد، بل ذهب لمقابلة فتح الله بركات (أحد قيادات الوفد) وتبرع بثلاثمئة جنيه لخزانة الوفد، الأمر الذي جعل الحقد ينصب عليه من بعض الحسودين منه. كذلك تنبهت سلطات الاحتلال إلى الدور الذي يقوم به مسرح نجيب الريحاني وسيد درويش وبديع خيري، وغيرهم من بقية الفرق المسرحية فأمرت بإغلاق المسارح، والإبقاء فحسب على «الكباريهات» أو الملاهي الليلية!
أغلقت كل المسارح أبوابها، غير أن نجيب أصر أن يذهب كل صباح يلتقي أعضاء الفرقة، يجتمع بهم لترتيب أمورهم والنظر في شؤونهم، ولم تكن هذه الشؤون غير تظاهرات يقومون بها هنا أو هناك، ولم يكن وراء ذلك سوى شعور جارف بالوطنية لدى نجيب الريحاني وفرقته، بل لدى كل المصريين.
انتهز نجيب فرصة إغلاق المسرح بأمر السلطات، وراح يعوض لوسي الفترة التي انشغل فيها عنها بسبب الرواية الجديدة «أش» ثم الأحداث السياسية التي طرأت أخيراً:
= ماكنتش اعرف إنك زعيم وطني كبير أوي كده؟
* لو تقصدي موضوع المظاهرات والمشاركة في الثورة. يبقى لازم تعرفي أن مصر فيها عشرة مليون زعيم وطني… يعني الشعب المصري كله.
= للدرجة دي أنت بتحب مصر؟
* مصر يا لوسي مش بلد عايشين فيها. لكن بلد عايشة جوانا.
= يظهر إن الحالة اللي بتمر بيها البلد خلتك فيلسوف؟
* ولا فيلسوف ولا حاجة. أنت بس اللي يقعد قدامك لازم يقول كلام حلو… لأنه مش ممكن يشوف الجمال دا كله ويقول كلام زي الدبش.
= يعني إيه دبش؟
* الحجارة الصغيرة اللي في الشارع. سيبك من الكلام دا أنا شايف أنك وزينب صدقي بقيتوا أصحاب أوي لدرجة أنها خدتك مني.
= مفيش حد ممكن ياخدني منك… لكن أنت ممكن اللي ياخدوك مني كتير.
* إيه الكلام دا؟ أنا ليك وحدك. غايته بس إن الواحد لازم يجامل دي ويضحك لدي. علشان نفتح نفسهم للشغل.
= بس أنا ملاحظة أن البنت دي مش بتنزل عينيها من عليك.
* تقصدي مين؟
= سرينا؟
* يا سلام عليك يا لوسي… أنا أبص لسرينا؟
لم يكمل نجيب ولوسي كلامهما حتى سمعا طرقاً قوياً على الباب، وما إن فتح الباب حتى وجد أمامه المؤلف مصطفى أمين:
* مصطفى… أهلا تعالى أدخل.
= أدخل فين؟ مفيش وقت.
* مفيش وقت على إيه… أنت وراك إيه؟
= مش أنا اللي ورايا… أنت اللي وراك… أنت مش لازم تنام في بيتك النهارده.
* بتقول إيه؟ وإيه الكلام دا؟
= بقولك لازم تشوف مكان حالا تتدارى فيه اليومين دول لأن فيه ناس ناويين يقتولك!!
البقية في الحلقة المقبلة زينب صدقي
رغم الإعجاب والتقدير الشعبيين اللذين أثلجا صدر الريحاني، إلا أن ما أحزنه أن الدولة لم تبد إعجابها به بعد، ليس بفن التمثيل بل بفن الريحاني تحديداً، لمس ذلك عندما تقدمت إحدى الجمعيات الخيرية إلى وزارة المعارف (التربية والتعليم) ترجو السماح لها بإقامة حفلتها السنوية على خشبة مسرح دار الأوبرا الملكية، على أن تكون فرقة الفنان نجيب الريحاني هي التي ستقوم بالتمثيل، فجاء رد الوزارة: «لا مانع من التصريح باستخدام دار الأوبرا الملكية… بشرط ألا يسمح لفرقة نجيب الريحاني بالوقوف عليها»!
جلس نجيب الريحاني حزيناً يفكر في هذا الموقف غير المفهوم من وزارة المعارف من فنه شخصياً، على رغم الحضور اليومي الذي يشهده مسرحه لأبناء الطبقات كافة، تحديداً أبناء الطبقة الراقية من الباشاوات والباكوات ورجال الدولة والقضاة والمحامين، لدرجة أن عبد السلام ذهني، المستشار في المحكمة المختلطة وصاحب المواقف الشهيرة في الدفاع عن اللغة العربية بين جدران هذه المحكمة، له «بنوار» دائم في مسرحه، فلماذا تصر الدولة في موقفها الرسمي على هذا الموقف غير المفهوم من فن الريحاني تحديدا؟!
وبينما الريحاني يتأمل نفسه في المرآة ويطرح هذه الأسئلة التي لم يجد لها إجابات واضحة، إذا بمن يطرق باب حجرته لتدخل فتاة بارعة الجمال، صغيرة السن تبدو عليها مظاهر الأرستقراطية ومعالم الأبهة، وراحت تنظر إليه من أسفل إلى أعلى، وبادرته:
= أنت بقى اللي بيسموك كشكش؟
* أيوه يا ستي أنا كشكش… يلزم خدمة؟
= أمال فين دقنك يا بيه؟
* مش قبله أعرف مين اللي بيكلمني وأنت داخله عليّ كده من غير احم ولا دستور؟
= طب دستور يا سي كشكش بيه. أنا اسمي زينب صدقي.
* أهلاً وسهلاً… تحت أمرك يا ست زينب أي خدمة؟
= في الحقيقة أنا مكسوفة أقولك… لأن دي أول مرة.
* لا ماتنكسفيش… خدي راحتك.
= من الآخر كده أنا عاوزه أشتغل ممثلة مع كشكش بيه.
* ياه. بس كده؟ من العين دي والعين دي. بس قوللي يا ست زينب… أنت مثلتي قبل كده؟
= مش بقولك دي أول مرة.
* خلاص… ولا يهمك أنت اشتغلتي من النهارده… من دلوقتِ.
أصبحت زينب صدقي منذ تلك الليلة ممثلة في الفرقة، على رغم أنها وباعترافها لا علاقة لها بالتمثيل قبل ذلك اليوم، ولم تخط هذه الخطوة باعتبارها هاوية عاشقة للتمثيل بقدر ما كانت تريد التمرد على حياة الملل الارستقراطية، فقصدت الريحاني للعمل كممثلة من باب قتل الوقت والتسلية. على رغم ذلك، سرعان ما اندمجت مع جميع أعضاء الفرقة لخفة ظلها ودماثة خلقها، فأحبها كل من أظلهم سقف المسرح من ممثلين وممثلات، مصريين وأجنبيات، وفي المقدمة لوسيين فرناي التي سرعان ما وجدت فيها صديقة حقيقية، ولم تفترقا منذ تلك اللحظة.
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 8, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
بينما كان نجيب الريحاني ولوسي غارقين في حديثهما، سمعا طرقاً قوياً على الباب وإذ بمصطفى أمين يستعجل الريحاني بالمغادرة، أما السبب فكان مصيبة كبرى.
قص مصطفي أمين على نجيب الريحاني سبب مجيئه واستعجاله، مؤكداً أن ثمة من يريدون قتله! أو على الأصح يطالبون بإعدامه لاعتباره خائنا للوطن، لأنهم اكتشفوا أنه «دسيس من الإنكليز»!
* يا ليله كحلي مش طالع لها نهار… دسيس إنكليزي! دي تهمة مش تعدمني لوحدي، دا استاهل عليها الإعدام أنا وكل عيلتي. ومش من الحكومة… لا من الشعب المصري. وجت منين التهمة المصيبة دي؟
= أنا لسه جاي دلوقتي من الأزهر الشريف. كان فيه اجتماع هناك بين عدد كبير من السياسيين والوطنيين، كله خطب حماسية وكلام حوالين الإنكليز وعملائهم في مصر، والناس الخونة إللي بيساعدوهم، وأنه لا بد من كشفهم قدام الشعب ومحاكمتهم محاكمة شعبية.
* وأنا… أنا إيه إللي جاب سيرتي في حاجة زي كده. وإزاي يعتبروني خاين وعميل؟ بعد «قوم يا مصري» والتظاهرات إللي كانت بتخرج كل ليلة من تياترو الريحاني أبقى خاين وعميل؟
= الناس دول ماذنبهمش حاجة لأنهم ميعرفوش إللي أنت بتعمله.
* أمال ذنب مين؟ ذنبي أنا؟!
= لا… ذنب الحقد والغيرة الفنية. ناس ما بتفكرش غير في نفسها وبس. وبيرموا التهم جزافا حتى لو ودوا إللي بيتهموهم في ستين داهية… لأنه طلع واحد كده من تحت الأرض. أظن شفته كذا مرة في عماد الدين أو الأزبكية. عنها ومسك الميكروفون من غير ما حد يطلب منه وهات يا تهم وسب فيك باعتبارك دسيسة إنكليزية. اتفق معاك الإنكليز أنك تلهي الشعب بالروايات إللي بتقدمها علشان تساهم في إخماد الثورة!
* أيوه بس الناس إزاي تصدق. هو أي حد يقول كلمتين يبقى كلام منزل؟ في لحظة كدا اتنقل من خانة الشرفاء الوطنيين لخانة العملاء الخاينين بكلمة؟!
= يا سيدي الناس وقت الثورات ما بتقدرش تفرق أوي بين الخاين العميل، وبين الوطني الشريف… الشك ممكن يطول أي حد.
* لكن دا مش حقيقي ولازم الناس تعرف… وبعدين أنا لو كنت بشتغل مع الإنكليز ولا الملك ليه المستر «هورنيلو» مدير الأمن العام أمر بمصادر رواية «قولوا له»… إللي كنا هنعملها قبل «أش» وكنا فاضحين فيها الإنكليز والقصر؟!
= مش وقته الكلام دا. أنا سبت الموجودين وهما بيهتفوا ضدك وبيطالبوا بمحاكمتك وإعدامك… ومش بعيد ييجوا على هنا دلوقتي. ألف مين يعرف بيتك وإن ماعرفوش ممكن الأخ إللي أتطوع ورماك بالتهمة دي يدلهم على بيتك.
- نجيب… أنت مش لازم يستنى دقيقة واحدة لازم نسيب هنا فورا.
* متخافيش يا لوسي. اصبري لما نشوف هترسى على إيه؟
= الكلام إللي بتقوله مدام لوسي مظبوط… مفيش وقت لازم تسيبوا المكان دا فورا.
كاد قلب لوسي يقفز من فرط خوفها على نجيب، استقلا عربة «سوارس» ووقفت لوسي على سلم العربة لتحول بين نجيب وبين أنظار المارة، وراحت تستحث «الحوذي» لأن يلهب ظهور الخيل التي تجر العربة كي يبتعد بهما، وظلت على حالها تلك حتى وصلا إلى فندق «هليوبوليس هاوس» في مصر الجديدة، وحجزا فوراً غرفتين، وكانت عقارب الساعة قد تخطت الثانية صباحاً.
بقي نجيب ولوسي في هذا الفندق أياماً عدة، غير أن مخاوفه من مطاردة الثوار له، لم تلهه عن واجبه الوطني فلم ينقطع عن المشاركة في التظاهرات، على رغم مخاوفه من التنكيل به، غير أنه راهن على أن أحداً لم يعرف شخصيته الحقيقية، لم تنشر صوره صحيفة أو جريدة، وما نشر كان لشخصية «كشكش بك» وهو يضع اللحية ويرتدي «الجبة والقفطان».
انتصار سياسي وفني
انتصرت الثورة بعدما أبرق اللورد «اللنبي» لحكومته بعد أقل من أسبوع من وصوله إلى مصر يقترح، أو بالأحرى يطلب، الإفراج عن سعد زغلول باعتباره مفتاح الحل مع المصريين الذين لا يكلون ولا يملون من التظاهرات، فأسقط في يد الحكومة البريطانية، فقد أرسلت «اللنبي» وخولته أن يفعل أي شيء وفي ذهنها أن كل شيء يعني قتل المتظاهرين من المصريين، حتى لو كانوا بالآلاف لإخماد الثورة، وأن آخر ما تتصوره أن يكون «أي شيء» يعني المطالبة بالإفراج عن سعد ورفاقه، ومن هنا لم تستطع إلا أن تلبي الطلب.
وصلت موافقة لندن بالإفراج ظهر يوم 6 أبريل 1919 فأسرع «اللنبي» بإبلاغ الخبر إلى السلطان فؤاد، الذي وجدها فرصة يتقرب فيها إلى الشعب بهذه المناسبة السعيدة فأذاع منشوراً في مساء 6 أبريل، غير أن البيان خلا من أي إشارة للإفراج عن سعد، وإن كان وعدهم بمفاجأة سارة، فقد ترك إذاعة النبأ للورد «اللنبي». في صباح 7 أبريل أذاع اللنبي النبأ، وبلغ من لهفته لإحاطة الأمة علماً بالنبأ السعيد أن جعل الطائرات تلقي المنشورات المتضمنة النبأ في أنحاء البلاد، وتم الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه والسماح لهم بالسفر لحضور مؤتمر الصلح في «فرساي».
مضت على تلك الحال أيام استقرت فيها أمور العامة، وكانت النتيجة الطبيعية أن فتحت المسارح ودور اللهو وعادت إلى ما عهده الجمهور فيها من تسلية، لكن بشروط فيها شيء من الشدة كتحديد مواعيد السهر ودقة المراقبة التي فرضتها الداخلية التي اتخذتها السلطات البريطانية «مخلب قط»!
رجع الاستقرار غير أن الحياة الطبيعية لم تعد إلى طبيعتها بعد إلى المسارح ودور اللهو، فكان الجمهور لا يزال بعيداً إلى حد ما على غير المعتاد، فضلاً عن تردد نجيب في العودة بسبب من كانوا يريدون رأسه.
أبلغ رد
وجد نجيب أن أفضل رد على هؤلاء المتشككين الذين لم يفهموا طبيعة رسالة نجيب أن يجاهد في ظل هذه الظروف ويحاول مجدداً مع «نظارة الداخلية» للسماح له بتقديم روايته المصادرة «قولوا له» فكانت المفاجأة بالموافقة عليها.
ضمن الريحاني كل ما مرت به مصر منذ اندلاع الثورة في التاسع من مارس 1919، وحتى هذه اللحظة، من تظاهرات وهتافات والمطالبة بالاستقلال التام لمصر وإظهار دور المصري في المطالبة بحقه في حرية واستقلال بلاده، وما قدمه من مصابين وشهداء في سبيل نيل الحرية، كما وضع بديع خيري أزجالاً جديدة في هذا الإطار وضع ألحانها الشيخ سيد درويش، فأدخلوا في صلب الرواية ألحاناً وطنية على ألسنة كل طائفة من الطوائف التي قامت بهذه التظاهرات، فلم يدعوا واحدة منها إلا وجدت نفسها في ما كان يلقيه الممثلون، حين يتقمصون شخصيات أفراد تلك الطوائف على المسرح، واحدة بعد أخرى:
يا مصر يحميك لأهلك… ما نشوف لك إلا يوم سعدك
نموت ونحيا في حبك… دنيا ما دنيا مافيش بعدك
ما زادش خير عنه… وابنك مافيش أكرم منه
فضلك على نساك ورجالك… وعلى إللي راح وإللي جالك.
وجاءت إلليلة الأولى لظهور الرواية لتكون ليلة عيد بحق لكل من احتواه التياترو، سواء في ذلك الممثلون أو المتفرجون، إذ جاءت الرواية بمثابة قنبلة انفجرت هزت الجماد وحركت الصخر!
هتاف يرتفع إلى عنان السماء، تصفيق يكاد يصم الآذان، وما إن ظهر نجيب على خشبة المسرح للتحية حتى قوبل بعاصفة من التصفيق والهتاف، فوقف الريحاني يغالب دموعه لا يستطيع أن يحبسها، فلم يجد إلا الانحناء أمام هذا التقدير لمدة 15 دقيقة حتى خطر للريحاني خاطر وهو على هذه الحال:
* طب ماهو الحساد إللي بيطاردوني بحسدهم لهم حق… دول لو شافوا مظاهرة الحب دي، ولا حتى نص مظاهرة زيها والناس بتهتف لي كده… كانوا يموتوا من الغيظ وهما مكانهم!
هذا النجاح في استعادة الجمهور وثقته، في أقل وقت ممكن، جعل الفنان علي الكسار يفكر في الرد عليه بمسرحية باسم «إحنا إللي فيهم»، فجاء الرد عليه سريعاً. ما إن انتهت الأيام التي قدرت لرواية «قولوا له» حتى كان نجيب وبديع والشيخ سيد درويش قد انتهوا من إعداد الرواية التالية واختاروا لها اسم «رن»، لتأتي كسابقتها شعلة من الوطنية المتأججة، ولهباً من الحماسة تشتعل ناره ويلتهب أواره.
انهمر المال على خزانة تياترو «الإجيبسيانة» كالمطر الغزير وبشكل لم يكن أحد ينتظره أو يتصوره، وكلما ارتفعت أرقام الأرباح، ارتفعت معها عقيرة الخصوم والحساد، وامتلأت أعمدة بعض الصحف بالطعن في كشكش من جميع النواحي.
في نهاية الموسم جاء نصيب الخواجة ديموكنجس صاحب التياترو ثمانية آلاف جنيه نظير حصته من الشراكة التي مقدارها 30% من الإيراد، بينما جاء نصيب الريحاني صاحب السبعين في المائة الباقية، 20 ألف جنيه تقريباً.
وجد الريحاني أن ذهابه وإيابه يومياً إلى ضاحية مصر الجديدة، يستنزف الكثير من وقته الذي أصبح له ثمن، فأراد أن يكون قريباً من المسرح ومنطقة وسط القاهرة وما تعج به من مسارح وملاه، فاستأجر شقة في حي الزمالك المطل على نيل القاهرة، ليمر بكوبري «أبو العلا» من الزمالك ليكون في شارع «بولاق» (26 يوليو) حيث منطقة مسارح وملاهي وسط القاهرة، فانتقل إلى الشقة بمفرده مع الإبقاء على الأسرة في منزل مصر الجديدة.
بدا الانتقال للسكن الجديد كأنه بمثابة مرحلة جديدة في حياة الريحاني، فأراد أن يتوقف عند هذا الفاصل قليلاً، ينظر خلفه في ما قدّم وما حقق، وأمامه وما ينتظره وماذا يمكن أن يقدم؟ هل يستمر في ما هو فيه ونتيجته واضحة ومضمونة؟ أم يقدم على خطوة جديدة؟!
وقفة للحساب
خلا نجيب بنفسه وراح يحاسبها على ما أدى للفن من خدمات تستحق أن يصل بها إلى ذروة الشهرة التي اعتلاها، وإلى أفق الصيت الذي لا يحد مدى، فوجد أن كل أعماله مجرد صفر على الشمال مقارنة بما فعلت أعماله الأخيرة مثل «ولو، إش، قولوا له، ورن» من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير، وهذا وحده ليس كافياً لأن يكون مطية ذلولاً تقفز به في ميدان الشهرة هذه الطفرات المتوالية، لذلك أراد أن يشبع حاسته الفنية ويستبدل الفن الذي يقدمه بنوع جديد يرضي به ضميره وجمهوره في آن!
بعد تفكير طويل، ضم الريحاني إلى الفرقة الجديدة إلى جانب عزيز عيد، وروزاليوسف وزكي مراد، محمود رضا ومنسي فهمي ومختار عثمان وستيفان روستي والمطربة برلنتة حلمي ونظلي مزراحي وغيرهم، ومكثوا يؤدون بروفات الرواية أربعة أشهر كاملة، كان يدفع فيها الريحاني رواتبهم كاملة.
«الأوبرا كوميك»
أخرج عزيز عيد الرواية، وفي اليوم المحدد لظهورها، كان مجموع ما تم إنفاقه في سبيل إعدادها إلى لحظة رفع الستار عن أول مشاهدها، مبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري، لتكون رواية «العشرة الطيبة» أول عهد «الأوبرا كوميك» و{الأوبريت» في مصر، إذ وضع فيها الشيخ سيد درويش كل عصارة فكره الموسيقي لتقديم أول أوبرا مصرية!
أظهر موضوع الرواية استبداد الشراكسة، في الوقت الذي خرجت فيه تركيا من الحرب العالمية مقهورة وكان العامل الأقوى والمهم في هزيمتها إنكلترا، وفي ظل ما يعانيه الشعب المصري من نير الاحتلال الإنكليزي ووقوف المحتل في طريق نهضة مصر، جنحت العواطف مجدداً نحو تركيا.
استغل خصوم وحساد الريحاني الموقف وادعوا مجدداً أنه دسيس إنكليزي، وأن القصد من عرض رواية «العشرة الطيبة» هو تجسيم مساوئ الأتراك في أعين المصريين وتقريب الإنكليز إلى قلوبهم، وهو ما لم يكن له علاقة برؤية الرواية من قريب أو بعيد.
نجح دعاة السوء في التأثير في بعض السذج بهذه الدعاية فتجاوبوا مع نظرية المؤامرة التي تحاك ضد الريحاني ونجاحه، ففوجئ أعضاء الفرقة أثناء التمثيل وفي فترة الاستراحة بخطيب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويهتف بسقوط الريحاني «داعية الإنكليز وربيب نعمتهم»… ذلك كله وهم يعرفون تماماً أن الريحاني كان هدفاً لنقمة الإنكليز وسلطتهم العسكرية في مصر، وكثيراً ما كان يقف بين المتفرجين بعض العقلاء والمستنيرين، فيردون على سفاسف أولئك الخطباء ويسفهون آراءهم… ما حول أوبريت «العشرة الطيبة» إلى ساحة للجدل السياسي اليومي، وأنذر بإغلاق المسرح.
لجأ الريحاني إلى محمد تيمور بك واقترح عليه أن يصطحب معه بديع خيري، ويقصدا أحد البارزين من أعضاء الوفد المصري الذين يعتقد الشعب بآرائهم، ويطلبا إليه أن يتفضل بمشاهدة تمثيل الرواية، ثم يحكم بعد ذلك من الناحية الوطنية لها أو عليها، فكان أن وقع اختيارهما على «مرقص حنا»، وكيل لجنة الوفد المركزية، فذهبا إليه، وفي المساء نفسه حضر في رفقة السيدة قرينته والآنسة كريمته السيدة عايدة هانم مرقص وخطيبها مكرم عبيد.
نجحت الفكرة، وفي اليوم التالي نشر مرقص حنا في الصحف رأيه الصريح حول الرواية، نافياً عنها كل ما يذيعه المغرضون لحاجة في نفس يعقوب، فكان هذا التصريح الكبير من رجل مثله له مكانته في قلوب الأمة معولاً دكّ حصون الخصوم.
لم يشارك الريحاني في أوبريت «العشرة الطيبة» كممثل، بل كمنتج ومستأجر لتياترو «كازينو دي باري»، فقرر أن يقدم رواية جديدة على مسرح «الإجيبسيانة» مع أعضاء فرقته، خصوصاً أن لغة «الشماتة» وضحت من خلال المسرحيات التي يقدمها صديقه اللدود علي الكسار.
قدم الأول مسرحية بعنوان «الدنيا جرى فيها أيه» فرد عليه الثاني بمسرحية «الدنيا بخير»! وراح الريحاني يضم إلى الفرقة عناصر فنية جديدة، خصوصاً الأصوات التي تدعم الفرقة بعدما أصبح للغناء دور بارز في رواياته مع ألحان الشيخ سيد درويش، فضم المطربة فتحية أحمد، التي كانت جميلة الصوت ساحرة الغناء، خفيفة الظل رشيقة الحركة دائمة الابتسام على المسرح، ووضع لها قطعاً تلحينية في صلب الرواية، وفي الوقت نفسه كان قد كلف عبد اللطيف جمجوم بالبحث له عن مطربين جدد يصلحون للمشاركة في الرواية، ففوجئ به يدخل عليه ومعه شاب صغير لم يتجاوز عمره 16 عاماً، نحيل القوام، غير أنه لطيف المظهر تبدو في عينيه دلائل النبوغ:
* إيه ده يا عبد اللطيف؟
= دا المطرب الجديد. بس إيه… موهبة محصلتش. حنجرة موسيقية نادرة وصوت ساحر. وماشاء الله رغم أنه سنه صغيرة بس عنده ذاكرة فنية قوية جداً.
* أيوه… يعني اشتغل قبل كده؟
= اشتغل شويه مع فؤاد الجزايرلي.
* بس دا صغير أوي يا عبد اللطيف وشكله كدا ما كلش بقالوه جمعة.
= سيبك من الشكل. اسمعه الأول وبعدين أحكم عليه.
(البقية في الحلقة المقبلة) عزيز عيد إلى فرقة نجيب
خشي نجيب أن يقدم للناس نوعاً من الفن لم يألفوه، فيهجرونه، ففكر في طريق جديد يحاول من خلاله التوفيق بين النظرتين.
نظر حوله باحثاً عمن يمكن أن يعينه على حالة التوافق التي ينشدها، فوجد أن عزيز عيد لا يعمل بعد فشل روايته «حنجل بوبو» في «كازينو دي باري»، ووجد حوله عدداً كبيراً من الفنانين أعيتهم البطالة، فاستدعى عزيز وأشار عليه بالتعاون معه مجدداً:
= مش فاهم؟ يعني عاوزني أشتغل عندك في التياترو؟
* أستاذ عزيز. أنت عارف إني بحبك وبقدرك ومش ممكن انسى فضلك عليّ مهما حصل. والنهارده أنا بعرض عليك إننا نرجع نشتغل سوا.
= لازم تعرف أن نجاحك جزء من نجاحي ودا بيسعدني… وأنا معنديش مانع. دا يشرفني، لكن أنت ناجح في سكتك. أنا هعمل إيه معاك؟
* خلينا من المجاملات. أنا بفكر في مشروع جديد مفيش حد ممكن يعمله معايا غيرك.
= خير يا نجيب.
* أنا لسه قاري رواية فرنسية هايلة. اسمها «اللحية الزرقاء» ففكرت إننا نمصرها ونقدمها.
= عارفها… دي رواية صعبة.
* صعوبتها في أننا ننقل الجو بتاعها لمصر. والمشكلة دي اتحلت لأني اديتها للأستاذ محمود تيمور بيه اقتبسها ومصرها. وكمان بديع خيري كتب أزجالها والشيخ سيد درويش بدأ يحط الألحان.
= الله!! دا أنت مخلص كل حاجة بقى. ونويت تقدمها امتى وفين «اللحية الزرقاء» دي.
* لا. أنا سميتها «العشرة الطيبة» اهه. ابدأ على طول في عمل ترتيبك لإخراجها، وكمان أجرت لها تياترو خاص. أجرت تياترو «دي باري» هو صحيح الإيجار حراق شوية. تتصور ألفين جنيه في السنة! بس مش خسارة فيها لأني عاوزها تبقى مشروعنا كلنا..
= بنفس الفرقة بتاعتك؟
* وهنضم لهم المطرب زكي مراد والصديقة العزيزة روزاليوسف، و…
= روز دلوقت بقت أم لطفل لسه مكملش سنه.
* معقولة! روز بقت أم هي ومحمد عبد القدوس.
= أيوه. جابوا إحسان.
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 10, August 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط
جلس الريحاني يستمع إلى الفتى الجديد، وهاله ما سمع، صوت ساحر قوي متمكن من مخارج الألفاظ، يعزف بإتقان المحترفين على العود، فقرر ضمه إلى الفرقة فوراً: برافو… برافو… أرتيست أصيل فعلاً. اسمك إيه بقى يا سيدي؟ اسمي محمد عبدالوهاب.
ضم نجيب الريحاني المطرب الشاب محمد عبد الوهاب إلى فرقته، ووقع معه عقداً ليس كمطرب فحسب بل كمطرب وممثل، وأسند إليه دوراً صغيراً في روايته التي كان يعرضها آنذاك «الدنيا جرى فيها أيه»، في مشهد الريحاني هو بطله، ليكون ذلك مشجعاً للفتى الذي يمثل للمرة الأولى بعيداً عن الغناء.
لكن يبدو أن الخطة جاءت بأثر عكسي مع محمد عبد الوهاب، فما إن وجد نفسه أمام الريحاني في المشهد حتى شعر بأنه نسي كل شيء، وقف أمامه لا يستطيع أن ينطق أو يتحرك، فتفهم الريحاني الموقف وحاول أن يهدئ من روعه ويلقي بعض النكات والقفشات، ثم اقترب منه وهمس له بمفتاح الحوار الذي سيقوله، لكن هيهات… ظل عبد الوهاب صامتاً ينظر إلى الريحاني كأنه أحد أفراد الجمهور. صعد فوق خشبة المسرح ليتابع الرواية والممثلين عن قرب، فجن جنون الريحاني ولم يجد نفسه إلا يصفعه صفعة قوية على خده.
أطاحت الصفعة بمحمد عبدالوهاب إلى الكواليس، تلقاها واندفع خارج خشبة المسرح بسرعة، وبخبرة الفاهم استوعب نجيب الموقف وحوله إلى كوميديا صارخة… وانتهت الأزمة فوق خشبة المسرح وكان على نجيب أن ينهيها خارج خشبة المسرح:
* تعالى يا محمد… أنت لسه زعلان؟
= لا يا أستاذ. أنا بس كنت مرعوب.
* من إيه؟ المسألة بسيطة جداً. ما تبصش للجمهور ولا كأنه موجود. وبعدين دا أنت مطرب وياما غنيت قدام جمهور.
= أنا ما كنتش خايف من الجمهور. أنا كنت خايف منك انت.
* أنا؟ يا سيدي اعتبرني أخوك الكبير وواقفين بنتكلم مع بعض. عموماً ما تزعلش لأني على المسرح ما بعرفش أبويا من أخويا. ببقى الشخصية إللي بقدمها.
على رغم النجاح الذي حققته الرواية إلا أن شيئاً من اليأس أصبح داخل الريحاني، بسبب توالي صدمات مالية قاسية، فقد اشترى قدراً هائلاً من «الفرنكات والليرات والأسهم والماركات»، فهبطت أسعارها كلها في البورصة، وكان التدهور المادي شنيعاً فأحس بعده بهبوط حالته المعنوية مع هبوط حالته المادية، لدرجة أنه لم يعد يتمالك نفسه على خشبة المسرح، ودب في عمله نوع من الإهمال الذي انقلب إلى فوضى تفشت في ثنايا المسرح، وكادت تقلبه رأساً على عقب.
ضياع الحب وبداية الكوارث
لاحظت لوسي لقاءات الريحاني المتكررة مع سرينا إبراهيم، فخيرته بين أن تترك الأخيرة الفرقة أو أن تهجره هي. وفي منتصف عام 1920، وصل الخلاف إلى ذروته بين نجيب ولوسي، فما كان منها إلا أن نفذت تهديدها، وفجأة لم يجدها الريحاني أمامه، فقد سافرت إلى فرنسا ليفترقا إلى غير عودة، ويكون هذا الفراق أولى النكبات التي صبها القدر فوق رأس نجيب وساقها إليه في حلقات متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض.
فما كان يغمره من خير جارف، أضحى البحر جفافاً من كل ناحية، بل وشراً مستطيراً، حتى شعر نجيب بأن لوسي كانت سبب الخير الوفير الذي كان ينهمر عليه وبرحيلها أخذت معها كل شيء!
جاءت بداية الكوارث التي حلت بنجيب بتغير شعور كل من عزيز عيد والشيخ سيد درويش نحوه، فقد علم أن عزيز والشيخ سيد اتفقا معاً ضده وينويان رفع راية العصيان، فلم يشأ أن يجعل ما بينه وبين صديقيه مادة للتداول، ما قد يعطي فرصة للحاقدين للتدخل وإفساد العلاقة، فقام بمواجتهما:
* شوف يا أستاذ عزيز. شوف يا عم الشيخ سيد. أنا راجل دوغري أحب الشغل في النور. يعني أي كلام لازم يكون بينا وبصراحة من غير لف ولا دوران.
= في إيه يا نجيب؟
- مش تفهمنا إيه إللي حصل يا أستاذ.
* أنا وصلني أنكم بتقولوا إني مليش حق في إيراد «العشرة الطيبة». وإن الإيراد كله من حقكم لوحدكم باعتبار أن واحد المخرج والتاني ملحن الأوبريت.
= أيوه يا نجيب أنا قلت الكلام ده.
- يا أستاذ نجيب دي حاجة متزعلكش… إحنا غرضنا نعرفوا راسنا من رجلينا.
* آدي راسك وآدي رجليك يا شيخ سيد… وطالما أنتوا اتكلمتوا بصراحة أنا هاكون صريح معاكم. أنا ما عنديش مانع أخلع ايدي من المشروع كله بشرط تدفعوا انتوا المدة إللي فاضلة من إيجار الكازينو ونتحاسب على بقية إللي أتصرف على الأوبريت. والله يبارك لكم حلال عليكم الرواية والفرقة والتياترو.
نفض الريحاني يده من أوبريت «العشرة الطيبة» وترك لهما «الجمل بما حمل» بعد أن تعهد بدفع بقية قيمة إيجار «كازينو دي باري»، ويبدو أن نجاح «العشرة الطيبة» أغراهما فقررا تقديم رواية جديدة أطلقا عليها اسم «شهرزاد»… غير أنها فشلت فشلاً ذريعاً، جعلتهما يفضان هذه الشراكة.
قرر عزيز عيد السفر إلى إيطاليا لدراسة فن التمثيل والإخراج مع يوسف وهبي، بينما لم يستطع الشيخ سيد درويش العودة إلى الريحاني، فالتقطه الفنان علي الكسار، الذي راح يجدد دماء فرقته، وينهل من ألحان درويش فقدم معه الكثير من الأوبريتات.
ارتفعت أسهم علي الكسار، وبدأ عدد من أعضاء فرقة الريحاني ينسلون منها ويتجهون إلى فرقة الكسار وغيرها من فرق، فراح نجيب يبحث عن ممثلين جدد يضمهم إلى فرقته، لذا لم يتردد في قبول ثلاث فتيات صغيرات، أصغرهن لم يزد عمرها على الرابعة عشرة، طلبن الالتحاق بالفرقة، هن: رتيبة وأنصاف وفاطمة رشدي، غير أنه لاحظ في الصغرى (فاطمة رشدي) ذكاء وقاداً، وهواية شديدة للتمثيل ورغبة أكيدة في العمل للتقدم على خشبة المسرح، على عكس شقيقتيها اللتين شعر بأن ميلهما كان متجهاً إلى إلقاء المقطوعات الغنائية.
شعر الريحاني بحالة من الإحباط والتخبط، وأن الدنيا أدارت له ظهرها، خصوصاً بعد سفر لوسي وابتعاد سيد درويش وعزيز عيد عنه، واتجاه بعض أعضاء فرقته إلى علي الكسار وجورج أبيض وغيرهما، لذا لم يتردد عندما جاءه مصطفى حفني، متعهد رحلات فنية، ليعرض عليه رحلة يقدم فيها بعض الحفلات في سورية ولبنان.
رحلة بيروت
لم يكن أمام الريحاني سوى الموافقة لأكثر من سبب، أهمها الترويح عن نفسه للخروج من الحالة النفسية التي يمر بها من إحباط واكتئاب، ومن ناحية أخرى ربما يجدد نشاطه الذي تضاءل لما حل به من فتور وعدم اهتمام بالعمل.
ودع نجيب والدته وأشقاءه، وأوصاهم خيراً بوالدتهم في غيابه، كذلك أوصاهم خيراً بصديقه الحميم بديع الذي تركه مضطراً، فلم يكن له وجود في الاتفاق الذي عقده مع مصطفى حفني:
* إيه يا أم توفيق! انت هتقلبيها مناحة؟ هي دي أول مرة أسافر.
= دي أول مرة أحس إنك هتبقى بعيد بجد… بيني وبينك بحور وبلاد.
* بحور إيه وبلاد إيه! الشام عندك هناك أهه… غاية الوابور لحد القدس ومن هناك تاخدي الوابور اللى طالع ع الشام. أنا عاوزك تاخدي بالك من نفسك. كلها أسبوعين تلاتة وأكون عندك هنا.
= خد بالك من نفسك يا نجيب… محدش عارف هترجع تلاقيني ولا لأ.
* رغم أني كنت في بداية حياتي بحب الدراما لكن ابتديت أفهم ليه ربنا بعدني عنها. لأني ما بحبش النكد ولا البكا. خدوا بالكم من أمكم. وأنت يا جورج خد بالك من بديع وأوعَ تبعد عنه.
نزل نجيب في بيروت مع بعض أعضاء فرقته، وكله أمل في النجاح الذي ينتظره فيها ليخرجه من الإحساس الذي سيطر عليه بالفشل والإحباط، غير أنه لم يكن يدري أن فشلاً جديداً في انتظاره ليجعله أكثر إحباطاً.
ما إن بدأ نجيب أولى حفلاته في بيروت، والتي استدعى خلالها أمجاد «كشكش بك» وصولاته وجولاته، حتى فوجئ بحالة من التذمر غير عادية من الجمهور، وفي كل مشهد كان يجد سخطاً بدلاً من الضحك، وراح يسمع بأذنيه بعض الناس يهتفون:
ـ بلا زعبرة… انزل يا زلمة.
= هايدا مانه كشكش، هايدا تقليد!
- شو ها الحكي يا زلمة… مو هايدا كشكش بك؟!
ظن نجيب أن شخصية «كشكش بك» لم ترق للجمهور اللبناني، أو أن الدعاية التي سبقتها كان مبالغاً فيها بشكل كبير واكتشف الجمهور وهم الدعاية ولم يجدوا ما قيل لهم عن «كشكش»، غير أنه سرعان ما اكتشف حقيقة الأمر، فقد أصبح في بيروت «كشكش بك» التقليد وليس الأصلي!
كشكش تقليد
اكتشف الريحاني أن أمين عطا الله، الذي سبق وعمل معه منذ بداية ظهور «كشكش بك»، نسخ جميع رواياته وألف فرقة من مواطنيه في سورية وعرض أعمال الريحاني كلها، ولم ينس أن «يغتصب» أيضاً اسم «كشكش بك»، لذا بمجرد أن ظهر الريحاني بالشخصية على خشبة المسرح، اعتبره الجمهور مقلداً لكشكش بك الأصلي، أمين عطا الله.
لم تنجح الرحلة من الوجهة الفنية ولا من الناحية المادية، فقد كانت النتيجة أن الإيرادات والمصروفات كانتا متوازيتين، فلم يخسر كما لم يكسب، غير إن المكسب الحقيقي هو ما شاهده في إحدى حفلات الفرقة، عندما لفتت نظره سيدة تجلس في المقصورة الأولى وقد ارتدت أفخم ملبس وتحلت بأبهى زينة، والمفاجأة التي أدهشته أنها حضرت إلى حجرته في المسرح في فترة الاستراحة لتحيته:
* تشريف حضرتك شرف عظيم ليا يا فندم. أتفضلي حضرتك.
= يا فندم وحضرتك… شو سيد نجيب. مانك عارفني؟
* ماحصلش عظيم الشرف قبل كدا.
= يا عيب الشوم… مانك فاكر هالوجه.
* بيني وبينك هالوجه مش ممكن حد ينساه. بس يظهر أني مش واخد بالي.
= انا بديعة. مانك فاكر بديعة.
* باديييعة… بديعة مين حضرتك.
= بديعة مصابني. كنت قابلتك بمصر من تلات سنين ووقعت معك كنتراتو لكن ما اشتغلت.
* أيوه أيوه. افتكرت. بديعة… ياااه الأيام بتجري. ورحتي فين يا ست بديعة؟
= بعد ما وقعت معك الكنتراتو عدت للشام من شان أمور هيك قضائية. مرأت بسلام نحمد الله. والحين أنا بشتغل هون ببيروت رئاصة (راقصة).
* عال… عال أوي.
= شو رأيك سيد نجيب؟
* ودي عايزة رأي. دي حاجة ملك.
= بأصد شو رأيك بنجدد الكنتراتو… وبرجع أشتغل معك. بنفع أشتغل ممثلة؟
* تنفعي. دا أنت تكتسحي كل إللي ع الساحة ويكون لي عظيم الشرف إنك تشتغلي معايا.
جدد الريحاني عقد الاتفاق على العمل مع التياترو، ليضم بديعة إلى الفرقة براتب شهري قدره 40 جنيهاً مصرياً، وظهرت معه للمرة الأولى في أدوار غنائية، فنالت ما تنبأ به لها من نجاح.
مكث الريحاني في سورية ولبنان ثلاثة أشهر كاملة، غير أنه ما إن دخل الحدود المصرية حتى وجد في انتظاره قضية مدنية رفعها ضده الخواجة «ديمو كنجس»، صاحب تياترو «الإجبسيانة» حيث كان يعمل قبل سفره إلى الشام، فقد كان مديناً للخواجة بمبلغ 600 جنيه كتأمين، فلما اتفق على القيام بالرحلة تراضي على أن يدفع له مبلغ خمسة جنيهات عن كل يوم من أيام تغيب الفرقة في رحلة الشام، انتهز فرصة غيابه وأقام الدعوى مطالباً إياه بتعويض مالي لما سببه من خسائر بامتناعه عن العمل في مسرحه، على رغم الاتفاق بينهما، لتستمر هذه المنازعات حوالى شهرين، انتهت لصالح نجيب.
ريا وسكينة
عاد الريحاني لاستئناف نشاطه الفني في القاهرة، وبدأ يستعد لتقديم رواية جديدة بعدما قرر استغلال الحادث الشهير الذي هز أرجاء مصر، وهو القبض على شقيقتين من الإسكندرية هما ريا وسكينة مع زوجيهما، بسبب ارتكابهما جرائم قتل نساء كثيرات بعد سرقتهن.
أعد نجيب رواية باسم «ريا وسكينة» وأخرجها، وقام الممثل حسين إبراهيم بدور «ريا»، وقامت نظلي مزراحي بدور «سكينة» فيما جسدت بديعة دور «ضحية» بنت بلد مصرية، وأدى الريحاني دور سفاح شريك لهما اسمه «مرزوق»، وقاسى الممثلون في البروفات وبذلوا جهوداً جبارة لم تكن بديعة اعتادتها في عملها، غير أن كل متاعبها زالت ما إن رأت نجاح الرواية، فعلى رغم كمية التراجيديا والميلودراما التي احتوت عليها، إلا أنها نجحت بشدة.
خلال وقت قليل استطاع الريحاني أن يستعيد جمهوره وشعبيته، خصوصاً بعد عودة الحياة إلى شكلها الطبيعي عقب صدور تصريح 28 فبراير 1922، الذي اعترف بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، ما جعل نجيب يشعر بفخر لما كان له من دور وطني كبير في إشعال حماسة الجماهير.
نجاح نجيب جعل شركة سجائر «ماتوسيان» تقدم له مشروعاً للاتفاق معها، يقضي بأن تعمل فرقته ثلاثة أشهر في الإسكندرية لحسابها، على أن تضع الشركة في علب سجائرها كوبونات يستطيع من يشتريها أن يقدمها لعامل شباك التياترو فيحصل بواسطتها على تخفيض.
وافق الريحاني على المشروع هرباً من تدني الأحوال الاقتصادية التي خيمت على الأوضاع في مصر، وبدأ عمله في تياترو «كونكورديا» في الميناء الشرقي في الإسكندرية، من أول مارس 1922، وانتهى في مايو من العام نفسه،
عاد الريحاني إلى القاهرة مضطراً قبل أيام من انتهاء تعاقده مع الشركة… عاد بعدما وصله تلغراف من شقيقه توفيق: احضر فوراً… والدتك توفيت.
شعر الريحاني برحيل أمه بأنه فقد الجميع، المعلمة والصديقة والشقيقة. اعتصر الألم قلبه لفراقها، غير أن القدر لم يمهله لتضميد جراحه على فراق والدته، ولم تمر أيام حتى فجع بكارثة أخرى، ربما أشد قسوة، ذلك أن جورج أصغر أخوته وأقربهم إلى قلبه وأعزهم على نفسه اختفى فجأة من دون أن يعرف أحد له مكاناً.
لم يترك نجيب مكاناً إلا وبحث فيه عنه، راح يسمع الكثير من الأقاويل والحكايات حول اختفائه، لم تصح واحدة منها، فوقف حائراً أمام نوائب الدهر المتتالية:
* إيه إللي بيحصلك دا يا نجيب. الدنيا مستكترة عليك أنك تفرح بأي حاجة في حياتك. السهام ورا بعضها، واحد ورا التاني. بدأت بالبنت لوسي إللي وحشتني أوي. وبعدين أمي الحبيبة إللي عمري ما حسيت بغياب أبويا في وجودها. ودلوقت تكمل بضياع أخويا الحبيب وصاحبي… جورج. يا ترى الدنيا مخبية لك إيه تاني يا نجيب؟!
مرت الأيام والأسابيع من دون جدوى، فقد اختفى أقرب الأحباء إلى قلبه، بل من يعتبره التعزية الوحيدة له في الدنيا، الأمل الباسم في حياته، غير أن الخبر الوحيد الذي أدخل السرور إلى قلبه بعد تعاقب الكوارث هو إنجاب شقيقه توفيق أول أولاده، وكانت مفاجأة سارة لنجيب أن أطلق شقيقه اسم «بديع» على ولده، لعلمه مدى حب نجيب وتعلقه بصديقه بديع خيري، فقد أحب أشقاء نجيب بديع خيري كما أحبهم واعتبروه شقيقهم الخامس.
ظل نجيب يغالب يأسه وضيق صدره ولم يستطع أن يعود إلى سابق عهده، حتى جاءه ما يخرجه من هذه الحالة، تقدم إليه متعهد يعرض عليه رحلة فنية جديدة بفرقته إلى سورية، غير أنها لم تكن أحسن حظاً من سابقتها، وساءه ما وجده منها، وللمرة الأولى رأى تعنتاً من أفراد فرقته وتمرداً عليه، حتى تكالبت الهواجس على رأسه، ولم ينقذه منها سوى الخبر الذي وصله في بيروت، في أول يناير من عام 1923.
(البقية في الحلقة المقبلة) بين سرينا ولوسي
من دون أن يشعر وجد الريحاني نفسه يستجيب لدعوات متكررة من سرينا إبراهيم والجلوس معها في غير أوقات العمل، وراحت بخبث الأنثى تسري عنه بعض همومه التي كان يرفض أن يحملها لأحد، حتى حبيبته لوسي التي فسرت هذا التصرف بأنه هجر لها، ومغامرة جديدة لنجيب ليدخل في علاقة يخرج بها من علاقته بلوسي، فكان لا بد أن تضع حدا لذلك:
= نجيب. أنا مش ممكن أتحمل ما تفعله. دون كلام كثير… عليك أن تختار إما انا أو سرينا.
* كلام إيه دا؟ مفيش مقارنة… انت طبعاً.
= خلاص. يبقى لازم تسيب الفرقة فوراً.
* انا أسيب الفرقة… أروح فين؟
= نجيب. أنت فاهم كلامي. أنا مش قصدي انت أنا قصدي هي. لازم تسيب الفرقة.
* طب ما تيجي تقعدي مكاني وتديري الفرقة وتقولي مين يمشي ومين يقعد.
= أنت عارف أني مش دا قصدي. بس أنا تعبت واتحملت كتير من مغامرات وحب البنات لك وجريهم وراك.
* أنا!! اسم الله على إيه؟ على جمالي؟! إذا أنا نفسي مستغرب أنت بتحبي فيا إيه؟
= نجيب مش كل حاجة جد تقلبها كوميديا. يا إما أنا أو هي.
* لوسي… ما تكبريش الموضوع أنا لحد دلوقتي واخد كلامك هزار.
= لو محصلش. أنا مش بس هسيب الفرقة. هسيب مصر كلها.
* لوسي. ما ينفعش تهدديني. أنت مش مجرد ممثلة في الفرقة. إحنا بنحب بعض وهنتجوز.
= مفيش أي حاجة قبل ما سرينا تسيب الفرقة.
* وأنا ما بخدش أوامر من حد في شغلي. حتى لو كان أحب الناس لقلبي.
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 10, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
عاد عزيز عيد ويوسف وهبي من رحلتهما في إيطاليا، وقررا إنشاء فرقة جديدة كبيرة وبدآ يهيئان لها مسرحاً جديداً في شارع عماد الدين. وصل هذا الخبر إلى نجيب الريحاني في سورية، فكان بمثابة «طوق النجاة» وعودة الروح إلى نفسه، وانبعثت جذوة النشاط فيه بعدما عاد إلى الساحة من يجد فيهما منافسين قويين له، فعقد العزم على الرجوع إلى مصر ومواصلة العمل فيها، مهما كانت الأحوال… ومهما حكمت الظروف.
فور عودته إلى مصر بدأ نجيب الريحاني رحلة البحث عن رواية جديدة يواجه بها المنافسين الجدد، فكان لا بد من دخول حلبة الصراع بما يجعله داخل المنافسة لا خارجها، فراح يبحث عن رواية تصلح لهذا الغرض، غير أنه لم يوفق.
وجد بديع خيري نجيب الريحاني على هذه الحالة، فاقترب منه وبحيائه المعروف، قدم له رواية علَّه يجد فيها ما يبحث عنه:
* إيه دي؟
= رواية اسمها «الفانوس السحري» كنت عاوزك تبص عليها.
* أيوه بتاعة مين… مين إللي كتبها؟
= في الحقيقة أنا كنت متردد أقولك. بس لما لقيتك بتدور على حاجة جديدة قلت يمكن دي تنفع.
* ما جاوبتش على سؤالي يا بديع… مين إللي كتبها؟
= بصراحة كده… كتبتها أنا وجورج.
* جورج. يا تري فين أراضيه… عايش ولا… ياه يا بديع.. أد كدا كنتوا بتحبو بعض.
= جورج كان أخويا إللي مخلفتهوش أمي. انتهزنا فرصة اننا قاعدين من غير شغل بعد سفرك الشام المرة الأولانية وقعدنا نتسلى. طلعت معنا دي. لفينا بيها على كل التياتروهات. إن حد يشتريها أو يعبرنا… أبداً. نهايته… آخر ما زهقنا رميناها في الدرج ونسيتها لحد ما لقيتك بتدور على فكرة رواية جديدة فافتكرتها.
* على فكرة يا بديع أنا كان فيه سؤال بيلح عليا من فترة كنت عاوز أسألهولك بس بنسى. أنت ليه مكتفي بكتابة الزجل ما بتكتبش روايات؟ مع إن عندك أفكار هايلة… وكمان بترسم شخصيات حلو قوي.
اطلع نجيب على الرواية فوجدها تتكون من 30 مشهداً، وهو عدد كبير جداً يصعب على مخرج تنفيذه، أقرب إلى عبث المبتدئين، إلا أنه أحس فيها بثمرة يمكن اجتناؤها وأساساً يصح البناء عليه، فجلس على إصلاحها وصبها في القالب الذي يضمن لها النجاح المنشود، وأشرك معه في كل خطواتها بديع خيري. ما إن أنتهيا منها حتى أطلقا عليها اسم «إلليالي الملاح»، لتكون أول عهد بديع بالتأليف الروائي للمسرح، وعودة جديدة لنجيب، وأول تعاون مع الموسيقار الكبير داود حسني، فعمد إلى نشر إعلان كبير في جريدة «الأهرام»:
«عودة نجيب الريحاني»
على مسرح الإجيبسيانة
يوم الخميس 22 مارس 1923 ـ بالرواية الجديدة الكبرى
«إلليالي الملاح»
مأخوذة من قصص ألف ليلة وليلة» ذات خمسة فصول، تأليف الأستاذ بديع خيري
تلحين الموسيقار الشهير داود حسني، يمثل فيها نجيب الريحاني دور «نواش» والست بديعة مصابني دور «شمعة العز».
وآن أوان اقتطاف الثمرة، وجاء الوقت الذي شاءت فيه الأقدار أن تنيلهما أجر ما بذلاه من جهود فظهرت «الليالي الملاح» آية فنية رائعة، بدت فيها بديعة مصابني كوكباً هلَّ على الجمهور واحتلَّ مكامن إعجابه.
زاد الإقبال وتحسنت الأحوال، وبدأ الناس يتحدثون في كل مكان عن نجمة فرقة الريحاني الجديدة ويرفعونها إلى مكانة متميزة، وإن لم تصل إلى مكانة الريحاني.
هنا فقط عرفت بديعة سر التدقيق في «البروفات» ورأت بعينيها أن نجاحها لم يكن إلا وليد تلك الجهود التي أبكتها في ما مضى فأغضبتها المرة تلو الأخرى، ما حملها على مطالبة نجيب بموالاة العمل لإخراج رواية جديدة، ظناً منها أن تأليف الرواية لا يكلفه شيئاً من العناء!
مضى الشهر الأول والنجاح حليف «الليالي الملاح»، ولم يكن نجيب وبديع قد أنهيا من الرواية التالية سوى فصلين، فراحت بديعة تستحثهما على الإسراع وبذل الهمة للفراغ من الفصل الثالث، بكلام يلهب ظهورهما كالسوط كلما غدت أو راحت، لدرجة إنها وصفت نجيب بـ «الكسول».
رحيل النغم
فكر الريحاني في الاستعانة مجدداً بالشيخ سيد درويش، خصوصاً بعد نجاحه في تقديم الكثير من الأوبريتات الغنائية، وأصبحت موسيقاه تملأ مسارح مصر، وتتردد على ألسنة العامة في الشوارع أو الحواري، وزاد من رغبة نجيب في الاستعانة بالشيخ سيد، صدور دستور 1923، في 19 أبريل.
شعر نجيب بأن هذا هو وقت سيد درويش، وأن رواية «الشاطر حسن» هي الأنسب لعودة اللقاء بينهما، خصوصاً أنه تأكد من حدسه بعبقرية بديع خيري كمؤلف روائي، مثله كزجال، وأنه يملك أضعاف موهبته في التأليف، ورسم الحقائق والأخلاق المصرية الصميمة، فأضحى بديع زجالاً ومؤلفاً في آن، وقد ساعده ذلك على التفكير في إخراج الكوميدي المصري الصميم، واكتمل ذلك بتعاون سيد درويش معهما.
أثر كلام بديعة في نجيب بشكل كبير، لدرجة أنه تعجل ظهور الرواية الثانية «الشاطر حسن» وكان من أثر ذلك أن أخرجها من دون تهيئة الفصل الأخير منها، ولا الاستعانة بالشيخ سيد درويش الذي كان خارج مصر، فظهرت في اليوم الأول مفككة لا ضابط لها، إلا أنه استطاع أن يصلح ما أفسدت السرعة منه، فاحتلت الرواية مكانها من إعجاب الجمهور، وكانت كسابقتها في النجاح والإقبال، ومعها بدأت بديعة تنتقل كل يوم من نجاح إلى نجاح، حتى جاءت الرواية الثالثة «أيام العز» وفيها ارتكز مجد بديعة على أساس ثابت، وأضحت العروس التي تنبأ بها الريحاني، والمعدن الذي كشفه صقل جوهره.
فيما كان نجيب يعيش أجواء النجاح مع أحدث وأنجح اكتشافين قدمهما إلى الوسط الفني والجماهير: وبديع خيري في كتابة الروايات وبديعة مصابني كممثلة وراقصة، فوجئ بمؤامرة جديدة تحاك ضده، طرفاها الخواجة ديموكنجس الذي ملأ الريحاني خزأنته بالأموال بما لم يكن يمتد إليه أمله حتى في أحلامه، ومصطفى حفني مدير «مسرح برنتانيا»، إذ اتفقا على أن يشتركا في إتمام بناء تياترو «الإجيبسيانة» (لأنه كان إلى تلك اللحظة على حاله، سقف من الخيش، جدران من الطوب، وأرضية من الرمل)، لكن للأسف كان الشرط الأساسي أن يخرجا منه الريحاني، وأن يجلبا فرقاً أجنبية من الخارج، الواحدة تلو الأخرى:
* إزاي يا خواجة؟ التياترو مش بس حيطان وطوب… التياترو ناس ونجاح واسم.
= خبيبي «إيجبسانه» اسم كبير أكبر من أي فرقة واسم أي ممثلين.
* بس من غير الفرقة ومن غير نجيب الريحاني ممكن تعمله جراج تحط فيه عربيتك.
= دا كلام مس مظبوط… التياترو عمل نجاح الريحاني ممكن يعمل نجاح غيره.
* إحنا مش هنتحاسب دلوقت مين سبب نجاح التاني. إحنا نجحنا سوا وربنا اكرمنا سوا. يبقى ليه الغدر.
= دا مس غدر… دي مصلحة. وكل واحد يسوف مصلحته فين… أنت كمان سوفتو مصلحتك في السفر. أنت سافر وساب ديموكنجس ما فيس فلوس… ما فيس سغل.
* طب هو خواجة ومش قادر يفهم أصول ولاد البلد. انت كمان يا عم مصطفى موافق على كلامه؟
- أنت ليه بتعتبر مصلحة غيرك ضدك يا نجيب أفندي؟
* ولما تكون مصلحة غيري تيجي على دبحي أقف اتفرج واصقف لكم.
- طب أنا عندي حل يرضي كل الأطراف.
* قول أنا في عرضك.
= الخواجة هيجيب الفرق الأجنبية إللي هتشتغل زي ماهو عايز. الفرقة من دول بتيجي تشتغل أسبوعين وبتمشي… وعلى بال ما تيجي الفرقة التانية تأخد لها أسبوع عشرة أيام… انت تشتغل فيهم.
* لا والله. حكمت وعدلت. بقى هو دا حكمك يا سي مصطفى؟!
- ما تزعلش يا سيدي. عندك كمان الفرق الأجنبية ما بتحبش تيجي في الحر في يوليو وأغسطس. هنبقى نسيب لك التياترو في الشهرين دول… مبسوط يا عم؟
* إلا مبسوط… دا أنا هنفجر من الانبساط!! يعني دا آخر كلام عندكم؟
= كلام مسيو مصطفى جيتو مزبوط… وأنا ما فيس مانع.
أصبحت الأيام المتقطعة التي يقدمها نجيب على مسرح الإجيبسيانة، لا تسمن ولا تغني من جوع، إذ كان ما يجنيه من عمل الفرقة خلال هذه الأيام لا يكفي أجور الممثلين، ما اضطره إلى الجوء إلى الاقتراض من البنك بضمان سنداته فيه والتي تبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري، وكي تزداد الأمور تعقيداً امتنع البنك فجأة عن إقراضه، إذ ظهر من ادعى بأن نجيب مدين له بمبلغ مئة جنيه، فقرر البنك الحجز على السندات… ليبدأ رحلة جديدة مع الإفلاس!
قبل نجيب شروط الشريكين ديمو كنجس ومصطفى حفني، ورضي أن يعمل على فترات متقطعة، فأعد مع بديع رواية «البرنسيس» في محاولة لتقديم أول كوميديا مصرية حقيقية، وإن كانت مشرَّبة ببعض نواحي «الأوبريت»، فأرسل بديع للاتفاق مع الشيخ سيد درويش بعدما عاد من رحلته في الشام، لكن خيري رجع في حالة من الدهشة والذهول:
* فيه إيه يا بديع؟ مالك الشيخ سيد رفض؟
= أيوه… مش هيشتغل خالص.
* يعني إيه مش فاهم؟ أنا آخر مرة قابلته كان موافق واتفقنا تقريباً.
= الشيخ سيد درويش مات يا نجيب!
* يا وقعة سودة. سيد مات… إزاي!؟ وامتى وفين؟
= سيد مات في الإسكندرية… كان رايح علشان محضر نشيد جديد هيستقبل بيه سعد باشا في المينا وهو راجع من باريس.
* أيوه بس ما كانش بيشتكي من حاجة. إيه إللي حصل؟
= الكلام إللي بيتقال إن الإنكليز خلصوا منه. سموه علشان يخلصوا منه ومن ألحانه وأغانيه إللي مجنناهم.
* الله يرحمك يا شيخ سيد. إذا كانوا قدروا يخلصوا على جسمه الضعيف مش هيقدروا يموتوا ألحانه وأغانية إللي هتفضل عايشة جوه المصريين.
استعان نجيب الريحاني مجدداً بالملحن داود حسني في رواية «البرنسيس»، وفيها خرج للمرة الأولى عن شخصية كشكش، وظهر في دور «آلاتي» بائس يعزف على «القانون» اسمه «المعلم حسنين»، فيما جسدت بديعة في دور «عيوشه».
صعود وهبوط
نجحت الرواية، وتوطد مركز بطلتها بديعة في عالم التمثيل، فقدم نجيب بعدها رواية «الفلوس» ثم «لو كنت ملك» و{مجلس الأنس»، ليرتفع مع فرقته إلى مكانة عالية، غير أنهم أصبحوا كالأيتام على مأدبة اللئام، إذ لم يكن لهم مسرح ثابت يعملون فيه، فضلاً عن أن التراجيديا طغت على الفن في مصر فاشتهر فيها اسم «مسرح رمسيس»، وعمل عميده يوسف وهبي ومخرجه عزيز عيد على ترجمة أفضل منتجات الغرب الأدبية، وعرضها على الجمهور في ثوب قشيب ومظهر خلاب، لفت أنظار الناس قاطبة فتهافتوا على مشاهدته، وولوا وجوههم شطره، فيما راح نجيب يتابع سيره المتقطع تحت رحمة ديموكنجس ومصطفى حفني، حتى انتهى تعاقده معهما في أواخر يوليو عام 1924، وفيما يستعد لإخلاء المسرح والانتقال بالملابس والمناظر، وقف مصطفى حفني بينه وبين أخذ أي شيء:
* ليه يا سيدنا؟
= لأنك مدين ليا بمبلغ سبعمية وعشرين جنيه!
* يا خبر زي بعضه… بتوع إيه دول يا حاج مصطفى؟
= بقى يعني مش عارف حضرتك؟ بتوع حفلات الماتينهات إللي بسلامتك رفضت تشتغلها.
* لكن دا مش بسلامتي بس إللي رفض. دا بسلامتك أنت كمان ما كنتش بتشتغلها لأن ما فيش جمهور يجي يشوف مسرح العصر في عز الحر، ولأنك كمان كنت هاتخسر ثمن النور وأجر العمال!
= لا… مفيش كلام من ده. مفيش قشاية هاتخرج قبل ما تدفع إللي عليك.
انتهت المناقشة وانفض المشكل على أن يترك نجيب كل ما له من ملابس ومناظر وستائر مقابل هذا المبلغ.
الزواج والهجرة
يئس نجيب من الحياة التي أنكر الناس فيها الوفاء وباعوا الأصدقاء، فعزم على أن يرحل بعيداً عن أناس اشتراهم وباعوه، أخلص لهم فأنكروه، وفجأة طرأت على رأسه فكرة عله يخرج بها من أزمته النفسية:
* تتجوزيني يا «بدعدع»؟
= إيه؟! بتقول إيه؟ انت فايق يا نجيب.
* أيوه يا ست فايق… هو أنا بقولك أنا قررت أنتحر. أنا بقولك تتجوزيني.
= أيوه بس أنت عمرك ما لمحت حتى انك ممكن تتجوزني.
* وآديني أهو صرحت مش لمحت.
= أيوه بس انت عارف إن أنا عندي بنت يعني مش عايشة لوحدي.
* يا ستي انت وبنتك على رأسي من فوق.
= فيه شرط تاني… هو ان الجواز في البيت بس. يعني في الشغل كل واحد فلوسه لوحده وأجري زي ما هو.
* من غير ما تقولي. انت وبنتك ملزومين مني. أنا مش ممكن أقبل ان ست تصرف مليم وهي ملزومة مني.
انقضى شهر العسل، وبدأ العروسان التفكير في العودة إلى العمل، فقررا القيام بنزهة يستمتعان فيها بشم الهواء في مصيف روض الفرج، وفي الوقت نفسه يطلع على ما تقدمه الفرق الأخرى.
ما كادا يصلان حتى طرق أذنيهما صراخ شخص يوزع إعلاناً ورقياً بصوت جهوري:
الحق هنا يا جدع، تعالى وشوف «كشكش الأصلي» يا جدع، هنا ملك «الكوموكودو» (الكوميديا) الحق قبل ما يلعب.
تراءى لبديعة أن تقف هنيهة لتناقش ذلك «الإعلانجي» في صيغة ندائه، ولم يكن بالطبع يعرف شخصيتها:
= لكن يا أخينا «كشكش الأصلي» في عماد الدين مش هنا.
- لا يا ستي هانم. دكهه تقليد، لكن الأصل هنا.
= طيب إزاي الأصلي يهزأ نفسه في روض الفرج، ويسيب التقليد يتمتع في عماد الدين؟
- وإيه يعني عماد الدين يا ست، فيه في الدنيا أحسن من روض الفرج؟ روض العشاق يا هانم!
قرر الريحاني وبديعة مشاهدة هذا «الكشكش» الأصلي، ورفع الستار وظهر الممثل فوزي منيب، يرقص ويمثل ويغني، فطاش عقل الريحاني، وخرج مندفعاً من دون أن يكمل الرواية… أو بمعنى أدق الإسكتش.
* معقولة إللي شفناه ده؟ هو فيه كدا في الدنيا؟
= هدي نفسك يا نجيب… بس كان لازم تفضحه قدام الناس.
* ناس مين! أنت ما كنتيش شايفة؟ دا كلهم معلمين وتجار… وأكيد مبسوطين منه ولو كنت اتكلمت كان ممكن يضربونا ونطلع إحنا إللي حرامية.
= أيوه بس انت قولتلي أنك مسجل «كشكش» في المحكمة.
* على بال ما نثبت نكون رحنا المستشفى أقرب. أنا مش واجعني غير أنه يمرمط «كشكش» بالشكل دا… دا أراغوز مش كشكش.
= إهدَ يا نجيب… إهدَ.
* عارفة أنا بحمد ربنا أنك موجودة معايا… لولا كده كان زماني رميت نفسي في النيل.
= نجيب… ما تقولش الكلام دا. انت إللي عملت كشكش… وتقدر تعمل أحسن منه.
* الحكاية مش أحسن ولا أوحش… دا إحباط. انت تتعبي وتسهري إلليالي تفكري… ويجي غيرك يأخد ويأكل الشهد ع الجاهز. وإحنا قاعدين من غير شغل بناكل سميط وجبنة على كورنيش روض الفرج.
كانت هذه السهرة سببا في القضاء على تردد نجيب في السفر خارج مصر، فلم ينقض الليل، حتى كان في صباح اليوم التالي قاصداً قلم الجوازات، لاستخراج وثيقتي سفر له ولبديعة:
= هنسافر نروح فين؟
* بلاد الله واسعة. أنا حاسس إني مخنوق وأيدي مكبلة. وكمان مش قادر أشوف جورج أبيض بقى ملك الدراما في الشرق، ويوسف وهبي وعزيز عيد بيخرجوا من نجاح يدخلوا في نجاح جديد، وعلى الكسار مسرحه كل يوم كومبليه. وأنا بتسرق والسجادة بتنسحب من تحت رجليا وأقف أتفرج.
= طب نشتغل… ليه نتفرج؟
* صدقيني يا بديعة مش قادر دلوقت. خلينا نطلع الرحلة دي. أهو نتفسح شوية ونشم هوا. ولو ربنا أكرمنا بشغل يبقى خير وبركة.
= طب أنا عندي فكرة. أنا سمعت من خواجة يوناني أعرفه ان فيه جالية عربية كبيرة قوي في البرازيل وأميركا الجنوبية. إيه رأيك لما نروح نجرب هناك؟
* والله فكرة… أهو يبقى شوفنا عالم تاني غير العالم إللي عايشين فيه ونجرب… ياااه شوفي الواحد ممكن يعدي سبع بحور علشان يدور على شغل!
أنهى الريحاني الترتيبات وغادر مصر إلى «جنوا»، في معيته بديعة مصابني و{جوجو» ابنتها من زواجها الأول، ومعهم فريد صبري ومحمود التوني، لكن ما إن وصلوا جنوا حتى صدمهم شكل الباخرة «غريبالدي» التي سيستقلونها إلى أميركا الجنوبية، فلم تزد عن كونها «مركب» صيد متواضعاً، ربما تستطيع بالكاد التنقل بين الإسكندرية وبورسعيد، فالرحلة التي من المفترض أن تستغرق سبعة أيام، قطعتها في 25 يوماً!
ترك الريحاني زوجته وابنتها وفريد صبري في الفندق، واصطحب محمود التوني لارتياد المدينة علهما يستطيعان أن يجدا فرصة لإحياء حفلة أو اثنتين، وراحا يجوبان سانتوس شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لكن لم يصادفهما أي نجاح، فاتجها إلى سان باولو في أول نوفمبر 1924.
(البقية في الحلقة المقبلة)
الفيلسوف الضاحك 24 : نجيب الريحاني… مصر… باريس ونيويورك
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 12, August 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط
في سان باولو اختلف الأمر، فكانت المفاجأة أن استقبل الريحاني وفرقته جمهوراً يربو على الخمسمئة شخص، أكرم وفادتهم، وأنزلهم على الرحب والسعة، ومنذ اليوم الأول أظهر لهم رغبته في مشاهدة بعض روايات الريحاني، فأفهمهم الريحاني أنهم قصدوا المدينة للاستجمام والراحة، ولم يصحب فرقة من الممثلين لتقديم رواية مكتملة، فأحضروا فوراً عدداً من الشباب هواة التمثيل في المدينة، على رأسهم جورج استاتي.
فوجئ الريحاني بأن جورج استاتي يقدم روايات مع فرقته ويطلق على نفسه «كشكش البرازيلي»، فقد اكتشف أنه نجل ألمظ أستاتي، شقيقة أبريز استاتي زوجة أمين عطا الله، الذي سبق واستغل اسم «كشكش» في سورية أيضاً.
ألف الريحاني الفرقة مستعيناً بهؤلاء الهواة، إلى جانب بديعة وصبري والتوني، وبدأ في الإعداد لتقديم بعض رواياته السالفة، من بينها «ريا وسكينة، البرنسيس، وأيام العز» التي أطلق عليها اسم «حلاق بغداد»، غير أنه فوجئ بهجوم كبير عليه وعلى فرقته في الصحافة البرازيلية قبل أن يبدأ، واكتشف أن سبب ذلك يرجع إلى الجفاء بين أهل البلاد الأصليين وبين ضيوفها، لتمكن الأخيرين من امتلاك أعنة البلاد الاقتصادية.
استأجر الريحاني المسرح لأربع ليال بخمسين جنيهاً مصرياً عن الليلة، وسط أجواء مشحونة وتوتر يسيطر عليه وعلى أفراد الفرقة، غير أنه قرر أن يستمر، وما إن اقترب الموعد المحدد لرفع الستار حتى تساءل عن حركة بيع التذاكر، وهاله أن الإيراد وصل إلى ألف جنيه، ما زاد إحساسه بالمسؤولية وسط هذه الأجواء… فسأل نفسه:
ماذا لو قدر لنا الفشل… ماذا سيكون مصيرنا هنا؟
نظر الريحاني من خلال ثقب صغير في الستار قبيل التمثيل، فما أروع ما شهد، طوائف من أرقى الطبقات، رجالاً وسيدات تشع من نحورهن وأصابعهن أنوار الحلي البراقة.
رفع الستار وقدمت الفرقة رواية «ريا وسكينة» ذات الفصل الواحد، وانتهت من دون أن تتبين للريحاني في نفوس الجمهور نتيجة، ثم جاء أوان رواية «البرنسيس»، التي تبدأ بظهور بديعة على المسرح، وبعد فترة طويلة يظهر نجيب، فعكف في غرفته يهيئ وجهه بالماكياج، وتملكه خوف شعر معه بأنه مبتدئ لم يعهد أضواء المسرح ولم يقف أمام جمهور سابقاً، غير أنه تمالك نفسه وصعد إلى خشبة المسرح، وما كاد الفصل الأول ينتهي حتى قوبل بعاصفة من التصفيق والهتاف، وامتلأ المسرح بالصحافيين والمهنئين، لمس معهم الريحاني فخر الجالية السورية بإخوانهم المصريين، وهو ما شعر به عندما وجهت إليه الجالية السورية دعوة لحضور مباراة في كرة القدم بين الفريق الذي تدعمه وفريق البرازيل، وسط جماهير تزيد على عشرين ألف متفرج، وما كاد الريحاني وبديعة يظهران أمام هذا الجمع الحافل حتى سمعا الهتاف صاعداً إلى الفضاء:
فيفا ريحاني… فيفا ريحاني…
قصد الريحاني بفرقته العاصمة ريو دي جانيرو، وكانت الشهرة قد سبقته إليها، لذلك استقبله الجمهور فيها استقبالاً حافلاً، ونجح في تقديم ثماني حفلات في المدينة، كان متوسط إيراد الحفلة منها ما يعادل 500 جنيه مصري، وما كاد ينتهي من هذه الحفلات حتى استدعوه ثانية إلى سان باولو، حيث أقام حفلتين.
الهروب الكبير
فكر الريحاني وبديعة في أن يتجها بالفرقة إلى الأرجنتين لاستكمال الرحلة، غير أنه اصطدم بمشكلة كبيرة، وهي أن الحجر الصحي لن يسمح بدخول شخص إلى الأرجنتين لديه مرض «التراخوما» أو «الرمد الحبيبي» في عينيه، الذي كان يعانيه محمود التوني بشدة، بالتالي لن يسمح لهم بالدخول أو سيتم استبعاده، فنصحه البعض بأن يدخل الأرجنتين عبر بارغواي أولاً، حيث لا يتم التدقيق حول هذا المرض، وهناك يتصل بتاجر سوري كبير يعمل في تجارة الحرير، وله في جمهوريات أميركا الوسطى كلمة مسموعة ونفوذ، سيساعدهم في الدخول إلى الأرجنتين.
نفذ نجيب نصيحة الأصدقاء وركب وأعضاء الفرقة الباخرة إلى «مونتيفديو» في بارغواي، وفي المحطة التي رست فيها السفينة على الميناء سمع شخصاً يخترق صفوف الركاب وينادي بصوت عال:
سنيور ريحاني… سنيور ريحاني…
ما كاد يسمع نجيب النداء حتى اعتقد أن مكيدة دبرت لهم، وسيتم القبض عليهم وترحيلهم، فكسا وجه بديعة الاصفرار وكاد يغمى عليها، وتقدم نجيب من هذا المنادي متصنعاً الشجاعة:
* سي سنيور… أنا سنيور ريحاني.
= سنيور ريحاني. أنا بيلي خوسيه… صحافي. أنا عرفت بوصولكم وكنت أريد عمل لقاء معك. وهذا مصور يلتقط لكم بعض الصور.
* جورنالجي… الله يغمك. دا أنت كركبت مصارين السنيور ريحاني. غايته اتفضل أنا تحت أمرك.
انتهى اللقاء الصحافي، وجاء لقاء آخر، فقد وجد الريحاني الطبيب في انتظارهم، وقّع الكشف الطبي على أعينهم كشرط لدخول بارغواي، فمروا جميعاً بسلام، إلا أن الطبيب اكتشف وجود «التراخوما» في عيني محمود التوني، ورفض دخوله البلد، فراح الريحاني يتوسله فسمح له بأن بالدخول «ترانزيت» لبضع ساعات على أن يغادر البلد فوراً إلى الأرجنتين.
اتفق نجيب مع صديقه التاجر السوري على حيلة، وهي أن تسافر بديعة بحراً مع الخمسة الخالين من «التراخوما» إلى الأرجنتين بعدما أعلن فريد صبري العصيان واشترط زيادة الأجر أو السفر، فتركه الريحاني يسافر بلا التأسف عليه، على أن يسافر الريحاني بصحبة محمود التوني عن طريق القطار، ويتسللان عبر السكة الحديد، ومن خلالها يستطيعان المرور من دون مشكلة.
مكث الريحاني والتوني ثلاثة أيام في القطار، كان يتسلمهما شخص في كل محطة يحط فيها القطار بخطاب توصية كأنهما بضائع مهربة، حتى وصلا إلى سان خوسيه الأرجنتينية، واتجها لركوب القطار الذي سيقلهما إلى بيونس أيرس وتقدم الريحاني في لهفة إلى شباك التذاكر يطلب تذكرتين إلى المدينة، فنظر إليه العامل وهز كتفيه بابتسامة لم يفهم لها معنى ثم قال:
= متأسف جداً… لقد تأخرتم لأن القطار مرّ صباح أمس!
* صباح أمس! والقطر إللي بعده امتى؟
= بعد أسبوع!
* أسبوع!؟ وبتقولوا إنكم في بلاد متمدنة؟ أسبوع يا بني آدم في قارة اسمها أميركا؟! دي إفريقيا على كده الجنة ونعيمها يا ولاد العم سام!
- وبعدين يا نجيب؟ إيه العمل؟ هنقضي الأسبوع دا فين؟
* وأنا أعرف منين؟ أهي رحلة زي عنيك مليانة تراخوما… والمصيبة إن سان خوسيه دي كل إللي فيها مش أكتر من ميت بيت أول عن آخر.
اضطر الريحاني والتوني إلى النزول في الفندق الوحيد في سان خوسيه، وهو عبارة عن حجرة واحدة في طابق أرضي، فيها سرير واحد وكنبة واحدة، حيث مكثا لمدة أسبوع، ينام أحدهما بينما الآخر يحرسه، ثم يتبادلان المواقع، خوفاً من سرقة الثروة التي يحملها الريحاني، وهي ما يقرب من ألف وخمسمئة جنيه مصري، حصيلة عمل الفرقة في البرازيل.
بعد أسبوع غادر القطار محطة سان خوسيه في الثانية بعد الظهر، ليصل إلى بيونس إيرس في الثامنة من صباح اليوم التالي، فوجدها نجيب والتوني فرصة للنوم والراحة بعد «نوبتجيات» فندق سان خوسيه وراحا في نوم عميق.
مع أول ضوء للفجر استيقظ الريحاني، فلم يسمع صوت عجلات القطار، ظن أنهما وصلا، فنظر من شباك القطار، وهاله ما رأى: الماء يغمر القطار من كل جانب:
* توني… ولا يا توني… إصحَ.
= فيه إيه يا نجيب؟ ما تسيبني أنام يا أخي. مش كفاية إللي شفناه في سان خوسيه.
* ياد قوم بص كده!
= إيه فيه إيه؟
* هو إحنا لما نمنا كنا راكبين وابور بحر ولا وابور بر؟!
= هو إيه إللي وابور بحر ووابور بر… إيه دا؟ يا نهار ما لوش عنين! إيه الميه دي.. هو القطر غرق في البحر.
* يظهر كده. وأكيد إحنا متنا. استعد يا جميل المحيا للحساب.
عرف نجيب السبب، فثمة نهر كبير بين سان خوسيه وبيونس إيرس يجتازه القطار، غير أنه يجتازه عبر «صندل نهري» ينقل عربات القطار من شاطئ إلى شاطئ.
برافيتشيني
وصل القطار، فوجد نجيب بديعة وابنتها جوجو وبقية أفراد الفرقة على محطة القطار لاستقبالهما، وقد أحضروا معهم جوقة موسيقية وأعدوا لهما استقبالاً فخماً، إذ استغلت بديعة فرصة تأخر نجيب خلال هذا الأسبوع، واستأجرت المسرح حيث سيعملون وانتهت من تجهيز كل شيء، وفوراً بدأت الفرقة عروضها في الأرجنتين.
استقبل الجمهور أعضاء الفرقة استقبالاً متميزاً، فلم يكد يُسمع صوت الريحاني من بين الكواليس قبل الظهور على خشبة المسرح حتى كان الجمهور يصرخ مصفقاً، وكأنه في مصر. كذلك احتفت به الصحافة الأرجنتينية أيما احتفاء، وشبهته بـ «برافتشيني» أكبر ممثل أرجنتيني، وأطلقت عليه لقب «برافتشيني دلا كايرو»، أو «برافتشيني القاهرة».
انتهى عمل الفرقة في الأرجنتين وقرر الريحاني العودة إلى مصر، غير أنه اتفق مع زملائه على أن يكون طريق العودة هو نفسه الطريق الذي جاؤوا عبره، لكنها كانت عودة مصحوبة بعروض في كل محطة استقروا فيها، بناء على طلب الجمهور الذي عرفهم وتعود عليهم، ولم يتردد الريحاني أو أي من أفراد الفرقة.
في مدينة ريو دي جانيرو ألح الجمهور الذي شاهدهم سابقاً، على مشاهدة عروض الفرقة مجدداً، لكن لم يتوافر أي مسرح خال من الفرق في تلك الفترة، سوى «المسرح الإمبراطوري» الذي لم يكن له مثيل في العالم، لا سيما في اتساعه وكثرة مقاعده، وهو ما أبعد عنه كل فرق المدينة وغيرها من المدن المحيطة، ولم يجد الريحاني بداً من قبول الوقوف على خشبته، ولم يطمع في أن يشغل الجمهور أكثر من ربع مقاعده.
في الثامنة من صباح يوم العرض، اتجه الريحاني ليسلم التذاكر لعامل الشباك، وراعه الزحام الذي لم ير مثله سابقاً، فسلمه التذاكر وانصرف يمني نفسه بجمهور غفير، غير أنه عندما عاد قبيل الغروب، صدم صدمة مروعة، إذ وجد المسرح خالياً تماماً، بل ولم يجد عامل الشباك، وفوق ذلك وجد الشباك مقفلاً!
خرج نجيب لا يعرف ماذا يفعل وأين يتجه؟ وبينما كان ماراً بشارع جانبي عثر على عامل شباك التذاكر يجلس لتناول قهوة، في مقهى مجاور للمسرح:
* أنت فين يا ابني؟
= أنا هنا بشرب قهوة. تحت أمرك يا أستاذ.
* يعني هو دا وقت قعدة وشرب قهوة. مش المفروض أن فيه عرض الليلة؟
= أيوه يا أستاذ طبعاً.
* طبعا إيه؟ وأنت قاعد هنا وقافل شباك التذاكر!
= وافتحه ليه؟
* تفتحه ليه… أمال إحنا هنروح للجمهور نعرض لهم في بيوتهم؟
= مش قصدي يا أستاذ. أنا قصدي افتحه ليه طالما التذاكر كلها خلصت
* إيه؟! بتقول إيه؟ التذاكر كلها خلصت؟
= من بدري يا أستاذ. المسرح كامل العدد!
* يا بني قل كلام غير دا؟ دا المسرح ممكن ياخد سكان البرازيل مع سكان الأرجنتين ويبقى فيه أماكن فاضية وتقوللي التذاكر خلصت؟!
= زي ما بقولك كده يا أستاذ… ولو مش مصدق كلها ساعة وتشوف بعينك.
نظر الريحاني من خلال فجوة صغيرة في الستار، فرأى الجماهير كالنمل الزاحف والمقاعد كافة مشغولة… فكان العرض خير ختام لرحلة استغرقت عاماً بأكمله في أميركا الجنوبية.
عاد الريحاني وفرقته من أميركا الجنوبية بألف جنيه، هي حصيلة إيراد 36 ليلة عرض على مدار عام كامل، بعد دفع أجور الفرقة وإيجار المسارح التي عمل عليها ومصاريفهم الشخصية.
في طريق عودة الفرقة إلى مصر، عرج الريحاني وبديعة وابنتها جوجو ومعهم محمود التوني على باريس للراحة والاستجمام قبل العودة إلى مصر، فأمضوا فيها 15 يوماً، لم يزوروا خلالها متحفاً ولم يدخلوا مسرحاً، كما لم يفكروا في مشاهدة هذا الفن الجديد الذي يطلق عليه «سينما توغراف»، بل إن صح التعبير أمضوا هذه الأيام في «غاليري لافاييت» أحد أفخم وأكبر غاليرهات باريس، لشراء كل ما طاب وراق لهم من أدوات وكماليات وصناديق ماكياج، وكل ما وقعت عليه أنظارهم من الملابس أو الموبيليا، حتى أنفق الريحاني آخر جنيه في جيبه، لدرجة أنه أرسل برقية إلى أحد أصدقائه في القاهرة يقترض منه مئة جنيه، ثمن تذاكر العودة في الباخرة إلى الإسكندرية!
ذاع خبر وصول نجيب الريحاني وبديعة مصابني من أميركا في الوسط الفني كله، فلم ينم أمين صدقي ليلته، ومع أول ضوء للصباح اتجه إلى الإسكندرية، لمقابلة نجيب وعقد اتفاق جديد معه:
* ياه… لك وحشه والله يا أستاذ أمين. إزيك وازي الناس كلها؟ عاملين إيه وأخبار الدنيا إيه؟
= والله الدنيا ملطشة أوي يا سي نجيب.
* يا ساتر. ليه كده؟ دا أنا من ساعة ما نزلت الإسكندرية والأخبار عماله تتحدف عليا شمال ويمين. إيشي عن جورج أبيض وإيشي عن يوسف وهبي وعزيز عيد… ولا علي الكسار. بيقولوا الدنيا مزهزهة معاه أوي.
= أيوااا. عند علي الكسار واربط… سي علي يظهر أنه شاف الدنيا زهزهت معاه نسي الناس إللي وقفوا جنبه.
* الله… انتو مش بتشتغلوا سوا.
= لا اختلفنا وفضينا الشركة وكل واحد راح لحاله… ومن بعد انت ما سافرت استلم بديع خيري واشتغلوا سوا ونسي إللي عملته معاه.
* بديع بيشتغل مع الكسار دلوقت… كويس خالص. أمال أنت بتعمل إيه دلوقت؟
= ما هو دا إللي جابني من مصر. أنا جاي أعرض عليك أحط إيدي في إيدك ونرجع نشتغل سوا.
* والله أنا من جهتي ما عنديش مانع… بس يعني.
= بس إيه؟ عندك مانع انت كمان؟
= يا سيدي حلمك شوية مش القصد. أنا بدي أقولك بس يعني إن بديعة بتشتغل معايا دلوقت… ولازم يبقى لها وجود في الروايات إللي هقدمها.
= وماله؟ دا يبقى عز الطلب.
انفصال جسدي
لم يمانع نجيب في تلبية رغبة أمين صدقي، وعادا معاً إلى القاهرة، وسارع بجمع من بقي من أفراد فرقته ودعمها بممثلين جدد، واختار مسرح «دار التمثيل العربي» ووضع مع أمين صدقي رواية جديدة أطلقا عليها «قنصل الوز» أسند البطولة النسائية فيها لبديعة مصابني، وشاركت بالغناء المطربة فتحية أحمد.
نجحت الرواية غير أنها لم تستعد جمهور الريحاني كله الذي غاب عنه أكثر من عام، فقدم مع أمين صدقي رواية ثانية باسم «مراتي في الجهادية»، ولم تكن البطولة الأولى فيها لبديعة، ما أشعرها بغيرة فنية كبيرة، غير أنها لم تفصح عن ذلك صراحة لنجيب، بل راحت تتصيد له الأخطاء وتختلق المشاكل لتوجه إليه سهام اللوم، واتهامات مفتعلة بالكسل والتراخي:
= أنا مش ممكن أقدر استحمل إللي أنت بتعمله دا.
* هو إيه إللي مش ممكن تستحمليه.. وإيه إللي أنا بعمله.
= أنت مش مقدر حجم المسؤولية.. وإنك مسؤول عن فرقة وتياترو وناس.
* أيوه أنا مقصر في إيه؟ ما الدنيا ماشية والحمد لله والجمهور بيرجع لنا شوية بشوية.
= روح شوف تياترو الكسار ولا يوسف وهبي… وشوف الجمهور عامل إزاي هناك؟
* من غير عصبية بس. أنا مقصر في إيه؟
= لازم تسيب حكاية «البلياردو إللي بتلعبها كل يوم دي… وبتضيع فيها وقتك.
* البلياردو دي مش قمار… دي لعبة عادية بلعبها في وقت الفراغ ومش مأثرة على شغلي.
= وكمان حكاية السجاير إللي بقيت حريقة فيها!!
* طب يا ست ما أنت بتشربي أرجيله. إيه المشكلة في كدا؟
= نجيب لازم تبطل إهمال وتشوف مصلحة الفرقة… يا إما كل واحد يروح لحاله!
* يعني إيه كل واحد يروح لحاله… وبعدين إيه علاقة الشغل بحياتنا.
= الاتنين واحد… والإهمال زي ما بيخرب الشغل بيخرب البيوت!
* أنت مصرة إني مهمل… وتبيني دا قدام الناس ليه مش عارف. بقول إيه يا بديعة… ما تجيبي من الآخر. انت عايزة إيه؟
اختلفت بديعة مصابني مع نجيب الريحاني، غير أنه لم يحدث طلاق وفقاً لتعاليم الكنيسة المصرية، فقررت الانفصال عنه جسدياً، ورفض بدوره الاستمرار معها في الفرقة نفسها، وقرر تركها تعمل لحساب أمين صدقي في «دار التمثيل العربي» بعدما أمضى في العمل فيها شهرين.
لم يطق بديع خيري الاستمرار أكثر من ذلك بعيداً عن نجيب الريحاني، فلم يكن ما يجمع بينهما مجرد العمل، بل تآلف روحي، فما إن انفصل نجيب عن أمين صدقي حتى سارع بديع إلى اللجوء إليه ليجمع شمل الثنائي مجدداً، وقبل أن يفكرا في تكوين الفرقة واختيار المسرح، فوجئ الريحاني بمصطفى حفني يعرض عليه، وبإلحاح استئجار مسرح «برنتانيا».
البقية في الحلقة المقبلة
الفيلسوف الضاحك 25: نجيب الريحاني… مين يعاند الست كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 13, August 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط بسبب ما حدث في التعاقد الأول، تشدد الريحاني هذه المرة في الاتفاق مع مصطفي حفني لاستئجار مسرح «برنتانيا»، ووضع في التعاقد بنداً ينص على غرامة مئتي جنيه، يدفعها الطرف الذي يقف دون تنفيذ أي شرط من شروط التعاقد. وعلى الرغم من هذا الشرط، لم تمض على الاتفاق أيام، وقبل تجهيز رواية جديدة يبدأ بها الريحاني، جاءه مصطفى حفني يطلب فسخ التعاقد لعدم قدرته على مواجهة «الست» منيرة المهدية التي أصرت على العمل في تياترو «برنتانيا»، وأمام توسلاته ورجائه، قبل الريحاني فسخ التعاقد بعدما استرد «العربون» ومعه الشرط الجزائي.بعدما فسخ مصطفى حفني عقده معه، راح الريحاني يفكر للمرة الأولى في أن يملك مسرحاً خاصاً به، يحمل اسمه بعد سنوات طويلة من العمل لدى الغير.
وجد الريحاني في ملتقى شارعي «عماد الدين» و{قنطرة الدكة» مقهى اسمه «راديوم» وإلى جانبه صالة تحمل الاسم نفسه، وكانت ملاصقة لتياترو رمسيس الذي يملكه يوسف وهبي، فاشترى الصالة الملاصقة للمقهى وأنشأ مكانها «مسرح الريحاني»، الذي شرع في تأسيسه في أغسطس 1926. وبينما هو في بداية مرحلة التأسيس، هبط عليه الصديق القديم علي يوسف:
* لا يا نجيب الزيارة لها سببين مش سبب واحد. أولاً إني أبارك لك على المسرح وأنك بقيت حر نفسك. مش شغال تحت رحمة حد.
* طب يا سي علي الله يبارك… والسبب التاني؟
= السبب التاني الأهم. بيني وبينك سمعت أن الجماعة مولعين وعلى آخرهم وعايزين يفكوا بأي شكل!
* بتهمس ليه هو فيه حد سامعنا… وبعدين جماعة مين؟
= يا أخي جيرانك اللي جنبك… فرقة رمسيس. كل الفرقة مولعة من يوسف وهبي وقرروا يسيبوه وعايزين يعملوا فرقة مع نفسهم.
* أيوه يعني عايزني أروح أصالحهم على يوسف وهبي ولا أعمل إيه؟
= لا يا سيدنا. اللي عايز أقوله ما تتفق انت معاهم وتعملهم الفرقة ويشتغلوا هنا بدل ما يروحوا بعيد.
* أنت مش واحد بالك يا علي ولا إيه… فرقة الريحاني بتقدم كوميديا ودول ناس بتوع غم ونكد… بتوع دراما.
= وماله؟ أهي فرصة تحقق حلمك القديم. وبصراحة أنا شايف إنك في الدراما مفيش أخوك.بعد تردد وتفكير اقتنع نجيب باقتراح علي يوسف، خصوصاً بعدما استأجرت بديعة مسرحاً جديداً خاصاً بها، فشرع فوراً في التنفيذ، لا سيما أنه بعد الخلاف معها هبطت عزيمته وأصبح اعتماده على نفسه فحسب، ولا بد من عون قوي يستند إليه في ملاقاة الجمهور، وأعضاء فرقة رمسيس كلهم أسماء كبيرة ولامعة.
كوَّن الريحاني فرقته الجديدة من روز اليوسف، عزيزة أمير، زينب صدقي، سرينا إبراهيم، ماري منصور، حسين رياض، منسى فهمي، حسن فايق، أحمد علام، سامي وجبران نعوم، ومحمود التوني وغيرهم.
لم يكتف الريحاني بتأسيس المسرح وتكوين فرقة جديدة، بل فكر في أن يعمل بشكل مؤسسي، فأنشأ قسماً جديداً في المسرح أطلق عليه «قلم الترجمة»، وضع على رأسه جورج مطران شقيق الشاعر خليل مطران، وبدأ القسم عمله فوراً قبل أن ينتهي تأسيس المسرح، أو عمل الفرقة، فترجم «قلم الترجمة» 12 رواية، من روائع الأدب الفرنسي والإنكليزي والروسي والألماني.
مؤسسة الريحانياستمر تأسيس المسرح ثلاثة أشهر كاملة، حتى أصبح جاهزاً في نوفمبر من العام نفسه، دفع خلالها نجيب أجور الممثلين بالكامل، إضافة إلى ما أنفقه من مصاريف البناء والتأثيث والمناظر والستائر والملابس، ما أوقعه في ضائقة مالية.
أنتهى «قلم الترجمة» من ترجمة ست روايات، كانت في مقدمها «النسر الصغير» التي ترجمها جورج مطران، وبدأ الريحاني التدريبات للمرة الأولى على الروايات الست في وقت واحد!
فجأة شعر بأن مؤامرة تحاك ضده في الخفاء، إذ لاحظ تسلل الممثلين واحداً إثر الآخر من الفرقة، وعادوا إلى فرقة رمسيس من دون إنذار سابق، ومن دون أن يتركوا له مهلة البحث عن غيرهم، بعدما أسند إليهم أهم الأدوار في الروايات الست التي أعدت للعرض على الجمهور!
لم يستسلم نجيب للمؤامرة، وجاهد بكل ما لديه من قوة، وما وصل إلى يديه من مال، فجمع ما تبقى من الفرقة، وضم إليهم بعض الجدد وبدأ عهداً جديداً من التراجيديات، فقدم «المتمردة» وأعقبها برواية «مونا فأنا» ثم «اللصوص» و»الجنة»، وهنا خارت عزيمته وانهارت قواه، ولم يعد يحتمل آثار الأسلحة الدنيئة التي حورب بها، إذ بلغ ما اقترضه بتحوله إلى الدراما أربعة آلاف ومئة جنيه، ووصل عدد الدائنين إلى ثمانية وعشرين، فأصبح هدفاً لسخرية الجميع، وشماتة المقربين، وتهكم صاحبة الجلالة «الصحافة».
منذ اليوم الأول من يناير إلى اليوم الأخير من ديسمبر سنة 1927، لم يكن نجيب يصل إلى شباك التذاكر، حتى يطالعه العامل بورقة حمراء لدفع استحقاقات البنك، أو إعلان لحضور جلسة، أو حجز أو بيع!
وجد الدائنون الثمانية والعشرون الحل، وهو إقامة ما يشبه صندوق للدين، وانتخبوا من بينهم السيدة كاميليا لتكون بمثابة متصرفة أو قيمة على الريحاني، تحصل على الإيراد لتضعه في صندوق حساب الدائنين، ثم تعطي له مصروفاً يومياً، قدرته بسبعين قرشا فقط.
سدت السبل في وجه نجيب من كل ناحية، فلا وجد إنصافا من الناس، ولا عرفاناً بالجميل ممن كانوا حوله، وفيما هو على هذه الحالة دخل عليه أحد الدائنين:
= لا مش القصد ما أنا عارف اللي فيها… لكن بالشكل دا إن شاء الله الورثة هيفضلوا طول عمرهم يسددوا هم كمان في الدين.
* آدي الله وآدي حكمته… هنعمل إيه يا خواجة؟
= أنا عندي فكرة. انت تقوم تحط دقنك وتلبس جبتك وقفطانك يا سي كشكش وأنت تلاقي الفلوس نزلت عليك زي المطر تاني.
* تقصد إني أرجع تاني لكشكش؟
= وأنت خسران إيه؟
دارت نصيحة الخواجة في رأس الريحاني، فربما لم تكن حباً فيه ولا في كشكش، ولكن لأجل الحصول على الدين، ومع ذلك لا مانع من التفكير فيها، خصوصاً فشل التجارب التراجيدية، ويكفي الجمهور ما هو فيه من «نكد» يسببه الاحتلال الإنكليزي ليل نهار!«كشكش» المنقذفكر الريحاني في استدعاء «كشكش»، كما فكر في استدعاء صديقه الحميم بديع خيري الذي لم يتردد لحظة في تلبية النداء، وأنهى ارتباطاته مع علي الكسار فوراً، ليضع يده في يد نجيب مجدداً، غير أنهما قبل البدء في كتابة أي روايات جديدة، راحا يدرسان نفسية الجمهور، والوقوف على النواحي التي تنال إعجابه وتبلغ موضع الرضا منه.
بعد الدراسة والتقصي، أعدَّ نجيب وبديع رواية استعراضية خفيفة أطلقا عليها اسم «جنان في جنان» أسند نجيب رسوم مناظرها إلى الرسام المشهور لومباردي، ثم بدأ يفكر في تكوين أعضاء جدد للفرقة، ونظراً إلى تدهور أوضاع المالية قرر أن يشارك السيدة مرسيل لانجلو صاحبة كازينو «دي باري»، التي فوضت مسيو أصلان عفيف، وكيلاً عنها للجلوس في مسرح الريحاني.
خلال تكوينه الفرقة، تنبه نجيب إلى الممثل محمد كمال المصري، الذي فشل في تقديم روايات لشخصية ابتكرها باسم «شرفنطح» على غرار «كشكش»، فضمه الريحاني إلى فرقته، وضم معه شاباً ترك تجارة والده في الذهب لأجل التمثيل، اسمه عبد الفتاح القصري، ومعهما حسين إبراهيم ومحمود التوني وجبران نعوم والفريد حداد، ومعهم المنولوجست سيد سليمان، واختار لإدارة المسرح الإداري الحازم محمد شكري. أما الممثلات فقد تخيرهن جميعاً من الأجنبيات، إذ تقدمت إلى الريحاني فتاة يونانية تدعى «كيكي» خفيفة الروح تتكلم العربية بطلاقة وبلهجة رائعة، فضمها إلى الفرقة وأسند إليها دوراً في الرواية أدته كما يجب.
نجحت «جنان في جنان» بشكل كبير مع الجمهور استعاد من خلالها ذكرياته مع «كشكش بك»، فقدما، نجيب وبديع، بعدها روايتي «مملكة الحب» و{الحظوظ».
بسبب الظروف المادية الصعبة وتراكم الديون، لم يمانع نجيب في الدخول في صفقات أو شراكات من شأنها إصلاح الأحوال المادية المتدنية، ما جعله يوافق فوراً على عرض الشيخ عبد الرحيم بدوي الصعيدي، صاحب مطبعة «الرغائب»:
* أنت بتتكلم جد يا عم عبد الرحيم ولا بتهزر زي عوايدك؟ أصل الحكاية مش ناقصة.
= والله بتكلم جد الجد… الشغل ما فهوش هزار يا نجيب أفندي.
* يعني أنت عايز تأجر الفرقة فعلاً.
= أيوه ناخدوها إيجار لمدة شهر. بس بشرط هنلف التلاتاشر مديرية. يعني هنجيبها من شمالها لجنوبها، ومن شرقها لغربها.
* يا سيدي حتى لو عايز توديها يافا في فلسطين أنا ماعنديش مانع… طالما هتدفع المعلوم.
= خلاص. قوللي طلباتك.
* أنا ما ليش طلبات. عليك وعلى المسيو عفيف… المسؤول الإداري. اتفقوا سوا وأنا موافق على اللي تتفقوا عليه.وقع الشيخ عبد الرحيم عقداً مع أصلان عفيف، يقضي بأن يكون إيجار الليلة 35 جنيهاً، على أن يتحمل الشيخ عبد الرحيم أيضاً أجر الفنادق ومصاريف السفر بالقطارات والسيارات والعربات وشحن الملابس والمناظر، وهو ما يعني «خراب بيت الشيخ»، لكنه ارتضى ذلك ووقع العقد!
قامت الفرقة بالرحلة وانتهى بها المطاف في الإسكندرية بعد تمضية الشهر في المدن والأرياف، وجاء الشيخ يلطم خديه:
= كده يا ريحاني تخربوا بيتي الخراب المستعجل ده؟
* وأنا مالي بس يا عم الشيخ عبد الرحيم؟ مين اللي قالك تتفق الاتفاق المقطرن ده، عليك وع الخواجة أصلان يمكن يرق قلبه لحالك!رفض الخواجة أي توسلات للشيخ، وهو ما أثار الريحاني، فقرر ترك الفرقة لأصلان ومدام مارسيل، وانتقى خمسة ممن وثق بهم من الممثلين، واتفق مع إدارة «كازينو سان إستفانو» في محطة رمل الإسكندرية، على أن يعرض روايات قصيرة في كل مساء على المصيفين والرواد.
لم يكن الإيراد مرضياً للريحاني، غير أنه يفي الغرض ويضمن دخلاً يومياً له وسط هذا التدهور المادي الذي يعانيه، غير أن المكسب الحقيقي الذي حققه كان الإعجاب الكبير من رواد الكازينو وفندق «سان إستفانو» أمثال حسين رشدي باشا وحلمي عيسى باشا، وغيرهما من أكابر النزلاء من الوزراء العاملين والسابقين الذين راقهم ما يشاهدونه من تمثيل الفرقة، ما جعلهم يطالبون مدير الفندق أن يكثر من عرض هذا النوع، فطار المدير فرحاً وهو ينقل هذه الرغبات إلى الريحاني، الأمر الذي فتح شهيته للعمل، غير أنه أراد أن يعزز موقفه ويعلي من ثمنه وشأنه:
* للأسف يا خواجة. عرضك دا متأخر… لأني كنت بفكر انزل القاهرة نهاية الأسبوع دا.
= لا لا مسيو ريحاني. أنت ينزل القاهرة يعمل إيه؟
* عندنا شغل يا خواجة. عندنا ارتباطات لنهاية الموسم.
= شوف مسيو ريحاني. أنا عوضت أنت والفرقة كل ارتباطات مقابل أنت يستنى.
* أيوه يا خواجة أنا مقدر العرض اللي انت بتعرضه عليّ لكن أنا بس خايف نلغي ارتباطاتنا في القاهرة. وبعد أسبوع ولا اتنين تقولنا شكراً خلاص مش عايز.
= لا لا مسيو ريحاني مفيش كلام دا. انت يستنى لنهاية الموسم.
* خلاص. اديني فرصة افكر النهارده يا خواجة.
= مسيو ريحاني مفيش وقت. فين حقيبة ملابس بتاع انت؟
* في فندق وندسور اللي نازل فيه.
= مفيش وندسور مسيو ريحاني… انت ضيف عزيز في جناح في فندق سان إستفانو من اليوم.لم ينتظر مدير فندق سان إستفانو جواباً، بل تناول الهاتف واتصل بفندق وندسور، وطلب أن يرسلوا إليه متعلقات الريحاني ومعها فاتورة الحساب، ليحتل غرفته الجديدة في «سان إستفانو»، فندق العظماء والوارثين، حتى نهاية الصيف.
عاد نجيب إلى القاهرة بعد انقضاء الصيف، وبمجرد وصوله علم أن خلافاً حاداً وقع بين فاطمة رشدي وفرقة يوسف وهبي، على إثر مشادة بين الأولى وبين زينب صدقي، قررت فاطمة على إثرها ترك الفرقة، وتضامن معها زوجها المخرج عزيز عيد، وعقدا العزم على تكوين فرقة جديدة غرضها الأول منافسة فرقة «رمسيس» فوقع اختيارهما على مسرح الريحاني ليقدما عليه روايات فرقة «فاطمة رشدي» الجديدة، مقابل أربعة جنيهات في الليلة، لم يدفعا منها مليماً طيلة شهر ونصف الشهر، مدة بقائهما في المسرح.
خرجت فرقة فاطمة رشدي من مسرح الريحاني كما دخلته، لم تحقق شيئاً، خصوصاً على المستوى المادي، فلم يجد الريحاني بداً من إعادة تكوين فرقته مجدداً.
كوميديا أخلاقيةفي نوفمبر عام 1927، جمع الريحاني فرقته ليقدم موسماً جديداً بعدما وضع بمعاونة بديع خيري، رواية الافتتاح باسم «علشان بوسه»، وأعقبها «ربرتوار» لرواية «جنان في جنان»، وبعدها «آه من النسوان» و{ابقى اغمزني» في محاولة حذره للتخلص شيئاً فشيئاً من «الريفيو» أو الأعمال الاستعراضية الغنائية، والتعمق في الكوميديا الأخلاقية، وكانت المفاجأة استقبال الجمهور لهذا النوع الجديد الذي يقدمه الريحاني باستحسان كبير، نجح عبره في استرداد جمهوره، ما شجعه على الاستمرار في تقديم هذا اللون من الكوميديا.
لم تغب تجربة الريحاني في «كازينو سان إستفانو» في صيف 1927 عن الأذهان، ما جعل صادق أبو هيف مدير «كازينو زيزينيا» في الإسكندرية يوجه الدعوة إليه في صيف 1928 والاتفاق معه على أن تقدم فرقته عروضها بالكازينو بضعة أسابيع، فوافق وانتقل فوراً، خصوصاً أن الاتفاق كان مغرياً.
بعد انقضاء الأسبوع الأول في «زيزينيا»، وجهت إحدى العائلات السورية دعوة إلى الريحاني لحضور «وليمة عشاء» على شرفه، غير أنه لم يكن يدري أن هذه الدعوة تم التخطيط لها، فما إن ذهب حتى وجد أمامه بديعة مصابني، وعدداً من المقربين إليهما، وبجوارها جورج أبيض وزوجته دولت أبيض، فقامت الأخيرة بدور حمامة السلام في تقريب وجهتي النظر وإذابة الخلافات:
= يا نجيب أنت مش محتاج أقولك بديعة بتحبك أد إيه… ولا الكلام اللي كانت بتقوله عنك قبل ما تييجي.
* لا محتاج تقوليلي… لأن الكلام اللي بسمعه منها غير الكلام اللي بتقوله من ورايا!
- يا عم نجيب أنتو مالكمش غير بعض… وكفاية بعاد وجفا.
* آي والله دا كلام جميل… ينفع مطلع أغنية.
ـ شوفتوا بقى. أهو واحد كل حاجة هزار وتريقة وما فيش حاجة هماه وبيهمل في كل حاجة.
* هي كلمة «الإهمال» دي لسه في بقك… دي الكلمة لفت الدنيا كلها وبقت وصمة في كل حتة أروحها!
ـ ماهو أنت السبب.
= انت السبب هي السبب… إحنا ولاد النهارده. ننسى اللي فات ونبدأ صفحة جديدة.أثمرت الجهود عن الصلح الذي يبغونه، أو على وجه الدقة، الذي كأنت تسعى إليه بديعة طمعاً في إعادة هالة الأضواء حولها بعدما انفض عنها بعض جمهورها!عودة فنيةرجعت بديعة إلى الريحاني، ومن ثم عادت نجمة الفرقة الأولى، فأعد لها مع بديع رواية «ياسمينة» واهتما بموضوع الألحان الموسيقية والأغاني، فأسندها إلى الموسيقي الشاب زكريا أحمد، لتخرج الرواية وتتصدر إيرادات المسارح كافة، بعد الإعلأنات التي سبقتها تشير إلى عودة الثنائي «نجيب الريحاني وبديعة مصابني»، ما شجعهما على تقديم رواية ثانية بعدها بعنوان «أنا وأنت» ثم ثالثة «علشان سواد عيونها»، بعدها فكر نجيب في العودة إلى اللون الذي يعشقه هو وبديع خيري، «الكوميديا الأخلاقية» فراحا يرصدان تغيرات المجتمع وآفاته التي طرأت عليه ووضعاها في رواية جديدة أطلقا عليها «مصر في سنة 1929».
تراجع دور بديعة في الرواية الجديدة وقفز دور الريحاني، فدبَّ الفتور في قلبها مجدداً، وتجددت أسباب النزاع، وعاد الوسطاء ومحبو الوفاق يجهدون أنفسهم في إزالة ما اجتاح النفوس من موجات الاستياء، لكن محاولاتهم باءت بالفشل هذه المرة، واقتنع نجيب وبديعة باستحالة الاستمرار معا كزوجين، فاتفقا في ما بينهما على وضع حد لكل شيء، وتم ما يشبه «الطلاق المدني» على يد محام ليكون فراقاً مشروطاً… لا رجعة فيه!
خلال هذه الفترة استطاع نجيب أن يسدد ديونه كافة التي تخطت الأربعة آلاف جنيه، غير أن الثمن لم يكن مادياً فقط بخروجه من هذه المرحلة خالي الوفاض ـ لا معه ولا عليه ـ بل الأهم أن الثمن كان صحياً، فقد أثر تدهور حالته النفسية على تدهور حالته الصحية، فشعر بأنه في حاجة إلى مزيد من الرعاية والعناية، فلم يكن أمامه سوى أن طلب من كاميليا، الوصية على إيراداته لسداد ديونه، إقراضه مبلغ 30 جنيهاً لأجل السفر إلى الإسكندرية للاستجمام والراحة.
لم يدع نجيب لنفسه فرصة للراحة والاستجمام، وبمجرد وصوله إلى الإسكندرية تقدمت له فتاة تدعى هدى اكتشف أن لها صوتاً مميزاً، فاهتم بإظهارها وعهد بها إلى الملحن محمد القصبجي الذي ذاع صيته بعد تقديم ألحان للمطربة الجديدة الآنسة أم كلثوم، ووضع مع بديع خيري رواية «نجمة الصبح» أسند فيها دور البطولة النسائية إلى المطربة الجديدة هدى… لتنجح الرواية فقط… من دون المطربة!(البقية الحلقة المقبلة)شارك هذه المقالة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 13, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
في نهاية عام 1930، فوجئ نجيب الريحاني بصحافي لبناني يدعى ناجي صبيح، سبق أن تعرف إليه في رحلته إلى الشام، جاء يطلب العمل معه، فألحقه بالفرقة في وظيفة وكيل للإدارة، غير أن ناجي لم يستمر طويلاً وعاد من حيث أتى، وما كاد يستقر في الشام حتى وصلت منه رسالة إلى الريحاني يطالبه بالحضور فوراً مع أفراد الفرقة، في رحلة إلى سورية ولبنان.
صادف عرض ناجي صبيح للريحاني وجود التاجر الفلسطيني خضر النحاس في مسرح الريحاني، فعرض عليه أن يتعهد بهذه الرحلة ويمولها، وبادر فوراً بإعطائه مبلغ مئتي جنيه كدفعة أولى تحت الحساب.
قام الريحاني بالرحلة، غير أنه لم يجن منها سوى المكسب الأدبي ليعود منها مديناً لخضر النحاس بالمئتي جنيه «العربون»!
عاد نجيب من رحلة الشام وبدأ يستعد لموسم 1931، وبينما يفكر مع بديع خيري في عرض مسرحي يقدمانه في بداية الموسم، دخل عليه استيفان روستي ومعه رجل يبدو من شكله أنه غير عربي:
* استيفان. عاش من شافك… انت فين يا وله؟
= في الدنيا يا عزيزي. انت اللي كنت فين بقالي شهر بستناك؟
* كنت في الشام. بس إيه يا بني… رحلة كلها مكاسب… مكاسب أدبية فقط لا غير. رحنا مجبورين ورجعنا مديونين. بس ولا يهمك إحنا بنحضر رواية جديدة وغايته أسبوعين ونبدأ وأنت معانا.
= دا كلام كويس. بس مش هو دا اللي أنا جايلك علشانه. صحيح نسيت أعرفكم ببعض… المصور الإيطالي «كياريني» ودا طبعاً الممثل المصري الكبير الأستاذ نجيب الريحاني.
ـ أهلاً وسهلاً.
* أهلا يا خواجة… تشربوا إيه؟
= سيبك من الشرب والأكل. إحنا جايين وجايبين لك مشروع كبير وعايزينك معانا فيه.
* شوف أنا لسه راجع من الشام وماعنديش استعداد أسافر تاني دلوقت.
= لا سفر إيه. أنا جاي أعرض عليك تشتغل في السيما.
* إيه؟ سيما! يا وقعتك اللي زي بعضها يا استيفان. سيما مرة واحدة.
= أقل منها؟
* مش حكاية أقل ولا أكتر… بس دي مش لعبتنا.
ـ أستاذ نجيب صحيح السينما فن جديد لكن أنت كمان فنان كبير.
* أيوه يا سي «كاريني» أنا فنان مسرح… اتولدت وعشت وهموت ع المسرح
= وما فيهاش حاجة لما تجرب السيما.
ـ أستاذ نجيب أنا معلوماتي عنك إنك فنان متطور. ما بتقفش عند مرحلة معينة ودايما بتحاول تطور نفسك… وأنا بقولك صدقني السينما هي اللي جاية.
* ما قولناش حاجة… بس أنا كمان مرتبط بفرقة وروايات وموسم هيبدأ.
= الفيلم مش هيعطلك. عشر أيام أو أسبوعين بالكتير وهنخلص… وأنا المخرج وكاريني هو المصور.
* بس… يبقى ضمنا نضرب بالصُرم… لا مؤاخذة يا سي كاريني.
كلما أبدى نجيب عذراً، زاد إصرار استيفان وكاريني، حتى قبل أخيراً واتفقوا على إخراج فيلم «صاحب السعادة كشكش بك».
بعد تجربته السينمائية الأولى، عاد الريحاني إلى بيته الأول المسرح، وبدأ التحضير لافتتاح موسم 1931 برواية عمل عليها هو وبديع خيري باسم «أموت في كده»، وكالعادة تمّ تأليف الفصل الثالث فوق خشبة المسرح أثناء التدريبات يوم العرض، ولأن الوقت كان ضيقاً، طلب الريحاني من اللجنة المخصصة لمشاهدة المسرحيات قبل عرضها على الجمهور (الرقابة) الحضور لمشاهدة المسرحية صباح ليلة العرض.
حضرت اللجنة برئاسة إسماعيل بك شرين، مدير إدارة المطبوعات، وكان أحد أشد المعجبين بفرقة الريحاني وبجهوده في خدمة فن التمثيل، وجلست اللجنة في انتظار العرض، وبدأ تقديم الفصل الأول ثم الثاني بنجاح، ونالا كل إعجاب وتقدير من اللجنة، وبينما هم في الاستراحة في انتظار للفصل الثالث، وقف نجيب مع بديع حائرين، فقد أبت الأفكار أن تأتي ليكتمل الفصل الثالث، وحتى لو أتت لم يتدرب عليها الممثلون!
تفتق ذهن الريحاني عن حيلة اتفق عليها مع الممثل حسين إبراهيم، فربما أفلحت وأنقذت سمعتهم أمام اللجنة، وراح حسين إبراهيم ينفذها، فما إن رفع الستار عن الفصل الثالث، وما كاد ينطق جملة واحدة حتى سقط مغشياً عليه، وتقدم أعضاء الفرقة لإسعافه، بل الأهم أن أعضاء اللجنة جميعاً هموا لمشاركة الفرقة في إسعاف زميلهم، وتم نقله إلى غرفته فوراً:
* إحنا آسفين يا حضرات الأعزاء… اللي حصل دا غصب عننا.
= لا أبداً وانتوا ذنبكم إيه؟ إن شاء الله يقوم بالسلامة ويبقى بخير.
* لو بس تأذن لنا يا إسماعيل بك إن حضرتك وحضرات الأفاضل أعضاء اللجنة تنتظرونا بس عشر دقايق لحد ما أخينا دا يفوق بس.
= لا لا يا أستاذ نجيب. ما فيش داعي إحنا شوفنا الفصلين الأول والتاني والنتيجة واضحة… وأكيد الفصل التالت مش هيقل متعة ولا إبداع عن الفصلين الأول والتاني.
* أرجوك يا إسماعيل بك… هما عشر دقايق وإن شاء الله هنكمل الرواية.
= أستاذ نجيب ما فيش داعي إحنا عارفين انكم فرقة محترمة وملتزمين… وآدي موافقة اللجنة على الرواية. خلوا حسين يستريح لحد معاد العرض في المسا.
نجحت الحيلة وتم إنقاذ الموقف، وما إن انصرفت اللجنة حتى قام حسين إبراهيم وتم استئناف البروفة ووضع الفصل الثالث.
اعتراف رسمي
بدأت الحكومة، تحت ضغط الرأي العام، تهتم بالمسرح ومتابعته، لدرجة أنها وضعت في وزارة المعارف لجنة من أفاضل العلماء والأدباء برئاسة الأستاذ محمد العشماوي، وعضوية مصطفى عبد الرازق والدكتور طه حسين، مهمتها الإشراف على ما تقدمه المسارح من روايات، فراحت تزور المسارح مرة أسبوعياً لتشاهد رواياتها وتحكم على قيمتها الفنية، وإذا ما حاز عمل الفرقة قبول اللجنة تخصص لها إعانة سنوية تتناسب مع جهود كل فرقة وما تقدمه.
زارت اللجنة فرقة نجيب الريحاني، وجلست لمشاهدة رواية «أموت في كده» وهال نجيب الريحاني ما سمعه من ثناء من أفرادها، وهز مشاعره ما سمعه تحديداً من الدكتور طه حسين:
= لا شك أن فرقتكم تستحق أكثر العطف والتقدير، وما تقدمونه في روايتكم لمسنا فيه من الصدق ومعايشة للطبيعة دون خروج على أوضاعها، أو مغالاة في تصويرها.
بهذا التقدير نالت فرقة الريحاني من المبلغ المخصص في ميزانية المعارف لتشجيع التمثيل ذلك العام، ثلاثمئة وخمسين جنيهاً، وكان عدد الفرق التي منحت مكافآت أربعاً، كانت فرقة الريحاني الثالثة بعد فرقتي جورج أبيض ويوسف وهبي، حسب الترتيب الذي وضع للمكافآت!
ظهر في فرنسا أديب شاب اسمه مارسيل بانيول وضع رواية أطلق عليها اسم بطلها «توباز» واختار له أن يكون مدرساً بسيطاً في إحدى المدارس، قرأ الريحاني الرواية وقرأ ما كتبه عنها النقاد، فقرر فوراً اقتباسها هو وبديع، وتحويلها إلى رواية مصرية مئة في المئة، فوضعا لها اسم «الجنيه المصري»، ونالت إعجاب أعضاء الفرقة قبل الجمهور، وافتتح الريحاني بها الموسم بمسرح «الكورسال» في شارع عماد الدين، وهو يضع يده على قلبه يتحسس خفقاته من استقبال الجمهور لها.
جاء إيراد الليلة الأولى 30 جنيهاً، ثم تقهقر في الليلة الثانية إلى ستة جنيهات، وبعدها أربعة، ثم ثلاثة جنيهات، في تياترو الكورسال، أكبر وأرحب تياترو في مصر، فكانت صدمة وضربة قاصمة للريحاني.
أراد الريحاني تعويض خسارة القاهرة، ففكر في الانتقال بالمسرحية إلى الأقاليم، علها تكون هناك أكثر حظاً، فقصد المنصورة، غير أن جمهورها لم ير فيها غير ما رآه جمهور القاهرة، وربما أسوأ، فقد قوبلت الرواية بازدراء واستخفاف، وانسدت في وجهه السبل، وانهار الأمل، فجلس وبديع وتركا لأفكارهما العنان، عسى أن يفتح عليهما الله بالفرج بعد الضيق.
يئس الريحاني وفرقته من رواية «الجنيه المصري» فهداه التفكير إلى اللعب على الجمهور، فجمع وبديع بعض الراقصات وكتبا عدداً من المشاهد الفكاهية، حشرا بينها النكات والهزليات، وأطلقا على هذا العبث اسم رواية «المحفظة يا مدام» وكانت الدهشة والعجب، إذ بدأت الفرقة للمرة الأولى على مسرح «الكورسال» تشاهد الأرقام القياسية في الإيرادات، التي حرمت منها لفترة غير قصيرة!
اشترطت وزارة المعارف للحصول على الإعانة إخراج ثلاث روايات جديدة على الأقل في أثناء الموسم، والفرقة قدمت اثنتين فقط، «الجنيه المصري» و»المحفظة يا مدام». ولم يبق من الموسم إلا شهر أو أقل، وفجأة هبط على الريحاني صديقه القديم أمين صدقي برواية جاهزة اسمها «الرفق بالحموات» لم يتردد في قبولها وتقديمها للحصول على الإعانة.
انتهى موسم 1931، وأسدلت الستارة على آخر لياليها، وراح الريحاني يفكر في ما انتابه خلال هذا العام من تراجع وسقوط، فقرر أن يلجأ إلى الراحة فترة من الزمن، ليعود بعمل وفكر جديدين يفاجئ بهما جمهوره.
رحلة إلى المغرب العربي
فجأة هبط الصديق القديم علي يوسف على نجيب الريحاني، إثر عودته من رحلة في بلاد المغرب، وكان قد قام بها مع فرقة فاطمة رشدي كدليل أو بالاصطلاح الفني «امبرزاريو» وراح يصف للريحاني مقدار محبة أهل المغرب العربي لفن التمثيل وشغفهم به، وكيف أنهم لا يضنون بأموالهم في سبيل مشاهدته:
* أيوه دا كلام جميل. بس في الواقع بيكون شيء تاني.
= لا تاني ولا تالت. أنا أضمن لك الرحلة دي برقبتي.
* وأنا هعمل إيه برقبتك يا سي علي يا يوسف؟
= شوف… انتو تبدأوا البروفات وتجهزوا نفسكم… وأنا هاسبقكم على هناك. أجهز كل شيء وأطبع التذاكر وتجهيزات التياترو والاتفاقات مع المتعهدين في المدن اللي هتروحوها. وبعدين ابعتلكم تيجوا… ومش هتندم. إن ماعملتش فلوس أد اللي عملتها في حياتك كلها… يبقى لك الكلام.
بناء على طمأنة علي يوسف له، بدأ الريحاني في تأليف الفرقة التي سيسافر بها، وواجهته مشكلة المطربة التي ستقوم بالأدوار نفسها التي كانت تقوم بها بديعة مصابني، غير أنه تمكن من الاتفاق مع تلميذة الشيخ سيد درويش، المطربة حياة صبري، لكن بسبب طول فترة التدريبات وتأخر السفر، وقعت حياة عقداً مع فرقة أخرى، ليعود نجيب إلى نقطة الصفر، وفجأة أتى من يقدم له الحل بعرض لم يتوقعه:
* أنت بتقول إيه؟ معقولة؟!
= زي ما بقولك كدا.
* يعني بديعة مصابني بنفسها هي اللي طلبت تسافر معانا؟
= أيوه يا أستاذ. قالت أنا ما عنديش مانع بس نجيب يوافق.
* إن كان كدا أنا موافق. بلغها دا على لساني. أهلاً وسهلاً بيها.
انتظمت بديعة مصابني في التدريبات، وراح الجميع يجهز نفسه للسفر، لكن طال الانتظار، فلم يرسل لهم علي يوسف ولو كلمة تطمئنهم بأن الأمور تسير على ما يرام، حتى فوجئ الريحاني بعلي يوسف أمامه في القاهرة:
* الله!! أنت مش المفروض بتلف ما بين تونس والجزاير والمغرب… إيه اللي جابك هنا عماد الدين؟
ـ جيت علشان أدبر لكم فلوس تسافروا بيها.
* يا وشك اللي زي طبق قمر الدين. هو إحنا هانشتغل على النوته… هنشتغل بالآجل؟
ـ لا مش القصد لكن مسرح البلدية في تونس استلم الفلوس وقالوا مش هايدونا حاجة منها إلا لما الفرقة تيجي ويشوفوها بعنيهم!
راح علي يوسف يبحث عن ممول بأي شكل، حتى عثر صديق له على تاجر يوناني يدعى «جياكومو» يعمل في بورصة الإسكندرية، على استعداد لتمويل الرحلة، وبسهولة استطاع أن يقنعه علي بأهمية الرحلة والأموال الطائلة التي سيجنيها منها، فلم يتردد الرجل وناوله ثلاثمئة جنيه نصيبه في الرحلة.
طاعون بحري
حجز علي يوسف باخرة فاخرة للريحاني وبديعة إلى مرسيليا بفرنسا، على أساس أن تعرج بديعة أولاً على فرنسا لمدة ثلاثة أيام تنهي فيها مشاهد لفيلم سينمائي جديد اتفقت عليه، ثم تغادر بعدها إلى تونس ومعها الريحاني، في حين حجز لبقية الفرقة ومعهم بديع خيري في باخرة درجة ثانية ترشيداً للإنفاق.
وصل الريحاني وبديعة مرسيليا، وانتظرا أن تصل باخرة بقية الفرقة ومعهم بديع خيري بعدها بيومين، إلا أن الباخرة تأخر وصولها ثلاثة أسابيع!
لم يترك نجيب باباً إلا وطرق للسؤال عن حال الباخرة، حتى ظن أنها أصبحت في عداد المفقودين، وبعدما كاد اليأس يقطع خيوط الأمل الدقيقة، وبدأ نجيب يبكي أصدقاءه وأحباءه الأعزاء، وعلى رأسهم بديع خيري، وصلت الباخرة أخيراً:
* بديع. حمد لله على السلامة… دا إحنا خلاص كنا حسبناكم في عداد المفقودين وكنا راجعين على مصر بعد تعبنا من التدوير عنكم.
= يا سيدي المركب الهباب اللي حجز لنا فيه سي علي يوسف طلع عليه واحد عنده والعياذ بالله طاعون. فقام الحجر الصحي حجزنا في أتينا وبعد ما كشفوا علينا وتبهدلنا بما فيه الكفاية… واطمنوا إن مفيش حد منا حامل للعدوى. أفرجوا عنا وكملنا الرحلة.
وصلت الفرقة إلى ميناء بينزرت في تونس، واستقبلها أهلها استقبال الفاتحين يدقون الطبول والزمور، والشعر وخطب الترحيب تتلى من هنا ومن هناك بشكل لم يروا له مثيلاً، فوقف الريحاني وأسر إلى نفسه:
«اللهم إني أسألك أن تجعل الخاتمة خيراً، وأن لا تسئنا يا رب في عملنا، ولا تخيب رجاءنا يا أكرم الأكرمين».
وصلت الفرقة متأخرة أربعة أيام عن الموعد الذي قدره علي يوسف وحجز خلاله التياترو الذي ستقف عليه، إضافة إلى أن المتعهد التونسي كان قد استدان على حساب الفرقة مبلغ ألفين ومئتي جنيه لتسديد مصروفات المطبعة والإعلانات والجرائد والتوزيع والمأكل والمشرب، حتى فوجئ الريحاني وقبل أن تصعد الفرقة إلى خشبة المسرح بالدائنين وقد أتوا للحجز على إيراد الشباك سداداً لديونهم المستحقة!
أصبح الريحاني في موقف لا يحسد عليه، فمعه فرقة مؤلفة من 40 شخصاً بينهم ست ممثلات وراقصات، وليس معهم ما يقتاتون به!
وفجأة تقدم شخص إلى الريحاني مرحباً به، وأكد له أنه من هواة التمثيل، وأنه يرغب في العمل بفرقته، وراح يرافق الفرقة حتى من دون أن يبدي الريحاني موافقته، وما إن انتقلت الفرقة إلى العاصمة تونس، حتى فوجئ به يحجز له جناحاً في أفخم فندق في العاصمة ماجيستيك، وبتخفيض لم ير له مثيلاً، لتصل أجرة الليلة إلى مئة وستين قرشاً، وهو رقم هزيل جداً، أما بقية غرف الفرقة، فكان أجرة الغرفة 20 قرشاً في الليلة، شاملة كل شيء!
ارتاب الريحاني في الأمر، غير أنه بطل عجبه عندما عرف من بعض الوطنيين أن الرجل خصصته لهم الإدارة الفرنسية لمرافقتهم والوقوف على ما يفعلونه وما سيقدمونه، حتى لا يقدم أعمالاً يثير بها حماسة الشعب التونسي، وهو ما يأباه الاستعمار ويعمل على محاربته بكل وسيلة!
قدمت الفرقة في الافتتاح رواية «الليالي الملاح» التي ظهرت بأفضل ما يمكن وحققت من النجاح ما لم يتوقعه نجيب أو أعضاء الفرقة، وتكرر النجاح في «صفاقص، وصوصة، وبينرزت»، ما شجع الريحاني على مواصلة الرحلة إلى الجزائر، فقرر الريحاني أن يسبقهم بديع خيري إلى هناك لترتيب اللازم بدلاً من علي يوسف.
وصلت الفرقة إلى الجزائر وأحيت عدداً من الحفلات بنجاح منقطع النظير، على رغم هروب بديعة من دون إخبار الريحاني، ما جعله يستعين بممثلتين بدلاً منها، هما فتحية شريف وبهية أمير، فحققتا نجاحاً كبيراً وأنتجت الفرقة إيراداً كبيراً، استطاع الريحاني بجزء منه أن يسدد جميع ديون الفرقة، ويدفع بسخاء لأعضائها ما تأخر من رواتبهم، ليعود إلى القاهرة وفي حوزته من الرحلة ما قدره 50 جنيهاً فقط!
(البقية في الحلقة المقبلة) صاحب السعادة… سينمائياً
بدأ نجيب العمل في فيلم «صاحب السعادة كشكش بك» بأسلوب عمله في المسرح نفسه، بمعنى أنه لم يملك فكرة محددة، ودون كتابة سيناريو محدد المناظر والوقائع، وكل ما هنالك أنهم كانوا يخرجون في السادسة صباحاً من دون أن يدري أي منهم ماذا سيفعل، حتى إذا جلس الريحاني لعمل الماكياج وارتداء الملابس، يبدأ التفكير مع بديع خيري في المشهد الذي سيتم تصويره الآن، وفقاً لسير حوادث الفيلم، فإذا انتهى من الماكياج، يكون قد انتهى من وضع تصور للمشهد مع بديع خيري والمخرج استيفان روستي، فيبدأ التصوير.
انتهى تصوير فيلم «صاحب السعادة كشكش بك» وبلغت ميزانيته أربعمئة جنيه مصري فقط لا غير، وعرض فوراً في دور العرض، وأقبل الجمهور على مشاهدته إقبالاً لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلاً، حتى بلغ الإيراد ألفاً وستمئة جنيه، كان نصيب الريحاني منها ثلاثمئة جنيه، قيمة أجره.
على رغم ضخامة المبلغ الذي حصل عليه الريحاني في أقل من أسبوعين، إلا أنه لم يحب السينما، ولم يقع في غرامها مثل المسرح، وزاد من هذا الإحساس رؤيته لنفسه على شاشة السينما:
* يا نهارك زي وشك يا استيفان… مين دا؟
= أنت طبعا… هيكون مين؟
* دا لا أنا ولا أعرفه!
= أنت عندك حق بالتأكيد لأن دا «كشكش بيه» مش نجيب الريحاني.
* بقى هو دا كشكش بيه… أول مرة أشوفه… علشان كدا لحد دلوقت الناس ما تعرفش الريحاني لكن تعرف كشكش كويس.
= هاهاها… إزاي يعني؟
* طول عمرى بقدمه على المسرح… وكان نفسي أشوفه بعين الناس… لحد ما شفته دلوقت.
الفيلسوف الضاحك 27: نجيب الريحاني… لو كنت حليوه كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 14, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
حزم نجيب الريحاني أمره على أن يجعل بينه وبين الممثل سداً فلا يجمع فرقة ولا يعتلي المسرح لحسابه، فما هي إلا أيام حتى انتهى أمر الخمسين جنيهاً التي تبقت معه من رحلة المغرب العربي، فعمد إلى بيع بعض ما لديه من أثاث ومتعلقات شخصية، حتى استحكمت حلقات الأزمة لدرجة أنه هبط بطعامه من «المطاعم الفاخرة» إلى محلات «الفول والفلافل»!
بقي نجيب الريحاني في محنته المادية من أبريل إلى أغسطس عام 1933، حتى وصلته برقية من إميل خوري، سكرتير تحرير «جريدة الأهرام»، تحمل تحويلاً بمبلغ 50 جنيها، ويطلب منه أن يوافيه في باريس لتصوير فيلم سينمائي جديد، كان تحدث معه في أمره خلال مرور نجيب على باريس في طريق عودته من الجزائر.
لم يتردد نجيب لحظة واحدة في قبول العرض الذي جاء في وقته، فقام من فوره والتقى بديع خيري، وطلب منه أن يعد نفسه للحاق به إلى باريس، حين يرسل في استدعائه.
لم تمر ثلاثة أيام على وجود نجيب في باريس حتى فهم مغزى استعجال إميل خوري، وإصراره على إنجاز الفيلم بهذه السرعة، فقد اكتشف أنه أخذ الفيلم في صيغة «مقاولة» من شركة «جومون الفرنسية» لحسابه الخاص، عندما راح يقنع نجيب بمشاركته في «المقاولة»:
= بالظبط كده. يعني هتكون شريك بالتلت معايا أنا.
* أيوه فاهم. بس أنا ما حلتيش مليم علشان أشاركك.
= انت هتشاركني بأجرك في الفيلم… انت وصلك مني خمسين جنيه… هتاخد عليهم كمان خمسين يبقى وصلك ميه. وبقية أجرك هيكون من نصيبك تاخده من الأرباح.
* هي فكرة. بس يعني أنت ضامن نجاح الفيلم ولا الحكاية هترسي على الميت جنيه ودمتم؟
= عيب. دا فيلم كبير. أنا مادخلش مشروع فاشل. وبعدين دا فيلم ناطق مش صامت. يا نجيب الفيلم دا هيكون مشرف لمصر.
* ليه هو فيلم وطني؟
= لا. بس هايثبت أن السينما في مصر ما تقلش عنها في باريس ولا في أوروبا كلها.
* أيوه بس لازم أشوف السيناريو الأول. وكمان علشان ابعت لصديقي بديع خيري. دا كاتب وزجال شغل مصر. ما تلاقيش منه دلوقت.
= دي حاجة تخصك انت. اعرف شغلك وجهز نفسك.
أرسل نجيب في طلب بديع، ولكن قبل أن يصل إلى باريس، سلمه إميل نسخة من حوار الفيلم مكتوب باللغة الفرنسية، وطلب منه ترجمته إلى العربية بطريقة لا يخرج عنه فيها حوار الفيلم، فلما قرأه نجيب وجده لا يصلح على الإطلاق، وأيد الفكرة نفسها بديع خيري عندما وصل باريس:
= أنت بتقول إيه؟ دا اللي كتب الحوار الخواجة مارتيني. أكبر متخصص في كتابة الأفلام في شركة «جومون»!
* يا سيدي على عيني وراسي. بس هو كاتب الفيلم دا لمين؟ للجمهور الفرنسي ولا الجمهور المصري؟
= سلامتك يا نجيب… الفيلم مصري وهايتعرض في مصر.
* ولما هو مصري… مين يعرف مصر؟ نجيب الريحاني المصري ولا الخواجة مارتيني؟
= ماتآخذنيش يا نجيب. انت تفهم في المسرح آه باعتبارك فنان مسرحي قديم. لكن السينما لها ناسها… انت تعمل اللي بنقولك عليه وبس!
* يعني إيه؟ أنا مش بغبغان… وبعدين مسرح ولا سينما. الجو المصري والطباع المصرية والمشاكل المصرية… غير الجو اللي عايش فيه الخواجة بتاعك. وإذا اصريت يبقى أنا ما ليش علاقة بالفيلم دا!
إزاء هذه الصلابة من إميل، أصر نجيب على التوقف عن العمل والعودة إلى مصر، فراح بديع يهدئ من ثورته، ويعمل على إقناعه بأن عودته خاوي الوفاض إلى مصر ستطلق ألسنة الناس بالشائعات والأقاويل، وستدع عودته على هذا الشكل فرصة النيل منه، وربما كان ذلك سبباً في ابتعاد الممولين والسينمائيين عنه.
استطاع بديع خيري أن يقنع نجيب بالبقاء وتصوير الفيلم، وزاد من إقناعه أنه وجد جيبه فارغةً، حتى من ثمن تذكرة العودة.
ياقوت
بدأ تصوير فيلم «ياقوت» في أستوديو «جومون» يوم الاثنين، وانتهى منه نهائياً يوم السبت التالي، أي أن تصويره استغرق ستة أيام فقط، مخرج لا يفهم البطل ولا البطل يفهمه، وممثلون تم جمعهم من الحي اللاتيني، لا يعرفون عن العربية سوى اسمها، فلم يكن إميل خوري يهمه سوى أن يضغط الميزانية، ففي خلال أسبوعين فقط انتهت عملية المونتاج والدوبلاج وكل عمليات الفيلم، وذهب يهنئ نجيب بهذا النصر السينمائي:
= ألف مبروك… ألف مبروك يا نجيب. يا سلام شيء ما حصلش. لا تقوللي هاري بور ولا شارل بواييه. نجيب الريحاني المصري وبس.
* يا سيدي الله يجبر بخاطرك. بس أنا عايز أقولك إني شفت الفيلم وعايز أبشرك إن الفيلم ساقط ساقط.
= بلاش تقول الكلام دا في وشي يا نجيب.
* يا سيدي أنا بقولك اللي هايحصل. الجمهور في مصر لو شاف الفيلم دا مش كتير علينا الضرب بالصُرم!
ظل نجيب الريحاني في باريس كي يكون بعيداً عن مصر عند عرض «ياقوت» في القاهرة، لكن المفاجأة أن الفيلم نجح، غير أنه النجاح الذي ضمن استرداد أموال الممول وعليها قليل من الأرباح، فاقتنع ممول الفيلم بصحة ما قاله له نجيب… ولكن بعد فوات الأوان.
كان من نتيجة عرض الفيلم في القاهرة أن تسلم نجيب خطاباً في باريس من مصطفى حفني مدير مسرح «برنتانيا» يعرض عليه العودة إلى مصر لتوقيع عقد اتفاق معه على العمل في مسرحه، فهز رأسه وضحك هاتفاً:
* فليحيا المسرح… وتحيا مصر.
عاد نجيب إلى القاهرة مقرراً إعادة تنظيم حياته، والعودة إلى عشقه المسرح، والتفرغ للتمثيل فقط على أن يرفع عن كاهله عبء التفكير في ما سواه، فوقع الاتفاق مع مصطفى حفني، متضمناً ألا يتدخل في شؤون الممثلين، وأن يتكفل مصطفى حفني بشؤون الفرقة كافة، بما في ذلك الاتفاق مع الممثلات والممثلين، على أن يتقاضى نجيب حصة معلومة وليس له شأن بشيء.
السينما من تاني
أعد نجيب مع بديع خيري رواية «الدنيا لما تضحك» وما كاد يظهر على خشبة المسرح في الليلة الأولى حتى قابله الجمهور بعاصفة من التصفيق، لدرجة أن المفاجأة السارة عقدت لسانه، وظل واقفاً لا ينطق بكلمة من الحوار، وقفزت الدموع من عينيه، فزاد تصفيق الجمهور وكأنها حفلة تكريم بعد الغياب.
أصبح اسم نجيب الريحاني «علامة مسجلة» كرمز من رموز فن التمثيل في الوطن العربي، ما جعل بعض الممولين السينمائيين يطلبون الاتفاق معه على عدد من الأفلام السينمائية، غير أن نجيب شعر بما وصل إليه من نجومية، فحرص أن ينتقي ما يقدمه.
عرض عليه سيناريو فيلم بعنوان «بسلامته عاوز يتجوز»، وقفز معه أجر نجيب إلى ثمانمئة جنيه مصري وخمسة في المئة من الإيراد، ليكون أعلى أجر لفنان سينمائي، غير أنه قبل أن يوقع عقد اتفاق الفيلم، راح يضع شروطه:
* أولاً مش هاقبل أمثل أي مشهد من غير ما أكون راضي عنه.
= طبعاً طبعاً.
* الحوار لازم ينكتب بمعرفتي أنا وبديع خيري… غير كده مش هاينفع.
= ما فيش مشكلة موافق.
* وبالنسبة للمخرج بقى لازم…
= لا ما تقولش حاجة عن المخرج. إحنا اتفقنا مع مخرج مجري إنما إيه ما فيش بعد كدا. دا أخو المخرج الكبير فاركاتش اللي اخرج فيلم «الموقعة» اللي كان بطولة شارل بوابيه.
* يا سيدي أنا مالي ومال أخوه. بصراحة من الآخر كدا أنا ما بطمنش لأي مخرج أجنبي. حتى لو أخرج أفلااًم لغريتا غاربو ومارلين ديتريش… وماله المصري بس؟
= الناس بتتمنى تشتغل مع مخرجين كبار من بلاد بره وأنت تقوللي مصري؟
* يا ابن الناس. المخرج المصري يقدر يفهمنا ويعرف عادتنا وتقاليدنا. يقدر يعرف مشاكلنا وهمومنا وإيه اللي بيوجعنا.
اعترض نجيب على المخرج المجري قبل أن يراه، غير أن اعتراضه زاد بعدما بدأ العمل معه، وشعر بأنه يكرر أخطاء فيلم «ياقوت» نفسها، غير أن المنتج حاول أن يزيل مخاوفه فطمأنه بأنه سيتركه يبدل ويغير ما يريد في الحوار، وعلى رغم ذلك لم يرتح نجيب للعمل مع المخرج، وهو ما تأكد منه بعد انتهاء الفيلم وعرضه:
* بالذمة دا فيلم! أنا مش عارف نفسي. أنا بالفظاعة دي.
= ماهو شكلك يا سي نجيب. هو المخرج غيره؟
* يا أخي أنا ما بتكلمش عن الشكل… أنا بتقل الدم دا والسخافة دي.
= بس والله مش وحش!
* يا راجل… دا ربنا يستر والجمهور ما يشوفناش وإحنا خارجين. دا راجل مخرج تحس أنه كاره للكوميديا. بيديك التوجيه وشكله بيعيط. يلا أهو فيلم يفوت ولا حد يموت!
قرر الريحاني أن ينتقم من السينما التي تخذله بوضع أدواته وقدراته كافة، ومن ثم رفض جميع العروض السينمائية التي تقدم إليه بها كثر من الماليين ومن رجال الفن، ووضع تركيزه في المسرح، واستدعى خبرته كلها في إخراج رواية، جاءت بدعية من حيث التماسك والتنسيق، وضع لها سبل النجاح كافة، من كوميديا راقية وأحداث ورسم شخصيات، لتخرج كالعادة بالمشاركة مع صديق العمر بديع خيري، واختارا لها اسم «حكم قراقوش».
الريحاني بك
وصلت أخبار إلى نجيب الريحاني أن «القصر الملكي» يفكر في منحه رتبة «الباكوية»، خصوصاً بعدما منحها لعدد من كبار الفنانين قبله، جورج أبيض ويوسف وهبي، وسليمان نجيب، الأمر الذي أدخل السعادة والسرور إلى نفس نجيب، خصوصاً أنه لا يقل عن هؤلاء الفنانين فناً ولا قيمة، والأهم أنه لم يدخر جهداً في سبيل إعلاء شأن الفن المصري في الداخل والخارج، إضافة إلى مواقفه الوطنية من الاحتلال الإنكليزي.
على رغم ذلك كله، وأن قرار منحه رتبه «الباكوية» لم يتخذ بعد، إلا أن مسرحية «حكم قراقوش» جاء فيها انتقاد لاذع للنظام السياسي، بل وللملك فؤاد الأول، ملك مصر نفسه، ما جعل إدارة «المطبوعات» الخاصة في الرقابة على الأعمال الفنية تتخذ قراراً بغلق مسرح الريحاني لمدة ثلاثة أشهر، غير أن ذلك لم يفت في عضده، وانتظر مرور الأشهر الثلاثة حتى أعيد فتح مسرحه، وقدم مجدداً مسرحية «حكم قراقوش» من دون حذف كلمة منها، وسعى الفنان سليمان بك نجيب سكرتير وزارة العدل كي يزيل سوء التفاهم، واقترح عليه أن يقدم فصلاً من إحدى مسرحياته أمام الملك حتى يمنحه البكوية… فاختار الريحاني الفصل الثاني من مسرحية أعدها مع بديع خيري خصيصاً، ووضع لها اسم «الدنيا علي كف عفريت»، يشير مغزاها إلى أن لا شيء باق إلا عمل الخير، واستعرض فيها تفاصيل الحياة المتواضعة والفقيرة في الحارة المصرية بكل ما فيها من ألفاظ شعبية، ما أزعج الملك فؤاد وفسر المقربون غضب الملك بعدم منح الريحاني «الباكوية»!
= إيه يا نجيب! إيه يا حبيبي! انت مُصر تخلق عداوة مع السرايا من غير داعي ليه؟
* أنا مفيش حاجة بيني وبين السرايا ولا الملك.
= بس هم حاسين إنك قاصد تهاجم الملك.
* أنت عارف يا سليمان إن كل اللي يهمني أن أقدم فن يوصل للناس وبس.
= وإحنا عايزينك توصل للباكوية. انت أشطر واحد فينا ومن أكبر الفنانين في مصر والشرق دلوقت. وما ينفعش أن نجيب الريحاني ما يخدش الباكوية.
* طب أعمل إيه؟ أروح أركع تحت رجلين جلالته علشان يمن عليا بالباكوية.
= محدش قال كدا. سبحان الله في طبعك. بس ما تروحش لحد الراجل وتهاجمه في قصره!
* طب أعمل إيه؟ إذا كان جلالته عايش في القصور وبيتفسح في الأندية الفاخرة. ومش حاسس بالناس اللي عايشين في الحواري، المطحونين اللي بياكلوا طوب؟!
= الله يجازيك. هتفضل زي ما انت!
* واتغير ليه؟ أنا كدا. ربنا عايزني كدا… وهفضل كدا. وبعدين أنا لا يهمني زعل الملك ولا السرايا. المهم عندي هو رضا الناس وخدمة وطني.
بعد «حكم قراقوش» أخرج رواية «مين يعاند ست» فكانت أيضاً انتصاراً جديداً للريحاني وبديع، على رغم أنها كوميديا ناعمة لم يكن بها انتقادات صارخة، إلا أن المتفرج تقبلها بقبول حسن.
حل الصيف، ورأى الريحاني أن يقوم بإجازة قصيرة، طلباً للراحة وابتعاداً عن أجواء التوتر، فاصطحب صديقه بديع خيري، واتجها إلى جزيرة «قبرص» في البحر المتوسط، غير أنهما لم يستطيعا أن يبقيا بلا تفكير في المسرح، فوضعا معاً روايتين جديدتين، الأولى باسم «مندوب فوق العادة»، وعزما أن يبدآ بها موسم 1936، والثانية باسم «قسمتي» لتكون بمثابة احتياطي للفرقة، غير أنهما ما إن عادا إلى القاهرة حتى قررا بدء الموسم برواية «قسمتي» وتلتها «مندوب فوق العادة» فحققت الروايتان نجاحاً ارتفع بهما وبكل أعضاء الفرقة إلى عنان السماء، ولم يفسد فرحتهم بالنجاح سوى رحيل الملك فؤاد، فتم تعطيل المسارح والملاهي ودور العرض السينمائي حداداً على وفاة الملك، غير أنه ما إن انتهت فترة الحداد، حتى قرر استكمال رواية «الدنيا على كف عفريت» التي عرض منها فصلاً واحداً أمام الملك الراحل، فلاقت نجاحاً كبيراً.
استوديو مصر
بينما كان الريحاني يقف في غرفته في المسرح يرتدي ملابسه لموافاة الممثلين في التدريب دق جرس الهاتف، فإذا بالمتحدث بديع خيري:
* أهلاً بديع. إيه ماجتش ليه… وبتتكلم منين؟
= أنا بكلمك من أستوديو مصر.
* استوديو مصر. إيه اللي وداك عندك؟
= مش مهم دلوقت بعدين. المهم إن الأستاذ أحمد سالم مدير الأستوديو عاوزك ضروري. خد كلمة أهه.
* أهلاً وسهلاً… هاتوه.
- من غير كلام ولا مقدمات… قدامك نص ساعة تكون فيها هنا. وخللي السلامات لما تيجي. وعلشان ما تتأخرش أنا بعتلك العربية بتاعتي خمس دقايق وهتلاقي السواق قدامك.
راح الريحاني يضرب أخماساً في أسداس، فمن المؤكد أن أحمد سالم لا يريده لمباراة في الشطرنج، لا بد من من وجود اتفاق على عمل، وطالما أحمد سالم مدير أكبر استوديو سينمائي في مصر، فحتما سيكون العمل خاصاً بالسينما، ومجرد التفكير في السينما يزعجه بعد التجارب الثلاث التي فشلت فشلاً كبيراً من وجهة نظره، فما الحل إذا طلب منه أحمد سالم تقديم فيلم سينمائي؟ لا بد من أن يعتذر!
وصل الأستوديو فوجد أحمد سالم وحسني نجيب وبديع خيري:
* سلام عليكم.
= عليكم السلام. أهلاً أهلاً نجمنا الكبير. إيه يا سيدي هو أنت ما تجيش إلا لما نستدعيك بالعجل.
* نعمل إيه. شغل المسرح واخدنا ليل ونهار.
= طب يا سيدي آدي إحنا هانخدك منه شويه.
* أنا لازقة. مطلعش من المسرح ولا بالطبل البلدي.
= هو إحنا بقى الطبل البلدي… وهنطلعك. بس هنرجعك تاني زي ما أنت.
* لا صحيح اسمح لي… أنا مشغول جداً. ومش هاقدر اليومين دول خالص.
= مفيش اعتذارات… دي أوامر من طلعت باشا حرب. إن نجيب الريحاني لازم تشتغل في أستوديو مصر. وإحنا اعتبرنا إن دا واجب وطني. وقبل ما ترفض… أنا فهمت من بديع كل المشاكل اللي أنت واجهتها في الأفلام اللي عملتها قبل كدا. ودي أول حاجة هانعملها. تذليل كل العقبات والمشاكل. وأولها المخرج المصري.
* أيوه ليه الإصرار دا… أنا مش الواد الحليوة بتاع السيما يعني!
= شوف أنت بقى لو كنت حليوة كان حصل إيه؟
* أيوه بس أنا قررت ابعد شويه عن السينما لحد ما الأمور توضح.
= شوف يا نجيب أنا هاجي معاك دوغري. دلوقت فيه كلام كتير على أنك فشلت في السينما. ودا هيخوف الممولين وهايبعدهم عنك. ودا مش كويس لك كفنان من أكبر الفنانين في مصر والشرق… صدقني الكلام دا لمصلحتك أنت أولاً.
راح نجيب يفكر بجدية في كلام أحمد سالم، وزاد عليه كلام بديع خيري، فمال رأسه وبدأ يفكر في الأمر بجدية، خصوصاً بعد ظهور فيلم «الحل الأخير» للمخرج عبد الفتاح حسن، وبطولة سليمان نجيب وراقية إبراهيم وأمينة شكيب وسراج منير وعبد الوارث عسر، فكان نجاحه مشجعاً له على الإقدام، خصوصاً أنه وجد من الجمهور بادرة طيبة، هي أنه بدأ ينظر إلى العمل بقيمته الفنية لا بالشخصيات القائمة به.
جلس نجيب وبديع واشتركا في وضع فكرة سيناريو للفيلم الجديد، وما إن انتهيا منه حتى ذهبا به إلى أحمد سالم، غير أنه قص عليهما فكرة جديدة مفضلةً جعلها أساساً للسيناريو، واستحسنا الفكرة، وفوراً كتبا سيناريو وحوار فيلم «أفراح»، وما إن عاد أحمد سالم من أوروبا حتى اطلعاه على السيناريو، وعندما قرأه غيَّر الاسم إلى «سلامة في خير»، ثم أخذ نجيب من يده وفي اليد الأخرى السيناريو وقدمه إلى المخرج:
* اتفضل يا أستاذ. دا سيناريو الفيلم ودا الأستاذ نجيب نجمنا الكبير وبطل الفيلم ودا يا سيدي المخرج. الأستاذ نيازي مصطفى.
* بيني وبينك كل مخرجين السينما أساتذة. ومفيش حاجة في الدنيا بتخوفني على اسمي وسمعتي الفنية غير الأساتذة دول. غايته ربنا يستر!
(البقية في الحلقة المقبلة)
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 16, August 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط
أظهر نيازي مصطفى براعة فائقة في رؤيته كمخرج، فلم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا اهتم بها، وهو ما أثار دهشة نجيب الريحاني، إضافة إلى مواصلة الاجتماعات اليومية قبل التصوير وبعده لمناقشة تفاصيل السيناريو، خصوصاً أن نجيب وبديع لم يكونا قد انتهيا من كتابة السيناريو، فما كانا ينتهيان من كتابة جزء حتى يسلماه إلى نيازي، وتبدأ بينهم الاجتماعات والمناقشات.
صحّح نجيب الريحاني تقديره في نيازي مصطفي، فمضى تصوير الفيلم في جو من التفاهم التام لم يكن له به عهد سابقاً. لم يكتف نيازي بحدود واجبه، وكثيراً ما عاون نجيب وبديع بأفكار ثاقبة، وآراء ناضجة، فكان الثلاثة يواصلون العمل معاً، وكل منهم يشعر أنه يؤدي فرضاً واجباً يدفعه إليه الإخلاص والحرص على النجاح.
قبل أن ينتهي نجيب من تصوير الفيلم، قرر العودة إلى المسرح بعد دخول الموسم الجديد، غير أنه لم يستطع وضع رواية جديدة مع بديع لضيق الوقت، فقرر إعادة تقديم «قسمتي» وحشد لها أعضاء فرقته التي عهد إلى طلعت حسن إدارتها… فضم إليها عدداً كبيراً من الفنانين والفنانات منهم، ميمي شكيب، زوجة سراج منير التي تخصصت في أدوار «الزوجة»، وشقيقتها زوزو شكيب التي تخصصت في دور «العشيقة»، ومحمد الديب الذي تخصص في دور «العشيق»، وزوجته جمالات زايد وتخصصت في دور الخادمة بالتبادل مع زينات صدقي، التي تركت الرقص وتفرغت للتمثيل، إضافة إلى أعضاء الفرقة الأساسيين: عبد العزيز خليل (الشرير)، ستيفان روستي (الخواجة)، حسن فايق (المغفل)، فليب كامل (الأجنبي)، عبد اللطيف جمجوم (الباشا)، بشارة واكيم (الشامي)، محمد كمال المصري «شرافنطح» (الجار المشاكس)، عبد الفتاح القصري (ابن البلد الفهلوي)، ماري منيب (الحماة الشلق)، ثم محمد مصطفي وسيد سليمان ومحمد حلمي وعبد العزيز يوسف ومحمد لطفي، في أدوار ثانوية.
الريحاني كاتبا
أصبح الريحاني يمسك بالورق والقلم أكثر من بديع، الذي لاحظ ذلك، فكان كلما دخل حجرة مكتب الريحاني وجد أمامه كومة من الورق للكتابة، فساوره الشك في أن نجيب يكتب رواية جديدة بمفرده لا يريد إطلاعه على تفاصيلها:
= بس… بتكتب من ورايا يا نجيب؟
* أيوه يا أخي. بكتب من وراك… مش أحسن ما أكتب قدامك؟
= لا صحيح. أنا ملاحظ من فترة إنك مشغول بالكتابة. في الأستوديو تاخد جنب وتقعد تكتب، هنا في المسرح، وحتى في البيت. والغريبة إنك أول ما تشوفني. تخفي الورق. طب يا سيدي إذا كانت الرواية مغلباك أوي كدا ما تقوللي يمكن أساعدك.
* دي بالذات مش هتقدر تساعدني فيها!
= ياه… للدرجة دي رواية صعبة ومهمة.
* دي أهم رواية هيكتبها نجيب الريحاني في حياته يا بديع.
= طب دا شيء جميل… بس مش طولت معاك شوية. دا أنت داخل على سنة بتكتب فيها تقريباً.
* بس الحمد لله دخلت على النهاية.
= عال أوي يبقى كدا هنبدأ فيها على طول بعد «قسمتي».
* لا يا بديع. الرواية دي أنا بكتبها ومش همثلها. أنا بكتبها بعد ما مثلتها.
= دا إيه الكلام دا؟. فزورة دي على طريقة بيرم التونسي.
* الرواية دي هاسيبها للي عايز يقراها أو يمثلها. بس بعد ما أكون أنا اختفيت من الوجود. أنا بكتب مذكراتي يا بديع.
= هايل يا نجيب خطوة مهمة جداً. طب يا سيدي ما توريني.
* أنت بالذات لا. لأنك واخد دور البطولة التانية في الرواية.
= ياه. للدرجة دي أنا مهم في حياتك؟
* شوف يا بديع. بجد أنت الجزء المهم اللي كان ناقص في حياتي. وربنا بعتك ليا علشان حياتي تكمل.
= تصدقني لو قلت لك نفس الكلام.
* من غير ما تقول مصدق. لأن عندي نفس الإحساس.
= بس أنت شوقتني لها قوي عايز أقرا.
* هانت. كلها كام يوم ويستلمها الصديق توفيق المردنلي. هينشرها حلقات في مجلة «الاثنين».
انشغال الريحاني في تصوير الفيلم، وعرض رواية «قسمتي» والانتهاء من كتابة مذكراته، لم يحل بينه وبين التفكير مع بديع في الرواية الجديدة «لو كنت حليوة» والتي اقتبسها من الكوميديا الفرنسية «بيشون» للكاتب الفرنسي جان لوتراز، وحولها نجيب إلى نقد الباشاوات والباكوات الذين يقومون على الأوقاف، وينهبونها ويوزعون إيرداتها بطرق مريبة من خلال بطل المسرحية «شحاتة أفندي»، لتكون المسرحية فتحاً جديداً في الكوميديا المصرية.
انتهى تصوير الفيلم والموسم المسرحي، غير أن الارتباط بالتصوير والوقوف أمام الكاميرات نهاراً في الأستوديو وليلاً على خشبة المسرح، سببا له حالة من الإرهاق الشديد، فضلاً عن التهاب عينيه بسبب الإضاءة العالية، فاقترح عليه نيازي مصطفي مرافقته إلى باريس «لطبع» الفيلم وإتمام بقية عملياته الفنية، وانتهاز هذه الفرصة للاستجمام والراحة وعرض عينيه على أطباء باريس، فلم يتردد ووافق على الفور.
لقاء الماضي
وصل نجيب بصحبة نيازي مصطفى ومعهما فيلم «سلامة في خير» اطمأن نجيب أولاً على حالته الصحية، ثم راح يرافق نيازي كل يوم في الأستوديو الذي يتم فيه مونتاج وطبع الفيلم، وبينما يخرج نجيب من باب الأستوديو، إذا به يجد سيدة أمامه لفتت انتباهه… فعاد ليقف أمامها، ليجدها هي أيضاً توقفت عن سيرها وتلتفت إليه، وكأن الكهرباء صعقت كلا منهما:
= نجيب الريحاني؟!
* مش معقول. لوسي! أنا مش مصدق عينيا. انت لوسي دي فرناي؟
= ياااه… نجيب… مش ممكن. انت هنا في باريس قدامي بعد السنين دي كلها. أنا مش قادرة أصدق.
سالت دموع كل منهما، تحول اللقاء كأنه جزء مهم من فيلم عالمي، البطولة فيه للنجم المصري الكبير نجيب الريحاني وأمامه البطلة الفرنسية لوسي، ولقاء بعد غياب ما يزيد على 17 عاماً، لقاء حار أغرقته الدموع وصفق له العمال والفنيون والزائرون في الأستوديو. دعا نجيب لوسي للدخول معه إلى حجرة المونتاج، ودعته إلى الدخول معها إلى حجرة الأزياء:
* أنت بتشتغلي هنا.
= أيوه. بشتغل مصنفة أزياء. أقوم بتصنيف الأزياء طبقاً لمراحلها التاريخية. وأنت بتعمل إيه هنا؟
* أنا جاي مع الفيلم بتاعي بنعمل له مونتاج هنا في الأستوديو.
= سينما!! أنت بتعمل دلوقت سينما.
* هوهو… صاحبك دلوقت حاجة تانية.
= أنا كنت متأكدة يا نجيب إنك هاتبقى حاجة كبيرة أوي. انت فنان حقيقي ومخلص لأبعد حدود لفنك… علشان كده لازم تاخد اللي تستحقه.
* سيبك مني. طمنيني عليك انت فين ورحتي فين وعملتي إيه في حياتك الفترة الطويلة دي؟
= مفيش… بعد ما سبت مصر جيت على باريس اشتغلت شوية في «المولان روج» واتجوزت بالصدفة من شاب ألماني… وما قدرتش أكمل معاه انفصلنا. ودلوقتي زي ما أنت شايف بشتغل هنا. بس دا باختصار… قوللي أنت بقى عملت إيه؟
* أنا يا ستي… وعلى طريقتك في الاختصار. من ساعة ما سبتيني لحد ما اتقابلنا النهارده… وأنا باحاول أعمل اسم «نجيب الريحاني»… وبين الكلمتين دول حاجات كتير أوي.
قرر نجيب ألا يضيع لوسي منه مرة ثانية، فقد وجد، على رغم مرور السنوات، وكل ما مر به من أحداث وحوادث، أن حبها لا يزال كما هو في قلبه، وبدلاً من الأسبوع الذي كان مقدراً للرحلة منذ غادر القاهرة، استمر بقاؤه في باريس ثلاثة أشهر، قرر خلالها أن يفعل ما لم يفعله منذ 17 عاماً، قرر أن يرتبط رسمياً بحبيبة قلبه لوسي… غير أن ذلك لن يصلح بسبب ارتباطه الذي كان لا يزال قائماً ببديعة مصابني، فعلى رغم انفصالهما قانونياً، إلا أن الكنيسة لن تسمح له بزيجة أخرى، فقرر الارتباط بلوسي مدنياً بعقد موثق.
أمضى العروسان شهراً في باريس، من أسعد الأيام التي مرت في حياة الاثنين، وكالعادة تمر الأيام الجميلة بسرعة خاطفة، فلا بد من أن يعود إلى القاهرة لمواصلة عمله الذي تغيب عنه أكثر من ثلاثة أشهر:
= خلاص… هتسافر.
* غصب عني. الود ودي أفضل جنبك على طول مش عايز أسيبك لحظة واحدة.
= طب انت ليه مش عاوزني أسافر معاك؟
* صدقيني لو ينفع أنا كنت اللي ألحيت إنك تسافري معايا. لكن سفرك معايا مصر دلوقتي هيسبب لنا مشاكل كتير.
= مشاكل إيه؟
* الكلام هيكتر. ومش بعيد يوصل لبديعة. وممكن تعملها مشكلة… وأنت عارفة إن الفنان أكل عيشه سمعته.
= يعني هفضل أنا هنا وأنت في مصر؟
* مين قال كدا؟ أنا هاسافر ارتب أموري أخد لك شقة جديدة وأفرشها بأجمل فرش لأجمل عروسة.
= أنا خايفة يا نجيب. المرة الأولانية بعدنا عن بعض 17 سنة… مين عارف المرة التانية ممكن…
* مفيش مرة تانية… أنا لقيتك ومش ممكن أضيعك من إيدي مرة تانية.
وصل نجيب الريحاني إلى القاهرة ليجد فيلم «سلامة في خير» يحطم الأرقام القياسية في الإيرادات، ما جعل المنتجين والممولين يتهافتون للتوقيع معه على عدد من الأفلام الجديدة، غير أنه وعلى رغم ذلك رفض التوقيع لأي منتج، أو خوض تجارب سينمائية جديدة قبل دراستها دراسة متأنية، للحفاظ على ما وصل إليه من نجاح واسم… ولم العجلة ومعشوقه الأول يناديه؟!
ولي العهد
لم يمض وقت طويل على عودة نجيب إلى القاهرة من باريس، حتى وصله تلغراف من لوسي تخبره فيه:
«هل تريده ولداً أو بنتاً؟ استعد وحضر نفسك لاستقبال ولي العهد… قريباً ستصبح أباً… لوسين».
لم يصدق نجيب نفسه. سيصبح أبا للمرة الأولى في حياته وهو على مشارف الخمسين من عمره! شعر بأنه يريد أن يخرج إلى الشارع يخبر كل من يقابله بأنه سيصبح أباً. غير أنه لم يستطع، فلم يكن هناك من يعرف بأمر هذه الزيجة، حتى أقرب المقربين إليه، سواء شقيقاه توفيق ويوسف أو حتى شقيقه الثالث وصديق عمره بديع خيري، فليس مهماً أن يخبر أحداً ويكفي أن يسيطر عليه هذا الإحساس، لكن الأهم الآن هو كيف سيكون ولي العهد؟ هو يريد أن تكون بنتاً تشبه والدتها.
عاد نجيب إلى المسرح، ووضع مع بديع خيري كوميديا خفيفة بعنوان «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، مأخوذة عن أصل فرنسي معاصر بعنوان «حبيبي» ليفتتح بها الموسم الصيفي مبكراً في أبريل 1938، ونجحت نجاحاً فوق العادة. تدور أحداثها حول خلاف بين زوج وزوجته، فيضطر إلى تركها ويسافر، فترسل له خطاباً تخبره فيه بضرورة الحضور لأنه أصبح أباً… فقد شعر نجيب للمرة الأولى كأنه يطير فوق خشبة المسرح، والسبب الخطاب الذي وصله من لوسي، على طريقة بطلة المسرحية:
«رزقنا بفتاة جميلة تشبه أمها… وإن كانت خفيفة الظل مثلك ولها صوت مسرحي قوي لا أستطيع النوم منه. الحمد لله صحتنا أنا وابنتك جيدة وسأغادر المستشفى نهاية الأسبوع، وستحضر أمي من ألمانيا لتعيش معنا في فرنسا حتى تتولى رعاية ابنتك.
بالمناسبة اقترح عليّ بعض الزملاء والزميلات أن اطلق عليها اسم «جينا» لتكون جينا نجيب الريحاني… ما رأيك أنت؟
اتمنى أنا وابنتك رؤيتك في أقرب وقت. وأنتظر منك خطابا تفيدني فيه برأيك في اسم «جينا»… لوسين».
للمرة الأولى تعجل نجيب انتهاء الموسم المسرحي على رغم النجاح الكبير الذي كانت تحققه رواية «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، وما إن انتهى الموسم حتى غادر القاهرة متجهاً إلى باريس لرؤية ابنته.
في طريقه، اشترى فستاناً من أغلى أنواع القماش في العالم، وطلب من التاجر أن يطرّز اسم «جينا» وكاد عقله يطيش برؤيتها. يا لها من توليفة مصرية فرنسية ألمانية، فلوسي من أم ألمانية ووالد فرنسي، واضطرت إلى تسجيل ابنتهما جينا باسمه في الأوراق الرسمية خوفاً من المساءلة.
كان أول ما فعله نجيب أن وضع مبلغ 50 ألف فرانك فرنسي باسم جينا في بنك «كريدي لوينه» الفرنسي، على أن تتسلم المبلغ عند بلوغها سن الرشد، ثم راح يستمتع بإحساس الأبوة الذي تأخر عليه كثيراً. عاش أجمل أيام عمره بصحبة جينا، لم يتركها لحظة، خصوصاً أنها بدأت تتنبه وتبتسم له، وتزيد ابتسامتها عندما يناديها Ma Petite Princesse أي «أميرتي الصغيرة»… ما كان باعثاً على سعادة لم يشعر بها طيلة حياته، لم يقطعها عنه سوى التلغراف الذي وصله من طلعت حسن مدير فرقته، والوحيد الذي يعرف عنوان مراسلته:
«أنعي لكم وفاة السيدة جلفدان هانم والدة الأستاذ بديع خيري».
أصر نجيب على مغادرة باريس في اليوم التالي، ليكون بجوار صديق العمر في هذه اللحظة العصيبة من حياته، وما إن وصل حتى اتجه إلى منزل بديع خيري، ليجد سرادقاً للعزاء، وبينما هو يدخل الشارع رأى شيخاً يخرج منه فاستوقفه:
* فضيلة الشيخ محمد رفعت دا إيه الصدفة الجميلة دي.
= أهلاً وسهلاً يا ابني… مين؟
* أنا نجيب الريحاني يا فضيلة الشيخ.
= كشكش بك. دا أنا محظوظ بقى.
* الحظ ليا أنا يا فضيلة الشيخ ما تتصورش أنا بحبك أد إيه وبحب اسمع صوتك.
= أنت طيب أوي يا نجيب وفنان أصيل وتستاهل أد اللي أنت فيه عشرات المرات.
* ربنا يخليك لنا يا سيدنا الشيخ. والله أنا نفسي أقعد معاك كتير بس للاسف مرتبط بعزا والدة صديقي.
= والدة الاستاذ بديع خيري.
* الله… أنت عرفت منين؟
= ما أنا لسه خارج من عزاها قدامك أهه!
لم يصدق نجيب الريحاني ما سمعه، ليس بموت والدة صديقه، بل لأنه اكتشف بعد هذا العمر كله من الصداقة والتقارب والمحبة التي وصلت إلى حد الأخوة، أنه وبديع لم يعرف كل منهما ديانة الآخر، فقد ظنّ نجيب أن بديع يدين بالديانة المسيحية، وظن بديع أن نجيب يدين بالإسلام، وما إن اختليا ببعضهما البعض حتى واجه نجيب بديع بهذا الظن، ونسي حزنه على وفاة والدته، ونظر كل منهما إلى الآخر وانفجرا بالضحك وارتمى كل منهما في أحضان الآخر، فلم تزدهما هذه الحقيقة إلا تماسكاً وحباً وأخوة.
الحرب الثانية
قبل نهاية العام، أرسل نجيب خطاباً إلى لوسي يدعوها وابنتهما إلى زيارة مصر، لترى جينا بلدها ويمضيا معه عيد رأس السنة الميلادية، فطار قلب لوسي يسبقها إلى مصر، حيث مكثا 15 يوماً، تفرغ خلالها نجيب لدور الزوج والأب ليشعر للمرة الأولى بإحساس أن تكون له أسرة.
بمجرد عودة لوسي وجينا إلى باريس، اندلعت الحرب العالمية الثانية وراح هتلر يجتاح دول أوروبا واحدة تلو الأخرى، ما سبب قلقا وتوتراً، لنجيب خوفاً على لوسي وجينا، حاول الاتصال بها للاطمئنان عليهما، غير أن الحرب كانت لم تزل في بدايتها والاتصالات مقطوعة والمواصلات متوقفة، ما سبب رعباً حقيقياً لنجيب، فلم يكن أمامه سوى العودة إلى المسرح، فأعد مع بديع خيري مسرحية «الدلوعة» وأدت دور البطولة أمامه ميمي شكيب، ونجحت المسرحية بشكل كبير.
بسبب التوتر الذي كان يعيشه نجيب والخوف، فضلاً عن الضغط العصبي الذي على المسرح، سقط فجأة فوق الخشبة أثناء قيامه بالتمرينات نهاراً، ونُقل فوراً إلى المستشفى، وسط انزعاج شديد لكل المحيطين به، شقيقيه توفيق ويوسف، وبديع خيري، إضافة إلى أعضاء فرقته، بل انتقل القلق والانزعاج إلى جمهور الريحاني بعدما نشرت جريدة «الأهرام» خبر مرضه:
* إيه يا دكتور أنا عندي إيه؟
= عندك شحنة كوميدية زيادة في القلب.
* لا صحيح… خير أنا أول مرة يحصل لي الكلام دا.
= ابداً… شوية توتر وضغط عصبي عالي. ما انت يا سي نجيب لازم تريح نفسك شوية. انت برضه بني آدم ولازم جسمك يرتاح. ما ينفعش شغل ليل ونهار. ونصيحتي لك إنك تبعد شويه عن المسرح أد شهر.
على رغم عدم اقتناع نجيب بالابتعاد عن المسرح، إلا أنه انصاع لأوامر الأطباء، خصوصاً أن أستوديو مصر، وبعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم «سلامة في خير» عرض عليه أن يقدم فريق العمل نفسه في الفيلم الأول، فيلماً آخر.
وافق نجيب على اقتراح استوديو مصر، وراح يكتب مع بديع خيري قصة الفيلم الجديد، وشارك معهما المخرج نيازي مصطفى بغرض إظهار قدراته كمبدع في استخدام الحيل السينمائية والأساليب الحديثة، وهو ما ترجمه نجيب وبديع إلى أفكار فيلم «سي عمر» الذي قام على حبكة درامية بالغة التعقيد، قدم فيه نجيب للمرة الأولى شخصيتين متماثلتين، إحداهما عمر بك الألفي والثانية جابر شهاب الدين الموظف البسيط لديه، وشارك معه في بطولة الفيلم: أمينة (ميمي) شكيب وزوجها سراج منير وشقيقتها زينب (زوزو)، شكيب وماري منيب، عبد الفتاح القصري، محمد كمال المصري (شرفنطح)، استيفان روستي، فكتوريا حبيقة، عبد العزيز أحمد، ورسم مناظر الفيلم الفنان ولي الدين سامح.
البقية في الحلقة المقبلة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 17, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
لم يسبب فشل فيلم «أحمر شفايف» لنجيب الريحاني إحباطاً له، لأن الخسارة جاءت مقصورة على الناحية المادية، كذلك لم يجعله يتراجع عن اختياره وانحيازه إلى قضايا الشعب وهمومه، سواء في الأعمال الكوميدية أو التراجيدية، ما جعله يفتتح موسم 1946 بمسرحية جديدة كتبها مع بديع خيري بعنوان «سلاح اليوم»، حاول من خلالها تلخيص تجربته الفنية، بل قدم ملخصاً لتجربته الإنسانية ليحسم من خلالها الصراع الداخلي لديه.
حاول نجيب الريحاني الانتصار للإنسان الفقير المطحون، الذي لا يكتفي بالصبر والاستسلام للضربات التي يسددها له المجتمع، بل واصل نضاله متحدياً كما في أعماله السابقة كافة، وجاء الاعتماد هنا على العقل والمهارة والدهاء عبر فلسفة خاصة، ليجعل البطل في نهاية المسرحية، وبحركة رمزية، يخلع «جاكيت الفقر» ويرتدي «جاكيت الثراء» في إيماءة وداع، ليس للشخصية القديمة فحسب، لكن ربما لوقوفه على خشبة المسرح عموماً، فمع إسدال الستار على الليلة الأخيرة من مسرحية «سلاح اليوم» قرر اعتزال الوقوف على خشبة المسرح حتى إشعار آخر، والتفرغ للسينما، التي لم يرفع لها راية الاستسلام، وراح يعلن تحديه لها.
بعد الخسائر التي تعرض لها في فيلم «أحمر شفايف» تجنب الريحاني الدخول في مغامرة إنتاجية جديدة، غير أنه وافق على العمل من إنتاج الغير، إذ عرضت عليه شركة «نحاس فيلم» تقديم فيلم بالشروط التي يرتضيها، في مقابل شرط وحيد للشركة وهو أن يكون الفيلم كوميدياً، فلم يتردد وشرع فوراً مع بديع خيري في كتابة الفيلم الذي اختارا له عنوان «أبو حلموس»، كتب له السيناريو وأخرجه إبراهيم حلمي، وشارك الريحاني بطولته أبطال فرقته، من بينهم زوزو شكيب، عباس فارس، ماري منيب، حسن فايق، استيفان روستي، ومحمد الديب، ليعوضه هذا الفيلم النجاح الذي لم يتحقق في «أحمر شفايف» بشكل فاق توقعه.
ما إن اطمأن الريحاني على نجاح الفيلم، حتى قرر القيام بإجازة يمضيها مع ابنته في باريس، فسافر في صيف 1947 للقاء لوسي وجينا، غير أن الرحلة لم تستمر
أكثر من أسبوعين، شعر بعدها بحنين جارف إلى مصر، فقرر العودة بسرعة من دون سبب، وبلا ارتباطات فنية، ما أدهش المحيطين به، خصوصاً صديق العمر بديع خيري، الذي استغرب أن يظل نجيب بلا عمل، بل ولا يجهد نفسه في البحث عن عمل:
= ولحد أمتى يا نجيب هانفضل كدا؟
* وإحنا مالنا كدا؟
= طب المسرح وقلت تبعد عنه شويه علشان صحتك… طب والسينما؟
* عارف يا بديع أنا بفكر في مشروع سينمائي كبير.
= بتفكر لوحدك؟
* ما هو أنا بفكر معاك بصوت عالي أهه… لأني متردد آخد الخطوة دي.
= أيه في أيه قلقتني؟
* فاكر المذكرات بتاعتي اللي نشرتها سنة 37 في مجلة «الاتنين».
= أيوه فاكر طبعاً… أيه بتفكر تنشرها تاني؟
* أيه رأيك لو حولناها لفيلم سينما؟
= يابن الأيه… فكرة مجنونة بس عبقرية.
وجد الريحاني أن أغلب الشخصيات التي قدمها في أفلامه، فيها الكثير من شخصيته الحقيقية، «سي عمر، وسلامة في خير، لعبة الست، أبو حلموس، غزل البنات»… في كل منها لمحة منه ولمحات من حياته، فقرر أن يحول المذكرات التي كتبها في عام 1936 إلى فيلم سينمائي يقوم هو ببطولته، على أن يستكمل 13 سنة جديدة مرت على المذكرات، وتضمينها ما استجد من أحداث. لكن على رغم اقتناعه بالفكرة إلا أنه تردد في بدء الكتابة، لأنه سينتج الفيلم على نفقته الخاصة، وخسارته المادية في فيلم «أحمر شفايف» والقصر الذي شرع في بنائه أنهيا على كل ثروته التي بلغت ما يزيد على نصف مليون جنيه مصري، ما يزيد على 50 مليون جنيه مصري الآن، فقد راح ينفق بسخاء على القصر الذي بدأ تشييده في عام 1948 في منطقة «قوت القلوب الدمرداشية» «بحدائق القبة»، وجهزه ليكون بيتاً يعيش فيه ومسكناً للفنانين الذين لا يجدون مأوى، إضافة إلى صالة «أندلسية» ألحقها بالقصر لتكون مسرحاً حديثاً، وتكلفت وحدها أكثر من سبعة آلاف جنيه.
الوداع الأخير
فجأة شعر نجيب بحنين جارف إلى ابنته جينا، فأرسل في طلب لوسي وزوجته للحضور إلى مصر مع بداية الشتاء لتمضية عيد الميلاد معه في مصر، وحضرا فعلاً في ديسمبر 1948، وأمضيا معه الإجازة في فندق «وينتر بالاس» في مدينة الأقصر بعيداً عن الأعين. بعدها عادوا إلى القاهرة حيث استأجر لهما شقة جديدة في منطقة غاردن سيتي، وراح يتردد عليهما خفية بين الحين والآخر، إلا أن أعماله أبعدته عنهما، ما أغضب لوسى التي شعرت بأنه لا يحفل بها ولا بابنته فنشبت بينهما المشاكل:
= أنا زهقت من الحياة دي. لا أنا حاسة إني متجوزة ولا أنا حرة… وكمان بنتك… بنتك ما بتلحقش تشبع منك.
* طب وأنا في أيديا أيه بس؟ أنا نفسي تبقوا معايا هنا على طول… لكن دا اختيارك. شويه في ألمانيا وأغلب الوقت في باريس… وزيارة كل سنة لمصر.
= لأنه مفيش خيار تاني قدامي.
* ما هو أنا مقدرش أغامر وأعلن عن وجودك رسمي في حياتي. دا يعمللي مصيبة وأنت عارفة… وكمان ماقدرش أسيب مصر وشغلي وفني وأعيش في ألمانيا!
للمرة الأولى يشعر نجيب بحزن عميق لمغادرة لوسي وجينا القاهرة، شعر بأنه قد يكون فراقاً بينه وبين لوسي بعد الكلام الذي سمعه منها… عاد من وداعهما الحار، وقلبه يتمزق لفراقهما.
دخل المصعد في عمارة الإيموبيليا، لم يلتفت حوله، نظر في أرض المصعد وفجأة سمع صوت سيدة تحييه:
= أستاذ نجيب. أيه الفرصة العظيمة دي؟
* مين. ليلى مراد. يا سلام… انت جيتي في وقتك.
= أنا!! أنا تحت أمرك يا أستاذ.
* النهارده أنا كنت في أمس الحاجة لشيء مثير يحصل لي في حياتي يخرجني من حالة مش كويسه.
= أد كده يا أستاذ نجيب أنا أسعدتك.
* أنت بتسعدي الملايين. مش هاتسعدي واحد غلبان زيي.
= أجمل حاجة فيك يا أستاذ نجيب تواضعك الجميل دا.
* سيبك من كلام المجاملات دا. انت يا بنت انت مش عايزاني أمثل معاكي؟
= يا سلام يا أستاذ. دي أمنية… هو أنا أطول. متتصورش سعادتي أد أيه بالكلام ده.
* بس يا بت بطلي بكش… ولا أنت تزعلي لما أقولك يا بت.
= أبداً يا أستاذ حضرتك زي بابا.
* لا أنا مش عجوز كدا زي زكي مراد… يا ليلى أنا نفسي أمثل معاكي فيلم قبل ما أموت.
فاتحت ليلى مراد زوجها أنور وجدي في كلام الريحاني، فلم يصدق ما سمعه منها، ولأنه فنان لا يضيع وقته اتخذ فوراً خطوات عملية في سبيل إنجاز عرض نجيب الريحاني… وبادر بالاتصال ببديع خيري، وتم تجهيز سيناريو فيلم «غزل البنات» بتوليفة من مسرحيتي «قسمتي» و»الدلوعة» لتقوم ليلى بدور «ليلى بنت الباشا» ونجيب الريحاني بدور «الأستاذ حمام»، مدرس اللغة العربية.
فيلم المرحلة
أراد أنور أن يكون «غزل البنات» فيلم المرحلة، فحرص على أن يجمع فيه كل رموز العصر إلى جانب نجيب الريحاني وليلى مراد، محمد عبد الوهاب، يوسف بك وهبي، سليمان بك نجيب، عبد الوارث عسر، محمود المليجي، ستيفان روستي، وفريد شوقي.
جاء وقت تصوير الفيلم، وكان من المفترض أن يشارك فيه الريحاني ليلى مراد أغنية «عيني بترف»، فعارض وجدي خوفا من الفشل، إذ لم يسبق أن غنى نجيب، ومن المؤكد أن صوته لا يتناسب مع صوت ليلى الملائكي الحالم، ووجد محمد عبد الوهاب الفرصة ليرد الجميل للأستاذ الذي أخذ بيده في بداية الطريق، وأصر على أنه قادر على أن يجعل نجيب الريحاني يغني، فاقتنع وجدي بالفكرة، وفي نيته أن يستغل غناء الريحاني في الدعاية، خصوصاً أن الأغنية تعبيرية أكثر منها طربية.
وجاء حسن الختام مع غناء محمد عبد الوهاب لرائعته «عاشق الروح» التي بلغ فيها الريحاني ذروة عبقرية الإحساس والأداء الذي يجعله يقف على قدم المساواة مع أكبر نجوم العالم في التمثيل… لدرجة أنه أبكى كل من في الأستوديو بمجرد انتهاء محمد عبد الوهاب من الأغنية، ظل الجميع يصفق، ليس لمحمد عبد الوهاب، بل للأداء الصامت الذي أداه الريحاني انعكاساً للأحاسيس في الأغنية.
طلب الريحاني من أنور وجدي وبإلحاح أن يشاهد النسخة الأولى من الفيلم، قبل أن تنتهي بقية عناصره، وأمام إلحاح الأستاذ وافق، وجلس إلى جواره في حجرة المونتاج في أستوديو مصر يشاهدان معاً النسخة الأولية من فيلم «غزل البنات»…
لم يلتفت أنور وجدي إلى أن الأستاذ يبكي إلا بعدما انتهى الفيلم وأضيئت الأنوار فوجده يمسح دموعه:
* يا نهار أبيض… الأستاذ نجيب الريحاني بذات نفسه بيبكي. يبقى أنا نجحت. أنا كده أطمنت.
ـ بس يا واد يا أونطجي… هو لازم تشوف دموعي يعني علشان تعرف أنك نجحت. وبعدين دي مش دموع من الفيلم… دي من الخنقة. الأوضه حر ومخنوقة.
* اطلع من دول يا أستاذ حمام. قصدي يا أستاذ نجيب… دموعك دي أنا بعتبرها أكبر جايزة.
ـ أنت موهوب يا أنور وهيبقالك مستقبل كبير.
خرج الريحاني من الأستوديو بعد مشاهدة نسخة الفيلم الأولية، ليتجه فوراً إلى مكتبه في عمارة «الأيموبيليا» في شارع شريف في وسط القاهرة، جلس وراح يكتب ملاحظة مهمة، ليس حول دوره في الفيلم، بل في ما قدمه إجمالاً من أفلام على تلك الشاشة الفضية، وكأنه يدون ملاحظة للتاريخ، فقد كان يشعر حتى إنجاز ذلك الفيلم، بأن السينما لم تعطه ما أعطاه له المسرح، وأن أفلامه السينمائية على رغم أنها لم تصل إلى أهمية أعماله المسرحية، إلا إنها نالت قسطاً وافراً من النجاح، وعلى رغم اعترافه مثل الكثيرين حوله بنجاحه السينمائي، إلا أنه كان يعتبر هذا النجاح ناقصاً، ليس لأنه لم يؤد كما ينبغي ويبذل جهداً في هذا الأفلام، لكن لإحساسه بأن تلك الشاشة الفضية التي شبهها بضوء القمر الساحر، شاشة باردة، بلا إحساس، بلا نبض الجمهور الذي يستمد منه قوته فوق خشبة المسرح. حتى وجد ضالته أخيراً في «غزل البنات» الذي اجتمع فيه مع أقرانه من عمالقة الفن في عصره.
رؤيته لفيلم «غزل البنات» فتحت شهيته لنقل هذه الأحاسيس إلى خشبة المسرح، ففاجأ بديع خيري بأنه قرر العودة إلى المسرح، بل إنه تعجل العودة وبأي شكل:
= هو أنت تبعد عن المسرح فجأة… وبعدين تقرر فجأة إنك ترجع ومن غير مقدمات.
* تعرف إن فيلم «غزل البنات فتح نفسي أوي.
= المفروض يفتح نفسك للسينما مش للمسرح.
* لا… يا بديع. الفيلم فيه كمية مشاعر وأحاسيس تخلي الحجر ينطق.
= أنت شوقتني أشوف الفيلم. مش كنت تاخدني معاك وأنت بتشوفه.
* يا سيدي كلها كام أسبوع وينزل السينمات.
= المهم خلينا في حكاية المسرح دي. هنكتب أيه؟
* أنا لسه هاستني لما نكتب. مفيش وقت.
= مفيش وقت على أيه؟ ما لسه الموسم يا دوب… يعني قدمنا من مايو لحد أكتوبر.
* بصراحة أنا مش قادر استنى. نعمل كام مسرحية من الريبرتوار… لحد ما نلاقي حاجة جديدة.
= خلاص من بكره على عماد الدين.
* عماد الدين أيه والصيف هجم… الراجل صاحب تياترو الهمبرا في إسكندرية بقاله فترة بيلح عليا. إحنا نطب عليه بكره.
في مسرح «الهمبرا» في الإسكندرية، بدأ نجيب يقدم عدداً من «الريبرتوار» لمسرحيات سابقة له، وبسبب ابتعاده فترة طويلة عن المسرح، وعن جمهور إسكندرية تحديداً، استقبله الجمهور في الليلة الأولى استقبال الفاتحين، لدرجة أنه ظل يصفق حتى بكى الريحاني وأمر بإغلاق الستار، ثم عاد بعد خمس دقائق لاستئناف التمثيل، فاستقبلته عاصفة جديدة من التصفيق.
«في ستين سلامة»
بعد الليلة الثالثة، شعر نجيب بسخونة وضعف ورجفة تسري في جسده… قاومها في البداية، وحاول النهوض، لكنه سقط على الكرسي، فانخلع قلب بديع خيري:
= نجيب… مالك سلامتك؟ حاسس بأيه؟
* أنا تعبان يا بديع. تعبان أوي.
= نجيب دكتور… فوراً نجيب دكتور.
* لا مش هاينفع… هات عربية وروحني.
= ماشي… هو الأوتيل مش بعيد. حالاً.
* لا بديع… روحني مصر. أنا عاوز أروح بيتي. بس الأول اتصل بتوفيق أخويا خليه يكلم الدكتور عمر الدمرداش… خليه يستناني في البيت.
عاد نجيب إلى القاهرة منهك القوى، كان في استقباله الدكتور عمر الدمرداش طبيبه الخاص، الذي كشف عليه:
* أيه يا دكتور؟ خير أنا حاسس أني بترعش وبردان مع أننا في يونيو والجو زي ما أنت شايف… هو أيه اللي بيحصل.
= ما تجهدش نفسك يا نجيب… هديك حقنة تهديك.
* أيوه حقنة أيه؟ وأنا عندي أيه؟
= أنت كلت أيه إمبارح؟
* أنت شايف الذاكرة ما شاء الله أوي… وعلى كل زي كل يوم… في الغدا حتة أرنب وشوربة وسلطة… وفي العشا زبادي. ليه بس طمني؟
= أنا مشتبه في تيفويد.
* تيفويد مرة واحدة… معقولة يعني دي النهاية؟
= نهاية أيه يا عم نجيب. الطب اتقدم… دلوقت في مضاد حيوي بنسلين… وبعدين أنا بقول اشتباه.
تأكد الطبيب من أن الريحاني يعاني «التيفويد»، لكن لم يكن المضاد الحيوي اللازم له موجوداً في مصر، فأرسل فوراً وأحضره من ألمانيا، وبدأ علاج نجيب في بيته، تمرضـه خادمـته اليونانيـة كريستين. لكن الطبيب عمر الدمرداش وجد أن حالته لم تتحسن وأمر بنقله إلى المستشفى، فاصطحبه بديع خيري وشقيقاه.
وصل المضاد الحيوي «الاكرومايسين» من ألمانيا، وقام الطبيب بحقنه بالجرعة الأولى، وبدت عليه علامات التحسن، فطلب نجيب من شقيقيه وبديع خيري مغادرة المستشفى، فغادر شقيقاه وأصر بديع خيري أن يبقى بجواره، ولم يبرح مكانه إلا في الثانية عشرة والنصف من ظهر اليوم التالي، حيث بـدا نجيب في عافيـة وصفـاء.
* قوم روح يا بديع ريحلك شويه.
= يا سيدي مين قالك إني تعبان. أنا هفضل جنبك لحد ما تقوم بالسلامة.
* ما تخفش… مش هموت دلوقت.
= ولزومه أيه تجيب سيرة الموت دلوقت.
* الموت راكب على كتافنا وماشي معانا من يوم ما بنتولد… لحد ما تيجي الساعة يروح متدور ونازل واخد الأمانة وطالع.
= نجيب. أنا قلبي بيوجعني. بلاش السيرة دي.
* ما كنتش أعرف أنك خواف أوي كده… طب أيه رأيك بقى أنا كتبت النعي بتاعي من ساعة ما رجعت من الإسكندرية… أهه… خد اقراه.
= مش هاقرأ حاجة.
* أنت حطيت الورقة في جيبك ليه… كنت عاوزك تقراه علشان تنشره لما صاحبنا يتدور وياخد الأمانة.
لم يكد بديع يصل إلى بيته ويخلع ملابسه، حتى فوجئ باتصال هاتفي:
= ألو… مين؟
ـ أنا كريستين يا أستاذ بديع. الأستاذ عاوزك حالا.
= خير يا كريستين… في حاجة.
ـ لا أبداً… بس هو قالي اتصل بحضرتك علشان تيجي حالا.
عاد بديع إلى المستشفى وهو يفكر لماذا طلبه نجيب بهذه السرعة، وأراد أن يسأل كريستين أولاً، غير أنه قرأ الخبر على وجهها…
مات رفيق العمر… مات رفيق الإبداع. مات الفليسوف الضاحك… الفيلسوف العاشق، الذي عشق فنه ووطنه وقدم الكثير لأجله ولأجل الفن… مات نجيب الريحاني.
مات نجيب من دون أن يكتب له القدر أن يدخل القصر الفخم التي كان قـد فرغ من بنائه، فلم تكد أعمال التشطيب النهائيـة تتم حتى فارق الحياة… من دون أن ينام ليلة واحدة في قصر «الأحلام».
بعد ساعات من رحيله يوم الأربعاء 8 يونيو عام 1949، دخل محرر «آخر ساعة» شقتة في عمارة الإيموبيليا ليسجل ما وجده فيها: «44 بدلة، و20 بيجامة وجلباب للنوم، و15 زوج أحذية، ووجد بجوار السرير المصحف الشريف، وصورة للقديسة «سانتا تيريزا» ومذكرات تشرشل بالفرنسية، وكتاب «حسن البيان في تفسير مفردات القرآن» و»ألفية ابن مالك»، وبعض روايات شكسبير وأخرى لموليير، وكلبته الوفية «ريتا» التي امتنعت عن الطعام حزناً عليه حتى توفيت بعد يومين من رحيله.
أمر الملك فاروق بأن يخرج نجيب الريحاني في جنازة رسمية، وتصوير جنازته سينمائياً، وشاهد الملك الفيلم الذي جاءت مدته 18 دقيقة، ودهش عندما شاهد أكبر جنازة في تاريخ مصر المعاصر، فقد قدر من ساروا في جنازته بخمسة ملايين مواطن، بين مصريين وأجانب من مختلف الأطياف والمناصب، ومختلف فئات المجتمع.
عاد بديع خيري من تشييع جنازة أحب الناس إلى قلبه… في طريقه إلى بيته تذكر الورقة التي أعطاها له نجيب ووضعها في جيبه من دون أن يقرأها، أخرجها فإذا به يجد مكتوباً فيها:
«مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء… هذا إن كان للسماء طوب. مات الذي لا يعجبه العجب… ولا الصيام في رجب… مات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق… ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح… مات نجيب الريحاني.
في ستين سلامة».