انت شايفني ناقصة رجل ولا إيد... ولا يمكن عورة ولا خرسا. ولا |\@!ّ!×# .. زينات صدقي

السيب

Active Member
طاقم الإدارة
post_old.gif
20-07-2013, 01:44 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif
انت شايفني ناقصة رجل ولا إيد... ولا يمكن عورة ولا خرسا. ولا يمكن... زينات صدقي
زينات صدقي








المصدر : الجريدة
 
20-07-2013, 01:47 PM
البريمل
user_offline.gif

/ بنت بحري... زينات صدقي (1)
بنت بحري... زينات صدقي (1)



الأربعاء 10 يوليو 2013 - الساعة 00:02
لم يصنع زمن الفن الجميل الأبطال والنجوم فحسب، بل قام ممثلون كثيرون بأدوار العامل المساعد أو {البسمة}، أبرزهم عبد السلام النابلسي، عبد الفتاح القصري، حسن فايق، استيفان روستي، وعبد المنعم إبراهيم، وغيرهم، في حين كان ينفرد بالقمة بين هؤلاء وحده إسماعيل ياسين. أما قمة النساء فتقاسمتها اثنتان من أهم رائدات الفن المصري: ماري منيب وزينات صدقي. ولم يكن صدفة أنهما اقتسمتا القمة وحملتا شهادة تخرجها فنياً بتوقيع عملاق الكوميديا نجيب الريحاني.
في سيرتنا الدرامية للشهر الفضيل، نفرد الصفحات لزينات صدقي التي أغدقت الضحكات على جمهورها فبادلها ابتسامات لامحدودة.

1-z1.jpg

3-z1.jpg

2-z1.jpg

كتب الخبر: ماهر زهدي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (الأخيرة) ... رحل «يا مولاي كما خلقتني»
نعيمة عاكف... التمر حنة (الأخيرة) ... «اللقاء الأخير»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (14) ... صدمة الرفاق في انفصال «المهندس وشويكار»
نعيمة عاكف... التمر حنة (29) ... «يا حبيبي»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (13)

ستظل معايير النجومية وشروطها لغزاً يحير صانعي السينما والنقاد على حد سواء، فكلما وضعوا رهانهم على معايير واضحة محددة فوجئوا بالجمهور يضرب بها عرض الحائط، ويضع معايير جديدة لم يكن يتوقعها حتى شيوخ الصناعة وروادها. اختلفت هذه المعايير من جيل إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، وفقاً لاختلاف نسب الجمال والثقافة، ومفهوم العصر للرومانسية، غير أن ما تم الاتفاق عليه في العصور كافة وبين الأجيال كافة، وكان بمثابة العامل المشترك الأكبر هو {خفة الظل} التي تمثل {سر خلطة النجاح} واعتبرها البعض بمثابة {الملح} الذي تُضبط به {خلطة النجاح}.
فإذا كانت {خفة الظل} أو الكوميديا هي الشرط الأول والأساسي لتحقيق النجومية في العصر الحالي، فإنها كانت عنصراً مساعداً في عصور سابقة، إلى جانب الجمال والثقافة والرومانسية، التي كانت بمثابة شروط النجومية الأهم، لذا كان لا بد من الاستناد إلى عامل مساعد، يطلقون عليه بلغة أهل السينما لقب {السنيد} ليكون هو عنصر الكوميديا في العمل، أو {الملح} الذي يضبط {الخلطة} لضمان نجاحها.
هذا الفنان {السنيد} رجلاً كان أو امرأة، لم يكن دوره مقصوراً على القيام بدور صديق البطل أو البطلة، يتلقى الهموم والمشاكل، ويسمع الحكايات، بل كان دوره يمتد إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك، ليكون بمثابة البسمة أو الضحكة التي يعجز البطل أو البطلة عن تقديمها للجمهور، لتكتمل نجوميته لديه.
ولأن نجوم العصور السابقة للسينما المصرية كان يتم اختيارهم وفقاً لنظريات مسبقة في الجمال والثقافة والرومانسية، فكان لا بد من وضع {بسمة} إلى جوارهم في كل فيلم لتضمن نجاحه، وبها تكتمل نجومية بطل أو بطلة العمل. ولم تكن هذه {البسمة} أو الفنان {السنيد} يقل أهمية عن بطل الفيلم، في كثير جداً من الحالات، بل وصل الأمر إلى أنه في بعض الحالات كانت تزيد شهرة {السنيد} عن بطل الفيلم، وفي حالات خاصة كان يزيد عنه في الأجر، وهذا تحقق مع الفنان إسماعيل ياسين كسنيد قبل أن يصبح نجماً منفرداً، حيث وصل أجره في كثير من الأفلام التي لم يقم هو ببطولتها إلى ضعف أجر بطل الفيلم، حيث كان وضع اسم إسماعيل ياسين على ملصق الفيلم كفيلاً بأن يضمن نجاحه. ووصل الأمر إلى أن كبار النجوم كانوا ينتظرونه ليفرغ من أعماله ويشاركهم بطولة أفلامهم، لدرجة أن الموسيقار المطرب فريد الأطرش كان يمكن أن يؤجل تصوير فيلمه الجديد عدة أشهر إلى حين فراغ ياسين من ارتباطاته الفنية الأخرى، كذلك محمد فوزي وكمال الشناوي، وغيرهما!

بسمة الفن

زينات صدقي أشهر كوميديانات الوطن العربي، لم تكن نجمة أولى فوق الملصق أو شارة الفيلم، لكنها كانت نجمة أولى في الكوميديا وخفة الظل. بل وندر ألا يعتمد عليها مخرج أو منتج في عمل له، لدرجة أن نجمات ذلك الزمان كن يتسابقن للعمل معها، وليست هي من سعت إليهن. وعلى رغم نمطية الشخصية التي قدمتها طيلة مشوارها الفني تقريباً، فإنها تفردت بها... وتفوقت من خلالها.
خفة دم، وأسلوب خاص من نوعه في أداء متفرد، لم يسبقها إليه أحد، لكن ربما حاولت كثيرات بعدها تقليدها ففشلن، لأن الأصل لا يزال راسخاً في أذهان محبيها، صاحبة «القبعة ذات الريش» التي تفاجئك بأنها تضع فيها «كتاكيت».
لم تكن تحفظ أدوارها في النصوص التي تجسدها فوق خشبة المسرح، أو السيناريوهات التي تسند إليها لتقدمها على شاشة السينما، ليس لأنها أمية تجهل القراءة والكتابة كما يظن كثيرون، فقد نالت حظاً معقولاً من التعليم الإلزامي والابتدائي، بل والتحقت بمعهد التمثيل في الإسكندرية أيضاً. لكنها لم تكن تحفظ أدوارها لأسباب أخرى تماماً، فكانت تؤمن بأن الإبداع حر لا يمكن تقييده بقيود ثابتة، تقرأ النص المسرحي، وما إن تصعد إلى خشبة المسرح، حتى تدخل إلى الشخصية، وتنسى زينات وتتذكر الشخصية فحسب، وتتركها تتصرف كما لو كانت تتحرك أمامها، وليس لزينات وجود.
كذلك في السينما، كانت تقرأ السيناريو والحوار، وما إن تدور الكاميرا حتى تنطلق ولا يستطيع المخرج أن يوقفها. تؤدى المشهد، ليس كما كتبه المؤلف ويريده المخرج فحسب، بل ربما أفضل مما تصورا، على رغم أن الجمل التي تنطق بها ليست هي تماماً المكتوبة، لكنها تؤدي المعني وأفضل منه.
لذلك تجدها مختلفة في كل مرة. فعلى رغم نمطية الأدوار، فإنها في كل مرة كانت تدهشنا بالأداء مع كل فيلم جديد لها، تقع في حب إسماعيل ياسين، ولا تتورع أن تلعب معه لعبة «القط والفأر»، ويوافقها والدها عبد الفتاح القصري خوفاً من لسانها السليط، وتعاني لوعة الحب من طرف واحد مع عبد السلام النابلسي، بعد ليال طوال أمضتها «سنية ترتر» في أحضان «الوسادة الخالية».


جمال أوروبي

تشبه زينات صدقي «بنت بحري» مدينتها «الإسكندرية» فهي تحمل في ملامحها الجمال الأوروبي، بالوجه الأبيض المشرب بحمرة، والعينين الملونتين، غير أن روحها كانت مصرية تحمل البصمة الإسكندرانية. كانت إذا ارتدت الملابس الفاخرة والحلي والمجوهرات، بدت وكأنها سيدة أرستقراطية من أكبر عائلات حي «زيزينيا» الأرستقراطي، وإذا ارتدت «الجلباب البلدي، والملاية اللف، ومنديل الرأس» فلست في حاجة إلى التأكيد على أنها «بنت بحري» الدافئة الحنون، التي تملؤها الطيبة، غير أنها تسيطر عليها أحاسيس متناقضة مثل البحر، يمكن أن ترتفع بها إلى قمة الثورة والاندفاع، ثم تعود إلى الهدوء والصفاء.
يمكن أن تكتشف ذلك كله وأكثر منه، عندما تقترب من مسقط رأس زينات في «حي بحري» الذي يلخص بدوره أيضاً مدينة الإسكندرية بأكملها، لذا فإن كل من يعيش في هذا الحي يفخر بأنه إسكندراني أصيل، فهناك إحساس حميم يغمر كل من يخترق حدود الحي. من رائحة البحر المفعمة
بـ «اليود» المنعش، إلى قوارب الصيد المتناثرة على صفحة مياه الميناء الشرقي لعروس البحر المتوسط، مروراً بالصيادين الباسطين شباكهم والعارضين حصيلة صيدهم من الأسماك الطازجة، والعربات التي تجرها الخيول... تلك المشاهد كافة تؤكد لك في بساطة أنك في «حي بحري» بالقرب من قلعة «قايتباي» الشهيرة في الإسكندرية. حي تتجاور فيه قصور الأسرة العلوية... مع بيوت الفقراء من أهل الحي، في تناغم اجتماعي يزيل أي فوارق اجتماعية بين الطرفين. شوارع الحي وحواريه ترسم لوحات غارقة في الجمال على رغم عوامل التعرية التي تركت بصماتها على ملامحها.

ولاد بحري

خلال سيرك في شوارع حي بحري، تكتشف أنه يكاد يكون الحي الوحيد بين أحياء الإسكندرية الذي تغلب عليه حياة البحر، فهو الوحيد الذي يحيط به البحر من ثلاث جهات، ما أجبر قاطنيه على امتهان أعمال الصيد وبيع الأسماك وصناعة الشباك والسفن، كذلك يعد أحد أحياء الإسكندرية القديمة جداً حيث سكن المغاربة وبعض الأجانب منذ عهد المماليك، وعاش عدد من الأتراك مع بدء الاحتلال العثماني لمصر. اشتهر الحي أيضاً بملابس أهله المميزة منذ تلك العهود وربما قبلها، فالنساء كن يرتدين الملابس المزركشة بألوانها المبهجة ويضعن عليهن عند الخروج ما يشبه العباءة ويطلق عليها «الملاية اللف». أما الرجال فكانوا يرتدون السروال الإسكندراني الشهير، الذي يجعلهم يتحركون بسهولة ويسر، وفوقه الصديري المطرز، ومن شدة شهرة تلك الملابس صارت تمثل الاسكندريين في الرقصات الفلكلورية.
تأكيداً لمقولة إن حي بحري يلخص كل مدينة الإسكندرية، تجد أنه رغم شعبيته وطراز الفريد، فإن الحي ينفرد أيضاً بأماكن تجمعات النخبة والصفوة، حيث نادي اليخت والنادي البحري اليوناني ونادي الصيد ونادي الكشافة، بل إن الأكثر إثارة للدهشة أن ملوك العالم وأمراءه كانوا يحضرون إليه ليحلوا ضيوفاً عليه عند حضورهم في زيارات رسمية إلى مصر، فيقيمون في أفخم قصور مصر الملكية، وهو قصر «رأس التين» الذي يعود تاريخه إلى عهد والي مصر محمد علي باشا الذي أدرك أهمية هذه المنطقة بالنسبة إلى مصر، فأنشأ فيها «سراي رأس التين» عام 1834 لتكون القصر الصيفي لإدارة شؤون مصر. استغرق بناء القصر 11 عاماً، وشارك في تشييده مئات العمال المصريين والفنيين الأجانب وأشرف على تصميمه ثلاثة مهندسين فرنسيين، وقد امتدت يد التطوير إلى القصر في أكثر من عهد، فأعيد بناؤه في عهد الملك فؤاد على طراز يتماشى مع روح العصر، وألحقت به محطة للسكك الحديد تصل إلى داخل القصر خصصت لتنقلات المقيمين به، ثم أنشأ به الملك فاروق حوض سباحة كبيراً، وزاد من مساحة حديقته التي امتلأت بكثير من أصناف الزهور والمزروعات النادرة. أما تسميته بـ «رأس التين» فتعود إلى أن المنطقة التي أقيم بها كانت تسمى «روضة التين» حيث كانت تزرع أشجار التين بكثرة. حتى إنها وصلت إلى الميناء الغربي بطول يبلغ 2650 متراً بالاتجاه نحو الجنوب الغربي.
كان وجود القصر في حي بحري سبباً لمرور المواكب الملكية بشكل دائم في شوارعه وكانت تصطف خلالها الفرق الموسيقية والعربات التي تجرها الخيول لتحية الملك، وكانت المواكب لا تكتمل إلا بخروج أهالي الحي لتحية الملك وضيوفه، ما جعل الحي الفقير يسكن ذكريات أعظم رؤساء العالم وملوكه. ملامح الصورة لا تقتصر على هذه اللقطات، فكما كان القصر مسرحاً لكثير من الأحداث السعيدة، كان أيضاً شاهداً على كثير من المراحل التاريخية المهمة في تاريخ مصر، فقد شهد وفاة الوالي محمد علي باشا عام 1848، تلتها وفاة ابنه الوالي محمد سعيد باشا عام 1854. كذلك شهد مغادرة الملك فاروق لأرض مصر على اليخت الملكي الشهير «المحروسة» عام 1952 بعد تنازله عن العرش لنجله الأمير أحمد فؤاد عقب قيام ثورة 23 يوليو. يذكر التاريخ أيضاً أن أول صورة فوتوغرافية في مصر وإفريقيا التقطت في عام اختراع الكاميرا في فرنسا 1839، والتقطها المصور الفرنسي هوارس فرنيه، وكانت لمبنى الحريم في قصر «رأس التين».
لذلك كله يحرص أهل «حي بحري» دون بقية أحياء الإسكندرية، على الاحتفاظ «باللهجة الاسكندرية الشهيرة»، فضلاً عن أنهم يحتفظون بكثير من العادات والتقاليد التي اندثرت من بقاع كثيرة من مدينة الإسكندرية، بالإضافة إلى وجود بقايا من صناعة السفن وقوارب الصيد، لذا تجد منظراً شائعاً يتكرر كل صباح، وهو رحلة الصيادين الهواة والمحترفين الذاهبين في الصباح الباكر إلى جوار منطقة «قلعة قايتباي» لصيد الأسماك الهواة يحملون «السنانير» بينما يخرج المحترفون في قوارب الصيد يحملون «الشباك» على اختلاف أنواعها. وإذا لم تكن من هواة صيد الأسماك، ولكن من آكليها، فيمكن أن تجذبك «حلقة السمك» في «الأنفوشي»، لشراء احتياجاتك من الأسماك والكائنات البحرية، خصوصاً وقت المزايدات في الصباح الباكر بعد الفجر، حيث تعلو الأصوات والمزايدات لشراء الأسماك الطازجة التي تم اصطيادها في الليل. ثم تنطلق لتستمتع بالأجواء الروحانية التي تشيع في الحي كله صفاء ونورا، عندما تمر بمسجد ومقام سيدي «المرسي أبي العباس» لتزور، أو أن يقودك الحظ لحضور «ليلة المولد» حيث يأتي أتباع «الطرق الصوفية» من كل حدب وصوب، إضافة إلى المحبين والعاشقين الذين يتجولون طوال العام من مولد إلى آخر، إلى أولياء ومشايخ آخرين يضمهم الحي أيضاً مثل «أبو الدرداء» الذي يطلق عليه العامة «أبو الدردار» و»ياقوت العرش» إضافة إلى مدافن «التابعين» الذين هاجروا إلى مصر في فترات مبكرة من تاريخ الفتح الإسلامي.

بنت بحري

وسط هذه الأجواء التي تحوي خلطة تاريخية بين الفرعوني واليوناني والروماني، والقبطي والإسلامي، منصهرة في بوتقة شعبية مصرية، اختار محمد سعد حفيظة حسن من بين بنات بحري ليتزوج منها، فتاة من عائلة إسكندرانية أصيلة مثله تماماً، لها أصل معروف، والدها أحد ضحايا البحر في إحدى رحلات الصيد التي كان يخرج لها، فيما ورث محمد وأشقاؤه مهنة صناعة القوارب عن والدهم، وورثوا عنه أيضاً صيته الذائع في مهارته المهنية.
لم يتعرف محمد سعد إلى طباع زوجته فقط بعد الزواج، بل إنه اكتشف أيضاً جمالها، كعادة أهل ذلك الزمان، الذي لم يصدق أنه لفتاة مصرية إسكندرانية أصيلة، لها جذور تمتد إلى صعيد مصر، ولولا بساطة ملابسها لظن من ينظر إليها أنها ابنة إحدى الجاليات الأجنبية الموجودة في الإسكندرية.
فتاة جميلة هادئة الطباع، لكنها جريئة. اكتشف محمد طباع زوجته التي لم تكن تشبه طباع زوجات التجار، أو حتى طباع زوجات أشقائه، فلم تكن تهوى الحلي أو شراء الذهب مثلما تفعل زوجات التجار في ذلك الوقت في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، ما لفت نظر زوجها محمد:
* أنا عاوز أعرف... هو انت مش ست زي بقية الستات؟
- بسم الله الحفيظ. ليه كدا؟ انت شايفني ناقصة رجل ولا إيد... ولا يمكن عورة ولا خرسا. ولا يمكن...
* بس بس. هو أنا أقولك كلمة واحدة... تردي بعشرة.
- اوعك تكون شايفلك شوفه ولا حاجة يا سي محمد.
* يا ست لا شوفة ولا يحزنون. الحكاية وما فيها إني بشوف نسوان تطلب من أجوازها كل يوم والتاني حتة أسورة... تعبان... جوز خلخال. وأنت من يوم ما أتجوزنا... كام سنو أهو وانت لا طلبتِ دهب ولا حتى قشرة!
- الله يجازيك بالخير يا سي محمد. خضتني... أنا قلت إن في حاجة.
* لا حاجة ولا حجة. كل الحكاية أنك ملكيش طلبات زي بقيت «النسوان».
- يا أخويا ما تشغلش بالك. أنا أول ما أقوم بالسلامة لازم أغرمك وأخليك تجيبلي أسورة تعبان براسين... وتجيب للولد كف بخمسة صوابع نعلقه على قورته علشان الحسد.
* انت كنت دخلتي في علم الغيب وعرفتي أنه ولد.
- أنا بقول اللي في نفسي. وإن شاء الله هييجي المرة دي ولد.
* طب إيه رأيك بقى أنا حاسس أنها برضه هاتكون بنت.
- تاني... انت ما شبعتش بنات. ما كفاية أربع بنات.
* يا وليه البنات رزق وخير من عند ربنا. وبعدين دا لسه بدري على الولادة. ما تيجي ننزل دلوقت أجيبلك اللي نفسك فيه.
* اللي نفسي فيه بصراحة حاجة مكسوفة نقولك عليها... وخايفة تزعل منيّ.
* حاجة نفسك فيها. وخايفة أني أزعل... دا انت لو طلبت لبن العصفور مش ممكن أزعل.

مهما حاول محمد سعد أن يخمن أو يتوقع ما ستطلبه زوجته، لم يكن خياله يصل إلى ما ستطلبه منه، لأنه سيكون في نظره ونظر كثيرين، أصعب بالفعل من «لبن العصفور»!

البقية في الحلقة المقبلة

الفنانة

أطلق النقاد على زينات صدقي كثيراً من الألقاب: «بنت البلد، خفيفة الظل، ورقة الكوميديا الرابحة، العانس»، وكلها ألقاب أحبتها لأنها كانت تقربها من الجمهور. غير أن أفضل لقب عشقته هو لقب «الفنانة»، فقد عشقت الفن ولكنها لم تدخل من باب المسرح أو السينما، وعلى رغم ذلك أعطياها الكثير. قدمها المسرح ثم أعادت السينما اكتشافها، وأصبحت القاسم المشترك في غالبية أفلام نجوم زمانها: يوسف وهبي، نجيب الريحاني، محمد فوزي، أنور وجدي، إسماعيل ياسين، كمال الشناوي، عبد الحليم حافظ، في أدوار الخادمة أو الجارة أو الحماة. ثم شاركت فاتن حمامة، شادية، ماجدة، مديحة يسري، سعاد حسني، وغيرهن من نجمات السينما المصرية، في الأدوار نفسها تقريباً، ولكن بأداء مختلف، لدرجة أن الأفلام التي شاركت في بطولتها تجاوزت 400 فيلم، دارت جميعها حول شخصيات بعينها من بينها: الأم أو الحماة «سليطة اللسان»، «الخادمة» التي تستخدم حيلتها لتنقذ البطلة من مأزق وأحياناً تكون هي السبب في هذا المأزق، أو «بنت البلد الماكرة» التي لا تتورع أن تستخدم أظفارها ضد كل من يقترب من كرامتها التي تعتز بها، على رغم فقرها وعوزها.
نجحت زينات صدقي في أن تحتوي هذه الأوصاف كافة، و{الأصناف» إن جاز التعبير، فقد برعت في أداء شخصية «العانس» التي تبحث عن عريس... أي عريس، على رغم جمالها الظاهر وعينيها الملونتين. وكما برعت في دور «سليطة اللسان» برعت أيضاً في دور الأم الحنون لغالبية نجوم السينما المصرية ونجماتها.





images





images





images





images














3-z1.jpg



2-z1.jpg
 
التعديل الأخير:
20-07-2013, 01:52 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif



الخميس 11 يوليو 2013
جلس الزوج محمد سعد ينظر إلى زوجته في دهشة، وهي تبادله النظر، كانا صامتين، على وجه حفيظة ابتسامة عريضة، لم يستطع زوجها أن يفسر معناها، فهي تخشى أن يكون طلبها صادما له، وهو يظن أنها ستطلب مستحيلا قد يعجزه، ولكن حتى لو كان مستحيلا، أو كما يقول المثل ستطلب “لبن العصفور” فهو على استعداد لأن يلبي طلبها.




2-z2.jpg

1-z2.jpg

3-z2.jpg






كتب الخبر: ماهر زهدي
T+ | T-
كان محمد سعد قادراً على تلبية طلبات زوجته، ليس حباً فيها فحسب، ولكن لأنه لم يعتد منها أي طلبات منذ زواجهما، لذا يتمنى أن تطلب، حتى فوجئ بما طلبت:
* إيه؟! قولي تاني... عاوزين نسمعوا اللي قولتيه.
- يبقى انت زعلت. خلاص كأنك ما سمعتش.
* هو إيه أصله دا؟ ما تتكلمي عايزه إيه؟
- ما قولنالك... عايزة عود. عود من اللي بيمسكوه الصييته وهم بيغنوا.
* عود!! أيوووه وأنا اللي كنت فاكرك ما تعرفيش حاجة وعلى نياتك.
- ما تكسفنيش بقى يا سي محمد.
* مش هاكسفك... بس انت عرفتي العود دا منين وامتى وفين؟
- كان جيرانا في الأنفوشي عيلة كبيرة بيجوزوا بنتهم الحيلة وكانوا جايبين في ليلة الحنة الست «بمبه العوادة». ي اسلام لو شفتها وهي قاعدة ماسكة العود وبتغني. من ليلتها وأنا نفسي أمسك العود دا وأدق عليه.
* وآني مش هانخلوا نفسك في حاجة يا حفيظة.
لم يجرؤ محمد سعد على البحث عن أماكن بيع الآلات الموسيقية أو شراء العود بنفسه، وإلا أصبح أضحوكة بين الأهل والجيران، بل كلّف أحد الأصدقاء العارفين في بواطن أمور «الآلاتية» كما كان يُطلق على الموسيقيين وقتها، أماكن تجمعهم وأماكن بيع آلاتهم، ولم ينس أن يوصيه بأن يكون ذلك سراً يكتمه عن أقرب المقربين إليه، وأن يكون التسليم بعد منتصف الليل بعيداً عن العيون، كتجار المخدرات!
رغم شراء محمد العود، ودخوله إلى بيته بالفعل، إلا أن زوجته حفيظة لم تره أو تلمسه بيديها، ليس لشيء، إلا لأن آلام الوضع داهمتها في الليلة نفسها التي دخل فيها العود إلى بيتها، وفي فجر العشرين من مارس 1913 وضعت حفيظة مولودها، وجاءت أنثى، فأطلق عليها والدها اسم زينب، ليصبح لدى محمد سعد وحفيظة خمس إناث: سنية، رسمية، دولت، فاطمة، وزينب:
- جت بنت يا أبو البنات.
* المهم الحمدلله على سلامتك... البنات رزقها واسع ووش خير.
- ربنا يوسع في رزقك قادر يا كريم.
* أهم حاجة أن زينب طالعه جميلة لأمها.
- دي الخالق الناطق انت بعنيك الخضرا.
* المهم بس يلا شدي حيلك وقومي بالسلامة. علشان أنا نادر نعملوا ليلة لأهل الله نأكلوا فيها الغلابة... ونجيبوا فيها صييته تغني للصبح.
أوفى محمد بعهده وأقام ليلة من الليالي التي يُحكى عنها بين أهالي حي الجمرك، غنى للنساء فيها «الست بهية المحلاوية» وقدمت طقطوقة «خليك على عومي يا موج البحر»، في حين غنى للرجال المطرب زكي أفندي مراد طقطوقة «شوفته بعيني»:
شوفته بعيني ما حدش قال لي
بيحب والحب ظهر لي
كنت أهواه وروحي فداه
لقيته قليل الود وبان لي
وحياتك ما اقعدشي معاك
ولا أعرفك من هنا لهناك
وهب الله حفيظة صوتاً رائعاً، لدرجة أنه كان من الممكن أن تكون سبباً في اعتزال كثيرات من مطربات زمانها، لو أنها فكرت أن تحترف الغناء، غير أن هذه الفكرة لم تكن واردة على الإطلاق على ذهنها، ليس لأنها زوجة رجل ابن بلد حريص على العادات والتقاليد، ولكن حتى عندما اكتشفت ذلك وهي لا تزال في بيت أسرتها قبل الزواج، لم يكن يخطر في بالها أن تتخذ من الغناء مهنة لها، وهي المهنة التي ينُظر إليها بازدراء، ولمن يمتهنونها هي والرقص والتشخيص، على أنهم مواطنون من الدرجة الثالثة، غير أن ذلك لايمنع من أن تقوم الزوجة بالغناء لزوجها فقط، والرقص إذا لزم الأمر، لكن على أن يتم في أضيق الحدود وفي سرية تامة، حتى على أهل البيت الواحد، مثلما كان يفعل محمد سعد، فعلى رغم أنه يعيش في بيت مجاور تماماً لبيت شقيقه، إلا أن شقيقه محمود وزوجته لم يكونا على علم بصوت حفيظة الجميل، كما لم يعلما، بالطبع بأمر وجود العود في بيتهما، رغم محاولات زوجة محمود تقصي حقيقة ما يدور في بيت محمد:
* هم الضيوف كانوا هايباتوا عندكم إمبارح ولا إيه يا حفيظة؟
- ضيوف؟! ضيوف مين؟
* الضيوف اللي كانوا عندكم إمبارح... دا فضلوا لبعد العشا بزمن وإحنا سامعين صوت الست اللي كانت بتغني وانتو تردوا وراها.
- ضيوف... آه. ضيوف... لا... دا آه.
* هو إيه اللي لأ وآه دي. عليها صوت جميل بشكل. ما تبقى تعزميهم عندنا يا أختي مرة علشان نسمعوا صوتها الجميل دا.
- هم مين يا وليه اللي أعزمهم؟ انت جرى في مخك حاجة؟
* أيووه... اخس عليك. هو إحنا مش قد المقام.
- يا وليه يا عبيطة اللي كان بيغني دا البتاع دا اللي اسمه... اسمه فو... فو... فونوغراف.
* آيوا آيوا عارفاه. شوفته في بيت ملك هانم مرات البيه عزيز.
- أهو هو دا يا ستي الفونوغراف اللي سمعتي صوته.
* طب والمرسي أبو العباس ليكون عندى الأسبوع دا.
لم تهدأ زوجة محمود حتى اشترى لها الفونوغراف، ليزين بيتها، كحال كل البيوتات العريقة، ليس هذا فحسب، بل كانت تحرص كل الحرص على أن تسير على خطى حفيظة في كل شيء، ليس حباً في ما تفعله بل غيرة منها. الأهم من ذلك كله أنها لم تكن تفوت فرصة من دون أن تثير مواجعها وتذكرها بأنها لم تنجب ولداً وكل خلفتها إناث، الأمر الذي كان يحزن حفيظة، ليس حباً في الذكور أو كرهاً في إناثها، لكن خوفاً من أن يكون ذلك سبباً لأن يهجرها زوجها كما يفعل غيره عندما تنجب له زوجته إناثاً، فيتركها أو يطلقها، ويبحث عمن تنجب له الولد. غير أن ذلك لم يكن يغضب محمد، بل كان شديد الحب للإناث، وهو ما جعله يدلل كل بناته، خصوصاً الصغيرة زينب، بشكل مبالغ فيه، وما إن بدأت تتعود المشي حتى تعلقت بوالدها بشكل غير طبيعي، لدرجة أنها لم تعد تفارقه.
مع آخر ضوء لنهار كل يوم، كان محمد يعود من عمله، يتناول طعامه ثم يخرج إلى مقهى قريب من بيته يظل يتردد عليه الرواد حتى الساعات الأولى من الصباح، دون غيره من المقاهي التي أصبحت تغلق أبوابها مبكراً منذ اندلاع «الحرب الكبرى» (الحرب العالمية الأولى) رغم أنه قريب من «قلعة قايتباي».
وبينما يروح محمد كعادته اليومية يستعد للخروج، وإذا بزينب تتعلق فجأة بعنق والدها، وتلح في أن تصاحبه في رحلته اليومية إلى المقهى، هو ما لم تفعله واحدة من بناته اللاتي لم يتعودن هذا التدليل الزائد عن الحد، بل إن المفاجأة الأهم لحفيظة وبقية البنات رد فعل محمد على ما تطلبه زينب:
* خلاص. لبسيها وأنا هاخدها معايا.
- تاخد مين ياسي محمد.. زينب؟!
* أيوا... أمال هاخدك انت.
- زينب!! تروح معاك القهوة. يادي الجُرسة والهتيكة... دا الناس تاكل وشنا.
* ناس مين؟ ما حدش له حاجة عندنا. دي بنتي ولسه ما طلعتش من البيضة وشبطانة فيا. نكسرو نفسها ونقولولها لا. لبسيها يا وليه خلينا نخرجو بلاش غلبه.
لم تكن ليلة وانتهت، بل أصبحت عادة، ولم يستطع محمد أن يصمد طويلاً أمام إلحاح زينب عليه كل ليلة، حتى تحول الأمر إلى طقس شبه يومي، ما إن يبدأ محمد الاستعداد للخروج بعد عودته من عمله، حتى تبدأ زينب أيضاً الاستعداد للخروج معه من دون مناقشة للأمر.
لم تكن زياراتها اليومية للمقهى مع والدها مجرد زيارات عابرة لطفلة اجتازت عامها الثالث بأشهر قليلة، كان والدها يضعها على مقعد إلى جواره، لينشغل بالسمر ولعب «السيجا» مع الأصدقاء، بل كانت رحلتها إلى المقهى عملاً محبباً إلى نفسها لم تعد تستطيع الاستغناء عنه. كانت تجلس صامتة ترفض أن تحتسي أي مشروب، لأنها تشمئز من أن تشرب من كوب سبق وشرب منه غيرها في بيتها منذ أن بدأت تأكل وتشرب بمفردها، فما بالها وأكواب المقهى يشرب فيه أهالي الحي بأكمله. كانت تكتفي بسماع كبار المغنين والمطربين عبر الفونوغراف الموجود في المقهى، وتراقب الوجوه والقفشات والنكات بين الحضور.
طقوس ليلة الجمعة
لليلة الجمعة من كل أسبوع طقوس خاصة، ليس عند محمد سعد فحسب، بل عند كل العمال من «صنايعية، وحمالين وعمال بناء»، إذ يمثل لهم الخميس نهاية الأسبوع، ويليه يوم الإجازة، فيحلو السهر حتى الساعات الأولى من الصباح، البعض في الشوارع أمام البيوت، والبعض الآخر في المقاهي.
اعتادت حفيظة، بين الحين والآخر أن تقيم استعدادا خاصاً لليلة الجمعة، تقوم فيها بتحضير عشاء فاخر لا يخلو من اللحم، تبدأ بعده السهرة مع سماع إحدى الإسطوانات الجديدة، وتقدم خلال السهرة شراب اللوز، ولم يكن هناك من هو في سعادة الصغيرة زينب وهي تعيش هذه الأجواء، التي تكون غالباً محرمة على من هم في مثل عمرها، إلا أن والدها كان يصر دوماً على ألا يغضبها ويخضع لرغباتها حتى لو كانت ضد العادات والتقاليد، ورغبة الأم:
- أنا مش فاهمة بس ازاي تخلي بنت في سن زينب تسهر كدا لحد نص الليل.
* ياستي ما تسهر... خليها تنبسط هو حد معانا هايحاسبنا
- بس دا غلط. البنات ولاد العائلات لازم يناموا بدرى عيب لما يسهروا.
* هم ولاد العائلات بس اللي لازم يناموا بدري.. وبقيت ولاد الناس لا.. يا وليه سيبك من الكلام الفاضي دا. عيلة وشبطانه تقعد مع أبوها شوية نقولولها لا ونكسروا بخاطرها.
- وهم أخواتها مش زيها. دول بيناموا من بعد العشا دوغري. إلا دي دماغها مصفحة.
على رغم حب زينب الشديد ليوم الخميس وطقوسه الخاصة التي تقيمها والدتها من حين إلى آخر، إلا أنها أبدت استعداداً كبيراً للتخلي عن هذا الحب مقابل عشق جديد اهتدت إليه من تكرار ذهابها إلى المقهى، حيث اكتشفت أن ليوم الخميس في المقهى مذاقاً خاصاً. كان صاحب المقهى يدعو فرقة تمثيلية يطلق عليها «الشاعر» مكونة من رجل راو، يحفظ الكثير من السير الشعبية وسير الأبطال، يرويها إحداها بمصاحبة آلة «الربابة» فيما يقوم ثلاثة أفراد مشاركين له بتجسيد الشخصيات التي يرويها في الحكاية.
كان الراوي يبدأ بالغناء وقص الحكايات من بعد صلاة العشاء وحتى الثانية عشرة عند منتصف الليل، تتخللها راحة لمدة خمس عشرة دقيقة تقريباً، يتناول فيها وأعضاء فرقته بعض المشروبات.
كأنها تشاهد سحراً، رجل صوته شجي يقول كلاماً منظوماً مسجوعاً يصل إلى الآذان سهلاً، رغم وجود بعض الكلمات الفصحى صعبة الفهم، ليس على إدراك الصغيرة فحسب، بل على الكبار قبلها، وعلى رغم ذلك كانت أذناها تظلان صاغيتين، بينما كانت عيناها معلقتين بما يقوم به أعضاء الفرقة من حركات تمثيلية تجسد ما يحكي عنه الراوي، فتظل مشدودة طيلة الليل منتبهة كأنها تقوم بتخزين كل ما ترى وتسمع في الذاكرة التي لا تزال فارغة، وفي الوقت الذي يمكن أن ينعس فيه بعض رواد المقهى من العمال، بسبب الإجهاد بعد يوم عمل طويل، رغم الإثارة والتشويق اللتين يعرض بهما الراوي حكايته، إلا أن الصغيرة زينب لم يغمض لها جفن، وكانت تظل تتابع «شاعر الربابة» منذ اللحظة الأولى وحتى الختام:
ريم في البحر للأعداء أحوالا
يمم قيصر لما حان رحلته
فلم يجد عنده بعض الذي سالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة
من السنين يهين النفس والمالا
متى أتى ببني الأحرار يحملهم
إنك عمري لقد أسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا
ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غلبا أساورة
أسدا تربب في الغيضات أشبالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد
أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا
في رأس غمدان دارا منك محلالا
اعتادت زينب لقاء الخميس الأسبوعي، لدرجة أنها لم تعد تطيق الجلوس في البيت ليلة الجمعة، وكانت تظل منذ ظهيرة الخميس تقف عند باب البيت انتظاراً لقدوم والدها، وتركض لمساعدة والدتها في تحضير الماء الساخن ليغسل الوالد قدميه، بل كانت زينب تسارع قبل والدتها بغسل قدمي والدها، وتساعد أمها في إحضار “طبلية” الطعام ونقل الأطباق إليها قبل شقيقاتها، ليتناول الأب طعامه بسرعة ويلحق بالراوي قبل أن يبدأ، كي لا تفوتها كلمة منه.
موهبة فطرية
تبادل الأب والأم النظرات وهما يبتسمان لما تقوم به الصغيرة زينب، وهما يدركان سبب ما تقوم به، غير أن ما أدهشهما أن وجداها تقف أمام شقيقتها سنية وتردد بعض الجمل التي حفظتها من «شاعر الربابة» وباللحن نفسه الذي يردده. تبادل الأب والأم النظرات وهما في دهشة من أمر الصغيرة، متى حفظت ذلك؟ وهل حفظته من لقاء واحد مع شاعر الربابة؟ وكيف تردده من دون أي نشاز في اللحن؟
أصر محمد سعد أن يصطحب زينب ويذهبا معا في هذا اليوم مبكراً عن الموعد الذي اعتاد الذهاب فيه إلى المقهى، فقط ليلتقي تمام السوهاجي شاعر الربابة، ليدع الصغيرة تلقي أمامه ما حفظته من أشعار السيرة التي يرويها.
في مكان صغير ملحق بالمقهى، جلس فيه الشاعر وأعضاء فرقته يتناولون طعام العشاء والمشروبات قبل بدء الحفلة، وقفت زينب وراحت تلقي على مسامع السوهاجي وأعضاء فرقته ما حفظته من أشعار، استغرق بعض رجاله أسابيع في حفظها.
لم يصدق الرجل ما سمعه وظل يردد:
= ماشاء الله... لا قوة إلا بالله. ماشاء الله... لا قوة إلا بالله. هذه معجزة حقيقية يا معلم محمد. هذه الفتاة حباها الله بموهبة الحفظ السريع. أرجو إنك تستغلها في هذه السن وتقوم بتحفيظها القرآن الكريم.
* وأنا عند قولك يا سي تمام.
نظر تمام السوهاجي إلى زينب ومسح بيده على رأسها، فابتسمت له ابتسامة عريضة وقالت:
- مش أنا حافظه كويس.
= أمال.. دا أنت عال أوي
- خلاص خلوني أقول معاكم بقى.
لم يتوقع الشاعر تمام السوهاجي هذا الطلب من زينب، فوقف ينظر إليها وإلى والدها، لا يعرف بماذا يرد عليها، غير أنه مثلما فاجأته زينب، فاجأها أيضاً ووالدها بطلبه منها.
(البقية في الحلقة المقبلة)الغذاء الأول
كانت حفيظة تمضي ليلة الجمعة من كل أسبوع تحاول التدريب على العزف على العود حتى أتقنته إلى حد ما، فكانت تظل تعزف بينما يلهو أطفالها، فيما ترقد إلى جوارها الرضيعة زينب التي ما إن تبدأ والدتها بالعزف حتى تكف عن البكاء وتنصت باهتمام لفت نظر الأم:
- آني عاوزه نقولك على حاجة مخوفاني يا سي محمد
* حاجة إيه يا حفيظة.. إيه اللي مخوفك ما تتكلمي قلقتيني
- البنت دي حيرتني معاها
* قصدك مين.. زينب؟!
- أيوا نكونوا مغيرين لها وواكلة وشبعانه.. وبعدين نلقاها تفضل تعيط وتشيل وتنكت في نفسها.. ندوها صدري.. ما تسكتش.. ندوها السكاته ماتسكتش.. نقفوا بيها في التراسينا وهي على صرخة واحدة.. أحطها جنبي وندق على العود.. هي تسمع صوت العود من هنا وكأن نزل عليها سهم الله.. لاحس ولا نفس.. عينيها مفنجلة آد كدا.. وودانها مطرطأة تسمع وساكته.. تسمع صوت العود تسكت.. يسكت العود تعيط
* ياسلام.. ودا اللي مخوفك
- أيوا.. خايفة تكون البنت فيها حاجة بسم الله الحفيظ
* هاهاها.. متخافيش دا مش الأم بس هي اللي مزاجها عالي.. دا البنت كمان طالعة مزاجها عالي زي أمها
- أيووه يا سي محمد انت دايما تكسفني.. خلتني ندمت أني قولنالك
* وإيه اللي يكسفك.. اللي له حاجة عندنا ييجي ياخدها.. طب إيه الرأي بقى.. آني طالبة معايا نسمعوا صوتك على دق العود دلوقت.
يسمعان صوت بكاء الطفلة زينب، فينظران إلى بعضهما البعض ويضجان بالضحك:
* دا يظهر آني مش لوحدي اللي عاوز أسمع.. دا الست زنوبة هانم هي كمان لها مزاج تتسلطن الليلة.











images





images





images













1-z2.jpg




3-z2.jpg

 
التعديل الأخير:
31-07-2013, 04:59 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

بنت بحري زينات صدقي(3): بنت حظ


الجمعة 12 يوليو 2013
فاجأ شاعر الربابة تمام السوهاجي محمد سعد وطفلته زينب بأن قدم لها مكافأة على حفظها بعض الأبيات التي يرددها في لقاء الخميس الأسبوعي، ولم تكن المفاجأة في المكافأة نفسها، ولكن في نوعيتها.




1-z3.jpg

3-z3.jpg

2-z3.jpg






كتب الخبر: ماهر زهدي
T+ | T-
أخبار ذات صلة







حقق تمام السوهاجي أمنية غالية على زينب طلبتها بنفسها، وهي أن تشاركه العرض الأسبوعي الذي يقدمه لرواد المقهى، ما أصاب الأب بدهشة:

* أيووو انت بتقول إيه... زينب!
= أيوا زينب. دا ربنا أنعم عليها بنعمة كبيرة. رجالة بشنبات تتمنى تبقى ربعها.
* ولو. برضه ما ينفعش يا سي تمام... إزاي بس يحصل اللي بتقول عليه دا؟
= وإيه بس قلة نفعه؟
* ولو أنك ممكن تزعل منيّ يعني.
= يا سيدي قول خد راحتك.
* يعني ما ينفعش ولاد العائلات يعملوا الحاجات اللي انتوا بتعملوها.
= حاجات إيه اللي بنعملوها يا معلم؟ وبعدين هو أنا بقولك هاتها تشتغل معانا. دي طفلة تلات أربع سنين وإحنا عاوزين نفرحوها ونخلوها تلعب شوية.
* ما تآخذنيش يعني. أنت على راسنا من فوق... ولو ما شالتكش الأرض نشيلوك فوق راسنا. أنا بس خايف الناس ياكلوا وشي.
= يا معلم هم كلمتين البنت هاتقولهم وتفرح. وربنا يخليهالك ويفرحك بيها.

على رغم أن كلام شاعر الربابة تمام السوهاجي أقنع محمد سعد إلى حد كبير، إلا أنه ظل متردداً يخشى سخرية الأصدقاء والمقربين، فإذا حدث ما يخشاه، سيكون ذلك آخر عهد له في المقهى، وربما لن يستطيع أن يرفع عينيه في أعين الأصدقاء والمقربين منه. غير أن ما حسم الأمر بالنسبة إليه، ترحيب الأصدقاء وبعض رواد المقهى سماع ابنة المعلم محمد سعد وهي تنشد.

مواجهة الجمهور

ارتدت زينب الفستان الذي اشتراه لها والدها، مثلما اشترى لشقيقاتها قبيل عيد الأضحى من تاجر شامي، ووقفت في زهو وفخار تستعرضه أمام الحضور، تروح وتجيء أمامهم كنجمات الطرب الكبيرات. تظن أن الجميع قد حضر اليوم خصيصاً ليسمعها، والحضور جمهورها الخاص وليس جمهور تمام السوهاجي.
استعد تمام السوهاجي وفرقته، فاعتبرت زينب هذه إشارة فاستعدت، بدأ السوهاجي ليلته، فهبت زينب من مكانها واقتربت، فأشار لها أن تنتظر، فاعتبرت أن هذه إهانة لها، راحت تعاتب والدها على ذلك:

- مش هو قاللي إني هاقول معاه... ليه مش بيخليني أقول؟
* ششش... وطي صوتك. هاتقولي هاتقولي... بس لازم هو يبدأ الأول ويقول للناس الحكاية... وبعدين يخليك تقولي.
- الناس كلها بتبص عليه هو بس. وما حدش بيبص عندي. يعني مش هايسمعوني.
* إزاي بس. لازم هايسمعوكي وكمان يقولولك «الله ياست زينب... قولي كمان». بس استني دلوقت خلونا نسمعوا الحكاية. أصل كدا هيروح نصها علينا.

انطلق قطار السيرة على لسان تمام السوهاجي من دون توقف، وسط صيحات الإعجاب والآهات التي يطلقها جمهور الحضور، فيما تقف زينب، غاضبة من السوهاجي، للمرة الأولى تتمنى أن ينتهي من حكايته ولا يكملها، وكأن أمنيتها تحققت فوراً، فقد توقف الشاعر السوهاجى، لكن لحصول الفرقة على استراحة قصيرة، وهنا أشار بيده لمحمد سعد أن تتقدم زينب، ولم تصدق نفسها، فقد حانت اللحظة. سارت بخطوات هادئة واثقة، تتلفت حولها لترى هل الحضور في انتظارها ويرحبون بها مثل الشاعر أم لا؟
رحب السوهاجي بزينب وقدمها للحضور مؤكداً لهم أنهم سيرون الآن بأعينهم واحدة من معجزات العصر، فصفق الحضور بينما جلس والدها لم ينطق بكلمة، واكتفى بأن وضع على وجهه ابتسامة عريضة. وقفت زينب حتى ساد الهدوء بين الحضور، وانطلقت:

فلما طال البلاء على أهل اليمن
خرج سيف بن ذي يزن الحميري
وكان يكنى بأبي مرة
حتى قدم على قيصر ملك الروم
فشكا إليه ما هم فيه، وسأله
أن يخرجهم عنه ويليهم هو
ويبعث إليهم من شاء من الروم
فيكون له ملك اليمن فلم يشكه
ولم يجد عنده شيئا مما يريد.

ما إن قالت زينب جملتها الأخيرة حتى ضج المقهى بالتصفيق وراح الحضور يطلق صيحات الإعجاب، فيما وقفت هي ثابتة تتلقى تحيته وعلى وجهها ابتسامة عريضة:

= الله الله يا ست زينب.
- كمان يا ست زينب والنبي.
- ربنا يخليهالك يا معلم محمد.
= ما شاء الله ربنا يبارلك فيها.

جلس محمد سعد فخوراً بابنته، يتلقى التهاني والثناء من الحضور، غير أنه فوجئ بشقيقه الأكبر يقترب من زينب ويصفعها على وجهها صفعة أطاحت بها لتتلقفها أحضان والدها. سيطر الوجوم على الجميع، ثم سحبها عمها من يدها وهي تتشبث بملابس والدها، ليخرج بها من المقهى، وخلفه والدها، وما إن ابتعدوا عن المقهى وأصبحوا بمحاذاة البحر، حتى انفجر محمود في وجه شقيقه:

= لميت النقوط يا أبو الست الصييتة ولا لسه.
* نقوط إيه وصييتة إيه؟ هو فيه إيه؟ مالك يا أخويا؟ وضربت البت وكسرت فرحتها ليه؟
= كسرت فرحتها. دا أنا هانكسروا رقبتها. طالما انت مش عارف تربيها.
* ليه بس كدا؟ إيه اللي مزعلك يا أخويا.
= إيه اللي مزعلني؟ دا أنا صدري مولع نار. النار ولعت في جسمي كله. من ساعة ما عرفت وجيت على ملا وشي.
* ليه يعني يا أخويا لزومه إيه الكلام دا. هي البنت كانت عملت ذنب. ولا أجرمت.
= أكتر. لما تحط راس العيلة في الطين. لما يبقى اسم بنتك على كل لسان وسيرتها بيتحاكوا بيها في القهاوي. نرفعوا راسنا إزاي بين الناس؟
* حيلك حيلك يا أخويا. زينب لسه عندها أربع سنين. لسه ما طلعتش من البيضة، مش عروسة عندها عشرة خمستاشر سنة. وكل الحكاية أنها شبطت تخرج معايا قلت ما نكسروش بخاطرها.
= من امتى بنات عيلة «الفولي» بتخرج ولا بتشوف الشارع. البنت دي من بكره تروح كُتاب الشيخ جلهوم اللي جنب البيت زي أخواتها ما اتعلموا فيه. تحفظ القرآن... وغير كدا ما فيش خروج لها.

على رغم غضب محمد سعد مما فعله وقاله شقيقه، فإنه لم يستطع مراجعة كلمة واحدة له ونفذ كل ما قاله حرفياً، غير أن زينب شعرت بأن عمها اغتال حلمها وفرحتها، وأن حكماً بإعدامها قد صدر عليها في هذه الليلة، ومع ذلك لم يكن يهمها أنه حوّل فرحها إلى مأتم، بقدر ما يهما ما ترتب على ذلك من عدم ذهابها مجدداً إلى المقهى، وحرمانها من رؤية شاعر الربابة إلى الأبد.

شيخ الكُتاب

رفضت زينب أن تذهب إلى «كتاب الشيخ جلهوم» القريب من بيتهم، ليس لشيء سوى أنها اعتادت أن ترى يومياً شقيقاتها يعدن من كُتاب الشيخ جلهوم، وهن يتألمن من أثر ضربهن على أيدهن وأرجلهن. أصرت على ألا تذهب، فاضطر والدها إلى أن يلحقها بكتاب الشيخ بلال الذي يجاور المسجد الكبير في الحي.
لاحظ الشيخ بلال أن زينب فتاة مجتهدة؛ سريعة الحفظ على رغم صغر سنها، تنطق الحروف نطقاً واضحاً سليماً، ما جعله يطلق عليها اسم «زينب البرنجية» بمعنى أنها «الأولى» على من لديه من أولاد وبنات.
مر عامان حفظت خلالهما زينب الكثير جداً من القرآن الكريم، وراهن الشيخ على أنها ستحفظ القرآن كله خلال وقت قصير، غير أن ما حفظته أهلها لدخول المدرسة، التي كانت تشترط حفظ قدر معقول من القرآن الكريم كشرط للالتحاق بها، وهو ما لم يتوافر لدى أي من شقيقاتها.
كانت المدرسة تبعد شارعين من بيت محمد سعد، حيث كان يعمل عبد التواب الفنجري، ابن خال والدة زينب، مدرس اللغة العربية. كان يرتدي «العمامة والجبة والقفطان» وينادونه «الشيخ عبد التواب»:

= مقضيه إن شاء الله يا معلم محمد.
* البركة فيك يا شيخ عبد التواب.
= وانت يا زينب حافظة كام جزء من القرآن الكريم.
- كتير.
= أيوا الكتير دا لحد فين كدا.
- لحد... لحد... لحد سورة «الجن».
= الجن... باين على عينك أنك منهم يا بنت يا زينب..
- يعني إيه منهم؟
= يعني جن مصور. عموماً يا معلم محمد هاتها بكره إن شاء الله في المدرسة الساعة تمانية ونص صباحاً. وتكون محضر ورقة مختومة من شيخ الحارة بالاسم والسن والعنوان... وربنا يهيئ ما فيه الخير.

انتهى محمد سعد من إجراءات دخول زينب المدرسة، لكنه فوجئ بناظر المدرسة يعطي زينب ورقة عليها «جدول الضرب» ويطلب منها حفظه في خلال أسبوع، ثم تأتي ليمتحنها فيه.
نظر محمد سعد إلى الورقة، فأيقن أن ابنته لن تدخل المدرسة، فكيف ستحفظ هذه الأرقام كافة خلال أسبوع؟!
كعادتها سمعت زينب «جدول الضرب» مرة من الشيخ عبد التواب ابن خال والدتها، ورددته وراءه، فحفظته فوراً لدرجة أنه لم يصدق. أخذها من يدها في اليوم الثالث وذهب بها إلى الناظر وطلب منها أن تسمعه ما حفظته، فرددته زينب كاملاً، بينما وقف الناظر ينظر إلى الشيخ عبد التواب في دهشة وانبهار.
كانت المدرسة تُستخدم في الصباح للبنات وبعد الظهر للبنين، وهو ما كان يسبب مشكلة حقيقية لزينب، فقد كانت تعشق السهر وتكره الاستيقاظ مبكراً، غير أن أجواء المدرسة المختلفة تماماً في المبنى والمعنى عن أجواء الكتاب أشعرتها بأنها دخلت دنيا جديدة تستحق أن تحاول اكتشاف عالمها.
استمرت زينب في المدرسة حتى سن العاشرة، عندما صدر تصريح 28 فبراير 1923 ثم دستور 1923، والذي تضمن بين نصوصه بنداً ينص على إلزامية التعليم للبنات والبنين، لتبدأ انطلاقة جديدة طموحاً في مسيرة التعليم في مصر، صاحبها فكر تربوي جديد. وبدأ العمل على نشر التعليم في ربوع مصر، بعدما أصبح حقاً مكفولاً لكل المواطنين بجميع طبقاتهم، فظهرت المدارس الإلزامية في العام ذاته لتستقبل الأطفال من سن السابعة ولمدة خمس سنوات، لتتحول المدرسة التي تدرس فيها زينب إلى مدرسة إلزامية، وتم اعتماد الصف الذي تدرس فيه رسمياً وتصبح زينب في «الصف الرابع الإلزامي».
لم يكن لأي من شقيقات زينب الحظ نفسه في الدراسة مثلها، فضلاً عن أن زينب لم تكن مجرد تلميذة عادية، بل حققت تفوقاً في حفظ دروسها وذاع صيتها في المدرسة، وهو ما كان يسعد معظم المدرسين، غير أن أكثرهم سعادة كان الشيخ عبد التواب، ليس لأن زينب قريبته، بل لأنها كانت سريعة الحفظ للأناشيد والمحفوظات والقطع الأدبية التي يسندها إليها، فضلاً عن ضمها لجماعة الخطابة بالمدرسة، بعدما علم بأمر مسابقة في الخطابة والإلقاء، تقام بعد يومين فقط في مدرسة «الخديو سعيد الإلزامية» في حي «الأنفوشي»، بمناسبة تحويل نظام التعليم إلى الإلزامي. هكذا قام على الفور بتحفيظها قصيدة من نظم الإمام الشافعي، ولم تخيب زينب ظنه، سواء في الحفظ، أو الإلقاء:

إذَا رُمْتَ أَنْ تَحيَا سليماً مِنَ الرَّدَى
وَدِينُكَ مَوفُورٌ وَعِرْضُكَ صيّنُ
فَلا يَنطِقَن مِنْكَ اللسان بِسَوءةٍ
فَكلكَ سَوْءَاتٌ وللنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَيْنَاكَ إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَايباً
فَدَعْهَا، وَقُلْ يَا عَيْنُ للنَّاسِ أَعْيُنُ
وَعَاشِرْ بِمَعْرُوفٍ وَسَامِحْ مَنِ اعْتَدَى
وَدَافِعْ وَلَكِنْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ
الدَّهْرُ يَومَانِ ذَا أمْنٍ وذَا خَطَرٍ
والعيشُ عيشانِ ذا صفو وذا كدرُ
أَمَا تَرَى البحرَ تَعلُو فوقه جِيَفٌ
وتَسْتَقِرُّ بأقْصَى قاعِهِ الدُّرَرُُ
وفِي السَّمَاءِ نجومٌ لا عدادَ لَهَا
وليس يُكسَفُ إلا الشمس والقمر

جائزة الدولة

ما إن انتهت زينب من إلقاء القصيدة، حتى ضجت المدرسة بالتصفيق، ليس للحفظ المتقن فحسب، ولكن الأهم كان سلامة النطق وتجسيد الأداء خلال الإلقاء، ما جعلها تفوز بالجائزة التي رصدتها وزارة المعارف وقيمتها جنيه و250 مليماً، وهو مبلغ لم تكن تحلم زينب بأن تمسكه في يدها، سلمه لها مندوب وزارة المعارف. ما إن تسلمته وصافحها بيده، حتى جرت بسرعة ودخلت إلى حمام المدرسة لتغسل يدها التي صافحها بها مندوب الوزارة، فلم تطق أن تلمس يدها يد أخرى، حتى لو كانت أقرب الناس إليها!
كانت مكافأة وزارة المعارف هي المكافأة الثانية التي تحصل عليها بسبب تفوقها في الحفظ والإلقاء، فلم تنس المكافأة الأولى التي منحها لها شاعر الربابة تمام السوهاجي بأن جعلها تقف أمام الجمهور مثله وتلقي ما حفظته من سيرة «سيف بن ذي يزن».
على رغم سعادة زينب بما حققته وتحققه من تفوق ملحوظ في دراستها في المدرسة الإلزامية، فإن ذلك لم يستطع أن يمحو من ذاكرتها العشق القديم لشاعر الربابة وحكاياته وسيره، غير أنه عهد لن يعود أبداً، حتى لو صدر عفو من عمها وصرح لها بذلك، فقد ودعت زينب ملامح الطفولة، وظهرت عليها علامات الأنوثة، وأصبحت أقرب إلى شكل الأنثى الحقيقية بعدما أصبح عمرها 12 سنة.
تقدّم العريس الأول لزينب فرفضه والدها، غير أنه لم يكن الأخير، فقد أصبحت علامات الأنوثة واضحة على جسدها، ما جعل العرسان يتصارعون على طلب يدها من والدها، قبل شقيقتها سنية، لدرجة أنه لم تعد لديه حجج يسوقها إليهم لرفض طلبهم، خصوصاً بعدما شاع بين الأهل والجيران أن لدى محمد سعد ابنتين جميلتين يتوافد العرسان كل يوم على بيته لطلبهما، فيما يرفض والدهما ويضع شروطاً مجحفة لزواجهما، الأمر الذي حرك مشاعر الغيرة لدى جميلة، زوجة شقيقه محمود.

(البقية في الحلقة المقبلة)


عريس

بالتأكيد لم ولن تعود أيام السهر مع شاعر الربابة تمام السوهاجي، ولكن من اليسير جداً أن تعود أيام السهر في المنزل، على أنغام العود وصوت الأم، خصوصاً في أيام الصيف، فكانت زينب تتولى التحضير لليلة الخميس من كل أسبوع، بعد أن تنتهي مع الأم وشقيقاتها من تحضير الطعام، كانت زينب تتولى ترتيب حجرة السهر في المنزل.
في تلك الليلة، عاد محمد سعد من عمله ولم يتحدث مع أحد، لا زوجته، ولا أي من بناته، جلس خارج البيت بمفرده إلى جوار شقيقه محمود بعض الوقت، بعدها قاما لصلاة العشاء في المسجد الكبير، عاد بعدها كل منهما إلى بيته.
كانت زينب قد انتهت من ترتيب حجرة السهر، وأخذت الأم مكانها ووضعت العود إلى جوارها، غير أن محمد دخل إلى الغرفة وأشار بيده إلى زوجته لتفض الجلسة وتحصله على غرفة النوم، بينما تركا زينب وسعاد تخمنان أسباب هذا الانقلاب المفاجئ:

= خير فيه إيه؟ مالك حاسس بحاجة؟
* لا أبداً ما فيش حاجة تعالي عايزك.
= أوعى يكون التعب رجعلك تاني... نبعت نجيب «عطية الأجزجي».
* بقولك ما فيش حاجة. أنا عايز أتكلم معاك... أقعدي.
= أدي قاعدة... خير أتكلم.
* أنا مش عايز زينب تروح المدرسة من بكره.
= إيه. ليه كف الله الشر؟ فيه حاجة حصلت؟
* أيوا... بنتك كبرت.
= وهم اللي بيكبروا ما بيروحش مدارس ويسيبوا العلام.
* يا وليه افهمي. بنتك كبرت وبان عليها أنها كبرت.
= بان عليها إيه؟
* بالعربي كدا خراط البنات خرطها. وما عدش ينفع تروح مدارس ولا تخرج من البيت.
= آه دا مش كلامك يا سي محمد... أنا حاسة إن أخوك له يد في الموضوع.
* أخويا ماله ومال كدا... أنا اللي بقولك هو أنا مستني حد يعدل عليا.
= اسم الله عليك ياخويا مش القصد. بس ليه يعني دا حتى البت ما شاء الله ماشية كويس في العلام.
* بس خلاص ما بقاش ييجي منه. النهارده صالح الزهار كلمني أنه عاوز ياخد زينب لابنه صبحي.
= يا ألف نهار مبروك... زينب بتنطلب للجواز.
* جواز مين يا وليه البنت لسه صغيرة ما كملتش تلاتشر سنة.
= فضل وعدل... دا عزها وأخواتها متجوزين في سنها. ما فضلش غيرها هي وسنية.
* مش القصد. أنا بس صعبان عليا البنت لسه صغيرة.
= يعني قلت للراجل إيه؟
* قلت له... لسه بدري.
















images









3-z3.jpg





2-z3.jpg


 
التعديل الأخير:
15-05-2014, 02:20 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

بنت بحري زينات صدقي 4 ممنوع الحب



السبت 13 يوليو 2013
راح محمد سعد يرفض كل من تقدم لخطبة ابنته زينب، ليس لأنها لا تزال صغيرة فحسب، ولكن لإحساس آخر في داخله يرفض أن يزوج زينب تحديداً، فلم يكن لديه مانع من أن يزوج سنية إذا تقدم أحد لخطبتها، لكنه يرفض كل من يتقدم لزينب، حتى لاحظت زوجته حفيظة ذلك.




1-z4.jpg

3-z4.jpg

2-z4.jpg






كتب الخبر: ماهر زهدي


تحدثت والدة زينب مع زوجها في شأن العرسان الذين يتقدمون لها، بعدما لاحظت أنه يرفض هذه الخطوة لزينب ويتمناها لشقيقتها سنية:

= ولحد امتى هتفضل ترفض كل اللي يتقدم للبنت.
* لحد ما يجلها عدلها. دي حاجة بتاع ربنا وكل شيء قسمة ونصيب.
= صحيح دي حاجة بتاعة ربنا. لكن ربنا خلق لنا عقل علشان نميز بيه. وزي ما بيقول المثل {من كتر خطابها بارت}. وانت هاتقعد ترفض العرسان لحد ما البنت تبور.
* تبور تبور... انت ما عندكيش غير الكلمة دي ماسكة فيها ليل ونهار. هي البنت لسه طلعت من البيضة علشان تبور. إحنا نربي ونتعب وييجي واحد ياخدها كدا على الجاهز ويمشي.
= سبحان الله. هي مش دي سنة الحياة والناس كلها على كدا. زي انت ما خدت بنت ناس لازم واحد ييجي ياخد بنتك ويصون عرضها وبكره تخلف وتبقى جد وولادها يكبروا ويتجوزوا... ودا حال الدنيا.
* بس الواحد ملحقش يشبع منها.
= سبحان الله. ما هي برضه هتبقى جنبك هنا ولا هنا... علشان كدا بقى انت بترفض كل اللي يتقدم لها.
* مش بالظبط. بس البنت دي بالذات آني متعلق بيها أوي. حاسس إنها الولد اللي مخلفتهوش... حاسس إنها هاتشيل اسمي. أحسن من ميت ولد. من صغرها من ساعة ما كنت بناخدوها معايا القهوة وآني حاسس إنها راجل مش بنت. ولو أنها أجمل واحدة في أخوتها... علشان كدا نفسي تفضل معايا العمر كله.

جاء قرار الأب برفض من يتقدمون للزواج من زينب قراراً ساراً بالنسبة إليها، فمثلما تمنى والدها أن تبقى معه طيلة حياته، تمنت هي أيضاً أن تبقى إلى جوار والدها ولا تفارقه أبداً، فلم يكن بالنسبة إليها مجرد أب، لا بد من أن تخشاه ولا تقف أمامه تتحدث، أو حتى يراها وهي تأكل أو تشرب، مثلما تفعل الفتيات مع الآباء في ذلك الوقت، بل شعرت كما يشعر هو، بأنه أخ وصديق وحبيب، ما أتاح لها أن تقول له رأيها صريحاً في أمر زواجها، ولقي هذا الرأي هوى في نفسه، غير أن القرار الذي اتخذه ولم يتراجع فيه مهما حاولت وألحت فكان قرار عدم ذهابها إلى المدرسة مجدداً:

* هي كلمة ومش هانرجعوا فيها.
= بعد الشر يا أبويا. أنا ما نقصدش نكسروا كلمتك بس أنا عايزه نقولك آني فاضل لي سنة وناخدو الشهادة... سنة واحدة خلاص.
* وبعد ما تاخدي الشهادة يا ست زينب هاتعملي إيه؟ مش برضه هتقعدي في البيت وتتجوزي؟
= بصراحة يابا آني نفسي نكملوا في العلام.
* يعني هي السنة دي اللي هتجيب الديب من ديله.
= مش قصدي السنة دي بس. أنا نفسي ناخدوا الشهادة العالية وندخل مدرسة المعلمات اللي بيقولوا عليها دي.
* وبيعملوا فيها إيه مدرسة المعلمات دي بقى؟
= بيتعلموا فيها.
* بيتعلموا فيها إيه يعني؟
= بيعلموا البنات إزاي يقدروا يعلموا الناس بعد كدا.
* يعني تبقى خوجه؟!
= حاجة زي كدا.
* تصدقي تبقى حاجة أوبها أوي أنك تبقي خوجة. حضرة جناب الخوجة الست زينب محمد سعد الفولي. تصدقي يا بت اسمك حلو في العلام ولايق عليك.
= صحيح يابا... يعني خلاص موافق أكمل في العلام.
* لا!

كان قرار حرمان زينب من الذهاب إلى المدرسة صادماً، فقد كانت تتمنى لو أنها أكملت تعليمها وأصبحت مدرسة تعلِّم الفتيات، فقد كانت تحرص كل يوم في الفترة ما بين العصر والمغرب على أن تجمع بعض فتيات الشارع وتمارس معهن دور المعلمة، وتلقي بعض القصائد التي تحفظها، بل وتحاول تحفيظهن هذه الأبيات، على عكس شقيقاتها اللاتي لم يفكرن يوماً في ذلك، تماماً مثل خيرية صدقي صديقة زينب، التي كانت قد تركت المدرسة منذ سنوات بعد وفاة والدها، وتفرغت للعمل مع والدتها في الأفراح، حيث كانت الأخيرة تجهِّز الفتيات للزواج، بينما التحقت خيرية بالعمل ضمن فرقة {الأسطى زكية} مطربة الأفراح.

الزواج هو الحل

علمت جميلة زوجة شقيق محمد سعد، أن عريساً جديداً في طريقه إلى بيت محمد لخطبة أي من ابنتيه (زينب أو سنية)، فقررت القيام بحيلة لجلب العريس لابنتها حورية التي بلغت 18 عاماً ولم يطلبها أحد للزواج، خصوصاً بعدما علمت بأن العريس ابن أحد الأصدقاء المقربين لعائلة محمد سعد وأشقائه، والذي يعمل مع والده عاملاً في الميناء.
ما إن علمت جميلة بموعد ذهاب العريس وأسرته إلى بيت محمد، حتى حثت زوجها على سرعة توجيه الدعوة إلى العريس وأسرته لتناول الغداء قبل موعد ذهابهم إلى بيت محمد، بيوم فقط، وتعمدت أن تكون ابنتها حورية نجمة الوليمة. فحققت فعلاً غرضها من الوليمة وفازت بالعريس لابنتها، الأمر الذي أثار ضيق محمد وحفيظة، ولكن يبدو أن الأقدار قد حرضت محمود وزوجته على القيام بهذا التصرف لأنها تحتجز عريساً آخر لزينب بدلا من عامل الميناء الذي اختطفته جميلة لابنتها حورية.
تقدم أحد أبناء عائلة الفولي، ابن عم محمد طالباً يد زينب لابنه، الذي كان قد عاد لتوه من القاهرة، ما جعل محمد يوافق من دون تردد، الأمر الذي أدهش حفيظة:

= واش معنى يعني وافقت على طول المرة دي ولا علشان ماهو ابن عمك يعني.
* يا وليه بقولك إنه بقى حكيم أد الدنيا.
= حكيم من الحكما بتوع المبرة يعني.
* أيوا. وانت بقى عليك تكلمي البنت وتفهميها علشان ما تبقاش على غماها كدا.

لم تكن زينب ترغب في الزواج في هذه السن المبكرة، فقد كانت قد بدأت اليوم عامها الخامس عشر، ورأت والدتها أنه عمر مناسب جدا للزواج، خصوصاً أن من هن في مثل عمرها أو أصغر بعام أو عامين تزوجن وأنجبن، وعلى رغم أن صديقتها خيرية كانت تحرضها على عدم التسرع في قرار الزواج، قبل أن تعيش عمرها وتشاهد متع الدنيا، وما تشاهده خيرية من حياة بنات الطبقة الراقية التي تشارك في إحياء أفراحهن، فإن زينب قررت الموافقة أخيراً على الزواج إرضاء لوالدها، وليس اقتناعاً بالعريس، حتى لو كان طبيباً تتمناه كل فتاة.
قبل الموعد المحدد لزفاف زينب من الطبيب ابن عمها، كان قد تقدم عريس آخر للزواج من شقيقتها سنية، هو علي محمد اللبان، ابن أحد تجار بحري، وقبل أقل من شهر تزوجت سنية، فلم يترك محمد اللبان (والد العريس) فرصة أمام محمد سعد ليقيم فرح سنية وعلي بما يليق بالعائلتين، غير أن ابن عمه، والد الطبيب عريس زينب، أصر على أن يقيم فرحاً كبيراً، يكون حديث بحري والأنفوشي والجمرك، الأمر الذي لقي هوى كبيراً في نفس محمد سعد، لأن حبيبته زينب هي التي ستتزوج.
ظل أهل العروسين يستعدان لإقامة الفرح لمدة أسبوع، اتفقوا خلاله مع عدد من المطربين والفرق الغنائية، من بينها الست إميلي الإسكندرانية والست نعيمة المصرية، وسافر محمد سعد إلى القاهرة والاتفاق مع المطرب صالح أفندي عبد الحي، وهو ما أثار دهشة والد العريس نفسه:

= هم الصييتة اللي في إسكندرية خلصوا لما نازل مصر تتفق مع صييتة؟
* ولو حكمت أروح بر الشام كمان... تصدق بالله؟
= لا إله إلا الله.
* لو أطول أجيب حته من السما ما أتاخر... خلي بالك انتو بتاخدو مني روحي.
= يا سلام للدرجة دي... أمال ما عملتش مع سنية كدا ليه يعني؟
* الله يسامحه بقى محمد اللبان... ما كانش راضي. بس أنا كان الود ودي نعملولها ليلة من ليالي العمر.
= أمرك عجيب والله يا سي محمد!
* لا عجيب ولا حاجة. أنا ما فيش تعز عليا في الدنيا زي بناتي. وبصراحة أنا نفسي أسعدهم وأستتهم في بيوتهم قبل ما أموت.
= يا رجل ما تقولش كدا. إن شاء الله تفرح بيهم وتشوف ولادهم.
أطمأن محمد سعد على زواج ابنتيه سنية وزينب، غير أنه لم يعد يطيق البيت من دونهما، تحديداً زينب، التي كان هواها يوافق هواه، فكان يعود إلى البيت في ساعة متأخرة كل ليلة كي لا يجلس في البيت طويلاً من دونها، وهمه الوحيد كان أن تسعد ابنتاه بحياتهما الجديدة.

رحلة استكشاف

كانت فعلاً حياة جديدة على كل من زينب وسنية، ويبدو أن الرياح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن، فحياة سنية كانت قبل الزواج لا علاقة لها بالسهر والسمر واللهو، حيث كانت تنتهي علاقتها بالعالم عقب صلاة العشاء، فيما كان يبدأ يوم زينب، وهو ما تبدل تماماً بعد الزواج. أصبحت حياة سنية تميل إلى السهر والسمر كل ليلة مع زوجها، فيما تبدلت حياة زينب لتصبح حياة دستورها الضبط والربط، وكل شيء بحساب، النوم بميعاد والاستيقاظ بميعاد، الأكل بميعاد، والخروج بميعاد، بل والضحك أيضاً بميعاد، وهو ما لم تعتد عليه زينب.
مر الشهر الأول من الزواج من دون أن يلفت ذلك نظر زينب، واعتبرت نفسها في رحلة استكشاف أولى لحياتها الجديدة، غير أنها وجدت أن حياتها تسير على وتيرة واحدة بلا تغيير، وكل شيء يسير بدقة غير عادية، وهو ما اعتاد عليه زوجها الطبيب قبل الزواج. وزاد الأمر تعقيداً أن الصمت كان الضيف الدائم الذي يجمعهما عندما يلتقيان في الفترات القصيرة التي تجمع بينهما، تحديداً فترة ما بعد تناول الغداء. كان الصمت سيد الجلسة، وكلما حاولت زينب أن تفتح موضوعاً ليكون بداية لحديث بينهما، كان حسن يسارع بإغلاقه على الفور بكلمة:

= بعدين... بعدين.
* هو إيه اللي بعدين؟
= زينب. أظن مفهوم... بعدين يعني بعدين.
* بس عايزه أتكلم معاك دلوقت.
= لازم تختاري الوقت المناسب للكلام.
* أنا أعرف أن النوم ممكن يكون بمواعيد، الأكل ممكن يكون بمواعيد، ولو أن ما فيش مشكلة إن الواحد ياكل لما يجوع في أي وقت. لكن ما كنتش أعرف أن الكلام هو كمان لازم يكون له مواعيد.
= اللي انت تعرفيه شيء والصح اللي لازم يتعمل شيء تاني.
* تقصد إيه يا دكتور؟
= ما قصدش حاجة. بس أنا ما عنديش استعداد دلوقت أتكلم لأني لازم أنام علشان عندي مستشفى بدري.

لم يمر أكثر من ثلاثة أشهر حتى بدأت زينب تشعر بأن حياتها يصيبها الجفاف، وكانت تخشى أن تتحدث في ذلك مع أحد، حتى والدتها أقرب المقربين منها، خشية أن توجه إليها اللوم بأنها غير قادرة على تحمل المسؤولية، وأنها الوحيدة من بنات العائلة التي بدأت الشكوى بعد ثلاثة أشهر من زواجها، خصوصاً أن شقيقتها سنية التي تزوجت قبلها، لا تزال حتى الآن تسمع حكايات عن سعادتها الزوجية التي تعيشها منذ ليلة الزفاف.
بدأت المشاكل تتفاقم بين زينب وزوجها، وزادت عندما عامل صديقتها خيرية بشكل غير لائق، أقرب إلى الطرد من بيته، عندما زارت زينب قبل أن تسافر إلى بيروت، لتخبرها بأنها التحقت للعمل في فرقة {أمين عطا الله} وستسافر معها في رحلة قصيرة إلى بيروت، لتُغلق كل الأبواب في وجه زينب. غير أن حسن فتح باباً جديداً أمامها، عندما قام بنفسه بالشكوى إلى والديها مما قالته وعلاقتها بصديقتها خيرية التي تحرضها على التمرد.
لم تكن خيرية تحرض زينب على التمرد بقدر ما كانت تحاول أن تخفف عنها متاعب العيشة التي فرضت عليها، ليقع ما كانت تخشى زينب وقوعه. ما إن بلغ الأمر أسرتها حتى ذهب إليها والدها وعمها، ونالت زينب الصفعة الثانية من عمها في حياتها وتلقفتها أحضان والدها للمرة الثانية أيضاً، ونال الأب اتهامات قاسية بأنه سبب ما تعانيه ابنته لأنه دللها أكثر من اللازم. غير أنه لم يدافع عن نفسه، لأنه لا يجد في ما كان الجميع يقوله اتهاماً، بل إذا كانت توجد تهمة يمكن أن توجه إليه، فهي أنه تسبب في تعاسة ابنته.
لم تفلح جلسة المواجهة بين زينب وزوجها الطبيب أمام والدها وعمها في التئام الجرح الذي كان يزداد عمقاً يوماً بعد آخر، وظلت المشاكل تتفاقم بينهما يوماً بعد يوم، خصوصاً عندما زادت بتلميحات والدة الزوج بأن زينب تأخر حملها، على رغم مرور ما يقرب من ثمانية أشهر على زواجهما، ما يعني أنها هي التي تعاني مشكلة تمنعها من الإنجاب، ولا بد من أن يفكر ابنها في الزواج من أخرى لتنعم بحفيد، وهو ما لم يكن في حسبان زينب، فكان لا بد من أن تعيد تفكيرها في شكل حياتها ومشكلة عدم الإنجاب.

خيرية هي الأمل

وجدت زينب ضالتها في صديقتها المقربة خيرية صدقي، التي كانت تزورها من حين إلى آخر، وإذا كانت زينب حاولت مراراً أن تتماسك وتبدو أمامها سعيدة، فإنها كانت لم تعد قادرة على مداراة مرارتها أكثر من ذلك، فما إن زارتها خيرية حتى انفجرت في بكاء مرير:

= إيه دا؟ في إيه؟ مالك يا زينب في إيه؟
* خلاص يا خيرية مش قادرة أضحك على نفسي أكتر من كدا.
= تضحكي على نفسك... من إيه؟ إيه اللي حصل؟
* مش قادرة أتحمل. مش قادرة.
= أتكلمي. إيه اللي حصل.
* حصل حاجات كتير أوي. من بعد أول أسبوع من الجواز وأنا بحاول أداري وأخبي علشان ما يبانش عليا. لكن أتاريني بضحك على نفسي.
= الموضوع شكله كبير. أحكي لي... فضفضي لأختك.
* من يوم ما دخلت البيت دا وأنا حاسة أني بقيت زيي زي الموبيليا دي. كل يوم تتمسح وتتنفض وهي مكانها ما بتتحركش ولا بتتكلم. ولما نعوزها نلاقيها مكانها. ولو سبناها يوم اتنين... سنة... لازم لما نرجع نلاقيها مكانها.
= انت بتتكلمي بالألغاز ليه؟ يا أختي أنا مش فاهمة
* أنا تعيسة يا خيرية تعيسة... مش قادرة استحمل العيشة دي... وكمان مش قادرة أقول لحد ولا أشكي. حاسة أني باموت كل يوم حتة حتة. ولو فضلت على الحال دا مش هاقدر استمر كتير.

كانت هذه هي المرة الأولى التي تفتح فيها زينب صدرها لصديقتها خيرية وتفضفض معها، غير أنها لم تكن المرة الأخيرة، فبعدما أن شعرت خيرية بأن زينب في حاجة ماسة إليها، خصوصاً أنها لم تستطع أن تبوح لأي من أفراد أسرتها بما تعانيه، راحت تحرص على زيارتها في أوقات متقاربة، لتخفف عنها من ناحية، ولتسمع منها وتفضفض لها من ناحية أخرى، ما لفت انتباه زوج زينب الطبيب، بل إنه استطاع أن يسمع الحوار الدائر بينهما في إحدى المرات، ففاجأ زينب بطلبه:
* إيه اللي انت بتقوله دا؟
= اللي انت سمعتيه. وأنا ما تعودتش أكرر كلامي كتير. خيرية دي ما تدخلش هنا تاني... ولازم تقطعي علاقتك بيها.
* بس دا حرام. دي صاحبتي من زمان. متربيين سوا وكنا في المدرسة سوا... و...
= وإيه؟ ما تكملي... روحتو فين سوا بعد كدا؟ تقدري تقوللي الست خيرية دي ما تجوزتش لحد دلوقتي ليه؟ بلاش كدا لو قلنا إن الجواز قسمة ونصيب. تقدري تقوللي الست خيرية صاحبتك دي بتشتغل إيه؟
* هو دا اللي خلاك تعمل كدا؟
= شوفي. أنا مش هحاسب الناس تعمل إيه وما تعملش إيه. أنا ما ليش علاقة بيها تشتغل اللي تشتغله. لكن أنا ليا دعوة بيك انت. والست دي ممكن تهدم بيتنا. علشان كدا لازم تبعدي عنها.
* أنا بس اللي عايزه أسألك عنه. إيه هو البيت بالنسبة لك؟ حيطان وموبيليا. والبني آدمه اللي عايشه فيه ملهاش قيمة عندك؟
= حلوة النغمة الجديدة دي. هي الأرتيست علمتك تكلمي جوزك بالشكل دا؟!

(البقية في الحلقة المقبلة)








images





images





images








3-z4.jpg



2-z4.jpg


 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
16-06-2014, 10:37 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

بنت بحري زينات صدقي (5): من غير وداع



الأحد 14 يوليو 2013
إذا كان التوتر قد شاب العلاقة بين زينب وزوجها بسبب عدم التفاهم والتوافق الفكري والنفسي، فإن الحياة بينهما تحولت إلى جحيم لا يطاق بعدما تدخلت حماتها، وأصبحت تطاردها بتعليقاتها الساخرة الموجعة بسبب عدم الإنجاب، وكأن زينب هي المسؤولة وحدها عن ذلك. حتى إن تدخل حفيظة والدة زينب زاد الأمر تعقيداً، بعدما أقنعت والدة الزوج بضرورة أن تكون المشكلة في ابنها وليس في ابنتها، ما أشعل البيت نارا.




1-z5.jpg

3-z5.jpg

2-z5.jpg







في رحلة البحث عن الحفيد لم يكن لدى حماة زينب ما يمنعها من أن تطرق الأبواب كافة، حتى اهتدت أخيراً إلى الحل الأمثل، عمل {دقة زار} لتخليص البيت من الجن الذي يسيطر عليه ويفسد على الزوجين حياتهما:
= لا انت مش هاتروحي... هم اللي هاييجوا هنا.
* ييجو هنا فين... في البيت؟
= أيوا أمال فين. هنا في البيت علشان البيت ينضف.
* أيوا يا حماتي بس ابنك اللي هو جوزي دكتور. وأكيد هايزعل من الكلام دا ويقول عليه تخاريف.
= تخاريف. بسم الله الحفيظ... أشتاتا أشتوت... يجعل كلامنا خفيف عليهم. والنبي سيبوها ما تؤذوهاش.
* هم مين دول اللي هايؤذوني.
= الأسياد. دستور يا أسيادي دستور. دي ما تعرفش... ما تقصدش سيبوها علشان خاطري.

اقتنعت زينب بما أقرته حماتها، ليس باعتبارها أكثر خبرة ودراية بمثل هذه الأمور ولضرورة طرد الأرواح الشريرة التي أفسدت حياتها وزواجها، بل لتنجو من لسانها. وما إن نفذت النصيحة حتى تركتها حماتها تلقى مصيرها وحدها من زوجها الطبيب، بسيل من الاتهامات بالجهل والتخلف والجري وراء الخرافات، فازدادت العلاقة بينهما تعقيداً.
شعر محمد سعد، والد زينب، بأنه ارتكب خطأ كبيراً في حق ابنته بتزويجها من هذا الرجل، ليس لدنو أخلاقه أو ضيق حاله، لكن لغياب التوافق بينهما، وكان كلما نظر في عيني ابنته يرى لوماً مستتراً لم تبح به زينب، وتعاسة ظاهرة بعدما كان يرى سعادة ومرحاً دائمين في وجهها.

صداقة الخفاء

علمت زينب بعودة خيرية صدقي من رحلتها إلى الشام التي سافرت فيها مع {جوقة أمين عطا الله}، وكانت قد قدمت عدداً من المسرحيات. غير أن خيرية كان ممنوعاً عليها زيارة زينب في بيتها بأمر زوجها، فأرسلت زينب رسالة إليها تدعوها لأن تلتقي بها في بيت والدها، حيث تجلس معها بعيداً عن أعين زوجها وحماتها التي تضع كل خطواتها وتصرفاتها تحت المنظار، فما كان من خيرية إلا أن حرصت على تلبية رغبة زينب وذهبت إلى بيت والدها:
* خيرية... وحشتيني أوي. اخص عليك تسيبيني لوحدي وأنا كنت محتجالك أوي.
= يا حبيبتي غصب عني... كان لازم أسافر مع جوقة سليم عطا الله للشام... بصراحة كانت فرصة كويسة. المسرح دا حدوتة وحكاية.
* وانت بقى كنت اللي بتقفي تشخصي على المسرح.
= يا ختي يا زينب يا ريت. أنا كنت حا يلا واحدة من اتناشر بنت في الجوقة بنغني في الوقت اللي بين التمثيل.
* وحلوة الشام يا خيرية؟
= بلد جميل. زي إسكندرية كدا. بس طبعاً إسكندرية لا يعلو عليها.
* وهاتروحوا فين بعد كدا؟
= قصدك هايروحوا هم فين بعد كدا.
* ليه انت مش هاتروحي معاهم.
= لا. وفروني مع أربع بنات تانيين... المهم سيبك من الكلام دا طمنيني عليك. عاملة إيه وأخبارك إيه؟ ومالك دبلانه كدا ليه؟ أوعي تكوني عملتيها؟
* لا أطمني. كانت حماتي عرفت قبل مني.
= وانت ناويه على إيه؟
* مش عارفة. كل يوم بينقطع حبل جديد بيني وبينه.
= ما تحاولي تقربي منه افتحي له قلبك.
* كل ما أقرب يبعد. لحد ما بقى كل واحد فينا في سكة.
انتهى اللقاء بين خيرية وزينب سريعاً، لحرص الأخيرة على العودة في الموعد الذي حدده لها زوجها، كي لا تثير شكوكه، وإن كان قد اكتشف الحيلة التي قامت بها ولقاءها مع خيرية في بيت والدها، ما كان سبباً في إصدار فرمان زوجي بعدم ذهابها إلى بيت والدها مجدداً طيلة حياتها، وفي حال أراد والداها رؤيتها، لهما ذلك في أي وقت ولكن في بيت الزوجية.

فراق الحبيب

شعرت زينب بأن بيتها تحول إلى جدران سجن تحيط بها، فضلاً عن قائمة الممنوعات الطويلة، لدرجة أنها عندما طلبت منه الذهاب إلى {تياترو} للترفيه بعض الشيء، اتهمها {بالجنون} وأنها ارتكبت جرماً لمجرد أنها تجرأت وطلبت هذا الطلب، فما كان منه إلا أن ضم الفونوغراف وعدم سماع أي أغان إلى قائمة الممنوعات، لتتحول حياتها إلى سجن حقيقي.
رضخت زينب للأمر الواقع، ورضيت بأن تعيش بين أربعة جدران بلا حياة، وذلك كي يظل رأس والدها مرفوعاً، فلا يقال إن محمد سعد الفولي لم يعرف كيف يربي بناته، فضلاً عن مرور والدها بضائقة مالية ولم ترد أن تزيد من أعبائه ومشاكله. حتى سقط الرجل مريضاً، ورغم أن زوج زينب هو من قام بتطبيبه، إلا أنه رفض طلبها في أن تزوره في بيته، ولم يشفع لديه مرض والدها في التراجع عن قراره:
* إزاي؟ انت فاهم معنى كلامك دا إيه؟
= أنا فاهم معنى كلامي. وفاهم اللي بقوله كويس انت اللي مش عايزه تفهمي.
* بس دا أبويا. وممكن يحصل له حاجة من غير ما أشوفه وساعتها عمري ما هاسامحك.
= ما تخافيش مرضه مش خطير. ومش عايز كلام عواطف ملوش معنى.
* عواطف ملهاش معنى... أمال إيه اللي له معنى عندك؟ انت إزاي بتتكلم كدا؟ دا المفروض انت أول واحد يقوللي روحي زوريه لأنك عارف حالته كويس.
= أنا قايم بالواجب ولو شايف إن الحكاية تستاهل إنك تروحي هاقولك روحي.
* حتى لو مرضه بسيط... دا أبويا مش حد من الجيران ولا حتى من بقية أهلي. دا أبويا.
= بلاش كلام كتير. أنا قلت اللي عندي. عايزة تروحي الباب يفوت جمل. بس لو خرجتي ما ترجعيش هنا تاني.
كأن زينب كانت تنتظر هذه الكلمة من زوجها، ارتدت ملابسها وتوجهت فوراً إلى بيت والدها، الذي كان قد نال منه المرض بشكل سريع، كأن روحه ظلت معلقة بمجيء زينب، فما إن شاهدها وابتسم لها حتى ألقت بنفسها بين أحضانه، وما إن رفعت جسدها حتى وجدته قد فارق الحياة.
مات والدها، مات الأب والصديق والحبيب، مات مرشدها ومعلمها، مات من علمها كيف تعيش الحياة وكيف تحبها، مات من كان يصبرها على العيش بلا حياة وهي لا تزال على قيد الحياة.
انتهت مراسم الدفن والعزاء، وظلت زينب في بيت والدها لم تبرح حجرته، شعر زوجها بالذنب لأنه منعها عن والدها في مرض موته، فقرر التكفير عن ذنبه بأن يتراجع عن الشرط الذي قطعه على زينب إذا غادرت البيت رغماً عنه، فتنازل وطلب منها العودة معه إلى بيته:
* طلقني يا دكتور.
= إيه؟ بتقوللي إيه؟
* بقولك طلقني... أقولهالك تاني؟ طلقني.
= انت اتجننتي؟ إزاي تطلبي حاجة زي كدا؟
* اتجننت علشان أنا اللي طلبتها. طبعاً... ماهو أنا مليش الحق أطلبها. لكن انت لك كل الحق في إنك تعملها.
= أنا سامحتك خلاص وتقدري ترجعي بيتك.
* بس أنا بقى مش مسمحاك... وعمري ما هاسامحك على أنك منعتني من أني أزور أبويا وهو بيموت.
= ما تحرقيش البيت يا زينب.
* يتحرق يولع. خلاص ما بقاش عندي حاجة أبكي عليها. أنا خسرت حياتي... وخسرت أجمل حاجة في حياتي. فيه إيه تاني ممكن أخاف عليه؟
= عموماً انت لك أهل... أعمام وأخوال ممكن يترد عليهم.
* مش هاقولك لا... طبعاً ليا أهل وعيلة... وأنا بحترمهم. لكن اللي كان ممكن أخاف على مشاعره واحد بس... ومات.
لم تفلح تدخلات كل أفراد العائلة في إثناء زينب عن قرارها بطلب الطلاق، كما لم تنفع توسلات أمها أو شقيقاتها، فقرر الجميع النزول عند رغبتها، في الوقت الذي لم يستسلم أعمامها لذلك، وتوعدوها إن لم تمتثل لأوامرهم، غير أنه لم يعد يوجد ما يمكن أن تبكي عليه.

الطلاق

لم يطق الزوج أن يضغط على كرامته أكثر من ذلك، ومع ضغوط والدته اضطر في النهاية إلى الرضوخ لطلب زينب وطلقها.
رغم حزنها القاسي على والدها، إلا أن السعادة عرفت طريقها أخيراً إلى قلب زينب. بعد 11 شهراً من الزواج، شعرت بأنها ولدت من جديد بعدما نالت حريتها. وعلى رغم حزن والدتها وشقيقاتها، فإن الحرية لا يقدرها إلا من حرم منها، وكان ذلك سبباً في قطيعة بينها وبين أعمامها، لأنها ارتكبت جرماً لم ترتكبه أي من بنات العائلة، لتكون أول حالة طلاق بينهن.
عاشت زينب مع والدتها في حجرة والدها، لا تغادرها، كانت تقوم بالطقوس اليومية التي يقوم بها، حتى فاجأتها والدتها بأن ما تبقى معهما من نقود قد أوشك على الانتهاء، ولم يعد في البيت نقود يمكن أن ينفقا منها على قوت يومهما خلال الفترة المقبلة:

* انت بتقوللي إيه؟ ما فيش خالص.
= أنا هاخبي عليك يا بنتي. ما انت عارفه البير وغطاه. الكام جنيه اللي كان سايبهم المرحوم أبوك يا دوب غطوا الخارجة والدفن والمعزى، وآدينا بنصرف منهم وقربوا يخلصوا.
* طب وعمي؟
= ماله عمك؟
* ما بيجبلكيش فلوس خالص؟
= عمك من يوم طلاقك ما دخلش بيتنا.
* أيوا هو حر ما يدخلش... بس مش هو والمرحوم شركا في تجارتهم مع بعض؟ فين نصيب أبويا؟
= انت بتسأليني أنا؟
* لا بسألك إذا كان أدالك فلوس من يوم ما أبويا ما مات ولا لأ؟
= يكون حرام... ولا قرش أحمر.

كانت زينب قد بلغت عامها السادس عشر، إلا أنها اكتسبت خبرة تعادل 60 عاماً، ويبدو أن إصرارها على نيل حريتها كان قد زادها قوة وصلابة، بل وإصراراً على المطالبة ببقية حقوقها من عمها، في مواجهة لم تكن تتمنى أن تحدث، غير أنه دفعها إلى ذلك:

= والله عال... كبرتي يا زينب وجايه تحاسبيني.
* لا يا عمي. أنا بس عايزة أعرف.
= تعرفي إيه؟ ما تسألي الست والدتك على اللي انت عايزة تعرفيه.
* أمي ما تعرفش حاجة. كل حاجة كانت في إيدك. حتى والمرحوم كان عايش. كانت برضه كل حاجة في أيدك.
= وانت بقى اللي جاية تحاسبيني دلوقت.
* لا إحنا بس عايزين ناكل أنا وأمي.
= وانت ما كنت عايشة ومتستتة حد كان ضربك على إيدك؟
* وهافضل طول عمري متستتة... موضوع طلاقي دي حاجة تانية وتخصني وحدي.
= خلاص طالما تخصك وحدك دوري بقى ع اللي يخصك.
* لا يا عمي أنا بدور على حق أمي. وكمان حقنا أنا وأخواتي في ورث أبونا.
= ورث... ورث إيه؟ أبوك مات مفلس. وكان ساحب فلوس مني كمان... بس هانعملوا بأصلي ومش هأطالب ولاد أخويا بالدين اللي عليه.
* تقصد إيه؟ تقصد إن إحنا ملناش حق عندك؟
= ما كانش ينعز... وعلى كل حال خدي القرشين دول.
* خليهم يا عمي... إحنا ما نقبلش حسنة. أنا كنت بحسب إن لنا حق كنت بدور عليه.

اللجوء إلى الفن

لم يكن الأمر كما ذكره عم زينب، بل كان والدها له النصيب الأكبر في التجارة التي جمعت بينه وبين شقيقه، وزينب تعرف ذلك تماماً، بل كانت على يقين من أن لها الكثير من الحق الذي تنصل منه عمها، غير أنها لم تشأ أن تقف أمام عمها وتخسره إلى الأبد. وبقيت المشكلة الكبرى، من أين تعيش وتنفق هي ووالدتها؟ خصوصاً أن ما بقي معهما قد أوشك على الانتهاء، ولم تشأ زينب أو والدتها أن يطلبا من أحد من أفراد العائلة، وإن لم تمانع من أن تبوح بهذا الهم لصديقتها المقربة خيرية:

= أنا كنت جاية وناوية أكلمك في الموضوع دا النهارده.
* موضوع إيه؟
= يعني هاتعملوا إيه هاتعيشوا أزاي ومنين انت وخالتي؟
* مش عارفة... رحت لعمي ويا ريتني ما رحت.
= ما تكمليش... باين على وشك النتيجة.
* عمري ما كنت أتصور أنه ممكن يبيع أخوه وياكل حق ولاده!
= عادي. الموضوع دا أنا شفته في رواية ليوسف وهبي.
* يوسف وهبي... مين يوسف وهبي؟
= يا نهارك غامق. في حد في المحروسة كلها ما يعرفش مين يوسف بك وهبي!
* أيوا ما انت عارفة أني مقاربة على السنة وأنا محبوسة بين أربع حيطان.
= دي مش حجة. يوسف بيه الكل عارفوه كبير وصغير... وأجدع شنب يدخل مسرح يوسف بيه ويعيط من حبكة رواياته.
* طب هو أنا ناقصة نكد عاوزاني أعيط. الناس فيها اللي مكفيها. لازم الروايات دي تضحك الناس وتفرفشهم وتزيح عنهم همومهم.
= المهم ماقلتليش هاتعملي إيه؟
* أنا بفكر أشتغل.
= أهو دا الكلام... لازم تشتغلي.
* أيوا بس هانشتغلوا إيه؟
= تسألي وأنا موجودة. مش عيب... هاتشتغلي معايا طبعاً.
* معاكي!! معاكي إيه؟
= انت شايفاني بشتغل حكيمة في المستشفى الأميري؟
* ماتجبيش سيرة الحكما الله يخليك.
= آه نسيت... طب انت هاتشتغلي معايا نغنوا في الأفراح.
* أنا... أنا نغني؟!
= آه دا أنت صوتك حلو. أجمل من كل الأسطوات اللي بينزلوا أفراح إسكندرية.

لم تندهش زينب من العرض الذي عرضته عليها صديقتها خيرية، لكنها كانت تريد من يشجعها على اتخاذ هذه الخطوة الجريئة، فهي لم تنس رغبتها في القيام بذلك منذ طفولتها، عندما اصطحبها والدها من يدها إلى مقهى شاعر الربابة لتقف أمام رواد المقهى تلقي عليهم إحدى قصائد {سيرة سيف بن ذي يزن}. ولكن كام عليها أن تقنع والدتها.
بعد إلحاح على والدتها دام ما يقرب من شهر، وبعد تجربة عملية قاما بها في السر في فرح أقيم في {زيزينيا} ذهب إليه ثلاثتهن باعتبارهن ضمن المدعوات، استطاعت الصديقتان أن تقنعا حفيظة بأن تغني زينب في الأفراح، ولكن بقيت مشكلة واحدة أساسية وهي العم، فإذا علم بقيامها بهذا الأمر ربما قتلها على رؤوس الأشهاد، فضلاً عن إمكان تبرؤ شقيقاتها منها، أو أن يكون اتجاهها إلى الغناء سبباً في طلاقهن من أزواجهن أيضاً... فما الحل إذاً؟!
جلست زينب تفكر فيما يمكن أن تفعله.

البقية في الحلقة المقبلة

لم تكن زينب قد نسيت التصفيق الذي رج أركان مقهى شاعر الربابة من الحضور، وكلمات الإعجاب التي كانت لا تزال ترن في أذنيها، ولم يفسد عليها فرحتها آنذاك إلا الصفعة التي تلقتها من عمها، والتي لا يزال ألمها فوق خدها حتى الآن... يا الله عمها سبب كل ألم شعرت به!
ذكرها ألم صفعة عمها بأنه لا يزال موجودا، فيبدو أنها نسيت وجوده، الأمر الذي يهدم كل ترتيب فكرت فيه في هذا الشأن، فضلاً عن أنها لم تأخذ رأي والدتها في الأمر، فلن تستطيع أن تفعل شيئا كهذا من دون علمها:

= انت بتلفي وتدوري على إيه؟ ما تتكلمي دوغري.
* مش لف ودوران. بس هانعمل إيه؟
= هانعمل إيه في إيه؟
* لازم أشتغل علشان ناكل ونشرب.
= أنا اللي هاشتغل... مش انتِ.
* هاتشتغلي إيه؟
= مدرسة الخديوي سعيد عايزين دادة تقعد مع العيال الصغيرين.
* دادة يا أمي. دا مش ممكن يحصل أبدا طول ما أنا عايشة. أنا اللي هاشتغل.
= هاتشتغلي إيه بس يا بنتي.
* هاغنوا في الأفراح مع خيرية صاحبتي.
= يا فضيحتي يا بنتي... تغني؟!
* وإيه الفضيحة في كدا يا أمي. هو المغنى فضيحة؟
= فضيحة وهتيكة وجُرسة.
* ليه؟ آني هانغنوا بشرف وناكل لقمتنا بشرف.
= تغور اللقمة من دا طريق.
* يا أمي أنا بقولك هانغنوا بشرف... مش هانروحوا {كوم بكير}.
= أنا عارفة أنهم ناس كويسين. بس يا بنتي الناس كلامها كتير.








images









images







 
التعديل الأخير:
22-06-2014, 05:55 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

الحرمان


كتب الخبر: ماهر زهدي





3-z6.jpg

2-z6.jpg

1-z6.jpg






جلست زينب تغني في الفرح، الذي لم يكن بضخامة الأفراح التي تقام في الأحياء الشعبية، فضلاً عن أن غالبية الحضور كانوا من الأفندية والبكوات والهوانم، ولا يثيرون ضجيجاً.
نظرت حفيظة إلى زينب وهي تغني، فأعاد المشهد إلى ذاكرتها صورة {الست بمبه العوادة} وهي تتوسط فرقتها، وتعزف على العود، بينما صوتها يصدح في سكون الليل، وسط صيحات المعجبين.
انتهت الليلة، وكان نصيب زينب من الفرح جنيه، مئة قرش صاغ، أمسكت به ونظرت إليه، ثم جرت وأعطته لوالدتها، أخذته الأم وابتسمت وهزت رأسها، ولم تكن تفهم زينب معنى أن تبتسم وتهز رأسها. هل وافقت تماماً على أن تعمل بالفن والمغنى؟ أم فرحت بالجنيه؟ خصوصاً أن ما معهما من نقود أوشك على الانتهاء.
عادت زينب من فرح زيزينيا والأسئلة تدور في رأسها، لكن ما إن دخلت إلى البيت، حتى جرت إلى حجرة والديها، فتحت خزانة ملابسهما وأخرجت منها العود الذي كان قد اشتراه والدها لوالدتها يوم مولد زينب، أخذت زينب العود وخرجت به، جلست تجرب العزف الذي لطالما دربتها والدتها عليه في أوقات المرح والغناء وعز الأسرة الذي كان.
تذكرت حفيظة متى رأت شكل العود للمرة الأولى والست {بمبه العوادة} تعزف عليه، وكيف تمنت آنذاك أن تكون مكانها، نعم مكانها... تمنت حفيظة أن تصبح مطربة، {صييته} لها تخت مثل الست {بمبه العوادة} أو {بهية المحلاوية}، خصوصاً أن صوتها أفضل كثيراً، بل وبلا مبالغة أحد أجمل الأصوات التي أنجبتها الإسكندرية.
لم يلفت نظر حفيظة أن ابنتها زينب تعزف، أو أنها لا تجيد العزف، بل راحت تفكر في ما وراء هذا المشهد:
= ياااه... بتفكريني بشبابي يا بت يا زينب. إيه لأ... اسم الله عليا ما أنا لسه في عز شبابي. غيرش بس أبو زينب هو اللي خلي بيا. كان نفسي أكون صييته وأغني وصوتي يوصل لكل الناس. لكن بقى القسمة كدا. أيووه... طب أنا ليه معارضة إن زينب تعمل اللي أنا كان نفسي أعمله. هي صحيح صوتها مش حلو أوي زي صوتي... بس تنفع تقول. لا.. لا.. الناس تقول علينا إيه؟
آااه من الناس... كلام الناس هو اللي منعني وخلاني أبعد، دا خلاني حتى أخاف أن حد يشوف العود دا في بيتي، حتى أخواتي. ويظهر أن مكتوب على بيتي هي كمان تكون ضحية للناس. مش لازم تغني... أيوا مش هاينفع. اسم أبوها واسم العيلة... لا لالا.
كان الصراع الداخلي لحفيظة مع نفسها أكبر كثيراً من الصراع الداخلي لزينب مع نفسها. كانت حفيظة تحسب حساب كل كبيرة وصغيرة، كلام الناس، صورة ابنتها أمام أهلها، عائلتها وأقاربها، ماذا سيقولون عنها؟ بل ماذا سيفعل بها أعمامها، خصوصاً عمها الكبير... وما أدراك ما عمها، فإذا كان قد أقام الدنيا ولم يقعدها عندما تجرأ والدها وأخذها معه إلى المقهى وهي لا تزال ابنة خمس سنوات، فماذا سيفعل بها اليوم؟!

اسم الشهرة
هذا تحديداً ما كان يخيف زينب، فموافقة والدتها أصبحت مضمونة، خصوصاً بعدما رضخت للأمر وذهبت معها وخيرية إلى فرح في حي زيزينيا، لكن ماذا ستفعل حيال عمها لو بلغه، أو أي من أفراد العائلة، خبر أنها أصبحت مطربة؟!
كان الجميع يفكر في كيفية الخروج من المأزق، حتى اهتدت خيرية صدقي صديقة زينب إلى حيلة، ربما تضمن عدم كشف أمرها ولو بشكل موقت في الفترة الأولى:
* إزاي... مش فاهمة؟
= انت اسمك إيه؟
* اسم الله عليكِ. مالك يا خيرية؟
= يا ست ردي عليا. اسمك إيه؟
* يا بنتي ما انت عارفة... زينب.
= أيوا زينب إيه؟
* زينب محمد سعد.
= حلو. يعني كل اللي يعرفك يعرف إن انت زينب بنت المرحوم محمد سعد.
* اسم الله عليك وحواليكِ يا روح النون. النبي حارسك وصاينك. يعني جبتي التايهة. ما أنا عارفه والناس كلها عارفة أن آني زينب بنت المرحوم محمد سعد.
= لكن الناس مش ممكن هتعرف زينب بنت المرحوم صدقي.
* مين صدقي دا.
= أبويا أنا.
* وأنا مالي ومال أبوكي.
= يا بنتي افهمي. لأن الناس كلها أهلك وعيلتك ومعارفك يعرفوا إن اسمك زينب محمد سعد. لكن لما يسمعوا إن في مطربة جديدة اسمها زينب صدقي تبقى انت بعيد عن اسم العيلة. وصلتك ولا لسه؟
* يا بنت الذين يا خيرية. أما حتة فكرة ما تخطرش على بال العفاريت ولا الأبالسة. زينب صدقي... زينب صدقي... تصدقي اسم حلو يا بت يا خيرية.
= أمال... هو آني هنختارولك حاجة وحشة... وأهو تبقى أختي رسمي يا بت.
احتضنت خيرية زينب، وتعاهدتا على المحبة والإخلاص، والمضي معاً في الطريق الجديد الذي اختارته الأقدار لزينب، واضطرت الأم إلى أن توافق عليه، وهي ليست كارهة له، لكنها خائفة من عواقبه غير المضمونة.
لم تنتظر زينب طويلاً فقد اتفقت خيرية على إحياء فرح جديد، لكن هذه المرة فرح كبير، لابنة أحد تجار الأسماك، في منطقة {كامب شيزار} وستكون زينب هي مطربته الأولى، بمعنى أنها ستقدم أكثر من خمس أغانٍ بعدما قدمت أغنية في الفرح السابق، وستصاحبها خيرية كراقصة أمامها.
كانت الأغنية التي غنتها زينب في الفرح السابق قد سبق لها حفظها، لكنها لم تكن تحفظ أغنيتين كاملتين، بل بعض مقاطع من عدد من الأغاني، كانت ترددها مع نفسها من حين إلى آخر، لكن الآن لا بد من أن تحفظ لتعمل.
أحضرت خيرية عدداً من الأسطوانات لبعض المطربين والمطربات ذائعي الصيت، من بينهم الست عزيزة المصرية، الست فاطمة العراقية، الست بهية المحلاوية، الست هانم الصغيرة، سلطانة الطرب الست منيرة المهدية، الست فتحية أحمد، الآنسة أم كلثوم، عبده الحامولي، الشيخ سيد درويش، محمد أفندي عبد الوهاب، وغيرهم، على أن تحفظ عدداً من أغاني هؤلاء المطربين والمطربات لغنائها في الفرح... بل وحفظ المزيد للأفراح المقبلة.
رشحت خيرية أسطوانة جديدة للمطربة عزيزة المصرية، على أن تحفظ زينب أغانيها، إلى حين موعد الفرح، فزادت عليها أغنية للمطرب الشاب محمد أفندي عبد الوهاب وحفظتها، وقررت أن تبدأ بها في الفرح، على أن ترقص أمامها خيرية. قدمهما مقدم فقرات الفرح: والآن مع الأختين زينب وخيرية صدقي.
يامين يحكم بينى وبينك
تبيعيني حرام على دينك
ده انس سنين يعوض الله
ما كنش عشمي انها تسلى
بقى برضه يهون عليكِ
تكسري في راس حبيبك
أنا اللي كنت اداديكِ
وطول عمري روحي فى دباديبك
كنتِ في قلبي مسا وصباح
الكل يحلف والقلب يخلف
عرفت حبك كفاية تبلف
ياما سمعت كلام وبتاع
وطريق مفروش بزبدة
طلع عليه النهار وساح
اخصى عليك غرتني يا قاسي
وسيبتني وحدي اقاسي
ولكِ عين تلومينى يا ناقصة
دى محبتي فيكِ كانت خالصة
أنا استاهل ده كله
إني صدقتك يا خاين
مين فينا خان التاني
مفروض فيها أمر فايت
خليني ساكت يكفاني نار
يرحم ايامنا لحظة غرامنا
يا عيب مابعنا كدبت أحلامنا
انسى الواحد والواحدة
تبقى قلوبهم متحدة
مفهوم مفهوم في عش الغرام
ما إن انتهت زينب من الأغنية، حتى ضج المعازيم في الفرح بالآهات وعبارات الانبساط والمديح، فقدمت الوصلتين الثانية والثالثة، ولم تخرج من الفرح إلا بعدما ردد {المعازيم} اسمها، وكانت والدتها حفيظة بين الحضور، شاهدت ابنتها تغني، وشاهدت الناس تهتف لها وتستزيدها.

فاتنة
نظرت زينب إلى صورتها في المرآة، للمرة الأولى تلاحظ أنها جميلة بالفعل، جميلة جمال بنات الجاليات الأجنبية، وليس الجمال الإسكندري لبنات البلد، فتعجبت من أمر أمها التي طلبت منها أن تحاول قدر المستطاع زيادة تبرجها كي تبدو للحضور قبيحة، فكل أم تحاول قدر الإمكان إظهار جمال ابنتها وفتنتها، إلا والدتها، تدعوها إلى أن تكون بشعة، غير أنها فهمت ما ترمي إليه بعدما هم أحد السكارى في أحد الأفراح بالتعدي عليها، عندما صعد إلى خشبة المسرح وهي تغني، وحاول أن يحتضنها ويقبلها. هنا فهمت زينب ماذا كانت تقصده أمها عندما طلبت منها أن تكون قبيحة.
منذ تلك الليلة حرصت زينب على الجلوس أمام المرآة ما يقرب من الساعة يومياً، ليس كما تفعل النساء لمحاولة إظهار حسنهن، بل للعمل جاهدة على أن تكون قبيحة، ثم الخروج من بيتها بصحبة والدتها وصديقتها خيرية سرا عندما ينتهي آخر ضوء للنهار، والعودة أيضاً سراً بعد أن يكون قد نام أهالي الشارع.

زينب العالمة
استطاعت زينب خلال أشهر أن تكون إحدى {العوالم} اللائي يطلبن بالاسم في الأحياء المحيطة بها في الإسكندرية، فلم يكن يتم فرح إلا وكانت تقوم به بمفردها، أو تشارك مع عدد من {العوالم} في إحيائه، وسط احتياطات مشددة منها لجمع معلومات عن أي فرح قبل أن تذهب إليه حتى تتقي خطر أن يتعرف إليها أحد أفراد عائلتها. لكن يبدو أن الحذر لا يمنع قدراً، حيث اتفق المتعهد الذي يعمل معها وصديقتها خيرية، على إحياء فرح كبير في {الأنفوشي}. بينما كانت تستعد لهذا اليوم وتحفظ عدداً من الأغاني التي ستحيي بها الفرح، فوجئت بزيارة غير متوقعة لشقيقتها سنية:
* أهلاً أهلاً إيه النور دا؟ والله لك وحشه يا سنية... فين يا بت من يوم المرحوم؟
- أعمل إيه يا أختي ما انت عارفه سي علي... فين وفين لما بيخرجني.
* والله بركة أنه افتكر أن لك أم وأخت وبعتك تزوريهم.
- لا أطمني من الناحية دي هو عامل ناسي على طول حتى لو فكرته كل يوم.
* أمال إيه اللي فكره يبعتك النهارده.
- هو ما افتكرش؟ بنت عمه هي السبب. ملك بنت إسماعيل اللبان اللي في الأنفوشي فرحها النهاردة. قلت له ننزلوا بدري شويه أعدي عليكم قبل ما أروح الفرح.
* اسمها ملك؟ وما تعرفيش عريسها اسمه إيه؟
- والنبي يا اختي ما فاكره... فوزي... فايز.. حاجة زي كدا. ما هو ابن رمضان الفللي.
سمعت زينب اسم العريس واسم والده، ولم تعد تستطيع أن تبتلع ريقها. استأذنت من شقيقتها وجرت إلى أمها في المطبخ، وأبلغتها بالكارثة، أن سنية ستذهب الليلة لحضور الفرح الذي من المفترض أن تغني فيه زينب. وقفتا حائرتين لا تعرفان ماذا تفعلان:
* تبعتي الواد حمو بسرعة لبيت خيرية. خليها تيجي دلوقت بالعجل.
= هنقولولها إيه؟
* قوللها أي حاجة إن شالله حتى يقولها زينب بتموت.
= الشر بره وبعيد. ودي غرقت إيه دي بس يا ربي... دا اللي ما كناش عاملين حسابه.
أرسلت زينب المرسال لطلب خيرية، فيما جلست الأم في {التراسينا} ( البالكون) في انتظار وصولها، غير أن سنية لاحظت شيئاً غير عادي في حركة زينب واضطراب الأم:
- هو في إيه؟ مالك يا أختي انت وامك مش على بعضكم؟
* ليه يا اختي بتقولي كدا. ما آدي بعضي وآدي بعضي يبقى إزاي بقى مش على بعضي.
- أمال مالكم من الباب للشباك للتراسينا؟ انت مرة وأمك مرة؟
* فرحانين بيك يا أختي.
- بمناسبة الفرح... انت مش ناوية تفرحينا تاني يا أختي.
* مين... أنا؟
- أمال بعد الشر أنا؟ طبعاً انت يا دوب عندك ييجي ستاشر سبعتاشر سنة... واللي قدك لسه ما تجوزوش.
* أنا جربت حظي مرة وعرفته... ومش هكررها تاني.
- كلام إيه دا؟ هتقعدي بقية عمرك كدا عازبة؟
* اللي شفته يخليني أكره الجواز والرجالة. أمال أنا مقاطعاهم ليه؟
- بلاش كلام فاضي. أنا عندي لك عريس إنما إيه لقطة. عنده خمسين سنة ومستوظف حكومة وعنده تلات عيال. مراته ماتت الشتوية اللي فاتت.
* عايزة تجوزيني واحد أد أبويا الله يرحمه... وكمان عنده تلات عيال.
- أيوا يا اختي ما تآخذنيش ما انت دلوقت عازبة مش بنت بنوت.
* بقولك إيه قفلي على الكلام دا وتعالي نتغدوا... أمك عامللنا صيادية ورز أحمر هتاكلي صوابعك وراهم.
من دون أن تدري فتحت سنية جرح شقيقتها الذي لم يكن قد التأم بعد، لدرجة أنه أنساها توترها وقلقها من أن تعرف سنية موضوع عملها بالغناء، وما إن وصلت خيرية حتى أوضحت زينب الأمر لها مؤكدة على ضرورة البحث عن مطربة أخرى لإحياء الفرح بدلاً منها، غير أن المشكلة في أن عنصر الوقت لم يكن في صالحهما:
= إزاي بس احنا داخلين على العصر؟ أجيب منين أنا دلوقت صييته تحيي الفرح؟
* اتصرفي. بقولك دول نسايب سنية أختي. يعني مش بس هنتفضحوا... لا وسنية هتتطلق كمان.
= يا ستي عارفة بس فكري معايا نعملوا إيه ونجيبوا مين... وحتى لو جبنا حد... هانقولوا إيه لأصحاب الفرح وهم طالبينك بالاسم؟
* يعني طالبين منيرة المهدية. قولي أي حاجة... تعبت... ماتت... انتحرت... أي حاجة.
= بعد الشر. أنا عارفة بس دي حوسة إيه دي.
استطاعت خيرية، وعبر دائرة معارفها الكبيرة أن تدبر فرقة كبيرة من العوالم، مطربات وراقصات وتخت آلاتية، واتفقت معهم على إحياء الفرح بدلاً من فرقتها التي أصبحت مطربتها الأولى زينب صدقي، وأعطت {العربون} وعنوان الفرح للفرقة. بقيت المشكلة الأهم وهي أن تقنع أصحاب الفرح بالفرقة البديلة، وهي مهمة لا بد من أن تقوم بها شخصياً.
في الوقت الذي اتجهت فيه خيرية إلى بيت أصحاب الفرح لتخبرهم بالتغير الذي طرأ على الفرقة بسبب ظروف تعانيها مطربة الفرقة، كان ابن عم العريس في طريقه إلى بيت {الست زينب العالمة} لاستعجالها لأن الوقت تأخر والفرقة التي ستزف العروسين لم تصل بعد!
استعدت سنية للذهاب إلى الفرح، فتحت باب البيت، فإذا بالسائل في وجهها:
= مش دا بيت الست زينب العالمة المتصيتة.
- لا يا عم انت غلطان في العنوان.
= غلطان مين العنوان صح... وأهو بالأمارة عمود النور هنا أهه. زي ما وصفولي بالظبط.
لاحظت زينب الرجل فجاءت تركض، وحضرت والدتها. حاولتا الانفراد بالرجل، حاولتا إبعاد سنية وصرفها، غير أنها كانت قد فهمت كل شيء، فانهارت ووقعت أمامهما مغشياً عليها.

البقية الحلقة المقبلة
بلا جمال

حصلت زينب وحدها على جنيهين أجرها في الفرح، وقررت أن تشتري أسطوانات جديدة بجنيه، والجنيه الآخر أعطته كالعادة لوالدتها التي تدير شؤون البيت.
راحت زينب تنتقل من فرح إلى فرح، ومن حي إلى آخر من أحياء الإسكندرية، غير أنها في كل مرة وقبل أن توافق على الذهاب إلى الفرح، كانت تقوم بالسؤال والاستفسار عن أهل العريس والعروس، وأهلهما وأقاربهما، وعن الحي والشارع والعائلات التي تسكن فيه، خوفاً من أن تصطدم بأحد أفراد عائلتها أو من يتعرف إليها.
لاحظت حفيظة أنه كلما صعدت زينب إلى خشبة المسرح لتغني يتهافت المعازيم عليها حتى قبل الغناء، فهم يتهافتون على جمالها قبل صوتها، فمن كان يرى زينب عن قرب يلاحظ أنها بارعة الجمال، الأمر الذي بدأ يثير قلق ومخاوف والدتها، خصوصاً أن زينب مطلقة، فاهتدت إلى فكرة تقيها شر هذا الطريق:
* إيه اللي بتقوليه دا يا أمي؟
= ما فيش حل غير كدا.
* أيوا مش فاهمة يعني إيه أبقى وحشة؟
= يعني تبقي وحشة... صعبة دي؟
* هو أنا حلوة للدرجة دي؟
= طبعاً... بسم الله ما شاء الله النهارده الخميس. خمسة من شهر خمسة.
* بس بس... إيه هو في حد غريب بينا.
= يا بت ما يحسد المال إلا أصحابه.
* طب وأبقى وحشه إزاي يا ست أم زينب.
= يعني انت مثلاً عينيك جميلة وملونة زي البرسيم الأخضر.
* آه... أخزئهم.
= يوه. بعد الشر... يا بنتي اسمعي بس. وانت بتحطي كحل تزودي الكحل حوالين عينيك أوي... علشان اللي يبص ياخد باله من الكحل ما يشوفش لون عينيك. وبقك الصغنن دا لما تحطي أحمر ابقي زودي الأحمر حواليه علشان يبان أنه كبير... وابقي لطخي وشك بشوية بويه من اللي بيحطوها دي تداري بياضك.
* طب وعلى إيه يا أم زينب. ما نحطوا {بيشه} على وشي واحنا بنغنوا وخلاص
= يا بنتي اسمعي كلامي احنا مش عايزين مشاكل والأمر ما يسلمش



كتب الخبر: ماهر زهدي
الجريدة الكويتية في
15/07/2013

http://www.cinematechhaddad.com/Cinematech/Shashat/Drama/Drama_SPSL/Dram












images








images
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
29-06-2014, 02:27 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

نساء بلا رجال
كتب الخبر: ماهر زهدي

بنت بحري زينات صدقي


( 7 )
تجمعت خيوط الشك التي كانت تدور في رأس سنية منذ أن وطئت قدماها بيت أسرتها، وأكدها لها من جاء يسأل عن {الست زينب العالمة} فانكشف السر الذي نجحت الأم وابنتها في إخفائه عن الجميع ما يقرب من سنة، استطاعت خلالها زينب أن تشتهر ويكون لها اسم مطلوب في أوساط العوالم والصييتة.
استطاعت زينب خلال عام من الغناء أن تمسك المال بيدها، بل أن تضع الذهب في يدها أيضاً، فاشترت ووالدتها كثيراً من الأساور الذهبية والحلي.
بعدما عرفت الحقيقة، لم تستطع سنية أن تقاوم حجم الكارثة التي وقعت كالصاعقة على رأسها، فخرت مغشياً عليها أمام باب المنزل حيث كان المرسال يطلب من شقيقتها الإسراع في الذهاب إلى الفرح.
نقلت زينب ووالدتها، بمساعدة بعض الجيران، سنية إلى داخل المنزل مجدداً، وما إن أفاقت وتذكرت ما سمعته من الرجل حتى انفجرت في البكاء، ولم تنجح أي من أمها أو شقيقتها في إيقافها.
- عالمة... عالمة يا زينب. زينب بنت المعلم محمد سعد أكبر معلمين بحري والجمرك تشتغل على آخر الزمن عالمة! وانت يا أمي اشتغلت إيه انت كمان؟
= لك حق يا بنتي تعملي أكتر من كدا.
- اعمل إيه؟ هو أنا قادرة أعمل حاجة. ولا انتوا خليتوا حاجة تتعمل ما خلاص. سمعتنا وشرفنا اتمرمط في الوحل.
سمعت زينب جملة {سمعتنا وشرفنا اتمرمط في الوحل} وانطلقت من مكانها كالصاروخ متجهة إلى سنية وصفعتها صفعة قوية:
* اخرسي قطع لسانك.
- بتضربيني يا زينب!
* واقطع رقبتك طالما ما عندكيش تمييز ومش عارفة بتقولي إيه؟
- أمال عايزاني أقولكم إيه يا ست زينب يا متصيتة؟ اصقفلكم وارقع زغروطة؟
* لا تصقفي ولا تزغرطي. تقعدي وتهدي وآني نفهموكي على كل حاجة.
كان الوقت قد مر سريعاً، فرأت سنية أنه من الأفضل أن تذهب إلى الفرح الذي أتت لأجله، كي لا تلفت نظر زوجها وأهله، على أن تستأذن منه لتمضية الليلة مع شقيقتها ووالدتها في بيت العائلة، لتعود لسماع قصة {الست زينب العالمة}.
ذهبت سنية إلى الفرح والكارثة تسيطر عليها، فلاحظ زوجها علي اللبان ارتباكها وتوترها، فأكدت له أنها تشعر بإرهاق وتعب، وتود لو أنها بقيت في بيت والدها يوماً أو يومين إلى حين استرداد عافيتها... فوافق.
لم يكن ما حدث من سنية وسقوطها أمام بيت والدها قد مر مرور الكرام، بل ظل بعض المحيطين بهم في الشارع يبحثون ويسألون عن السبب حتى عرفوا عن طريق الرجل الذي جاء يسأل عن {الست زينب العالمة}. غير أن الحظ خدم زينب بأن عمها محمود وأسرته كانوا قد انتقلوا للعيش في بيت أكبر في منطقة {سيدي جابر} بالقرب من بيت سنية، التي عادت مسرعة إلى بيت أسرتها، لتسمع سيرة {الست زينب العالمة} كما وصفتها وكيف عملت بهذه المهنة التي تجلب العار على كل من يمتهنها، خصوصاً من أبناء الأسر والعائلات.
حمل ثقيل
جلست زينب في حجرة ووالدتها في حجرة، فتركتهما سنية وجلست في حجرة ثالثة، وانخرط ثلاثتهن في البكاء، لم يوقفهن إلا حضور خيرية صديقة زينب:
# إيه دا هو إيه اللي بيحصل هنا؟
- مش عارفة إيه اللي بيحصل يا ست خيرية؟ طب زينب وصاحبتك قدرتي تاكلي بعقلها حلاوة لكن الست الكبيرة تسمع كلامك وتطاوعك أزاي؟
# إيه الكلام دا يا سنية... أنا؟!
* خيرية مالهاش دعوة يا سنية. لو كان فيه غلط حصل يبقى غلطتي أنا. كلميني أنا.
- أكلمك بعد أيدك ما اتمدت عليا.
* تنقطع الأيد اللي اتمدت عليك يا أختي.
- لا بعد الشر. بس أنا عقلي هيشت مني... إزاي تعملي كدا؟
* آني عايزه نسألوكي جيتي كام مرة هنا من ساعة أبوكِ ما مات... انت وأخواتك.
- ما انت عارفة مش بخاطري الخروج والدخول.
* عارفة يا أختي... مش القصد. بس نقصد نقولك جيتي كتير جيتي قليل. سألتي نفسك مرة البيت دا ماشي إزاي من بعد المرحوم. سألت نفسك أنا وأمك بنصرفوا منين؟ سألت نفسك ليه عمنا أخد نصيبنا من تجارته مع أبونا وما حدش من أخواته ولا من العيلة قاله فين حق الولايا؟ مسألتيش نفسك بناكلوا ونشربوا إزاي... ولا بنمد أيدنا للناس وناخدوا صدقة.
- بعد الشر عليكم من الصدقة. أنا عمري ما جه في بالي نسأل. كنت حاسة إن البيت ماشي زي ما كان ماشي أيام المرحوم... ما عرفش يعني.
* وأخواتك برضه ما يعرفوش. بس ما حدش حاول يعرف إحنا عايشين إزاي؟!
- وهو ما فيش غير الشغلانة دي يعني؟
* مالها... بنشتغلوا بشرفنا وعمر ما حد داس لنا على طرف.
- أيوا يا أختي بس العيلة... واسم المرحوم؟
* العيلة اللي ما سألتش علينا من يوم المرحوم ما مات... وبعدين أنا بشتغل باسم زينب صدقي. يعني اسم محمد سعد هيفضل بعيد.
على رغم عدم موافقة سنية على ما تقوم به زينب بشكل كبير، فإنها اقتنعت تماماً، بل وأصبح لديها استعداد لأن تدافع عن زينب وما تقوم به أمام بقية شقيقاتها وأزواجهن أو غيرهم ممن يمكن أن ينتقدوا عملها، غير أن زوجها لم يسأل عن شيء فاطمأنت أنه لم يعلم بأمر زينب، كما لم يعلم أحد من أفراد العائلة.
شعرت زينب بأن جزءاً من الحمل الثقيل الذي كانت تحمله في صدرها قد انزاح بمعرفة سنية بأمر امتهانها الغناء في الأفراح، ما أتاح لها فرصة العمل بشكل أكبر، وعلى نطاق أوسع، حيث قدمت لها صديقتها خيرية عرضاً جديداً، كان لا بد من أن تتوقف زينب عنده قبل اتخاذ قرار فيه:
* لا استني عليا يا خيرية أبلع ريقي وأخد نفسي وبعدين عيدي الكلام عليا تاني.
= هي حدوتة... بقولك ها نشتغلوا في كازينو {محمد علي} اللي في {زيزينيا}.
* هنعملوا إيه؟
= اسم الله عليك وحواليك. هو إحنا ياختي بنعملوا إيه؟ بنشتغلوا طباخين ولا سفراجية؟ انت هتغني وأنا هنرقص.
* هنغنوا ونرقصوا كدا قدام الناس.
= وهو إحنا لما بنغنوا ونرقصوا في الأفراح مش بيكون اللي قاعدين قدامنا برضه ناس. في إيه محسساني أنك أول مرة تغني؟
* مش القصد. بس لما يتقال بنغني في فرح غير لما يتقال بنغني في تياترو.
= فرح... تياترو... قهوة... المهم إنك بتغني للناس. المكان اللي بتغني فيه بقى اسمه إيه مش مهم. خلينا بقى نقب على وش المالح.
* هيدونا كام في التياترو دا؟
= كل واحدة فينا هتاخد اتنين جنيه في الجمعة.
* اتنين جنيه في الجمعة... سبعة أيام. دا إحنا بنروحوا الفرح الواحدة مننا بتاخد اتنين جنيه غير النقوط.
= ايوا ماهو مش كل يوم في فرح. هو فرح كل أسبوع... وسواعي أسبوع آه وأسبوع لا... لكن هنا النهارده تاخدي اتنين جنيه في التياترو دا بكره تلاتة في غيره بعده عشرة في واحد جديد.
بعد الصدمة الأولى، استوعبت زينب الدرس، فجمعت والدتها وشقيقتها وعرضت عليهما الأمر قبل الموافقة، وبعد مناقشات طويلة ومستفيضة حول هذه النقلة المهمة في مشوارها المهني، وافقت كل من الأم والشقيقة سنية، فلم تعد زينب {عالمة أفراح} بل انتقلت إلى خانة مطربة محترفة في تياترو {محمد علي}، مكان له اسم معروف، منذ عام 1918.
مطربة التياترو
استعدت للوقوف للمرة الأولى على خشبة تياترو {محمد علي}، فكان لا بد من أن تحضِّر أغنية أحبها الجمهور، وهو الأمر الذي كان عليها أن تناقشه مع صاحب التياترو الخواجة {إيليانو}:
= ست زينب انت لازم غني أغنية مشهور الناس ييجي مبسوط كتير.
* أيوا يا خواجة أنا عارفة.
= شوف ست زينب. صحيح أنا يتكلم مصري مكسر لكن أنا مصري. أنا عشت في مصر عشر سنين... أنا مش خواجة.
* ماشي يا خواجة. قصدي يا عم إيليانو. انت عندك أغنية معينة؟
= أنا عندي واحدة أسطوانة عليه أغنية لمرحوم شيخ سيد درويش، بصوت محمد عبد الوهاب سجلها مع بيضا فون السنة اللي فات... حاجة مظبوط خالص.
حفظت زينب اللحن الجديد للمطرب محمد عبد الوهاب، بمساعدة {عواد} فرقة التياترو عطية أفندي، نهاراً مع مواصلة التدريب ليلاً في البيت بمساعدة والدتها على العود أيضاً، حتى كانت الليلة الأولى لظهورها على خشبة المسرح بمفردها من دون مصاحبة خيرية لترقص أمامها، حيث خصص لكل منهما فقرة تقدمها بمفردها. ما إن أعلن المذيع الداخل للتياترو عن المطربة الجديدة زينب صدقي، حتى شعرت زينب بأنها سيغشى عليها، وأنها نسيت اللحن وكلمات الأغنية، وظلت واقفة مكانها على رغم إعلان المذيع عن اسمها أكثر من مرة، حتى جاءت خيرية من الخلف ودفعت بها إلى خشبة المسرح، لتجد نفسها وجهاً لوجه أمام الجمهور الذي استقبلها بفتور، ما زاد من توترها وقلقها، ولكن ما إن عزفت الموسيقى اللحن حتى انطلقت زينب:
خايف أقول اللي في قلبي تتقل وتعند ويايا
ولو داريت عنك حبي تفضحني عيني في هوايا
أنا زارني طيفك في منامي قبل ما حبك
طمعنى بالوصل وسابني وأنا مشغول بك
عايز أعاتبه لكن خايف يروح يقول إني بحبك
ولو داريت عنك حبي تفضحني عيني في هوايا
صعبان عليّ أشوف غيري عاش متهني
راضي بقليلي ويرضيني بعدك عني
وأملي قربك ونعيمي وأقول لقلبي إني بحبك
ولو داريت عنك حبي تفضحني عيني في هوايا
يسألني ما لك وأنا حالف إني أخبي
والعين خانتني وبات عارف اللي في قلبي
روحي وحياتي تعالالي ما دام عرفت إني بحبك
ولو داريت عنك حبي تفضحني عيني في هوايا.
الجمهور الذي استقبلها بفتور التهبت أياديه من التصفيق لها بمجرد انتهاء الأغنية، ولم تصدق زينب ما تسمعه وتراه من استقبال الجمهور لها.
أزمة القطن
لكن يبدو أن دوام الحال من المحال، وفجأة تعرض الاقتصاد المصري لظروف كارثية في عام 1929، بعدما أعلنت بورصة الإسكندرية عن انخفاض أسعار القطن، الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد المصري، في الأسواق العالمية بنسبة 70%، نتيجة للأزمة الحادة التي واجهتها صناعة النسيج البريطانية، المستورد الرئيس للقطن المصري، ما أدى إلى موجة واسعة من ارتفاع الأسعار وحالة من الكساد، وطرد عدد كبير من الفلاحين من الأراضي الزراعية من كبار الملاك المصريين والأجانب، وتضخم عبء الضرائب والإيجارات والديون للمرابين والتجار، واستغلت البنوك والشركات الأجنبية الوضع وطردت الفلاحين من أراضيهم بسبب الديون التي لم يسددوها، فقد كان رأس المال الأجنبي يتحكم بشكل مباشر في كل مجالات النقل والكهرباء والبنوك والصناعة والرهونات الزراعية، بل وأيضاً الملاهي الليلة. انعكس ذلك كله بشكل كبير على رواد الملاهي، حيث كان معظمهم من كبار التجار وبائعي القطن، الذين انتقى الفنان نجيب الريحاني شخصية من بينهم وقدمها باسم {كشكش بك} فيزيد لمعان هذه الشخصية، وتنتشر على مسارح الإسكندرية، حيث أقبل الجمهور على هذه النوعية من المسرح، التي تقدم له تشكيلة فنية متنوعة، بين الرقص والغناء والتمثيل والمونولوج، فابتعد إلى حد ما عن الملاهي التي تقدم الطرب فحسب، وبدلاً من رجاء الخواجة {ايليانو} لزينب أن تبقى كما كانت معه، تبدل الأمر وراحت ترجوه أن يبقي على الجنيهين، بعدما قرر أن يخفضهما إلى جنيه فقط في الأيام الثلاثة التي تغني فيها في التياترو.
مع تدهور الأحوال الاقتصادية وارتفاع الأسعار، وجدت خيرية صدقي، صديقة زينب، أن الإسكندرية لم تعد تتسع لهما، ففكرت في البحث عن ساحة أكبر:
= أيوا مصر... انت خايفة ليه؟
* مش مسألة خايفة... بس هانروح نقول يا مين في مصر.
= أيوووه... لك حق ما انت ما خرجتيش من إسكندرية.
* يعني هنكدبو؟ أيوا ما خرجتش من إسكندرية. يبقى أول ما نشطح ننطح نروح مصر وآني ما نعرفوش حد هناك.
= لأ تعرفي.
* أعرف مين؟
= خيرية!! هو أنا مش ماليه عنيكي؟
* انت تملي عين فؤاد الأول.
= يبقى خلاص بينا على مصر.
* انت بتتكلمي إزاي بس؟ أنا مش منقولة من هنا إلا لما اعرف هانشتغلوا فين وهنسكن إزاي. انت ناسية أني لازم أخد أمي معايا. منقدرش نخطي خطوة من غيرها.
= خلاص أنا هروح أدبر الأمور هناك أنا أتعرفت على الست ماري منصور وهي قالتلي أنزل لها التياترو بتاعها في مصر في حته اسمها روض الفرج. هروح وأظبط الدنيا معاها وأكلمها عنك. وأرجع أخدك أنت وخالتي.
غادرت خيرية الإسكندرية متجهة إلى القاهرة وكلها أمل وتفاؤل في حياة جديدة تجمعها بصديقتها زينب، رسمت ملامح هذه الحياة بينها وبين نفسها، أثناء رحلة القطار إلى القاهرة، لكن ما إن وصلت إلى مكان تياترو ماري منصور في روض الفرج، حتى تحطمت كل الأحلام على صخرة التياترو المغلق!
اكتشفت خيرية أن التياترو مغلق وأن ماري منصور لم تجد ما تنفق به على نفسها، وليس على العاملين في فرقتها، بعدما ساد الكساد تجارة الفن والترفيه أيضاً، وسيطرت الأحوال الاقتصادية السيئة على كل شيء.
في طريق رحلة العودة من القاهرة إلى الإسكندرية، اضطرت خيرية إلى أن تبيت ليلتها في إحدى لوكاندات شارع عماد الدين، على أن تستقل القطار في صباح اليوم التالي عائدة إلى الإسكندرية، فقادتها الصدفة إلى التقاء يوسف عز الدين، الذي كان يجهِّز فرقة مسرحية للسفر بها إلى بيروت، لتقديم عدد من ليالي الفرقة هناك، فما إن تعرف إليها حتى وافق على ضمها إلى الفرقة فوراً، مشترطاً عليها أن السفر من الإسكندرية بعد خمسة أيام.
حاولت خيرية أن تعرض على يوسف أمر صديقتها زينب، غير أنه لم يوافق:
= دي مطربة دقة زمان... متلقيش منها دلوقت.
- دقة زمان... دقة دلوقت... مفيش مكان. ثم انت بتقولي إنها مطربة. أنا إزاي أوافق على مطربة لا شفتها ولا سمعتها؟
= أنا المسؤولة عنها ياسي أمين.
- وانت مين مسؤول عنك. في حاجة اسمها أنا المسؤولة. يلا يلا نتقابل في المينا في إسكندرية يوم الحد اللى جاي.
سافرت خيرية إلى الإسكندرية وهي تفكر في ما يمكن أن تقوله لصديقتها، فقد تركت الإسكندرية وهي متحمسة لأن تصحبها معها إلى القاهرة، ولولا تعقل زينب وتمهلها لكانت قد أتت معها إلى القاهرة، ولو أنها فعلت ذلك فكيف كانت ستتصرف الآن؟ وماذا ستقول لها عن سفرها إلى بيروت، نعم هي رحلة قصيرة لن تستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع، ولكن هذه الأسابيع الثلاثة قد تغير أموراً كثيرة.
عادت خيرية إلى بيتها لتحضير حقائبها والاستعداد للسفر إلى بيروت، وهي تظن أنها ستفاجئ زينب بخبر سفرها إلى بيروت، غير أنها فوجئت بصديقتها وقد جهزت لها مفاجأة من نوع آخر.
(البقية الحلقة المقبلة)
جنيهان أسبوعياً
أصبحت زينب إحدى مطربات كازينوهات الإسكندرية وملاهيها، بل وراح الجمهور يطلبها بالاسم إذا غابت يوماً، على رغم أن صوتها لم يكن في جمال صوت أمها، فإنها في نهاية الأمر كانت تعرف جيداً أن جمهورها يكون معظمه من السكارى، وربما لم يبحث أغلبهم عن الطرب الأصيل، ولكنها تؤدي جيداً وتحفظ الأدوار بشكل صحيح، وتستطيع أن تأتي بالمقام من دون نشاز، ما جعل لها وجوداً بين مطربات الملاهي، فاتفقت مع الخواجة { إيليانو} على أن تغني في ملهى {محمد علي} ثلاثة أيام فقط، وبالمقابل نفسه، جنيهان في الأسبوع:
= ازاي ست زينب؟ انت يغني ستة أيام باتنين جنيه.
* شوف يا خواجة.
= ست زينب أنا مش خواجة... أنا مصري.
* طب شوف يا سي مصري... أنا بصراحة عندي عرض أغني فى اللونا بارك بستة جنيهات في الأسبوع.
= دا واحد مجنون. ستة جنيهات في أسبوع كتير... كتير.
* خلاص. أنا علشان العيش والملح هغني تلاتة أيام هنا وتلاتة أيام هناك.
= حرام عليك زينب. أيليانو واحد مسكين.
* وزينب كمان يا خواجة مصري مسكين أكتر.
اتفقت زينب على أن تغني الأيام الثلاثة الأخرى في ملهي {لونا بارك} مقابل جنيهين أيضاً، ليكون أجرها في الأسبوع أربعة جنيهات، لترتفع أسهمها وتشعر بحالة من الانتعاش الاقتصادي الذي لم تعتد عليه، فجدّدت أثاث بيت الأسرة بالكامل، لتشعر الأم بما وصلت إليه ابنتها.
الجريدة الكويتية في 16/07/2013كافة الاجزاء القادمة منقولة منhttp://www.cinematechhaddad.com/Cinematech/Shashat/Drama/Drama_SPSL/Drama_SPSL_1_Zainat_7.htmو الصور من النت

بنت حميدو: نوفمبر 2010
mosh3arfa7aga.blogspot.com608 × 599Search by image


Related images:
View more


Images may be subject to copyright.Send feedback


www.new7ob.com

www.startimes.com





images





images





images






التعديل الأخير تم بواسطة البريمل; 29-06-2014، الساعة 03:07 PM
 
15-07-2014, 08:44 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

توابل / بنت بحري زينات صدقي 8
ضحايا الإقطاع



الأربعاء 17 يوليو 2013
أصبح المجتمع المصري يشرف على انهيار اقتصادي كبير ما ترتب عليه ازدياد معدلات الفقر وتهميش غالبية الفئات الاجتماعية المطحونة وتضخم ثروة الأقلية الأرستقراطية بمساندة الاستعمار والقصر، لذلك لم تجد زينب طريقاً للخلاص من هذا الفقر سوى أن تعمل في أكثر من مكان في وقت واحد.





301.jpg

302.jpg






كتب الخبر: ماهر زهدي

T+


T-



على رغم حالة الكساد الاقتصادي التي كانت تعيشها مصر آنذاك، فإن الملاهي والمسارح عادت للعمل، فقد نجح الشيخ سيد درويش قبل رحيله في «تثوير الموسيقى» أي جعل الموسيقى تضج بالثورة وإلهاب حماسة الشعب بدلاً من الخطب، ما جعل المسارح والملاهي الليلية تعمل بشكل كامل، لاعتمادها على أشكال الغناء والموسيقى، إرضاء للأذواق كافة، في حين نجح البعض الآخر من التعاقد مع بعض المتعهدين في سورية ولبنان وفلسطين، لإقامة بعض الحفلات خلال فترة الصيف، ما فتح أبوابا جديدة أمام الفنانين الذين استغنت عنهم الفرق والملاهي الليلية في القاهرة والإسكندرية.
عادت خيرية من القاهرة، رتّيبت حقائبها، واتجهت فوراً إلى بيت صديقتها زينب، لتزف إليها مفاجأة سفرها إلى الشام من ناحية، وقررت من ناحية أخرى أن تبقى معها في بيتها الأيام القليلة المتبقية على السفر، لعلها تفلح في أن تقنعها بالسفر معها في رحلة الشام، حتى لو على نفقة خيرية، غير أن زينب قد أعدت لها أكثر من مفاجأة، واستقبلتها ساخرة:

* رجعتي بسرعة يعني. انت مش كنت ناوية تقعدي في مصر وتبعتي لي بعد ما تمضي العقود مع الست ماري؟
= بلاش تريقة أبوس رجلك... الولية فلست وبقى عليها ديون أد كدا... حتى مش عارفة تدفع أجور الفرقة.
* قولنا كدا قالوا اطلعوا من البلد. ما هو رب هنا رب هناك ورزق هنا رزق هناك.
= آني مش بندور على فلوس أكتر آني بس غرضي ما نقعدوش في البيت. انت عارفة اللي زينا لو قعدوا في البيت يومين مش هايلاقوا ياكلوا.
* بعد الشر عليا وحواليا...بعيد بعيد.
= إيه في إيه...
* خايفة أتعدي من فقرك... أنا دلوقت واحدة مطلوبة في كل مكان.
= وأنا واحدة مسافرة على بلاد الشام.
* تاااني.
= وتالت وعاشر... إحنا ورانا إيه غير أننا نروحوا ورا الرزق مكان ما يكون... بس استني عندك هنا. إيه حكاية بقيتي مطلوبة في كل مكان؟
* مش هقولك إلا لما تقوللي انت الأول... إيه حكاية السفر للشام دي؟
= هقولك كل حاجة ما أنا ناوية أقعد عندك هنا لحد يوم السفر كمان تلاتة أيام.

رفضت زينب أن تسافر مع خيرية، خصوصاً أن لديها وعداً بتعاقد جديد، بعدما التقت صدفة مع عبد العزيز محجوب، متعهد حفلات وشريك في مكتب لإلحاق المطربين والمطربات والراقصات بالفرق الفنية، ووعدها بالتعاقد مع فرقة «حورية محمد»، إحدى أشهر راقصات عماد الدين والأزبكية، بل ومن أشهر صاحبات الفرق الفنية، وكانت قد استأجرت كازينو جديداً في الإسكندرية خلال الصيف، بداية من أبريل وحتى سبتمبر، باسم «تياترو مونت كارلو» وكانت تحتاج إلى أن تحشد له عدداً كبيراً من المطربين والمنولوجستات والراقصات، فقدمها عبد العزيز للست حورية:

= اسمك إيه يا حبيبتي؟
* زينب... زينب صدقي.
= انتوا أخوات ولا قرايب؟
* أنا ومين؟
= انت وزينب صدقي اللي بتشتغل مع كشكش بيه؟
* لا ما عرفهاش... أنا ما فيش حد في أخواتي بيشتغل في الفن.
= ليه؟ هو الفن عيب؟
* لا يا ست مش عيب. ما أنا أهه بشتغل أرتيست.
= وبتعملي إيه بقى يا ست الأرتيست؟
* بغني.
= بتغني... الله يوكسك يا عبد العزيز. قلت له عايزة رقصات مش مغنيين.
* حصل خير ما فيش مشاكل... بعد إذنك.
= لا والنبي ما انت ماشية... تعرفي تقولي مونولوج؟
* أعرف...
= زي بعضه. أهو أنت تقولي منولوج، والجدع اللي جايبه عبد العزيز دا اللي اسمه إسماعيل ياسين يقول مونولوج... وتبقوا نمرتين جداد.

مطربة مغمورة

لم تعتد زينب صدقي أن تغني المونولوج، غير أنها قدمته وفرحت بالتعاقد الجديد، خصوصاً أنها تعاقدت بمبلغ 25 قرشاً في الليلة، في الوقت الذي تعاقد فيه إسماعيل ياسين بمبلغ 20 قرشاً في الليلة، وسيكون العمل مضموناً طيلة أشهر الصيف، وهو تعاقد مثمر بالنسبة إلى مطربة «مغمورة» مثل زينب، وهي الكلمة التي كانت تضايقها كلما سمعتها من صاحب ملهى أو مدير فرقة... «مطربة مغمورة». غير أن حورية محمد دلتها على الطريق الصحيح بعدما استمعت إلى صوتها، وأعجبت به بشكل كبير:

= ما تزعليش. كلنا كنا في الأول مغمورين لحد ما ربنا فتح علينا. انت بقالك كام سنة في الكار دا؟
* سنتين.

ضحكت حورية محمد ضحكة عالية:

= سنتين وزعلانه ومستعجلة... اللي قدامك دي بقالها فوق عن الخمستاشر سنة... لفتها من شرقها لغربها... ما خلتش أفراح موالد. إيشي أغنيا وإيشي فقرا... مصر وإسكندرية والشام... لحد ما بقيت الست حورية محمد على سن ورمح.
* يعني أنا لازم استنى خمستاشر سنة علشان ناكلوا ونشربوا ونعيشوا زي البني آدمين.
= لا يا حبيبتي أنا أقصد علشان تبقي صاحبة فرقة ولك اسم في البر كله. اسمعي أنا عندي فكرة... إيه رأيك تروحي تغني في الإذاعة؟
* الإذاعة!
= آه... زميلك اللي اسمه إسماعيل ياسين بيقول مونولوجات في الإذاعة وبيدفعوله كويس.
* والله... إن كان كدا. هنا في إسكندرية فيه كذا إذاعة من بكره... ألف عليهم.

اقتنعت زينب بكلام حورية محمد، وقررت الاتجاه إلى المحطات الأهلية وأن تقدم نفسها لأصحاب المحطات الذين يبحثون عن الأصوات الجديدة ويقدمونها للمستمع، خصوصاً أن عليها إقبالاً لا بأس به من الجمهور، إضافة إلى أن أصحاب الملاهي والكباريهات يتعرفون من خلالها إلى المطربين الجدد ويدعونهم للعمل لديهم، لعل حظه «يضرب» ويقع عليه الاختيار.
كان معظم المحطات الأهلية في ذلك الوقت يسيطر عليها الأجانب واليهود، وعلى رغم محدودية جمهور هذه الإذاعات الأهلية التي تنطلق بشكل محلي ضيق، فإن زينب قررت أن تجرب حظها مع إحدى هذه المحطات الموجودة في الإسكندرية، التي كان صاحبها يهودياً:

= أهلاً أهلاً. أمال طبعاً دا احنا نتشرف... اتفضلي واسم الهانم إيه؟
* زينب محم... لا زينب صدقي.
= حلو زينب صدقي... وهتغني إيه؟
* اللي انتو عايزينه.
= لا يا حبيبتي... انت هتقولي إيه؟
* أنا حافظة حاجات كتير.
= كويس كويس خالص... مين بقى اللي بيكتب لك ومين اللي بيلحن لك؟
* يكتب ويلحن ليا أنا؟
= أمال ليا أنا يا حبيبتي؟ طبعاً انت... مش بتقولي حافظة حاجات كتير.
* أيوا... أغاني للست منيرة المهدية... للست فتحية أحمد... للأنسة أم كلثوم... محمد أفندي عبد الوهاب.
= حبيبتي كل دول على عيني وراسي... لكن أنت فين.
* مش فاهمة؟
= فين الأغاني بتاعتك؟
* معنديش!
= طب سبق لك عبيتي أسطوانة
* لأ.
= طب سبق لك غنيتي في إذاعات قبل كدا؟
* برضه لأ... دي أول مرة.
= آه... طب شوفي حبيبتي... أنا ما عنديش مانع تغني أغنية واحدة... واحنا هنذيعها لك تمن مرات في الشهر... يعني في الأسبوع مرتين.
* حلو... حلو أوي.
= أوكيه حبيبتي. هتدفعي بس اتناشر جنيه.
* هدفع ولا هخود.
= لا حبيبتي... انت في الأول هتدفعي بعد كدا الفلوس ييجي
* منين؟
= الأغنية هتعملك شهرة كبيرة والناس كله هيعرفك... وكمان شركات الأسطوانات هتجري وراكي... أمال؟ إحنا الإذاعة بتاعتنا إسكندرية كله بيسمعه.

لم يفلح طريق الإذاعة حيث اكتشفت أنها لا بد من أن تدفع أولاً، أو يكون لها اسم يسبقها لتفتح لها الأبواب، فقررت الاكتفاء بالعمل في الملاهي الليلة إلى حين تحقيق أحد أمرين، إما أن يكون معها مال تقدم به نفسها، أو شهرة واسعة تفتح لها الأبواب.
عادت خيرية من رحلة الشام لتجد صديقتها لم تخط خطوات جديدة، غير أن خيرية كانت قد تعاقدت خلال رحلتها في الشام على العمل مجدداً في فرقة ماري منصور، التي التقت بها أيضاً في بيروت، وقد اتفقت مع متعهد يمول فرقتها مقابل نصف الإيراد، فلم تستمر خيرية طويلاً في الإسكندرية، واتجهت إلى القاهرة لتلحق بافتتاح الفرقة الجديد.

دراسة الفن

شعرت زينب بأنها تقف مكانها لا تتقدم خطوة، فإذا كانت خيرية تجرب حظها في الإسكندرية والقاهرة وتسافر إلى بيروت ودمشق، فإنها تحاول أن تطرق أبواباً عدة، ومن الجائز أن يفتح لها أحد الأبواب المهمة يوماً. أما زينب، فحتى عندما قررت أن تتجه إلى الإذاعة، وجدت شروطاً قاسية لا تتوافر لديها.
قررت أن تبدأ صفحة جديدة في حياتها، ساعدها على ذلك الإعلان الذي قرأته في هذا اليوم على باب تياترو «محمد علي» الذي عادت إليه بعد انتهاء الصيف، وانتهى تعاقدها مع تياترو «مونت كارلو»:
«يعلن الأستاذ زكي طليمات عن افتتاح «معهد أنصار التمثيل والخيالة» في منطقة رشدي على الكورنيش، وأنه يسعده أن يستقبل الدارسين والدارسات اعتباراً من يوم الأحد 5 نوفمبر 1930 لدراسة فن الدراما والإلقاء وأصول التمثيل».

كان زكي طليمات قد عاد قبل عامين من بعثته الدراسية في باريس، حيث ظل هناك لمدة ثلاث سنوات لدراسة فن التمثيل والإخراج، تتلمذ فيها على يد «ديني دينيس»، وعندما عاد من بعثته في أكتوبر من عام 1928، عين سكرتيرا لمدير الفنون الجميلة، وفي ديسمبر 1929 نقل إلى وظيفة «معاون» في «دار الأوبرا الملكية»، قبل أن يبادر بجهد فردي إلى افتتاح هذا المعهد لتدريس الدراما وفن الإلقاء.
لم تنم زينب ليلتها، وظلت تفكر في الأمر، وفي الصباح كانت قد اتخذت قرارها بالدراسة في المعهد، وذهبت وهي تتمنى ألا يكون مغالياً في مصروفاته كي تستطيع توفير مصروفات الدراسة من قروشها البسيطة التي تتقاضاها من تياترو «محمد علي»، غير أنها ما إن وصلت حتى اكتشفت أمراً لم يكن لها ببال، فمن بين مميزات المعهد إلى جانب الدراسة، أنه يمنح الدارس راتباً شهرياً قيمته أربعة جنيهات طوال فترة الدراسة، تشجيعاً على انضمامه إلى المعهد، تحديداً من الفتيات، فقد كانت الغالبية العظمى من الأسر لا تعترف بمثل هذا النوع من الدراسة. بقي عليها أن تجتاز المقابلة الشخصية مع مدير المعهد زكي طليمات:

= اسمك إيه يا شاطرة؟
* زينب محمد... والشهرة زينب صدقي.
= عندك اسم شهرة من قبل ما تبدئي؟
* أصل... أصل.
= أصل إيه؟
* أصل لو عيلتي عرفت أني...
= أيوا... مفهوم مفهوم. انت مثلتي قبل كدا؟
* لأ.
= طب انت عايزة تدرسي دراما ليه؟
* عايزة أتعلم التمثيل.
= عمرك ما وقفتي على خشبة مسرح؟
* بقف عليها كل يوم... بس علشان أغني.
= انت بتغني؟
* أيوا.
= هايل. دا ها يساعدك كتير... وكمان وشك حلو. يعني تنفعي تبقي أرتيست كويسة. قوللي يا زينب.. انت متعلمة.
* أنا ناجحة في سنة رابعة ابتدائي.
= كده... هايل هايل.

ضد الحكومة

انتظمت زينب في دراستها في المعهد، بسعادة لم تستطع وصفها أو تحديدها، لكن يبدو أن السعادة دائماً عمرها قصير، فلم تمر ستة أشهر على افتتاح المعهد وقامت ضده حرب شرسة من الدولة، وفي 16 أبريل، جمع زكي طليمات الطلبة الدارسين في المعهد، ليبلغهم بأنه قد صدر أمر من وزارة الداخلية بإغلاقه في صيف عام 1931 بحجة مخالفته للتقاليد والآداب:

= أنا النهارده بجتمع بيكم في مناسبة غير سعيدة.
* خير يا أستاذ؟
= مش خير أبداً يا زينب... مش خير... الدولة شايفة أننا بنعلمكم قلة الأدب وأننا بنخالف التقاليد والأعراف.
* إيه الكلام دا يا أستاذ؟ مش ممكن!
= دا مش كلامي أنا... دا كلام الدولة. فيه مجموعة من الناس عاملين إنهم بيفهموا في الدين والأخلاق أكتر من غيرهم... وشايفين أن التمثيل والفن حرام... وخروج على الآداب والتقاليد. علشان كدا قرروا أنهم يقفلوا المعهد.
* مش ممكن إزاي.
- بس دا حرام.
ـ ليه كدا إحنا ما صدقنا نلاقي مكان نتعلم فيه فن بجد.
= معلش يا ولاد. إحنا مش هانستسلم. وإذا كان المعهد هيتقفل النهارده فأنا بوعدكم أنه لازم يرجع ويفتح أبوابه من تاني... مهما حصل.
* يسقط الظلم... يسقط الاستبداد.

(البقية في الحلقة المقبلة)



زعيمة المعارضة



تزعمت زينب الطلاب الذين راحوا يهتفون ضد الحكومة ويطالبون بإسقاطها، فاعتلى زكي طليمات خشبة مسرح المعهد وراح يخطب في الطلاب مندداً بموقف الحكومة، ومدللاً على قيمة الفن والفنانين، والعلاقة السرية بين أهل الفن وأهل السياسة:

= أنا مش عايز هتافات لكن اللي أنا مستغرب له ليه الحكومة بتتبرأ من مكان زي دا، ومن معهد علم بيتم تدريس الفن فيه؟ ليه الحكومة بتتبرأ من الفن وتكيل له كل هذه الاتهامات؟ أنا مش هاعد الأعمال الوطنية اللي قام بيها الفنانين في مصر طولها وعرضها، لكن يكفيني أذكر بس ابن إسكندرية خالد الذكر سيد درويش، والأعمال اللي قدمها وألهب بها حماسة المصريين من إسكندرية إلى أسوان، واستمرار هذه الأعمال بعده، وآخرين واصلوا المسيرة بعده... ليه الحكومة ناسية أن كثيرا من الوطنيين كانت لقاءاتهم تتم في كازينوهات وملاهي شارع عماد الدين في مصر، وعلاقاتهم السرية مع كتير جدا من الفنانين والفنانات، ولا هم بيحبوا تكون العلاقات في السر بس. لا والملك شخصياً، زبون دائم في هذه الأماكن. ليه بينظروا للفن النظرة الدونية دي، رغم أن الفن لهم عظيم الأثر في تقدم الشعوب وحضارتها ونهضتها، بل أهل الفن له دور مهم وعظيم في إثراء الحركة الوطنية المصرية، مش من النهاردة بس، لكن من زمان، من أيام الوالي الكبير محمد علي ولحد النهارده وبكرة والأجيال اللي جاية. أنا فاكر إن الكاتب الكبير محمد تيمور كتب مقال بجريدة السفير سنة 1924 قال فيه: «إن إحدى الوزارات شكلت في كواليس مسرح «برنتانيا»، واجتمعت لأول مرة في عوامة منيرة المهدية قبل أن تذهب لحلف اليمين صباحاً أمام السلطان حسين».


شارع عماد الدين


كان أصحاب الفرق المسرحية، في هذه الفترة، تحديداً من النساء، حاكمات بأمرهن في «دولة شارع عماد الدين» وغيرها من مناطق محيطة تنتشر بها دور المسارح والملاهي والكازينوهات، يتقرَّب إليهن الجميع بالتزلف والنفاق والخدمات، ليس من عامة الشعب فحسب، بل في مقدمهم بعض رجال الحكم والسياسة، حيث كانت لياليهم تمتد في عوامات على النيل، تحدد فيها أحياناً سياسات وأنظمة تتصل بالشعب، ويُتَّفَق على هذه الأمسيات والليالي في شارع عماد الدين، حيث كانت المسارح منارة حقيقية للفن والوطنية، قدمت أشكالاً فنية وأبنية فكرية عدة، بمسارحه الكبيرة والمتقاربة، وبكثرة الفرق متنوعة الأداء والمشارب والاتجاهات.
الشارع همزة الوصل بين دار الأوبرا الخديوية، وملاهي روض الفرج الشعبية، ففي دار الأوبرا كانت تقدم أرقى ألوان الفن التي تقارب وتوازي الفنون الراقية والجادة على أكبر مسارح العالم، سواء كانت عروضاً أوبرالية أو عروضاً غنائية موسيقية، أو مسرحيات كلاسيكية عالمية، بينما تقدم ملاهي روض الفرج الأعمال الشعبية والسوقية التي قد تصل إلى حد الابتذال أحياناً، فضلاً عن العروض التي تقلد المسرحيات الكبرى، وصغار الفنانين الذين يقلدون كبار الفنانين، وجاء شارع عماد الدين وكان المنطقة الوسط بين هذا وذاك، فقدم على مسارحه عروضاً لم تكن دار الأوبرا لتقدمها، لابتعادها عن الأرستقراطية، وفي الوقت نفسه لا تصل إلى الحد الشعبي، لذا كان يأتيه الشعب بجميع طوائفه وطبقاته، خصوصاً الطبقة المتوسطة التي بدأت في الظهور، لتكون وسطاً بين الفلاحين والباشاوات.http://www.aljarida.com/news/index/2...A7%D8%B9%C2%A0





images





images




images





images
 
التعديل الأخير:
06-08-2014, 12:32 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

توابل / بنت بحري زينات صدقي 9
الآنسة ماما


الخميس 18 يوليو 2013
لم يستسلم زكي طليمات لقرار وزارة الداخلية، وقام بمحاولات عدة لإعادة افتتاح المعهد سواء في الإسكندرية أو القاهرة، غير أن المجموعة {الظلامية} كانت له بالمرصاد، ووقفت حائلاً ضد إعادة فتح المعهد، ولم يجد طليمات وسيلة للتعبير بها عن رفضه لهذه النوعية من العقول المظلمة إلا بحيلة غير تقليدية.





1-z9.jpg

2-z9.jpg

3-z9.jpg






كتب الخبر: ماهر زهديتفتق ذهن زكي طليمات عن فكرة غريبة، أعلن بها أمام الرأي العام المصري رفضه للعقول كافة التي كانت تقف ضد الفن والتنوير، فأسس مع عدد من المسرحيين والأدباء والمفكرين جمعية لدعم الحركة المسرحية أطلق عليها اسم {جمعية الحمير}، وجاءت التسمية تحدياً للقصر الملكي، والمجموعة الظلامية التي تهيمن عليه. وأشار إلى أن الحمار أكثر قدرة على التحمل، وأن الجمعية وجميع أعضائها مستعدون للتحمل مثله، وربما أكثر منه، في سبيل الفن والمسرح.
ضمت {جمعية الحمير} في عضويتها فنانين وكتاباً وصحافيين، من بينهم طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم، بالإضافة إلى عدد من تلامذة طليمات، من بينهم زوزو حمدي الحكيم وروحية خالد ورفيعة الشال ويوسف حلمي، وقبلهم زينب صدقي التي قررت أن تنضم إلى الجمعية، تضامناً مع أستاذها وإيمانا برسالة المسرح والفن عموماً، وهي من أول المبادئ التي تعلمتها عند انضمامها إلى المعهد، حتى وإن لم تكن قد أكملت دراستها بعد.
لم يكن هدف زكي طليمات من إنشاء الجمعية مجرد السخرية أو الاعتراض على قرار تعسفي ظالم اتخذته الحكومة، بل إنه كان يبحث في إنشاء مسرح مصري خالص له خصوصية، لا سيما أن الفن المسرحي المصري كان يقوم آنذاك على الاقتباس و{التمصير»، والقوالب والأنماط. كانت النظرة إلى الفن المسرحي باعتباره نوعاً من اللهو‏،‏ لذلك كان الهدف الأساسي من إنشاء معهد أنصار التمثيل والخيالة تخريج الممثلين والنقاد وأصحاب المنهج العلمي والاعتماد على البطولة الجماعية والاهتمام بدراسة الشخصية دراسة نفسية عضوية مع التمسك بالمطابقة المادية للمناظر وتحديد الملابس حسب الشخصية المسرحية‏،‏ فهو بلا شك كان باعثاً لمنهج علمي تقوم عليه الحركة المسرحية المصرية، لأن طليمات لم يكن مجرد مدير معهد يجلس في مكتبه يعطي أوامر ويضع نظريات على الورق، بل كان يحرص على أن يكون‏ أستاذاً ومربياً، بالمعنى الكامل للكلمة.
حاول طليمات أن يعلم تلامذته القيمة التعبيرية للحرف العربي وتدريبهم على اكتشاف أدوات الممثل صوتاً وحركة وإيحاء وانفعالاً وتقويماً نفسياً واجتماعياً،‏ تعليمهم الصدق الفني وكيف يمكن تحقيقه من خلال العلاقة الوطيدة بين سلوكيات الممثل وسلوكيات الشخصية الفنية، تعليمهم كيفية قراءة النص المسرحي قراءة ممثل أو مخرج، وكيف يضعون أيديهم على مقومات الشخصيات وصراعاتها الدرامية‏...‏ حاول ذلك كله خلال تلك الفترة القصيرة، بل حاول أن يعلمهم الإحساس بعناصر الجمال والشعر في إبداع الممثل والمخرج وعلاقة ذلك كله بالجمهور من ناحية وبالحركة الاجتماعية من ناحية أخرى. فلم يكن زكي طليمات يهدف إلى مجرد تمصير المسرح وتخليصه من القوالب الأجنبية، بل إلى تشكيل عمل مسرح شعبي يصل إلى الطبقات كافة، أو بمعنى أدق يصل إلى الغالبية العظمى من تعداد الشعب المصري، العمال والفلاحين، مسرح يصل إلى النجوع والكفور والقرى، قبل المدن، وهو ما حاول أيضاً وضع بذرته من خلال مشروع جديد سعى إلى تنفيذه مع الدكتور طه حسين، وهو «المسرح المدرسي».

شروط المرض

بإغلاق «معهد أنصار التمثيل والخيالة»، أغلق باب أمل جديد ومهم كان قد فتح لزينب، كانت تأمل أن يؤدي بها إلى طريق أرحب في مجالات أخرى مختلفة غير الغناء، فقد كانت تتمنى أن تتعلم فن الدراما، غير أن الأمل ضاع ولم يتوافر لها بديل. ليس هذا فحسب، بل إن الراتب الشهري الذي كانت تحصل عليه من دراستها في المعهد ضاع أيضاً، وكان عليها أن تعوض ذلك بالعمل في أكثر من مكان لتستطيع العيش، وعلى رغم ذلك فهي بقيت متمسكة بالعمل في الإسكندرية ولم تفكر في مغادرتها.
أنهكت زينب نفسها في العمل بشكل كبير، لدرجة أنها كانت تعمل في ثلاثة أماكن يومياً، تمر عليها في اليوم نفسه، لتغني بين أغنيتين أو ثلاث أغان، ما سبب ضغطاً كبيراً عليها، حتى وقعت فجأة فريسة للمرض ودخلت المستشفى، وهي في حالة صحية سيئة جداً:

= خير يا دكتور عندها إيه؟
- انت تقربي لها.
= أنا أختها. ودي والدتها... يعني تقدر تتكلم.
- ما خبيش عليكم. الست زينب أهملت كتير في نفسها... عندها التهاب رئوي حاد. ربنا يستر. إحنا مش عايزين المسألة تتطور لأكتر من كدا.
= أكتر من كدا إيه يا دكتور؟
- أيوا مش عايزين نوصل والعياذ بالله لمرض السل.
- «سل» يا أنهار أسود. يعني بنتي هتموت. بنتي هتروح مني خلاص.
- أهدي يا مدام. إحنا بنقول مش عايزين نوصل لكدا. لازم تتبع التعليمات بعناية ودقة، وتلتزم بالدوا في مواعيده. عموماً، هي هتفضل هنا في المستشفى تحت الرعاية الكاملة، لأنها لازم تعيش في جو نضيف تماماً بعيد عن الميكروبات.

ظلت الأم ملازمة زينب لأكثر من شهرين كاملين وهي تعالج في المستشفى من الالتهاب الرئوي، حتى شفيت تماماً منه. وخرجت من المستشفى إلى منزل جديد، أكثر رحابة، يطل على البحر مباشرة، بناء على نصيحة الأطباء، بضرورة السكن في مكان متجدد الهواء، ما ساعدها على العودة إلى طبيعتها، فلم يترك المرض أثراً عليها، وإن كانت أصيبت بمرض من نوع آخر، مرض نفسي تركته معها إصابتها بالالتهاب الرئوي، وهو «وسواس النظافة»، خوفاً من أن يعود إليها الداء مجدداً، حتى أصبحت لا تصافح أحداً أو تلمس أحداً، إلا وتغسل يديها مرات عدة. بل وصل الأمر إلى أنها تقوم بغسل «الصابونة» التي تستخدمها «بصابونة» أخرى، وتغلي أدوات المطبخ الخاصة بها من ملعقة وشوكة وسكينة، وتعزلها بعيداً.
مع بداية الموسم الصيفي، جاءت غالبية الفرق المسرحية والملاهي الليلة إلى الإسكندرية هرباً من حر القاهرة، وبحثاً عن أموال المصيفين، وكانت بالطبع أول المنتقلين بفرقهم ماري منصور، ومعها خيرية صدقي صديقة زينب، التي غابت عنها لأشهر عدة:

* اخص عليك كل دي غيبة وما تسأليش عليا وأنا عيانة؟
= والله على بالي طول الوقت. بس أعمل إيه كل أسبوع في إجازة التياترو ابقى عايزة آجي بس أروح أحط دماغي ع المخدة أصحى بعد الإجازة ما تخلص. وبعدين ما انت زي القرد أهه.
* دا أنا كنت بموت.
= ألف بعد الشر... مالك؟
* دا موال كبير هابقى أحكيهولك بعدين. بس إيه دا انت بقيت ولا الغندورة لك حق تنسينا.
= برضه كدا... دي كلمة تقوليها. طب أنا هكسفك بقى وهاوريكي أني بفكر فيك طول الوقت ولا لأ.
* إيه... هتفتحي قلبك توريني صورتي فيه.
= يا ريت. بس عملت حاجة تانية أهم دلوقت... أنا كلمت الست ماري منصور... وهي وافقت إنك تنضمي للفرقة. هاتقدمي مونولوج في الفاصل وهاتدفعلك ستة جنيه في الشهر... إيه رأيك بقى؟
* معقول... دا انت أجمل خيرية في الدنيا مش خسارة فيكى أني احط اسم أبوكي مع اسمي.

مطربة المطربات

مع حلول شهر أبريل من كل عام، وحتى نهاية سبتمبر، كانت مدينة الإسكندرية تتحول إلى مدينة «كوزموبوليتانية»، حيث كانت كل جالية تحاول أن تجعل من ثقافتها هي الثقافة السائدة في المدينة. كان المسرح محور الصراع بين هذه الدول، فكانت الجاليات الأجنبية تدعم وجودها، وكانت الفرق الفرنسية الأكثر نجاحاً، لأن الفرنسية هي اللغة الثانية لأغنياء مصر ومثقفيها على رغم الاحتلال الإنكليزي، كذلك كان المسرح الفرنسي أكثر المسارح تقدماً، بينما انتشرت الفرق الإيطالية في الإسكندرية بسبب إقامة أكثر اليونانيين والإيطاليين فيها، وقد عبر المصريون عن اعترافهم للمسرح الفرنسي بمكانة الريادة للفنون كافة، بإيفاد البعثات إلى باريس للدراسة والمشاهدة.
التحقت زينب بالعمل لدى ماري منصور، وكانت تقدم أغنيتين يومياً، غير أن المشكلة الحقيقية أنها لم تكن تملك أغاني خاصة بها بعد، ولم تستعن بمؤلفي أغان أو موسيقيين لصنع ألحان خاصة. بل كانت تنتظر دائماً الجديد من الألحان الجديدة لكبار المطربين والمطربات مثل فتحية أحمد، منيرة المهدية، أم كلثوم، لتحفظها وتقدمها في الملاهي حيث كانت تغني.
كانت تلك الملاهي «درجة ثانية»، لم يكن يغني فيها نجوم الطرب بل كانت تعتمد على المطربين والمطربات من الدرجة الثانية، الذين يقلد معظمهم كبار المطربين والمطربات. ولم يكن أمام زينب سوى اللجوء إلى أغاني كبار المطربات لحفظ أغنيتين منها لتقديمهما كل أسبوع. حصلت على أغنيتين، الأولى للمطربة رتيبة أحمد، شقيقة مطربة القطرين فتحية أحمد، والثانية لسلطانة الطرب منيرة المهدية، والتي كانت «السلطانة» تغنيها في الموسم نفسه في ملهى آخر في مدينة الإسكندرية، وضع لها ألحانها الموسيقار محمد القصبجي، ورأت زينب أن تبدأ بها الليلة الأولى لها في الملهى:

ليلة ما جه في المنتزه
يا دوب قعدنا والكاس في أيدنا
وهف هف طلع النهار
بعت له وقلت له
تعالَ تاني آيس وجاني
وهف هف طلع النهار
لما خطر من السعادة
ميل عليا وباس إيديا
وهف هف طلع النهار
شاف وردتين فوق وجنتين
واحده لمسها والتانية باسها
وهف هف طلع النهار
أقولك إيه واعيدلك إيه
كلام في سرك بعدين أقولك
وهف هف طلع النهار
آدي اللي كان جنب الريحان
والتمر حنة قال ننه ننه
وهف هف طلع النهار

حققت زينب نجاحاً كبيراً من خلال أغاني منيرة المهدية ورتيبة أحمد، غير أن صديقة لها أهدتها كنزاً ثميناً، مجموعة أسطوانات جديدة طرحتها المطربة فتحية أحمد، وكانت أغان جديدة لم تغن سابقاً، طُرحت للجمهور للمرة الأولى، غير أن زينب ادخرتها للموسم الجديد، خصوصاً أن الموسم الصيفي كان قد أوشك على الانتهاء.

تعاقد وسفر

من خلال رحلاتها المتعددة إلى بيروت ودمشق، استطاعت خيرية أن تحصل على تعاقد جديد لمدة ثلاثة أشهر في بيروت، غير أنها اتفقت وللمرة الأولى بالاتفاق مع المتعهد أن تكون بمصاحبة صديقتها زينب:

* لأ... مش هسافر.
= بس أنا اتفقت خلاص مع المتعهد وهو مستني يشوفك بعد بكره علشان يتفق معاكِ وتمضي العقد معاه.
* انت تتفقي لنفسك مش تتفقي ليا وبعدين تقوللي.
= وانا وانت إيه مش واحد. من امتى بنتفق كل واحد لنفسه؟
* مش قصدي. بس دا سفر بره مصر. مش هنسافروا من الإسكندرية لمصر.
= وفيها إيه يعني؟
* أنا ما نقدرش نسافر ونسيب أمي.
= طب أنا عندي فكرة. ما نقول لخالتي تييجي معانا؟
* لو وافقت أنا مستعدة أجي معاكِ ونسافروا.

رفضت حفيظة والدة زينب مجرد فكرة الخروج من الإسكندرية، وليس فكرة السفر إلى خارج مصر، ولم تناقشها زينب في ذلك، ولم تضغط عليها للموافقة لأنها هي نفسها لم تكن مقتنعة بفكرة السفر. غير أن خيرية لم تتوقف عن الإلحاح عليها، خصوصاً أن المتعهد كان قد استمع إلى صوت زينب واقتنع بها إلى حد كبير، بل وأخبر الملهى في بيروت بأنه تعاقد بالفعل مع مطربة مصرية كبيرة، الأمر الذي سبب ارتباكاً كبيراً لخيرية، بعدما أخبرها المتعهد بأن سفرها مرهون بسفر زينب:

= طب أنا عندي فكرة. تعالي قابلي المتعهد واسمعي العرض بتاعه وبعدين قرري.
* إذا كانت فكرة السفر نفسها مش هتحصل... إيه اللي يخليني أقعد مع الراجل؟
= ما يمكن الكلام يعجبك. وبعدين والله انت لو سافرتِ بيروت مش هتقدري تفرقيها عن إسكندرية، ده لو بقى شفتي الجبل وطلعتيه.
* ما تحاوليش...
= طب قابلي الراجل وأنا أوعدك أني هنقنعوا خالتي حفيظة.

أخيراً استطاعت خيرية أن تقنع زينب بمقابلة متعهد الحفلات الذي سيأخذهما إلى بيروت، فكان اللقاء مغرياً إلى حد كبير، حيث عرض عليها أن تحصل على 30 جنيهاً شهرياً، بخلاف الإقامة. بل وزاد على ذلك أنه كان على استعداد لتحمل إقامة والدتها طوال فترة الرحلة، وعلى رغم ذلك رهنت زينب موافقتها بموافقة والدتها التي وعدت خيرية أن تقنعها:

- سافري انت يا زينب... سافري مع خيرية.
* انت بتقولي إيه يا ماما؟ آني مش ممكن أسيبك حتى ونسافروا مصر لوحدي. آني مش هروح مكان إلا ورجلي على رجلك.
- يا بنتي ما تعطليش نفسك. شوفي أكل عيشك. طالما بتقولي أنهم هيدوكي أجرة كبيرة كدا... وأهي كلها تلات أشهر وترجعي بالسلامة.
* ما تحاوليش... مش هيحصل أبداً.

على رغم عدم حماسة زينب لفكرة السفر، فإنها كانت ترفض بسبب والدتها وليس كرهاً في السفر، فقد كانت تتمنى أن تنطلق وتحقق أحلامها، لكن لم يكن لديها مانع من أن تضحي بأحلامها، بما فيها الزواج، لأجل ألا تترك والدتها بمفردها.

(البقية في الحلقة المقبلة)


إضراب حتى إشعار آخر


لم يكد يمر يوم تعود فيه زينب إلى بيتها، وتبدأ في تناول طعامها إلا وبدأت والدتها الكلام معها في أمر انتظارها حتى الآن من دون زواج على رغم مرور أكثر من عامين على طلاقها:

* ياه يا أمي هو انت ما بتزهقيش من الكلام في السيرة دي؟
= أزهق ازاي... هفضل أكلمك كل يوم لحد ما تتجوزي. أو لأحد أنا ما أموت.
* بعد الشر عليك يا ست الكل يا قمر بيطل.
= أيوا أيوا... ابلفيني يا بت بالكلمتين بتوعك دول.
* أنا أبلفك انتي. دا أنت يا حبيبتي تبلفي بلد بكلامك الحلو. وبعدين أنا عايزة أسألك انت ما أنت لسه صغيرة يا دوب كملتي الأربعين. ليه ما بتتجوزيش؟
= أنا. يعوض عليا عوض الصابرين... أنا أتجوز تاني غير المرحوم. دا لا ممكن أبداً. أخص عليكِ وهان عليك تقوليها؟
* مش قصدي والله. انت عارفة أبويا إيه بالنسبة لي.. لكن أنا قصدي أقولك أشمعن انت قاعدة من غير جواز وراضية ومبسوطة.
= يا بنتي أنا ست أرملة... اتجوزت وخلفت وجوزي مات. يعني خدت نصيبي من الدنيا. لكن انت يا حسرة ما كملتيش سنة جواز... ولسه عمرك يا دوب تمنتاشر بالعافية... إيه اللي يقعدك كدا؟
* النصيب يا أمي... النصيب.
= النصيب ما هو قدامك وخدامك. بس انت تقولي آه وترضي.
* قولي كدا بقى. انت جايبالي عريس؟
= مش أنا. دي سنية اختك. عدت النهاردة وكلمتني... ودي تالت مرة تتكلم عن الراجل دا.
* يا أمي ريحي روحك انت وسنية. مش هاتجوز... مش هاتجوز. أنا خلاص ندرت نفسي للفن.
= دا حتى غلط على عقلك الباطن.
* إيه... جبتيها منين الكلمة دي؟
= أنا عارفة بقى. سمعتها في الراديو... يا بنتي أنا نفسي أشوف ولو حتة عيل قبل ما أموت.
* هو مش برضه أختي سنية لسه ما خلفتش يا ست حفيظة ولا أنا غلطانة؟ الجواز والخلف كله نصيب وبتاع ربنا... ريحي روحك بقى.

اتخذت زينب قراراً بينها وبين نفسها أنها لن تكرر تجربة الزواج، ليس لأنها تكره الرجال أو تتخذ منهم موقفاً، ولكنها لم تكن تريد أن يتحكم أحد بمقدرات حياتها، ويجعل منها مجرد «جارية» تحقق رغباته، بل كانت تسعى إلى أن تكون إنسانة لها كيان مستقل، في كل شيء.






images





images





images









 
التعديل الأخير:
16-08-2014, 08:56 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

بنت بحري زينات صدقي 10 لسانك حصانك







1-z10.jpg
3-z10.jpg



الجمعة 19 يوليو 2013
رفضت زينب عرض السفر إلى بيروت رفضاً قاطعاً رغم الإغراءات التي قدمها لها المتعهد. ومع أنه لم يكن جاداً في تهديده وسمح لخيرية بأن تسافر بمفردها، فإنها رفضت أيضاً. لكن يبدو أن الأقدار كانت تخبئ لهما شيئاً آخر، لم يكن في الحسبان، ونسيت زينب أنه من الممكن حدوثه في أي وقت.




2-z10.jpg

1-z10.jpg

3-z10.jpg






كتب الخبر: ماهر زهدي

T+ | T-
أخبار ذات صلة




دخلت سنية إلى الغرفة حيث زينب ووالدتها، وهي تصرخ بأنفاس متقطعة:

= زينب... أمي. ألحقوا مصيبة... مصيبة كبيرة!!
- يا ساتر يا رب. مصيبة إيه أقعدي خدي نفسك أقعدي.
* خير يا سنية... في إيه؟
- استني عليها يا بنتي تاخد نفسها.
* جوزك بخير.
= الحمد... الحمد لله.
* طب فيه إيه اتكلمي؟
- بالراحة عليها.
= عمي... عمي محمود عرف إن زينب بتشتغل مغنية.
- يا ليلة مش فايته... إزاي؟
* حصل أمتى الكلام دا؟
= أمبارح بالليل.
- يعني انت يا سنية ما تستريش أبداً... ما تعرفيش تمسكي لسانك؟
= يكون حرام ما أنا اللي قلت له.
* أمال عرف منين... وإزاي؟
= واحدة جارتهم تعرفك. كانت معزومة في تياترو وقالت لمراته... ومراته طبعاً بتحب لنا الخير زي ما انت عارفة ما كدبتش خبر.
- وعمل إيه؟
= طلع الأول على البيت القديم. ما كانش يعرف انكم نقلتم وسيبتم البيت القديم. وملقاش حد يدله على البيت الجديد هنا. جاني نص الليل وعينيه بتطق شرار. قلتله ماعرفش العنوان لكن أعرف أروح. واتفق معايا هيعدي عليا بعد صلاة الجمعة النهارده علشان أجيبه هنا. وحالف بكتاب الله وراس أبوه ليجيب كرشك بسكينه ماسكها في ايده رايح جاي بيها.
* وانت عملتي إيه؟ ما صدقت النهار طلع سبت علي نايم وجيت على هنا جري. هو أنا نمت طول الليل.
- اسم الله يا بنتي من الخوف.
= لا من نقرظة علي. طول الليل وهو ينقرظني بالكلام... كلام يسم البدن. بس هنعملوا إيه استحملت لحد ما نشوف المصيبة الكبيرة هترسي على إيه.

كأن الصدمة أوقفت تفكيرهن.. جلسن لا يتحركن ولا ينطقن... ينظرن إلى بعضهن البعض كأنهن جلسن في انتظار قضاء الله وقدره. لا يعرفن ماذا يفعلن أو يقلن، حتى جاءت النجدة من خيرية التي جاءت على غير العادة مبكراً، في محاولة أخيرة للضغط على زينب للسفر معها، وفوجئت بما حدث لطمت خدها، ووقفت هي أيضاً من هول الصدمة صامتة، غير أن صمتها لم يدم، وكأن الحل كان جاهزاً في جعبتها:

- انتو تقوموا دلوقت تلموا هدومكم وتيجوا عندي في البيت. عمك ما يعرفش بيتي مش كدا؟
* أيوا ما يعرفش بيتك يا بنتي.
= آه والله فكرة حلوة دي يا خيرية.
* أيوا هنقعدوا عندك يوم... اتنين... أسبوع... شهر... وبعدين؟ ما ينفعش نقعدوا عندك على طول. بلاش كدا. مش هنخرجوا من البيت. لا هانروحوا ولا نييجوا. مش هنشتغلوا... مش هنكلوا ونشربوا... ولا هنقعدوا في البيت وانت هتصرفي علينا.
- إيه حيلك حيلك. انت كركبتي الدنيا على بعضها كدا ليه. نلحق بس نروح عندي البيت دلوقت. وهناك نفطروا ونشربوا الشي ونفكروا هنعملوا إيه.
= آه فكرتيني بالفطار. الساعة داخله على عشرة. زمان علي هيصحى من النوم دلوقت.
* قومي روحي انت يا سنية علشان خاطر جوزك قبل ما يصحى.
- أيوا بلاش يعرف اللي انت جيتي هنا. ولما عمك ييجي بعد الصلاة تجيبيه وتييجي على هنا كأنك ما تعرفيش حاجة... وطبعاً انت ما تعرفيش راحوا فين؟
- أوعي يا سنية تغلطي بكلمة قدام جوزك وتقولي احنا فين. بعدين يلا السلامة يا بنتي عمك قارش ملحة اختك من صغرها ولو شافها قدامه دلوقت هيدبحها زي الفرخة.

انصرفت سنية للحاق بزوجها قبل أن يستيقظ، فيما جمعت زينب ما استطاعت أن تحمله هي ووالدتها وانطلقتا إلى بيت خيرية للاختباء هناك، إلى حين هدوء ثورة عمها وابتعاده عنهما. ولكن كيف يهدأ، وهو كلما حاول ذلك أشعلت زوجته ناره مجدداً، فهي سبب كراهية العم لأولاد أخيه، منذ أن كان شقيقه على قيد الحياة، ولم يرق قلبه لأولاده بعد رحيله.

هروب إلى بيروت

ذهبت سنية بصحبة عمها وزوجها علي اللبان إلى بيت زينب الجديد، فجن جنونه عندما لم يجدها، ولم يجد من يدله من الجيران على مكانها:

= أختك وأمك فين يا سنية؟ لحقتي بلغتيهم وخبيتيهم.
* أنا!! يكون حرام. طب سي علي قدامك أهو يقولك لو كنت اتحركت من البيت ولا شفت حد منهم.
- صحيح يا حاج. ما تنقلتش من مكانها من أمبارح من ساعة ما سبتنا.
= أمال راحوا فين؟ الأرض انشقت وبلعتهم. ما هو أنا لازم اخلص عليها وأغسل عارنا
* عار إيه بس يا عمي؟ هي كانت يعني استغفر الله العظيم!
= انت عايزاني استنى لما تبقى استغفر الله العظيم! طب ما البس طرحة ونحطوا «مستيكة» في بقي يا ست سنية.
= مش قصدي يا عمي. بس نتفاهموا معاها ونشوف غرضها إيه من كدا. ما هي بتقول انه فيش حدا بيسأل عليها ولا على أمنا. كانوا هيكلوا ويشربوا منين بس؟
= الله... يعني انت كنت عارفة ومخبية على جوزك!
- صحيح الكلام دا يا سنية... كنت عارفة؟
= ونعرفوا منين بس؟ هو أنا بخرج. دا كلام جاب بعضه وقت ما أبويا الله يرحمه مات... وكنا بنتكلموا على الورث والشراكة اللي بينك وبين المرحوم.
* ما علينا دلوقت ما تغيريش الكلام. انت عايزة تقولي أنك ما تعرفيش مكانهم؟

لم يكن رعب زينب وخوفها لأنها تخشى أن ينفذ عمها تهديداته ويقتلها فعلاً، فهذا لا يقلقها، حتى لو حدث، غير أن ما يقلقها ويجعلها تجلس مهمومة تفكر، أن هذا يجعلها محاصرة لا تغادر المكان الذي تجلس فيه، سواء كان بيتها أو بيت خيرية، أو أي مكان آخر، ما يعني أنها لن تعمل، لأنه حتما سيطاردها في كل مكان تعمل به أو تذهب إليه. كان لا بد من إنهاء المسألة معه بشكل ودي، ومحاولة إقناعه بأن يتركها تعمل فنانة، وهذا هو المستحيل بعينه. هذا ما دار بينها وبين نفسها، قبل مناقشة الأمر مع والدتها وصديقتها خيرية:

= أول حاجة نعملها نشوفوا مطرح جديد بدل المطرح اللي احنا واخدينه دلوقت.
* ما هو دا مش حل يا أمي. ما هو برضه مسيرة يعرف طريق المطرح الجديد. هنقعدوا كل يوم ننقلوا من مطرح لمطرح.
- مطرح جديد هو أنا مش ماليه عنيكم يعني؟
* يعني انت فاكرة اننا هنقعدوا معاك على طول انت رخره.
- وآني مش قد المقام!
* مش القصد. بس مسيرك تتجوزي... تروحي تيجي. هنقيدوك ليه؟
- ولا تقييده ولا حاجة.
= أنا بقول يا بنتي نرتب معاد مع عمك ونستسمحه ونقوله دي كانت غلطة وراحت لحالها وانك خلاص سبتي السكة دي وهتشتغلي خياطة... نجيبوا ماكينة... ولا اتنين ونشتغلوا عليهم سوا.
* كلام إيه يا أمي؟ انت زي ما يكون بتتكلمي عن حد تاني غير عمي كأنك مش عارفاه. عمي ما يهموش أني اشتغل مغنية ولا رقاصة. كل الحكاية أن قدامه فرصة ينتقم مني وخلاص. البنت اللي لسانها طويل ودلوعة أبوها... اللي وقفت له وكلمته في الورث... هو دا الموضوع.
وبعدين أنا لو قابلت عمي هقوله بالفم المليان آني مش هنسيبوا الفن... وموتني.
= كلام أيه دا بس يا بنتي! احنا بنحل ولا بنربط!
* هو أنا مليش الحق طبعاً اني أتدخل بس يعني...
- بلاش الكلام دا انت كمان...
أنا عندي الحل. بس انتوا توافقوا عليه.
* وساكتة ليه ما تتكلمي؟
= أنا موافقة يا بنتي من قبل ما تقولي.
* استني بس يا أمي لما نشوف عندها إيه؟
- تقبلي العرض اللي عرضه عليك المتعهد بتاع بيروت ونسافر احنا التلاتة أنا وانت وخالتي... ولما نرجع يبقى يحلها الحلال.

كأنها ألقت بقنبلة دخان في وجه زينب ووالدتها وجرت بعيداً. جلست كل منهما تفكر في ما قالته خيرية، ومهما كانتا تحاولا البحث عن حل نموذجي ينقذهما من الورطة، لم يجدا.
لم تكن كل من زينب أو والدتها حفيظة تتمنيان ترك الإسكندرية تحت أي ظروف، خصوصاً حفيظة التي ما كانت تريد الابتعاد عن بناتها، غير أنها في الوقت نفسه لم تكن لتترك زينب بمفردها في أي مكان يمكن أن تذهب إليه، سواء خارج مصر أو حتى داخلها.
في اليوم نفسه تعاقدت كل من زينب وخيرية مع المتعهد على السفر إلى بيروت، براتب شهري قدرة 30 جنيهاً، لكل منهما، لكن على أن تتحمل زينب إقامة والدتها على نفقتها الخاصة. وسافرت زينب إلى بيروت.
كانت الحركة المسرحيّة في بيروت أثناء الانتداب الفرنسي تأخذ أشكالاً ومظاهر متنوعة، مع استمرار عروض مسرحيات من نوعية «كركوز» و{عيواظ» في مسرح «خيال الظل» في بعض المقاهي مثل مقهى «القزاز» في «ساحة البرج»، ومقهى «البسطة» و{السور» وغيرها، فضلاً عن المسارح الصغيرة التي كانت موجودة في الكازينوهات، التي يطلق عليها أيضاً مسمى «تياترو» كما هي الحال في مصر.
بتكرار سفرها إلى الشام، أدركت الفرق المسرحية المصرية تقدير الجمهور هناك للفن المسرحي الراقي، فكانت دمشق وبيروت محطتين لا بدّ منهما لتلك الفرق، قدمت فيها أقوى مسرحياتها وأشهرها، أمثال فرقة جورج أبيض التي قدمت على مسرحي «الكريستال» و{زهرة سوريا» مسرحياتها الشهيرة: «لويس الحادي عشر، الحاكم بأمر الله، المرسيلية الحسناء، مضحك الملك، البطل عطيل» وغيرها. كذلك عرفت بيروت فرق تمثيل أخرى كـ»أخوان عكاشة» لصاحبها زكي عكاشة، وفرقة علي الكسّار، كذلك فرقة أمين عطا وشقيقه سليم، وكانا قد جلبا فرقة نجيب الريحاني وعزيز عيد التي كان يُطلق عليها مسمى «جوق كشكش بك»، ولقيت إقبالاً كبيرا، مقدمة الكثير من الأعمال الناجحة، مثل مسرحية «الملك كشكش» على مسرح «زهرة سوريا»، و{كشكش بك في الاستحكامات، مدرسة الغرام، أبو شادوف، كشكش أمام المجانين وروميو وجولييت، شد حيلك، رن، يا أحلاهم، ويا ما أنت واحشني» وغيرها. وكانت تتخللها فواصل غنائية تؤديها مطربات مغمورات، لم تكبدن أجوراً عالية، وهو ما حدث في هذه الرحلة مع زينب صدقي.
كان الاتفاق مع زينب وخيرية، كبقية أعضاء الفرقة الذين أتوا من مصر أن يتكفل المتعهد بالأمور كافة الخاصة بالفرقة، منذ لحظة مغادرتها الإسكندرية حتى وصولها إلى بيروت والعمل، من مأكل وملبس ونوم... أي إقامة كاملة شاملة، فضلاً عن الأجر الشهري ما دامت الفرقة مستمرة في عروضها.

زينب المصرية

قدمت الفرقة عروضها على كازينوهات بيروت مسارحها، وكانت تلقى نجاحاً كبيراً، وذاع صيتها في العاصمة كلها. كان دور زينب أن تغني خلال الفواصل التي تتخلل العروض، وقررت أن تبدأ عهدها في بيروت بأغنية حديثة للست عزيزة المصرية كتب كلماتها الشاعر يونس القاضي، ووضع ألحانها الشيخ زكريا أحمد، وعندما قدمها المذيع الداخلي للتياترو للغناء طلبت منه أن يقدمها بالاسم الجديد الذي اختارته لنفسها:

= يسعد تياترو «أبو طنوس» أن يقدم لكم المطربة الجديدة «الست زينب المصرية»:

أوعى تكلمني بابا جاي ورايا
ياخد باله مني ويزعل ويايا
فاهم... أوعى تكلمني
يا روحي يا ست زينب يا مصرية
باردون يا عزيزي بابا راجل قاسي
على أبسط حاجة يجرح إحساسي
يا سلام لو شافني وياك وعرفني
كان يعمل غارة ويلم الحارة
بس ابعد عني ما توقفش معايا
وخليك مستني جنب الحوداية
واوعى تكلمني أهو جاي ورايا
أحسن لنا نهرب ونقوم بلطافة
قبل ما يلمحنا دي عنيه شوافة
خايفة لا يمسكنا وبعدين يهبشنا
واسمح لي أقول لك أختك خوافة
بس ابعد عني ما توقفش معايا
وخليك مستني جنب الحوداية
أوعى تكلمني أهو جاي ورايا
فيها إيه لو شوفته بالذوق وعرفته
وعرفت اصحابه وطويت معرفته
يمكن لو شافك ترضيه أوصافك
وان هوش حبة اقبل تهويشته
بس ابعد عني ما توقفش معايا
وخليك مستني جنب الحوداية
أوعى تكلمني أهو جاي ورايا

أصبحت زينب «فاكهة الفرقة»، فقد استطاعت خلال أيام قليلة أن تثبت ذاتها وتحقق نجاحاً غير عادي، لدرجة أصبحت فيها من العناصر الأساسية في الفرقة. وعندما كانت يلوح بأنها قد تعتذر يوماً كان صاحب الفرقة يقرر ألا تقدم الفرقة عروضها في هذا اليوم، ويعتذر للجمهور الي اتضح أن معظمه كان يأتي أولا لأجل «الست زينب المصرية». حتى إن أحد المعجبين من الجمهور كان يأتي يومياً لسماعها ويجلس على الطاولة نفسها. في أحد الأيام تأخر ولم يأت، فظلت طاولته خالية لم يشغلها أحد، ولاحظت زينب ذلك، فأرادت أن تسأل عن زبونها الدائم الذي يجلس في هذا المكان، وسبب غيابه. ولكنها خشيت أن يتم تفسير سؤالها بشكل يُفهم منه بأنها تهتم بهذا «الزبون» من دون غيره، وربما أثار الشكوك حولها أن تكون بينهما علاقة، وهي لم يمر على وجودها في بيروت أكثر من أسبوعين. غير أنها قبل أن تفكر في طريقة تعرف بها سبب غيابه، قطع عليها الطريق، وجاء في اليوم التالي وطلب أن يلتقي بها قبل أن تصعد إلى خشبة المسرح وتغني، ما أثار دهشتها. ففي الوقت الذي كانت تفكر فيه، هل ستجده موجوداً اليوم أم لا؟ فوجئت به يرسل في طلب مقابلتها. ترددت زينب وجلست تفكر، هل توافق على طلبه أم ترفض وترد المرسال بكلمات كالتي تقال في مثل هذه المواقف حول الشرف والكرامة إلخ! غير أنها فكرت بسرعة ألا تضخم الموضوع، وطلبت من المرسال أن يحضره إلى الممر الموجود خلف المسرح (الكواليس) ليكون لقاؤهما أمام الجميع، وطلبت من صديقتها خيرية أن تكون قريبة منها، حتى إذا ما فكر أن يتصرف تصرفاً غير لائق، تتدخل في الوقت المناسب:

* أهلاً وسهلاً.
= أهلين ست زينب... يا هلا فيكي. يا الله أحرس ها النور وها الطلة.
* قالولي أنك عايزيني.
= ومين ما بيعوز نجمة الطرب والتياتروهات والكازينوهات في بر مصر وبر الشام... الست زينب المصرية.
* مرسي... مرسي.
= ست زينب. أنا بلا فخر «سليم الطرابلسي». من أعيان طرابلس... وكنت بريدك.

سمعت زينب تفاخره بنفسه ثم كلمة «كنت بريدك»، فأيقنت أن شكوكها في محلها، وما قد يتبع هذه المقدمة، فراحت عائدة إلى غرفتها، وأرسلت من يخبر ضيفها بأنه ضل طريقه وليس هي من يقصد، غير أنه فاجأها بما لم تكن تتوقعه على الإطلاق.

(البقية في الحلقة المقبلة)


وداع وبكاء


بعد ثلاثة أيام، أمضتها زينب ووالدتها في بيت خيرية، أنهت إجراءات السفر، وفي صباح 25 مارس 1932، صعدت ووالدتها وخيرية صدقي، ومعهن بقية الفنانين من مطربين ومطربات وممثلين وممثلات، إلى الباخرة المتجهة إلى بيروت، وكانت سنية وشقيقاتها في وداعهن.
وقفت زينب فوق سطح المركب وهي تغادر الميناء، تنظر إلى مدينتها ومسقط رأسها الإسكندرية، التي كانت تغادرها للمرة الأولى منذ ولادتها قبل ما يقرب من 20 عاماً.
لم تتمالك زينب نفسها، انهمرت دموعها... احتضنت والدتها بقوة... اقتربت خيرية وأرادت أن تخفف من توتر الموقف:

= إيه دا الموقف دا أنا شفته في رواية من روايات يوسف بيه... حتى بالأمارة كانت الرواية اسمها «أنا وأمي».

ابتعدت الأم وجلست على كرسي مجاور... بينما تجاوبت زينب مع خيرية وهي تبتسم وتمسح دموعها وتشير إليها:
* «أنا وأمي»... وثالثنا الشيطان.
= يا بنت الإيه... دا انت ولا ولاد عكاشة في القافية.
* خلتيني أضحك وأنا ما ليش نفس.
= مالكيش نفس ليه؟ مسافرين بالبحر ورايحين بلد تانية نتفسح ونتشتغل وناخد فلوس. في أحسن من كدا إيه؟
* مش عارفة ليه قلبي مقبوض وحاسة أني مش هنرجع تاني إسكندرية.
= بلاش عبط. أنا كنت كدا زيك أول مرة سافرت فيه. بس وأنا راجعه ما كنتش عايزة أرجع.
* انت ما تعرفيش إسكندرية بالنسبة لي إيه... حته مني.
= حته منك!؟ إسكندرية كلها تبقى حتة منك انت... طب قولي أنك حتة منها.
* ما هو العادي أني ابقى حتة منها... لكن اللي مش عادي أنها تبقى حتة مني.
= بكره نوصل وتشوفي بيروت وتلاقي الحتة اللي راحت منك.











images





images











3-z10.jpg

 
التعديل الأخير:
20-10-2014, 02:41 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

اللّعب بالنار
كتب الخبر: ماهر زهدي
بنت بحري زينات صدقي


( 11 )
شعرت زينب بغضب شديد، وأن إهانة لحقت بها، من تعامل سليم معها وتقديمه لنفسه بهذه الطريقة، ليبدو كمن يستعرض قوته المالية عندما يريد شراء شيء ما، غير أن الرجل وقف مع صديقتها خيرية واستطاع أن يوضح لها هدفه، وأنه يحمل لها هدية متواضعة.
ظنت زينب أن الرجل يقدم لها سواراً من الذهب، أو خاتماً من الألماس، وهي نوعية من الرجال تعرفهم جيداً، وشاهدت كثيرين منهم في الإسكندرية، ومن المؤكد أن غيرهم موجودون هنا في بيروت، إلا أنها كانت تعرف كيف تتعامل معهم جيداً، لأنها ليست من ذلك النوع الذي يباع ويشترى، لكن خيرية رأت أنه من الضروري أن تلتقيه وتلقنه الدرس بنفسها كي لا يكرر فعلته:
* نعم... اتفضل تحت أمرك يا سيد سليم.
= شوفي ست زينب... بشرفي... وحياة الله من يوم ما إجيتي هون وأنا حاسس روحي الله راضي عني... أن أبواب السما فتحت لي.
* طب الحمد لله... أنا بقى دخلي إيه في الرضا دا... والأبواب اللي اتفتحت دي.
= ست زينب... انت سبب ها الفتح وها الرضا... من شان هيك بتسمحي تقبلي ها...
* شوف يا سيد سليم أنا مش من النوع دا اللي انت بالك فيه.
= شو نوع وما نوع... كيف بتفكري.
* أيوا... لازم تفهم أني مش الست اللي بتقبل هدايا من أي راجل.
= وأنا مو أي راجل. أنا راجل بعرف قيمة الست اللي قدامي. من شان هيك أنا باعطيعك ها الهدية اللي تستحقينها.
قدم لها سليم ورقة أمسكت بها، نظرت إليها وفتحتها، وهي تخمن ماذا ستكون، وأي شيء مكتوب فيها، غير أن تخمينها لم يدم طويلاً، وإن كانت دهشتها قد زادت، عندما اكتشفت أنها كلمات أغنية كلف سليم أحد شعراء الأغاني المصريين، بكتابتها في زينب المصرية حباً وإعجاباً بها تقول كلماتها:
أنا زينب المصرية
ارتيست لكن فنية
اغني وأتسلطن... يا عينية
تعالَ شوف الارتيست
الست زينب المصرية
جمال وخفة إسكندرانية
ع المسرح جوهرة يا عينيه
الست زينب المصرية
ارتيست لكن فنية
انتهت زينات من قراءة كلمات الأغنية وقامت بما لم يتوقعه سليم، مطلقة «زغرودة» انتبه لها الجميع.
لم تكن زينب تتوقع هذه الهدية، التي شعرت بأنها أفضل من أي «سوار» ذهب أو خاتم من ألماس، وقررت منذ تلك الليلة ألا تصعد إلى خشبة المسرح، إلا بعد أن تغني هذه الأغنية، أولاً باعتبارها النشيد الوطني لمملكتها الخاصة، فضلاً عن أنها كانت المرة الأولى منذ عملها في الفن، التي تغني فيها أغنية صنعت لها خصيصاً... كلمات ولحناً.

ملكة متوجة
توقف الإقبال على العرض المسرحي لفرقة أمين عطا الله، لدرجة أن الجمهور كان لا يدخل إلى العرض المسرحي منذ بدايته، بل ينتظر حتى ينتهي الجزء الأول من المسرحية، ويأتي موعد الفاصل الغنائي الذي تقدمه «زينب المصرية» ويدخل لسماعها بمفردها، الأمر الذي جعل مدير التياترو يستغني عن عروض الفرقة، مع الإبقاء فقط على زينب التي وقع معها تعاقداً جديداً بعيداً عن التعاقد الأول للفرقة، غير أنها شعرت وللمرة الأولى، بأنها أصبحت فنانة مهمة ويحق لها أن تضع شروطاً، فاشترطت أن يبقي صاحب التياترو على خيرية معها، وبقيمة تعاقد أكبر من تلك التي تعاقدت بها مع فرقة أمين عطا الله، خصوصاً أنها قبل أن تغادر فرقة أمين عطا الله جاءها أكثر من عرض لأكثر من تياترو في بيروت، لتغني فيه. رفضت العروض كافة، وأبقت على أول تياترو استقبلها في بيروت.
شعرت زينب بأنها أصبحت ملكة متوجة، لها وقت زمني كبير على خشبة المسرح، تغني و{تتسلطن» وتحظى بمعجبين ومعجبات، وفوق ذلك كله أصبح لديها عائد مادي كبير، تدخره كله تقريباً، لأن إقامتها كلها على نفقة صاحب التياترو الذي يملك فندقاً فوق التياترو، حجز فيه غرفة كبيرة تقيم فيها زينب ووالدتها، وفي غرفة مجاورة تقيم صديقتها خيرية، الأمر الذي جعلها تعيش مندهشة طوال الوقت من شكل هذه المعاملة المبالغ فيها، حتى عرفت أخيراً السبب، فزالت دهشتها عندما طلب «أبو طنوس» صاحب التياترو أن يتحدث إليها:
* خير أبو طنوس؟
= ست زينب... إذا بتريدي أني ما لي في الحكي الكتير... هيك من الآخر... أنا بدي الحلال.
* الحلال!! ومين يكره الحلال. انت شايف أن فيه حاجة بنعملها حرام؟
= ست زينب... أنا طالب القرب... بدي أتجوزك.
* إيه؟! أيوا بس يعني.
= ما في مجال للبسبسة... شو قولتي؟
* انت فاجأتني... وبعدين اللي أعرف أنك متجوز اتنين.
= تنين... تلاتة ما في مشكلة. انت بتضلي هون في الفندق أو بنحصلك بيت في بيروت... كيف ما بدك.
* شوف يا أبو طنوس... أنا مش هاقدر أديلك كلمة دلوقت. سيب لي فرصة يومين تلاته وأنا ها رد عليك.
قبل أن ترد زينب بالرفض أو القبول، كانت قد استعدت لمغادرة فندق «أبو طنوس» أولاً، حيث انتقلت فعلاً إلى فندق آخر قريب من التياترو.
شعرت الأم بأن الفرصة المناسبة جاءت إلى ابنتها لتعوضها عن الأيام التي تألمت فيها، سواء في الإسكندرية أو بيروت، وأن «أبو طنوس» يمكن أن يعوضها كل ما فات، خصوصاً أنه رجل ودود أحب زينب بالفعل، وأبدى استعداداً كبيراً لعمل أي شيء مقابل أن ترضى عنه وتقبل بالزواج منه، غير أنه وضع شرطاً واحداَ حسم الأمر بالنسبة إلى زينب بعدما كاد قلبها يميل إليه، وتوافق بالزواج منه، وهو أن تعتزل الفن وتعيش بعيداً عن حياة أهل الفن تماماً. كان الشرط هو الفيصل في اتخاذ زينب قراراً برفض «أبو طنوس» الذي فسره على أنه إهانة بالغة موجهة إليه. بالتالي، لم يكن يصلح لأن تستمر في العمل معه، غير أن زينب لم تدع له فرصة أن يطردها من العمل، بل اتخذت القرارين معاً، أن ترفض الزواج من «أبو طنوس» المليونير، وفي الوقت نفسه تترك العمل في التياترو. وكما صاحبت خيرية زينب في وجودها بالتياترو، صاحبتها أيضاً في الخروج منه:
= يعني يا بنتي مش كنتِ فكرتي قبل ما ترفضي. الراجل كان عايز يستتك.
* هو أنا كنت مستنياه هو ولا غير علشان يستتني.
= ونابك إيه أديكِ قعدتي أهو؟
* يا ست حفيظة المسألة إن طالت ولا قصرت كنا هنسيبو تياترو أبو طنوس النهاردة ولا بكرة... وكنا هنرجعوا مصر.
= تقصدي يعني أننا نرجع.
* ومالك بتقوليها وانت زعلانه كدا. اللي يشوفك دلوقت ما يشوفكيش وانت مش عايزة تسيبي إسكندرية وبتقولي حديد وبعيد ما سيب البلد.
= وجينا... نقوم نرجع إي دورا وأيد قدام.
* ما تخافيش يا ست الكل... احنا الحمد لله عملنا قرشين مش بطالين.
لم يمر يومان فقط، إلا وكان قد انتشر بين الكازينوهات والتياتروهات خبر ترك زينب تياترو «أبو طنوس» فاتجه صاحب ملهى «الباريزيانا» فوراً إلى الفندق الذي انتقلت إليه، وعقد معها تعاقداً لمدة ثلاثة أشهر مقابل 30 جنيهاً فضلاً عن تحمل نفقات الفندق والإقامة كاملة، فوافقت من دون تردد، بعد قبول شرطها الوحيد، وهو أن يتم التعاقد أيضاً مع خيرية.
أعلن ملهى «الباريزيانا» عن انضمام المطربة «الست زينب المصرية» في مجموعة من أغنياتها الجديدة، فشعرت بأنها وقعت في ورطة غير عادية، فقد سبق أن استمع الجمهور البيروتي إلى غالبية الأغاني التي جاءت بها من مصر، والملهى أعلن عن تقديمها بأغنيات جديدة، ولا يوجد متسع من الوقت لكتابة أغنيات جديدة وتلحينها. فجأة وجدت طوق النجاة، مجموعة الأسطوانات التي اشترتها قبيل مغادرة الإسكندرية إلى بيروت، وكلها أغنيات جديدة لكبار المطربين والمطربات، فتحية أحمد وشقيقتها رتيبة أحمد ومنيرة المهدية وأم كلثوم، فقررت أن تقدم أحدث مجموعة من أغنيات مطربة القطرين فتحية أحمد، والتي لم تكن قد انتشرت بعد في بيروت أو أي من بلاد الشام.
شعرت زينب بقلق كبير، على رغم أن صاحب التياترو استقبلها استقبال كبار المطربين والمطربات، مؤكداً لها أهمية عملها في «الباريزيانا» الذي سبق وأن عمل فيه كبار المطربين والمطربات المصريين.في صباح يوم الافتتاح، اطمأنت زينب من خلال التدريب، على حفظ الأغاني كافة مع الفرقة الموسيقية، وانصرفت إلى الفندق لتنام قليلاً وترتاح قبل موعد الافتتاح مساء، غير أنها لم تستطع أن تنام ساعة واحدة، ظلت أعصابها مشدودة، تروح وتجيء في غرفتها بعدما سيطر عليها الشك في عدم النجاح، وشعرت بأنها ستبدأ حياتها الفنية من جديد في تلك الليلة:
= إيه دا في إيه يا زينب... أول مرة أشوفك بالشكل دا؟
* خايفة يا أمي... خايفة.
= خايفة... أول مرة تقولي الكلمة دي... ولا عمرك كنت خايفة كدا.
* مش عارفة... حاسة كأني أول مرة ها أطلع على مسرح وأغني.
= دا تلاقي بس علشان مكان جديد.
* رغم أني راجعت الأغاني كلها مع الفرقة النهاردة الصبح في البروفة... لكن حاسة أني نسيت كل حاجة... حاسة أن ممكن الجمهور يضربني النهاردة بالليل بالبيض والطمام.
= بلاش الكلام دا... وادخلي سريرك يا بنتي ريحي نفسك شوية.
* يا ريت... يا ريت يا أمي.
قبل الموعد بساعتين ذهبت زينب إلى الملهى وهي تدعو الله أن يوفقها، وأن يكون النجاح حليفها في هذه المرة تحديداً.

طعم النجاح
وقفت بين الكواليس مشدودة، وعندما أعلن المذيع عن اسمها «الست زينب المصرية» دخلت إلى خشبة المسرح وهي ترتعد، غير أن الجمهور استقبلها استقبالاً حاراً أعاد إليها روحها، فبدأت بإلقاء أغنية التحية التي سبق وكتبها لأجلها سليم الطرابلسي «أنا زينب المصرية». وما إن انتهت منها حتى فوجئت بالجمهور يصفق لها بحرارة غير عادية، فبدأت بغناء مجموعة من أجمل أغاني مطربة القطرين فتحية أحمد، ومع كل أغنية تغنيها كانت تزداد حماسة الجمهور ومعها ثقتها بنفسها وتألقها فوق خشبة المسرح حتى بلغ ما غنته ثلاث أغانٍ، جميعها للمطربة فتحية أحمد، وسط تهليل وصيحات وآهات الجمهور، لدرجة أنها اضطرت إلى أن تعيد الأغنية الأخيرة مرتين بناء على رغبة الجمهور.
حين أسدل الستار نزلت زينب من فوق خشبة المسرح وهي تبكي وتحمد الله على توفيقه لها بهذا الشكل، فالنجاح هذه المرة له طعم يختلف عن أي مرة غنت فيها، سواء في الإسكندرية أو هنا في بيروت، حيث كان تحدياً حقيقياً لها ، ووجدت وراء الكواليس والدتها وخيرية تبكيان أيضاً بفرحة حقيقية، ووجه والدتها يتهلل فرحا وتأخذها بالأحضان:
= ألف مبروك... مبروك يا ست زينب يا مصرية.
* أمي. انت بتقوللي «يا ست زينب».
= أيوا. طبعاً... ست الستات. انت مش سامعة الجمهور بيقول إيه وبيهتف إزاي.
* سامعه ومش مصدقة نفسي.
= لا لازم تصدقي. انت صبرتي كتير وتعبتي كتير. وجه الوقت اللي تاخدي فيه حقك.
استمرت زينب في ملهى «الباريزيانا» إلى ما يقرب من شهرين، تحصد النجاح يوماً بعد يوم، وبعدما كانت تغني في الليلة ثلاث أغانٍ، بلغ ما تغنيه سبع أغانٍ كل ليلة، كلها من أحدث ما غنت مطربة القطرين فتحية أحمد، ولم يكن يمر يوم حتى يأتي زوار جدد إلى ملهى «الباريزيانا» سواء من داخل بيروت أو المدن اللبنانية المحيطة، ومن دمشق، أو حتى من القاهرة، فعلاوة على صيت زينب الذي ذاع في المدينة كلها، كان أيضاً الملهى له اسم كبير، يقصده كبار المطربين والمطربات والفنانين الذين يمرون على بيروت، وكان من بين من وصلوا أخيراً من القاهرة فتحية أحمد مطربة القطرين.
فتحية أحمد التي ولدت في حيّ الخرنفش في القاهرة، ابنة الشّيخ أحمد الحمزاوي المطرب، جميل الصوت، الذي لمع نجمه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كمطربٍ ومُنشدٍ ومبتهلٍ، وقد لحّن كثيراً من الأغاني الانتقادية والفكاهية، والتي كان يؤدّي بعضها مع اثنين من المُنشدين، شكلوا سوياً أول ثلاثيّ فني فكاهي، تحت اسم «ثلاثي الشّيخ كعبولة»، ومن أشهر ألحانه «كعبولة الخفّة» الذي يُعتبر أصلاً واضحاً للحن قصيدة «مضناك جفاه» من شعر شوقي، واقتباس محمد عبد الوهاب.
غير أن الشّيخ أحمد الحمزاوي لم يستمر في الغناء بعدما تقدمت به السن، إلا أن بناته (فتحية ورتيبة ومفيدة) ورثن منه حلاوة الصوت، فاتجهن إلى الغناء. وكانت فتحية أجملهن صوتاً وشكلاً، وحرصت على أن تدرس الموسيقى والغناء على أيدي أئمّة المُلحّنين، خصوصاً الشّيخ أبو العلا محمد، الذي لحّن لها خصيصاً لحناً جديداً لقصيدة {كم بعثنا مع النّسيم سلاماً}.

بين الثقة والغرور
تنقلت فتحية أحمد مع الفِرَق المسرحية الغنائية بين مصر وبلاد الشام؛ أكثر من أي مطربة غيرها، لذلك أطلقوا عليها في مصر والشام لقب «مطربة القطرين»، والتي جاءت إلى الشام بعدما تعاقد معها ملهى «الباريزيانا» للغناء فيه.
علمت زينب بوجود مطربة القطرين فتحية أحمد في الملهى، ولم تصدق نفسها أن إعلان الملهى سيضع اسم زينب صدقي إلى جوار اسم فتحية أحمد مطربة القطرين، وأنهما سيضمهما برنامج واحد في الملهى.
على رغم تعاقب الشخصيات المهمة على الملهى وسماعها صوت زينب، وسماعها عبارات المديح والثناء من شخصية فنية مهمة لها قدرها مثل بديعة مصابني، مع عرض صاحب الملهى عليها تجديد التعاقد بزيادة كبيرة في الأجر، لكن العلامة الفارقة بالنسبة إليها كانت في تعاقد الملهى مع اسم كبير مثل فتحية أحمد، ليضمها برنامج واحد مع زينب. كانت هذه العوامل كافية إلى حد كبير، ليس لزيادة ثقة زينب في نفسها فحسب، بل تخطى الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، فيبدو أن هذه المظاهر كافة أصابتها ببعض الغرور:
= زوزو... زوزو... لبستي ولا لسه.
* تعالي يا خيرية أدخلي.
= بسم الله ما شاء الله... قمر... قمر يا زوزو.
* انت اللي عينك حلوة يا خوخة.
= عارفة مين اللي قاعد في الصالة النهاردة وهيسمعك.
* فتحية أحمد.
= يا بنت الإيه... عرفتي منين؟
* شفتها من ورا الستارة... ما خلاص اتودكت. بقيت أبص على الصالة قبل ما أغني علشان أعرف الجمهور أد إيه... ومين قاعد... ولو شخصية مهمة لازم أحييه بأغنية.
= طبعاً الليلة النهاردة كله تحية للست فتحية... ربنا يكون في عونك قلبي معاكِ.
* على إيه يعني... ما غنيت قدام اللي أكبر منها. وبعدين يا بنتي إذا كانت هي فتحية أحمد. أنا برضه زينب صدقي.
= يا سلام ست زينب يا مصرية... يا متصيتة.
على رغم معرفة زينب بقيمة فتحية أحمد وقدرها، فإن الثقة التي اكتسبتها في نفسها، وبعض الغرور، جعلاها لا تهاب الغناء أمام أكبر الأصوات في القطرين... وليس فقط مطربة القطرين، حتى ولو كانت ستغني أغانيها.

بديعة مصابني
لم تصدق زينب السعادة التي كانت تعيشها بسبب ما حققته من نجاح ملهى «الباريزيانا»، غير أن ما زاد من سعادتها أنها وجدت من بين جمهور الحضور ملكة المسرح بديعة مصابني، فما إن أنهت زينب أغنيتها الأخيرة حتى أعلن مذيع المهلى الداخلي عن تشريف ملكة المسرح في مصر ولبنان «الست بديعة مصابني» التي سمعت المقطع الأخير من الأغنية، وما إن سمعت زينب المذيع الداخلي يعلن عن وجود ملكة المسرح حتى هرعت إلى «البنوار» الذي تجلس فيه الست بديعة:
= أهلا أهلا بمطربتنا الجميلة إيه الحضور دا كله.
* العفو والسماح يا ملكة. ما فيش حد له وجود وملكة المسرح الست بديعة موجودة.
= دا انت مش بس بتعرفي تغني حلو. لا دا انت حلوة وبتتكلمي حلو كمان.
* الحلاوة نفسها تنكسف من وجودك يا ملكة... أنا لو كانوا قالولي أني هنكسبوا الف جنية النهاردة كنت صدقت ولا كنت اصدق أن الملكة بديعة تقعد في صالة تسمعني.
= كلامك كدا بيقول أنك اسكندرانية.
* اسم الله عليك وعلى نباهتك.
= وقاعدة هنا كتير يا زوبة.
* أنا ماضية عقد بتلات أشهر. عد منهم شهر وكام يوم.
= عموماً أنا قاعدة هنا أسبوع كمان... ونازلة بعد كدا على مصر. هاستنى أشوفك هناك. أول ما تنزلي لازم تعدي عليا.

(البقية في الحلقة المقبلة)
الجريدة الكويتية في
1-z12.jpg
2-z12.jpg



التعديل الأخير تم بواسطة justice; 07-03-2015، الساعة 07:16 AM








images





images



 
التعديل الأخير:


ما فيش تفاهم

كتب الخبر: ماهر زهدي

بنت بحري زينات صدقي

( 12 )

لم يكن ما أصاب زينب غروراً بمعناه الحرفي، بل نوع من الدفاع عن النفس في مواجهة آخرين، وجدت أنهم يرتفعون بأنفسهم إلى عنان السماء، ويصنعون حول أسمائهم هالات، بغض النظر عن حجم موهبتهم، إلا أنهم يفعلون ذلك كنوع من التسويق الفني لأنفسهم، وزيادة الطلب عليهم، لدرجة أن بعضهم كان يؤجر من يقوم بمهمة التعظيم والتبجيل لهم أمام الغير، لتنتقل مهمة تعظيمهم بالعدوى إلى الجمهور، وبالتالي إلى أصحاب الملاهي والكازينوهات.

جربت زينب أن تفعل مثلما يفعل غيرها من الفنانين بعدما نصحها بعض المقربين بذلك، وهي الحيلة التي أفلحت إلى حد كبير في بيروت، وأرادت أن تستكملها اليوم في ظل وجود مطربة القطرين، التي ستكون بعد هذه الليلة زميلة لها في برنامج واحد، فلا بد من أن تزيد زينب من شكل الهالة حول نفسها، كنوع من الدفاع المستبق قبل أن يلتف الجمهور وصاحب التياترو، حول مطربة القطرين فحسب، وينسوا {الست زينب المصرية}.

استعدت زينب تماماً للصعود إلى خشبة المسرح، شربت بعض المشروبات الساخنة التي تجلي الصوت، وأعادت التأكيد على حفظ الأغاني مع نفسها. ما إن ظهرت على خشبة المسرح حتى استقبلها الجمهور استقبالاً رائعاً، ارتفع بمعنوياتها إلى عنان السماء، ومع هتاف الجمهور باسمها زادت ثقتها بنفسها.

نظرت عن يسارها فوجدت مطربة القطرين فتحية أحمد تجلس وإلى جوارها صاحب التياترو، وبعض كبار المترددين على التياترو، فابتسمت لهم ابتسامة تحمل أكثر من معنى، بها الترحيب والتعالي والغيرة والود، فبادلها الجميع بابتسامة عريضة، غير أن فتحية أحمد بالغت في الابتسام، ما زاد من ثقة زينب بنفسها بشكل كبير، فبدأت بالأغنية التي تقدم فيها نفسها {أنا زينب المصرية} وشعرت كأنها تقولها هذه الليلة لمطربة القطرين فتحية أحمد، فقامت بتحيتها وأومأت برأسها وأشارت لها بيدها، كأنها تقول لها: {أهلا وسهلا تشرفنا}.

بعدها بدأت زينب على الفور بأغنية من أغاني فتحية أحمد:

تكايدينى.. وليه يعنى

أطيق الكيد واستحليه

ونار حبك تحمى يا ريت النار دي

تسمح لي أقول للناس سبب حبي

أدارى الحب وأتألم

ويضحك قلبك القاسي

وامسح دمعي واتكسف

ومين يفهمني ويواسي

قولي لي وأنا اسس

حرام ولله ترميني

ومين يقدر يطيق بعدك

ده يذل ويحكيلي

تكايدينى وليه يعني

أطيق الكيد واستحليه

ونار حبك تحمي يا ريت النار دي

تسمح لي أقول للناس سبب حبي

احكي لي ومين يرحمني يا غلبي

علقة ساخنة

انتهت زينب من الأغنية، ونظرت بطرف عينها إلى حيث تجلس فتحية أحمد فوجدتها تصفق لها بحرارة، ووجهها يتهلل، فبدأت بالأغنية الثانية من أغاني فتحية أحمد، ولاقت الترحيب نفسه من الجمهور، وبعض الحماسة من فتحية، فغنت الثالثة والرابعة، وفي كل مرة كانت حماسة فتحية تقل. حتى تحولت بعد الأغنية الرابعة من فتور في استقبال الأغاني، إلى غضب مع كل أغنية جديدة، وعندما نظرت إليها بعد الأغنية السابعة لم تجدها تجلس في مكانها في {البنوار}، فظنت أن شيئاً ضايقها واضطرت إلى الانصراف. لكن ما إن استدارت إلى الخلف حتى وجدت فتحية أحمد خلفها، صفعتها على وجهها صفعة قوية أطاحت بها وطرحتها أرضاً، ولم تكتف بذلك، بل امتدت يداها إلى شعر زينب، فتمكنت منه ولفته على يديها ثم سحبتها على أرض المسرح، وسط صراخها، بينما الجمهور يضحك وهو مندهش مما يحدث أمامه، ووقف الجميع وكأن المفاجأة شلت حركتهم. لم يستطع أحد أن يتدخل أو يفعل شيئاً، وأكملت فتحية أحمد وصلة ضربها لزينب، وجرتها لتنزل بها من فوق خشبة المسرح وهي تسحلها أرضاً، وتلقي بها إلى الصالة.

ركض خمسة عمال من التياترو ومعهم خيرية صدقي ورفعوها عن الأرض وهي تصرخ وتتألم من شدة الألم، وراحوا ينظرون إلى فتحية أحمد بدهشة وحيرة، حتى أزالت دهشة الجميع، خصوصاً الجمهور وصاحب التياترو، والعاملين فيه، عندما اعتلت خشبة المسرح ووقفت تتحدث إليهم:

= أسعد الله مساكم. وحشتوني يا جمهور لبنان العظيم. واسمحوا لي أعتذر لكم عن المنظر اللي انتوا شوفتوه دلوقت، وانا بضرب البنت دي اللي اسمها زينب. ولكم حق تستغربوا. بس أنا عايزة أقول لكم أني عمري ما ضربت حد وخصوصاً ست... أنا ممكن أضرب راجل بيعاكسني آه. لكن أضرب ست لا. وعمري ما اعتديت على زميل، ولا سرقت منه لقمة عيش ولا اتسببت في قطع عيشه. لكن الست زينب سرقت مني كل أغنياتي. مش أغنية ولا اتنين ولا تلاتة. لا سبع أغنيات حتة واحدة... والأغاني كلها جديدة. يا دوب لسه عاملها في مصر من شهرين بس... وما سمعهاش مني جمهوري في بيروت ولا في دمشق. يكون أول ما يسمعها يسمعها من الست زينب مش منيّ أنا. وطبعاً أنا مش هقدر أغنيها في أي مكان بعد كدا لا هنا ولا في دمشق. وإلا الجمهور هيقول إن أنا اللي سرقتها منها. يعني أنا أدفع دم قلبي لمؤلفين وموسيقيين وهي تاخد ع الجاهز. إذا كان دا يرضيكم أنا بعتذر لها ولكم.

انتهت فتحية أحمد من كلمتها للجمهور، فضجت الصالة بالتصفيق، بينما العمال وخيرية كانوا قد حملوا زينب إلى أقرب مستشفى، حيث كانت حالتها متدهورة جداً، لدرجة أفزعتها، هي ووالدتها وصديقتها خيرية:

= إيه دا؟ ليه كل دا؟ انت عملتي فيها إيه؟

* سرقت أغانيها من غير ما أقولها.

= تقوم تعمل فيك كدا؟

- واكتر من كدا يا خالتي.

= دا زي ما يكون بينها وبينك تار بايت.

- اللي عرفته إن دي الأغاني الجديدة بتاعتها.

* طب ما أحنا عارفين كدا يا خيرية وإيه الجديد في كدا.

- لا ماهي كانت جاية تقولها هنا في بيروت وتعمل عقد جديد بيها شهرين تلاتة هنا. انت بقى سبقتيها وقولتي كل الجديد اللي عندها. هي بقى هتقول إيه

* إن كان كدا. يبقى فعلا عندها حق.

= كسر حوقها... منها لله.

* لا يا أمي. ما تدعيش عليها. أنا كدا اللي غلطانة ومفروض أروح اعتذر لها.

= كمان!

لم تستمر فتحية أحمد في بيروت، بل أنهت زيارتها وعادت إلى مصر بعد ثلاثة أيام فقط من هذا الحادث. في اليوم التالي لمغادرتها بيروت، خرجت زينب من المستشفى، بعدما وضعت جبيرة على ذراعها الأيمن، وأخرى فوق رقبتها، أكد لها الأطباء أنها لن تخلعهما قبل أسبوعين.

اعتزال مبكر

كان على زينب أن تستمر في الفندق طيلة الأسبوعين لا تغادر غرفتها، حتى لا يراها الناس، ليس خجلا من وضع الجبيرتين على ذراعها ورقبتها، ولكن خجلاً مما فعلته، بعدما عرفت بأن فتحية أحمد فضحت أمرها أمام الجمهور وقالت له إنها سرقت أغنياتها.

طيلة هذه الفترة كانت زينب تفكر بشكل مستقبلها، في الأيام المقبلة، ماذا ستفعل؟ هل ستستعين بمؤلفين وموسيقيين لوضع أغان جديدة لها؟ أم تبحث عن أغنيات جديدة لمطربين آخرين؟ وهل ستستمر في الغناء أم تبحث عن مجال آخر؟

ذلك كله دار في رأس زينب، غير أنها لم تجد إجابات لغالبية هذه الأسئلة، فأرادت أن تستعين بوالداتها وبخيرية. ربما ساعداها على إيجاد إجابات:

- في إيه يا زينب؟ مش كفاية كدا وترجعى بقى التياترو؟

* تياترو... تاني بعد اللي حصل يا أمي.

- وهو إيه اللي حصل. الي حصل دا بيحصل كل يوم. هنا وفي مصر وفي إسكندرية وفي كل حتة... ومش مع مطربين صغيرين لسه بيشقوا طريقهم... لا دا كمان مع أسامي كبيرة لها وزنها.

* بس مش بالفضيحة دي.

- يا اختى لا فضيحة ولا حاجة... ما تكبريش الموضوع.

* إزاي بس يا أمي... أوري وشي إزاي لصاحب التياترو... للجمهور اللي شاف وسمع الفضيحة بنفسه.

= الجمهور بينسى بسرعة... وصاحب التياترو بينك وبينه عقد.

* ما ظنش يا خيرية.

= إزاي؟ دا ما هيقصد انك ترجعي... دا يتمنى.

* هو سأل عني؟

= إيه... هو... هو يعني... اصله كان مشغول اليومين اللي فاتوا.

- هو يقدر يستغنى.

* يقدر ونص إيه اللي يمنعه.

استعادت زينب صحتها، غير أنها لم تستعد مكانتها الفنية، فقررت أن تختبر ذلك، ذهبت إلى تياترو {الباريزيانا} غير أنها قبل أن تذهب وتلتقي صاحب التياترو كانت قد تهيأت تماماً لأي رد فعل قد يصدر عنه:

= ست زينب اسمحيلي. انت ما بتريدي خسارتي.

* طبعاً... ما فيش حد يرضى بالخسارة.

= منيح كتير... هيك متفقين.

* متفقين طبعاً... بس على إيه؟

= لهون وكتر خير الله. إذا بتريدي.

* من غير ما تقول... أنا كنت ناوية أعمل كدا وأوفر عليك أي كلام... مش عليك انت بس... على أي حد ممكن يتكلم في الموضوع دا.

نقطة البداية

في صباح الاثنين في 18 يوليو عام 1932 وصلت باخرة من بيروت إلى ميناء الإسكندرية، على متنها زينب صدقي ووالدتها وصديقتها خيرية، اتجهن فوراً إلى بيت خيرية إلى حين استكشاف الأحوال، وتبين إن كانت الأمور قد هدأت مع عمها أم لا؟ ولم يكن ليجيب عن هذه الأسئلة سوى شقيقتها سنية، التي ذهبت إليها خيرية لتحضرها إلى بيتها خوفاً من أن يحدث ما لا تحمد عقباه بظهور زينب أو والدتها من دون معرفة آخر التطورات:

- ياه... والله زي ما يكون بقالكم أربع سنين مش أربعة شهور.

= وحشتيني يا بنتي يا حبيبتي... وحشتيني أوي.

* طمنيني عليك يا سنية وعلى أخواتك البنات... وانت عاملة إيه وعلى اللبان عامل معاك إية؟ ويا تري عمك لسه بيدور علينا؟

= واحدة واحدة عليها يا بنتي. الدنيا ما طارتش.

- عمك لسه بيدور عليك كل يوم. زي ما يكون بينه وبينك تار بايت. مش عايز يسيبك في حالك. دا مش بس كدا... دا كمان مش عايز يسيبني أنا كمان في حالي. كان عايز يخرب بيتي من كتر الزن على ودان جوزي. لولا ربنا ستر وبعت اللي يمنعه عن طلاقي في الوقت المناسب.

= أنطلق لسانه من حنكه... هي حصلت لحد الطلاق.

* ودا مين ابن الحلال دا اللي أثر على جوزك ومنعه يطلقك.

- ابنه.

= يا نهاره زي الطين... هو له ابن من واحدة تانية؟

- لا بعد الشر... تانية إيه؟

* ما تتكلمي يا بت تقصدي إيه؟

- يوه بقى أنتو لازم تكسفوني... أصل أنا... أنا حامل في الشهر الخامس.

= ألف بركة... الف ألف بركة.

* مبروك يا سنية... ألف مبروك. دا أجمل خبر سمعته في حياتي... نساني كل الأسى والغلب اللي الواحد شافوه الفترة اللي فاتت كلها

- أول ما عرف أني حامل بقيت عنده زي الفرخة بكشك... حتى ما بقاش يرضى يقعد مع عمي ويتهرب منه.

* أنا مش عارفة هو بيعمل ليه كدا معانا! دال وكان بيكره أبونا برضه ما يعملش كدا معانا.

= وإيه العمل يا رب... هي الغربة انكتبت علينا ولا إيه. طب احنا لسه راجعين من بيروت. هنروحوا فين تاني دلوقت؟

* هننزل مصر.

= مصر... فين وإزاي وعند مين؟

كازينو بديعة

منذ الانفصال بينها وبين زوجها الفنان نجيب الريحاني سنة 1927، انفصلت بديعة عنه فنياً، وعادت للعمل بمفردها عبر فرقة خاصة بها، حيث عرض عليها أحد الأصدقاء المقربين منها أن تعود إلى الرقص والغناء مجدداً، بعيداً عن تمثيل الأوبريتات والمسرحيات، وفعلاً أسس لها صالة في عماد الدين، وبدأت في تكوين فرقتها الغنائية الراقصة التي ولدت عملاقة بالفعل، فضمت إليها أشهر المطربين والمطربات، فاطمة سري التي لحن لها صفر بك علي وكيل معهد الموسيقى العربية. كذلك انضم إليها كل من نجاة علي، والشيخ سيد الصفتي الذي كان يجيد غناء الأدوار التي صاغها الرواد محمد عثمان وعبده الحامولي وإبراهيم القباني، إضافة إلى مطربة القطرين فتحية أحمد. ومن لبنان جاءت بالراقصة ببا عز الدين وأختها شوشو عز الدين، وبالمطربة رائعة الصوت ماري جبران التي كانت تجيد الموشحات والأدوار المصرية وكانت جميلة الوجه ولكنها في الوقت نفسه زائدة الوزن، ولعل هذا كان سبباً في عدم ذيوع شهرتها.

غطت شهرة صالة بديعة على الصالات كافة في شارع عماد الدين، بل والصالات كافة التي كانت موجودة في القاهرة، وكان ذلك سبباً في جذب كثير من الراقصات والمطربين والمطربات إلى صالتها، فانتقلت إليها أيضاً الراقصة الشابة تحية محمد التي ذاعت شهرتها في صالة بديعة وأصبحت «تحية كاريوكا». كذلك ترك المطرب فريد الأطرش وشقيقته أسمهان صالة ماري منصور وانتقلا إلى صالة بديعة، وتزاحم في الصالة كثير من المطربين الذين أصبح لهم باع طويل في عالم الفن مثل إبراهيم حمودة الذي كان مطرب الفرقة الأول ثم جاء محمد فوزي ومحمود الشريف الذي كان يغني ويلحن في الصالة، وتولى قيادة الفرقة الموسيقية أحد ألمع الملحنين وعازفي القانون الموسيقي أحمد شريف، ومعه زوجته سيدة حسن مطربة الأفراح. وتقدم لها أيضاً المطرب الناشئ أحمد عبد القادر الذي اشتهرت له أغنية «وحوي يا وحوي»، وعمل في صالة بديعة أساطير فن المونولوج الفكاهي مثل موسى حلمي والدويتو الفكاهي «حسين ونعمات المليجي» والمونولوجست الشاب إسماعيل ياسين، والراقصة ثريا حلمي وشقيقتها المطربة ليلى حلمي.

إلى جوار الغناء الفردي والرقصات الفردية، كانت بديعة تقدم مونولوجات، فضلاً عن اسكتشات يشارك فيها كل أفراد الفرقة بالغناء والرقص، وكانت هي بطلة مثل هذه الاستعراضات وكان يعمل معها كثير من مشاهير المؤلفين، أمثال حسين حلمي المانسترلي وأبو السعود الأبياري ومحمود فهمي إبراهيم، والأخير كان أول من قدم لها مونولوج تقليد الفنانين وكان يكتب لها الاستكتشات الغنائية، وعن طريقها تعرف إلى فريد الأطرش.

تذكرت زينب زيارة بديعة مصابني لملهى «الباريزيانا»، ووصيتها لها بأن تزورها في القاهرة فور عودتها من بيروت، فعزمت على أن تترك الإسكندرية وتتجه إلى القاهرة لمقابلة بديعة، على أن تقوم بالزيارة بمفردها هي وخيرية أولاً، وإذا تم الاتفاق تعود لإحضار والدتها بعدما ترتب أمرها في القاهرة.

نزلت زينب للمرة الأولى إلى القاهرة، شعرت بالخوف من شكل المدينة المزدحمة، غير أن رهبتها زالت بمجرد أن دخلت شارع الفن «عماد الدين» حيث الإحساس المختلف بالحميمية والدفء، لا علاقة لهما بحر الصيف، ولكنه دفء الجوار والحب الذي يسيطر على كل من يعملون في الشارع كأنهم أسرة واحدة، ويزيد من ذلك تنقل العاملين في الوسط الفني بين الصالات والفرق المسرحية المختلفة، بمرور الوقت.

سألت زينب عن صالة الست بديعة، غير أنها كانت قد تركت شارع عماد الدين، فانتقلت إلى حيث المقر الصيفي لها... وقفت أمام تياترو مجاور لها تشاهد صور العاملين في الملهى، وجدت بينها صورة مطربة القطرين فتحية أحمد، فقررت الانصراف.

البقية في الحلقة المقبلة

كان شارع عماد الدين في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي يموج بعشرات الفرق المسرحية، علي الكسار، نجيب الريحاني، رمسيس ليوسف وهبي، عبد الرحمن رشدي، فاطمة رشدي وعزيز عيد، جورج أبيض... وغيرهم. كذلك كثرت صالات الرقص التي تديرها أجنبيات مثل، صالة «ديناليسكا» إلى جوار مسرح الريحاني وكازينو «دي باري» الذي كانت تديره مدام مارسيل (سينما «ريتس» في شارع عماد الدين)، فضلاً عن صالات لفنانات مصريات أمثال، سعاد محاسن وماري منصور ورتيبة وأنصاف رشدي. أما أكبر صالات الفنانات العربيات فقد كانت «صالة بديعة مصابني» (سينما ليدو راهناً) في شارع عماد الدين أيضا.

كانت غالبية الفرق المسرحية والغنائية، تهرب من حر الصيف مع أهالي القاهرة، إلى الإسكندرية ورأس البر وبورسعيد، لتقدم عروضها على مسارح وتياتروهات هذه المدن الساحلية، وعلى رأسها، نجيب الريحاني وعلي الكسار، فرقة رمسيس، عزيز عيد وفاطمة رشدي، ماري منصور... وغيرهم الكثير، فيما كانت «الست بديعة مصابني» الوحيدة التي تبقى في القاهرة، ويبقى معها جمهورها الذي تعود ارتياد «صالة بديعة»، غير أنها فقط كانت تنتقل من شارع عماد الدين، حيث صالة بديعة، إلى البر الغربي من النيل (شيراتون القاهرة راهناً) حتى أصبح هذا المكان يشتهر باسمها، لدرجة أن عامة الناس أطلقوا على الكوبري الذي يصل بين ضفتي النيل في هذا المكان اسم «كوبري بديعة» وكان يتولى إدارة الصالة الفنان الشعبي سعد الله المصري.

الجريدة الكويتية في

21/07/2013

 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
17-01-2015, 03:53 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

كازينو اللطافة
كتب الخبر: ماهر زهدي

بنت بحري زينات صدقي


( 13 )
تسمرت قدما زينب أمام صالة مجاورة لصالة بديعة بمجرد أن رأت صورة مطربة القطرين فتحية أحمد، ضمن صور المطربين والمطربات المعلقة على باب الصالة، وعادت ذاكرتها فوراً إلى «العلقة» التي تلقتها على يديها في ملهى {الباريزيانا} في بيروت، والخلاف الحاد الذي نشب بينهما بسبب {سرقة} زينب أغاني فتحية أحمد.
شعرت زينب أن من الوارد أن يتجدد الشجار بينها وبين فتحية أحمد أمام صالة بديعة مصابني، والفضيحة التي حدثت في إطار محدود في ملهى في بيروت لم يره كثيرون، ستصبح هنا أكبر وأضخم، وقد يصل الأمر إلى بديعة وتحدث فضيحة في ملهى يرتاده معظم الفنانين العرب. بالتالي، ستكون هذه هي النهاية لا البداية، ولن تستطيع أن تذهب إلى أي مكان آخر، لا في القاهرة ولا الإسكندرية، حيث ستظل تلاحقها الفضيحة.
قررت زينب التراجع والعودة من حيث أتت، وأفضل لها أن تعود إلى الإسكندرية ويلاحقها عمها من ملهى إلى ملهى، من أن تكتب نهايتها بيدها وإلى الأبد.
عادت زينب إلى الخلف بظهرها لتهرب، قبل أن يلحظهما أحد فأوقفتها خيرية:
= إيه يا زينب راجعة ليه؟
* انت مش شايفة صورة مين دي؟ المرة دي بقى هيبقى فيها قتل.
= استني بس.
في اللحظة التي كانت تتراجع فيها زينب إلى الخلف اصطدمت ببديعة مصابني:
- الله مش انت بتاعة بيروت... ايوا أيوا فكرني.
* أيوا يا ملكة. أنا بتاعة بيروت.
- أنا فاكراكي... بس فكرني.
* زينب... زينب صدقي.
- أيوا بالظبط. كنتِ بتقولي {أنا زينب المصرية}... تعالي يا زينب تعالي.
جلست زينب في مكتب ملكة مسارح عماد الدين، وحكت لها عن سبب تراجعها ورفضها الفرصة التي تتمناها أي فنانة في مصر أو حتى خارج مصر، وصارحتها بأن سبب رفضها ليس خوفها من المشاكل مع فتحية أحمد فحسب، ولكن الخجل منها ومن حدوث فضيحة جديدة. غير أن بديعة هدأت من روعها وطمأنتها:
= اللي حصل دا حاجة عادية ما تكسفكيش. بتحصل كل يوم هنا عندي. وفي كل الكباريهات. صحيح أنا ما سمعتش صوت فتحية أحمد لكن انت قولتي الأغاني كويس.
* معقولة... أمال هي عملت ليه كدا؟ أنا حسيت أني عملت جريمة كبيرة استحق عليها الدبح مش الحبس.
= لا لا مش للدرجة دي... هو صحيح انت أخدتي كل أغانيها الجديدة. بس كل الحكاية أن انت بوظتي عليها عقد بمبلغ كبير. ودا اللي تعبها مش انك خدتي أغانيها. عموماً، فتحية أحمد بتشتغل في الصالة اللي جنبنا... ما تشليش هم الموضع دا. أنا هبقى أصالحك عليها بعدين.
خجل زينب منعها أن تطلب مباشرة العمل لدى بديعة، غير أن الأخيرة فهمت ذلك فعرضت عليها الانضمام إلى مدرستها الفنية {صالة بديعة}، وهو ما كانت تتمناه وسعت إليه لولا خوفها، لكن بديعة طمأنتها مؤكدة لها أن من يعمل في {كازينو بديعة} يكتسب حصانة مهمة تحميه بشكل كبير، حتى من القصر والإنكليز. غير أن الأزمة الحقيقية هي تلك المشكلة التي واجهت زينب وواجهتها بها بديعة:
* مش فاهمة تقصدي إيه يا ملكة؟
= شوفي يا حبيبتي. أنا ما بقولش إن صوتك وحش. بالعكس صوتك حلو وودود. وأنا سمعتك بتحافظي على المقامات والعُرّبْ بتاعتك مظبوطة. بس انت مؤدية... مؤدية حلوة أوي... لكن مش مطربة بمعنى مطربة.
* أيوا يا ست بديعة أنا عارفة ومصدقة... بس يعني أنا...
= انت في عنيا وهتشتغلي معايا. بس تسمعي كلامي وتعملي اللي هقولك عليه.
* أنا من أيديك دي لأيديك دي.
= انت من النهاردة هترقصي يا زينب مع صاحبتك خيرية.
* ايوا خيرية بترقص كويس. بس أنا عمري ما رقصت.
= ما فيش واحدة ما بتعرفش ترقص. كل الحكاية أن لازم حد يعلمك الخطوة دي تعمليها إزاي... تتحركي إزاي... تكرري الحركة إزاي وامتى. ودا اللي هيعلمهولك إزاك.
* مين إزاك دا؟
= مدرب الرقص هنا. هيخليك نمرة واحد. بس تعملي اللي يقولك عليه. انت في الأول هتبقي معايا في الاستعراض بتاعي لحد ما تتمرني كويس... وبعدين تبقي صولو.

احتضان
لم تكتف بديعة مصابني بضم زينب إلى فرقتها، ووضعها في برنامج التياترو، بل أحاطت عليها بذراعيها، فلم تكن مجرد صاحبة تياترو أو فرقة. الأهم من ذلك أنها كانت تعتبر نفسها بمثابة الأم لكل من يعمل لديها من النساء والفتيات، خصوصاً غير المتزوجات، كي لا تتركهن للذئاب الباحثة عن فريسة، فحرصت على الحفاظ على الراقصات اللاتي يعملن لديها في التياترو، من خلال استئجار غرف لهن في منطقة العتبة، القريبة من ميدان {إبراهيم باشا} أمام دار الأوبرا الملكية، وبمجرد انتهاء عملهن بالتياترو يتجهن إلى النُزل، وهو ما كانت تقوم به بديعة مع كل فتاة تنضم إلى فرقتها:
* كتر خيرك يا ست بديعة. بس مش هينفع.
= ليه يا حبيبتي انت مش بتقولي أنك من إسكندرية يعني ملكيش بيت هنا في مصر.
* أيوا مليش بيت في مصر بس أنا مش هعيش هنا لوحدى. أمي هتعيش معايا مش بتسيبني.
= طب وماله تيجي أمك تعيش معاكي في البانسيون.
* ما أحنا نازلين في بنسيون في شارع عماد.
= كده طب خلاص زي ما يعجبك المهم تكوني مرتاحة وتخلي بالك من نفسك.
اعتذرت زينب عن عرض بديعة وهي لا تعلم أين ستعيش، فهي لم تكن تعرف أحداً في القاهرة، الأهل والأصدقاء كلهم يعيشون في الإسكندرية، وكان لا بد من مكان دائم تعيش فيه في القاهرة بصحبة والدتها، بل لا بد من إيجاد هذا المكان قبل العودة إلى الإسكندرية للمجيء بوالدتها.
وقفت زينب أمام باب التياترو تتبادل الحديث مع خيرية في أمر العثور على مكان تمضيان فيه ليلتهما أولاً، ثم البحث في الصباح عن مكان يكون لهما خلال الفترة المقبلة، إلى حين الاستقرار الدائم.
سمعتهما تتجادلان الراقصة ثريا حلمي، التي تعمل في تياترو بديعة، فتدخلت بينهما في الحوار:
= انت زينب وخيرية صدقي زمايلنا الجداد... مش كدا؟
* أيوا.
- أهلا وسهلا.
= أهلا بيكم. أنا بقى أختكم ثريا حلمي. برقص هنا في التياترو ومعلش يعني أنا سمعتكم غصب عني أنكم بتدور على مكان تنزلوا فيه.
* أيوا أصل احنا من إسكندرية عايزين نشوف مكان نبات فيه النهاردة وبكرة نشوف مكان نستقر فيه في القاهرة.
= عموماً انتوا هاتيجو تناموا عندي النهاردة... وبكره يحلها الحلال.
بعد محاولات الشكر والاعتذار وافقت زينب وخيرية على تمضية ليلتهما لدى الراقصة ثريا حلمي، وفي الصباح استطاعتا بمعاونتها أيضاً العثور على نُزل في شارع {كلوت بك} قريب من شارع عماد الدين، وحجزا فيه غرفتين، إحداهما لزينب ووالدتها، والثانية لخيرية، على أن يمضين فيه الفترة الأولى لهن في القاهرة.
انتظمت زينب في التدريبات مع أزاك مدرب الرقص في صالة بديعة مصابني، وعلى رغم رشاقة جسدها وليونة حركتها فإنه وجد صعوبة بالغة في تدريبها، فلم تكن تتخيل أن ترقص أمام جمهور، بل أقصى شيء هو أن تقف أمامه وتغني، لذا كان إحساسها بالرقص بطيئاً. ساعدها على تقبل الموضوع وعدم ملاحظة بديعة ذلك، أنها رقصت في البداية ضمن مجموعة خلفها على خشبة المسرح، فلم يكن ملحوظا أنها لا تجيد الرقص، كما لم يلحظ الجمهور ذلك، ليس رقص زينب فحسب، بل كل من هن خلف الملكة بديعة، التي كانت أفضل من يرقص وهي تحمل {الفنيار} أو {الشمعدان} في بر مصر والشام، في الوقت الراهن.

راقصة صولو
أحبت بديعة زينب بشكل كبير، وقربتها منها دون بقية الفتيات اللاتي كن يرقصن الرقص الجماعي في الفرقة خلفها، وقررت أن تميزها:
* سي أنطوان قاللي انك عايزاني.
= تعالي يا زينب. أقعدي... كنت عايزة أكلمك في موضوع.
* تحت أمرك يا ملكة.
= أنا اخترت من بين البنات إنك ترقصي بالشمعدان.
* أنا؟
= أيوا انت. ما شاء الله جمال ودلال وعودك حلو... يعني تنفعي ترقصي بالشمعدان وصولو كمان.
* أيوا يا ملكة بس أنا لسه يعني...
= ما فيش لسه ولا يعني... انت هتتدربي من بكره مع إيزاك على الرقص بالشمعدان. وانت بتحضري النمرة بتاعتك معايا زي ما انت... لحد ما تتدربي عليها وبعدين نشوف.
لم تستطع زينب أن تراجع كلام بديعة، غير أنها خرجت من عندها وهي تفكر ماذا ستفعل، ففي الوقت الذي قررت فيه مفاتحة بديعة في أمر هي ترغب فيه، فاجأتها بديعة بأمر آخر.

رقص كوميدي
لم تجرؤ زينب على أن تفضفض بما يجيش في صدرها، مع أي ممن تعملن في الصالة، خشية أن يصل الكلام إلى أنطوان، ابن شقيق بديعة، والذي يعمل مديراً للصالة. بالتالي، سيصل الكلام إلى بديعة. كذلك خشيت أيضاً أن تفضفض به إلى صديقتها خيرية، التي وجدتها تميل ناحية أنطوان، فلم تجد سوى والدتها تشكو لها همها وما يدور في رأسها:
= دا معناها أن الست بتحبك وبتفضلك على كل اللي بيشتغلوا معاها.
* أنا عارفة كدا. بس أنا مش قادرة.
= مش قادرة على إيه؟
* مش قادرة استمر في الرقص. أنا يا دوب برقص وارها بالعافية وأنا متدارية في زمايلي. تقوم تخليني أرقص بالشمعدان... ولوحدي كمان!
= كتر خيرها يا بنتي... أمال انتي عايزة إيه؟
* كنت عايزة أكلمها تخليني أقول مونولوجات زي حسين المليجي ولا إسماعيل ياسين. أنا مش قادرة استمر في موضوع الرقص.
= اللي يعجبك. بس اللي أعرفه انك تخليك معاها لحد ما ربنا يسهل وتوافق... أو يفرجها عليك في مكان تاني.
اقتنعت زينب بكلام معلمتها الأولى، والدتها، وانتظمت مع بديعة كراقصة، بل وانتظمت مع أزاك في التدريب على الرقص بالشمعدان، والمدهش أنها على عكس ما توقع البعض، بل على عكس ما توقعت هي لنفسها، أظهرت تقدماً كبيراً في الرقص بالشمعدان قبل أن يمر أسبوع، ما أبهر أزاك وجعله يؤكد لبديعة أن زينب تفوقت على نفسها وكل زميلاتها، وأنها جاهزة لتقديم فقرة صولو بمفردها، وهو ما فعلته زينب، وظهرت للمرة الأولى أمام الجمهور راقصة بمفردها لتقديم رقصة الشمعدان. كانت المفاجأة غير المتوقعة أنها ارتبكت ارتباكاً شديداً، حتى كاد الشمعدان يسقط عن رأسها أكثر من مرة، وهو ما لاحظته بديعة وهي تقف خلف الكواليس تتابعها، وتتابع رد فعل الجمهور عليها في الليلة الأولى لها منفردة.

سينما وتمثيل
انتهت فقرة زينب، وضحك الجمهور أكثر مما صفق لها، فقد كانت زينب تأتي بحركات كوميدية من دون أن تدري، فلم تكن راقصة بقدر ما حاولت أن تجسد دور الراقصة، وهو ما أتى بحركات كوميدية أضحكت الجمهور، غير أنها لم تدرك ذلك بل شعرت بأنها تكتب بداية فشلها، ما جعلها تركض إلى غرفتها وتبكي.
احتضنت خيرية صديقتها زينب وحاولت أن تهدئ من روعها، وتخفف عنها صدمة الفشل:
= ما تفكريش في اللي حصل. ارمي ورا ضهرك.
* أزاي؟ دا صوت ضحك الجمهور لسه بيرن في ودني.
= وإيه يعني؟ كانوا مبسوطين.
* لا كانوا بيضحكوا عليا.
= صدقيني الجمهور حبك... الجمهور كريم... بيضحك للي بيحبه.
* بس حاسه أني فشلت... مش هقدر أطلع تاني على خشبة المسرح وأرقص.
= بلاش عبط. تعالي بس تعالي. أنا عزماكي النهاردة على السينما.
* سينما. ومين فايق بس يشوف حاجة.
= لا دا النهاردة فيه حاجة تتشاف جديدة.
* جديدة يعني إيه؟!
= النهاردة هيتعرض أول فيلم مصري ناطق. يعني ها نسمع صوت الممثلين لأول مرة
* معقول؟ فيلم إيه دا؟!
= فيلم اسمه ولاد الذوات.
في يوم الاثنين السابع من نوفمبر عام 1932‏، عرض ‏فيلم {أولاد‏ ‏الذوات}،‏ وهو‏ ‏أول‏ ‏فيلم‏ ‏مصري‏ ‏ناطق، بعد عدد كبير من الأفلام المصرية الصامتة. غير أنه لم يكن ناطقاً بأكمله، بسبب التكلفة العالية لصنع فيلم ناطق، فتم تقديم 40 دقيقة فقط ناطقة من أصل 120 دقيقة، هي مدة عرض الفيلم. ‏قام ‏بالبطولة‏ كل من يوسف وهبي وأمينة رزق،‏ و‏شهد‏ ‏الفيلم ‏ظهور ‏أول‏ ‏مطربة‏ ‏مصرية‏ على شاشة السينما هي نادرة التي قدمت أكثر من أغنية في الفيلم في الجزء الناطق، ما أفاض السينما بسحر خاص، واستحوذت نادرة على عقول وقلوب الجمهور الذي سمعها وشاهدها للمرة الأولى على شاشة السينما.
ظلت زينب طوال فترة عرض الفيلم صامتة... تسمع بأذنيها وترى بعينيها، غير أن عقلها يسبح في عالم آخر، فقد دخلت بعقلها وبروحها إلى عالم الفيلم، شعرت بأنها واحدة من أبطاله، تتحرك معهم وتنفعل انفعالهم نفسه، كأن كلامهم يُقال على لسانها. إحساس غريب انتاب زينب للمرة الأولى بسبب الحالة التي كانت تعيشها بسبب مشاهدة السينما.
خرجت من السينما، وهي لا تزال على حالتها نفسها، راحت خيرية تتحدث في أحداث الفيلم، وتبدي انبهارها بشخصية يوسف بك وهبي، وكيف أنه ساحر حقيقي يأخذ بلب من تنظر في عينيه، فيما كانت زينب تسير إلى جوارهما بالجسد فحسب، بينما روحها وعقلها لا يزالان هناك... دخل دار العرض، التفتت إليها:
= إيه دا؟ عماله أهاتي من بدري وانت ولا هنا. انت رحتي فين يا زوزو؟
* إيه؟ بتقولي إيه؟
= لا أقطع دراعي من قبل الرقبة بشوية إن ما كان دا حب.
* حب... حب إيه؟
= حب... حب من بتاع يوسف بيه وأمينة رزق.
* أنا... أنا مش بتاعة حب ولا عايز أعرفه.
= ليه يا حبيبتي؟ حد يكره الحب؟ ما أجمل الحب مع الترمس والفول السوداني.
* أنا فعلا وقعت في الحب.
= أوعدنا... قولي قولي... أحنا ستر وغطا عليك.
* أنا شفت السينما قبل كدا في إسكندرية لكن أول مرة بحس بيها... حبيتها... حسيت أني واحدة من اللي جوه الفيلم. كان هاين عليا أدخل الشاشة الكبيرة دي وأكون معاهم.
لم يكن التمثيل غريباً على زينب، فقد سبق لها أن رأته عن قرب، وشاهدت من يعملون به عشرات المرات من خلال عملها في المسارح والكازينوهات والتياتروهات، لكن في هذه الليلة وقعت في غرامه، لا تعرف كيف؟ ولكنه حدث. لم تكن تعرف شيئاً عن تفاصيله، ولم تهتم أن تسأل يوماً عنها، ولا أن تسأل عمن يعملون فيه، ولها منهم أصدقاء، كيف يقومون بعملية التمثيل، سواء على خشبة المسرح أو على شاشة السينما. والسؤال الأهم هو لماذا هذا التأثير الذي وقع ذلك اليوم تحديداً؟ وقد سبق أن شاهدت السينما في الإسكندرية!
أسئلة عدة راحت تدور في رأس زينب، حول التمثيل وليس السينما في حد ذاتها، يبدو أنها انتبهت فجأة إلى هذا الفن الذي ربما لم يخطر لها على بال يوماً، على رغم أنها تعيش بين من يعملون به، بل إنها عندما انضمت سابقاً إلى {معهد التمثيل والخيالة} الذي أنشأه زكي طليمات في الإسكندرية. لم يكن ذلك بغرض تعلم التمثيل، بل كانت تسعى إلى تعلم الموسيقى والغناء بشكل مسرحي، لتأكيد وجودها كمطربة، وأن يكون لها وجود بين كبار المطربين والمطربات.

(البقية في الحلقة المقبلة)
رقصة الشمعدان

بدأت رقصة {الشمعدان} الأكثر شهرة في تاريخ الرقص الشرقي مع الراقصة المصرية شوق التي تتلمذت على يديها راقصة مصرية أخرى هي شفيقة القبطية. وعندما رحلت شوق، أرادت التلميذة أن تقدم جديداً لم تأت به المعلمة الأولى، خصوصاً أن الساحة كانت قد خلت لشفيقة لتتربع على عرش الرقص الشرقي في فترة قصيرة جداً. لمع اسمها، وأصبحت الأسر الكبيرة تباهي بأنها جاءت بشفيقة القبطية في أفراحها، وأرادت الأخيرة أن تجري تجديداً يتناسب مع شهرتها، فكانت تميل بجسدها إلى الخلف وتحمل على بطنها {منضدة} صغيرة تضع عليها أربعة أكواب مملوءة بالشراب، ثم ابتدعت {رقصة الفنيار} حيث تضع على جبينها فنياراً (شمعدان) مضاء بالشموع، ثم ترقص وفي يدها الصاجات على هذه الحال. سرت شهرة هذه الراقصة، فسعى إليها أصحاب الملاهي الكبرى يغرونها بالأجور لترقص في ملاهيهم، حتى استطاع ملهى {الإلدورادو} أن يظفر بالتعاقد معها. بذلك بدأت حياة جديدة وأخذت الثروة تتدفق عليها، وكانت عندما تقف على خشبة المسرح لترقص تتناثر الجنيهات الذهبية تحت قدميها تحية لها من المعجبين والعشاق. ولكنها كانت لا تمد يدها إلى شيء منها، بل كانت تستخدم ثلاثة من الخدم يجمعون الجنيهات ويقدمونها لها بعد انتهاء وصلة الرقص، وهو ما عرفته جيداً بديعة فأصبحت خليفة شفيقة سواء في الرقص {بالفنيار} أو الصيت الذائع.



2-z13.jpg
1-z13.jpg
3-z13.jpg
4-z13.jpg

الجريدة الكويتية



التعديل الأخير تم بواسطة justice; 07-03-2015، الساعة 07:14 AM





images





images











images
 
التعديل الأخير:
07-03-2015, 07:00 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif

موعد مع الحياة
كتب الخبر: ماهر زهدي



( 14 )
عادت زينب إلى المنزل ولم تعثر على إجابات لأسئلة عدة تدور في رأسها. تذكرت الموقف الذي تعرضت له أثناء الرقص بالشمعدان، بل موقفها من الرقص عموماً، وربطت بين ما حدث وبين الأسئلة التي تدور في داخلها حول التمثيل.
دخلت زينب النزل، وجدت والدتها تنتظر في الاستقبال، وتمسك بورقة في يدها... ما إن رأتها ركضت إليها:
* إيه يا أمي... فيه إيه؟ إيه اللي مقعدك كدا؟
= التلغراف دا جه النهاردة من إسكندرية.
* سنية بتولد وتعبانه أوى.
= يا حبيبتي يا بنتي. أنا لازم أسافر حتى لو دلوقت. منه لله اللي شحطتنا كدا وخلانا نسيب بلدنا وحالنا ومحتالنا.
عادت زينب فوراً إلى المسرح تستأذن الست بديعة للسفر مع والدتها إلى الإسكندرية، وسافرت بصحبة والدتها في صباح اليوم التالي. لتلتقي بشقيقتها التي كانت قد أنجبت طفلة، أطلقت عليها زينب اسم «نادرة»... بطلة فيلم «أولاد الذوات».
قرار مصيري
عادت زينب إلى القاهرة بمفردها وتركت والدتها مع شقيقتها سنية وبقية شقيقاتها عدة أيام، وخلال رحلة العودة إلى القاهرة بمفردها في القطار كانت قد أخذت وقتاً كافياً في التفكير وحسمت أمرها، وما إن التقت بديعة مصابني حتى فاتحتها في أمر إصرارها على تقديمها كراقصة منفردة:
= ودي حاجة تزعلك أنا خلاص مش بحط الشمعدان دلوقت. أنت واللي زيك ممكن يعملوا دا... ودي فرصتك.
* بس أنا لسه خايفة... حاسة أن المسؤولية كبيرة أوي.
= لو خفتي مش هاتعملي حاجة... لازم تبقي جريئة وتعملي حاجات ما حدش يتوقعها منك علشان تحققي اللي بتحلمي بيه.
* بس أنا مش حاسة أني هقدر أحقق اللي أنا عايزاه من الرقص. يعني هيوصلني لحد فين؟
= ليه... طب ما أنا قدامك أهه.
* مش هيبقى فيه غير الملكة بديعة وبس... يا ملكة.
= شوفي يا زينب أنا بصراحة حاسة أنك مش بتحبي الرقص زي المغنى. حتى بدلة الرقص ما رضتيش تلبسيها ولبستي الجلابية البلدي... قلت زي بعضه يمكن لسه مش واخدة عليها.
* مش بالشكل دا... لكن هو يعني... يعني.
= اتكلمي يا زينب بصراحة. انا حبيتك وقربتك منيّ.
* بصراحة أنا مش لاقيه نفسي في الرقص...
= كده... وإيه كمان؟
* وبقول يعني لو تخليني أقول المونولوج. يبقى كتر خيرك. أنا صوتي حلو والله. دا كان عاجب الأستاذ زكي طليمات أوي.
= انت تعرفي الاستاذ زكي طليمات؟
* آه أمال... كنت بدرس عنده في معهد أنصار التمثيل والخيالة في إسكندرية ولولا الحكومة قفلته كان زماني اتخرجت وبقيت مغنية ممثلة.
= كنت بتدرسي تمثيل في التمثيل والخيالة... عال أوي. طب ما أحنا فيها!
* مش فاهمة.
= قومي دلوقت روحي... وتيجيني بكره الصبح.
* يعني مش هشتغل النهاردة؟
= لا... انت ملكيش مكان هنا.
خرجت زينب من باب «كازينو بديعة»... وقد خيم الحزن عليها. شعرت بأن بديعة قد استغنت عنها وبدلاً من طردها بشكل غير لائق أخرجتها بهذه الطريقة من الفرقة. التقت صديقتها خيرية... حكت لها ما دار بينها وبين بديعة، فأكدت لها حدسها في ما فعلته معها بديعة، فيما أشارت عليها ثريا حلمي بأن تنتظر مقابلة الغد لترى ماذا ستفعل معها، فربما ادخرت لها عملاً يلقى قبولها.
شعرت زينب بالوحدة لغياب والدتها في الإسكندرية، فقد كانت تشيرها في مثل هذه المواقف، فماذا تفعل لو أن بديعة استغنت عنها فعلاً، هل تعود إلى الإسكندرية أم تبحث عن مكان جديد هنا في القاهرة؟ وماذا تعمل؟ هل تعمل راقصة في ملهى ليلي كما كانت تعمل لدى بديعة؟ أم تعود إلى الغناء؟ ومن سيقبلها في القاهرة وقد طردتها بديعة؟
أسئلة عدة تكالبت على رأس زينب لم يغمض لها جفن تلك الليلة بسببها، ومع أول ضوء للصباح ركضت إلى حجرة خيرية صديقتها وأيقظتها، لتخبرها بأن تعتذر للست بديعة:
= ازاي الكلام دا؟ بس كدا مش كويس.
* أمال إيه هو الكويس. أني أروح لها الكازينو علشان تتهرب مني وتقول لعم مجانص ما يدخلنيش من الباب؟
= يا حبيبتي هي لو عايزة تعمل كدا كانت عملته أمبارح هي هتخاف منك... الست دى بتحبك بجد وعايزة تخدمك.
* بصراحة ما بقتش عارفة أعمل إيه وأتصرف ازاي. أنا مخي هايشت... وبعدين ليه طلبت تقابلني في التياترو بتاعها اللي في عماد الدين مش في الكازينو؟
= يا حبيبتي يا خبر بفلوس بعد ساعتين هيبقى ببلاش.
في الموعد الذي حددته لها، كانت زينب تقف على باب تياترو بديعة مصابني في شارع عماد الدين، دخلت وهي تنتظر أن تلقي بقنبلة في وجهها وتطردها، وأمر العاملين معها بحملها وإلقائها خارج التياترو.
مفاجأة بديعة
صدق حدس زينب، وألقت بديعة بقنبلة في وجه زينب، لكنها قنبلة سارة، فقد عرضت عليها أن تتوسط لدى زوجها نجيب الريحاني «كشكش بك» للعمل معه في مسرحه.
لم تصدق زينب نفسها. كاد يغشي عليها من فرط فرحتها، العمل في فرقة نجيب الريحاني مرة واحدة... خطوة لم تكن تحلم بها... ومن الذي يتوسط لها للعمل لديه... بديعة مصابني، حبه الوحيد! مؤكد أنها تحلم، لكنها تأكدت أنها مستيقظة وتعيش هذا الواقع الذي هو أجمل من الحلم، عندما أخذتها بديعة من يدها واتجهت بها إلى مسرح مجاور لها في شارع عماد الدين حيث فرقة الريحاني.
جلس نجيب الريحاني فوق خشبة المسرح، بحيث كان الكرسي ظهره للصالة ووجهه في مواجهة المسرح، وإلى جواره بديع خيري، وحولهما أعضاء الفرقة يجلسون في ما يشبه نصف دائرة، من بينهم استيفان روستي، عبد الفتاح القصري، زوزو شكيب، زينب صدقي، سرينا إبراهيم، وغيرهم... جلسوا يتناقشون في عرض الأمس، والأخطاء التي وقع فيها كل منهم، وما يجب تفاديه في عرض الليلة.
وقفت بديعة صامتة وإلى جوارها زينب، انتظرت سرينا إبراهيم انتهاء الريحاني من كلمته، وأشارت له إلى بديعة وزينب، التفت الريحاني فوجد بديعة، فهب واقفاً وسارع بالنزول من فوق خشبة المسرح، فيما سارعت بديعة بمقابلته في منتصف الطريق:
= أهلاً أهلاً. إيه الكرم دا. الملكة بذات نفسها اتنازلت وجت لغاية هنا. أكيد النهاردة يوم من أيام سعدي.
- ما فيش فايدة فيك... هتفضل زي ما انت.
= ولزوم إيه التغيير... ما حلو كدا.
- القصد أنا كنت جايه...
= لا قصد إيه. انت هتخديني في دووكة. انت تيجي نقعد في المكتب نشرب قهوة ناخد وندي وبعدين نشوف القصد دا.
- معلش أصلي مستعجلة شوية. تعالي يا زوزو.
= الله انت معاكِ حد؟
- أيوا ماهي دي اللي جابتني.
= معقولة... دي تبقى والدتك.
- هاهاهاه. انت مش هتبطل مقالبك دي.
= مش بتقولي اللي جابتني. اللي جابتك تبقى والدتك.
- لا يا سيدي... دي بنت كانت عندي في الفرقة بتغني وترقص... بس هي عايز تمثل ونفسها تشتغل عند أبو الكشاكش.
= شكلها مايقولش أنها ممثلة خالص. بس علشان خاطرك اعتبريها بقت ممثلة... وممثلة هايلة كمان.
- يسلم خاطرك يا أبو الكشاكش.
= لسه برضه راكبه راسك.
- لا... أنا دلوقت بمشي ما بركبش. فوتك بعافية
= كده من غير ما تاخدي حاجة ولا نقعد شوية مع بعض. عموماً أنا هفوت عليك... نتعشى سوا.
على رغم أنهما منفصلان تقريباً، ولا يعيشان معاً، فإن علاقتهما كانت على ما يرام، فكل منهما يحب الآخر، لذا ظلت علاقتهما على المحك بين شد وجذب، مع أنه حاول مرات عدة استعادة شكل العلاقة الطبيعي، غير أن بديعة كانت تهرب دائماً. لم تشأ أن تبقى تحت سيطرته، وأن يكون هو النجم الأول في البيت وفي الفرقة، خصوصاً أنها تكون بين فرقتها ملكة متوجة، فلماذا تقبل بالدور الثاني معه؟
انصرفت بديعة، وصعد الريحاني ليستكمل حديثه مع أعضاء الفرقة، ونسي وجود زينب التي ظلت واقفة مكانها لم تتحرك، بينما استكمل حديثه مع بديع خيري ونقاشة مع أعضاء الفرقة.
زينات صدقي
انتهى اللقاء، وأعطى الريحاني الفرقة استراحة لمدة ساعة، على أن تبدأ بعدها بروفة العرض الذي سيقدم في المساء.
التفت نجيب فوجد زينب لا تزال تقف مكانها، أشار إليها أن تأتي إليه:
= انت إيه؟
* أنا زينب.
= كده. طب أتشرفنا يا «سيدة زينب»... زينب مين؟
* زينب صدقي.
= زينب صدقي ماهي قدامك ع المسرح أهي.
* أنا زينب صدقي اللي جابتني الست بديعة مصابني.
= آه أيوا افتكرت... وانت اشتغلت بالتمثيل قبل كدا يا... قلت لي اسمك إيه؟
* زينب صدقي.
= زينب صدقي. لا لا ما ينفعش. زينب صدقي إيه؟ في المسرح والفن عموماً ما ينفعش الاسم يتكرر. علشان هي زينب صدقي واحدة بس... أحنا نشوفلك اسم تاني. اسم تاني... اسم تاني... إيه رأيك في اسم «زينات»؟
* حلو.
= خلاص نخليك انت زينات... وبلاش زينب دي خالص. تبقى من النهاردة «زينات صدقي».
* اللي حضرتك تشوفه.
= خلاص يا زينات... اقعدي دلوقت اتفرجي على البروفة... وبعد البروفة هقولك هتعملي إيه.
شعرت زينب بأنها ولدت اليوم، وحازت اسماً جديداً دالاً على ميلادها. جلست لتشاهد البروفة، وجدت نفسها أمام حالة ممتعة من الفن جديدة عليها، فن لم تعتد على مشاهدته بهذا الاقتراب الذي يشبه الدخول إلى ما تحت الجلد، ملاحظات الأستاذ التي يبديها في أي لحظة مهما كان أداء الممثل الذي يؤدي أمامه، حركة منتظمة الجميع يحفظ حواره جيداً، بل وكل منهم يحفظ أدوار الآخرين، فإذا تلعثم أحدهم، تدخل زميله بكلمة هي مفتاح حواره فينقذه من النسيان، فيما يقف الأستاذ الودود الباسم الضاحك الكوميديان، وقد انقلب إلى مارد فوق خشبة المسرح، يثور يغضب، يصرخ يصب جام غضبه على من أمامه، رجلاً كان أو امرأة، حتى يصل إلى ما يريد، لتكتمل المنظومة. وما إن تنتهي أحداث المسرح، حتى تجد «ثلة» من الأصدقاء المقربين، تسودهم حالة من الحميمية فوق خشبة المسرح، أو خارجها.
انتهت البروفة... عاد الريحاني ونظر إلى زينات نظرة فاحصة. شعرت بأنه نسي اسمها ثانية، فحاولت أن تذكره باسمها وجدته متذكراً اسمها الجديد «زينات صدقي» وطلب منها أن تتبعه إلى الإدارة، فأشار إلى الأستاذ طلعت ليقدم لها عقداً باسم «زينات صدقي» فوقعته، وكان يقضي بأن تتقاضى 12 جنيهاً شهرياً.
كادت زينات تطير من الفرح، فقد أصبحت ممثلة في أكبر فرقة كوميدية في مصر، وبراتب شهري معقول إلى حد ما. بدأ قلبها يرقص بين أضلاعها، حتى تحدث معها نجيب الريحاني عن الدور الذي ستقوم به في المسرحية، وهو دور «طباخة» ستدخل إلى خشبة المسرح، تضع أطباق الطعام ثم تخرج. بعدها، سيطلب شرب الماء، فتدخل تحمل دورقاً وكوباً وتعطي له الماء، وبعد أن ينتهي المشهد تدخل لتحمل الأطباق مجدداً وتخرج، كل هذا دون أن تتكلم كلمة، ثم تدخل في الفصل الأخير وتقدم «صينية» عليها أكواب شاي وتخرج.
صدمة التمثيل
كتمت زينات صدمتها، غير أن وجهها لم يستطع أن يخفي الصدمة على رغم محاولتها ذلك، وهو ما قرأه جيداً في وجهها، فابتسم ابتسامة خبيثة:
= إيه زعلانه؟
* لا أبداً... دا أنا حتى مبسوطة جداً.
= طبعاً لازم تبقي مبسوطة... انت هاتشتغلي مع الريحاني. فاهمة يعني إيه الريحاني!
* طبعاً يا أستاذ. دا شرف ليا حتى لو كنت هاقدملك قهوتك بس.
= انت باين عليك يا بنت انت جدعة... وشكلك كدا هاييجي منك. ألا صحيح انت ساكنة فين؟
* أنا مش ساكنة.
= إيه أمال بتانمي ع الرصيف؟
* لا مش قصدي... أصل أنا من أسكندرية وكنت بنزل في بنسيون كدا يعني بشكل مؤقت.
= منين في لإسكندرية؟
* من بحري.
= علشان كدا وشك منور... كله فسفور. شوفي بقى... أنا ما حبش حكاية البنسيونات دي... وخصوصاً للبنات.
* لا أنا مش لوحدي. أنا أمي عايشة معايا.
= طب عال. خدي الكارت دا وهتروحي العنوان اللى فيه. دي عمارة هنا في شارع جلال متفرع من شارع عماد الدين. هتسألي عن الأستاذ سليم إبراهيم. وتقوليله أنك انت المستأجرة الجديدة للشقة اللي كنت مكلم سي نجيب عليها. على فكرة دي شقة هايلة. أنا كنت بفكر أخدها جنب شقة مصر الجديدة علشان لما أتاخر بالليل أنام فيها. بس يلا مش خسارة فيك... وكمان رخيصة... إيجارها ثلاثة جنية في الشهر. وهتعدي دلوقت على الأستاذ طلعت هيديكي نص شهر مقدم... ودي ما حصلتش مع حد قبل كدا... دا بس علشان انت جاية من طرف الملكة بدعدع.
خرجت زينات من المسرح وتوجهت فوراً إلى شارع جلال المتفرع من شارع عماد الدين، التقت سليم إبراهيم الذي رحب بها، غير أنها ما إن صعدت معه إلى الطابق الثالث حيث الشقة، حتى صدمت حيث وجدت لافتة كُتب عليها «بنسيون مدام ماريان». تسمرت قدماها، نظرت إلى اللافتة وإلى سليم إبراهيم، وأيقنت أنها وقعت ضحية مقلب من مقالب «كشكش بك». غير أن سليم فهم فوراً ما يدور في رأسها، فنظر إليها وقال:
* إيه دا... بانسيون؟
= أيوا... آه لا... انت دماغك راحت فين. الشقة الناحية التانية يا هانم.
كانت شقة متميزة، وموقعها متميزاً في وسط القاهرة، على بعد خطوات من مسرح نجيب الريحاني من ناحية، ومن الناحية الأخرى على بعد الخطوات نفسها من محطة سكة حديد مصر، إذا ما أرادت السفر إلى الإسكندرية، ما جعلها توقع العقد على الفور، وعندما سألها سليم:
= الاسم إيه؟
* زينب محمد سعد. ولا أقولك لا... خليها زينات صدقي.
عادت زينات إلى النزل الذي كانت تنزل فيه ودفعت ما عليها من حساب، وحملت حقيبة ملابسها واتجهت إلى الشقة. فقد أصبحت لها للمرة الأولى في حياتها شقة لها وحدها، شقة كبيرة وسط القاهرة، حتى ولو كانت خالية إلا من «البلاط»... وهي المشكلة التي واجهتها في ليلتها الأولى في الشقة، غير أنها تغلبت عليها بأن جعلت من ملابسها الفرش والغطاء.
في المساء وقبل الموعد كانت زينات تقف في كواليس مسرح الريحاني قبل رفع الستار بساعتين، كان ذلك الدرس الأول الذي ينبغي أن تعيه جيداً في مدرسة الريحاني.
هكذا كان لا بد من أن تبدأ زينات صدقي مع نجيب الريحاني ككومبارس صامت، ولم يكن ذلك بشكل موقت، بل استمر معها الدور أكثر من أربع مسرحيات، فقد كان كل فنان في الفرقة يعرف نوعية الدور الذي سيقدمه في كل مسرحية جديدة إلى حد ما، بمعنى أن الفنان استيفان روستي كان يجب أن يؤدي دور «الخواجة» الأرمني أو اليوناني، إذا كان في المسرحية دور لخواجة، كذلك سرينا إبراهيم في دور «الحماة»، زينب صدقي في دور «الغريمة»، زوزو شكيب في دور البطلة أو الحبيبة، عبد الفتاح القصري في دور المعلم الذي لا يفارق ارتداء الجلباب، عزيزة زكي في دور الخادمة، ولكن ليس بالضرورة أن يظل الكومبارس كومبارساً، فمن المؤكد سيتدرج من صامت إلى متحدث، ومن مجرد فرد في عدد فوق خشبة المسرح، إلى دور... وقد يتوقف عند هذا الحد، ويتدخل أحد أمرين، إما القدر فيصنع معجزة، أو الموهبة فتصنع أيضا معجزة.
(البقية في الحلقة المقبلة)
للمرة الأولى منذ عامين تقريبا تدخل زينب ووالدتها إلى بيت شقيقتها سنية، استقبلهما زوجها علي اللبان:
- أهلاً أهلاً... ازيك يا حماتي؟ ازيك يا زينب؟
* إن شاالله تسلم يا علي.
= فين سنية... بنتي عملت إيه؟
- خدي نفسك من السفر يا حماتي. أطمني الحمد لله ولدت.
* معقول... جابت إيه؟
= جابت اللي جابته المهم هي تقوم بالسلامة يا زينب.
- جابت بنت زي القمر. شبهك يا زينب... علشان كدا سنية قالت مش هنسميها إلا لما تيجي زينب... هي اللي تسميها.
دخلت زينب إلى شقيقتها لتحمل أول مولود في الأسرة، ربما تمنت زينب وسنية أن يكون المولود ذكراً، لأنهما لم يكن لهما شقيق ذكر، لكن ما إن رأت زينب الطفلة حتى تعلقت بها بشكل كبير:
* حمد لله على السلام يا سنية. الحمد لله.
- شوفتي زينب الصغيرة.
* إيه دا انتو سميتوها زينب.
- هو فيه أحسن من اسم زينب؟
* لا احنا نسميها نسميها... «نادرة» على اسم بطلة فيلم يوسف بيه «ولاد الذوات». نادرة وهي نادرة في جمالها وصوتها وشياكتها.
- نادرة!
* أيوا... نادرة علي اللبان. إيه رأيك يا سي علي؟
- هو أنا ليا رأي بعد الكلام الحلو اللي قولتيه. وكمان الاسم حلو... نادرة علي اللبان. يا سلام ما فيش كدا.

3-z14.jpg



2-z14.jpg
1-z14.jpg

الجريدة الكويتية في
23/07/2013









images




images





images
 
التعديل الأخير:
توابل / بنت بحري زينات صدقي (15) : القلب له أحكام

بنت بحري زينات صدقي (15) : القلب له أحكام



الأربعاء 24 يوليو 2013 - الساعة 00:02

عادت حفيظة والدة زينب من الإسكندرية، أخذتها زينب من محطة السكة الحديد إلى البيت خلال وقت قصير جداً، اكتشفت خلاله أنها أمام ابنة أخرى غير التي كانت معها منذ أيام، فلم تعد زينب من ساكني البانسيونات، بل أصبحت لديها شقة كبيرة في وسط القاهرة على بعد خطوات من شارع عماد الدين الذي يضج بالصالات والتياتروهات.



1-z15.jpg

3-z15.jpg

2-z15.jpg


كتب الخبر: ماهر زهدي

T+ | T-

أخبار ذات صلة


اكتشفت والدة زينب أيضاً أن ابنتها تعمل في شارع عماد الدين، وأنها أصبحت ممثلة وليست راقصة، فقد علمت أنها تركت بديعة مصابني وأصبحت تعمل الآن لدى «أبو الكشاكش نجيب الريحاني»، والأهم من هذا وذاك اسمها الذي تخلت عنه إلى الأبد:

= في إسكندرية سبتي نص اسمك. وبدل زينب محمد بقيتي زينب صدقي... ورضينا بالمقسوم غصب عنا علشان خاطر عمك. قوم تيجي هنا في مصر وتسيبي اسمك كله. لا زينب ولا محمد... وتبقى زينات صدقي!
* وماله يا أمي ماهي كل فنانة لها اسم شهرة... وبعدين اسم زينات صدقي حلو.
= بس زينب محمد أحلى منه.
* الحكاية مش أحسن وأوحش... الفنانين لازم يبقالهم اسم سهل الناس تحفظه.
= وانت يعني فاهمه إن الناس هتحفظ اسم زينات صدقي على طول.
* بكره تشوفي اسم زينات صدقي دا هيبقى على كل لسان.

عين الأستاذ

لم تيأس زينات من وجودها صامتة في فرقة نجيب الريحاني، غير أن عين نجيب لم تكن تفارقها في صمتها، فوق خشبة المسرح أو بعيداً عنها، ما جعله يضعها في الاعتبار في أول عمل جديد، لينقلها من كومبارس صامت إلى كومبارس متكلم، وهو ما حدث عندما فتح باب جديد أمام الريحاني لم يكن يتوقعه عندما حاولت الحكومة المصرية تصحيح نظرتها نحو التمثيل ومن يعملون به. قررت وزارة المعارف العمومية عام 1932 تشجيع فن التمثيل بمنح إعانات لبعض الفرق المسرحية، لتقديم أعمال هادفة من شأنها الارتقاء بهذا الفن، وفي الوقت نفسه إصاله إلى تلامذة المدارس والتعرف إليه. وأوكلت المهمة إلى لجنة يرأسها محمد بك العشماوي، ويعاونه عدد من الأعضاء من بينهم الأديب مصطفى عبد الرازق والدكتور طه حسين، على أن تزور اللجنة المسارح مرة أسبوعياً لتشاهد رواياتها وتحكم على قيمتها الفنية.
جاء مسرح نجيب الريحاني من بين المسارح التي زارتها اللجنة، والتي أثنت ثناء كبيراً على ما يقدمه نجيب وفرقته من أعمال هادفة، خصوصاً الدكتور طه حسين، الذي أبدى إعجابه الكبير بأعمال الفرقة، وكيف أنها تستحق أكثر من التقدير، مؤكداً أنه لمس الصدق في روايات الفرقة التي يكتبها بديع خيري بالمشاركة مع الريحاني، وحرصهما على انتقاء الكلمة التي يقدمانها في رواياتهما، الوقت الذي سمع فيه وبقية أعضاء اللجنة، في فرق أخرى «ألفاظاً جوفاء كالطبل صوتها عال، وجوفها خال»، ما جعل اللجنة تمنح الريحاني مبلغ ثلاثمئة وخمسين جنيهاً من المبلغ المخصص في ميزانية وزارة المعارف لتشجيع التمثيل، الأمر الذي ساعده على تسديد ديونه التي كانت متراكمة عليه. ليس هذا فحسب، بل أن ممثلي فرقته فازوا جميعاً برضا اللجنة ونالوا مكافآت مالية، بنسبة لم ينلها زملاؤهم في الفرق الأخرى.
تسديد الريحاني لديونه شجعه على استئجار مسرح «الكورسال» من الخواجة «دلباني»، أحد أكبر المسارح في منطقة وسط القاهرة، حيث يقع عند ملتقى شارعي الألفي وعماد الدين، بما يسمح بتقديم روايات كبيرة تعتمد على التمثيل والاستعراض والغناء، لذا لم يبق أمامه سوى البحث عن رواية يمكن معها استغلال هذا المسرح الكبير، وفي الوقت نفسه ينال رضا وزارة المعارف ويعضد المفهوم الذي تسعى إليه.
راح الريحاني يفكر مع صديقه بديع خيري في أمر المسرحية التي يمكن أن يقدماها في الموسم الجديد، وهل يحسن أن تكون الرواية الجديدة من نوع الكوميدي أو الريفيو أو الفودفيل، أم لون آخر مختلف عن كل هذا وذاك:

- أنا بقول الفرقة تعمل ربتوار لأي مسرحية قديمة لحد ما نشوف حاجة كويسة جديدة يرضى عنها حبايبنا في وزارة المعارف.
= وليه قديم يا بديع؟ ما الجديد موجود.
- جديد. انت بتألف من ورايا؟
= هو أنا أقدر. أنا بس قريت رواية لمؤلف فرنسي شاب اسمه مارسيل بانيول. الواد كاتب رواية هايله اسمها «طوباز» وموضوعها مناسب أوي. ويمشي مع الهدف اللي عايزاه وزظارة المعارف. وكما ممكن يطلع منها كوميديا للصبح.
- إن كان كدا إيدك ع الرواية... يلا نشتغل من بكره... لا من دلوقت.

ترجم الريحاني رواية «طوباز» من الفرنسية إلى العربية، لتكون اللغة الرابعة التي ترجمت إليها الرواية وتدخل حيز العالمية. اختار الكاتب بطل الرواية ليكون مدرساً بسيطاً في إحدى المدارس التي لا تعني بالتعليم بقدر ما تعني بالأموال، ويصادف كثيراً من المشاكل.
مصَّر الريحاني وبديع الرواية ليكون بطلها «ياقوت أفندي»، مدرس إلزامي يعمل في إحدى المدارس الخاصة، يقع في غرام ابنة صاحب المدرسة، الذي يطرده لأنه تسبب في انسحاب تلميذ من المدرسة، في حين تختاره إحدى السيدات التي يدرس شقيقها في المدرسة نفسها ليعطيه درساً خصوصياً. من خلال الدرس، تورطه «ياقوت» في أعمال مشبوهة معها، فيترك مهنة التدريس ليتفرغ للنصب باسم التجارة وأعمال المقاولات، غير أنه يفيق لنفسه في نهاية المسرحية ويعود ليتزوج ابنة «ناظر المدرسة».
انتهيا من الكتابة وعنونا المسرحية «الجنيه المصري. كادت زينات أن تطير فرحاً... عندما عرفت أن الريحاني أعطاها دوراً ناطقاً في مسرحيته الجديدة، فقد خطت خطوة مهمة في فرقته، تخطت مرحلة الكومبارس الصامت وحصلت على دور متكلم. على رغم أن الدور كله كان عبارة عن جملة ستقولها في الفصل الثاني من المسرحية، فإنها كانت تأمل أن تكون بداية لانطلاقة كبيرة. لكن المهم كانت الملاحظة التي أبداها لها الريحاني وهي التخلص من الأدب الجم والخجل الزائد عن الحد. لا شك في أن الأدب مطلوب ومهم جداً، كذلك الحياء، لكن هذا في الواقع، ولن يعوقها ذلك إطلاقاً على خشبة المسرح، وكانت تنتظر أن تأتيها الفرصة لتظهر ذلك.
بدأ عرض مسرحية «الجنيه المصري» وجاء إيراد الليلة الأولى 30 جنيهاً، وهو رقم كبير إلى حد ما، خصوصاً إذا ما كان الليلة الأولى، فمن المنتظر أن يزيد في الليالي المقبلة إذا ما ذاع صيت المسرحية، وتناقلتها ألسنة الجماهير بالمديح. لكن المفاجأة أنه حدث العكس، فقد تقهقر في الليلة الثانية بشكل كبير، فوصل إلى الربع تقريباً متراجعاً إلى ستة جنيهات، وبعدها أربعة ثم ثلاثة، ما أثار غضب الريحاني ودهشته فلم يحدث أن تراجع الإيراد منذ الليلة الأولى:

= تلاتة جنيه... تلاتة جنيه يا بديع... لا وفين في تياترو الكورسال. اللي يعتبر أكبر تياترو في مصر دلوقت.
- صحيح... عارف لو في تياترو صغير ملموم... كانت الحكاية ما بانتش.
= أيوا تقصد أن الفضيحة بجلاجل... أكبر تياترو... وفي أفضل مكان في عماد الدين. ورواية كبيرة ديكورات وملابس ومغنى ورقص... ويدخلك جمهور عشرة اتناشر واحد... بالذمة مش دي حاجة تكسف... هو حصل إيه في الدنيا.

رغبة الجماهير

شكّل ذلك خسارة كبيرة للريحاني وبديع على المستوى المادي، ما زاد من تراكم الديون عليهما، وسبب لهما صدمة كبيرة، ليس هما فقط، بل لكل أعضاء الفرقة، خصوصاً زينات صدقي، التي لم تستطع أن تحتفل بنجاحها في أول مسرحية تهجر فيها الصمت وتنطق.
على رغم الخسائر المادية وانحسار الجمهور عن المسرحية، إلا أن الريحاني تلقى بعض رسائل التقدير والتهنئة من أقلية صغيرة، من عدد من الأدباء والمثقفين، الذين راقت الرواية في نظرهم، خصوصاً هؤلاء الذين اطلعوا سابقاً على أصلها الفرنسي. لكن ماذا تفعل هذه القلة المفكرة المثقفة وقد تخلت عن الرواية الأغلبية من القاعدة العريضة، التي لا تصنع فحسب جماهيرية للرواية، ولكن أيضاً هي من يدفع الأموال اللازمة لاستمرار الرواية، بل والفرقة نفسها.
فكر الريحاني في أن مزاج جمهور القاهرة قد يكون متقلباً من حين إلى آخر بسبب تطور الأحداث السياسية كل يوم، ففكر في جمهور الأقاليم الأكثر هدوءاً واستقراراً، فعزم أمره وسافر بالفرقة إلى المنصورة، لتكون هذه هي المرة الأولى التي تذهب فيها زينات صدقي إلى مدينة المنصورة، وأصرت أن تصطحب والدتها معها. لم يمانع الريحاني، على اعتبار أنها سيدة مطلقة، وليست فتاة أو سيدة متزوجة.
لم يكن جمهور المنصورة أفضل حالاً من جمهور القاهرة، بل أسوأ. فإذا كان جمهور القاهرة قد أحجم عن مشاهدة الرواية، فإن جمهور المنصورة استقبلها من الليلة الأولى بالاستخفاف والسخرية والشتائم.
انسدت السبل في وجه الريحاني وانهار الأمل وتراكمت الديون، والأهم إيجار مسرح «الكورسال»، فضلاً عن رواتب أعضاء الفرقة، فكان لا بد من تدبير الأمر، فلن يقف كل من الريحاني وبديع يشاهدان الفرقة تنهار. فيما كان الريحاني يمر فوق خشبة المسرح، كانت تجلس زينات... فداعبها ساخراً:

= مبسوطة يا ست زينات؟ اديكِ اتكلمتي من هنا... والجمهور حلف براس أبوه أنه ما هو معتب التياترو.
* يعني أنا السبب يا أستاذ؟
= لا يا ست أنا بهزر... لا أنا ولا انت... ولا حد فينا. السبب هو مزاج الجمهور... وزي ما انت شايفة مزاج الجمهور اليومين دول في النازل.
* طب ما ننزل لمزاج الجمهور يا أستاذ.
= يا بنت الإيه... كانت تايه فين دي؟

استحسن نجيب فكرة النزول إلى مزاج الجمهور التي اقترحتها زينات، وجلس يدبر الأمر مع بديع خيري، فتفتق ذهن الريحاني عن فكرة جديدة:

- تقصد إيه بأننا «نزوق» الرواية شوية؟
= الرواية مش وحشة من وجهة نظري أنا وانت وأعضاء الفرقة، وزي ما انت شفت تلغرافات التهنئة من الأدباء والفكرين والفلاسفة العظام بتوع المعارف وغيرهم... لكن الجمهور له رأي تاني. الجمهور عايز حد يزغزغه ويفرفشه.
- فهمت... بس الرواية ما فيهاش مناطق ينفع يتعمل فيها دا.
= مش مهم احنا نعمل كل حاجة ممكن تبسط الجمهور وخلاص... وتطلع زي ما تطلع.
- بس احنا كدا هنضحك على الجمهور.
= يستاهل ينضحك عليه. مش هو اللي عايز كدا... قدمنا له رواية محترمة اتبغدد وما عبرناش... طب نقدم له بقى اللي هو عايزه.

كانت رواية «الجنيه المصري» قطعة فنية رائعة، غير أن ما فعله نجيب وبديع بها كان بمثابة «الشخبطة» على لوحة عالمية متميزة. قررا اللعب على الجمهور، بل وعلى حد تعبير الريحاني «الانتقام منه»، فجمعا بعض الراقصات وكتبا عدداً من المشاهد الكوميدية وحشرا بعض النكات والمقالب الهزلية... ما إن انتهيا من إعداد ذلك حتى لم يجدا شيئاً من مسرحية «الجنيه المصري»، فقررا أن يطلقا على العبث الجديد الذي أعداه اسم رواية «المحفظة يا مدام» التي جاءت، بشهادة الريحاني نفسه، أسخف ما وضع في عالم التمثيل من مهازل، فلم يكن لها معنى ولا مغزى... مجرد فقرات فكاهية واسكتشات راقصة.
كان هذا رأي الريحاني وبديع بل وأعضاء الفرقة في رواية «المحفظة يا مدام»، أما الجمهور فكان له رأي آخر ووجهة نظر أخرى، وجاء شباك التياترو خير شاهد على التقدير والاستحسان لما جاء في الرواية، لدرجة أن الإيراد ضرب أرقاماً قياسية لم تتحقق لروايات سابقاً سواء للريحاني أو حتى روايات عرضت على مسرح الكورسال. وإذا كانت الإيرادات قد أدهشت الريحاني وبديع خيري بسبب تناقض ذلك مع مضمون الرواية، فإن زاد ما دهشتهما وكان مبعث حزنهما أنهما سمعا بعض الجمهور يعلق أثناء خروجه من العرض:

«ايوه. آدي الروايات وإلا بلاش... مش يقوللي الجنيه المصري».

اشترطت وزارة المعارف تقديم ثلاث روايات جديدة على الأقل، في هذا الموسم وإلا فلن تحصل الفرقة، أي فرقة، على الإعانة التي تمنحها لها كاملة. وكانت فرقة الريحاني قد أخرجت روايتين فقط حتى ذلك الوقت: «الجنيه المصري» و{المحفظة يا مدام»، ولم يبق من الموسم إلا شهر أو ما يقرب من 25 يوماً. بالتالي، كان لا بد من تقديم الرواية الثالثة في الفترة المتبقية، رواية جديدة تُكتب ويتم إخراجها وتدريب الممثلين عليها، ثم عرضها للجمهور، ذلك كله في 25 يوما... كيف؟!
قصة حب

لم ينتظر الريحاني أن يتفتق ذهنه هو وبديع خيري عن رواية جديدة، واضطر إلى أن يقبل رواية قام بتمصيرها وكتبها أمين صدقي بعنوان «الرفق بالحموات» لم ينظر الريحاني إلى المستوى الفني أو المحتوى التربوي، بل كل ما يهمه أنها بمثابة طوق النجاة للفرقة لأجل اللحاق بمكافأة وزارة المعارف قبل أن تضيع عليهم هذا العام.
وزع أدوارها وقام بتدريب الممثلين عليها، وأتى بالملحن إبراهيم فوزي وضع فيها ثلاث أغانٍ، ليتم تقديم الرواية قبل أقل من عشرة أيام!
بهذه الملابسات، كان لا بد من ألا تستمر الرواية أكثر من أسبوع، ولم يقبل عليها الجمهور ولفظها كما سبق وفعل مع «الجنيه المصري»، وعلى رغم ذلك فإن لجنة وزارة المعارف منحت الفرقة «الدرجة الرابعة» أي أقل مبلغ منحته لفرقة هذا العام، لتتراجع فرقة الريحاني من المرتبة الثالثة إلى المرتبة الرابعة، في نظر لجنة وزارة المعارف.
على رغم عدم تقدم زينات خطوات مهمة خلال الفترة التي أمضتها في فرقة الريحاني، إلا أنها شعرت بأنها أصبحت واحدة من الفرقة، وكل من فيها، وعلى رأسهم الريحاني، يمثلون أفراد عائلتها الذين تفتقد إليهم في غربتها في القاهرة، خصوصاً بعدما اقتربت منهم واقتربوا منها، لا سيما الملحن إبراهيم فوزي الذي استمع إلى صوتها في البروفات منفردة، فأعجب به إعجاباً كبيراً. ومع نهاية المسرحية، أي بعد ما يقرب من 20 يوماً، تحول الإعجاب بالصوت إلى إعجاب بالشخصية كلها، فقد كان إبراهيم فوزي ملحناً يستعين به الريحاني لتلحين بعض أغاني الفرقة، لذا كان لا بد من أن يتواجد بشكل يومي مع بقية أعضاء الفرقة، صباحاً خلال التدريبات، وفي المساء حتى نهاية العرض.
خلال هذه الفترة لم يحول نظره عن زينات صدقي، تلك الفنانة الشابة الجديدة التي انضمت أخيراً إلى الفرقة، يلاحقها بنظراته صباحاً وينتظر وصولها في المساء. لم تغضب زينات من نظراته، بل شعرت للمرة الأولى في حياتها أنها أنثى ويمكن أن ينظر إليها الرجال. فمع أنها تزوجت سابقاً، إلا أنها لم تشعر بأنوثتها أو أنها سيدة يرغب فيها الرجال، وهو الإحساس الذي انتابها من خلال نظرات فوزي. غير أنها لم تشعر بالحب، وهو لم يفاتحها بما في قلبه، حتى لاحظ بعض أعضاء الفرقة وراحوا يتهامسون بأن قصة حب جديدة تولد في كواليس مسرح الريحاني... ولكن زينات كان لها رأي آخر.


البقية في الحلقة المقبلة


الجنيه المصري

انتهى الريحاني وبديع من كتابة المسرحية وأطلقا عليها اسم «الجنيه المصري»، قررا أن يفتتحا بها الموسم الجديد في مسرح «الكورسال». بدأ الريحاني في توزيع الأدوار، ليجسد هو دور «ياقوت أفندي» وتجسد زينب صدقي دور ابنة الناظر، وزوزو شكيب سيدة الأعمال اللعوب التي تورطه في الأعمال المشبوهة، ولم تصدق زينات صدقي نفسها عندما أخبرها نجيب الريحاني بهذه المفاجأة:

= إيه يا زينات... جاهزة للمسرحية؟
* طبعاً يا أستاذ.
= ما نفسكيش تخدي دور تتكلمي فيه؟
* اللي حضرتك تشوفه أنا تحت أمرك.
= طب حضري نفسك انت هتعملي الدور دا في المسرحية.
* دور... أنا يا أستاذ؟
= أيوا انت. إيه هتقدري؟
* إن شاء الله... إن شاء الله.
= طب شوفي. انت هيكون لك وجود في الفصل الأول بس من غير كلام... حركة بس. هتدخلي حاجات وتشيلي حاجات من غير كلام... لكن في الفصل التاني بقى هتدخلي على زوزو شكيب تقوللها «المنيل على عينه جه يا ست هانم... أخليه يدخل؟ ولا اسيبه متلقح؟». هي هترد عليك وتقولك «خليه متلقح عندك شوية لحد ما أقولك»... هتخرجي وخلاص على كدا. وطبعاً المنيل على عينه دا يبقى أنا... إيه رأيك؟
* حلو... حلو أوي يا أستاذ.
= الدور دا اختبار لك يا زينات. لو اثبت انك شاطرة هيكون لك أدوار أحسن كتير الفترة الجاية.
* حاضر يا استاذ... تحت أمرك.
= يا زينات انت كويسة بس بلاش الأدب والخجل اللي زيادة عن اللزوم دا. أنا عايزك تبقي مدردحة كدا. انت ممثلة... بلاش أدب القرود دا.
* حاضر... حاضر يا أستاذ.














 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
بنت بحري زينات صدقي (16) : صاحبة العصمة



[COLOR=#ff87
ابتسمت وشعرت بارتياح، فبادلها هو النظرات نفسها وشعر بالارتياح، غير أنه
لم يقف عند حد النظرات والارتياح، فقد شعر بعاطفة الحب تتآت عيناها بعينيه
ابتسمت وشعرت بارتياح، فبادلها هو النظرات نفسها وشعر بالارتياح، غير أنه
لم يقف عند حد النظرات والارتياح، فقد شعر بعاطفة الحب تتحرك داخله تجاهها.</font></p><font color=] [/COLOR]


1-z16.jpg

2-z16.jpg

3-z16.jpg


كتب الخبر: ماهر زهدي

T+ | T-

أخبار ذات صلة


لم يكن الملحن إبراهيم فوزي بحاجة إلى أن يتأكد من زينات صدقي إذا ما كانت تبادله الحب أم لا، فعيناها كانتا تقولان ذلك من دون أن تصرح هي، فضلاً عن النظرات والهمسات، غير أن الأخيرة لم تكن حباً من زينات بل تجاوباً مع موسيقي أعاد إليها عشق الموسيقى وحب الغناء، يجلسان في أوقات الفراغ، يمسك العود ويعزف وهي تغني... يمتدح صوتها فتبرز محاسنه، وتزيد ثقتها بنفسها.
تكررت اللقاءات حتى أصبحت شبه ثابتة، وراح بعض أعضاء الفرقة يلاحظون، ويعلقون من آن إلى آخر تعليقات لاذعة، ما أغضب زينات ونبهها إلى شيء لم تضعه في الحسبان، فقررت أن تضع حداً لهذا اللغط وتقطع العلاقة نهائياً، في الوقت الذي قرر فيه فوزي أن يتخذ خطوة إيجابية ويصارحها بحبه ويقوي العلاقة بالارتباط، غير أنه فوجئ بشخصية أخرى مختلفة غير تلك التي تعرف إليها في الفترة الماضية:

* نعم نعم... حب! حب إيه يا عنيا. اسم الله والحارس الله. فتح وشوف أنت بتكلم مين. أنا من بنات بحري يا روح الروح. مش لقمة طرية تاكلها من غير ما تسمي... لا. الزم حدودك.
= ولزومه إيه دا كله يا ست زينات. أنا غرضي شريف. أنا بحبك وعايز اتجوزك.
* أحنا مش بتوع حب وكدا... آه.
= يا ست افهميني. مش بتوع إيه... هو أنا لا سمح الله بقولك حاجة وحشة. أنا بقولك عايز أتجوزك... عايز أتجوزك. أقولها تاني.
* بعد إيه... بعد ما خليت سيرتي على كل لسان. قدام اللي يسوى واللي ما يسواش.
= أنا؟! أبدا والله... أنا كل الحكاية إن...

تجمع بعض أعضاء الفرقة على صوت زينات، وحاولوا التدخل لتهدئة الأجواء بينهما، فيما فتح نجيب الريحاني جزءاً من باب حجرته ووقف يسمع ويرى ما يدور وما تقول زينات، من دون أن يراه أحد أو ينطق بكلمة، وما إن انتهت حتى أغلق الباب، تاركاً بعض أعضاء الفرقة المقربين منهما يحاولون تقريب وجهات النظر بينهما، لينتهي اللقاء بوعد من زينات بالتفكير بجدية في الموضوع والرد عليه في ما بعد.
في طريق عودتها إلى المنزل استعادت زينات ما دار بينها وبين فوزي، فلم تجد مبرراً لما فعلته معه، غير أنها ترددت طويلاً قبل أن تعرض الأمر على والدتها:

= دا يوم المنى يا زينب...
* ياه تعرفي يا أمي إنك الوحيدة اللى لسه بتندهيني بـ زينب... ولولا كدا كنت نسيت الاسم دا من كتر ما أنا حاسة إني بقيت زينات فعلا.
= سيبك من زينب وزينات دلوقت... الراجل دا بيشتغل إيه.
* بقولك إبراهيم فوزي ملحن بيشتغل معانا في الفرقة.
= آلاتي يعني؟
* موسيقي يا أم زوزو.
= موسيقي آلاتي. بتاع نبوت الغفير... أهو راجل والسلام.
* يعني إيه راجل والسلام... هو أنا رمية.
= مش قصدي. أنا بس نفسي أفرح بيك وأشوف خلفتك قبل ما أموت.

زواج فني

أمام إلحاح الأم وعدم وجود مانع جوهري في الارتباط بإبراهيم فوزي، وافقت زينات على طلبه وتم الارتباط في فبراير 1933، غير أنها رفضت الانتقال إلى بيت فوزي، واشترطت أن يعيش معها هي ووالدتها في شقتها، فوافق.
شعرت زينات بأنها تتزوج للمرة الأولى رجلاً ارتبط بها عن حب، حتى لو كان هو من أحبها، فهذا يكفيها وهو الأهم، فضلاً عن اشتغاله بالفن مثلها، ما سهل عليها الأمر، فلن يعارض في شيء، ولن يقف عقبة أمام طموحاتها الفنية.
حرص الريحاني أن يبدأ الموسم الجديد بمسرحية من النوع الذي يعجب الجمهور ويجد فيها نفسه، وهي مسرحيات النقد الاجتماعي الهزلية، التي يرى فيها الجمهور مشاكله، فاختار مسرحية «أولاد الحلال» التي لا تعكس التوترات الاجتماعية التي تهز المجتمع المصري فحسب، بل أيضاً الاضطرابات السياسية المصاحبة لها، فهي مسرحية هزلية عن الاستبداد الاجتماعي والسياسي، حيث تجري أحداثها حول كثير من المظاهر الاجتماعية التي تنتقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل قاس جداً، أقرب إلى شكل التظاهرات التي تهتف ضد الظلم وضد القصر والإنكليز، ما جعلها أقرب إلى ما يدور في الشارع، حيث حرص الريحاني على أن يعكس استياء الشعب من الحكم.
لم تكن مشاركة زينات صدقي في مسرحية «أولاد الحلال» أفضل من مشاركتها السابقة، بمعنى أن وجودها على خشبة المسرح جاء معظم فترات العرض، فيما أن ما تحدثت به لم يزد على جملتين.
لم تحقق المسرحية النجاح الذي ينشده الريحاني، والذي يمكن أن ينقذه من الإفلاس، فقد دفع رواتب الفرقة بالكاد، وقبل أن يفكر في إعطاء الفرقة إجازة إلى حين تحسن الأحوال، هبط عليه طوق نجاة من بلاد المغرب العربي، من حيث عاد صديقه علي يوسف، وكان قد رحل إليها مع فرقة فاطمة رشدي باعتباره «دليلاً» أو متعهداً، أو كما يطلق عليه أهل الفن «إمبرزاريو». ما إن التقى يوسف الريحاني حتى راح يمتدح له بلاد المغرب، ويقول إن رحلة واحدة إلى تونس أو الجزائر أو المغرب، قد تكفيه العام كله، في الوقت الذي كان يعجز فيه الريحاني عن دفع أجور العاملين معه، فاتخذ قراره بالسفر، على أن يبدأ الريحاني الاستعداد بالفرقة، فيما يسبقه يوسف إلى هناك لنشر الدعاية اللازمة لتعريف الناس في تونس والجزائر ومراكش بمكانة الممثلين الذين تضمهم الفرقة والممثلات اللواتي يعملن فيها، وبيع الليالي المسرحية لبعض المسارح، وطبع التذاكر وتوزيعها للحصول على المال وإرسال جزء منه إلى الريحاني يعينه على السفر وبقية أعضاء الفرقة.
سافر يوسف وبدأ الريحاني في تكوين الفرقة التي ستسافر معه، فاختار المطربة حياة صبري، تلميذة الشيخ سيد درويش، لتقوم بالدور الذي كانت تقوم به بديعة مصابني في الفرقة، ليبدأ تمارينه فعلاً على معظم الروايات التي قدمتها الفرقة في العامين المنقضيين، بما يكفي لتقديم أكثر من موسم في كل من تونس والجزائر ومراكش.
وبينما كانت التمارين تجري على قدم وساق، اعتذرت فجأة حياة صبري عن عدم الاستمرار مع الفرقة لطول فترة التمارين وارتبطت بفرقة أخرى، وفشلت كل المحاولات للإبقاء عليها إلى حين موعد السفر، ما سبب مشكلة كبيرة، خصوصاً أن غالبية المطربات كن مرتبطات بعقود مع فرقهن. كاد عقل الريحاني أن يطير، فقد كان من المتوقع أن يرسل علي يوسف ببرقية في أي لحظة يطلب منه فيها المجيء إلى بلاد المغرب، فماذا يفعل وقتها؟
بينما جلس الريحاني يفكر في الأمر وكيف يديره، دخلت عليه زينات صدقي:

* تسمح يا أستاذ؟
= تعالي يا زينات. اقعدي... إيه في حاجة؟
* أيوا... أنا عندي لك خبر حلو أوي.
= قولي... قولي أبوس أيدك أي حاجة حلوة. أصل الواحد زهق من كتر المرار اللي شايفينه.
* أنا عارفة أنك بتدور على مطربة علشان تكون بطلة للفرقة تسافر معاك في رحلة المغرب.
= دا الخبر الحلو اللي أنت جايباه يا زينات... عايزة تقوليلي أنك أنت البطلة أم صوت حلو اللي ممكن تسافر معانا؟!
* طبعاً أنا كنت أتمنى لأن كمان صوتي حلو... بس مش أنا المقصودة.
= أمال مين؟
* الملكة.
= تقصدي...
* أيوا... الملكة بديعة.
= أيوا إزاي... ومين قالك الكلام دا.
* هي بذات نفسها.
= فين وأمتى وأزاي.
* أمبارح كنت عندها في التياترو بسلم عليها... سألت عليك وعلى أخبار الفرقة قولتلها على الحوسة اللي أحنا فيها. قامت سكتت شوية وخدت نفس «أرجيلة» وبعدين قالتلي... خلاص بلغي «أبو الكشاكش» أني على استعداد أسافر بطلة للفرقة معاه... بس نتفاهم.
= نتفاهم ونص وتلات تربع... بس تيجي نقعد ونتكلم.

استطاع الريحاني أن يتفق مع بديعة مصابني على السفر مع الفرقة، فعلى رغم ابتعادها عنه وعن فرقته فترة طويلة، فإنها رأت أن رحلة المغرب العربي، ومن خلال فرقة الريحاني، قد تفتح لفرقتها طريقاً جديداً هناك، من دون أن تغامر بالسفر بفرقتها على نفقتها.

مساومة على الحياة

عاد علي يوسف إلى القاهرة بعدما اتفق على حفلات عدة هناك، غير أنه فشل في تحصيل أي مال بشكل مسبق يمكن أن يعين الفرقة على السفر. لكن قبل أن ييأس الريحاني وأعضاء الفرقة، استطاع يوسف أن يتفق مع خواجة يوناني يدعى «جياكومو» لتمويل الرحلة مقابل جزء من الأرباح، فتهلل الجميع باستثناء زينات صدقي، فقد اختارها الريحاني أن تسافر مع الفرقة، غير أن زوجها إبراهيم فوزي لم يكن ضمن من سيسافرون، ففوجئت زينات بموقفه:

* أزاي أرفض؟
= زي الناس. أنت عايزة تسافري لوحدك.
* فوزي... أنا مش لوحدي. أنا مسافرة مع الفرقة اللي أنا وأنت بنشتغل فيها. مش مسافرة أتفسح لوحدي.
= أنا ما قبلش إن مراتي تسافر بره مصر لوحدها.
* تاني لوحدي يا فوزي؟
= أيوا يا هانم أنت مش متجوزة طرطور.
* ليه بتقول كدا؟ أنت لازم يكون عندك ثقة في نفسك قبل ما تثق فيا.
= زينات. أنا ما عنديش كلام تاني. يا أنا يا السفر.
* أنت بتقول إيه؟ إزاي تحطني في المقارنة دي... أنت حاجة والسفر للشغل حاجة تانية.
= لو مصرة تسافري يبقى تسافري وأنت حرة.

رفضت زينات مبدأ المساومة على حياتها، والمقارنة التي وضعها فوزي، إما حياتهما معاً أو السفر مع الفرقة، ولم تتردد وقررت أن تسافر مع الفرقة فعلاً، فنفذ فوزي تهديده وطلق زينات، قبل أن يمر على زواجهما أكثر من ثلاثة أشهر. وعلى رغم معارضة والدتها لذلك، فإنها أبت على كرامتها أن تساوم على حياتها الزوجية، وشاع الخبر في الفرقة وبين الأصدقاء الذين شهدوا مولد قصة حب كللت بالزواج في أقل من شهر، وكما تمت بسرعة انتهت بسرعة. غير أن زينات لم تشأ أن تسبب حرجاً لفوزي وتتحدث في أسباب الطلاق عندما سألها نجيب الريحاني بحكم قربه إنسانياً من كل أعضاء الفرقة:

= أيوا يعني إيه من غير سبب. ولا في سبب وأنت مش عايزة تقوليه. عموماً، أنا بسأل باعتبارنا كلنا هنا أسرة واحدة ويعز عليا أن تبقى فيه مشكلة بين اتنين من ولادي. يا دي المصيبة لا ولادي إيه... قصدي اتنين من زمايلي وأصحابي.
* دا شرف لي يا أستاذ لما تعتبرني زميلتك وصاحبتك. بس بجد مش هتفرق يبقى فيه سبب ولا ما فيش. طالما أننا اتفقنا على أن الطلاق هو أحسن حل... يبقى مش مهم إيه السبب. بالظبط زي ما حصل مع جوزي الأولاني... الرجالة هم هم... أولاني تاني تالت... ما فيش فايدة فيهم. قطيعة بلا وجع دماغ.
= قطيعة بلا وجع دماغ... طب تصدقي أنت حلال فيك تفضلي عانس من غير جواز.

اتفقت بديعة مصابني مع الريحاني أن تسبقه وأعضاء الفرقة إلى فرنسا، حيث سافرت مع المخرج موريس ابتكمان لتصوير بعض مشاهد فيلمها الجديد «ابن الشعب» والذي يشاركها بطولته عمر وصفي وبشارة واكيم وماري منيب وميمي شكيب وسراج منير، ثم يلحقها وبقية أفراد الفرقة إلى مرسيليا، ومن هناك إلى تونس. غير أن الريحاني سافر أيضاً بمفرده إلى مرسيليا على باخرة فاخرة، فيما سافر أفراد الفرقة ومعهم الممول الخواجة جياكومو وبديع خيري في باخرة أقل درجة، تسير من الإسكندرية إلى بورسعيد ثم بيروت ثم أثينا، بعدما تم الاتفاق على اللقاء في مرفأ مرسيليا.
وصل الريحاني إلى مارسيليا وكان على باخرة الفرقة أن تصل بعده بيومين، غير أن اليومين امتدا ليصلا إلى أسبوعين لم تصل خلالهما الباخرة، وكاد الريحاني يموت رعباً على صديق عمره بديع خيري وبقية أعضاء الفرقة، حتى وصلت الباخرة وعرف أن أحد ركابها قد أصابه الطاعون، فاضطرت سلطات أثينا إلى احتجاز الباخرة في الحجر الصحي إلى حين اتخاذ الإجراءات اللازمة حيال ذلك.

الليالي الملاح

استقلت الفرقة باخرة أخرى من مرسيليا إلى تونس، حيث استقبلهم التونسيون استقبال الفاتحين بالطبول والزهور، غير أنه عندما حان وقت العمل، اكتشف الريحاني أن علي يوسف استأجر مسرح البلدية في تونس لمدة 12 ليلة، ولأنهم وصلوا متأخرين أربعة أيام عن الموعد بسبب تأخر الباخرة، فلم يبق سوى ثماني ليالي عرض. لكن الكارثة الحقيقية هي أن يوسف كان قد استدان قبل وصول الفرقة، ما يوازي مبلغ ألفين ومئتي جنيه لتسديد مصروفات المطبعة والإعلانات والجرائد والتوزيع والمأكل والمشرب، فأسقط في يد الريحاني، ماذا سيفعل ومعه فرقة مؤلفة من 40 شخصاً بين ممثلين وممثلات وراقصات، فتدخل لدى المسؤولين، وبعد محاولات ومداولات وافقت إدارة المسرح على منحهم أربعة أيام فوق الثمانية.
تم الافتتاح برواية «الليالي الملاح» التي جاءت رائعة في العناصر كافة، المناظر والملابس وأداء الممثلات والممثلين، فظهرت الرواية بأحسن مظهر ونالت أحسن ما كان يتمناه من نجاح، حيث ملأ الجمهور جوانب التياترو، لدرجة أنه حقق في الليلة الأولى مئتين وخمسين جنيها، فشعروا بفرحة كبيرة لهذا النجاح الأدبي الممتاز واعتبروا ذلك تعويضاً لهم عن عملهم طيلة فترة وجودهم في تونس، فقط لأجل تسديد الديون التي استدانها علي يوسف.
قرر الريحاني القيام برحلة إلى الجزائر يعوض بها ما حدث في تونس، غير أن علي يوسف لم يسبقهم هذه المرة، لأنه كان قد فر من تونس بعد الكارثة التي سببها للفرقة، فأرسل الريحاني بديع خيري ليقوم بهذه المهمة.
أحيت الفرقة في الجزائر حفلات عدة بنجاح منقطع النظير جاءت بإيراد كبير، لم يتوقعه، خصوصاً بعدما فرت بديعة عائدة إلى فرنسا لاستكمال تصوير فيلمها، فأسند دورها إلى كل من الفنانتين فتحية شريف، وبهية أمير بالتناوب، وحققا نجاحاً جيداً، ما جعل الريحاني يسدد ديونه ويمنح أعضاء الفرقة بعض رواتبها، لتعود الفرقة على طريق القدوم نفسه، عبر مارسيليا إلى الإسكندرية.

(البقية في الحلقة المقبلة)

عادت زينات من الجزائر حاملة بعض الهدايا لوالدتها وشقيقاتها وأولادهن، وقبل الجميع الصغيرة نادرة التي تعلقت بها بشكل كبير، وما إن نزلت من الباخرة في الإسكندرية حتى توجهت إلى بيت شقيقتها سنية، التي قامت بدورها بجمع بقية شقيقاتها الأخريات، لتطمئن عليهن قبل العودة إلى القاهرة، كذلك قررت أن تعرض على سنية أمراً لا تعرف ماذا سيكون رد فعلها تجاهه:

- إش إش... كل دا علشان الست نادرة... والله ومكتوبالك يا بنت علي اللبان تلبسي من بلاد الخواجات.
* أنا لو كنت أطول أجيبلها الدنيا كلها كنت جبتهالها. ما تعرفيش أنا متعلقة بيها أد إيه.
- وهي كمان بتحبك ومتعلقة بيك. شوف البنت متعلقة في رقبتك إزاي. طب وحياة أبوك يا بنت علي بكرة ييجي اللي تحبه أكتر منك.
* ما فيش حد هحبه أكتر منها. وبعدين هو مين دا اللي ييجي.
- ما هو أنا... أنا هجيب أخ ولا أخت لنادرة.
* معقول... ألف مبروك. دا خبر جميل أوي.
- أيوا بس سي علي زعلان وبيقول كنت استني شوية. هنربيهم إزاي والحال زي ما أنت عارفة.
* استغفر الله العظيم. دا كل عيل برزقة. عموماً شوفي يا أختي أنا كنت جاية وفي نيتي أخد منك نادرة تقعد معانا أنا وجدتها كام يوم كدا في مصر.
- ما تغلاش عليك يا أختي.
* ما تغلاش عليا... هو أنا بقولك بيعيهالي. أنا بقولك تغير جو وتقعد يومين. ولولا أنك شايلة والسفر خطر عليك كنت خدتك أنت كمان تتفسحي يومين. بس ما دامت الحكاية كدا إيه رأيك تكلمي سي علي إني أخد نادرة تقعد معانا في مصر لحد ما تولدي. ومش هقولك طبعاً إنها في عنيا.

نظرت سعاد إلى شقيقتها ولم تنطق. ظلت صامتة تفكر في ما قالت، ثم نظرت إلى ابنتها وسالت دموعها على خديها، فانقبض قلب زينات ولم تعرف سبب دموع شقيقتها وماذا تقصد، وبماذا فسرت طلبها هذا؟













images
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:







دموع الفرح

كتب الخبر: ماهر زهدي

بنت بحري زينات صدقي

( 17 )

بكت سنية عندما طلبت منها شقيقتها زينات أن تصطحب ابنتها نادرة معها إلى القاهرة، حتى تضع مولودها الثاني. لم يكن بكاء سنية رفضاً لطلب شقيقتها، لكن لخوفها من أن يكون ذلك مساعدة مستترة من شقيقتها، غير أن زينات بددت هذه الهواجس التي دارت في رأس سنية، وأكدت لها أنها تحتاج إلى نادرة أكثر من حاجة نادرة إليها.

قالت زينات لسنية إن الطفلة نادرة ستمنحها إحساس الأمومة الذي حرمت منه، فعلى رغم قيامها بتجربة الزواج مرتين، حرمها القدر الإنجاب وكان يمكن أن تتوافر فرصة لتحقيق هذه الأمنية لو أنها كانت لا تزال متزوجة. لكنها بعد فشل تجربة الزواج الثانية، قررت أن تقاطع فكرة الزواج بشكل نهائي وإلى الأبد، لذا ستكون نادرة هي الابنة التي لم تنجبها، وستمنحها كل الحب والحنان حتى تضع أمها مولودها الثاني.

أمضت زينات يوماً في الإسكندرية قبل أن تتجه إلى القاهرة عائدة من رحلة بلاد المغرب العربي، تونس والجزائر والمغرب، مع فرقة الريحاني، ومعها الهدايا التي أحضرتها لوالدتها من باريس، كانت معها أيضاً نادرة ابنة شقيقتها التي أتمت عامها الثاني، بعدما وافق والدها علي اللبان على اقتراح زينات.

لم تتوقع حفيظة مفاجأة ابنتها زينات بإحضار نادرة وقدرت عاطفة الأمومة المكتومة في صدرها، ما جعلها تعاود الحديث معها في أمر زواجها للمرة الثالثة، غير أن زينات قررت غلق الباب، إلى الأبد.

فرصة ضائعة

أنفق نجيب الريحاني الجنيهات القليلة التي تبقت معه من رحلة شمال أفريقيا، وعلى رغم ذلك لم يشأ أن يعود إلى العمل في المسرح، لدرجة أنه فكر جدياً في أن يعتزل المسرح نهائياً بسبب المشاكل التي تعرض لها خلال الرحلة، ومنح أعضاء الفرقة إجازة مفتوحة لم يحدد لنهايتها موعداً.

ساعدته على تنفيذ قراره اتخذه برقية وصلته من إميل خوري (سكرتير تحرير جريدة الأهرام)، حملت تحويلاً بمبلغ 50 جنيهاً وخطاباً يطلب فيه منه أن يوافيه إلى باريس لتصوير فيلم كان قد حدثه عنه عندما مرّ في باريس في رحلتي الذهاب والإياب إلى شمال أفريقيا، فوجدها الريحاني فرصة أن يطرق باب السينما التي سبقه إليها يوسف وهبي.

سافر الريحاني إلى باريس، قرأ سيناريو الفيلم بعنوان «ياقوت» غير أنه وجده هزيلاً، فأرسل في طلب بديع خيري على وجه السرعة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تعديل السيناريو والحوار الذي كتب بالفرنسية، خصوصاً أن الشركة المنتجة، التي يمثلها إميل خوري، تتعجل التصوير.

بعدما أعاد بديع خيري كتابة السيناريو، جلس مع الريحاني ومعهما مخرج الفيلم الفرنسي إميل روزيه، ومعه المخرج المساعد المصري أحمد بدرخان، ليختاروا جميعاً أبطال الفيلم، فرشح المخرج الفنانة الفرنسية إيمي بريفان للقيام بدور البطولة أمامه، فيما تولى الريحاني وبديع خيري وأحمد بدرخان ترشيح الممثلين لبقية أدوار الفيلم، فرشح أدمان توما، شكرى رمسيس، وزينات صدقي، وترشيداً للنفقات قام بديع خيري بأحد الأدوار الصغيرة.

أرسل الريحاني برقية إلى زينات صدقي يطلب منها تحضير نفسها للسفر إلى باريس للمشاركة معه في فيلم سينمائي، فكادت تطير من شدة الفرح، أولاً لأن نجيب الريحاني يتذكرها دون بقية أفراد الفرقة النساء ويطلب منها مشاركته في العمل، والأمر الثاني أن الفرصة جاءتها لتعمل في السينما، فشعرت بأن نادرة ابنة شقيقتها تميمة حظ بالنسبة إليها.

بدأ المخرج تصوير الفيلم ووجد إميل خوري (منتج الفيلم الفني) ألا داع لاستدعاء ممثلة مصرية من القاهرة إلى باريس، وأنه من الممكن الاستعانة بواحدة من المصريات الموجودات في باريس، فاستعان بممثلة هاوية تدعى ناهد كمال لتؤدي الدور الذي كانت ستؤديه زينات.

باب السينما

انتهى تصوير الفيلم وزينات لا تزال تنتظر أن يرسل الريحاني في طلبها، وراحت تشكو ذلك لزميلتها زينب صدقي، فيما كانتا تجلسان على مقهى مقابل لمسرح الكورسال، عندما اقترب منهما شاب وسيم تعرفه زينب صدقي:

= أهلاً أهلاً... حمد الله على السلامة يا أحمد.

- الله يسلمك يا زينب هانم.

= طبعاً ما تعرفوش بعض. دي زينات صدقي ممثلة هايلة وزميلتنا في فرقة الريحاني. ودا بقى يا ستي أحمد بدرخان... بيشتغل في السينما.

* أهلاً وسهلاً.

- اهلاً بك... أنت بقى زينات صدقي.

= سمعت عنها؟

- طبعاً... والمفروض يكون وصلك برقية من الأستاذ إميل خوري المنتج الفني للفيلم.

* فيلم إيه؟

- مش أنت كنت مرشحة تشتغلي مع الريحاني في فيلم «ياقوت»؟

* أيوا... وما وصلنيش أي برقيات ولا حاجة لحد دلوقت.

- أنا آسف... ما عرفش إميل ما بعتلكيش إزاي... للأسف الفيلم أتصور وانتهى وكان مفروض إميل خوري يبلغك بكدا زي ما اتفق مع الريحاني لأن الوقت كان ضيق.

* معلش... أنا عارفة حظي وحش.

- أبدا ولا وحش ولا حاجة فرصة راحت فرص كتير جدا جاية. ما تزعليش نفسك... شوفي أنا صديقتي المنتجة والممثلة والمغنية بهيجة حافظ، هتعمل فيلم جديد المفروض أنها هتصوره بعد أسبوعين تقريباً. أنا هكلمها عنك... ومش لوحدك يا ستي لا أنت وزينب صدقي كمان.

لم تأخذ زينات كلام أحمد بدرخان مأخذ الجد، أو ربما خشيت أن تأخذ كلامه مأخذ جد فتضيع هذه الفرصة أيضاً. غير أنه وعد فأوفى، على رغم أنه لم يعمل في فيلم بهيجة حافظ، إلا أنه تدخل لديها لأجل أن تعمل زينات وزينب صدقي في الفيلم الجديد الذي يستعد له المخرج الإيطالي، وقبل نهاية الأسبوع جاء من يطلب زينات لمقابلة المخرج ماريو فولبي في استوديو مصر:

= أنت زينات صدقي.

* ايوا أنا.

= أمشي.

* وكنت تاعب نفسك وبعتلي علشان آجي تقولي أمشي.

تدخل مساد المخرج المصري بسرعة:

- يا ست زينات ما يقصدش أنك تمشي من الإستوديو. يقصد تتمشي قدامه علشان يشوف قوامك وشكلك هيبقى إزاي قدام الكاميرا.

* يوه يقطعني... ما تآخذنيش والنبي يا سي ماريو.

= أمشي.

* أهو... إيه رأيك؟

= أنت اشتغل في السينما قبل كدا.

* لا وشرفك دي أول مرة.

= تعرفي فرنساوي.

* وإنكليزي وشرفك.

= تعرفي ترقصي.

* أرقص وأغني وأمثل. كل اللي أنت عايزة.

= برافو... برافو... خدي الورقة دي فيها بعض جمل فرنساوي... هتقفي هناك هنا قدام الكاميرا وهتقولي الجمل دي مرة وأنت بتبصي في الورقة ومرة من غير الورقة.

اجتازت زينات اختبار الكاميرا، ووقعت عقداً بأجر قدره 50 جنيهاً في الفيلم، بعدما ارتاح المخرج الإيطالي لوجهها أمام الكاميرا، ومنحها دور صديقة البطلة، حيث ستكون مشاهدها في الحفلة التي تقيمها البطلة، التي ستجسد دورها المطربة والممثلة والمنتجة والمخرجة بهيجة حافظ.

سارقة الأضواء

بدأت زينات صدقي تصوير أول دور لها في السينما في فيلم «الاتهام» إخراج «ماريو فولبي» وكتب السيناريو والحوار الكاتب فكري أباظة، وأنتجته وقامت ببطولته ووضعت ألحان أغانية والموسيقى التصويرية، بهيجة حافظ، وشاركها في البطولة زكي رستم، حسن كمال، عزيز فهمي، منير فهمي، وزينب صدقي.

تدور أحداث الفيلم حول «بهيجة وسامي» وهما زوجان سعيدان مع ابنتهما في العزبة القريبة من القاهرة، التي تسافر إليها بهيجة لمساعدة ابنة خالتها زوزو في زفافها، لكنها عندما تعود إلى المنزل تفاجأ بزوجها سامي يطردها من دون سبب، ظناً منه أنها قد وقعت في الخطيئة وخانته، عندما تسافر بصحبة رجل في سيارته، فتعود إلى بيت والدها محسن بك، تقيم زوزو حفلة لأجل التسرية عن بهجية، ويفتن الشباب بجمالها في الحفلة، وفي حديقة المنزل، تنطلق رصاصة يموت على إثرها شاب تتهم بهيجة بقتله، وفي المحكمة يدافع عنها ابن عمها شوكت أملاً في استمالتها إليه. ينجح في تبرئة بهيجة من الاتهام وكشف القاتل، غير أنها تعود إلى زوجها سامي بمساعدة صديقتهما المشتركة «علية» التي تجسد دورها زينات صدقي، التي تؤكد لزوجها أن بهيجة كانت بصحبتها وخطيبها في سيارته الخاصة.

قبل أن يعرض فيلم نجيب الريحاني «ياقوت» في القاهرة في 23 أبريل 1934، عرض فيلم «الاتهام»، أول مشاركة سينمائية لزينات صدقي في السينما.

في ليلة الافتتاح كانت تجلس زينات في دار العرض، وإلى جوارها والدتها ومعهما «نادرة» ابنة شقيقتها، كما دعت شقيقتها سعاد وزوجها علي اللبان، وصديقتها خيرية صدقي التي كانت لا تزال تعمل لدى بديعة مصابني.

انتهى عرض الفيلم وأضيئت الأنوار ووقفت بهيجة حافظ تحيي الجمهور، وإذ بزينات صدقي تقف وتزغرد وسط صالة العرض، فتحول نظر الجمهور إليها وضج بالضحك، وراح يشير ويصفق لها، لتخطف الأضواء منذ اللحظة الأولى لها مع الجمهور، على رغم صغر دورها وهامشيته.

عرض فيلم الريحاني ولم يحقق النجاح الذي كان يرجوه، فقد توقع أن يسقط الفيلم لأكثر من سبب، أهمها الاستعجال الذي عامل به إميل خوري الفيلم، فجاءت النتيجة مخيبة للآمال، ما جعل الريحاني يتراجع عن قراره بمقاطعة المسرح، ويصب جام غضبه على السينما التي لم يرتح لها ولم يقع في هواها.

بلغ نجيب الريحاني أمر ما حدث من زينات صدقي في ليلة افتتاح فيلم «الاتهام»، فجلس يضحك ويضرب كفاً بكف، وما إن رأى زينات تدخل المسرح حتى نظر إليها وضحك بشدة:

= بقى دا فصل تعمليه في الولية.

* فصل إيه وولية مين؟

= بهيجة حافظ تتعب وتنتج الفيلم وتصرف عليه وتقوم بدور البطولة وتقعد تنتع طول الفيلم... وأنت تيجي تسرقي الكاميرا والجمهور منها كده بزغرودة. زمانها بتقول توبة إن كانت تشغلك معاها تاني.

* أيوا بس أنا والله ما كنت أقصد...

= دا على كدا بقى أحمد ربنا أني مشغلتكيش في الفيلم معايا كان زماني قاعد في بيتنا بعد ما سرقتي مني الأضواء أنا كمان.

* والله أنا عملت كدا لأني كنت فرحانة بجد. صحيح أنا كان دوري صغير أوي في الفيلم... بس كنت حاسة أن الفيلم بتاعي.

= بس بس. أنا كنت بضحك معاكي. أنت مالك اترعبتي كدا ليه؟

* لأني مش قصدي أعمل مشكلة.

= بالعكس. أنا مبسوط منك أوي. الممثل الشاطر يعرف أمتى وأزاي يلفت نظر الجمهور وأنت زكية يا زينات تعرفي تلمي الجمهور بسرعة. علشان كدا أنا هديلك فرصة كبيرة المرة دي ع المسرح... إيه رأيك؟ هتعملي دور أختي ع المسرح.

* يا خبر يا أستاذ... دا شرف كبير ليا.

= بس أعملي حسابك... صحيح أنت هتبقي أختي بس هتكوني أخت شلق... بنت بلد بس شلق.. بالبلدي كدا واحدة لسانها مبرد متبري منها. وأنا عارف أنك ممكن تعملي الدور دا كويس. مش لأنك لا سمح الله لسانك متبري منك زي ما شفت وأنت بتبستفي إبراهيم فوزى قبل كدا. لا لكن لأنك شاطرة وتعرفي تعملي دا كويس.

بدأ الريحاني بروفات المسرحية الجديدة التي كتبها وبديع خيري بعنوان «الدنيا لما تضحك» وقد عمل على زيادة أعضاء الفرقة وضم جدد لها، لما تحتاج إليه المسرحية من شخصيات عدة، فضم الفنان بشارة واكيم ليستغل إجادته الهجة الشامية، ومعه زوزو شكيب، وشقيقتها الصغري ميمي شكيب، فؤاد شفيق الشقيق الأكبر للفنان حسين رياض، عبد الفتاح القصري وجبران ناعوم، حسن فايق، محمود رضا، محمد مصطفى، ماري منيب واستيفان روستي، ثم زينات صدقي.

مولد نجمة

جسد الريحاني دور «أفلاطون» الشاب الفقير الذي يعمل ملاحظ عمال بناء، والذي يهوى الغناء أثناء العمل، ما يسبب إزعاجاً للمليونير الثري «جوهر بك» الذي يسكن في القصر المقابل للفيللا التي يقومون ببنائها والذي يجسد دوره فؤاد شفيق، فيرسل له سكرتيره الشامي «الشنطوفلي» الذي يجسد دوره بشارة واكيم، ليطلب منه الكف عن الغناء لأن صوته مزعج، ولكن أفلاطون يرفض فيعرض صاحب القصر أن يعطيه جنيهاً مقابل الكف عن الغناء، فيوافق. يقرر المليونير الثري القيام بلعبة مع العامل الفقير، ليثبت أن أي إنسان يمكن أن يبيع حريته لأجل المال، فيعقد المليونير اتفاقاً مع «أفلاطون» أنه إذا استطاع أن ينفق مئتي جنيه في اليوم لمدة عام، فسيمنحه راتباً شهرياً قدره 50 جنيهاً مدى الحياة، في الوقت الذي يتقاضي فيه راتباً شهرياً خمسة جنيهات!

تجسد زوزو شكيب دور «قمر» ابنة أفلاطون الجميلة المتعلمة التي يقع المليونير في غرامها، وتجسد زينات صدقي شقيقته بنت البلد المتزوجة من ابن عمه «عوف» الذي يجسد دوره عبد الفتاح القصري، فيما تجسد ماري منيب دور «فلة» زوجة أفلاطون.

في ليلة العرض الأول للمسرحية، شعر نجيب الريحاني بأنه سيقف على خشبة المسرح للمرة الأولى، فعلى رغم أنه ابتعد عن جمهوره لموسم فقط فإنه قدم خلاله أول فيلم سينمائي له، إلا أنه شعر بأنه أصبحت هناك فجوة بينه وبين الجمهور، وأن الجمهور غضب منه منذ مسرحية «الجنيه المصري» وكان لا بد من مصالحته بشكل قوي، لذا حشد كل ما يمكن أن يسيل له لعاب الجمهور من قصة محبوكة تلعب على أماني الجمهور، وغناء ورقص ورومانسية ومشاكل اجتماعية.

لم يصدق الريحاني ما رآه من رد فعل الجمهور لدرجة أنه بكي بعد إسدال الستار بعد الفصل الأول، وظل يكتم فرحته من هذا الاستقبال الرائع من الجمهور حتى نهاية المسرحية، فانفجر مهللاً:

= الحمد لله الجمهور رجع... جمهورنا رجع لنا تاني. أهلا بالمسرح... يلعن أبو خاش السينما.

كما اكتشف الريحاني عودة الجمهور إليه هذه الليلة، اكتشف أيضاً ممثلة غير عادية في فرقته اسمها زينات صدقي، وما إن انتهى الجميع من تهنئة بعضهم البعض وتهنئة الريحاني على النصر الكبير بنجاح الرواية الجديدة «الدنيا لما تضحك» حتى أرسل في طلب زينات صدقي إلى غرفته:

= أهلاً أهلاً بالنجمة الكبيرة.

* لا والنبي يا أستاذ بلاش تريقة.

= والله ما تريقة أنا بتكلم بجد... أنت أثبتي النهاردة أنك ممثلة من العيار التقيل. مش مجرد ممثلة واقفة على خشبة المسرح بتقول كلام ورا الملقن اللي قاعد في «الكمبوشة» لا أنت فاهمة بتقولي إيه وبتملي إيه.

* بس بقى يا أستاذ هتخليني أعيط والله.

= هو أنت تروحي تزغردي عند بهيجة حافظ وتيجي تعيطي عندي هنا. أنت لازم تزغردي وتفرحي... بجد أنت هايلة يا زينات.

* ربنا يخليك يا أستاذ مش عارفة أقولك إيه.

= ما تقوليش حاجة. تخللي بالك من شغلك لأنك هيبقالك مستقبل كويس. أنا لاحظت أنك بتضيفي حاجات كدا من عندك من وقت للتاني.

* والله ما كنت أقصد. ساعات كنت بحس أن لازم يتقال كدا هنا.

= هو دا اللي أنا عايزه. الإضافة تبقى محسوبة مش مجرد كلام علشان تبقى موجودة في المشهد.

لم تصدق زينات ما قاله لها نجيب الريحاني، وأنها فعلت كل ما قاله، شعرت بأنها ولدت من جديد من خلال المسرحية، وهو ما ظهر واضحاً من خلال تعامل الريحاني معها، ليس بينه وبينها فقط بل أمام الجميع، فأصبحت واحدة من أعمدة الفرقة، ووضع الريحاني أملاً كبيراً عليها، ما جعله يجلس خصيصاً ليكتب بعض الإضافات الجديدة في دورها مع بديع خيري، وقد استوحى في الدور بعض المفردات التي تستخدمها زينات في تعاملاتها الشخصية مع المحيطين بها، واستخدمتها في المسرحية، مثل عبارات:

«نعم نعم يا روح النون، اسم الله والحارس الله، لو كان ينعز... ما كنش خرطوه للوز يا أبصر إيه أنت».

النجاح الذي حققته زينات، انعكس بشكل واضح على راتبها في الفرقة، ليقفز إلى 60 جنيهاً في الشهر، وهو راتب الصف الثاني في الفرقة، ما أعطى مؤشراً لمكانتها في المسرح.

البقية في الحلقة المقبلة

«ياقوت»

حُرمت زينات صدقي من «فيلم ياقوت» السينمائي، وتدور قصته حول ياقوت أفندي الذي يعمل محصلاً في دائرة «ورثة أبو عوف»، حيث تسكن «رودي» الفتاة الفرنسية ابنة «ملكة الكبريت»، يتوجه «ياقوت» إلى مسكن «رودي» لتحصيل الإيجار فلا يجدها، ولأن «الباشكاتب» هدده بوجوب التحصيل فإنه ينتظرها أمام المنزل حيث تطول مدة انتظاره فينام أمام المنزل حتى تأتي «رودي» متأخرة وتكون النتيجة توبيخه أمام رودي التي تحاول أن تعوض ياقوت بأربعمئة جنيه، لكنه يرفض بشدة فتعجب به ليحدث التقاء عاطفي بينهما.

تحب «رودي» «ياقوت» ويتزوجان ثم يسافران إلى «باريس»، لكن الحياة هناك لا تروق لياقوت فيضيق بها ويقرر العودة إلى مصر، ليكتشف أن «رودي» تواجه ظروفًا صعبة في باريس بعد انتحار والدها، وأنها تحتاج إليه معها فيرجع عن قرار العودة، خصوصاً أنها تعود إلى طبيعتها، وأن واجبه يحتم عليه أن يظل إلى جوار «رودي» التي تعده بأنهما سيسافران إلى مصر بعد زوال هذه الظروف.
الجريدة الكويتية في

26/07/2013








images




images




images
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى