«فورن بوليسي»:
كيف حطَّمت غزة أسطورة الغرب؟!
١٦ فبراير ٢٠٢٥
0 تعليق
في قصيدة كتبها تالياً في وارسو، المحتلة، بعنوان «كامبو دي فيوري»، يستحضر صورة الدوامة بجوار جدار الحي اليهودي، حيث يتحرك الراكبون نحو السماء عبر دخان الجثث، التي تطغى نغماتها الغريبة على صرخات الألم واليأس. وفي بيركلي بولاية كاليفورنيا، بينما كان الجيش الأمريكي يقصف ويقتل مئات الآلاف من الفيتناميين، وهي الفظائع التي قارنها بجرائم أدولف هتلر وجوزيف ستالين، عرف ميلوش مرة أخرى «التواطؤ المخزي» في الوحشية المتطرفة. وكتب يقول: «إذا كنا قادرين على التعاطف، وفي الوقت نفسه عاجزين تماماً، فإننا نعيش في حالة من اليأس الشديد الإزعاج».
إن تدمير إسرائيل لغزة، بدعم من الديموقراطيات الغربية، قد فرض هذا المحنة النفسية لشهور على ملايين البشر، الذين كانوا شهوداً غير طوعيين على عمل من أعمال الشر السياسي، الذين سمحوا لأنفسهم أحياناً بالتفكير في أن من الجيد أن يكونوا على قيد الحياة، ثم سمعوا صراخ أُمٍّ تشاهد ابنتها تحترق حتى الموت في مدرسة أخرى قصفتها إسرائيل.
لقد تركت المحرقة The shoah ندوباً على أجيال يهودية عدة، فقد شهد الإسرائيليون في 1948 ولادة دولتهم القومية كمسألة حياة أو موت، ثم مرة أخرى في عامي 1967 و1973 وسط خطاب الإبادة من أعدائهم العرب. وبالنسبة للعديد من اليهود، الذين نشأوا وهم يعلمون أن اليهود في أوروبا كادوا يبادون بالكامل تقريباً دون سبب آخر غير كونهم يهوداً، لا يمكن للعالم إلا أن يبدو هشاً. ومن بين هذه الأحداث، والمجازر واحتجاز الرهائن في إسرائيل، في السابع من أكتوبر 2023، على يد «حماس» وجماعات فلسطينية أخرى، التي أشعلت الخوف من محرقة أخرى. ولكن كان من الواضح منذ البداية أن القيادة الإسرائيلية، الأكثر تعصباً في التاريخ، لن تتردد في استغلال الشعور الدائم بالانتهاك والحزن والرعب.
الدفاع عن النفس
فقد ادعى زعماء إسرائيل بحقهم في الدفاع عن النفس ضد حماس، ولكن كما اعترف «عمر بارتوف»، المؤرخ الرئيسي للمحرقة، في أغسطس 2024: فقد سعوا منذ البداية إلى «جعل قطاع غزة بأكمله غير صالح للسكن»، وإضعاف سكانه إلى الحد، الذي قد يجعلهم إما يموتون أو يبحثون عن كل الخيارات الممكنة للفرار من المنطقة. وهكذا، بعد أشهر من 7 أكتوبر، شهد المليارات من الناس هجوماً غير عادي على غزة، أسفر عن مقتل عشرات آلاف الفلسطينيين. وكان ضحايا المجزرة، كما قالت «بيليين ني جراليغ»، المحامية الأيرلندية، التي دافعت نيابة عن جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية في لاهاي: «يبثون تدميرهم، في الوقت الحقيقي، في شعور باليأس من أن العالم قد يفعل شيئاً».
خلف الجدران
لم يفعل العالم، أو على وجه التحديد الغرب، أي شيء. فخلف جدران غيتو وارسو، كان اليهودي ماريك إيدلمان «خائفاً للغاية» من أن لا أحد في العالم يلاحظ شيئاً مما يحدث داخل الغيتو، ولن يخرج أي شيء عنهم، ولا حتى رسالة.. أبداً.
لم يكن هذا هو الحال في غزة، حيث تنبّأ الضحايا بوفاتهم على وسائل الإعلام الرقمية، قبل ساعات من إعدامهم، وبثّ قتلتهم أفعالهم بسهولة على تيك توك. فقد كانت عمليات التصفية، التي جرت في غزة عبر البث المباشر، تُعمم يومياً بواسطة أدوات الهيمنة العسكرية والثقافية الغربية: من زعماء الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، الذين هاجموا المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، إلى محرري صحيفة نيويورك تايمز، الذين أصدروا تعليمات لموظفيهم، في مذكرة داخلية، بتجنب مصطلحات «مخيمات اللاجئين» و«الأراضي المحتلة» و«التطهير العرقي». وكان كل يوم يتسم بالوعي بأن مئات الناس العاديين كانوا يُقتلون أو يُجبرون على مشاهدة قتل أطفالهم، بينما كنا نواصل حياتنا. وكانت المناشدات من الناس في غزة، وكثير منهم من الكتاب والصحافيين المعروفين، الذين حذروا من أنهم وأحباءهم على وشك أن يقتلوا، تليها أنباء عن قتلهم، لتزيد من إذلال العجز الجسدي والسياسي.
الشعور بالذنب
لقد وجد أولئك، الذين دفعهم شعورهم بالذنب بسبب التورط العاجز، إلى النظر في وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن بحثاً عن أي «علامة رحمة»، أو أي علامة على نهاية إراقة الدماء، لكن لا شيء غير صلابة ناعمة بشكل مخيف، لم تكسرها سوى ابتسامة عصبية، عندما تفوّه بأكاذيب إسرائيلية، مفادها أن الفلسطينيين قطعوا رؤوس أطفال إسرائيليين! لقد تحطّمت بوحشية الآمال الصالحة، التي أثارها هذا القرار أو ذاك للأمم المتحدة، والنداءات المحمومة من المنظمات غير الحكومية الإنسانية، والأحكام من قبل المحلفين في لاهاي، مع استبدال الحزب الديموقراطي لبايدن في اللحظة الأخيرة كمرشح رئاسي.
بحلول أواخر عام 2024، كان العديد من الأشخاص، الذين يعيشون بعيدًا جدًا عن حقول القتل في غزة، يشعرون، من على مسافة، لكنهم يشعرون - بأنهم قد تم جرهم عبر مشهد ملحمي من البؤس والفشل والألم والإرهاق. قد يبدو هذا بمنزلة ضريبة عاطفية مبالغ فيها بين مجرد متفرجين، لكن الصدمة والغضب أثيرا عند كشف بيكاسو عن لوحة «غرنيكا»، التي تصور خيولها وبشرها وهم يصرخون أثناء تعرضهم للقتل من السماء، كانت نتيجة صورة واحدة من غزة لأب يحمل جثة طفلة مقطوعة الرأس.
الكارثة والأهوال
إن الحرب سوف تتراجع في نهاية المطاف إلى الماضي، وقد يمحو الزمن كومة الأهوال التي خيمت على المدينة. ولكن علامات الكارثة سوف تظل باقية في غزة لعقود من الزمان، ستبقى في الجثث الجريحة، والأطفال الأيتام، وأنقاض المدن، والناس المشردين، وفي الحضور الشامل والوعي بالحزن الجماعي. وأولئك الذين شاهدوا من بعيد بلا حول ولا قوة قتل وتشويه عشرات الآلاف على شريط ساحلي ضيق، وشهدوا أيضاً تصفيق أو عدم اكتراث الأقوياء، سوف يعيشون بجرح داخلي وصدمة لن تزول لسنوات.
لن يتم أبداً حسم الجدل حول كيفية وصف عنف إسرائيل - سواء كان دفاعاً شرعياً عن النفس، أو حرباً عادلة في ظروف حضرية صعبة، أو تطهيرًا عرقيًا وجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك، ليس من الصعب التعرف، في مجموعة الانتهاكات الأخلاقية والقانونية لإسرائيل، على علامات الفظاعة القصوى: القرارات الصريحة والروتينية من القادة الإسرائيليين لمحو غزة، موافقتهم الضمنية من قبل جمهور يستنكر عدم كفاية الانتقام من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة، تحديدهم للضحايا بالشر الذي لا يمكن التصالح معه، حقيقة أن معظم الضحايا كانوا أبرياء تمامًا، والعديد منهم من النساء والأطفال، حجم الدمار، الذي يفوق نسبيًا ما حققه قصف الحلفاء لألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وتيرة القتل، التي تملأ المقابر الجماعية في جميع أنحاء غزة، وأساليبها، غير الشخصية بشكل مخيف (معتمدة على خوارزميات الذكاء الاصطناعي)، وحتى الشخصية، والتقارير عن قناصة يطلقون النار على رؤوس الأطفال، غالباً مرتين، ومنع أحد من الوصول إلى الطعام والدواء، وإدخال أعواد معدنية ساخنة في أجساد السجناء العراة، وتدمير المدارس والجامعات والمتاحف والكنائس والمساجد وحتى المقابر، سخافة الشر التي تجسّدها جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، وهم يرقصون في ملابس نساء فلسطينيات ميتات أو هاربات، شعبية مثل هذا الترفيه المعلوماتي على تيك توك في إسرائيل، والتنفيذ الدقيق لقتل الصحافيين في غزة، الذين يوثقون إبادة شعبهم.
معيار الشر البشري
لماذا نتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان الموجهة لإسرائيل؟ فالمنظمات الدولية الكبرى تدين سلوك إسرائيل في غزة، ولكن تقاريرها لا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام، من سلطات الحكومات الغربية.
إن القسوة التي صاحبت المذبحة على نطاق واسع، ليست غير مسبوقة. فلعقود، حددت المحرقة معيار الشر البشري. والمدى الذي يحدده الناس على هذا النحو، ويعدون، على أساسه، ببذل كل ما في وسعهم لمكافحة معاداة السامية، وهذا يخدم الغرب، كمقياس لحضارتهم. ولكن العديد من الضمائر انحرفت أو ماتت على مر السنين التي قضت فيها على يهود أوروبا. وانضمت أجزاء كثيرة من أوروبا غير اليهودية، في كثير من الأحيان بحماسة، إلى الهجوم النازي على اليهود، وحتى الأخبار عن القتل الجماعي الذي ارتكب، قوبلت بالتشكيك واللامبالاة في الغرب، وخاصة الولايات المتحدة. وكانت التقارير عن الفظائع التي ارتكبت ضد اليهود، والتي سجلها جورج أورويل في أواخر فبراير 1944، ترتد عن الوعي «مثل حبات البازلاء عن خوذة فولاذية»، ورفض زعماء الغرب قبول أعداد كبيرة من اللاجئين اليهود لسنوات بعد الكشف عن جرائم النازية. وبعد ذلك، تم تجاهل معاناة اليهود وقمعها. وفي الوقت نفسه، حصلت ألمانيا الغربية، على الرغم من أنها لم تتحرر من النازية، على غفران رخيص من القوى الغربية، وحتى تم تجنيدها في الحرب الباردة ضد الشيوعية السوفيتية.
القسوة والجبن
لقد قوّضت هذه الأحداث، التي وقعت في الذاكرة الحية، الافتراض الأساسي لكل من التقاليد الدينية والتنوير العلماني: أن البشر لديهم طبيعة «أخلاقية» أساسية. والآن أصبح الشك المدمر في أنهم ليسوا كذلك منتشراً على نطاق واسع. لقد شهد العديد من الناس عن كثب الموت والتشويه في ظل أنظمة القسوة والجبن والرقابة، وهم يدركون بصدمة أن كل شيء ممكن، وأن تذّكر الفظائع الماضية لا يضمن عدم تكرارها في الحاضر، وأن أسس القانون الدولي والأخلاق ليست آمنة على الإطلاق.
لقد حدث الكثير في العالم في السنوات الأخيرة: الكوارث الطبيعية، والانهيارات المالية، والزلازل السياسية، والجائحة العالمية، وحروب الفتح والانتقام، ومع ذلك، لا توجد كارثة تقارن بغزة - لم يترك لنا أي شيء مثل هذا القدر الهائل من الحزن والحيرة والضمير السيئ، لم ينتج عن أي شيء مثل هذا القدر من الأدلة المخزية على افتقارنا إلى العاطفة والسخط، وضيق الأفق، وضعف الفكر. لقد تم دفع جيل كامل من الشباب في الغرب إلى مرحلة الرشد الأخلاقي من خلال أقوال وأفعال، أو غياب أقوال وأفعال، شيوخهم في السياسة والصحافة، وأُجبروا، بمفردهم تقريباً على ملاحظة الأعمال الوحشية، التي ساعدت عليها أغنى وأقوى الديموقراطيات في العالم!
موقف بايدن والغربيين
إن الحقد العنيد والقسوة اللتين أبداهما «الرئيس بايدن» تجاه الفلسطينيين لم تكونا سوى لغز من العديد من الألغاز المروعة، التي طرحها السياسيون والصحافيون الغربيون. كان من السهل على القادة الغربيين حجب الدعم غير المشروط لنظام متطرّف في إسرائيل، مع الاعتراف بضرورة ملاحقة وتقديم المذنبين بارتكاب جرائم حرب في السابع من أكتوبر إلى العدالة. فلماذا إذن ادّعى بايدن، مرارًا وتكرارًا، أنه شاهد مقاطع فيديو فظائع غير موجودة؟ لماذا أكد رئيس الوزراء البريطاني «كير ستارمر»، وهو محامٍ سابق في مجال حقوق الإنسان، أن إسرائيل «لها الحق» في حجب الطاقة والمياه عن الفلسطينيين، ومعاقبة أولئك في حزب العمال، الذين يدعون إلى وقف إطلاق النار؟.
الأسئلة الحتمية
لماذا قفز يورغن هابرماس، البطل البليغ للتنوير الغربي، للدفاع عمّن ارتكبوا التطهير العرقي، علناً؟ وما الذي دفع مجلة أتلانتيك، إحدى أقدم الدوريات في الولايات المتحدة، إلى نشر مقال يزعم، بعد مقتل ما يقرب من 8000 طفل في غزة، أنه «من الممكن قتل الأطفال بشكل قانوني»؟ ولكن ما الذي يفسّر اللجوء إلى صيغة المبني للمجهول في وسائل الإعلام الغربية السائدة، أثناء تغطية الفظائع الإسرائيلية، الأمر الذي جعل من الصعب معرفة من يفعل ماذا ولمن، وتحت أي ظروف، وكيف يمكن تقبّل منظر إطلاق جنود إسرائيليين لكلب هجوم مدرّب، ليفتك بفلسطيني مصاب بمرض الداون سندروم، ومعاق؟ لماذا ساعد المليارديرات الأمريكيون في تحفيز حملات القمع القاسية ضد المتظاهرين في الحرم الجامعي؟ لماذا تم فصل الأكاديميين والصحافيين، وحظر الفنانين والمفكرين من العمل؟ ولماذا مُنع الشباب من العمل لمجرد أنهم يبدون وكأنهم يتحدون الإجماع المؤيد لإسرائيل؟ لماذا استبعد الغرب الفلسطينيين بشكل واضح مبادئهم المتعلقة بالالتزام والمسؤولية الإنسانية، في حين دافع عن الأوكرانيين وحماهم من هجوم سام؟
بغض النظر عن الكيفية، التي نتعامل بها مع هذه الأسئلة، فإنها تجبرنا على النظر بشكل مباشر إلى الظاهرة، التي نواجهها: الكارثة التي تسببت فيها الديموقراطيات الغربية بشكل مشترك، والتي دمّرت الوهم الذي نشأ بعد هزيمة الفاشية في عام 1945 حول إنسانية مشتركة يدعمها احترام حقوق الإنسان والحد الأدنى من المعايير القانونية والسياسية.
مقال للكاتب بانكاج ميشرا
ترجمة: أحمد الصراف «بتصرف»
https://www.alqabas.com/article/5942453 :إقرأ المزيد