كزانتزاكيس يودِّع مصر: في انتظار الوحدة «المُرعبة» بين شعوب العالم الإسلامي
السبت 20 يونيو 2015 - الساعة 00:01
نتجوَّل مع الروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس في الحلقة الثانية من رحلته إلى مصر، والذي زار مصر عام 1927، والتقى سياسيين وأدباء ومواطنين عاديين، وصف الشوارع والحواري والبيوت، بعدما وقف أمام الهرم الأكبر في الحلقة السابقة، ووقف أمام نهر النيل في الحلقة الأولى، وها هو يودِّع أرض الكنانة، في هذه الحلقة.
وخلال الحلقتين السابقتين تجول صاحب الرائعة الروائية «زوربا»، في عدة مدن مصرية، نزل القاهرة وزار الصعيد بآثاره ودروبه وموتاه، ضمن رحلته إلى مصر، التي صدرت في كتاب «رحلة إلى مصر - الوادي وسيناء» وترجمه محمد الظاهر ومنية سمارة، والذي اعتبر واحداً من أكثر كتب الرحالة الغربيين إنصافاً وتسامحاً مع الشرق.
كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ |
T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
جولات في الشرق 6: إدوارد لين يتأمل القاهرة من مركب «عروس النيل»
جولات في الشرق (5): إدوارد لين في مصر: {صوفية} يأكلون النار في الشوارع
يودّع الكاتب نيكوس كزانتزاكيس مصر بعين مندهشة، مفتوحة على ما في هذا البلد من أعاجيب، بعدما أجبره نهر النيل على الإيمان بحقيقة الصراع المرعب بين الإنسان والماء، وأجبره الهرم الأكبر على الاعتراف بالحكمة الخالدة، التي تقول إن الفجور والعبودية والقوة، كلها أمور تنمو بشكل مُتسق ومؤتلف في مصر.
في هذه الحلقة يعود الكاتب من الصعيد، إلى المدن الحديثة المشدودة، وفي فمه طعم الحكمة والخلود، وبينما قرر في البداية، ألا يذهب إلى الموتى وآثارهم حيث كان معنياً بالأحياء، إلا أنه تراجع عن ذلك فور وصوله إلى أرض مصر، يقول إنه كان معنياً أكثر بكيفية المواجهة، التي تحدث وقتها، بين الروح المصرية المعاصرة وعالمها المحيط، الذي كان وقتها خرج جريحاً ومصدوماً من صراع ما بعد الحرب العالمية الأولى {1914 - 1918}، يقول كاتبنا إنه اعتقد أن هذا فقط ما كان يعنيه من مصر، يضيف: {لكن بعد أول لقاء لي مع الحيوية، والجَلبة، لوجه مصر الجميل، غمرني شعور باللذة، ونهض أمامي صوت ملوّع من الأرض، وأمسك بي، كان الموتى يصرخون، أنهم ظامئون، ويريدون العودة إلى الحياة، حتى ولو للحظة واحدة فقط، أن يدخلوا إلى هذا القلب الذي ما زال دافئاً، ونابضاً تحت الشمس}.
عاد الكاتب من زيارة الموتى إذن في الأقصر وأسوان، إلى قلب القاهرة، {النابض بالحيوية} على حد وصفه، حيث حولته الإقامة فيها إلى عصارة من النشاط والحيوية، راغباً في فهم الحياة المصرية، كان ينطلق من الصباح حتى المساء، ليرى رجال المال، ورجال السياسة ورجال الصحافة والمثقفين المصريين - الذين يصفهم بأنهم }متحمسون وماكرون ووطنيون وماهرون في التحايل - عام 1927 خلال زيارته الطويلة إلى مصر، والتي كان ينشرها في صحيفة يونانية كبرى وقتها، قبل أن تُعد في كتاب.
يقول كزانتزاكيس، إنه واجه صعوبات جمة في فهم كثير من الأسئلة الكبرى التي تواجه المصريين، يعترف بأنه حاول أن يجد إجابة عن سؤال ما هي الدوافع التي يتذرعون بها لإعادة انبعاث مصر الحديثة؟ كيف يستطيع العقل الشرقي أن يهضم ويتمثل الأفكار الأوروبية؟ والأهم من ذلك، ما الذي ستتركه حمى ما بعد الحرب على ضفاف النيل، وما هي الصلة والعلاقة بين هذا الأمر، وبين الحقيقة الواقعية الرهيبة والجهولة لعصرها، ألا وهي حقيقة استيقاظ الشعوب الشرقية؟}.
توزيع الأراضي
تساءل الكاتب اليوناني الكبير، عن السبب الذي جعل المصريين وقتها عاجزين عن خلق وإبداع أي شيء، لا في المجالات العلمية ولا في المجالات الفنية، فأجابه أحد المثقفين قائلاً: {إن عملنا الأصلي والأصيل هو اللاهوت}.
وأضاف المثقف الذي لم يكشف هويته للأسف قائلاً: {لقد قلدنا الثقافة الغربية تقليد العبيد التابعين، وفغرنا أفواهنا تجاه كل شيء قادم من أوروبا، نحن أيضا نتبع الضرورات العالمية المعاصرة، هناك رياح جديدة تهب على حياتنا قادمة من بريطانيا وفرنسا}.
وفي موضع آخر، يقول إنه تحدث مع مثقف مصري، {متميز}، عام 1927، فقال له: {إذا أردت أن تفهم مصر اليوم، يتوجَّب عليك أن تضع في تصورك بشكل واضح، أن تاريخ مصر الحديث ينقسم إلى مرحلتين أساسيتين: من محمد علي حتى الحرب الأوروبية، (الأولى - 1914) ومن الحرب الأوروبية حتى الوقت الحاضر، محمد علي فتح مصر للحضارة الأوروبية ودعا مخططين ومنظمين أجانب، فأعاد بناء الجيش، ونظم التعليم والزراعة، وأرسل مبعوثين مصريين من الشباب ليدرسوا في أوروبا، لقد بعث نفسا جديداً ديناميكيا في حياة وأرض مصر، محمد علي هو {بيتر العظيم} بالنسبة لمصر، لكن {الثقافة الأوروبية}، التي أدخلها محمد علي وخلفاؤه بشكل كبير لم تخرج من أوساط عامة الشعب، ولم تكن نتيجة قناعاتنا المحلية أو عقليتنا الشرقية الخاصة، وهكذا فإن ثقافتنا الآن ليست أكثر من ثقافة تابعة ومقلدة}.
يواصل الكاتب اهتمامه بالبحث عن الإجابات الصعبة، عن الأسئلة المصرية الصعبة، ربما إلى اليوم، مثل أسئلة النهضة المصرية ومصادرة الأراضي من كبار الملاك الزراعيين لمصلحة الفلاحين الصغار، ومن عينة هل هي نهضة مصرية خالصة أم أنها محض محاولات للتقليد تتخذ من النموذج الغربي إطاراً لها، يقول إنه تحدَّث مع زعيم قبطي بارع ومؤثر، فقال له: }هناك وسيلة واحدة للشعب كي يستيقظ، وهي الوسيلة الوحيدة من أجل تجديد اقتصاده، لدى مصر مساحات واسعة من الأرض، يتملكها عدد قليل من الإقطاعيين، وهناك الملايين من الفلاحين يعملون في هذه الأراضي ويموتون من الجوع، فكيف يمكن أن نواجه هذه المشكلة؟}.
ينقل الكاتب ـ قبل 25 عاماً من ثورة يوليو التي منحت صغار الفلاحين أراضي - كل حركة للصديق المصري، الذي يبدو أنه شعر بالحرج من أسئلة كاتبنا، فعطس، لكن الكاتب صمم على طرح السؤال عليه مجدداً:
- ماهي وجهة نظرك فيما يتعلق بمصادرة ملكية الأرض؟
يقول كزانتزاكيس: }فكر قليلاً، بالطبع كان يفضل ألا أكون أحد أولئك الحمقى الطائشين، بالطبع سيكون أكثر راحة لنا، وأكثر بلاغة أن نفيد أنفسنا بالكلمات العظيمة والجميلة مثل (الوطنية)، (الأخوة)، (الحرية) و(روح الفلاح) لماذا نتحدث عن جسده، عبث بالتلفون بعصبية وتوتر، ثم تركه، وقال لي بتصميم وحزم:
مصر أرض غنية جداً، لدينا موسمان أو ثلاثة مواسم للحصاد في السنة، أن قطعة صغيرة من الأرض تستطيع أن تطعم عائلة بكاملها... وبسهولة}.
- {إذن؟}.
- {إذن يجب أن يتم ما أشرت إليه}.
وتجنب الإشارة إلى المعنى الدقيق والمحدد بشأن }مصادرة ملكية الأراضي}.
- {يجب أن نكون على درجة من الذكاء هنا، فهناك أراض موقوفة}.
- إذن؟.
ـ أعتقد أنني أجبتُ عن سؤالك}.
{أخونا الفلاح}
وبينما يبدو الكاتب الغربي مباشراً وصريحاً - وربما مؤلماً - وهو في طريقه إلى الحقيقة في مصر، يقول إنه ترك صديقه المصري المثقف، الذي يتهرب من الإجابة عن سؤال بشأن مصادرة ملكية الأراضي، بقلب مقبوض، متذكراً مصير الفلاح: {أخونا الفلاح، هذا الإنسان غير المحظوظ، المحتقر، الذي يعمل مثل الكلب ويموت من الجوع، لقد كان ذلك المصير يملأ قلبي بالألم، والسخط والمرارة}.
لقد كان كزانتزاكيس من أوائل المثقفين في العالم الذين رفعوا شعار {العالم الإسلامي يستيقظ}، في وقت مبكر من القرن العشرين، وكان ممن يعتقدون في الدور الرئيسي، الذي يمكن أن تلعبه مصر في هذا العالم، موقعها الجغرافي في محيطها - العربي والإسلامي والإفريقي - واتصالاتها اليومية، وتماسها المباشر مع أوروبا وتقدمها السياسي المتسارع، والثورة الاقتصادية التي حدثت خلال السنوات القليلة الماضية، كل ذلك جعلها أكثر حساسية وتقدمية وجعلها تقف في طليعة المعركة التي يخوضها العالم الإسلامي}.
يعتقد الكاتب أن المسلمين من المغرب إلى الصين، إلى الكونغو، أصبحوا من خلال تواصلهم مع أعدائهم الأوروبيين يدركون معنى الروابط الحميمة العامة، التي توحدهم وهذه الروابط هي الدين، التراث، والمصالح الاقتصادية وبشكل بطيء}، لكن {بالرغم من العقبات، والفهم الخاطئ والمعوقات، نجد أن الوحدة المرعبة بين شعوب العالم الاسلامي بدأت تتجسد أمام عيوننا، وهي قريبة جداً من عيوننا، لدرجة أننا لا نستطيع رؤيتها، وحين نرى شيئاً فإن هذا الذي نراه يكون جزءاً صغيراً منها، لا كلها}.
يقول إن مصطفى كامل وسعد زغلول و{ملك الحجاز الجديد} و{لوثر الجديد} و{ علي جناح}، زعيم المسلمين الهنود، و{غاندي} زميله الحميم في العمل، كل هذه الرموز ليست مجرد شخصيات ممتعة ومشوقة، إنها شخصيات تعبر عن اختمار ثورة استثنائية مرعبة، إنها الأصوات القليلة الواضحة، التي أخذت تعبر عما كان يعجز عن التعبير عنه، أو صياغته العالم الشرقي الإسلامي.
يعدد الكاتب أسباباً أدت إلى إيقاظ الشرق، وتوحيده ضد الغرب، وقال إن هناك عنصرين لعبا دوراً في إيقاظ الشرق، الأول هو وسائل الاتصال الحديثة، التي جعلت كل ما يحدث في هذا العالم يؤثر في قارات العالم جميعاً، والثاني هو تأثير الثورة في روسيا، بتنظيم ثورة شاملة، يعتقد أنها سوف تثير الشرق.
وقال {إن انتصارات الجيوش الشرقية لها صداها المباشر في القارات الخمس كلها، إن انتصارات الجيوش الشرقية في المغرب أو شنغهاي، تنقل مباشرة بفضل وسائل الاتصال الحديثة، وتصل إلى كل الشعوب الشرقية، حيث تشحنها بالحماس والإيمان، وهذه الظاهرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية}.
أما عن روسيا، فهي في رأيه تنظّم ثورةً شاملة، تثير الشرق، وتنظم نشاطاته، وفعالياته، وتثير مشاعر الكراهية لدى الشعوب الشرقية ضد }الرأسمالية الأوروبية والأميركية}، وتسخر الأشياء البسيطة لحملاتها الإعلامية، وتقول إنه يتحتم على كل الشعوب أن تطرد الرأسماليين الذين يستغلونها وأن تصبح هي سيدة أوطانها.
طرد الأجانب
يتخذ الكاتب من مصر نموذجاً في الدفاع عن قدرات الشرق وإمكاناته الهائلة، حيث يعتبر القاهرة مكاناً مثالياً لتقييم إمكانات دول الشرق العربي جميعاً، خصوصاً أن مصر حالفها الحظ كثيراً بموقع جغرافي فريد وإمكانات اقتصادية قوية، ما جعلها تتقدم بفعل الضرورة، خطوات واسعة إلى الأمام.
وأضاف: {انظروا إلى مصر مثلاً، في فترة مبكرة، كان الأجانب هم المؤهلون لاستغلال الثروة، في إدارة مشاريع مصر التجارية، أو بناء مصانعها، أو إنشاء بنوك، أو القيام بالمشاريع التكنولوجية الكبيرة، أما الآن، فإن المواطنين المصريين، قد أخذوا يحلون محل الأجانب في كل مظاهر الحياة الاقتصادية وهم يديرون ذلك بكفاءة عالية، ولا يشعرون أنهم لم يعودواً بحاجة إلى هؤلاء الأجانب فقط، بل إنهم يشعرون بالكره تجاه المعوقات التي يصنعونها في طريقهم، إن الطبقة المدنية الجديدة التي ظهرت إلى حيز الوجود بعد الحرب، وجدت أن هناك حاجة ملحة ومستعجلة للتخلص من الأجانب، خصوصاً أن الثورة الاقتصادية ودخول المواطنين المصريين كعنصر رئيسي فيها، كان له التأثير العميق في الولادة الجديدة لاقتصاد البلد}.
يعترف الكاتب، في ختام زيارة استمرت أسابيع في القاهرة، أنه من الصحيح أنه لا توجد حضارة شرقية الآن، ومن الصحيح أيضاً أن الإنسان الشرقي الذي التقاه في مصر، بسيط وساذج، وأن الزمن قد تجاوزه، لأنه غير مُتكيِّف مع الحياة المعاصرة، ليخلص من وراء هذا الاعتراف، إلى ضرورة أنه لكي يبدع هذا الشرق حضارته الخاصة، فإنه يتحتم عليه - وفق الكاتب - أن يربط نفسه بفعل الضرورة بالغرب وحضارته وصناعته، وأن عليه في البداية أن يكمل مرافقه بالحضارة الغربية، وقد بدأ يضيف الكاتب:
{تبني المواطن الشرقي وسائل التقنية الأوروبية في الإنتاج، الوسائل الجديدة في الصناعة والتجارة، والوسائل التحليلية النقدية في التفكير، وهو مصمِّم على تبني الطريقة الشرقية في الحياة، جنباً إلى جنب مع العلم العربي، فالمستقبل ملك الشعوب التي توفق بين شيئين مهمين: التكنولوجيا الحديثة، والعقيدة الواحدة، ولا يقصد هنا الدين، إنما الاجتماع على {مبدأ مركزي}، ضارب في ضمير الناس، الآن أوروبا هي الأولى، والشرق يحل في المرتبة الثانية وقد بدأ الشرق خاصة في فترة ما بعد الحرب، يدخل إلى عالم التكنولوجيا وبدأ يصبح منظماً أما أوروبا فإنها تسعى نحو نهايتها بثبات، وتفقد كل مبدأ مركزي يجمعها، إن الحرب العالمية القادمة لا محالة سوف تتبدد هنا، أجل هنا بكل احتمالاتها وعنفها، وعندها سينتقل مصير العالم من الغرب إلى الشرق}.
يلحظ الكاتب بفطنته التي لا تغيب، أن المصريين يتميزون بالهمة في التعلم، على الرغم من أنهم كانوا تعودوا أن تكون التجارة في أيدي الأجانب، يلاحظ أن المواطن المصري يتعامل مباشرة مع الشركات الأوروبية، حين أجبروا على تبني طرق التمويل الأوروبية، حيث يقف الموظف المصري، لكي يوقع فواتير المبادلات التجارية، ويبني البنوك ويدخل إلى عالم الحداثة، يقول الكاتب:
{الصناعة كانت في السابق بدائية، فالصناعات الخشبية، والحديدية، والنحاسية، والقطنية كانت تعمل بأدوات تعود إلى القرون الوسطى، أما الآن فقد قام المواطنون باستيراد الآلات الأوروبية، وبنوا المصانع واتبعوا الوسائل الهندسية المتقدمة، والآن يمتلكون المدارس التجارية، ومدارس المعاملات التجارية، وتغيرت وسائل النقل، السيارات تسللت إلى كل مكان وربطت المدن في النهاية مع بعضها البعض بشبكة المواصلات، ونفذت الأفكار والأساليب التجارية بشكل تام}.
يلحظ الكاتب أن المجتمع المصري، بات في النصف الأول من القرن العشرين يعرف أهمية التعدد الطائفي والديني، ويتعايش معه على أفضل نحو ممكن، ويحيل ذلك إلى أسباب اقتصادية، يقول: {اختفى نظام تعدد الزوجات وزادت نسبة الزيجات بين الرجال المسلمين، والنساء الأوروبيات هنا العائلات التي تنتمي إلى طوائف مختلفة، تعيش تحت سقف واحد، وأغلب هذه العائلات مسلمة ومسيحية، وهذا شيء لم يكن يُسمع به من قبل، ونتيجة لهذا التواصل الذي تسبب فيه اقتصاد ما بعد الحرب، تبدَّلت التقاليد الراسخة وتغيرت الأفكار واتسعت المدارك}.
كفافي مسك الختام
في ختام رحلته، أراد الكاتب اليوناني أن يستعيد جزءاً من اليونان منسياً في مصر، فذهب إلى بيت الشاعر السكندري المولد اليوناني الأصل، قسطنطين كفافي Cavafy، الذي يعتبره أهم الرموز الثقافية الفذة النادرة في مصر، وأخذ يحكي كيف جلس أمامه إلى إحدى الطاولات الصغيرة، في داره الفخمة الرحبة، يقول:
{كنت أحاول استجلاء طلعته في ذلك الضوء الخافت الشحيح، وكانت الطاولة بيننا مملوءة بكؤوس الويسكي و{الماستيما} وهي عرق مصري مصنوع من التمر، كنا نشرب، لقد تحدثنا عن أناس مختلفين وعن أفكار شتى، كنا نضحك، ونغرق في الصمت، وبعد قليل من الجهد نعود إلى الحديث مرة أخرى، وكنت أحاول أن أخفي عواطفي وانفعالاتي، وسعادتي خلف قناع الضحك، فهناك يجلس أمامي الرجل الكامل الذي يمثل بهدوء إنجازه الفني بكل كبرياء، إنه ذلك الشيخ الزاهد الذي قهر حب الاستطلاع، والطموح، والحسية، وأخضعها إلى نظام الزهد الأبيقوري القاسي}.
يعتقد الكاتب كزانتزاكيس، أن كفافي، ربما ولد كاردينالاً في فلورنسا في القرن الخامس عشر، أو عمل مستشاراً سرياً للبابا، كمبعوث شخصي في قصر دوق {فينيسيا}، يقضي سنوات عمره يشرب، ويحب، ويقضي وقته حول القنوات، يكتب، يحتفظ بصمته، ويناقش أعظم الشياطين، ويتورط في القضايا الفضائحية للكنيسة الكاثوليكية.
يقول إنه تبين ملامح كفافيس في العتمة في الديوان، فبدت {تعابيره في نفس الوقت، شيطانية ماكرة، وتهكمية قوية، أما عيناه السوداوان الجميلتان، فإنهما تلمعان فجأة حين يسقط عليها شعاع قليل من ضوء الشموع، ثم تتغيران مرة أخرى، فتبدوان صافيتين، ذابلتين، متعبتين.
وأضاف {أما صوته فقد كان ينبض بالتكلف والتصنع والألوان، وقد كنت مسروراً أن روحه الحكيمة الماكرة، اللعوب، المداهنة، المنمقة، الفاتنة، قد انعكست في هذا الصوت، كل كلمات الوداع في قصيدته التي يودع فيها الإسكندرية:
{عندما تسمع فجأة عند منتصف الليل
مجموعة لامرئية وهي تعبر
تعزف موسيقاها الرقيقة وصرخاتها المنطلقة،
لا تتفجع على حظك الذي يوقع بك الآن،
وأعمالك التي فشلت،
وخطط حياتك التي استحالت إلى أوهام،
كأنك كنت تعد لذلك منذ مدة طويلة،
تقدم إلى النافذة بخطوة ثابتة،
واستمتع بعواطفك لكن بلا توسلات،
استمع إلى الأصوات وكأنها المتعة الأخيرة،
استمع إلى الآلات الموسيقية المرهفة،
لهذه الفرقة الغامضة،
وقل لها وداعاً
للإسكندرية التي أفتقدها}.