كتاب ...... رحلة إلى مصر ـ الوادي وسيناء

السيب

Active Member
طاقم الإدارة
الخميس 18 يونيو 2015 - الساعة 00:02
نبدأ من اليوم الأول في الشهر الكريم، قراءة سطور عدد من المستشرقين والجوالة الغربيين، في مناطق وبلاد الشرق العربي، عبر القرون الماضية، على أمل أن نعيد الاعتبار إلى نظرة غربية منصفة لبلاد الشرق، التي عانت ـ ولا تزال ـ بؤسَ النظرة الغربية إلى أحوالها، ما ينعكس في المواقف الدولية ـ الغربية تحديداً ـ غير المنصفة إلى الشرق حتى اليوم.
نبدأ من سطور كتبها الروائي اليوناني الكبير {نيكوس كزانتزاكيس} صاحب الرائعة الروائية {زوربا}، والذي زار مصر في بداية حياته، وتضمنت رحلته إلى مصر، نظرة غربية تتمتع بأكبر قدر من التسامح والفهم للشرق وهمومه ومتاعبه، والتي صدرت في كتاب {رحلة إلى مصر ـ الوادي وسيناء}.
الروائي اليوناني المولود (١٨ فبراير ١٨٨٣م) في جزيرة كريت، قبل أن تنضم إلى الدولة اليونانية الحديثة، والمتوفى في (٢٦ أكتوبر ١٩٥٧) زار مصر، في أوائل القرن العشرين، حيث كتب رحلاته، على نفقة صحيفة {ليغثيروس لوغوس} اليونانية، التي موّلت له رحلة لزيارة الأراضي المقدسة، في القدس، خلال أعياد الفصح، عام 1926، وزيارة مصر في السنة اللاحقة، 1927، وقد صدرت ضمن كتابه {ترحال}، الذي شمل جولاته في عدة دول عبر العالم...

1434561134_41_3-2.jpg

1434561134_12_2-5.jpg

1434561134_27_1-4.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 10: صوفيا لين بول: رشاقة «الفلاحة المصرية» تثير الإعجاب
جولات في الشرق 9: لومير: الحريات تواجه «الجواسيس» على مقاهي الشرق
جولات في الشرق 8 : لومير في مصر: نبلاء وأوباش على المقهى
جولات في الشرق 2: كزانتزاكيس أمام الأهرامات: الظمأ إلى الأبدية يحكم مصر
يبدأ كزانتزاكيس، الحاصل على جائزة لينين للسلام 1957، بعدما خسر جائزة نوبل لـ{الآداب} بفارق صوت واحد لصالح منافسه {ألبير كامو} عام 1956، رحلته إلى مصر كأيّ كاتبٍ كبير، من الصحراء، التي صادفته أولاً في رحلة من القدس إلى سيناء، ليرى مصر من ظهيرها الصحراوي، الذي يعطي انطباعاً مؤكداً عن الضرورة التي يجري لأجلها {نهر النيل}، وعن الحفاوة التي تعامل بها المصريون القدماء مع النهر الخالد.
المؤكّد أن الفترة التي زار فيها البلاد، كانت بمثابة اللحظة التي تسبق عاصفة {التمدُّن} التي عاشتها مصر بعد ذلك، خلال العقود اللاحقة من القرن العشرين، ما جعل مصر التي يصفها كاتبنا، محض صورة باهتة في ذاكرة بعيدة عن أصابعنا الآن، حيث غاب سحرها القديم بعد ذلك تحت سطوة التقدم، الذي فرّغ مصر من جانب كبير من سحرها التاريخي، ما يجعل التعبيرات الدقيقة للكاتب هنا حول مصر وناسها وشوارعها وبيوتها، مادة خصبة تصلح لرتق الذاكرة المثقوبة.
يلتقط كزانتزاكس بدايةً، وجوه المصريين وصحراءهم وحاجتهم إلى المياه، راصداً ما وراء {قناع الوداعة}، الذي يقول إنه أوَّل ما يُمكن أن يصادف المواطن الغربي على الوجه المصري، يقول، إنه كان يستطيع تمييز ذلك الوجه الحزين المكافح لمصر خلف هذا القناع، معلناً عن صدمته من تغير المسافة بين تصوراته كمواطن غربي عن المصريين الفراعنة بألوانهم الذهبية وآلهتهم العظيمة، والواقع المر الذي اكتشفه على الأرض، وسط المصريين الحقيقيين أواخر عشرينيات القرن الماضي ـ تقريباً ـ في العام الذي تٌوفي فيه الزعيم الوفدي سعد زغلول.
يقول الروائي اليوناني الكبير:
 
التعديل الأخير:





{اليوم، وأنا أنظر إلى مجرى النيل العميق المنخفض والخصب، أجد نفسي أفكر، وبلا إرادة مني، في التخلي عن كل التصورات السابقة حول الجواهر الذهبية، والألوان، والراقصين المصريين الشباب، والفراعنة المنتصرين، والآلهة العظيمة، لقد رأيت الحدادين أمام النار وقد تجعّدت أصابعهم مثل جلد التمساح، رأيت المزارعين بآلامهم المبرحة في الحقول، وهم يواصلون العمل في الليل، رأيت الحلاق، وهو يقص الشعر طوال النهار، يتنقل من بيت لآخر، بحثاً عن الزبائن وهو يبلي يديه من أجل ملء معدته، رأيت النساج يعاني الفقر في مَعمله، ركبتاه تنغرسان في بطنه، يتنفس الهواء الملوث، وعليه أن يرشو الحارس، كي يستطيع رؤية ضوء النهار، رأيت ساعي البريد الذي يبرهن على إرادته، قبل أن ينطلق، لأن هناك خطراً من افتراسه من قبل الحيوانات البرية المتوحشة أو الناس، رأيت الدباغ بعينيه المجهدتيْن، وأصابعه لها رائحة السمك العفن، يقضي حياته يقطع الجلد، ورأيت الإسكافي الذي يستجدي طوال حياته، حتى إنه قد يأكل الجلد الذي يعمل به كي لا يموت من الجوع}.

النخلة... والجمل

يواصل الروائي اليوناني الكبير جولته، على أرض مصر إذن، متتبعاً مسارات اللحظة المصرية الفارقة، تاريخياً واجتماعياً، منتبهاً إلى أن الإسكندرية هي محض مدينة يونانية، غافلاً ربما عن أن الحضارة المصرية القديمة، سبقت اليونانية بسنوات طويلة، خصوصاً أن الإسكندرية {المصرية} سبقت مدناً يونانية كثيرة، وفي أروقة {مكتبة الإسكندرية} جاء فلاسفة يونانيون ليتعلموا، ما بات ينسب بعد ذلك للحضارة اليونانية القديمة.
وبغض النظر عن الإسكندرية، أعلن الكاتب إعجابه عدة مرات بنهر النيل العظيم، وبالبلد الذي يجري فيه هذا النهر، معتبرا أن مصر ليست بالسهولة التي وصفها بها المؤرخ القديم {هيرودوت}، حين قال إن مصر {هبة النيل}، فهو يرى المسألة أعقد منذ ذلك بكثير.
ويقول: {على طول الشريط الضيق، الذي يزهر بالخضرة، وسط تلك الصحراء البغيضة، هناك معركة مرعبة لا تنتهي بين الماء والإنسان، فإذا توقف هذا الصراع للحظة واحدة فقط، فإن كل ما يزيّن هذه الأرض من أشجار وطيور وناس، سوف يغمر تحت رمال الصحراء، فالفلاحون، ومنذ آلاف السنين يكدحون ليل نهار ويناضلون من أجل ترويض قوة الآلة الوحشية المتهورة، النهر الذي خلق طوفانه بنفسه، بشكل متناغم وأطل بطلعته المليحة، وخلق مصر}.
يقول إنه حين اقترب من منطقة الخلجان الواسعة للنيل والبحر، في منطقة الدلتا، كانت على وشك استعادة خضرتها: {كانت الأقبية القديمة، التي حفظت لنا من زمن الفراعنة، تتغلغل إلى شغاف قلبي، نحن مغمورون، شئنا ذلك أم أبينا، بهذا القلق المرعب لأزمنتنا، ومن المستحيل الآن على أي كائن حي أن يرتحل وهو خالي البال كسائح، إذن، ما هي القيمة المباشرة للأهرامات والمومياوات الذهبية ومعابد الكرنك العملاقة، وتماثيل الملوك المصنوعة من الجرانيت، ما قيمة كل ذلك بالنسبة لنا؟ وكيف يمكن لنا أن نتوقع أن تتملكنا الرغبة في الاستمتاع بتلك البساطة، دون أن ننظر بدهشة وحيرة إلى هاتين الحليتين الرائعتين، اللتين تزينان هذه الأماكن، وهما النخلة والجمل؟}.
لا يكتفي كاتبنا بملاحظة الصورة الخارجية لمصر ونهرها، لا يكتفي بالقشور بل يدخل في المضمون أيضاً، ملاحظاً التغيرات الكبيرة التي طرأت على إنسانية الإنسان، الذي يتعرض للاستعباد، صاحب الباع الطويل في مصر، وفق رؤية الكاتب، الذي يقول صراحة إنه جاء إلى مصر في وقت تُستعبد فيه الروح الإنسانية، من قبل الآلة والجوع، وتناضل من أجل الخبز والحرية، متحدثاً عن {صرخة العمال} التي تتصاعد كدخان الكراهية، وهي {صرخة الأرض التي تقطع نياط القلب}، يقول إن هذه الصرخة رافقته طوال رحلته في مصر، وأنها كانت هي التي تقوده، في بعض الأحيان.
يقول: {الطبيعة مدجَّنة ومُستعبدة، كطبيعة الفلاحين، فحقولها الموحلة مزروعة بالقطن، والبقول والذرة وأشجار النخيل والأكاسيا والصبار والتين الشوكي، وسماؤها مُثقلة، وألوانها كثيفة، وهواؤها مشبّع بالرطوبة، أما الغربان السوداء السمينة، فإنها تطير وتحط فوق الأرض المحروثة وطيور اللقلق التي تشبه الحروف الهيروغليفية، تقف على ساقٍ واحدةٍ، على ضفة النهر}.

السلطة الصارمة

أنصت الكاتب اليوناني لصوت النيل جيداً، وقف أمامه طويلاً وتأمله من جميع الجوانب ليفهم المجتمع المصري، رأى فيه امتداداً كبيراً لصور الماضي السحيق، فالنهر مسؤول عن صورة البشر الذين يقيمون على ضفافه، وهو الذي يخلق القانون السائد، ربما كان وراء سعي المصريين الدائم إلى تركيز السلطة في يد رمز سياسي واحد، يستطيع أن يتحكم في المياه كلها، ويوزّعها بالعدل، ما سهَّل ـ على حد زعم الكاتب ـ خلق {السلطة الفرعونيَّة المطلقة}.
يقول: {النيلُ لا يورِّث فقط الأرضَ والأشجارَ والحيوانات والناس، إنه يورِّث أيضاً القوانين، والحقائق العلمية الأولى، ففيضانه ليس مصدرَ خير دائماً، حينما لا تمكن السيطرة عليه، لذلك يجد الناس أنفسهم مجبرين على تنظيم أنفسهم، على العمل معاً ومجبرين على تحمل نصيبهم من الفيضان، ففي كل عام، تغمر مياه النيل الحقول، وتحطِّم الحواجز الرملية، ولذلك يصبح من الضروري لكل ملكية فردية أن تكتشف بوضوح فائدة تسجيل الأرض في سجلات الأراضي وبشكل دقيق، وبهذه الطريقة يكون النيل سبباً في خلق {القانون} ولأن كل بلد يعتمد على البلد الآخر، ولأن ازدهارها جميعاً يعتمد على التنظيم المحكم لتوزيع المياه، فإن النيل يجبر الناس على قبول قسوة الحكم الكهنوتي (السلطوي) الذي يمثل اجتماع كل السلطات في رمز سياسي واحد، يستطيع أن يتحكم في المياه كلها، ويوزّعها بالعدل، لذلك يبدو أنه كانت هناك حاجة ملحة، لوجود وخلق {السلطة الفرعونية المطلقة}.
يقول الكاتب إن النيل كان مقدساً وجوهرياً في هذا البلد، منذ قديم الأزل، حيث اكتشف المصريون أهميته مُبكراً، فقد كان الكهان يقدّمون القرابين للنهر، ويرفعون أيديهم بالدعاء له والثناء عليه، لأنه يحمي البلاد من التصحر، وينشر فيها مساحات خضراء هائلة، يحكي الكاتب اليوناني أن البشر في بقية دول العالم، جعلتهم الأمطار والفيضانات يهربون من السلطة الحكومية، أما في مصر فقد حدث العكس، حيث اقتصر تنظيم الماء على الحكومة فقط، مذكراً بأنه حين جاء نابليون بونابرت مصطحباً حملته إلى مصر {1798ـ 1801}، استطاع سبر أغوار هذا السر، الذي يجعل السلطة السياسية الصارمة، أمراً لا غنى عنه في مصر، فقد كتب نابليون يقول: {إذن إلى متى؟ إلى متى يقوم هؤلاء الناس التعساء، نصف العراة بجر المياه، وشق الترع والقنوات، وزرع البذور وعزق الأرض، إلى متى يستمر هذا النضال؟ طالما أن النيل سوف يتناقص في لحظةٍ ما، سوف يتناقص لتعود بعد ذلك رمال هذه الصحراء الرمادية الناعمة، التي لا تهزم أبداً}.

جماجم شوَتها الشمس

{في ليل الصحراء، تمددتُ قرب النار، وأنا أحاول الاستماع إلى آلاف الأنفاس الغامضة الغنائية للبريّة، كل هذه الأصوات الرومانية كانت ضائعة في لجة أصوات المدينة المأهولة المعذبة، التي انغرست في أعماق قلبي، قبل أن أنطلق}.
يبدأ الكاتب رحلته إلى القاهرة، قائلاً: {إننا نعيش في عصر ذي صرخة خاصة، بإمكانها إخماد كل الأصوات المرحة الرائعة للجمال والحكمة، هذه الأصوات التي أصبحت غير ذات جدوى لمتطلبات الحياة اليومية المعاصرة}، مشيراً إلى أننا نشاهد معه مِصر أخرى، غير التي كان يمكن رؤيتها قبل الحرب العالمية «الأولى ـ 1914}، وغير مصر التي تحملها عيون الإنسان المعاصر هذه الأيام، مبيناً أن الحرب لم تغيّر مصر فقط، وأن الأهم عنده، أن عيناً جديدة قد اختُرعت} للنظر إلى الأشياء، بعد الحرب.
حفرت رحلة الفيلسوف والروائي اليوناني إلى مصر إذن، بعيداً عن المسارات التقليدية للرحلات التي يكتبها الغربيون العابرون، حيث التقط الكاتب جوانب غير منظورة من قبل الرحالة العاديين، الذين ربما يقفون عند حدود المناخ والبيوت وظاهر البشر، لكن كزانتزاكيس يفعل هنا شيئاً آخر، في هذه الرحلة، إلى مصر.
يتعرَّف الكاتب إلى النماذج البشرية المصرية، بوصفها مكوناً رئيساً للثقافة المصرية، وتشكل جانباً مهماً في الثقافة العربية، راسماً لوحة شفافة للإنسان الذي يقيم على نهر النيل، للمرأة التي تمشي في طوابير إلى النهر لتملأ الجرار، وهي الصورة التي سرعان ما أظهرتها الأفلام السينمائية المصرية، المنتجة في الثلاثينيات من القرن الماضي، مصداقاً لقول كاتبنا ووصفه الصادق لمصر.
يقول: {أما الفلاح، فيبدو كقطعة من المنظر الطبيعي، مصنوع من نفس الطين، يحني قامته أمام النهر، بجزره ومده منذ قديم الزمان، ويجر الماء ليملأ الأخاديد، يفعل ذلك كله بإخلاص مطلق ومهانة مطلقة، كأنه يحذو حذو أجداده في التقاليد التي مرت عليها آلاف السنوات، لم يتغير شيء، نفس الجباه الضيقة، نفس العيون اللوزية السوداء، نفس الشفاه السفلية الغليظة المتدلية، نفس الجماجم التي شوَتها الشمس، ونفس العبودية}.
ومن الرجال ينتقل الكاتب إلى وصف النساء: {أما النسوة، فنسوة قذرات، مثنيات القامة، كحيلات العيون، يسرن صوب النهر، كي يملأن جرارهن الفخارية، ويضعنها على (المدوّرة ـ الحواية) الموضوعة على طرف رؤوسهن الصلبة المغطاة، تماماً وفق ما كانت عليه تقتضي التقاليد، ويتسلقن حافة النهر بخط مستقيم، وببطء، واحدة إثر الأُخرى، حيث تلمع الخلاخيل الفضية، تحت أشعة الشمس، على كعوبهن التي لطخها الطين، ولفحتها الشمس}.
يعود الكاتب إلى المواثيق القديمة والكتابات الفرعونية، طوال رحلته إلى مصر، يقول إن هذه الكلمات وجدت على أحد الأهرامات، قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة من ميلاد المسيح: {أولئك الذين يدينون بالفضل للنيل يرتعدون، لكن الحقول تضحك وضفاف النهر تُزهر، وتنحدر قرابين الآلهة من السماء، إن قلب الآلهة يرقص فرحاً}.
وبينما يزيد الجدل اليوم، بعد توقيع اتفاقية {سد النهضة} الإثيوبي، التي أثارت الجدل بشأن حصة مصر في مياه النهر العظيم، في العام الخامس عشر من القرن الحادي والعشرين، يذكرنا الكاتب اليوناني الكبير، بتلك الأسطورة المصرية القديمة، حيث أقسم ثلاثة من الرجال أن يبحروا في اتجاه الجنوب طوال حياتهم، لكي يعثروا على منابع نهر النيل السريّة، وبعد عشر سنوات مات الرجل الأول وبعد عشر سنوات أخرى مات الرجل الثاني، دون أن يصلا إلى نهاية الماء، وحين أصبح عمر الرجل الثالث مئة عام، استلقى في قاربه مثل المومياء استعداداً للموت، لكن صوتاً انبثق من الماء وهمس له في أذنه ليواسيه: {مبارك أنت، لأنك الوحيد من بين كل الرجال الذي رأى أغلب الماء، مبارك أنت لأنك الآن ستنحدر نحو الحادس – مثوى الأموات في الميثولوجيا الإغريقية – سوف تعثر على منابعي، التي كنت تناضل وتجاهد من أجل الوصول إليها}.

الجذع النحيل

ومن الأنهار الثلاثة القديمة العظيمة المقدسة، }النيل والفرات والفانغ}، يقول الكاتب إن نهر النيل يبقى أكثرها قداسة، لأنه هو الذي نقل التربة وخلق الأرض، وهو الذي غمر الأرض فيما بعد بالماء وجعلها مثقلة بالثمار، يبقى النهر الذي أنجب النباتات والحيوانات والفلاحين، يقول: {وفي النهاية أجبر الناس على العمل معاً من أجل تنظيم واكتشاف العلوم الأولى}.
وحتى نهاية شهر أغسطس، يكون النيل قد بلغ أقصى مستوى له وبعد ذلك يبدأ منسوب المياه فيه بالتناقص شيئاً فشيئاً، فتنتهي البهجة، ويبدأ زمن الأسى والحزن عند الفلاحين، الذين يبدأ موسم كدحهم وشقائهم منذ هذه الحظة، حيث تبدأ حراثة الأرض، وبذرها وريّها، وحصادها، وفي النهاية يظهر ذلك المظهر المأساوي لهذا الكدح، ألا وهو وصول }الأفندي}، ذلك الوجه السرمدي الذي يظهر بأسماء مختلفة: {الفرعون الكاهن}، {المالك الإقطاعي}، {التاجر}، {المرابي}، يقول كزانتزاكيس: {كلهم يأتون لجمع الثمار من تلك الأراضي}.
هكذا استمع الكاتب اليوناني إلى {النغم المعذب}، الذي كان ينبثق من مصر كلها، حيث طلعت عليه شمس صباح اليوم الأول لوصوله إلى هبة النيل، مشيراً إلى أنه لو كان سافر إلى مصر في أيام {القديس فرانسيس}، لكان بإمكانه سماع {الروح البشرية}، وهي تغني غناءها الوثني وتدعو المسيح كي يخلعها، ولو أنه سافر في أيام {غوته}، لكان بإمكانه {التمتع بهذا الهارموني الجديد الذي ينبثق من الكنائس العملاقة الباردة، وامتلأ بالبهجة وهو يستمع إلى الصوت الهادئ للقساوسة وهم يباركون الفتى الإغريقي الموله، وهو يوغل في غموض الحياة والموت}.
يشير الكاتب إلى أنه بدءا من القاهرة، صعوداً نحو السماء نحو صعيد مصر وجنوبها، يبدو جذع مصر نحيلاً منبسطاً، مثل شجرة النخيل، يتمدد بين شريطين ضيقين أخضرين، بين فرعي النهر العميقين الزرقاوين، وعلى يمين وشمال ذلك الجذع، تنبسط رمال الصحراء الرمادية المترامية.
لا ينسى الكاتب شيئا في مصر، فكل ما فيها تقريباً لا ينسى، من الطيور العديدة الألوان، إلى جماعات الديوك المزهوّة، بأعرافها الطويلة، والسنونو الزرقاء، بصدورها التي لها لون القرفة، لا ينسى الرجال النحيلين، ولا النسوة اللاتي تتدلى الأقراط من أنوفهن، مثلما لا ينسى حتى الأطفال الذين يتمرغون في الوحل، ويأكلون قصب السكر.
ينهي الكاتب رحلته إلى القاهرة، بذكر الشمس التي تغرب فتشوب الجبال عبر الطريق، حمرة خفيفة، حيث تعبر الجمال في الغروب، بأعناقها التي تتمايل ببطء، وحيث يسحب الفلاحون دلاءهم، ليرووا الأرض وهم يصدحون بالغناء، حيث يبدو الكل مُسالماً وقانعاً، وتلك هي الخدعة المصرية التي تسببها مظاهر الدعة والسكنية، على وجوه المصريين.
 
التعديل الأخير:
كزانتزاكيس أمام الأهرامات: الظمأ إلى الأبدية يحكم مصر



الجمعة 19 يونيو 2015 - الساعة 00:02
نتجوَّل مع الروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس في الحلقة الثانية من رحلته إلى مصر، في لحظة وقوفه أمام الهرم الأكبر، أحد أهم المعالم الكبرى على حجم الحضارة التي عاشتها مصر في الزمن القديم، حيث اعتقد أن الظمأ إلى الأبدية هو الذي يحكم تاريخ مصر، وينظّم حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويسيطر على الآداب والفنون، وأن هذا الظمأ هو الذي يريح العبيد ويمنحهم الصبر، ويدفع الكهان والملوك إلى الاستفادة منه واستخدامه كأداة للثراء والقوة والجاه.
ننتقل اليوم إلى نظرة الكاتب العميقة أمام الهرم الأكبر، والتي خرج منها بحكمة خالدة هي أن الفجور والعبودية والقوة، كلها أمور تنمو بشكل متسق مؤتلف في مصر، التي يعتبرها «تربة ندية خصبة محاطة بهذه الصحراء المرعبة».
حاول الكاتب أن يفلسف المأساة المصرية رابطاً بين صعوبات التاريخ ومأساة الجغرافيا، من رحلة إلى الأهرامات، كاشفاً المعاناة المصرية كما يراها المواطن الغربي، فهو يقول عن المصريين: «الموت حولهم في كل مكان، ولو أنهم نظروا خلف هذه الأوراق الخضراء لرأوا الصحراء، ولو أنهم توقفوا عن العمل حسب هذه القوانين المجحفة، دقيقة واحدة، لأغرقهم النهر، ولو أنه...

1434631291_18_1.jpg

1434631291_03_2.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 10: صوفيا لين بول: رشاقة «الفلاحة المصرية» تثير الإعجاب
جولات في الشرق 9: لومير: الحريات تواجه «الجواسيس» على مقاهي الشرق
جولات في الشرق 8 : لومير في مصر: نبلاء وأوباش على المقهى
جولات في الشرق 1: كزانتزاكيس في مصر: معركة مُرعبة بين الإنسان والماء
يبدو أن الكاتب اليوناني نيكوس كزانتزاكيس كان أسير النظرة }الاستشراقية} إلى مصر، التي تصر على النظر من الخارج، فهو يقول في يومياته التي دونها عن مصر، خلال رحلته إليها، إن الإنسان المصري لم يكن يوماً يضع الحرية غاية وهدفاً له في حياته، على الرغم من أن الكاتب التقى نماذج وقيادات في حزب }الوفد}، من رجال سعد زغلول باشا، الذين كانوا على رأس ثورة 1919، التي كانت واحدة من أكثر الثورات المصرية تأثيراً في التاريخ الحديث.
يقول كاتبنا بنظرة المستشرق، إن {المصري باستثناء لحظات نادرة في تاريخه، لم يجعل الحرية غاية له أبداً، ففي حياته السياسية كان عليه أن يطيع القادة، والفنون كان عليها أن تتبع القواعد الثابتة، والفكر كان يتبع تقاليد العصور السابقة، ولآلاف السنوات، كانت غايته العظيمة الوحيدة، هي هزيمة الموت وقهره}.
يقول الكاتب يائساً، إن المصري إذا كتب له أن يستمر حتى في مرحلة ما بعد الموت، فإنه سوف يعيش نفس نمط الحياة الذي لا يتغير، ويضيف: «كان على المصري أن يجدَ طريقة ما من أجل الحفاظ على جثته، حتى تستطيع روحه أن تميزها وتعود إليها مرة أخرى}.
ويلتقط طبيعة حياة المصريين من نمط حياتهم أصلاً، من طريقة بناء القصور والبيوت والمقابر، البيوت من الطين، لأنها خيام لمرحلة انتقالية، أما القبور فهي من الحجارة الصلبة، لأنها مساكن أبدية، ويروي طريقة تحنيط جثمان الميت في مصر القديمة، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من طرقِ الدفن في الزمن القديم، قائلاً: «آلاف من العمال يقومون بتفريغ الجثة من أحشائها، ثم يملاؤنها بالطيوب والأعشاب الطبية العطرية والقار، ويعلقون الطلاسم فوقه، ويضعون «كتاب الموت} إلى جانب جسده، حتى يكون بإمكانه معرفة الإجابة عن سؤال: أي الطرق يختار، وأي التعاويذ يتلو}.
بعد جولة لا تعرف الراحة بين جدران أضخم القبور وأكثرها قدماً وبقاء عبر التاريخ، يعتقد الكاتب جازماً، أن «الظمأ إلى الأبدية هو الذي يحكم مصر، وينظّم حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويسيطر على الآداب والفنون، ويريح العبيد ويمنحهم الصبر، والكهان والملوك يستفيدون ويستخدمونه كأداة للثراء والقوة والجاه}.
وإمعاناً في تكريس الموت وهيمنة الرغبة في الخلود على كل شيء، يرصد الكاتب اليوناني المرموق، كيف كان المصريون القدماء يحضرون الطعام فعلياً إلى القبر مع الميت، وفي فترة متأخرة اكتفوا بإحراق الطعام، حيث كانت الروح تتغذى على رائحته، قبل أن يكتفوا برسم صور الطعام، والحيوانات، على جدران المقابر، حيث نرى الحياة تنبض في الحيوانات واللحم والخبز والفواكه، حيث تنزل هذه الأشياء عن الجدران، وتنتشر على الطاولة، فتقوم الروح الجائعة للتمتع بأكل الطعام.

فلاح يتسلّق الهرم

وبعين الكاتب والروائي لا يرى كزانتزاكيس مطلع القرن العشرين في الأهرامات سوى الإنسان الذي يقيم عليها، المصري الذي أجبرته عبقرية جدوده على أن يكون عبقرياً على طريقته.
يزور الكاتب منطقة الأهرامات، ذات نهار صيفي قائظ، وسط وفود أجنبية من الولايات المتحدة الأميركية، وبصحبة }عربي}، تطلع الكاتب حوله، فلم يجد سوى تاريخ من العبودية، يتسق مع الحاضر الذي يراه بعينيه، يقول: }كانت هناك حشود من الأميركيين، الذين يرتدون النظارات، ويكشفون عن أسنان ذهبية، يدورون حول الجماجم مثل الغربان، كانت النسوة يصعدن إلى ظهور الجمال، وجواربهن الحريرية كانت تلمع فوق ركبهن، كان السياح يقومون بجولة تقليدية حول الأهرامات، يتذمرون قليلاً، ثم يتوقفون لالتقاط الصور وينطلقون عائدين إلى شيكاغو}.
يحكي الكاتب أنه أثناء زيارته للأهرامات، كانت مجموعة من الفلاحين تراهنت مع أحد الفلاحين، إذا استطاع أن يصعد وينزل الهرم الأكبر، في ست دقائق، فإنهم سيعطونه }نصف جنيه}، حينما كان نصف الجنيه يمثل ثروة كبرى لأي مواطن مصري، ما بالك بهذا الفلاح الفقير.
يقول كزانتزاكيس: }أخذ الفلاح البائس النحيل الجائع، يتسلق الجدران الهائلة بيأس، ويقفز بغير هدى بين الصخور، ويختفي للحظات، ثم يعود ليظهر في النهاية على قمة الهرم ثم يندفع بقوة نازلاً رأساً على عقب، كنت أتابعه وأنا أتمزق، أما الاميركيون فقد كانوا يعدون الدقائق على ساعات أيديهم، وعاد الرجل وهو يلهث، وسقط عند أقدامهم، ورفع عنقه، وهو يلهث، لكن الأميركيين كانوا كسبوا الرهان، وغادروا المكان وهم يقهقهون، فأخذ الفلاح يبكي}.
ولأن الكاتب تعاطف مع الفلاح، ضد عجرفة السياح الأميركيين، فقد طلب من صديقه العربي أن يقول للفلاح: }لماذا لا تمسك بعض الحجارة وتكسر بها رؤوسهم}، لكن صديقه العربي ضحك وقال: }لماذا، السادة على حق، لأنهم لم يدفعوا له، لقد خسر الرهان}، فرد الكاتب :}لكن لماذا يضحكون؟}... فقال العربي: }الفائزون دائماً يضحكون، ألا تعرف ذلك؟}.
يقول الكاتب، إنه في هذا الجو القديم من العبودية، بدا أن هذا الحوار القصير قد يلقي الضوء على كل تاريخ مصر، }مثل الشروحات الهيروغليفية على الصقور والأرانب، والأيدي الممزقة المحفورة على الأهرامات}.
قبل أن يتحدث عن أبو الهول، أقدم تمثال صخري في التاريخ، ينقل الكاتب أغنية عن الموت، نُحتت بالحروف الهيروغليفية تقول:
ما هو الموت!..
كل يوم أقول لنفسي: الموت يشبه إنساناً ما انطلق من قبر المرض.
الموت يشبه تلك اللحظة التي تكون فيها السماوات صافية لفترة،
حيث يأخذ الإنسان شبكته لصيد الطيور، ثم يجد نفسه فجأة في مكان لا يعرفه!}.
هكذا بدا له «أبو الهول}، حين وجد نفسه أمامه وجهاً لوجه، للمرة الأولى، على بعد قليل من الأهرامات، يقول: «لقد نُحت في الصخر الأصفر، بحجمه الضخم الرهيب العجيب، يشمخ برأسه بعنف فوق الرمال، نحو الشرق، كما لو أنه يناضل من أجل أن يكون أول من يدرك كنه الشمس، لقد مات بالأمس، وانحدر إلى الظل، وهو اليوم يأمل أن يعود الى الحياة مرة أخرى كي ينهض بكل عظمته وقوته من الصحراء، ومن قلوب النباتات والبشر الدافئة}.
يقول إن أبوالهول كان ينادي على الناس منذ آلاف السنين وكان الناس دائماً يحررونه ويطلقونه، لكن الرمال كانت تعود مجدداً وتغطيه، معتقداً أن الرمال التي تأتي بها الصحراء المحيطة، هي بسسب نظرة الرعب التي في عينيه: }لقد ظلت الصحراء تحاصره، وهي ستهزمه، ليس هناك أي خلاص، وهو يدرك ذلك، ولهذا السبب نرى الرعب في عينيه والصرخات تنطلق منه}.
من هول المفاجأة، اعتقد الكاتب أن أبوالهول يسمو فوق الرمال، منتظراً إشراق الشمس كل صباح بألم شديد، راسماً خريطة حسيّة لهذا الكائن الخرافي، المثير للإعجاب: }شفتاه كبيرتان حسيّتان شهوانيتان، كشفتي الفلاح، هناك مناخ من القدرية والرعب في هذا الفضاء الواسع المحيط به، وتبدو عليه سيماء الهدوء والرزانة، عيناه مفتوحتان على وسعيهما، تحدّقان بانجذاب صوفيّ، وتنظران برعب إلى الصحراء}.
وبدا أن الكاتب مأخوذ بالتمثال الكبير، فاعتقد أنه حين دفن في الرمل إلى رقبته، كان رأسه يوحي بالرعب، كنذير على قدر الإنسان السيئ، ولسوء الحظ، يقول: }فقد نظفوه الآن من الرمل، وحرروا جسده الذي يشبه جسد الأسد، وأقدامه الطويلة الممدودة، وبدأ لي أن هناك صيحة تجده واستغاثة سوف تنطلق من صدره! }النجدة، النجدة يا أبنائي، أنقذوني من هذه الرمال}.
يتذكر أبياتاً شعرية لشاعر مصري معاصر أملاها على }أبو الهول}:
- «يا من غربلت ذاكرة البشر بغربالك.
تحدث ، وأضئ دواخلنا بتعاليم التاريخ
ألست أنت الذي رأى مجد الإسكندر
وخزي قيصر؟
أما الآن فلا ترى عيناك سوى قرية متواضعة}.

مصر العليا

حين وصلت قدما الروائي اليوناني، نيكوس كزانتزاكيس، إلى مصر العليا، {الصعيد}، عام 1927، كانت روحه بدأت تعاف كل هذا الموت الذي في مصر، وهي مسألة طبيعية، إذا ما علمنا أنه واحد من عشاق الحياة، وممن خلدت أعمالهم الروائية، قيمة الحياة الإنسانية، فوق كل قيمة أخرى، وربما كانت رحلته تلك المبكرة إلى مصر، واحدة من أكثر أسباب حبه للحياة، من كثرة ما شاهد فيها من تخليد لقيمة الموت، سواء في منطقة الأهرامات، أو في معابد الأقصر والكرنك، التي كانت مثيرة جداً لامتعاضه، من كثرة ما فيها من اهتمام بالحياة الأخرى، الأمر الذي جعله يلهث لاكتشاف الحياة الحقيقية التي يعيشها المصريون على ضفاف النهر.
يروي الكاتب أنه دخل إلى مصر العليا بالقطار، حيث كانت الجبال تتراءى أمامه عارية، وردية اللون، مُقفرة، بالقرب من الشريط الأخضر الضيق، للأرض المأهولة على طول النهر، يقول إنه شاهد من القطار، الزنوج وهم يصرخون ويلوكون الذرة {المشوية} بنهم، رآهم وهم يرفعون الماء من النهر بالروافع، ولا يفوت فرصة لعكس بهجة الحياة في أرض مصر، فقد شاهد من نافذة القطار: {فتاة صغيرة ترفع ملاءتها، وتلفها حول خصرها بحركة راقصة}.
من القطار، يرصد الكاتب الصورة التقليدية لبيوت الفلاحين المصريين، المتناثرة على طول الطريق، لابد أنها بيوت محافظات بني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، يقول إن سطوح هذه البيوت كانت مستوية، مُغطاة بطبقات من الذرة الصفراء، التي تُركت لتجف تحت الشمس، وأن الشالات السوداء والحمراء، كانت تتدلى من أبواب هذه البيوت، التي لا شبابيك لها، والمصنوعة من الطين والقش، والتي ينام فيها الناس والبهائم جنباً إلى جنب.
يروي عن رحلته إلى الصعيد، كان طفلاً رضيعاً ترك ميتاً، في ذلك المكان القذر، لأن والداه كانا يعملان في أحد الحقول، الرجل يحرث الأرض، والمرأة تتبعه لتلقي البذار خلفه، يقول:
{يوم عملهما لم ينته بعد، وهما ينتظران حلول الظلام كي يتمكنا من دفن ابنهما، كان جسد الطفلة الرضيعة النحيل الأسود، بذراعيه الممدودتين، ورأسه المنتفخ المتضخم الملقى في الخندق الصغير، يبدو لي، وكأنه يحفر الأرض، لأن به رغبة عارمة للعودة إليها}.
يلتقط الكاتب مأساة صعيد مصر، منذ مطلع القرن العشرين، ببساطة من يشرح أفكاره الصباحية، فالشريط الأخضر المزروع، لايزال محافظاً على ضيقه ومحدوديته، وعلى بعد خطوات قليلة للأمام يمكن تبين حدوده، يقول: }من مكان الى آخر يمكن مشاهدة شجرة نخيل أو شجرة أكاسيا شوكية مزهرة، أو بعض أشجار الصبار ذات الأوراق الشوكية المسطحة الضخمة، وهي آخر الأشجار البطلة اليائسة التي بقيت من هذه الحياة الخضراء، إن قلب الإنسان يرتعش فخراً وإحباطاً، فكل شيء هنا يأخذ رمز القيم الإنسانية الجبارة، لأنه لا يوجد أي مكان في العالم، كهذا المكان في مصر، التي تستطيع فيه أن ترى الحياة أمامك بوضوح، حياة كأنها جزيرة صغيرة مشيدة في محيط الموت اللامحدود، جزيرة مصنوعة من الماء والتراب واللحم البشري، والدموع، حيث تعي بدقة، وأنت تنظر إلى الحدود، هنا في مصر، أنه لا جدوى من شجاعة الإنسان وكدحه وألمه}.


قبر أمنحوتب الثاني

وصل الموكب الذي يقل كاتبنا إلى طيبة، {الديوسبوليس} العظيم، والمدينة بدت به مطلع القرن العشرين، مدينة صغيرة تعيش على آلاف السياح، الذين ينتقلون إليها بالقوارب أو القطارات، السياح الذين رآى الكاتب أنهم يفعلون كل شيء كي يشاهدوا مصر، لكنهم لا يستطيعون رؤيتها لأنهم يرتدون نظارات سوداء، تجعل رؤيتهم لهذا البلد معتمة.
التفت الكاتب إلى ضرورة تجنب السياح، ليتمكن من تأمل التاريخ، الذي تفوح روائحه من المكان، فقام بزيارة معبدي {الأقصر} و{الكرنك} في وقت مبكر من الصباح، قبل أن يستيقظ السياح عادة، وأخذ يدور حولهما، يقول: {مثل الحشرة الصغيرة،التي تفقد إحساسها تحت هذه المعابد الضخمة}، فقد بدت له {كل هذه الأشياء الضخمة، غير مفهومه وبغيضة إلى نفسه}، وفق تعبيره.
يصف المعبد قائلاً: {هناك ممر، طوله كيلومتران، يصل بين معبد الأقصر ومعبد آمون (الكرنك) عرضه ثلاثة أمتار، مبلط بالحجارة اللوحية، وحيط به من اليمين ومن الشمال ألف مخلوق من مخلوقات (السفينكيس) الخرافية ذات الرؤوس الحيوانية، أما المذبح – مكان تقديم القرابين- في معبد (الكرنك)، وهو المكان الذي لا يسمح إلا للملك بدخوله، فيبلغ طوله مئة وثلاثة أمتار وعرضه اثنان وخمسون متراً، أما ارتفاعه فيبلغ خمسة وعشرين متراً، مزود بمئة وأربعة وثلاثين عموداً}.
يقول إنه ركب على متن السفينة، التي نشرت شراعها، لينتقل بعد ذلك إلى البر الغربي، كان بصحبة اثنين من الزنوج، نقلاه إلى ضفة النيل الأخرى، كي يشارك في احتفالات {النيكروبوليس} مدينة الموتى، في وادي الملوك:
{جبل رمادي قاحل وموحش، وهاد عميقة شديدة الانحدار ملتوية، تعبر شعابها، وقد تركت نفسي تغوص فيه لعدة ساعات، كنت أتذوق طعم الرماد يتسلل إلى أعماق حنجرتي، لا توجد أي نقطة من الماء في أي مكان، ولا توجد حتى أي ورقة خضراء، لم يكن هناك سوى طائر رمادي وحيد عبر المنطقة للحظة، أعتقد أنه صقر يحوم حول المكان بهدوء مرتين أو ثلاث مرات ثم تلاشى}.
يدرك أن هذه الضفة الغربية كرست بكاملها لدفن الموتى، حيث حفر المصريون القدماء أعماق الصخور لدفن مومياءاتهم، يقول: {مثلما نقوم نحن بدفن بذور الحنطة كي تنمو، وتعود الى الحياة ثانية، والآن ونحن نحفر، نجدهم ملفوفين بأكفانهم وأيديهم متقاطعة منذ آلاف السنين وينتظرون، الملوك والعبيد، القديسون والقتلة، الكهنة والراقصات، كلهم ينتظرون أرواحهم}.
يختتم الكاتب جولته بحثاً عن الحياة، في قبر أمنحوتب الثاني، الذي مات عام 1420 قبل الميلاد، حيث كانت الحرارة خانقة، والأضواء متواصلة، يقول إنه شاهد على الجدران، آلهة على شكل صقور، وقرابين الجنازات، وآلهة الخلود، التي نراها على كل الأعمدة تكشف عن صدرها وترضع الملك، أما السقف فهو عبارة عن سماء لازوردية بنجوم صفراء، وفي الأسفل في غرفة عميقة سرية، تستلقي مومياء الملك بسلام، وهي لاتزال مزينة بزهور الجنازة}.
يقول إنه حاول التعمق في المكان، تسكَّع حول مقابر الملوك، إلى أن هبط الليل، حيث لم يكن يفكر في الموت، يقول: {في الواقع كنت أمتع نفسي بالحياة التي تتفجر أمامي من جدران المقابر، إنها تنبض كما لو أنها أحسَّت للتو بالضوء، وبالعينين الناريتين اللتين تشاهدانها، وتعيدان الحياة إليها من جديد في كل مكان حول الجسد الميت، رأيت الحياة تكشف عن نفسها، الرجال يحرثون، يرعون الماشية، يصطادون الحيوانات، يصطادون السمك، ويسافرون على طول النيل، رأيت النسوة يطحنّ الطحين ويعجن العجين، ويوقدن النار، وأخريات يقمن بتزيين أنفسهن، يرقصن، يعزفن على العود، ويشممن الزهور، أما الملوك النحيلون الشاحبون فهم يحملون مفاتيح الحياة على صدورهم، وسيدات القصر يجلسن في الصالة وعبيدهن العراة الطوال مثل الزنابق، ينحنون فوقهن ويقدمون لهن الأزهار والفواكه}.


 
كزانتزاكيس يودِّع مصر: في انتظار الوحدة «المُرعبة» بين شعوب العالم الإسلامي



السبت 20 يونيو 2015 - الساعة 00:01
نتجوَّل مع الروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس في الحلقة الثانية من رحلته إلى مصر، والذي زار مصر عام 1927، والتقى سياسيين وأدباء ومواطنين عاديين، وصف الشوارع والحواري والبيوت، بعدما وقف أمام الهرم الأكبر في الحلقة السابقة، ووقف أمام نهر النيل في الحلقة الأولى، وها هو يودِّع أرض الكنانة، في هذه الحلقة.
وخلال الحلقتين السابقتين تجول صاحب الرائعة الروائية «زوربا»، في عدة مدن مصرية، نزل القاهرة وزار الصعيد بآثاره ودروبه وموتاه، ضمن رحلته إلى مصر، التي صدرت في كتاب «رحلة إلى مصر - الوادي وسيناء» وترجمه محمد الظاهر ومنية سمارة، والذي اعتبر واحداً من أكثر كتب الرحالة الغربيين إنصافاً وتسامحاً مع الشرق.

1434714885_48_1.jpg

1434714885_64_2.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
جولات في الشرق 6: إدوارد لين يتأمل القاهرة من مركب «عروس النيل»
جولات في الشرق (5): إدوارد لين في مصر: {صوفية} يأكلون النار في الشوارع
يودّع الكاتب نيكوس كزانتزاكيس مصر بعين مندهشة، مفتوحة على ما في هذا البلد من أعاجيب، بعدما أجبره نهر النيل على الإيمان بحقيقة الصراع المرعب بين الإنسان والماء، وأجبره الهرم الأكبر على الاعتراف بالحكمة الخالدة، التي تقول إن الفجور والعبودية والقوة، كلها أمور تنمو بشكل مُتسق ومؤتلف في مصر.
في هذه الحلقة يعود الكاتب من الصعيد، إلى المدن الحديثة المشدودة، وفي فمه طعم الحكمة والخلود، وبينما قرر في البداية، ألا يذهب إلى الموتى وآثارهم حيث كان معنياً بالأحياء، إلا أنه تراجع عن ذلك فور وصوله إلى أرض مصر، يقول إنه كان معنياً أكثر بكيفية المواجهة، التي تحدث وقتها، بين الروح المصرية المعاصرة وعالمها المحيط، الذي كان وقتها خرج جريحاً ومصدوماً من صراع ما بعد الحرب العالمية الأولى {1914 - 1918}، يقول كاتبنا إنه اعتقد أن هذا فقط ما كان يعنيه من مصر، يضيف: {لكن بعد أول لقاء لي مع الحيوية، والجَلبة، لوجه مصر الجميل، غمرني شعور باللذة، ونهض أمامي صوت ملوّع من الأرض، وأمسك بي، كان الموتى يصرخون، أنهم ظامئون، ويريدون العودة إلى الحياة، حتى ولو للحظة واحدة فقط، أن يدخلوا إلى هذا القلب الذي ما زال دافئاً، ونابضاً تحت الشمس}.
عاد الكاتب من زيارة الموتى إذن في الأقصر وأسوان، إلى قلب القاهرة، {النابض بالحيوية} على حد وصفه، حيث حولته الإقامة فيها إلى عصارة من النشاط والحيوية، راغباً في فهم الحياة المصرية، كان ينطلق من الصباح حتى المساء، ليرى رجال المال، ورجال السياسة ورجال الصحافة والمثقفين المصريين - الذين يصفهم بأنهم }متحمسون وماكرون ووطنيون وماهرون في التحايل - عام 1927 خلال زيارته الطويلة إلى مصر، والتي كان ينشرها في صحيفة يونانية كبرى وقتها، قبل أن تُعد في كتاب.
يقول كزانتزاكيس، إنه واجه صعوبات جمة في فهم كثير من الأسئلة الكبرى التي تواجه المصريين، يعترف بأنه حاول أن يجد إجابة عن سؤال ما هي الدوافع التي يتذرعون بها لإعادة انبعاث مصر الحديثة؟ كيف يستطيع العقل الشرقي أن يهضم ويتمثل الأفكار الأوروبية؟ والأهم من ذلك، ما الذي ستتركه حمى ما بعد الحرب على ضفاف النيل، وما هي الصلة والعلاقة بين هذا الأمر، وبين الحقيقة الواقعية الرهيبة والجهولة لعصرها، ألا وهي حقيقة استيقاظ الشعوب الشرقية؟}.

توزيع الأراضي

تساءل الكاتب اليوناني الكبير، عن السبب الذي جعل المصريين وقتها عاجزين عن خلق وإبداع أي شيء، لا في المجالات العلمية ولا في المجالات الفنية، فأجابه أحد المثقفين قائلاً: {إن عملنا الأصلي والأصيل هو اللاهوت}.
وأضاف المثقف الذي لم يكشف هويته للأسف قائلاً: {لقد قلدنا الثقافة الغربية تقليد العبيد التابعين، وفغرنا أفواهنا تجاه كل شيء قادم من أوروبا، نحن أيضا نتبع الضرورات العالمية المعاصرة، هناك رياح جديدة تهب على حياتنا قادمة من بريطانيا وفرنسا}.
وفي موضع آخر، يقول إنه تحدث مع مثقف مصري، {متميز}، عام 1927، فقال له: {إذا أردت أن تفهم مصر اليوم، يتوجَّب عليك أن تضع في تصورك بشكل واضح، أن تاريخ مصر الحديث ينقسم إلى مرحلتين أساسيتين: من محمد علي حتى الحرب الأوروبية، (الأولى - 1914) ومن الحرب الأوروبية حتى الوقت الحاضر، محمد علي فتح مصر للحضارة الأوروبية ودعا مخططين ومنظمين أجانب، فأعاد بناء الجيش، ونظم التعليم والزراعة، وأرسل مبعوثين مصريين من الشباب ليدرسوا في أوروبا، لقد بعث نفسا جديداً ديناميكيا في حياة وأرض مصر، محمد علي هو {بيتر العظيم} بالنسبة لمصر، لكن {الثقافة الأوروبية}، التي أدخلها محمد علي وخلفاؤه بشكل كبير لم تخرج من أوساط عامة الشعب، ولم تكن نتيجة قناعاتنا المحلية أو عقليتنا الشرقية الخاصة، وهكذا فإن ثقافتنا الآن ليست أكثر من ثقافة تابعة ومقلدة}.
يواصل الكاتب اهتمامه بالبحث عن الإجابات الصعبة، عن الأسئلة المصرية الصعبة، ربما إلى اليوم، مثل أسئلة النهضة المصرية ومصادرة الأراضي من كبار الملاك الزراعيين لمصلحة الفلاحين الصغار، ومن عينة هل هي نهضة مصرية خالصة أم أنها محض محاولات للتقليد تتخذ من النموذج الغربي إطاراً لها، يقول إنه تحدَّث مع زعيم قبطي بارع ومؤثر، فقال له: }هناك وسيلة واحدة للشعب كي يستيقظ، وهي الوسيلة الوحيدة من أجل تجديد اقتصاده، لدى مصر مساحات واسعة من الأرض، يتملكها عدد قليل من الإقطاعيين، وهناك الملايين من الفلاحين يعملون في هذه الأراضي ويموتون من الجوع، فكيف يمكن أن نواجه هذه المشكلة؟}.
ينقل الكاتب ـ قبل 25 عاماً من ثورة يوليو التي منحت صغار الفلاحين أراضي - كل حركة للصديق المصري، الذي يبدو أنه شعر بالحرج من أسئلة كاتبنا، فعطس، لكن الكاتب صمم على طرح السؤال عليه مجدداً:
- ماهي وجهة نظرك فيما يتعلق بمصادرة ملكية الأرض؟
يقول كزانتزاكيس: }فكر قليلاً، بالطبع كان يفضل ألا أكون أحد أولئك الحمقى الطائشين، بالطبع سيكون أكثر راحة لنا، وأكثر بلاغة أن نفيد أنفسنا بالكلمات العظيمة والجميلة مثل (الوطنية)، (الأخوة)، (الحرية) و(روح الفلاح) لماذا نتحدث عن جسده، عبث بالتلفون بعصبية وتوتر، ثم تركه، وقال لي بتصميم وحزم:
مصر أرض غنية جداً، لدينا موسمان أو ثلاثة مواسم للحصاد في السنة، أن قطعة صغيرة من الأرض تستطيع أن تطعم عائلة بكاملها... وبسهولة}.
- {إذن؟}.
- {إذن يجب أن يتم ما أشرت إليه}.
وتجنب الإشارة إلى المعنى الدقيق والمحدد بشأن }مصادرة ملكية الأراضي}.
- {يجب أن نكون على درجة من الذكاء هنا، فهناك أراض موقوفة}.
- إذن؟.
ـ أعتقد أنني أجبتُ عن سؤالك}.
{أخونا الفلاح}
وبينما يبدو الكاتب الغربي مباشراً وصريحاً - وربما مؤلماً - وهو في طريقه إلى الحقيقة في مصر، يقول إنه ترك صديقه المصري المثقف، الذي يتهرب من الإجابة عن سؤال بشأن مصادرة ملكية الأراضي، بقلب مقبوض، متذكراً مصير الفلاح: {أخونا الفلاح، هذا الإنسان غير المحظوظ، المحتقر، الذي يعمل مثل الكلب ويموت من الجوع، لقد كان ذلك المصير يملأ قلبي بالألم، والسخط والمرارة}.
لقد كان كزانتزاكيس من أوائل المثقفين في العالم الذين رفعوا شعار {العالم الإسلامي يستيقظ}، في وقت مبكر من القرن العشرين، وكان ممن يعتقدون في الدور الرئيسي، الذي يمكن أن تلعبه مصر في هذا العالم، موقعها الجغرافي في محيطها - العربي والإسلامي والإفريقي - واتصالاتها اليومية، وتماسها المباشر مع أوروبا وتقدمها السياسي المتسارع، والثورة الاقتصادية التي حدثت خلال السنوات القليلة الماضية، كل ذلك جعلها أكثر حساسية وتقدمية وجعلها تقف في طليعة المعركة التي يخوضها العالم الإسلامي}.
يعتقد الكاتب أن المسلمين من المغرب إلى الصين، إلى الكونغو، أصبحوا من خلال تواصلهم مع أعدائهم الأوروبيين يدركون معنى الروابط الحميمة العامة، التي توحدهم وهذه الروابط هي الدين، التراث، والمصالح الاقتصادية وبشكل بطيء}، لكن {بالرغم من العقبات، والفهم الخاطئ والمعوقات، نجد أن الوحدة المرعبة بين شعوب العالم الاسلامي بدأت تتجسد أمام عيوننا، وهي قريبة جداً من عيوننا، لدرجة أننا لا نستطيع رؤيتها، وحين نرى شيئاً فإن هذا الذي نراه يكون جزءاً صغيراً منها، لا كلها}.
يقول إن مصطفى كامل وسعد زغلول و{ملك الحجاز الجديد} و{لوثر الجديد} و{ علي جناح}، زعيم المسلمين الهنود، و{غاندي} زميله الحميم في العمل، كل هذه الرموز ليست مجرد شخصيات ممتعة ومشوقة، إنها شخصيات تعبر عن اختمار ثورة استثنائية مرعبة، إنها الأصوات القليلة الواضحة، التي أخذت تعبر عما كان يعجز عن التعبير عنه، أو صياغته العالم الشرقي الإسلامي.
يعدد الكاتب أسباباً أدت إلى إيقاظ الشرق، وتوحيده ضد الغرب، وقال إن هناك عنصرين لعبا دوراً في إيقاظ الشرق، الأول هو وسائل الاتصال الحديثة، التي جعلت كل ما يحدث في هذا العالم يؤثر في قارات العالم جميعاً، والثاني هو تأثير الثورة في روسيا، بتنظيم ثورة شاملة، يعتقد أنها سوف تثير الشرق.
وقال {إن انتصارات الجيوش الشرقية لها صداها المباشر في القارات الخمس كلها، إن انتصارات الجيوش الشرقية في المغرب أو شنغهاي، تنقل مباشرة بفضل وسائل الاتصال الحديثة، وتصل إلى كل الشعوب الشرقية، حيث تشحنها بالحماس والإيمان، وهذه الظاهرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية}.
أما عن روسيا، فهي في رأيه تنظّم ثورةً شاملة، تثير الشرق، وتنظم نشاطاته، وفعالياته، وتثير مشاعر الكراهية لدى الشعوب الشرقية ضد }الرأسمالية الأوروبية والأميركية}، وتسخر الأشياء البسيطة لحملاتها الإعلامية، وتقول إنه يتحتم على كل الشعوب أن تطرد الرأسماليين الذين يستغلونها وأن تصبح هي سيدة أوطانها.

طرد الأجانب

يتخذ الكاتب من مصر نموذجاً في الدفاع عن قدرات الشرق وإمكاناته الهائلة، حيث يعتبر القاهرة مكاناً مثالياً لتقييم إمكانات دول الشرق العربي جميعاً، خصوصاً أن مصر حالفها الحظ كثيراً بموقع جغرافي فريد وإمكانات اقتصادية قوية، ما جعلها تتقدم بفعل الضرورة، خطوات واسعة إلى الأمام.
وأضاف: {انظروا إلى مصر مثلاً، في فترة مبكرة، كان الأجانب هم المؤهلون لاستغلال الثروة، في إدارة مشاريع مصر التجارية، أو بناء مصانعها، أو إنشاء بنوك، أو القيام بالمشاريع التكنولوجية الكبيرة، أما الآن، فإن المواطنين المصريين، قد أخذوا يحلون محل الأجانب في كل مظاهر الحياة الاقتصادية وهم يديرون ذلك بكفاءة عالية، ولا يشعرون أنهم لم يعودواً بحاجة إلى هؤلاء الأجانب فقط، بل إنهم يشعرون بالكره تجاه المعوقات التي يصنعونها في طريقهم، إن الطبقة المدنية الجديدة التي ظهرت إلى حيز الوجود بعد الحرب، وجدت أن هناك حاجة ملحة ومستعجلة للتخلص من الأجانب، خصوصاً أن الثورة الاقتصادية ودخول المواطنين المصريين كعنصر رئيسي فيها، كان له التأثير العميق في الولادة الجديدة لاقتصاد البلد}.
يعترف الكاتب، في ختام زيارة استمرت أسابيع في القاهرة، أنه من الصحيح أنه لا توجد حضارة شرقية الآن، ومن الصحيح أيضاً أن الإنسان الشرقي الذي التقاه في مصر، بسيط وساذج، وأن الزمن قد تجاوزه، لأنه غير مُتكيِّف مع الحياة المعاصرة، ليخلص من وراء هذا الاعتراف، إلى ضرورة أنه لكي يبدع هذا الشرق حضارته الخاصة، فإنه يتحتم عليه - وفق الكاتب - أن يربط نفسه بفعل الضرورة بالغرب وحضارته وصناعته، وأن عليه في البداية أن يكمل مرافقه بالحضارة الغربية، وقد بدأ يضيف الكاتب:
{تبني المواطن الشرقي وسائل التقنية الأوروبية في الإنتاج، الوسائل الجديدة في الصناعة والتجارة، والوسائل التحليلية النقدية في التفكير، وهو مصمِّم على تبني الطريقة الشرقية في الحياة، جنباً إلى جنب مع العلم العربي، فالمستقبل ملك الشعوب التي توفق بين شيئين مهمين: التكنولوجيا الحديثة، والعقيدة الواحدة، ولا يقصد هنا الدين، إنما الاجتماع على {مبدأ مركزي}، ضارب في ضمير الناس، الآن أوروبا هي الأولى، والشرق يحل في المرتبة الثانية وقد بدأ الشرق خاصة في فترة ما بعد الحرب، يدخل إلى عالم التكنولوجيا وبدأ يصبح منظماً أما أوروبا فإنها تسعى نحو نهايتها بثبات، وتفقد كل مبدأ مركزي يجمعها، إن الحرب العالمية القادمة لا محالة سوف تتبدد هنا، أجل هنا بكل احتمالاتها وعنفها، وعندها سينتقل مصير العالم من الغرب إلى الشرق}.
يلحظ الكاتب بفطنته التي لا تغيب، أن المصريين يتميزون بالهمة في التعلم، على الرغم من أنهم كانوا تعودوا أن تكون التجارة في أيدي الأجانب، يلاحظ أن المواطن المصري يتعامل مباشرة مع الشركات الأوروبية، حين أجبروا على تبني طرق التمويل الأوروبية، حيث يقف الموظف المصري، لكي يوقع فواتير المبادلات التجارية، ويبني البنوك ويدخل إلى عالم الحداثة، يقول الكاتب:
{الصناعة كانت في السابق بدائية، فالصناعات الخشبية، والحديدية، والنحاسية، والقطنية كانت تعمل بأدوات تعود إلى القرون الوسطى، أما الآن فقد قام المواطنون باستيراد الآلات الأوروبية، وبنوا المصانع واتبعوا الوسائل الهندسية المتقدمة، والآن يمتلكون المدارس التجارية، ومدارس المعاملات التجارية، وتغيرت وسائل النقل، السيارات تسللت إلى كل مكان وربطت المدن في النهاية مع بعضها البعض بشبكة المواصلات، ونفذت الأفكار والأساليب التجارية بشكل تام}.
يلحظ الكاتب أن المجتمع المصري، بات في النصف الأول من القرن العشرين يعرف أهمية التعدد الطائفي والديني، ويتعايش معه على أفضل نحو ممكن، ويحيل ذلك إلى أسباب اقتصادية، يقول: {اختفى نظام تعدد الزوجات وزادت نسبة الزيجات بين الرجال المسلمين، والنساء الأوروبيات هنا العائلات التي تنتمي إلى طوائف مختلفة، تعيش تحت سقف واحد، وأغلب هذه العائلات مسلمة ومسيحية، وهذا شيء لم يكن يُسمع به من قبل، ونتيجة لهذا التواصل الذي تسبب فيه اقتصاد ما بعد الحرب، تبدَّلت التقاليد الراسخة وتغيرت الأفكار واتسعت المدارك}.

كفافي مسك الختام

في ختام رحلته، أراد الكاتب اليوناني أن يستعيد جزءاً من اليونان منسياً في مصر، فذهب إلى بيت الشاعر السكندري المولد اليوناني الأصل، قسطنطين كفافي Cavafy، الذي يعتبره أهم الرموز الثقافية الفذة النادرة في مصر، وأخذ يحكي كيف جلس أمامه إلى إحدى الطاولات الصغيرة، في داره الفخمة الرحبة، يقول:
{كنت أحاول استجلاء طلعته في ذلك الضوء الخافت الشحيح، وكانت الطاولة بيننا مملوءة بكؤوس الويسكي و{الماستيما} وهي عرق مصري مصنوع من التمر، كنا نشرب، لقد تحدثنا عن أناس مختلفين وعن أفكار شتى، كنا نضحك، ونغرق في الصمت، وبعد قليل من الجهد نعود إلى الحديث مرة أخرى، وكنت أحاول أن أخفي عواطفي وانفعالاتي، وسعادتي خلف قناع الضحك، فهناك يجلس أمامي الرجل الكامل الذي يمثل بهدوء إنجازه الفني بكل كبرياء، إنه ذلك الشيخ الزاهد الذي قهر حب الاستطلاع، والطموح، والحسية، وأخضعها إلى نظام الزهد الأبيقوري القاسي}.
يعتقد الكاتب كزانتزاكيس، أن كفافي، ربما ولد كاردينالاً في فلورنسا في القرن الخامس عشر، أو عمل مستشاراً سرياً للبابا، كمبعوث شخصي في قصر دوق {فينيسيا}، يقضي سنوات عمره يشرب، ويحب، ويقضي وقته حول القنوات، يكتب، يحتفظ بصمته، ويناقش أعظم الشياطين، ويتورط في القضايا الفضائحية للكنيسة الكاثوليكية.
يقول إنه تبين ملامح كفافيس في العتمة في الديوان، فبدت {تعابيره في نفس الوقت، شيطانية ماكرة، وتهكمية قوية، أما عيناه السوداوان الجميلتان، فإنهما تلمعان فجأة حين يسقط عليها شعاع قليل من ضوء الشموع، ثم تتغيران مرة أخرى، فتبدوان صافيتين، ذابلتين، متعبتين.
وأضاف {أما صوته فقد كان ينبض بالتكلف والتصنع والألوان، وقد كنت مسروراً أن روحه الحكيمة الماكرة، اللعوب، المداهنة، المنمقة، الفاتنة، قد انعكست في هذا الصوت، كل كلمات الوداع في قصيدته التي يودع فيها الإسكندرية:
{عندما تسمع فجأة عند منتصف الليل
مجموعة لامرئية وهي تعبر
تعزف موسيقاها الرقيقة وصرخاتها المنطلقة،
لا تتفجع على حظك الذي يوقع بك الآن،
وأعمالك التي فشلت،
وخطط حياتك التي استحالت إلى أوهام،



كأنك كنت تعد لذلك منذ مدة طويلة،
تقدم إلى النافذة بخطوة ثابتة،
واستمتع بعواطفك لكن بلا توسلات،
استمع إلى الأصوات وكأنها المتعة الأخيرة،
استمع إلى الآلات الموسيقية المرهفة،
لهذه الفرقة الغامضة،
وقل لها وداعاً
للإسكندرية التي أفتقدها}.
 
جولات في الشرق 4: إدوارد لين يتحدث عن مصر: الجن يقيم سوقاً ليلياً وسط القاهرة



الأحد 21 يونيو 2015 - الساعة 00:02
نتجوَّل اليوم في الحلقة الرابعة من «رحلات إلى الشرق» مع الباحث والمستشرق البريطاني، إدوارد لين في شوارع القاهرة منتصف العشرينيات من القرن التاسع عشر، أي قبل نحو مئتي عام إلا قليلاً من الآن، ويعتبر لين مؤسساً لنظرية الاستشراق التقليدية في الثقافة الغربية، لأنه من أوائل الذين اهتموا بالتراث وتاريخ المصريين من باحثي الغرب.
والحق أن إدوارد لين وأسرته، مثلوا أهم مدرسة استشراقية عن مصر تقريباً في بريطانيا، وربما في أوروبا كلها، خلال العصر الحديث، فقد كتبت شقيقته صوفيا بول كتاب {حريم محمد علي» وكتب أحد أحفاده «ستانلي لين بول»، عدداً من أهم الكتب عن مصر، منها «سيرة القاهرة» ومنها أيضاً «تاريخ مصر في العصور الوسطى».
يحتفظ الكاتب البريطاني إدوارد وليم لين، الذي تعلم في باث ومدارس هيرفورد الثانوية، لمصر بمحبة خاصة وملحوظة، في كثير جداً من كتاباته عن حياة المصريين، وهو واحد من المولعين بحب مصر، واستطاع أن يمد طرف هذه المحبة، إلى كل المحيطين به، من أخته إلى أقاربه وأحفاده، إلى حد أن واحداً من هؤلاء، كان في مصر، بعد ثورة 25 يناير 2011، وكتب عن مقاهي القاهرة، في أحد المواقع الإخبارية البريطانية ...

1434807132_08_3-1.jpg

1434807131_76_1-2.jpg

1434807131_9_2-1.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
والحق أن الرجل كان معنياً بالشأن المصري، منذ 1825 حين زار القاهرة أول مرة، وكتب مقالاته التي صدرت في كتاب «إنكليزي يتحدث عن مصر» ترجمة فاطمة محجوب، والصادر في الستينيات من القرن الماضي، والذي نحكي سطوره هنا في هذه الرحلات إلى الشرق، لكن كتابه الأهم هو «المصريون المحدثون عاداتهم وتقاليدهم» الذي صدر في عدة طبعات مصرية، من ترجمة طاهر نور، والذي يروي فصولاً من زيارته لمصر مرة أخرى 1836، في عهد محمد علي باشا، وهو الكتاب الأهم، في سرد حكايات المجتمع المصري وعاداته وتقاليده، خلال القرن التاسع عشر.
ولأنه مستشرق يعرف قيمة عمله، حرَّض أخته صوفيا، على كتابة مشاهداتها في بلاط الباشا حاكم مصر، فكتبت «حريم محمد علي باشا – رسائل من القاهرة (1842 – 1846)» والذي كان عنوانه الأصلي هو «المرأة الإنكليزية في مصر».
الكاتب يبدأ ملاحظات لحياة المصريين من المنطقة التي يراها أكثر تعبيراً عن وجدانهم، وهي منطقة الاحتفالات التي تقام في القاهرة، حيث تتضح أبرز عادات «المصريين وأكثرها غرابة»، كما يقول، ومعظم هذه الاحتفالات تقام في مواسم معينة من السنة القمرية.
يقول :{تعد الأيام العشرة الأولى من شهر المحرم، خاصة اليوم العاشر، أياماً مباركة يمجدها المصريون، وتباع فيها «الميعة المباركة»، التي يستعملونها في السنة الجديدة، لدفع أذى العين، كلما دعا داع إليها، ومن عادة المصريين أنهم يدفعون صدقة في شهر المحرم، وفي الأيام العشرة الأولى واليوم العاشر منه على وجه الخصوص، وفي تلك الأيام تخرج كثير من النساء في مدينة القاهرة، حتى أولئك اللائي ينتمين إلى أُسر محترمة، كل واحدة تحمل طفلها على كتفها، أو تحمله لها امرأة أخرى، وتستوقف كل رجل حسن الهندام، وتسأله أو تدع الطفل يسأله صدقة، فتقول أو يقول: يا سيدي... زكا العشر... فيدفع الرجل لها خمسة فضة، والنقود التي تجمع بهذه الطريقة، يشترين بها حلوى وما إليها، ولكنها في العادة تحاك في طاقية الطفل، كتعويذة تقيه شر الحسد حتى يأتي العام التالي».
زكاة الجن

كالعادة، لا يستطيع الكاتب البريطاني، أن ينظر إلى المصريين، من دون أن يتأمل في عاداتهم ومعتقداتهم، الدينية وغير الدينية، وقد كان المصريون، في هذا الزمن قد خرجوا لتوهم من عصور السيطرة العثمانية، فقد نجح نابليون بونابرت، في غزو مصر، بين عامي 1798 و1801، وفي تغيير الكثير من عادات المجتمع المصري المحافظ، إلا أنه ظل يفكر بالطريقة نفسها التي ورثها من القرون الوسطى، حيث تؤمن النساء في مصر، وفي مدينة القاهرة بصفة خاصة، بخرافات عجيبة تتعلق بالأيام العشرة الأولى من شهر المحرم.
يرصد الكاتب قناعات المصريات، في قدرات الجن والكائنات غير المنظورة بشكل عام، ويقول إن الجن كانت تزور بعض الناس، ويظهر أحد هؤلاء «الجن»، على هيئة سقا، ويسمى في هذه الحالة «سقا العشر»، مصطحباً معه بغلاً، يسمى «بغل العشر»، من أجل أن يترك الذهب للمواطنين الذين يختارهم الجن، وفي المعتقد أن الجن يدفع بهذه الطريقة زكاته.
يقول :{حين يجيء الجني في هيئة السقا، يطرق باب حجرة النوم، فيقول النائم: من هناك؟ فيجيب السقا قائلاً:
- أنا السقا... أفرغ فين؟
فيدرك النائم أنه من الجن، إذ لا يأتي السقا بماء في الليل، ولذلك يرد:
- فرَّغ في الزير.
وحين يخرج الرجل إلى الزير، يجدها مليئة بالذهب، أما الجني الذي يتخذ شكل البغل، فيصفونه وصفاً عجيباً أخاذاً، فهو يحمل خرجين مليئين بالذهب، وعلى ظهره رأس رجل ميت، وحول عنقه خيط به أجراس صغيرة يهزها لدى باب حجرة نوم من يذهب إليه ليجعله ثرياً، فيخرج إليه ذلك المحظوظ، فيزيح رأس الرجل الميت ويفرغ الخرجين مما بهما من أشياء ثمينة، ثم يملأهما بالقش أو النخالة أو غيرهما، ويعيدهما ورأس الميت إلى موضعهما من البغل، ثم يقول له: اذهب يا مبارك. وهذه هي الطريقة التي يدفع بها الخيرون من الجن زكاتهم. وكم من امرأة جاهلة تبتهل إلى الله في الأيام العشرة الأولى من شهر المحرم، وهي تقول: يارب ابعت لي سقا العشر. أو تقول: ابعت لي بغل العشر... أما الرجال فيضحكون من تلك الخرافة».
ويستمر في رصد معالم الخرافة المصرية، المرتبطة أصلاً بالعقلية المصرية الخارجة لتوها من عصور الظلام الطويلة التي عاشتها، في ظل حكم الدولة العثمانية، التي فرغت المجتمع المصري، من أبرز العقول والمواهب في الصنائع والحرف، بغية إمداد العاصمة العثمانية بالصناع المهرة، بينما كان يترك المصريون عرايا إلا من خرافاتهم.
يشير الكاتب إلى أن بعض الناس من أهل القاهرة، يعتقدون أن جماعة من الجن يظهرون على هيئة بشر، ويلبسون لباسهم، وأن هذه المجموعات اعتادت أن تقيم سوقاً في الأيام العشرة الأولى من شهر المحرم، في شارع يسمى «الصليبة»، في الجزء الجنوبي من العاصمة أمام «ناووس» قديم، كان يسمى «الحوض المرصود»، وكان هذا السوق يقام في منتصف الليل، وكان الناووس في فجوة، تقع تحت عدد من السلالم، تقود إلى باب مسجد مجاور للقصر القديم، الذي يُعرف بقلعة الكبش، وقد نقله الفرنسيون أثناء احتلالهم لمصر، وهو الآن في «المتحف البريطاني».
يقول :{يقال إنه منذ نُقل الناووس لم يعد الجن يقيمون سوقهم، وقد قيل لي إن قليلاً من الناس هم الذين كانوا على علم بتلك العادة، وكل من مرّ، بطريق المصادفة، في الشارع الذي يقيمون فيه السوق فاشترى منهم شيئاً، سواء كان بلحاً أو فاكهة أخرى، أو كعكاً أو خبزاً، تحول ما اشتراه في الحال إلى ذهب».

«طلعة المحمل»

ولأن مصر تحولت في القرون الوسطى، إلى مجرد ولاية مهضومة الحقوق من ولايات الدولة العثمانية، مترامية الأطراف، فقد كان المؤلف حريصاً على ذكر العادات المصرية، التي كان منها الاحتفال بيوم العاشر من المحرم يسمى «يوم عاشورة»، ويقول إنه يوم يقدسه المسلمون لعدة أسباب، لأنه اليوم الذي التقى فيه آدم وحواء، بعد خروجهما من الجنة، واليوم الذي خرج فيه نوح من الفلك، ويقال أيضا إن أحداثاً عظيمة وقعت في ذلك اليوم، كما أن العرب قبل زمن النبي كانوا يصومونه، ويضيف المؤلف: «لكن الذي يضفي على ذلك اليوم تلك القداسة الكبيرة، هو في رأي معظم المسلمين المحدثين – خاصة أهل فارس – أنه اليوم الذي قتل فيه الحسين حفيد الرسول مستشهداً في موقعة سهل كربلاء، وكثيرون من المسلمين يصومون هذا اليوم، وبعضهم يصوم أيضاً اليوم الذي يسبقه».
ومن الإيمان بالجن، إلى عادة الاحتفال بقافلة الحج العائدة من الأراضي الحجازية، حيث اعتمد المصريون طرقاً متشابهة في الاحتفال إلى اليوم حيث يدهن بيت الحاج، وتزخرف منازل الحجاج في الريف المصري إلى اليوم، ويكتب الرحالة إدوارد لين بول قصة العودة من الحج، وطرق الاحتفال بها منذ حوالي مئتي عام.
يقول إنه في أواخر شهر «صفر»، تصل إلى القاهرة قافلة الحجاج المصريين، عائدة من مكة، وتحمل اسم «نزلة الحج»، وقبل عودة القافلة بأربعة أو خمسة أيام، يصل «شاويش الحج»، الذي يسبق القافلة ومعه أعرابيان، يركب كل منهم هجيناً سريعاً ليعلنوا قدوم الحج، واليوم الذي يتوقع فيه وصوله، ولكي يسلموا الرسائل التي يحملونها من الحجاج إلى أصدقائهم، حيث يصيح شاويش الحج ورفيقاه فيمن يعترضون طريقهم من المارة قائلين: «الصلاة على النبي» أو يقولون: صل على النبي. وكل من يسمع قولهم هذا يقول: {اللهم صل عليه».
يقول :{يتقدم ثلاثتهم نحو القلعة، ليبلغوا الباشا أو نائبه نبأ اقتراب قافلة الحج، ويقسم الشاويش ما يحمله من رسائل – فيما عدا ما يخص الكبراء والأثرياء منها – إلى حزم، يبيع كل حزمة بمقدار، يوزعونها على أصحابها ويأخذون منهم الهدايا، وقد لا يأخذون شيئاً فيخسرون الصفقة، أما الشاويش فيوزع على الكبراء والأثرياء رسائلهم، فيعطونه المنح السخية من مال أو شيلان أو غيرها، وكثير من الحجاج يأتون معهم بالهدايا من الأرض المقدسة، ومن هذه : الماء من بئر زمزم، وقطع من كسوة الكعبة، وتراب من قبر الرسول على شكل قرص صلب، كما يأتون باللبان والليف، وعود الند والسبح، والمساوك والكحل والشيلان، وغير ذلك مما يُصنع في الحجاز، وأشياء مختلفة مما يصنع في الهند».
يرصد الكاتب «طلعة المحمل» التي يعرفه المصريون منذ قرون طويلة، فقد كانت مصر هي التي تتكفل بكسوة الكعبة، وكان موكب الكسوة يخرج مع الحجاج المصريين، وكان أعيان مصر مسلمين ومسيحيين يسهمون بالمال في تجهيز الكسوة، التي كان يقوم على حياكتها مجموعة من أمهر صناع الخيامية.
يقول الكاتب البريطاني: «في صباح اليوم التالي من عودة قافلة الحجاج، إلى العاصمة، تحتفل البلاد بعودة المحمل، ويسير موكب المحمل من الحصوة إلى القلعة، مخترقاً شوارع العاصمة، ويُحكى أن السلطان الظاهر بيبرس ملك مصر، هو أول من أرسل محملاً مع قافلة الحجاج إلى مكة، في سنة 670 هجرية، ولكن يقال إن تلك العادة ترجع في أصلها إلى بضع سنوات سبقت اعتلاءه العرش، فقد أدت «شجر الدر»، وهي جارية تركية اتخذها السلطان الصالح نجم الدين زوجة له وأصبحت أثيرة لديه، فريضةَ الحج في هودج عظيم يحمله جمل، وظل هودجها بعد ذلك يصحب قافلة الحجاج فارغاً بضع سنين تلت، حتى يكون للموكب صبغة رسمية، ثم تعاقب الأمراء على حكم مصر، وكان كل منهم يرسل مع قافلة الحجاج في كل عام هودجاً أطلق عليه اسم المحمل، كشعار للملكية».

{الدوسة}

ويبدو أنه كان من الطبيعي، في هذا الوقت المبكر الذي زار فيه لين بول مصر، أن تلفت نظره كمية العادات الشعبية والدينية المرتبطة بالثقافة الإسلامية في مصر، نظراً إلى غرابتها على الذهن الغربي عموماً.
يقول بول إنه في شهر ربيع الأول من كل عام، تبدأ البلاد الاستعداد للاحتفال بمولد النبي، ويقام الاحتفال عادة في الجزء الجنوبي الغربي من الفضاء الواسع المعروف بـ{بركة الأزبكية»، وهذا الفضاء تغمره مياه النيل في موسم الفيضان، فيتحول إلى بركة، وحينذاك يقام الاحتفال بمولد النبي على حافة البركة، ولكن البركة جافة هذا العام، ولذلك يقام الاحتفال فيها، وينصب الدراويش «صواوينهم» التي يقيمون فيها الأذكار كل ليلة، وهو يصف المولد كما رأه عام «1250 هجرية – 1834 ميلادية».
يقول: «في أثناء النهار، يتجمّع الناس في مكان الاحتفال، يستمتعون بالاستماع للشعراء الذين يروون سيرة أبي زيد الهلالي، ويتفرجون على الحواة والبهلوانات والمهرجين، ولا تشترك الغوازي برقصهن في المولد، كما كان الحال من قبل، فقد أرغمن على التوبة والإقلاع عن ذلك، وتشاهد في الشوارع المجاورة بعض الأراجيح بأنواعها المختلفة، وعدد لا حصر له من الدكك التي تباع عليها الحلوى والأطعمة المختلفة، وكان الراقصون على الحبال من الغجر يعرضون ألعابهم في المولد، ولكنهم لا يشاهدون هذا العام، وفي الليل، تتلألأ أضواء المصابيح في هذه الشوارع، وتفتح الدكاكين التي تزخر بالأطعمة والحلوى أبوابها طوال الليل، وكذلك المقاهي التي يتسلى الناس فيها بالاستماع للشعراء والمحدثين، وبعد منتصف الليل تمر مواكب الدراويش، وهم لا يحملون الأعلام التي يحملونها أثناء النهار، وإنما يحملون سواري طويلة، تنتهي في أعلاها بعدد من المصابيح. وهذه هي «المناور». ويسمي موكب الدراويش «الإشارة» سواء كانوا يحملون الأعلام نهاراً أو المناور ليلاً».
ويروي الكاتب أنه في اليوم السابق لليلة المولد، ذهب إلى الأزبكية قبل الظهر بنحو ساعة، فلم يجد إلا قليلاً من الناس، ولم يكن هناك من وسائل التسلية سوى اثنين أو ثلاثة من الحواة والمهرجين والشعراء، تجمع حول كل منهم عدد من المتفرجين والمستمعين، ثم أخذ الزحام يشتد شيئاً فشيئاً، ذلك لأن الناس سيشهدون اليوم مشهداً عجيباً أخاذاً، وهو مشهد يجتذب إليه في مثل هذا اليوم من كل عام، جماهير غفيرة من كل حدب وصوب، ذلك المشهد هو ما يُعرف « بالدوسة».
ويصف الكاتب ظاهرة "الدوسة" الصوفية المصرية من خلال علاقته ببعض المصريين ومنهم صديقه {السيد محمد المنزلاوي} ـ شيخ الدراويش السعدية، وخطيب مسجد الحسين ـ ففي الليلة السابقة لليلة المولد، يقول إن محمد المنزلاوي خلا إلى نفسه، يردد أدعية وابتهالات معينة وآيات من القرآن، وبعد أن انتهى من قراءاته، خرج من الخلوة وذهب إلى مسجد الحسين ليلقي الخطبة، ويؤم الناس في الصلاة، إذ اليوم يوم الجمعة، ويقول إدوارد لين:
{حتى إذا قُضيت الصلاة، ذهب السيد المنزلاوي راكباً إلى منزل الشيخ البكري، الذي يرأس جميع طوائف الدراويش {الصوفية} في مصر، ويقع منزل الشيخ البكري في الجزء الجنوبي من بركة الأزبكية، وفي طريقه، كانت تنضم إليه طوائف عديدة من الدراويش السعدية، من أحياء متفرقة من العاصمة، وأهل كل حي يحملون علمين، والشيخ المنزلاوي رجل مسن، أشيب اللحية، لطيف المحيا، تلوح عليه مخايل الذكاء، كان يرتدي في ذلك اليوم {بنش} أبيض اللون، وفوق رأسه {قاوون} أبيض، تلتف حوله عمامة من موسلين زيتوني قاتم، يكاد يبدو أسود اللون. وفي الجزء الأمامي منها شريط من الشاش الأبيض، ربط ربطاً مائلاً، ويركب جواداً متوسط الارتفاع والوزن}.
والمشهد الذي لفت انتباه الكاتب هو إلقاء نحو 60 رجلاً من الرجال الكبار في السن والشباب على حد سواء أنفسهم على الأرض {دخل الشيخ بركة الأزبكية، يسبقه موكب هائل من الدراويش الذين ينتمون إلى طائفته، ثم توقف الموكب على مسافة قصيرة من بيت الشيخ البكري، وقد أخذوا يلقون أنفسهم على الأرض، الواحد إلى جانب الآخر متلاصقين، ظهورهم إلى أعلى، وأرجلهم ممددة، وأذرعهم منثنية تحت جباههم، وكلهم يردون بلا انقطاع كلمة الله}.
ويقول إن نحو اثني عشر درويشاً أو أكثر، أخذوا وقد خلعوا نعالهم، يجرون فوق ظهور زملائهم المنبطحين على وجوههم، وبعضهم يضرب على الباز، وهم يصيحون قائلين: الله. ثم اقترب الشيخ، وتردد الجواد بضع دقائق، وأحجم عن أن يطأ أول رجل منبطح أمامه، فأخذوا يدفعونه ويستحثونه من خلفه، حتى أطاع في النهاية، وأخذ في غير خوف ولا وجل يمشي فوق ظهورهم جميعاً مشية الرهوان، في خطوة قوية، يقوده رجلان كانا يجريان فوق المنبطحين من الرجال، ويدوس أحدهما فوق الأقدام، والآخر فوق الرؤوس، وانطلق المتفرجون في صيحة طويلة يقولون: الله.. لا لا لا لا لا لاه، ولم يصب أحد من المنبطحين بأذى.
 
جولات في الشرق (5): إدوارد لين في مصر: {صوفية} يأكلون النار في الشوارع



الاثنين 22 يونيو 2015 - الساعة 00:02
نتجوَّل مع الباحث والمستشرق البريطاني، إدوارد لين في شوارع القاهرة بمنتصف عشرينيات القرن التاسع عشر، أي قبل نحو مئتي عام إلا قليلاً من الآن.
في هذه الحلقة يتوسع الكاتب في رؤيته للشارع المصري، في زمن محمد علي، حيث يرصد العادات الدينية المتعلقة بشهر رمضان وليلة الرؤية ومولد الحسين وعادة وفاء النيل وعروس النيل، الأمر الذي يجعلنا نظن أن الكاتب يكاد يصف ما يحدث في كثير من أيامنا هذه في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
والحق أن إدوارد لين وأسرته، مثلوا أهم مدرسة استشراقية عن مصر تقريباً في بريطانيا، وربما في أوروبا كلها، فقد كتبت شقيقته صوفيا بول كتاب «حريم محمد علي» وكتب أحد أحفاده «ستانلي لين بول»، عدداً من أهم الكتب عن مصر، منها «سيرة القاهرة» ومنها أيضاً « تاريخ مصر في العصور الوسطى».

1434889505_28_2.jpg

1434889505_1.jpg

1434889505_14_3-2.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
يستكمل الكاتب والمؤرخ البريطاني، أحد مؤسسي المصريات في الثقافة الأوروبية، إدوارد وليم لين، حديثه العاشق عن الشرق، في كتابه، «إنكليزي يتحدث عن مصر»، مستعرضاً المزيد من عادات المصريين وتقاليدهم، وهو هنا يستعرض احتفالاتهم في مناسبات دينية عدة، منها حلقات الذكر المصاحبة لمولد «الحسين»، أحد أهم «الموالد الشعبية» المصرية إلى اليوم، كما يستعرض عادات شهر رمضان الكريم، وعيد الفطر المبارك، خلال زيارته للقاهرة، عام 1836، إبان حكم محمد علي.
يسرد الكاتب قصة الدراويش، الذين يقفون في حلقات الذكر، يوم «مولد النبي»، منذ مئات السنين وإلى اليوم، ويقول: «نحو عشرين رجلاً منهم، وقفوا أمام «الشيخ البكري»، على شكل نصف دائرة فوق الحصير، ووقف حولهم خمسون أو ستون رجلاً، وتقدم منه ستة من الدراويش، ووقف حولهم خمسون أو ستون رجلاً، ابتعدوا عن نصف الدائرة نحو ياردتين، ثم بدأوا في الذكر، وأخذوا جميعاً يصيحون في وقت واحد قائلين: «الله حي»، ويضرب كل منهم عند صيحته تلك بسير قصير من الجلد على الباز، الذي يمسكه بيده اليسرى من عقدة في أسفله، وظلوا يفعلون ذلك لبضع دقائق، ثم اندفع إلى وسط الدراويش عبد أسود أصبح «ملبوساً» وأخذ يصيح: «الله... وأمسك به أحد الناس، وما لبث أن أفاق... ثم بدأ الدراويش كلهم، الذين يقفون في نصف الدائرة، في ذكر جديد».
هنا يصيح كل «ذكير» على التوالي قائلاً: الله حي، ويرد الباقون قائلين: يا حي... وعند كل صيحة ينحنون مرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال.. وأخذوا يفعلون ذلك بعض دقائق، ثم تغيرت الصيحة، فأخذ كل منهم يقول على التوالي: «دايم»، فيرد الذكيرة «يا دايم»، ثم توقف الذكر، وأخذ أحد الناس يتلو بعض آيات من القرآن.

العيسوية

يقول الكاتب، إنه في شهر ربيع الآخر يقام «مولد الحسين»، وهو أشهر الموالد بعد مولد النبي في مصر، ويظل الاحتفال به قائماً خمس عشرة ليلة، وأن الليلة الكبيرة هي ليلة (الأربعاء)، وفي كل ليلة من تلك الليالي، يُضاء مسجد «الحسين» ـ الكائن في منطقة «مصر القديمة» إلى الآن ـ بعدد هائل من المصابيح والشموع السميكة، والتي قد يصل طول بعضها إلى خمس أو ست أقدام.
يقول الكاتب الإنكليزي، إن إضاءة المسجد توزع مسؤوليتها بدقة، بين عدد من المسؤولين وبين أفراد الشعب العاديين، «ففي الليلة الأولى يتولاها ناظر المسجد من الأموال المخصصة للمسجد، وفي الليلة الثانية يتولاها حاكم العاصمة، وهو في الوقت الحاضر حبيب أفندي، وفي الليالي التالية يتولاها مشايخ الدراويش من طرق معينة، وبعض كبار موظفي المسجد والأثرياء من أفراد الشعب، وأصحاب الدكاكين التي تبيع المأكولات والشربات، وكذلك المقاهي المجاورة للمسجد».
الحياة الصاخبة، التي رصدها الكاتب في القاهرة، قبل مئتي عام لا تزال قائمة إلى اليوم بنفس الكثافة وربما بكثافة أكبر، فهو يقول إن الشوارع المجاورة لمسجد الحسين تسهر حتى الصباح فاتحة أبوابها، وإن الشوارع التي حول المسجد تعجّ بأناس يتسكَّعون، أو يستمعون للمغنين والشعراء، وإن المسجد يكون غاصاً بالزائرين، يقول: «وفي ناحية من الرواق الكبير، نرى جماعة من الناس يجلسون على الأرض في صفين، كل صف يواجه الآخر، وهم جميعاً يتلون سوراً من القرآن، وهذا هو ما يعرف «بالمقرأ»، وقد يكون بالمقرأ عدة جماعات أخرى، بعضها تقرأ أدعية بعينها، وبعضها تكوّن حلقة «دلائل الخيرات» بالابتهالات والصلوات على النبي، وهنا وهناك جماعات أخرى، منها ما يقرأ أدعية، ومنها من يكون حلقة للذكر.. وبين هؤلاء وهؤلاء جميعاً، يسير الزوار أو يجلسون على الحصير، وقد جاءوا إلى ذلك المكان الطاهر يدفعهم تدينهم وتقواهم... أو يدفعهم حب الاستطلاع، أو الرغبة في التسلية والترفيه عن أنفسهم».
يستكمل الكاتب رحلته الطويلة وسط دراويش الصوفية، ليلة «مولد الحسين»، حيث يمر موكبهم الذي يسمى «الإشارة»، مخترقاً شوارع العاصمة، حتى يصل إلى مسجد الحسين، يسبقه رجال يضربون بالطبل والزمر والصنجان، ويشترك في الإشارة حاملو المشاعل الذين قد يحملون أيضا فانوساً أو أكثر، يقول إنه دخل المسجد فوجده أشد ازدحاماً من الليالي السابقة، وكان يتردد في جنبات الرواق الكبير طنين عال مُختلط، وتناهت إلى سمعه من الطرف الآخر من الرواق أصوات الدفوف، يضرب عليها بعض الدراويش من طائفة «العيسوية» (طائفة من الدراويش، جلهم من المغاربة، وينسبون إلى أول شيخ لهم سيدي محمد بن عيسى، وكان مغربياً) يقول الكاتب إنه في هذه اللحظة شق طريقه إليهم، حيث كان الوقت بعد الغروب بنحو ثلاث ساعات.

أكلة النار

وفي مولد الحسين، تقدم طائفة العيسوية على الكثير من العجائب، مثل أكل الزجاج والنار، ومن أشهر آكلي الزجاج والنار من العيسوية الحاج محمد السلاوي، يقول الكاتب: «العيسوية يأتون أعمالاً خارقة، تبعث على العجب، فقد رأيت عشرين من هؤلاء الدراويش، في ملابس متباينة، يجلسون على الأرض متلاصقين، على شكل حلقة، إلى جوار الحائط الأمامي للمسجد، وكان كل منهم – فيما عدا اثنين – يضرب على «طار» كبير، وحين بدأ الطبل اندفع ستة من الدراويش كانوا يقفون أمام الحلقة، في رقصة عجيبة، وهم يصيحون قائلين «الله» أو «الله مولانا»، ولم يكن في رقصهم اتساق ولا نظام، فكانوا يقفزون إلى أعلى ثم يهبطون، ويلفون ويدورون، ويلوحون بأيديهم بإشارات عجيبة، وفي بعض الأحيان يصرخون ويعولون، يرتدون الملابس العجيبة، فقد كان أحدهم يلبس قفطانا بلا أكمام، أو منطقة، ورأسه عار وشعره لم يحلق منذ أسبوع، وكان آخر يلبس فوق رأسه طاقية بيضاء، ولكن جسمه من الرأس إلى الوسط كان عارياً، ولم يكن يرتدي سوى سروال فضفاض».
ويتابع: «أخذ أولهما، وهو رجل أسمر نحيل في أواسط عمره، يرقص هذا الرقص العجيب بضع دقائق، وأخذت حركاته تزداد عنفاً، ثم اندفع إلى داخل الحلقة التي يقف فيها الدراويش ممن يضربون على الدفوف، وفي وسط الحلقة وضع «منقد» مليئا بالفحم المتقد، واندفع الرجل فاختطف منه قطعة متوهجة وألقى بها في فمه، ثم أتبعها بثانية وثالثة ورابعة، حتى امتلأ فمه، ثم أخذ يمضغها في أناة وعلى مهل.. وهو يفتح «فاه» مع كل مضغة، حتى يرى الناس ما فيه، وبعد نحو ثلاث دقائق ابتلع الفحم المتوهج دون أن يبدو عليه أثر من ألم.. بل إنه بدا وهو يمضغه، وبعد أن ابتلعه، أكثر نشاطاً وحيوية».
ويكمل: «أما ثانيهما، الذي كان عاري الجسم إلا من سراويل، فقد كان جسمه قوياً بديع التكوين، وكان في مقتبل العمر، وأخذ يرقص كما رقص زميله، ثم أخذت حركاته تزداد عنفاً، حتى بلغ به الحماس مبلغاً جعل أحد زملائه من الدراويش يمسك به، ولكنه تخلص من قبضته، واندفع نحو المنقد فانتزع أكبر قطعة من الفحم فيه وألقى بها في فمه... وظل فاغراً فاه نحو دقيقتين، وكانت قطعة الفحم وهو يشهق تبدو بيضاء من شدة سخونتها، وحين يزفر يخرج من فيه شرر لا حصر له.. ثم أخذ يمضغها، وما لبث أن ابتلعها.. وعاد إلى الرقص من جديد.. واستغرق هذا كله من الدرويشين نصف ساعة.. ثم توقف الضرب على الدفوف لكي يستريحوا».
يحكي الكاتب قصة الليلة التي يتوقع أن يبدأ صبيحتها شهر رمضان، والتي لا تزال تسمى ليلة «الرؤية»، راصداً الطرق البدائية التي كان المصريون يصومون على أساسها الشهر الكريم، ففي زمن الكاتب، كان يُرسَل عدد من الأشخاص إلى مسافة تبلغ بضعة أميال في الصحراء، أثناء النهار – بعد الظهر أو قبل ذلك – حيث الهواء شديد الصفاء، لكي يشاهدوا هلال الشهر الجديد، فإذا رأوه يبدأ الصوم في اليوم التالي، فإذا حالت دون رؤيته سحب في السماء، فإن الصوم يبدأ بعد مرور ثلاثين يوماً من بدء الشهر السابق.
في المساء ـ يقول الكاتب ـ فإن موكب الرؤية، كان يبدأ ويسير فيه المحتسب، ومشايخ الحرف المختلفة، وهم مشايخ الطحانين والخبازين والجزارين والزياتين والفكهانية، ومعهم عدد من أهل هذه الحرف، وجماعة من الموسيقيين وبعض الفقراء، ومجموعات من الجنود، حيث يسير الموكب من القلعة إلى ساحة بيت القاضي، في انتظار عودة من ذهبوا لرؤية الهلال، أو قدوم أحد من المسلمين يشهد برؤيته.

المسحراتي

يستكمل الكاتب قصة العادات الشعبية المصرية الصاخبة في شهر رمضان، والتي رصدها لنا الكاتب البريطاني، منتصف القرن التاسع عشر، واصفاً العادات التي لا يزال المصريون يفتخرون بأنهم حافظوا عليها تقريبا بنفس درجة الحماسة واليقين الديني، التي رصدها كاتبنا منذ مئتي عام تقريباً.
يقول إن المجتمع المصري كان يحتفي ومنذ عشرات السنين بقدوم شهر رمضان الكريم، بشكل استثنائي فحين يصل نبأ رؤية الهلال إلى ساحة القاضي، يقسّم الجنود ومن معهم أنفسهم إلى مجموعات، تعود إحداها إلى القلعة، أما الباقون فيطوفون بأحياء مختلفة من المدينة، وهم يصيحون: «يا أمة خير الأنام صيام صيام»، وإذا لم تثبت رؤية الهلال في تلك الليلة، تكون الصيحة هي: «غداً من شهر شعبان.. فطار... فطار»، أما إذا كان الغد صياماً، فإن الناس يقضون شطراً كبيراً من الليل يأكلون ويشربون ويدخنون، وهم فرحون مستبشرون.
يقول: «في كل ليلة يطوف «المسحراتي» على بيوت المسلمين، الذين يتوقع منهم المنح والعطاء، فينشد من القول ما فيه مديح وإطراء لهم، ثم يطوف مرة أخرى في ساعة متأخرة، معلناً عن موعد السحور، ولكل «خط» أو حي من أحياء القاهرة مسحراتي خاص به، على نحو ما هو معمول به إلى اليوم، مطلع القرن الحادي والعشرين».
يروي حكاية المسحراتي القديمة هكذا: «يبدأ المسحراتي طوافه بالبيوت بعد الغروب بساعتين أو أكثر قليلاً، أي بعد صلاة العشاء بوقت قصير، ويمسك بيده اليسرى طبلة صغيرة تسمى الباز، أو طبلة المسحر، وفي يده اليمنى عصا صغيرة، أو سير من الجلد يضرب به على الطبلة.. ويصحب المسحر غلام يحمل قنديلين في إطار من الجريد، ويقف المسحر والغلام عند أبواب بيوت المسلمين، ما عدا الفقراء منهم، ويضرب على الطبلة ثم ينشد قائلاً: يسعد مين يقول لا إله إلا الله.. وبعد أن يضرب على الطبلة، يواصل إنشاده قائلاً: أسعد الليالي يا فلان، ويذكر اسم صاحب البيت، وهو يعرف أسماء سكان كل بيت، ولذلك فهو يجيبهم الواحد بعد الآخر، بهذه الطريقة، ما عدا النساء فلا يذكر أسماءهن، وفي النهاية يختتم تحيته وإنشاده بقوله: أبقاكم الله يا كرام».
وفي رمضان، يؤذن للفجر من المآذن مبكراً عن العادة، حتى يستيقظ للسحور من لا يزال نائماً، ثم يؤذن أذان آخر من «دكك» المساجد الكبيرة قبل الإمساك بنحو عشرين دقيقة، وحين يحل وقت الإمساك، ينادي «الميقاتي»، الذي يعلن مواقيت الصلاة، قائلاً: «ارفعوا...».
ويأتي بعد رمضان «العيد الصغير» فيحتفل الناس به، ويأكلون الفسيخ، والكعك، والفطير، والشريك، وبعض الأسر تعد أطباق «الممزه»، وهي عبارة عن لحم مسبك بالبصل والعسل الأسود والخل والدقيق الخشن، كما يشتري رب البيت «النقل» لأسرته.

منادي النيل

ومثلما لفتت علاقة المصريين بنهر النيل أنظار جميع الرحالة والمستشرقين الأجانب تقريباً، لفتت نظر كاتبنا وكان لها نصيب من انتباهه، حيث العادة المصرية القديمة، التي ربما تمتد أصولها إلى العهد الفرعوني، حيث يبدأ النيل في الارتفاع قرب فترة الانقلاب الصيفي، أو بعدها مباشرة.. ومن السابع والعشرين من شهر بؤونة، أي الثالث من شهر يوليو، يأخذ المنادون في إعلان زيادته في شوارع العاصمة يومياً.
يقول الكاتب إن هؤلاء المنادين كانوا كثيرين جداً وقتها، كما يختص كل منهم بحي من أحياء القاهرة، ويسمى الواحد منهم «منادي النيل»، وهو يبدأ طوافه في شوارع حيه في الصباح الباكر، أو بعده بقليل، ولابد أن يصحبه غلام.
يلفت الكاتب إلى أنه في اليوم الذي يسبق ذلك الذي يبدأ فيه إعلان زيادة مياه النيل، يطوف المنادون بالشوارع قائلين: إن الله قد تعطف على الأراضي، وإن غدا يبدأ الإبلاغ.
ويبدأ الإبلاغ اليومي هكذا:
المنادي: محمد نبي الهدى
الغلام: المحامل تسير إليه
المنادي: الهادي عليه السلام
الغلام: يسعد من يصلي عليه
حيث يعطي أهل كل بيت المنادي قطعة من الخبز كل يوم، وهي عادة الطبقة المتوسطة، ولكن معظم الناس لا يعطونه شيئاً إلا عند فتح الخليج، ولا يعول كثيراً على بلاغ المنادي، إذ إن الذين من واجبهم إبلاغه عن مقدار ارتفاع النيل كل يوم، لا يبلغونه شيئاً، أو يبلغونه خطأ، يقول: «الناس يستمعون إلى مناداته باهتمام، ويظل المنادي والغلام يطوفان طوافهما ذاك، ويعلنان البلاغ كل يوم، حتى قبل قطع السد، الذي يغلق فم الخليج بيوم واحد، وفي ذلك اليوم يطوف المنادي بحيّه، يصحبه عدد من الغلمان، يحمل كل منهم علماً صغيراً ملوناً يسمى راية.. ويعلن وفاء النيل، ومعنى وفاء النيل، أنه بلغ من الارتفاع ما يكفي لأن تعلن الحكومة أنه قد بلغ 16 ذراعاً في مقياس النيل».
ومن الظواهر التي يهتم بها الكاتب الإنكليزي في مصر، الاستعدادات التي تقام لقطع الخليج، حيث يأتي الناس لمشاهدة قطع الخليج من كل حدب وصوب، يقول: «يقام السد قبل بدء زيادة النيل أو بعدها مباشرة، ويوجد في عرض الخليج، على بُعد نحو 400 قدم من مدخله، جسر قديم من الحجر مكون من قنطرة واحدة، وأمام هذا الجسر، على بعد 60 قدماً، يقع السد، وهو مبني من الطين، وقاعدته عريضة تأخذ في الضيق حين تقترب من نهايته العليا، وهذه النهاية مسطَّحة، ويبلغ عرضها نحو ثلاثة أذرع، وتصل حين يبلغ النيل أقصى درجات انخفاضه، إلى ارتفاع يبلغ نحو 22 أو 23 قدماً فوق مستوى مياه النيل، ويقع السد، على مسافة تبلغ مقدار المسافة بينه وبين الجسر، وهو عمود مستدير من الطين يصغر كلما اتجه نحو القمة، متخذاً شكلا مخروطياً مقطوعاً، ويسمى هذا العمود «عروسة»، وقد زُرِع فوق قمته المسطحة، وفوق قمة السد بعض من الذرة والدخن، ويجرف المد العروسة دائماً، قبل أن يصل ارتفاع ماء النيل إلى حده الأقصى، وذلك قبل قطع السد بأكثر من أسبوع أو أسبوعين».
ويذكرنا الكاتب بأن الاعتقاد السائد في عادة إقامة عروسة في النيل، يرجع في أصله إلى خرافة قديمة، ذكرها مؤلفون عرب منذ قديم الزمان، منهم المقريزي، الذي روى أنه في العام الذي أتم فيه العرب فتح مصر، قيل لعمرو بن العاص إن من عادة المصريين أنه حين يأخذ النيل في الزيادة، يعمدون إلى فتاة عذراء صغيرة فيزينونها بأفضل الحلي والثياب، ثم يلقونها في النيل، ضحية له حتى يفيض، ويقال إن عَمراً أبطل هذه العادة، لما تنطوي عليه من همجية، وحينذاك مضت ثلاثة أشهر والنيل لا يفيض قليلاً ولا كثيراً، وأصاب الناس الذعر.
 
جولات في الشرق 6: إدوارد لين يتأمل القاهرة من مركب «عروس النيل»
جولات في الشرق 6: إدوارد لين يتأمل القاهرة من مركب «عروس النيل»



الثلاثاء 23 يونيو 2015 - الساعة 00:01

1434985300_88_1.jpg

1434985301_03_2.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
نجول مع الباحث والمستشرق البريطاني، إدوارد لين في شوارع القاهرة، مطلع القرن التاسع عشر، قبل نحو مئتي عام ـ إلا قليلاً ـ من الآن، من داخل مركب «عروس النيل»، التي دفعه فضوله إلى الصعود إليها مقابل أجر معلوم، ليتمكن من رؤية مصر في مطلع نهضتها الحديثة، في عهد حكم محمد علي باشا. في هذه الحلقة، يرصد الكاتب، الذي يصنّف من بين أشهر عشَّاق الشرق، عادة «عروس النيل»، التي كانت تزين فيها فتاة مصرية كل عام، لتلقى في النهر، طلباً للفيضان، ويصف المركب التي كانت تسمّى «العقبة»، بعدما تزيّن مثل العروس وتسبح في النهر وسط الفرح والزغاريد وإطلاق المدافع، حيث كان النيل ـ ولا يزال ـ شريان الحياة ومصدر بهجتها. يستكمل الكاتب والمؤرخ البريطاني، أحد مؤسسي علم المصريات في الثقافة الأوروبية الحديثة، إدوارد وليم لين، الذي عاش بين عامي (1801 - 1876) وزار القاهرة خلال حياته عدة مرات، جولته بعين مواطن أوروبي يرى القاهرة، قبل مئتي عام، مذكراً قارئه الأوروبي بأن مصر ارتبط وجودها على مدار التاريخ، بنهر النيل الخالد، وأن عدداً من أساطيرها الذهبية، كانت تدور بالذات حول نهر النيل، سواء في العصر الفرعوني القديم، أو في العصر الإسلامي، اللاحق عليه.
ففي العهد الفرعوني، كان الاعتقاد السائد في مصر، أن يتم الاحتفال بعادة «عروس النيل»، التي يقول إنها ترجع إلى خرافة قديمة، ذكرها مؤلفون عرب، منهم «المقريزي»، الذي روى أنه في العام الذي أتمّ فيه العرب فتح مصر، قيل لعمرو بن العاص إن من عادة المصريين أنه حين يأخذ النيل في الزيادة، يعمدون إلى فتاة عذراء صغيرة يزينونها بأفضل الحُلي والثياب، ثم يلقونها في النيل، ضحية له حتى يفيض، ويقال إن عمراً أبطل هذه العادة، لما تنطوي عليه من همجية، وحينذاك مضت ثلاثة أشهر والنيل لا يفيض قليلاً ولا كثيراً، وأصاب الناس الذعر.
ويروي الكاتب نقلاً عن «المقريزي» أن المصريين خشوا ـ لحظة دخول العرب المسلمين إلى مصر ـ أن يتوقف النيل عن الفيضان، بعدما أبطل عمرو بن العاص عادة «عروس النيل»، وأن المصريين خشوا أن تنزل بهم مجاعة، فكتب ابن العاص إلى أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، ينبئه بما فعل، وبالكارثة التي توشك أن تحل بمصر، فرد عمر رداً قصيراً استصوب فيه ما فعله عمرو، وأخبره أن في رسالته بطاقة عليه أن يلقيها في النيل، وقد جاء فيها: (من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنتَ تجري بأمرك فلا تجر، وإذا كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك بأمره، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك)، ففعل عمرو كما أُمر، وألقى البطاقة في النيل، وقيل إن النيل ارتفع في الليلة التالية، إلى ست عشرة ذراعاً.
يروي الكاتب الحكاية، معلقاً بأنها غير قابلة للتصديق، متنقلاً بين الماضي والحاضر الذي شاهد فيه، كما يقول، يوم «قطع الخليج»، عدة قوارب تؤجرها جماعات من الناس للنزهة والتسلية، نحو مدخل الخليج، ومن هذه القوارب سفينة كبيرة تسمى «العقبة» اتخذت زخرفها وزينت من أجل هذه المناسبة، ويعتقد عامة الناس أن السفينة «العقبة» هذه، هي التي كان المصريون قبل فتح العرب مصر، ينقلون فيها العذراء التي يقال إنهم كانوا يلقونها في النيل طلباً للفيضان.
يروي لنا الكاتب، كيف ركب «العقبة» بنفسه، أثناء سيرها من بولاق، بعد الظهر بنحو ثلاث ساعات، حيث يصعد إليها الركاب – رجالاً ونساء – نظير أجر، وتتجه حثيثاً نحو شاطئ جزيرة الروضة، تجاه مدخل الخليج مباشرة، لترسو في مكانها طوال الليل، ومعها معظم القوارب الأخرى، على أن بعض القوارب تظل طوال المساء والليل رائحة غادية في النيل، ويتسلى الركاب بالغناء الذي تصحبه «الدربكة» والمزمار.
يصف الكاتب حالة البهجة والفرح التي يتمتع بها الشعب المصري، في كل مظاهر احتفاله، وعن مدى التناغم بين الشارع والإدارة الحاكمة، حيث كان محمد علي باشا على رأس الدولة المصرية الحديثة، وكيف كانت المدافع تطلق للتعبير عن المشاركة الرسمية في الاحتفال، يقول:
«بعض الناس من ركاب تلك القوارب، كانوا يستأجرون المغنين ليستمعوا إلى طربهم، وقبل أن يحل الظلام بدأ إطلاق الصواريخ، وظلت تطلق طوال الليل، كل ربع ساعة، وتطلق معها المدافع من العقبة ومن سفن المدفعية، وعددها في كل مرة اثنتا عشرة طلقة، وبلغ عدد طلقات المدافع التي أطلقت في أثناء الليل، في احتفال هذا العام ستمائة طلقة».

«دَسْتور يا أسيادنا»

وعلى الرغم من مظاهر التحضر التي كانت تتمتع بها مصر، قبل مائتي عام، يعتقد الكاتب اعتقاداً راسخاً، أن العرب بوجه عام، يؤمنون بالخرافة، وأن المصريين هم أكثر شعوب العرب إيماناً بها، وأن من بين كل هذه الخرافات «العربية»، يحتل الجن المقام الأول من اهتمام المصريين، وينقل عن المجتمع المصري كثيراً من مأثوراته عن الجن، الذي يرجع وجوده إلى عهد ما قبل آدم، حيث كان المصريون يعتبرون أن الجن طبقة لا هي من الملائكة ولا هي من البشر، وإنما هي أقل شأناً من كل منهما، وأن الجن خلقت من نار، وقادرة على أن تتخذ شكل الإنسان أو الحيوان، أو شكل «مسخ» قبيح، تأكل وتشرب وتتناسل، مثل بني الإنسان، وتذوق الموت كما تذوقه كل نفس، بيد أنهم يعمّرون قروناً عديدة.
يقول الكاتب ملاحظاً أدق سلوكيات المصريين المتعلقة بالجن:
«ومن عادة المصريين أنه إذا ألقى أحدهم على الأرض ماء أو غيره يقول: «دستور.. يا أسيادنا»، وهي كلمة يقصد بها الشخص أن يستأذن الجني، الذي قد يكون موجوداً في ذلك المكان، أو يستميحه العذر، قبل أن يلقي ما بيده من ماء، لأنهم يعتقدون أن الجن ينتشرون فوق سطح الأرض، يسكنون في الأنهار والخرائب، والآبار والحمامات والأفران، بل يسكنون أيضاً في المراحيض، فإذا دخل شخص مرحاضاً، أو ألقى دلواً في بئر، أو أوقد ناراً فإنه يقول: «دستور .. أو دستور يا مباركين».
وفي إطار بحثه عن القصص الخرافية في مصر، يقول إدوارد لين ـ كاتبنا الإنكليزي الذي أجاد العربية وصاحَب المصريين وفهم جزءاً كبيراً من أفكارهم ـ إن الاعتقاد السائد عند المصريين، أن العفاريت المؤذية تقف فوق أسطح المنازل أو نوافذها، وتقذف بالطوب والحجارة الشوارع وأفنية المنازل، وقد سمع بأذنيه، من الناس قصة يروونها في الشارع عن عفاريت ترجمُ الناسَ بالحجارة، في الشارع الرئيسي في القاهرة، وأن الناس استولى الرعب على قلوبهم في ذلك الشارع، وأنهم عاشوا في هلعٍ أسبوعاً كاملاً.
يقول الكاتب إنه أراد أن يستوثق بنفسه من هذه الواقعة، حيث تتساقط الحجارة من بعض المنازل كل يوم طوال الأسبوع، من دون أن يُقتل أو يُصاب أحد، يقول: «ذهبت إلى المكان لأراهم بنفسي، وأستفسر من الأهالي عما حدث، حين وصلت، قيل لي إن الرَّجم قد توقف، ولم أجد أحداً يكذّب واقعة رمي الطوب والحجارة، أو يشك في أنه من فعل الجان، حيث كان الجميع يردد «ربنا يكفينا شرّهم».

المصحف... والحجاب

يعيش الكاتب مع المصريين قصص الإيمان بالقوى الماورائية، راصداً المزيد من الخزعبلات، كما يراها بعينه الأوروبية، ومنها إيمان المصريين بالأحجبة، التي تحتوي تعاويذ وآيات معينة من القرآن الكريم، وأسماء الله وأسماء الملائكة والجن، وأسماء الأنبياء والأولياء المشهورين، يتخلل هذا كله أرقام وأشكال هندسية، ويضيف :»يقال إنها كلها مجتمعة، لها أثر لا يعلم سره أحد».
يقول الكاتب إن المصريين يتخذون من المصحف حجاباً يقدسونه فوق كل أنواع الأحجبة، حيث كان من عادة الأتراك من الطبقتين الوسطى والعليا، وكثير من المسلمين، تعليق مصحف صغير فوق كتفهم الأيسر، بخيط من الحرير، بحيث يتدلى المصحف فوق الجانب الأيمن، وكان المصحف يوضع في غلاف من الجلد المطرز أو القطيفة، مشيراً إلى أن «كثيراً من النساء ما زلن يلبسن المصحف، في علبة من الذهب أو الفضة»، وأن المصريين يؤمنون أيضاً بالحجاب، الذي يحوي أسماء أهل الكهف، واسم كلبهم، وهي تنقش على قاع أواني الشرب، أو على الصواني النحاسية.
ومن أجل الوقاية من كل سوء أو للشفاء من المرض، أو لاسترجاع الحبيب، أو للحصول على الرزق ـ يقول الكاتب ـ إنه يتم عمل حجاب من ورقة واحدة، كتبت عليه آيات معينة من القرآن، ويلبسه الرجل أو المرأة، وأن كل الأحجبة على اختلاف أنواعها، توضع في علب من الذهب أو الفضة، أو القصدير أو الجلد، أو الحرير أو ما شابه، ويلبسها معظم المصريين من رجال ونساء وأطفال.
يقول إدوارد لين: «إن الخوف من العين، يفسر لنا كثيراً من عادات المصريين وسلوكهم، ومن المناظر المألوفة في مصر، أن ترى الأطفال يلبسون الأحجبة، الموضوعة داخل علبة مثلثة الشكل، يعلق فوق القبعة ، لكي يقيهم شر العين، وهم يتخذون الحيطة من العين، ويحاولون دائماً دفع أذاها وشرها، فإذا أظهر شخص استحساناً لشيء بلهجة يشتم منها الحسد، فإن صاحب الشيء، وقد أفزعه الخوف من العين، يقول له: صل على النبي، فإذا أطاعه الحاسد فقال: اللهم صل عليه، فقد زال الشر، ويعتبر من قلة الذوق أن يظهر شخص إعجابه بشخص آخر، أو بشيء يملكه غيره، بأن يقول: يا سلام .. أو يا سلام سلم.. أو يقول: يا جماله.. أو جميل جداً.. وإنما الواجب في مثل تلك الحالات، أن يقول الشخص: ما شاء الله، لأن هذه العبارة تتضمن الإعجاب بالشيء، والخضوع لمشيئة الله».
ويرصد الكاتب خوف المرأة المصرية على طفلها من العين خوفاً شديداً، ويقول إن من العادات الشائعة، أنه إذا أخذ شخص بين ذراعيه طفلا آخر، يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد»، ثم يضيف إلى ذلك قوله: «ما شاء الله»، من عادتهم أنه إذا أعجب أحد بطفل يقول: أعوذ برب الفلق، مشيراً بذلك إلى سورة الفلق، التي تنتهي بالآية التي يستعاذ فيها «من شر حاسد إذا حسد».
وإذا رأى والدا الطفل شخصاً يحدق في طفلهما، بعين الحسد، فإنهما – لكي يدفعا عن طفلهما شر عينه – يقصان قطعة من ذيل ثوبه، ويحرقانها مع قليل من الملح، وقد يضيف إليها بعضهم حبوب الكزبرة والشبة وما إليهما، ثم يبخر الطفل بالدخان المتصاعد من احتراقها، ويذر عليه الرماد، ويقال إن هذه العملية يجب أن تتم قبل الغروب بقليل، حين يحمر قرص الشمس.
يستكمل الكاتب حديثه عن عادات المصريين وتقاليدهم، خصوصاً في محاولة دفع الشر القادم من القوى الخرافية، وهم يتفننون في اختراع سبل مواجهة الحسد والعين وغير ذلك، يقول إنهم يستخدمون «الشبة» في دفع أذى العين، بأن توضع قطعة منها في حجم الجوز على فحم متقد، وتترك لتغلي وتخرج ما فيها من فقاع، ويبدأ في هذه العملية قبل غروب الشمس بوقت قصير، ويقرأ الشخص الذي يقوم بها أثناء احتراق الشبة فاتحة الكتاب ثلاث مرات، والسور الثلاث الأخيرة من القرآن.

عين الحسود

ويذكر القارئ بأنه حين تنزع الشبة من النار، فإنها تتخذ في شكلها هيئة الحسود، الذي تجرى هذه العملية لدفع أذاه، ويقول: ثم تدق قطعة الشبة، وتوضع في طعام يقدم إلى كلب أسود ليأكله، وقد رأيت بنفسي هذه العملية، يقوم بها رجل اعتقد أن زوجته حسدته، وقد أراني الرجل قطعة الشبة، وقد تشكلت فعلاً بشكل امرأة تجلس بطريقة غريبة، وقال إنها هي الطريقة التي تجلس بها زوجته، على أن الشكل الذي تتخذه قطعة الشبة، يتوقف إلى حد كبير على الطريقة التي وضعت بها قطع الفحم، ولابد أنها تتخذ شكلاً يجد فيه خيال الشخص صورة شبيهة بالحاسد الذي حسده».
وهناك طريقة أخرى لدفع أذى العين ـ يقول الكاتب ـ وهي أن تثقب قطعة من الورق بالإبرة، ويقول الثاقب: «هذه لعين الحسود فلان». ويضيف الكاتب أن الشبة هي التي يقال إن أثرها عظيم في القضاء على عين الحسود.. كما أنه في بعض الأحيان، تعلق في أعلى قبعة الطفل قطعة من «الشبة» صغيرة مستوية، مزينة بالشراريب، أو تعلق شراريب من الأصداف والخرز، ويضيف «تعتبر أصداف الكوري من أحسن التمائم للوقاية من العين، ولذلك فهي تعلق مع سائر الأشياء التي تزين بها الجمال والخيل وغيرها من الحيوانات، كما تعلق في قبعة الأطفال، والغرض منها أن تجذب نظر الحاسد إليها، فتصرفه عن النظر إلى حاملها، سواء كان إنساناً أم حيواناً، وبذلك تقيه شر العين».
وبينما لا يزال كثير من المصريين يتذكرون جداتهم وهن يقمن بنفس العادات التي يرويها الكاتب البريطاني عن مصر قبل مائتي سنة، يشدد الكاتب على أن المصريين يعمدون، والنساء منهم بصفة خاصة، إلى اتقاء شر العين والحسد، لافتاً إلى عادة ربما لم تعد موجودة والتي تحمل اسم «ميعة مباركة».
ويصفها الميعة كالتالي: «خليط من مواد تباع في الأيام العشرة الأول من شهر محرم، وفي تلك الأيام، ترى أناساً يحملون هذا الخليط، ويجوبون به شوارع القاهرة، يبيعونه للناس، وينادون عليه قائلين: ميعة مباركة.. السنة الجديدة وعاشورة المباركة، ويحمل البائع فوق رأسه صينية مستديرة، مغطاة بقطع من ورق مختلف ألوانه، من أحمر وأصفر وغير ذلك.. وفوق تلك القطع من الورق، وضع المخلوط الثمين.. وفي وسط الصينية كومة كبيرة من تفل مادة للصباغة، حمراء قاتمة، قد اختلطت بقليل من الميعة، وحبوب الكزبرة «وحبة سودة» أو حبة البركة .. وحول هذه الكومة الكبيرة، أكوام صغيرة، إحداها ملح مصبوغ بـ»النيلة» أزرق اللون، وأخرى ملح مصبوغ باللون الأحمر، وثالثة من ملح مصبوغ باللون الأصفر.. والرابعة من الشيح، والخامسة من مسحوق اللبان.. وجميعها مركبات الميعة المباركة».

بائع العاشورة

يصف الكاتب الفعل الذي يتم بموجبه استخدام بائع العاشورة، حيث ينادي على البائع ليدخل المنزل، فيقوم بإنزال الصينية من فوق رأسه، ويضعها أمامه، ثم يعطيه أهل البيت وعاء أو قطعة من الورق، لكي يضع فيها ما سوف يشترونه من الخليط الذي يحمله، فيأخذ من كل كومة على التوالي بعضاً من الخليط، حتى ينتهي منها جميعاً، ثم يعيد الكرّة فيأخذ قليلاً من كل كومة، وهكذا.
يقول الكاتب: «إذ يفعل البائع ذلك كله، يترنم برقية طويلة يبدأها قائلاً بسم الله وبالله، ولا غالب يغلب الله، ولا يغلب الله غالب، رب المشارق والمغارب.. كلنا عبيده، يلزمنا توحيده، توحيد جلاله.. وبعد أن يقول بضع عبارات يعدد فيها فضائل الملح، يستأنف الرقية قائلاً: بخرتك من عين البنت، أحمي من الخشت، من عين المرة، أحمي من الشرشرة، من عين الولد، أحمي من الزرد.. هكذا.. ويمضي الرجل في ترنيمة، فيصف كيف تمكن الملك سليمان من القضاء على العين، وتخليص الناس من شرها، ثم يعدد محتويات المنزل جميعهاً، فيبخرها من العين.. وكثير من العبارات التي يقولها في رقيته تبعث على الضحك، إذ إن بعض الكلمات تستعمل لمجرد السجع، دون أن يكون لها معنى».
يقول الكاتب إن الناس يدفعون ثمناً لحفنة من «المعية المباركة»، مبلغ خمسة فضة، ويحتفظون بها في مكان أمين طوال العام الجديد، حتى إذا تعرض أحد أفراد الأسرة لعين حسود، يرقى بقليل من هذه الميعة المباركة، فتوضع في المنقد مع فحم متقد، ثم يبخر الشخص بالدخان المتصاعد من احتراقها.
 
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}



الأربعاء 24 يونيو 2015 - الساعة 00:02
تأثّر بعض المستشرقين الذين جاءوا إلى الوطن العربي، وكان طبيعياً أن يدخلوا من البوابة المصرية، تأثراً كبيراً بما شاهدوه في بلادنا، وتحولت حياتهم إلى شيء آخر، بمجرد أن وطئت أقدامهم أرض مصر، ومن هؤلاء جيرار جورج لومير، الذي جاء إليها في النصف الأول من القرن العشرين، وكان من أجمل مآثره، كتابه عن «مقاهي الشرق»، الذي ترجمه محمد عبدالمنعم جلال، وقدَّم له الكاتب والروائي المصري جمال الغيطاني.
من المغرب، إلى إسطنبول، أثبتت المقاهي، التي تطلع إليها الكاتب وجلس فيها، أنها لم تعد منذ زمن طويل، ملاذاً للعاطلين عن العمل، بل صارت بعض المقاهي، مكاناً للقاءات مهمة، وللتواصل بين أبناء القطاعات المختلفة من المجتمع، الذين لا يمكن لأمثالهم أن يلتقوا، وأن يصيروا أصدقاء، إلا في المقهى.

1435066266_88_2.jpg

1435066266_47_1.jpg

1435066266_67_3.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
يبدأ الكاتب والرحالة الفرنسي جيرار جورج لومير، رصده المقاهي في الشرق والغرب، بالإشارة إلى عبارة قالها القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت، وهي أنه «ليس من الشرق الأسطوري أو المتحضّر، مَن لا يضيع وقته في مقهى أو يضحِّي بقليل من عمره في إعداد المشروب الساحر».
والحق أن كثيراً من المؤرخين، يعتقدون، أن الشرق الذي تعرض خلال القرون الثلاثة الماضية -على الأقل للهجوم- من قبل الغرب، وعلى الرغم من إقرار الكثيرين منا، بأن العالم الغربي استطاع أن ينتصر علينا في أشياء كثيرة ومؤثرة، فإن الثقافة الشرقية بقيت آثارها واضحة على الثقافة الغربية، خصوصاً الفرنسية منها، في ذلك الجانب المتعلق بالثقافة الروحية تحديداً، والتي يأتي في جانب منها ثقافة المقهى.
بونابرت نفسه، بدا عليه التأثر بالثقافة العربية إلى أبعد حد، بعد نزول حملته إلى أرض مصر 1798، حيث أعلن إسلامه، رغبة منه في إرضاء العرب الذين جاء إليهم بجيوشه، ومما نقل عنه بشأن حياته في الفترة التي أقامها في مصر قوله: «كان لديَّ دائماً سبع «كنكات» فوق النار، لكي أستعين بها على الحديث مع الأتراك، الذين يجعلونني أسهر طوال الليل بحديثهم عن العقيدة».
وتأثر الغرب بالشرق يعود إلى أزمنة بعيدة، ليس فقط من حيث القهوة، المشروب، ولكن من حيث امتداد الثقافة الشرقية في كثير من عواصم الغرب، سواء قبل أن يخرج من عصور ظلامه، التي كان فيها الشرق متفوقاً ومتقدماً، أو في الفترة اللاحقة، أي في القرون الثلاثة السابقة.
تقول الحكاية في التراث الغربي، إنه في سنة 1683، وضع المدعو جورج كويشزكي، الضابط البولوني نهاية للغزو الأجنبي لفيينا، واستولى، كغنيمة وحيدة على جميع أكياس البن من الغزاة، وافتتح له محلان، ومن بعدها بات شرب القهوة منتشراً في كثير من هذه البلاد، وبات المشروب الشرقي الشهير يجد له أرضاً جديدة في أوروبا والغرب بشكل عام بعد ذلك.
الكاتب، الذي يعتبر القهوة نواة لفكرة المقهى الشعبي، قال إن ظهور القهوة أحيط منذ زمن بعيد بالغموض، حيث تولدت أساطير، ازدادت بمرور القرون، وبحكم تكرارها أصبحت حقائق، «لأن قوة الأسطورة هي في سد فراغ، وكما نعرف كثيراً فإن الروح العلمية تخشى الفراغ».
ولا يبتعد كاتبنا كثيراً عن تراث الحكاية المتداولة شرقاً وغرباً بشأن القصة التي يذكرها عالم اللاهوت الإيطالي فوستو نيروني، في القرن الثامن عشر، وينسب فيها اكتشاف النبات الثمين «البن»، إلى أحد رجال الصوفية، الذي رأى بعض العنزات ترعى أوراق وحبوب شجرة صغيرة، وباتت كأنها لم تلبث أن أصيبت بحالة من السُّكر، وبسبب دهشته وفضوله قرر أن يتذوق تلك الحبوب ذات القدرة الفائقة، فقام بغلي بعض منها في قليل من الماء، وبذلك تم اكتشاف القهوة، والواقع أن رواية نيروني ما هي إلا ترديد لرواية ريتشارد برادلي، التي ضمنها كتابه «تقرير تاريخي وجيز عن القهوة»، الذي صدر في لندن سنة 1714، فقد نسب فيها هذا الاكتشاف إلى أحد الرعاة، وليس إلى أحد الصوفية.
يقول الكاتب: «كل هذه الدراسات أحدثت تأثيرها على الكتاب الأوروبيين في القرن السابع عشر، وكان لها ثقلها الخاص على الأبحاث الأكاديمية التي تحيط بظهور القهوة في فينسيا ومارسيليا وباريس ولندن، ففي مجلة هستوريا يقول فرانسيس بيكون في مقاله «أحياء وأموات»، إن القهوة بالنسبة للأتراك تبلبل «العقل»، ويروي الغربيون آراء مناظريهم في البحر الأبيض المتوسط بالنص فيقولون إنها تفقد الشهية، ويمكن أن تتسبب في الضعف وشل الرغبة في النشاط، وقد تتسبب في أمراض لا تحصى».
الذكر
وعلى الرغم من أن التراث الثقافي الغربي مقتنع اليوم بأن القهوة ظهرت عملياً في «اليمن السعيد» في منتصف القرن الخامس عشر، فإن الكاتب يلاحظ صادقاً أن الأدب العربي ظل صامتاً في هذه النقطة، ولم تبدأ الكتب التي تعالج مسألة القهوة في الانتشار إلا متأخرة جداً، لافتاً باهتمام إلى كتاب كتبه عبدالقادر الجزيري وهو «عمدة الصفوة في حل القهوة»، مشدداً على أن هذا الكتاب الذي لا يورد اسمه المترجم، حُجة في هذا الأمر.
يقول لومير، إن كثيراً من الآراء التي يضمها كتاب الجزيري تناولتها أغلبية كبيرة من الكتاب الذين جاءوا بعده، ويقتطف لومير من الجزيري قوله:
«يقال اليمن وحده، لأن ظهور القهوة حدث في أرض ابن سعد الدين في بلد الأحباش والجبارتة، وفي أماكن أخرى من أرض مملكة العجم، ولكن وقت استعمالها لأول مرة غير معروف، وكذلك سبب استعمالها غير معروف هو الآخر».
يشير الكاتب المغرم بالاشتقاقات اللغوية، إلى أن القهوة كلمة مشتقة من كلمة «كافا»، وهي اسم منطقة في الحبشة، المعتقد أنها موطن البن، ويعتقد آخرون أنها اشتقاق من لفظ «قوة»، وهي كلمة معناها القوة أو القدرة، مصمماً على الإشارة إلى ما بين القهوة والقدرة على ممارسة العبادات الإسلامية من قوة اتصال نافذة، تمكن وهو الغربي من فهمها والإشارة إليها مراراً، يقول إنه عندما رحل دوهسون إلى الشرق الأوسط في القرن الثامن عشر، زعم أن أول من استخدم القهوة العربية صوفي من موكا، عاش حياته كلها في الصحراء يتناولها، وأنها أذهلت تلاميذه، وراحوا يمتدحون خواصها في مدينة موكا كلها.
ويستعرض الكاتب تجربة كارستن نيوبهر، عندما زار اليمن، أوائل القرن الثامن عشر، حيث علم أن الشاذلي، وهو رجل تقي، عاش قبل ذلك بأربعمئة عام، قدم القهوة لبعض المطلعين على أسراره، يقول الكاتب: «يذكر لنا نجم الدين الغازي صورة أخرى فيقول: «إنه مر في تجولاته بشجرة بن، واقتات من ثمرتها، كما هي عادة الرجال الأتقياء، وأدهشه أن لا أحد يقربها رغم نضجها، ورأى أنها نشطت ذهنه، وتسببت في انتباهه وإثارته (لممارسة الشعائر الدينية)، وبدأ إذن بتناولها كطعام وشراب».
ينتقل الكاتب سريعاً إلى جماعة الحشاشين في التاريخ العربي، لافتاً إلى أنه مهما كانت وجهة النظر في أصل القهوة، فإن الجميع يتفق في شيء واحد، هو أن الشخص الذي كان من أوائل من نادوا بفوائد القهوة قد يكون شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية، وأضاف الكاتب:
«هناك افتراض بأن أولئك المتدينين كانوا يتناولون مواد منبهة، منها «الحشيش»، الذي كان يتيح لهم البقاء في حالة تيقظ، ويمكنهم من الاضطلاع بالشعائر الدينية في نفس الوقت، والثابت هو أن كثيرين من أتباع تلك الطريقة أصبحوا مؤيدين لها ابتداء من الربع الثالث من القرن الخامس عشر، وعلى وجه الخصوص في اليمن».
يرصد الكاتب، أنه اتضح أن القهوة لم تلبث أن أصبحت جزءاً متمماً لاحتفالات الصوفية التي يطلقون عليها اسم «الذكر»، حيث يقوم الشيخ بتوزيع القهوة على المشتركين أثناء الإنشاد، ويصبها لهم طبقاً لعادة ثابتة تماماً عندهم، ووفقاً لـ»ابن الغفار» فإن أوائل الذين تعودوا على القهوة «كانوا من المتسولين المهتمين باجتماعاتهم الذكرية وبالصلاة، لوجه الله، طبقاً لطريقتهم السابق ذكرها».
يقول الكاتب الفرنسي المدقق، إنه لكي يتأكد من قول الجزيري، من أن أصل القهوة من اكتشاف شيخ صوفي، لجأ إلى رجل من مشاهير رجال القانون، وهو وقور بحكم سنه ولا يمكن الشك في حكمه، وأجابه القاضي الحكيم بقوله:
«سألت جماعة من قدامى الأهالي ببلدتنا، وعمي بالذات أكبرهم سناً، ورجل قانون ويدعى وجيه الدين عبدالرحمن بن إبراهيم العلوي، ويبلغ من العمر تسعين عاماً، وقد قال لي: كنت موجوداً في مدينة عدن عندما أقبل صوفي فقير، يصنع ويشرب القهوة، وقد أجاد إعدادها لرجلين من رجال الدين، وشرب هذان الرجلان تلك القهوة مع أشخاص آخرين، اقتدوا بهما بعد أن أطمأنوا إليهما بما فيه الكفاية»، وهكذا استطاع المؤلف الغربي أن يلاحظ عادات هؤلاء الصوفيين، وقد سجل في مذكراته أن بعض الشيوخ الذين يعيشون في جبال اليمن، مع دراويشهم كانوا معتادين على مضغ وأكل حبوب البن، وكانوا يدعونها «قلب وابون».

قبضة الباشا


يدور الكاتب في تحقيقه اللافت حول عروبة القهوة وصوفيتها، حول فكرة الرؤية بالعين المجردة، والاستناد إلى ثقاة الرواة والحكائين، يقول إن القهوة تُحتسى في الأحياء «اليمنية» بالقاهرة، منذ بداية القرن السادس عشر، مشيراً إلى أن الجزيري المعروف بمبالغته الفائقة في الدقة يروي بالتفصيل الطريقة التي يعالج بها الأهالي القهوة، ويبدو أن بعضهم كان يخلطها ببعض الحشيش، وكان ذلك سبباً كافياً لتحريمها وتجريمها على نطاق واسع، في ظل هذه الظروف، يقول الكاتب نقلاً عن الجزيري:
«تناول الناس الكثير من القهوة في حي الجامع، وكانت تباع علانية في أماكن كثيرة، ورغم المدة الطويلة التي قدمت فيها القهوة، فلم يخطر لأحد إزعاج شاربيها، ولم يجد أحد عيباً في المشروب نفسه أو في المتعاملين معه، بحكم اشتراكهم فيه، ولكنها انتقدت بسبب عوامل أخرى خارجة عنها كتمرير الفنجان وغير ذلك، وكل ذلك رغم انتشارها في مكة أيضاً، ورغم أنها كانت تحتسى في الحرم المقدس، بحيث إنه لم يكن هناك ذكر واحد أو احتفال بمولد الرسول إلا وكانت القهوة موجودة».
ويشير الجزيري إلى حادث وقع عام 917 هجرية، ليسجل أوَّل تجريم رسمي لتناول القهوة، إذ يقال إن باشا المماليك، خير بك، ذهب في العشرين من يونيو إلى الكعبة لكي يؤدي الفريضة، ورأى في الظل جماعة صغيرة من الرجال مجتمعين حول فانوس أسرعوا بإطفائه عندما سمعوه يقترب، ولكن الوقت كان قد أتاح له مع ذلك أن يرى أنهم كانوا يتناولون مشروباً (بطريقة الشاربين الذين يتعاطون مخدراً)، وتولته الحيرة، وانتهى به الأمر إلى الإحساس بالقلق إزاء هذا التصرف، ولا يلبث أن يعلم أن ذلك المشروب الغامض يعرف باسم «القهوة».
الحكاية تقول إن خير بك باشا المماليك، استدعى في صباح اليوم التالي بعض العلماء والفقهاء في الدين لمناقشة الأمر، حيث كانت من مهام «المحتسب» التفتيش على السوق العام والاهتمام بالأمور التجارية، والعمل كذلك على حفظ النظام والآداب العامة، يقول الجزيري:
«في الاجتماع، الذي لم يكن في حقيقة الأمر غير هيئة محكمة، جيء بإناء كبير مملوء بالقهوة، وقليل من الحجج يمكن تقديمها ضد المشروب نفسه، فإن كل نبات إنما هو من خلق الله، وكل مأكول على الرحب والسعة ما لم يثبت ضرره لصحة الإنسان، ولتحريم تناولها فمن الأوفق اللجوء إلى الأطباء، وطولب اثنان منهم بالإدلاء بالشهادة، فصرحا بأن القهوة من طبيعة باردة وجافة، وأنه يتضح من ذلك أنها تضر صاحب الطبع المعتدل، وحاول بعضهم أن يحتج قائلاً إن أطباء آخرين امتدحوا فوائدها الصحية، (فهي علاج للبلغميين) ولكنهم لم يصغوا إليهم على الإطلاق، وقرروا منع القهوة، بيد أن القهوة لم تكن هي المستهدفة بقدر استهداف الصوفيين الذين يعيشون بكامل إرادتهم على هامش المجتمع.
يقول الكاتب إن حيثيات المحاكمة لم تتطرق إلى هذا الموضوع، ومهما يكن فقد كانت هناك رغبة في معاقبة تلك الطائفة الصوفية بحملتهم على مادة أساسية وجديدة في طقوسها.


تجريم القهوة

يرصد الكاتب تلك الحالة التي بدأت بين الحكومات وأبناء المجتمع العربي، من التجاذب بشأن القهوة، بين حكومة ترى أنها مضرة ويجب الحفاظ على الناس من شرورها، وبين الناس الذين سرعان ما يستغلون موت شخصية قيادية كارهة للقهوة، للعودة إلى تناولها وبشكل مبالغ فيه.
وبينما أعلن خير بك في مكة، أن بيع البن وتناول القهوة محظوران، وأن المخالفين سيعاقبون، حيث أُحرقت أكياس من البن في شوارع المدينة المقدسة، والذين قد يجرؤون على بيعه سيجلدون علناً، على أن هذا القرار، يقول الكاتب: «لم يعمل به إلا فترة من الوقت، فسرعان ما تناساه الناس وعاد كل شيء كما كان».
يرصد الكاتب العاشق للشرق، حادثاً جديداً في مكة بين سنتي 1525 و1527، فقد أقبل إلى المدينة المقدسة رجل كبير من رجال القانون وأقام بها، وعلم بالحياة السيئة التي تدور في المقاهي وأصر على إغلاقها، وكان ذلك الرجل حكم على امرأة في المدينة قبل ذلك بسنة، وأصدر قراراً بألا تستمر في تجارتها، لأنها كانت تبيع القهوة وهي سافرة الوجه.
كذلك حوالي سنة 1520، صدرت فتوى في القاهرة، ثم دوهمت بعض المقاهي سنة 1531 أو 1535، وطرد روادها وأسيء معاملتهم، وتولى أحد القضاة القضية، ولكنه لم يلبث أن انضم إلى رأى أنصار القهوة، وحتى يحظى بتأييد أعضاء المجلس قدم لكل منهم فنجاناً من القهوة، لكي يتأكد إذا كان قد صدر منهم أية أعراض للجنون، واضطر الجميع طبعاً إلى تبني رأيه.
ولكن الأمور لم تبق عند هذا الحد، ففي أيام رمضان من سنة 1539، دهم حارس ليلي مقهى من أكثر المقاهي شعبية، وأمر بتقييد الكثيرين من روادها، ووضع الحديد في أقدامهم ليكونوا عبرة لغيرهم.
يقول الكاتب: «مع ذلك لم تحرم القهوة بصورة جدية، فالقرآن الكريم لم يذكر شيئاً عنها، وهو لا يحرم إلا الخمر وأنواعاً أخرى من المشروبات التي تتسبب في السكر، ومن العسير اعتبار القهوة مشروباً غير مرغوب فيه، وقد حاول البعض مراراً أن يضمها إلى المستحضرات التي تتسبب في السكر والضرر، كالحشيش مثلاً، وأبدى كاتب مجهول سخطه لمثل هذا الادعاء وقال: من المستحيل أن يعلن رجل مسلم أن القهوة تحدث في نفس شاربها، حتى لو بكميات كبيرة، نفس التأثير الذي يحدثه تناول الخمر أو الحشيش، وأنها تضع على العقل غشاوة وتتسبب في تغيرات في متعاطيها إلى حد القول إنه سكران».


http://www.aljarida.com/news/index/...ومير-على-المقهى---حين-حرَّم-العرب-شرب-القهوة-
 
جولات في الشرق 8 : لومير في مصر: نبلاء وأوباش على المقهى
جولات في الشرق 8 : لومير في مصر: نبلاء وأوباش على المقهى



الخميس 25 يونيو 2015 - الساعة 00:01
قلنا في حلقة أمس، إن بعض المستشرقين الذين جاءوا إلى الوطن العربي، تأثر كثيرا بما شاهده في بلادنا، وتحولت حياته إلى شيء آخر، وإن من هؤلاء جيرار جورج لومير، الذي جاء إليها في النصف الأول من القرن العشرين، وكان من أجمل مآثره، كتابه عن «مقاهي الشرق»، الذي تناول في حلقة أمس نشأة فكرة «البن» وارتباطها بالصوفية.
في هذه الحلقة يبدأ الكاتب الإشارة إلى المقارنات بين مقاهي الإمبراطورية العثمانية، مشيرا إلى أنها تجمعها سمات مشتركة، وخاصة أن الطريقة التي يتم بها تقديم القهوة في البيوت المخصصة لذلك لا تكاد تختلف من البوسفور إلى قرطاجة.
ويعرج الكاتب - المحب للشرق - على فكرة أن المقهى هو المكان الذي يلتقي فيه الجميع، من النبلاء والأوباش، وأن كل الطبقات والأعراق والفئات الاجتماعية تلتقي في المقهى، كأنه المكان المخصص للقاء بين من لا يتزاورون في البيوت.

1435151415_41_1.jpg

1435151415_54_2.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 10: صوفيا لين بول: رشاقة «الفلاحة المصرية» تثير الإعجاب
جولات في الشرق 9: لومير: الحريات تواجه «الجواسيس» على مقاهي الشرق
جولات في الشرق 2: كزانتزاكيس أمام الأهرامات: الظمأ إلى الأبدية يحكم مصر
جولات في الشرق 1: كزانتزاكيس في مصر: معركة مُرعبة بين الإنسان والماء
ويستكمل الكاتب حديثه عن المقاهي في الشرق، بالإشارة إلى موجة انتشارها الهائلة قبل عدة قرون شرقا وغربا، معززا فكرة أنها قاومت حتى المخاوف الطبية غير الدقيقة التي صاحبت ظهورها في مجتمعات الشرق، التي كانت أقل احتفاء من مثيلتها الغربية اعتناقا للمفاهيم الطبية، مشيرا إلى أن من بين كثير من الأطباء كان هناك من لا يقبل بفكرة ضررها، وأن مجتمعات الطب الشعبي العربية، في المقابل استخدمت القهوة في علاج بعض الأمراض، مثل النقرس.

كوهو وكوفا

يشير الكاتب، إلى أن توماس هيبرت أثبت في كتابه «رحلة إلى فارس» ـ الذي صدر سنة 1626 ـ أن القهوة ربما تكون احتلت مكانها تماما في البلاد الإسلامية، وأن الفرس لا يحبون شيئا في الدنيا حبهم لـ«الكوهو»، أو الكوفا»، التي يسميها الأتراك «قهوة»، مشيرا إلى أن هذا المشروب أسود جدا وكثيف ومر ويُشرب ساخنا، ويقول عن فوائده: «يبدو صحيا ويطرد الكآبة ويجفف الدموع ويهدئ الغضب ويولد أحاسيس رقيقة».
يلفت الكاتب إلى اللحظة التي انتصرت فيها القهوة على أعدائها، هي نفسها اللحظة التي راح فيها أنصار الصوفية يشربون القهوة كل يوم اثنين وكل يوم جمعة، بعد أن يصبوها في إناء كبير من الفخار الأحمر، وهم ينشدون ويرتلون، والمناقشة في فوائد وأضرار» الأبولون الأسود»، إلى أن بدأت القهوة تدور طويلا، ولم تتوقف بعد ذلك، لافتا إلى أن انتصارها لم يتم، إلا بعد أن دخلت أكبر البيوتات الأوروبية، وأكثر البيوت تواضعا في «الامبراطورية العثمانية».
وبشأن الأضرار والحرب التي خاضتها القهوة لكي تثبت وجودها، قال الكاتب إنه لا يوجد غير قلة من الأطباء، الذين يجدون لها مزايا، فهم يعتقدون أن لها تأثيرات مفيدة ضد السعال والبرد وآلام الكلى وغيرها.

أسود كالحبر

وينقل عن «سيرهنري بلونت»، الذي يعرفه بأنه أبحر إلى الشرق، أواسط القرن «السابع عشر»، أن الأتراك والعرب يستخدمون القهوة في أغراض طبية، وعلى الأخص في علاج الحصوة والنقرس، يقول: «عندما يقع أحد الأتراك فريسة للمرض يسارع بتناول القهوة، فإن لم تأت بنتيجة فإنه يكتب وصيته ولا يفكر في شيء آخر».
يشير الكاتب إلى ما قاله أحد الأطباء المعنيين بالشعوب التي أدمنت عادة الكافيين، ويدعى «ليونستار راوول»، حين زار آسيا الصغرى بين سنتي 1573 و1578، مارا من فارس إلى سورية، حين قال:
«ومن بين ما يتناولونه مشروب جيد يقدرونه نوعا ما ويسمونه «شوب»، أسود كالحبر، ومفيد جدا في معالجة بعض الاضطرابات، وعلى الأخص اضطرابات المعدة، والعادة أن يتم تناوله في الصباح، ويحتسونه في فناجين صغيرة عميقة من الصيني وساخن إلى حد لا يطاق، ويجتمعون في جماعات أحيانا، ويجلسون في دائرة ويحتسونه في جرعات كبيرة، ممررين الفنجان من واحد إلى آخر، ولإعداده يضعون في الماء ثمارا يسمونها «بن»، وهي أشبه من الخارج، في لونها وحجمها، بحبوب الغار، ومغطاة بقشرتين رقيقتين، وهذا المشروب شائع جدا بينهم لأنه يباع في حوانيت عديدة، ويمارسون تجارة رائجة بالحبوب التي يصنع منها، كما يمكن أن ترى في كل مكان وأنت تتجول في السوق».

في مديح القهوة

يتجول الكاتب، المشغوف بالمقاهي الشرقية، بنا عبر كتب عدة لكتاب غربيين كثيرين اعتبروا الشرق موضوعا لمؤلفاتهم، معرجا على صفحات كتاب «رحلة إلى الجزيرة العربية السعودية» ـ الذي ظهر في سنة 1796 ـ والذي تأثر فيه مؤلفه: «جان دي لاروك»، بأهمية تجارة البن، بالنسبة لبلد مثل تركيا، والكاتب يصف بدقة حركة تجارة البن بين الموانئ، من مدينة يسميها «تبلفاجي»:
يقول: «ينقل من هذه المدينة على ظهر الجمال، حتى ميناء صغير بالبحر الأحمر، لتشحن على سفن صغيرة تنقله إلى أبعد من ذلك بستين فرسخا، حتى خليج ميناء آخر، أكثر أهمية هو ميناء جدة أو زيدن، أو ميناء مكة، ومن ذلك الميناء يعاد شحنه ثانية على مراكب تركية، تمضي به حتى ميناء السويس، وهو آخر ميناء في البحر الأحمر، ثم يعاد نقله مرة أخرى على الجمال وينقل إلى مصر وإلى قرى الامبراطورية التركية الأخرى، بواسطة القوافل المختلفة أو عبر البحر الأبيض المتوسط».
ثم يعبر الكاتب إلى الاهتمام الأدبي بالقهوة، لافتا إلى أن تجارة البن مثلت عنصرا مهما تجاريا ما يعكس الاهتمام بشرائها منذ وقت مبكر، فلم تعد القهوة عادة متأصلة فحسب في المجتمعات الشرقية، وإنما أصبحت مشهورة أيضا، كما لو أنها هبة من العناية الإلهية، وينقل عبارة عن الشاعر العربي عبدالقادر ـ يعتقد أنه عبدالقادر الحسيني القائد الفلسطيني المولود في القدس في 1908 واستشهد 1948 في معركة ضد العصابات الصهيونية ـ يمتدح القهوة في سرور وغبطة فيقول ما معناه: «أيتها القهوة، إنك تنشرين خيراتك وإنك لشراب أحباب الله، تمنحين الصحة للذين يكدون لمعرفة الحكمة».

العطر الفوّاح

ولا ينسى الكاتب أن شاعرا تركيا كتب ذات مرة، في مديح القهوة قائلا: «ونحن نجتمع في دمشق وحلب، وفي العاصمة، القاهرة، في دائرة، في مرح كبير، حبوب البن.. العطر الفوّاح! قبل أن ندخل السراي، على شاطئ البوسفور، كانت قد سحرت الأطباء وكان لها أنصارها وشهداؤها، ولكنها، ويا لسعادتنا، انتصرت».
وبخصوص انتشار صناعة القهوة في الشوارع العربية، ينقل الكاتب عن أحد الرحالة الإيطاليين، إلى القاهرة في آخر القرن الخامس عشر، ويدعى فليكس فابري، أنه لاحظ وجود باعة متجولين يحملون مواقد فوق رؤوسهم، ويعدون ويقدمون القهوة للمارة، ويضيف الكاتب لومير:» من المحتمل جدا أن القهوة قدمت في البداية، في الأسواق الكبيرة، فإن مطبخا صغيرا متنقلا يكفي لإعدادها، وكما لا يزال ذلك يدور في أيامنا فإنهم يقدمونها لزبائنهم لا يغادرون محالهم أو أماكن معاملاتهم التجارية».
ويعتقد المؤلف أنه خلال القرن السادس عشر، أقيمت أنواع كثيرة من الأماكن العامة، وأوائل هذه المحال تحتفظ بالمظهر البدائي لمكان مخصص بالذات لإعداد المشروب «القهوة»، لحي أو لمركز أعمال تجارية أو غيرها، والأخرى تحولت إلى أماكن لها طابع شاعري.
يقول إن جان دي تيفينو، يذكر في كتاب له أن جميع مقاهي دمشق رائعة، ويصفها تيفينو هكذا: «كثير من النافورات، بجوار الشاطئ، مناطق ظليلة، وورد وأزهار، هي أماكن منعشة وممتعة»، كما كتب المغامر البرتغالي بدرونكسيرا، الذي أقام في بغداد، أوائل القرن السادس عشر: «القهوة تباع في أماكن عامة شيدت لهذا الغرض، وذلك المحل يقع على مقربة من النهر، وبه نوافذ كثيرة، ورواقان يجعلان منه مكانا ممتعا جدا».

مقاهي الإمبراطورية

في السياق، يتكلم جان شاردان عن نوع تلك المحال بالذات «المقاهي» في كتابه «رحلة إلى فارس»، ويسميها البيوت التي يمضي إليها الناس لشرب القهوة في فارس، يصفها هكذا: «قاعات كبيرة رحبة ومرتفعة، مختلفة الأشكال، وهي في العادة أحسن الأماكن بالمدينة، لأنها موعد لقاءات، وأماكن لهو للأهالي، هناك الكثير منها، ترى فيها أحواضاً مائية في وسطها، وخصوصاً في المدن الكبيرة، وتلك القاعات تحيط بها منصات أو دهاليز مرتفعة بنحو ثلاثة أقدام وعميقة بنحو ثلاثة أو أربعة أقدام تقريبا، حسب سعة المكان، وذلك للجلوس فوقها على الطريقة الشرقية، وتفتح للمرتادين بمجرد طلوع النهار، وتزدحم بكثير منهم في نحو المساء، حيث يحتسون القهوة المعدة بكل إتقان، وبأسرع ما يكون، وباحترام كبير».
يقول الكاتب، الذي زار مدنا عربية وشرقية عدة، إن غالبية مقاهي البحر الأبيض المتوسط، لا تملك الأبهة والعظمة إلا في ما ندر، فهي لا تزال محال متواضعة، مجهزة بطريقة بسيطة جدا، كالمقهى الذي وصفه ألكسندر هيب في كتابه «دقائق من الشر» حين يقول: «لا ذهب ولا قطيفة حمراء، بل في كل خطوة تقريباً محل منخفض، أبيض الجدران، وحصيرة مفروشة فوق الأرض، وموقد، وأريكة مستديرة مبقعة ومنبعجة لفرط الجلوس عليها القرفصاء، وهذا كل شيء، وأحيانا قطعة مربعة من القماش الأصفر يبدأ أحد طرفيها من المحل وينتهي الطرف الآخر في شجرة أو في أحد البيوت المواجهة بالزقاق، بحيث تبدو كالخيمة، وتحتها مقاعد فوق البلاط الأسود المشقق كالصخور الواقعة على شاطئ البحر».

متواضعة جداً

هذا الوصف يؤكده أندريه رايمون، عندما يكتب عن القاهرة قائلا: «أغلب المقاهي كانت محال متواضعة جدا، لا يزيد أثاثها على بضع حصائر أو سجادات مفروشة فوق دكك خشبية، وبنك، وفناجين من الصيني بالطبع، وكل الأدوات اللازمة لإعداد القهوة».
ويحاول الكاتب أن يختص مقاهي «الامبراطورية العثمانية» ويحددها من شواطئ البوسفور حتى مدينة قرطاجة القديمة بسمات محددة، مستندا إلى مقال لموريس تاميزييه، الذي يتكلم فيه عن مقاهي جدة، حيث قال: «ترى بطول البازار مقاهي عديدة يجتمع فيها المواطنون والأجانب، وهذه الأماكن العامة مقامة تحت أسقف طويلة مبنية على هيئة العشش، وفي آخرها، في كانون كبير، تشتعل نار مستمرة يغذيها فحم الخشب، وتستخدم في إعداد القهوة وإشعال الغليون أو النرجيلة، والشيش بلياتها مصفوفة بترتيب بجوار الموقد، وأرائك من أغصان الأشجار مجهزة بطريقة خشنة ومكسوة بقماش سميك، في الداخل أثناء النهار، ولكنها تنقل إلى الخارج في المساء، وهناك يجلس العاطلون ويقدمون فيها القهوة من غير سكر، ولكنها معطرة بالقرفة والقرنفل والجنزبيل».

لذة الكافيين

يقول الكاتب إنه حين تقبل الشرق القهوة بصفة عامة فجر القرن السابع عشر، لم تكن هناك أي طبقة لا تتناولها، ولا أي مدينة لا تعرفها، لافتاً إلى أنه في هذا القرن أيضاً بدأت جذورها تتأصَّل في مدنِ أوروبا، رغم المقاومات الشرسة لأكاديميات الطب التي أجمعت في اعتراضاتها، على ذلك المنتج الأجنبي الذي لا ينتمي إلى دستور الأدوية (الفارماكوبيا)، وكان لابد من عشرات السنين لكي يتحول عداء الصيادلة والأطباء إلى عطف.
وبينما بدأت القهوة تنتشر في أبلاط الملكي الأوروبي، متأثراً بالبلاط الفرنسي، يقول الكاتب إن طقوساً كثيرة أحاطت بعد ذلك بلذة الكافيين، في أعلى دوائر السلطة، وبكل وضوح في «قصر توبكابي»، حيث يجلس من كان يتربع على عرش «الباب العالي»، وتكتب ليلى حنون في مذكراتها الطريقة التي تقدم بها القهوة للسلطان مثلا، بما يعكس الاهتمام غير المسبوق بالقهوة:
«تأتي جاهزة تماما في تنكة من الذهب، مغطاة، وتوضع فوق رماد ساخن موجود في حوض صغير من الذهب، معلق في أسفله ثلاث سلاسل، تجتمع في أعلاه، وتمسكه إحدى الخدم، وتأتي خادمتان أخريان بصينية من الذهب عليها فناجين صغيرة للقهوة من الخزف السكسوني الثمين أو من الصيني، وصحون صغير من الذهب المرصع بالأحجار الكريمة، وتمسك هاتان الفتاتان في الوقت نفسه، مع الصينية، بمفرش من الحرير أو القطيفة، مطرز بالذهب واللؤلؤ والأحجار الثمينة، في وسطه زخرفة من الماس، وبحوافه شرابات من الذهب، وإحدى أطرافه مثنى برقة متناهية، وتمسك كل من الفتاتين أحد طرفيه في كف يدها، وهي تمسك في نفس الوقت بالصينية، وقد أحاط المفرش بحافتها التي تميل من هذه الناحية إلى أسفل، وتأخذ السيدة الأولى للقهوة صحنا من فوق الصينية، وتضع فوقه في عناية فائقة فنجاناً، ثم بقطعة صغيرة من القماش المبطن، موجودة هي الأخرى فوق الصينية، تمسك بيد التنكة وتصب القهوة، وتمسك عندئذ في رقة بالغة طرف الصحن من ناحيته السفلى، بحيث يستقر على طرف سبابتها ويرتكز على طرف الإبهام، وتقدمه إلى السلطان في حركة كلها رقة وفن».

بذخ ورقّة

ورغم ذلك البذخ وتلك الرقة، ورغم هذا العرض من العظمة والأبهة، وتلك الرسميات الخطيرة، يقول الكاتب، إن الأماكن العامة التي تباع فيها القهوة لا تحظى بالضرورة بسمعة طيبة،مذكراً بما أشار إليه رالفس هاتوكس، بأن هناك تشابهاً بين المقهى و «الحانات»، والمفردة الأخيرة لغير المؤمنين، لافتاً إلى أن تلك الحانات تتمتع بسمعة سيئة، لأنه لا يمكن إلا أن تكون فاسقة بسبب تجارة الخمر المحرمة على المسلمين، ولأنها تعتبر أوكاراً للبغاء والشذوذ الجنسي ويضيف «هاتوكس»: «على أن هذا التفسير غير كاف فإن الشائعات تدور بأن المقاهي هي الأخرى أماكن للفسق، ففي بغداد، في بداية القرن السادس عشر يقدم القهوة للزبائن غلمان على قدر كبير من الجمال ويرتدون ثياباً غالية».
من جانبه، صدم جورج سانديس في شعوره من ممارسة الشذوذ الجنسي بين الرجال في الأماكن السيئة في إستانبول، حيث يحرص أصحاب المقاهي على استخدام صبية يتمتعون بالحسن والوسامة لكي تكون طعما لاجتذاب الزبائن، ومع ذلك، لا تبدو هذه الأخلاقيات المنحلة قاعدة عامة، ولم يبد القاضي الإقطاعي البندقي جيانفرا نشيسكو موروزيني في مذكراته التي كتبها في سنة 1589 تقديراً كبيرا نحو المقاهي التي زارها، بل والأكثر من ذلك، نحو الرجال الذين يرتادونها، وقال:
«كل أولئك الناس من طبقة منخفضة، أخلاقهم غير حميدة، وعلى قليل من المهارة، بحيث إنهم يقضون أكثر أوقات فراغهم غارقين في البطالة، والجلوس باستمرار، واعتادوا الترفيه عن أنفسهم بأن يشربوا علانية، في المحال والشوارع مشروبا أسود يغلي إلى الدرجة التي يطيقونها من حبة يسمونها «بن».
دوفور يقول في مذكراته، الصادرة في القرن الثامن عشر، إنه لاحظ أنه لا يمكن لشيء جليل وسام أن يقع في مثل تلك الأماكن السيئة التي يرتادها الناس.

تعذيب الآخر

وينتاب دوهسون نفس الإحساس، حيث يقول إن المقاهي كانت قبل قرنين من ذلك ملتقى البكوات والضباط النبلاء والقضاة ورجال آخرين من رجال القانون»، وهناك كاتب غربي ليس أكثر تسامحا، نظر إلى زبائن المقاهي كطبقة بعيدة عن الأدب والرقة، وقال إن الأشخاص الذين يرتادونها «من الأمير إلى الفقير» يتسلون بتعذيب كل منهم للآخر.
بعض الكتاب الغربيين كان واثقا بأن المقاهي ما هي إلا بؤر تختلف إليها أنواع كثيرة من الناس لا يتزاورون عادة، ويخضعون لطبقة لا عيب فيها ويتجالسون، ويقول تيفينو: «إن أناساً من كل الأنواع يختلفون إلى تلك الأماكن دون تفرقة للدين أو للوضع الاجتماعي، وهناك من لا يمضي إليها للتسلية والترفيه، وكثير من الناس يجتمعون بها لا لشيء إلا للثرثرة».
وما يسري على إستانبول يسري على بغداد، كما يخبرنا بدروتكسيرا بذلك قائلاً: «يمضي إليها كل رجل يريد أن يشرب قهوة، سواء كان عظيماً أو متواضعاً»، ويأتينا الإسحاقي، المؤلف المصري بقصة تنويرية، فيقول إن الناس لا ينظرون إلى المقاهي نظرة سيئة بطريقة قياسية، فهي تعيد إلى الأذهان صورة أحمد باشا، حاكم مصر في آخر القرن السادس عشر، الذي استطاع أن يعلي نفوذه بين رجال الدين والشعب بأن أنشأ بين ما أنشأ مقاهي في بولاق وفي حي الرشيد، ولكن مثل ذلك العمل الخيري يبقى استثناء عجيباً.

http://www.aljarida.com/news/index/...ق-8---لومير--في--مصر--نبلاء-وأوباش-على-المقهى
 
جولات في الشرق 9: لومير: الحريات تواجه «الجواسيس» على مقاهي الشرق
جولات في الشرق 9: لومير: الحريات تواجه «الجواسيس» على مقاهي الشرق



الجمعة 26 يونيو 2015 - الساعة 00:01
بعض المستشرقين الذين جاءوا إلى الوطن العربي، وكان طبيعياً أن يدخلوا من البوابة المصرية، تأثر كثيراً بما شاهده في بلادنا، وتحولت حياته إلى شيء آخر، بمجرد أن وطئت قدماه أرض مصر، ومن هؤلاء جيرار جورج لومير، الذي جاء إليها في النصف الأول من القرن العشرين، وكان من أجمل مآثره، كتابه عن «مقاهي الشرق».
في حلقة اليوم، يصل الكاتب إلى مدى ما تعرضت له المقاهي الشرقية من سيطرة أمنية عبر التاريخ، راصدا قبضة محمد علي عليها في مصر، وقبضة سلاطين الدولة العثمانية عليها في إستانبول، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على الأقل.

1435242125_54_1.jpg

1435242125_68_2.jpg

T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 10: صوفيا لين بول: رشاقة «الفلاحة المصرية» تثير الإعجاب
جولات في الشرق 8 : لومير في مصر: نبلاء وأوباش على المقهى
جولات في الشرق 2: كزانتزاكيس أمام الأهرامات: الظمأ إلى الأبدية يحكم مصر
جولات في الشرق 1: كزانتزاكيس في مصر: معركة مُرعبة بين الإنسان والماء
يرصد الكاتب ـ المعني بالثقافة الشعبية والروحية لأهل الشرق ـ حالة النشاط الوجداني للعرب، في النصف الأول من القرن العشرين، باعتباره واحدا من القليلين الذين كتبوا عن الشرق، بأكبر قدر من المحبة والتعاطف والفهم، مشيرا إلى الأدوار التي لعبتها المقاهي في ترسيخ صورة «المزاج» العربي والشرقي، التي تميل إلى التأمل والاسترخاء ـ بين الحين والآخر ـ لاستعادة النشاط من جديد.
ينطلق لومير، صاحب كتاب «مقاهي الشرق» فاتحا الباب أمام الحديث عن تجارة «البن»، من حركة القوافل إلى تأثيره على أبدان الناس وعقولهم، ثم تحوله إلى «أيقونة»، يلتقي الناس حولها ليتناولوه وهم يثرثرون، مشيرا إلى أن تأثير العرب والشرقيين على الغرب، في هذه النقطة، كان كبيرا ومدهشا.

لعبة الـ14

يبدأ الكاتب من حيث إن النشاط الذي يدور في المقاهي لا يدور لرفع شأنها، فاللعب منتشر فيها: الشطرنج والطاولة، و{المنقلة»، يقول إن هذه الأخيرة، لعبة قديمة تعرف أيضا باسم الـ14، وكل تلك الألعاب تحظى برواج كبير، في حين أن لعبتي الورق والزهر «غير معروفتين».
وعلى الرغم من أنه لا يريد التوقف أمام اللعب كثيرا في هذا الجزء من الكتاب الذي حظي بترجمات عربية شتى، في مصر والشام على وجه التحديد، ينتقل الكاتب إلى المساحة التي شكلت أعمق ما في المقهى الشرقي القديم من لذات، وهي حالة الحصول على النشوة نتيجة تناول مشروبات مكونة من مخدر الحشيش، مشيرا إلى ثقافة خلط البن بالمخدر، الذي كان معروفا في مصر على الأقل زمن الحملة الفرنسية 1798 ميلادية.
يقول إنه لا يمكن فهم أهمية المقهى الشرقي، بعيدا عن أنه ربما يكون في بعض الأحيان مأوى لمدمني المخدرات، لافتا إلى أن رايمون يتكلم عن مشروب مكون من العسل والحشيش، يتم تناوله في بعض أماكن القاهرة، ويقول إن «متعاطي الأفيون تبنوها، ويروق لهم أن يتابعوا فيها خيط أحلامهم».
إلى هذا الحد دخل المقهى حيزا جديدا وبدأت إجراءات مطاردته من قبل الدولة، التي لم تلتفت كثيرا إلى أن أغلب رواد المقهى يقنعون لحسن الحظ بمعبودتهم السوداء، وبالتنباك الذي يدخنونه بواسطة غليون طويل أو نرجيلة كبيرة، ومتعتهم العادية، أكثر من غيرها، وبدأت الدولة تنتبه إلى ما في المقهى من أحاديث، حيث إن «الثرثرة هي الرذيلة الوحيدة التي يشجعونها»، كما يقول لومير.

سلوكيات منحرفة

يرصد الكاتب المسار الذي أخذه «حصار المقهى» من قبل الدولة، إذا جاز التعبير، من حيث اتهام السلوكيات التي تتم في المقهى بأنها منحرفة، وينقل عن «الجزيري» شكواه من أن الممارسة الرسمية للصوفيين تستبدل بدعابات غير مستحبة، وبمشاركة في إثارة المشاعر بالحكايات المسلية، في المقاهي، وينقل ازدراء كاتب آخر هو «دوفور» أولئك الرجال «الذين يتجمعون ويشفون غليلهم بالذات في أحاديث غامضة، عن لا شيء بالذات، أو بحكايات ماجنة مضحكة».
يستند إلى «دوهسون» أيضا الذي كتب من قبل أنه «مشمئز» من هؤلاء الشبان العاطلين «الذين يقضون في المقاهي ساعات يدخنون ويلعبون الضامة أو الشطرنج وهم يناقشون المشكلات، والذين يكشفون سلوك أصحاب العمل الذين يفيضون حقا في الأكاذيب والافتراءات والقذف ويثيرون الشكوك حول سمعة النساء العفيفات، وما يرونه أحيانا إنما من أشد الافتراءات، وليس له ذرة واحدة من الحقيقة».
المسار الذي اتخذه حصار المقهى إذن هو اتهامها بضرب المحرمات، لكون بعض الممارسات الصوفية فيها كانت منافية للسائد، ويدور الحديث عن الخطباء الأتقياء «مثيري الفتن»، الذين يجب الحذر منهم كل الحذر، وهم يجتمعون في المقاهي ويزعجون السلطات»، قبل أن ينتقل مباشرة إلى إغلاق بعض المقاهي الشهيرة في التاريخ، وإلى الأزمات السياسية التي نتجت عن مثل هذا الإغلاق المريب لمقهى.
يقول الكاتب: «كما في باريس وروما ولندن والبندقية، فإن مقاهي الشرق تمثل مراكز حرية التعبير فيها هي القاعدة، وحيث يمكن للحرية أن تكون رخصة دنيئة أو مطمحا للمطلق والحق».
ينسب الكاتب إلى دوهسون، واقعة إغلاق المقاهي في إستانبول والتي قال إنها كانت لأسباب سياسية، ففي عهد «مراد الرابع» كانت المقاهي أماكن لقاء لأشخاص وجنود «متمردين»، مذكرا بأن حكومة محمد علي، في مصر، وفي قلب القرن التاسع عشر كانت شديدة القلق من أحاديث التمرد والعصيان في مقاهي القاهرة، بحيث جندت «جواسيس» لكي تصغى للأحاديث التي تدور في المقاهي.

رجلان يتكلمان

لا ينسى الكاتب، أن المقاهي مراكز لهو للأهالي في الأصل، يروي عن «تيفينوا» قوله: {على العموم هناك كثيرون من عازفي الكمان، وعازفي الناي، ومن الموسيقيين الآخرين، يستأجرهم صاحب المقهى للعزف والغناء أثناء فترة كبيرة من النهار، على أمل اجتذاب الزبائن».
مهنة الموسيقى في المقاهي ظلت شائعة جدا عالميا، يقول لومير، موضحا أنه أمر يظهر أيضا في كل بلاد الإسلام، «شاتوبريان» قال في كتابه «رحلة باريس إلى أورشليم»:
«إن نغمات «الماندولين» الحزينة كانت تخرج أحيانا من داخل مقهى، وترى غلمانا مقززين يقومون برقصات مخجلة أمام أنواع من القرود، جالسين في دائرة، على موائد صغيرة، لأنهم يرقصون أحيانا في كثير من هذه المقاهي، وهذه الحفلات الموسيقية الشعبية الراقصة المتكلفة تقريبا لا تساهم في منح المقاهي شهادة طيبة بحسن الأخلاق، فإن فن الموسيقيين والمطربين والراقصين مرتبط على العكس بالفسق والفجور».
يلتفت الكاتب إلى دور آخر من أدوار المقهى، حيث يشير إلى الخطباء والرواة الذين يملأون المقاهي في القاهرة ومدن عربية أخرى، وبالإضافة إلى الموسيقى، يقول «ليس هناك ما يثير افتتان الرجال الطيبين غير الموسيقى عندما يريدون نسيان هموم الواقع، وأكبر تسلية لهم هي الاستماع إلى القصص التي يرويها الرواة، سواء بالتجويد أو بالإنشاد»، يقول إن شاردان مشى في الشوارع غير الممهدة في بيزنطة القديمة، حيث ترتفع المآذن، كما لو كانت حرابا، نحو السماء المكفهرة يقول عن المقاهي:

شيوخ ودراويش

«هناك قصص شعرية أو نثرية يرويها شيوخ أو دراويش أو شعراء من كل نوع بالتناوب، يقف شيخ في وسط قهوة ويبدأ بإلقاء موعظته في صوت مرتفع، وفجأة، يدخل درويش ويحاضر الموجودين في غرور الدنيا وخيراتها وأمجادها، ويحدث أن يتكلم في المقهى رجلان في وقت واحد، أحدهما في أول المقهى والثاني في آخره، وأحيانا يكون أحدهما واعظ والثاني راو».
يعتقد الكاتب محقا أن الحرية الشخصية هي الميزة التي تتمتع بها المقاهي العربية، لافتا إلى أن هذين الرجلين اللذين يتكلمان في المقهى لا يعترض عليهما أحد، بل إن الرجل العاقل لا يجرؤ حتى على أن يعلق بشيء لأي منهما، فكل منهما يدلي بدلوه، وليسمع من يشاء، مشددا على أن طائفة الوعاظ والخطباء، التي كانت تغزو المقاهي اختفت في عهد زيارته، وأنه على العكس «باتت مقاهي الشرق مكانا يتوافد الناس إليها، خصوصا في أيام رمضان لسماع قصصهم ورواياتهم».
يسجّل الكاتب صورة قديمة نسبيا للمقهى الشرقي، حيث يجلس الرواة على «مصطبة»، ويجلس المستمعون إليهم على «الدكة» أو على مصاطب المحال الأخرى المجاورة، وهؤلاء الرواة إما طلبة يأتون أملا في ربح بضعة قروش، وإما رجال دين فقراء، وقال إنه عرف أنهم كوّنوا اتحادا لهم وأنهم يشتركون في المواكب النقابية.
وينقل عن الشاب «جان بوتوكي»، الذي زار اليونان وتركيا ومصر، وأرسل إلى أمه سنة 1784 خطابا يقول لها فيه: «لم يعد أمامي لكي أعرفك بملاهي الشعب التركي إلا أن أحدثك عن المقاهي، أغلبها مبني على شكل أكشاك، يدخلها الهواء من كل النواحي، وجوها بارد بصورة مدهشة، وهي ملتقى العاطلين من كل نوع، وأحد الرواة المحترفين يروي أحدث المغامرات وهو يلحنها بكل فنون الإلقاء الشرقي المنغم».

المُنبه الأسود

ويبدو أن الرواة ظلوا موجودين في المقاهي الشرقية، مدة طويلة، حيث كتب عنهم أيضا جيرار دي نرفال، بعد ذلك بعشرات السنين، مشيرا إلى نفس الإحساس الذي ينتاب المرء، أمام أولئك الرواة الذين يمتعون الحاضرين المتلهفين إلى سماع أساطيرهم وأبطالهم، مشيرا إلى سهرات رمضان وسحر لياليه، وإلى «القصص العجيبة» التي يرويها بأصوات منغمة، أو ينشدها رواة محترفون، يعملون في مقاهي إستانبول».
يقول جيرار، إن الراوي الذي استمع إليه في إستانبول كان رجلا مشهورا، «فعلاوة على زبائن المقهى كان هناك جمع غفير من المستمعين العاديين متجمعين في الخارج، وطولبنا بالصمت، وأقبل شاب شاحب الوجه، رقيق الملامح، متألق العينين، شعره طويل، يتطاير كشعر الدمية من تحت طاقية لها شكل يختلف عن الطربوش، وجلس فوق مقعد عال، في منتصف ساحة من أربعة إلى خمسة أقدام، وجاءوا إليه بقهوة، وأصغى الجميع إليه في اهتمام كبير، لأن كل جزء من القصة، وفقا للعادة، يجب أن يدوم نصف ساعة، وهؤلاء الرواة المحترفون ليسوا شعراء، ولكنهم يروون قصصهم وهم يعزفون على الربابة بمختلف الألحان والأنغام، وقصصهم تدور دائما حول الملاحم القديمة، وهكذا نستمع إلى إضافات أو تغييرات كثيرة في مغامرات عنترة وأبي زيد والمجنون».
ينقل الكاتب أيضا إعجاب «بييرلوتي»، نهاية القرن التاسع عشر، بتلك المقاهي، بوصفها مأوى الكسالى والخاملين، حيث يحلمون ويستسلمون لأحلامهم الشاردة في مقهى تركي صاحبه يدعى سليمان القهوجي.

فن شرقي

على الرغم من إيمان الكاتب المطلق بالحرية التي يتمتع بها رواد المقاهي الشرقية، فإنه يلتفت كثيرا إلى أن ارتياد المقهى يعتبر كأنه عمل مذموم، وأن كل الذين يقضون فيها ساعات طويلة هادئة هم بالضرورة عاطلون ومتطفلون، وأن الطبقات السفلى من المجتمع هي الوحيدة التي تأتي إليها.
يروي الكاتب نقلا عن الفونس دوديه، الذي زار الجزائر سنة 1870، وعبر في كتابه «أقاصيص يوم الاثنين» عن معنى تلك الأماكن التي ترمز إلى فن من فنون الحياة، هو الفن الشرقي، وإلى عقلية حضارة من الحضارات، قائلا:
«المقهى القريبة إنما هي صالون استقبال لأصحاب القصور العربية، بيت داخل البيت، مخصص للضيوف العابرة، يجد فيها هؤلاء المسلمون الكرماء جدا والمهذبون جدا الوسيلة التي تتيح لهم مزاولة أفضالهم الكريمة، محتفظين في نفس الوقت بالصلة الأسرية التي يتطلبها القانون، والمقهى المغربية لصاحبها الأغاسي سليمان كانت مفتوحة، يخيم عليها الصمت كإسطبلاته، جدرانها عالية ومطلية بالجير، ومجموعة الأسلحة التذكارية، وريش النعام، والكنبة العريضة المنخفضة الممتدة بطول القاعة، كل ذلك يرشح تحت سيول المطر التي يدفعها الريح من الباب، ومع ذلك فقد كان هناك حشد من الناس في المقهى، وعاد القهوجي وأشعل موقده ووضع فوقه تنكتين صغيرتين».
يقول الكاتب إن المقاهي حلت محل صورة معكوسة لبلاط السلطان الباذخ، أو بالأحرى، انعكاس ساخر للثقافة العالية التي توجد هي الأخرى في السرايا، والفنانون الذين ظهروا في مناسبات تلك الأعياد لم يخلدهم التاريخ، ولكنهم نقلوا السمات الحية الثقافية التي لا تكف عن أن تثري من جيل إلى جيل.

بين القصرين

يربط الكاتب بين واقع المقهى والخيال الأدبي الذي حاول أن يتناولها، مشيرا إلى ما في رواية «بين القصرين»، للكاتب نجيب محفوظ، ويقول إنها تدور في الحياة اليومية داخل بيت تاجر قاهري ثري، في بداية القرن ينقل منها هذا المقطع نصا:
«.. واجتمعت الأسرة، ما عدا الأب، قبيل المغرب، في ما يعرف بينها بمجلس القهوة، وكانت الصالة بالدور الأول مكانه المختار، حيث تحيط بها حجرات نوم الأخوة والاستقبال ورابعة صغيرة أعدت للدروس، وقد فرشت الصالة بالحصر الملونة، وقامت في أركان الكنبات ذوات المساند والوسائد، وكانت أمينة تجلس عادة على كنبة وسيطة، وبين يديها مدفأة كبيرة دفنت كنكة القهوة حتى النصف في جمراتها التي يعلوها الرماد، وإلى يمينها خوان وضعت عليه صينية صفراء صفت عليها الفناجين، ويجلس الأبناء أمام أمهم، سواء من يؤذن له باحتساء القهوة معها كياسين وفهمي.. كانت تلك ساعة محببة إلى النفوس يستأنسون فيها إلى رابطتهم العائلية وينعمون بلذة السحر.. وبينما جعلت خديجة وعائشة تستحثان الشاربين على الفراغ من شربهم لتقرأ لهم الطالع في فنجان، راح ياسين يتحدث حينا ويقرأ في قصة اليتيمتين من مجموعة مسامرات الشعب حينا آخر، كان من عادة الشاب أن يهب بعد فراغه لمطالعة القصص والأشعار».

قصص لا تنتهي

يقول بييرلوتي: «كان الناس جلوسا حول النار، وعندما وصلت، أنا وصمويل وأحمد، سلمت على كل الحاضرين باليد، وجلست لكي أستمع لراوي سهرات الشتاء (القصص الطويلة التي تستمر كل منها ثمانية أيام، والتي يأتي فيها ذكر الجن والجنيات)، وتمر الساعات دون تعب، ودون ندم، وأجد نفسي مرتاحا بينهم، ولا أشعر بالاغتراب أبدا».
يحاول الكاتب أن يتتبع قصص الرواة الطويلة التي لا تنتهي، لكنه يذكر عنصرا جديدا في المقهى، وهو وجود «عروض للعرائس المتحركة» أو «قراقوز»، التي اختفت من القاهرة منذ زمن بعيد، وعروض لـ»الفانوس السحري»، لكنه ينقل عن نيوبهور، الذي حضر وكتب عن أحد تلك العروض قائلا:
«يُقدم العرض فوق منصة ضيقة جدا فوقها صندوق يمكن للمرء أن ينقله بكل سهولة، يجلس داخله محرك العرائس، ويمرر شخوصه من خلال أدراج صندوقه الثلاثة، ويجعل كل منها يقوم بالحركات الضرورية، وذلك بتحريك خيوطه.. وفي فمه أداة تكسب صوته رنة حادة تتفق مع حجم شخوصه، وكل ذلك يستحق الاهتمام لو أن العروض التي يحلو للمشاهدين أن يطلبوها لم تكن رديئة جدا، تبدأ العرائس بتحية الموجودين، ثم تتعارج بالتدريج، وينتهي بها الأمر إلى أن تتضارب، ولكن الأمر لا يقتصر على عروض العرائس المتحركة».
يصل إعجاب لومير بالمقاهي العربية إلى حد أنه ينعي حظها العاثر في أن المقاهي لم تكتسب أبدا حقها في «النبالة»، التي تعني عنده أنها كانت دائمة في حالة من الفقر، وينقل وصف الرحالة التركي تييتز الذي أقام في مصر في آخر القرن السابع عشر لمقاهي القاهرة، لندرك شديد ازدراء الكاتب لها: «يشعرون بطريقة ما أن تأثيرها الخفيف يكسبهم قوة لأداء واجباتهم الدينية وشعائرهم، وتحمسهم في العبادة بسبب المنبه الأسود، سرعان ما يتحول إلى رفض لحياتهم الاجتماعية المحزنة، في أغلب الأحيان فإن مقاهي مصر تكون أكثر الأماكن ازدحاما بالأشخاص، وعدد كبير من تلك المقاهي يحتلها قدامى الجنود والضباط والمسنين، عندما يقصدونها صباحا تفرش الحصر والسجاجيد، ويبقون حتى المساء وبعض الزبائن من مدخني المخدرات من طبقة العبيد، ما هم إلا نفاية من المتطفلين، قوام عملهم تصدر المقهى واحتساء القهوة على الحساب، والتحدث عن التقشف عندما يتعرض الحديث إليه».



http://www.aljarida.com/news/index/...مير--الحريات-تواجه-«الجواسيس»-على-مقاهي-الشرق
 
جولات في الشرق 10: صوفيا لين بول: رشاقة «الفلاحة المصرية» تثير الإعجاب
جولات في الشرق 10: صوفيا لين بول: رشاقة «الفلاحة المصرية» تثير الإعجاب



السبت 27 يونيو 2015 - الساعة 00:01

1435321500_16_4.jpg

1435321500_3_2.jpg

1435321500_43_1.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 9: لومير: الحريات تواجه «الجواسيس» على مقاهي الشرق
جولات في الشرق 8 : لومير في مصر: نبلاء وأوباش على المقهى
جولات في الشرق 2: كزانتزاكيس أمام الأهرامات: الظمأ إلى الأبدية يحكم مصر
جولات في الشرق 1: كزانتزاكيس في مصر: معركة مُرعبة بين الإنسان والماء
نختتم رحلات المستشرقين إلى الشرق العربي الإسلامي، بجولة في كتاب «صوفيا لين بول» شقيقة المستشرق الإنكليزي المهموم بالشأن المصري، إدوارد وليم لين، الذي زار القاهرة مراراً، وخلفت تلك الزيارات عشرات الكتب، وضعها هو وكتيبة من تلاميذه وأحفاده، لكنه لم يتمكن ـ بسبب التقاليد الشرقية ـ من دخول جناح الحريم، أو معرفة ما يمكن معرفته عن عالم النساء في مصر، بين عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، فأقنع شقيقته «صوفيا» أن تأتي إلى القاهرة، لترى بعينيها عالم الحريم في مصر وتكتبه، على هيئة رسائل إلى صديقتها المقيمة في إنكلترا، والذي صدر عدة مرات تحت عنوان «حريم محمد علي باشا – رسائل من القاهرة (1842 – 1846)» وهو من ترجمة ودراسة د. عزة كرارة.
الكتاب عبارة عن مشاهدات للواقع المصري، قبل نحو مئتي عام بعين نسائية وعن الموضوع النسائي بالذات، في العالم العربي، نظراً إلى ما فيه من ملاحظات امرأة إنكليزية، كانت صائبة إلى حد كبير، بشأن واقعنا وواقع نسائنا.


تبدأ الكاتبة البريطانية ـ التي وصلت القاهرة يوليو 1842 ـ رحلتها من نهر النيل، فلكي تفهم كثيراً من عادات المصريين على مر العصور، لابد أن تذهب إلى ضفتي هذا النهر، مثلما اعتقد كل المستشرقين الكبار، الذين جاؤوا إلى مصر، ورصدوا حياة شعبها بعين منصفة، لم تخل أبداً من انحياز دائم إلى البسطاء، وبدت الكاتبة منذ سطورها الأولى كأنها تبحث في هذا النيل بالذات عن ملامح المصريات، اللائي يتحركن على ضفافه.
اختارت الكاتبة شكل كتابة الرسالة الأدبية، لإحدى صديقاتها في إنكلترا، فكل فصل في الكتاب هو رسالة من الكاتبة إلى صديقتها الإنكليزية، وفق المنهج الذي حرضها عليه شقيقها «إدوارد لين بول»، لكي تكون لديه عين نسائية ترى الجانب الآخر من المجتمع المصري، الذي كان يلهث وراء نجاحات محمد علي، ويعاني فيه البعض أيضاً مشكلات العالم الثالث، خصوصاً من مثلث «الفقر والجهل والمرض»، على الرغم من النهضة التي أقامها محمد علي للدولة المدنية في مصر.
الكاتبة كانت ـ إذن ـ جزءاً من مشروع كبير لشقيقها المهتم بالشأن المصري، جزءاً ضرورياً وملحاً ليتمكن من فهم المجتمع المصري وتفسير ظواهره الاجتماعية والتاريخية والدينية، بعد عامين اثنين فقط من توقيع «معاهدة لندن» عام 1840، بين الدولة العثمانية وأربع دول أوروبية هي: «الإمبراطورية الروسية» و{بروسيا» و«المملكة المتحدة» و{الإمبراطورية النمساوية»، للحد من توسعات محمد علي باشا، حاكم مصر، على حساب أراضي الدولة العثمانية، وقبيل نحو أربعين عاماً بالضبط، من احتلال الجيوش الإنكليزية لمصر، عام 1882.
العين النسائية كانت حاضرة في كل سطر من هذا الكتاب، خصوصاً من تلك اللحظة التي ركبت فيها «الصندل» الذي تجره الأحصنة، فقد بدأت رسالتها الأولى بالإشارة إلى أنه كان صندلاً كبيراً جداً وكانت له قمرتان واسعتان، وتقول بعين نسائية لماحة واصفة «الصندل»: فُرش بدُكك ومناضد وبدت نظيفة، وهناك أربعة من الخيل تجر «الصندل» بسرعة بالغة تمتعنا معها بالهواء الساري المنعش، الذي أوقعنا حينما جاء الليل في غلطة مؤسفة، إذ رقدنا طالبين الراحة، دون أن نسدل «الناموسيات» وكان أصحاب «الصندل» قد كسوا الدكك الواسعة بالبسط، تصوري مثل هذا السرير في مثل هذا الجو، لقد غطتنا البراغيث، وهجمت علينا الخنافس السوداء الضخمة التي لم أشاهد مثلها أبدا في إنكلترا، ندمنا بعد فوات الآوان على غلطتنا، وأنا أنصح بشدة كل مسافر إلى مصر أن ينام صيفاً وشتاء تحت «الناموسية»، طبعاً ـ وبدون شك ـ هناك شعور بالحر وضيق النفس، على الأقل لمدة ربع ساعة بعد زم الستائر، ولكن هذا هين إذا قورن بالهجوم المستمر للحشرات الطفيلية بأنواعها العجيبة على المسافر في هذه البلاد الشرقية، سوف تظل معنا لمدة طويلة ذكرى هذه الليلة الليلاء على متن «الصندل» بدون ناموسية».
تقول الكاتبة، إنهم في صباح اليوم التالي وصلوا إلى موقع اتصال القناة «ترعة المحمودية» بالنيل، ووجدوا أن السفينة التي سوف تقلهم إلى القاهرة قد أبحرت مع جماعة إلى مكان احتفال ما، ولن ترجع قبل بضعة أيام، تقول: «كان موقفاً لا نُحسد عليه من شدة المعاناة، فقد رسونا بين سلسلتين عاليتين من تلال الطمي المتراكم عند حفر القناة، وقد جف بالطبع وصار الغبار يتناثر في الجو بكثرة، كما اكتظت أيضاً فوق هذه التلال أكواخ، شيدت بالطمي، الحرارة قاسية، وسحب الغبار منعقدة، ورائحة المكان كريهة، وزحام المراكب و{الدهبيات، التي تحف بنا – لمدة يومين بليلتيهما – شديد، وليس باستطاعتنا عمل أي شيء لتحسين موقفنا إذ من الضروري أن نبقى بجانب مدخل القناة إلى حين وصول سفينة النيل، كان هذا الموقف أشد وطأة علينا من دوار البحر والمتاعب الأخرى التي صادفتنا من قبل في طريقنا إلى مصر».

«الحواية»

تحكي الكاتبة حكايتها لصديقتها الإنكليزية، حيث مروا في أول يوم بمدينة «فوه» القريبة من الإسكندرية، وتقول إنها لمحت أحد عشر مسجداً بقبابها ومآذنها الطريفة، وكذلك بعض المصانع للحرف اليدوية، المساكن حقيرة، مضيفة أن المنظر العام بدا لطيفاً عن بعد، تكتب في رسالتها الأولى:
«المآذن مطلية بالجير الأبيض، والمنازل تنم عن عبق قديم، كانت بعض نساء وبنات المدينة على الشاطئ يملأن جرارهن وقت مرورنا، بينما آخريات يقمن بغسل الثياب، وعند الانتهاء من عملهن، تقوم كل واحدة بغسل يديها ووجهها وقدميها، ثم تقفل راجعة، و{الجرة» أو كومة الغسيل فوق رأسها، وتساعد «الحواية» (وهي قطعة من القماش ملفوفة على شكل حلقة توضع فوق الرأس) على انتصاب وضع «الجرة»، وكثيرا ما رأيت أثناء رحلتنا في ترعة المحمودية نساء يحملن جراراً كبيرة وثقيلة، معتدلة على رؤوسهن، دون الاستعانة بالأيدي».
تنشغل الكاتبة بدرجة جمال النساء في الشارع وبملابسهن التي تقول إنها تشبه ملابس الرجل تماماً، في الطبقات الفقيرة تحديداً، تقول إن «فوه» مثل «مطوبس» ـ المجاورة لها ـ مشهورة بجمال نسائها، وتضيف : «على العموم أرى أن الطبقات الدنيا عادة قبيحة جداً، رداؤهن المعتاد (في الغالب القطعة الوحيدة من الملبس الذي يرتدينه بخلاف طرحة فوق الرأس) عبارة عن جلباب بسيط أزرق لا يختلف كثيراً عن جلباب الرجال، وهو أيضا غالباً أزرق اللون، ومن العادات الشائعة بين النساء المصريات من هذه الطبقة أن يضعن الوشم الأزرق على بعض الأجزاء من أجسامهن خصوصاً المنطقة الأمامية من الذقن والشفتين، كما أن الكثيرات منهن يقلدن نساء الطبقة العليا بأن يصبغن أظافرهن بالحناء الحمراء، وهن أيضاً يصففن شعورهن على شكل ضفائر رفيعة، تتدلى على ظهورهن، لا يجب أن أغفل عن ذكر ما تشتهر به «فوه» من حسن مذاق ثمار الرمان الموجودة فيها بكثرة».
تقول إن شطي القناة عند سريانها على طول البرزخ الضيق من الأرض بين ملاحات مريوط وأبي قير، يتكونان من كتل ضخمة من الحجر تمنع إلى حد ما، تسرب الماء المالح إلى ترعة المحمودية ـ التي حملت اسم السلطان العثماني «السلطان محمود» ـ التي تمد صهاريج الإسكندرية بالماء، وتضيف: «تم استخدام أكثر من ثلاثمائة ألف رجل لحفر هذه الترعة، ويقال إن ما يقرب من اثني عشر ألفاً منهم لقوا حتفهم، خلال عشرة أشهر، أكثرهم نتيجة للمعاملة القاسية والعمل المضني وقلة الطعام المغذي والماء النقي، حيث كانت معداتهم الوحيدة للعمل هي «الفؤوس» ـ جمع فأس ـ التي تستخدم بكثرة في الفلاحة المصرية، وحينما تكون الأرض مبللة، يجرفونها بأيديهم ويحملونها في «مقاطف»، ويبلغ طول القناة حوالي خمسين ميلاً بريطانياً، وعرضها حوالي ثمانين أو تسعين قدماً، كانت بداية ونهاية العمل فيها عام 1819».
أطلال «سايس»

لم تشأ الكاتبة أن تفوت الفرصة للحديث مع صديقتها الإنكليزية عن التراث الفرعوني في مصر، عن الكنوز التي تلقى عليها القمامة والقاذورات وعن الأماكن التراثية المهملة التي صادفتها على الطريق إلى القاهرة، تحكي أنهم حين مروا على مدينة «سايس» المشهورة، التي كانت العاصمة القديمة للدلتا، ومن أشهر مدن مصر، وهي تعرف الآن باسم «صان الحجر»، تذكروا أنها مسقط رأس «كيكروبس»، الذي تنقل روايات عن أنه قاد جماعة من أهل «سايس» إلى «أتيكا» في اليونان حوالي 1556 سنة قبل الميلاد، حيث أسس مدينة أثينا، وأقام بها عبادة مينرفا (نيت المصرية) التي كانت الإلهة الحارسة لبلده.
ووفقاً لباحثين معاصرين، تعتبر منطقة «صان الحجر» من أشهر مناطق مصر في فترة حكم الأسرات، حيث كانت عاصمة مصر خلال حكم الأسرتين 21 و23، وتضم نحو 5 معابد لملوك الفراعنة، وعدة مقابر لملوك، والاسم اليوناني هو «تانيس»، أما الاسم الفرعوني فهو «ممفيس طيبة».
تقول الكاتبة إن منطقة آثار صان الحجر كانت مكاناً «مختنق تماماً بالقاذورات» حين زارته في منتصف القرن التاسع عشر، وشددت حتى على أنه لا جدوى إطلاقاً من زيارة أطلاله، التي لو بدأت فيها الحفائر سوف تنتهي إلى اكتشافات مهمة، وتتذكر ما أشار إليه المؤرخ القديم «هيرودوت» حين قال إن المدينة تحتوي معبداً سماه «المنوليشي»، وأنه أروع المعالم الموجودة في ذلك الوقت، لكنها تتذكر أيضاً وبكل حسرة ما وصلت إليه الأمور من انهيار.
تقول الكاتبة: «أطلال سايس تبدو من النهر مثل كثبان عالية ممتدة على مساحة واسعة من الأرض، تتألف عادة من أفنية واسعة، طول كل منها حوالي نصف ميل ومثلها في العرض وسياجها عبارة عن جدران هائلة الأبعاد يبلغ سمكها حوالي خمسين قدماً وارتفاعها أكثر بكثير، كما يتبين في عدة أماكن، وقد شيدت من الطوب اللبن طول القالب الواحد حوالي خمس عشرة أو ست عشرة بوصة، وثمان في العرض، وسبع في السمك، ولقد سببت الأمطار، التي يندر سقوطها حتى في هذه المنطقة من مصر تآكل هذه الجدران، فلا تكاد تميز من القاذورات التي اندثرت تقريباً كلية فيها، ولا يرى داخل السياج سوى بعض القطع الضخمة من الحجارة، وبقايا بعض الأبنية من الطوب اللبن، ربما كانت مقابر أو أضرحة، اكتشفت، ونهبت، وكان في هذا المكان المعبد الشهير للإلهة «مينرفا» المصرية الذي يذكر هيرودوت أن مدخله كان يفوق في ضخامة أبعاده أي بناء آخر من هذا النوع».
تقول الكاتبة أيضاً إن المنطقة تحتوي عدة معابد يضم بعضها تماثيل عملاقة ضخمة منها ما هو على هيئة «أبي الهول»، كما كانت تحتوي مسلات شامخة مقامة داخل السياج المقدس على مقربة من بحيرة دائرية الشكل مكسوة بالحجر، وفي الصدارة كان «المعبد المنوليشي»، الذي سبق أن ذكرته، وبلغ طوله إحدى وعشرين ذراعاً، وعرضه أربع عشرة، وارتفاعه ثماني أذرع، كما تشير إلى أن المؤرخ الذي كان يصطحبهم ويحكي لهم أسرار التاريخ الفرعوني وقد كان مصرياً رفض أن يذكر لهم اسم صاحب أحد هذه المعابد، وحين وصل الحديث إلى إحدى البحيرات المقدسة، التي كانت مسرحاً للعروض الليلية لطقوس الأسرار المهيبة المتصلة بالشخصية التي لم يذكر اسمها المؤرخ، توقعت الكاتبة أن يكون «أوزوريس»، وتضيف: «كان المصريون بدافع من الرهبة الدينية، يمتنعون عن ذكر اسم هذا الإله الفرعوني القديم، وعديد من المدن الأخرى في مصر كانت تتنازع شرف احتواء رفات أوزوريس، وجميع الفراعنة الذين ولدوا في هذه المنطقة، دفنوا داخل السياج المحيط بصرح «سايس»، وقد شيد واحد من هؤلاء الملوك، ويدعى «أبريس»، قصرا منيفاً، وكان الاحتفال الديني الذي يقام في سايس إجلالاً للمعبودة «نيت»، كما أن بعض احتفالات سايس كانت تعرف باسم «احتفال القناديل المتقدة» إذ كان من علامات الاحتفال بهذا العيد أن تعلق القناديل والمسارج المضاءة ليس حول منازل هذه المدينة فحسب، بل في أرجاء مصر كلها».
تختتم الكاتبة رسالتها الأولى إلى صديقتها الإنكليزية، بإشارة مهمة جداً إلى مدى تمتع المصريين بالحرية الشخصية في زمن محمد علي وربما من قبله، حيث تذكر الكاتبة أن المصريين يمارسون أنواعاً من الرقص والسهر رجالاً ونساء بغرض الترفيه، مشيرة إلى أن ما يفعله المصريون من مرح، يشبه ما كان من «السكندريين القدماء» على حد وصفها، تقول:
«كانت أعداد لا تحصى من الزوارق تغطي صفحة القناة ليل نهار، تحمل الحجاج من الجنسين، وهم يرقصون ويغنون ويسكرون ويستبيحون لأنفسهم كل الموبقات التي سمحت بها الحرية الدينية قديماً، وكذلك في وقتنا الحاضر، تتوافد جماهير الرجال – من سكان عاصمة مصر وأماكن أخرى – ومعهم عدد كبير من الغانيات إلى الاحتفالات بذكرى مولد السيد أحمد البدوي في طنطا بالدلتا، حيث يعج المكان بالراقصات والمغنيات اللاتي يقمن بالترفيه عنهم وتسليتهم، وحيث سمعت أن الخمور تحتسى بوفرة وحرية، وكأنها القهوة».

فن شرقي

على الرغم من إيمان الكاتب المطلق بالحرية التي يتمتع بها رواد المقاهي الشرقية، فإنه يلفت كثيرا إلى أن ارتياد المقهى يعتبر كأنه عمل مذموم، وأن كل الذين يقضون فيها ساعات طويلة هادئة هم بالضرورة عاطلون ومتطفلون، وأن الطبقات السفلى من المجتمع هي الوحيدة التي تأتي إليها.
يروي الكاتب نقلا عن الفونس دوديه، الذي زار الجزائر سنة 1870، وعبر في كتابه «أقاصيص يوم الاثنين» عن معنى تلك الأماكن التي ترمز إلى فن من فنون الحياة، هو الفن الشرقي، وإلى عقلية حضارة من الحضارات، قائلا:
«المقهى القريبة إنما هي صالون استقبال لأصحاب القصور العربية، بيت داخل البيت، مخصص للضيوف العابرة، يجد فيها هؤلاء المسلمون الكرماء جدا والمهذبون جدا الوسيلة التي تتيح لهم مزاولة أفضالهم الكريمة، محتفظين في نفس الوقت بالصلة الأسرية التي يتطلبها القانون، والمقهى المغربية لصاحبها الأغاسي سليمان كانت مفتوحة، يخيم عليها الصمت كإسطبلاته، جدرانها عالية ومطلية بالجير، ومجموعة الأسلحة التذكارية، وريش النعام، والكنبة العريضة المنخفضة الممتدة بطول القاعة، كل ذلك يرشح تحت سيول المطر التي يدفعها الريح من الباب، ومع ذلك فقد كان هناك حشد من الناس في المقهى، وعاد القهوجي وأشعل موقده ووضع فوقه تنكتين صغيرتين».
يقول الكاتب إن المقاهي حلت محل صورة معكوسة لبلاط السلطان الباذخ، أو بالأحرى، انعكاس ساخر للثقافة العالية التي توجد هي الأخرى في السرايا، والفنانون الذين ظهروا في مناسبات تلك الأعياد لم يخلدهم التاريخ، ولكنهم نقلوا السمات الحية الثقافية التي لا تكف عن أن تثري من جيل إلى جيل.

الفاتحة

تقدم الكاتبة ملاحظاتها على سلوك المصريين في عهد محمد علي، وهي لا تدرك أن ما تصفه من سلوكيات استحسنتها في هذا الزمن البعيد سيظل ملتصقاً بأذهان المصريين وعاداتهن إلى اليوم، وهي كانت محقة إلى حد كبير، وهي ترصد حركة الحياة في مصر، وهي تتحرك تحت رعاية مجموعة من البريطانيين والمصريين في القاهرة، تقول إن سفينتهم وصلت بعد يومين، وأنهم شعروا بالسعادة وهم يغادرون ترعة «المحمودية» بمنظرها الذي تقول إنه «كئيب» نظراً لبؤس حالة فلاحيها، الذين يبدو عليهم «الفقر المدقع»، تقول إن أكواخ الفلاحين الطينية المتراكمة فوق بعضها، والتي يغلب عليها الشكل المستدير، تبدو في ضوء القمر كأنها أبراج قلاع «خربة».
تمتدح الكاتبة المصريين في أكثر من موضع ولأكثر من سبب، فهي ترى أن السفينة التي ركبوها في النيل للوصول إلى القاهرة، كانت تجنح في أوقات كثيرة لكن مهارة البحارة المصريين كانت تنقذ الموقف، تكتب في رسالتها قائلة: «لا يوجد اتصال بين القناة والنيل ولهذا سرنا مترجلين بضع دقائق بمحاذاة الشاطئ حتى وصلنا إلى السفينة، وغمرتنا السعادة حينما شعرنا عند دخولها بأرق نسيم يمكن تصوره، وبرؤية ضفاف خضراء (بالذات من ناحية الدلتا) لواحد من أشهر أنهار العالم، ولقد شيدت مراكب النيل بطريقة تناسب تماماً الملاحة في هذا النهر، فقلوعها الكبيرة المثلثة سهلة الاستخدام، وهذه ميزة عظيمة حين تهب العواصف الفجائية التي كثيراً ما تعترض سبيلها، حينذاك تضم القلوع في أقل من دقيقة واحدة، وإلا أطيح بالمركب، حدث كثيراً أن كان جانب من سفينتنا تحت الماء تماماً، ولكن مهارة الرجال تحول غالباً دون حدوث أية كارثة إلا في القليل النادر وبالذات حينما يكون السفر ليلاً، ولقد طلبنا ألا تسير سفينتنا في الليل، ولهذا استغرقت رحلتنا النيلية ثلاثة أيام».
تمتدح الكاتبة بصراحة، عادة تقول إن الفلاحين يتبعونها في بداية كل رحلة نيلية، وإن هذه العادة حازت إعجابها الشديد، لأنه في بداية رحلتهم إلى القاهرة، وبعدما امتلأ الشراع الكبير بالهواء، يصيح «ريس» المركب قائلاً بصوت جهوري «الفاتحة»، ثم يقوم هو وطاقمه، بصوت جماعي خافت، بتلاوة السورة، تكتب لصديقتها قائلة: «يا ليت شعبنا ينهج نهج المسلمين في هذا المجال، ويعترف الجميع أن مصيرنا في يد الله وحده، وأن كل سفر، وكل رحلة يجب أن تباركها العناية الإلهية».
وصل الموكب ـ بحسب الرسالة التي تدون فيها اليوميات المصرية - إلى قرية شبراخيت بعد المغرب، ووفقاً لنصيحة الملاحين، بقوا هناك حتى الصباح، لكن بسطاء المصريين الذين يسكنون شبراخيت ظلوا يحاولون لفت أنظار الأجانب، وهي تصف ذلك مذهولة في رسالتها: «شد انتباهنا الفلاحون، وهم يقومون بأعمالهم المختلفة بخمول واضح، كنا نرى أثناء رحلتنا بعض هؤhttp://www.aljarida.com/news/index/...-بول--رشاقة-«الفلاحة-المصرية»-تثير-الإعجابلاء المساكين، يقتربون من السفينة، وكأنهم يجلسون منتصبين على الماء، يجدفون بأقدامهم، ويحمل كل واحد منهم ثلاث بطيخات، واحدة في كل يد، وواحدة فوق الرأس، طريقتهم في السباحة غاية في الغرابة، ولكنها تبدو مريحة بالنسبة لهم».
 
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}



الأحد 28 يونيو 2015 - الساعة 00:02
تغوص الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول، شقيقة المستشرق الإنكليزي المهموم بالشأن المصري إدوارد وليم لين، في عالم النساء المصريات منتصف القرن التاسع عشر، وتكتب في كتابها «حريم محمد علي باشا» قصة النساء المصريات من وجهة نظر غربية، حريصة على تأمل المفارقات الكبيرة والمدهشة التي كانت تعيشها نساء مصر قبل نحو 200 عام.
وتمكنت الكاتبة، التي زارت القاهرة عام 1842، من رؤية عالم الحريم، حيث لا تمنع التقاليد الشرقية المرأة الأجنبية من دخول جناح الحريم، أو معرفة ما يمكن معرفته عن عالم النساء في مصر، بين عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر.
وقلنا في الحلقة السابقة إن المستشرق الإنكليزي إدوارد لين استطاع أن يقنع شقيقته صوفيا بأن تأتي بصحبة ولديها إلى القاهرة، لترى بعينيها عالم الحريم في مصر، وتكتبه على هيئة رسائل إلى صديقتها المقيمة في إنكلترا، والذي صدر عدة مرات تحت عنوان «حريم محمد علي باشا – رسائل من القاهرة (1842 – 1846)»، وهو ترجمة ودراسة د. عزة كرارة.
وامتازت عائلة لين بول بالاهتمام المباشر بالقاهرة والشرق عموما، حيث أنجبت إلى جوار إدوارد وصوفيا ستانلي لين بول، صاحب الكتب المهمة عن مصر وأب...

1435413033_74_3-4.jpg

1435413033_42_1-3.jpg

1435413033_59_2-3.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
وبينما لاتزال الكاتبة تُبحر مع القافلة في النيل، بالاتجاه إلى القاهرة، تقول في رسالتها الثانية إنها مرت بقرية كفر الزيات، التي كان يسودها هرج ومرج بسبب كثرة مريدي مولد الشيخ الصوفي الشهير السيد البدوي، ومقره مدينة طنطا (شمال القاهرة)، وهم يرسون بها في طريقهم إلى طنطا.
وذكرت أنهم رسوا في بلد صغير قرب كفر الزيات، وظلوا هناك طوال الليل، وفي الصباح وجدوا أنفسهم محاصرين بعدد كبير من «الجواميس»، تقف في الماء، إذ إن النيل ضحل جدا في هذه المنطقة، كما تنتشر فيه الكتل الرملية المتحركة التي تسبب جنوح الزوارق بصفة متكررة.
وتعود الكاتبة إلى مديح الملاحين المصريين، الذين ينزلون في الماء ويبعدون السفينة الجانحة والزوارق التي تعطلت بسبب التصاقها بالطين أو بمناطق قاحلة، تصف الكاتبة كيف يدفعون المركب بظهورهم وأكتافهم، وحين تسكن الريح، يقوم الملاحون بسحب السفينة.
وتقول إن هذا حدث عدة مرات، أثناء رحلتهم: «حيث كان الملاحون العشرة، الذين يتكون منهم طاقم سفينتنا ينزلون إلى الشاطئ يجرونها بالحبال، ولا يبقى معنا على ظهر المركب سوى الريس، ومن المدهش حقاً أن نرى حسن إنجازهم لهذا العمل الشاق في قيظ شهر يوليو، ولا يتوقفون للراحة إلا نادراً ولفترات وجيزة، ومن عادة الملاحين أن يغنوا أثناء سير السفينة بمصاحبة الموسيقى البدائية للدربكة والمزمار، ولقد وجدت شيئا مريحاً جدا للنفس في هذه الأغاني مع غرابتها بالنسبة لنا، فهي تنم عن سعادة دفينة، تتجلى في نبرات أصوات المغنين، وهذا شعور ينعكس على من يسمعهم ويؤثر فيه».
وزادت الكاتبة انه من أكثر أنواع المراكب شيوعا في مصر، هي تلك التي تعرف باسم «الخنقة»، والتي تستخدم في النقل والنزهة، وهي طويلة وضيقة وبطيئة السير، لها ساريتان وشراعان كبيران مثلثا الشكل ومقصورة منخفضة تنقسم عادة إلى وحدتين أو أكثر بنوافذ صغيرة مربعة، بها ستائر خشبية أو زجاجية وأيضا مصاريع، تنزلق من الداخل.
وتضيف: «من دواعي القلق الذي كان ينتابنا في سفينتنا، انتشار الحشرات والبق والبراغيث، لقد كنت قلقة حقيقة على ولدي الصغيرين، اللذين قاسيا الأمرين منها، بصبر ومرح، زاد من إشفاقنا عليهما، وكنت بسببهما أتمنى العودة إلى بيتنا المريح، ولا شك في أن استخدام الناموسية أثناء الليل يخفف المتاعب إلى حد ما، لكنها لا تزيلها كلية، إنها ضرورية جدا لمنع هجوم الزواحف الكبيرة أما بالنسبة للبق والبراغيث فلا ينفع معها أي محاولات وقائية».
لا ترصد الكاتبة في رسائلها لصديقتها الحياة المصرية الفقيرة، أو حياة البسطاء فقط، فهي تستعد لرحلة داخل بلاط باشا مصر، خصوصا في غرف الحريم، لكنها وهي تسير في نهر النيل ترصد مراكب الأتراك الأغنياء في مصر، بنوع من الحسد على مراكب الأغنياء المرفهين، تقول: «تبدو مراكب النبلاء الأتراك غاية في الأُبهة، إذ تزين ألواح أبواب القمرات من الداخل ومن الخارج برسومات تمثل باقات من الزهور بألوان مختلفة، كما يرفرف العلم الأحمر الزاهي بالهلال ونجمة أو ثلاث نجوم بيضاء على مؤخرة السفينة، في حين تبدو المراكب الأخرى أبسط وأقل رونقا، لكن منظرها أيضا رائع».

الطاعون

وتكمل الكاتبة رسالتها بالإشارة إلى أنه لا يمكن لأحد أن يتجاهل حالة الهدوء الإنساني التي تتمتع بها الحياة على ضفاف النيل، حيث تبقى مناظر مجموعات «النخيل الشامخة الأنيقة»، لتضفي دائما طابعا مميزا وجميلا على الريف المصري، وهو الطابع الذي لايزال يميز المناطق الريفية التي لم تطلها يد التمدين حتى الآن، و»تبدو القرى غريبة المنظر بأكواخها التي يتوج كل منها برج حمام مخروطي الشكل، أقيم باستخدام العديد من القدور الفخارية، وارتفاع الواحد منها يضاهي غالبا ارتفاع الكوخ نفسه».
وتستمر الكاتبة في الإعجاب بالريف المصري في هذا الزمن البعيد، وبمشاهد مساحات شاسعة من المزروعات تتخللها أشجار النخيل العالية، وهي الصورة الذهنية المحفوظة في الذاكرة الإنسانية حول مصر منذ زمن بعيد، تقول: «لا أستطيع أن أذكر شيئاً عن جمال ضفاف النيل، فهي ترتفع في أغلب الأماكن عمودية، وتحول لذلك دون الرؤية، أما من ناحية الدلتا فالضفة منحدرة تريح العين بخضرتها، لكنها مملة ليس بها أي تنوع، لا تظني أني أريد الاستهانة بالمنظر لكن لابد أنك سمعت أن ضفتي النيل تبدوان في أبهى جمالهما شهرا بعد أن تنحسر مياه الفيضان، تاركا الطمي الخصب يملأ رحاب الوادي، فيغطيهما ببساط سندسي وضاء، كما تتوج الجزر الصغيرة في مجراه بالخضرة المتألفة... لكن رحلتنا صادفت وقت فيضان النهر».
بعد كل هذا الإعجاب، تنتقل الكاتبة إلى رصد ظاهرة مؤسفة في نهر النيل قبل مئتي عام، وهي ظاهرة وجود حيوانات نافقة تطفو على صفحة النهر، وتنتقل إلى الحديث عن طاعون يصيب الماشية، قبل أن ينتقل إلى البشر في وقت لاحق، حيث عانى المصريون على مدار المئتي سنة السابقة من انتشار الأوبئة في المناطق الريفية، تقول: «لاحظنا العديد من جثث الماشية تطفو على سطح الماء أو ملقاة على شاطئ النهر، إذ ينتشر في مصر في الوقت الحاضر نوع من الطاعون الحاد، الذي يصيب الماشية، ولقد دام أكثر من ثلاثة أشهر وذكرنا بالطاعون أيام موسى عليه السلام».
وتحدثت الكاتبة أيضاً عن ظاهرة السراب، المرتبطة بالأجواء الصحراوية، وتأسفت على هؤلاء الذين راحوا في متاهة الصحراء بسبب هذه الظاهرة، تقول في رسالتها: «لمحنا السراب عدة مرات أثناء رحلتنا، وكاد صفاء مائه المضلل يبدد الوهم، فالنيل عادة عكر خصوصا في هذا الوقت، فبأي شطط من الخيال يمكن تصور وجود بحيرة صافية المياه بالقرب من هذا النهر، لقد كانت فعلا ظاهرة غريبة ومثيرة، تحرك المشاعر الأليمة حينما نفكر في العديدين من الذين هاموا في الصحراء، وذاقوا مرارة خيبة الأمل من جراء هذا الخداع».
بدأت لهجة الكاتبة في التغير كلما اقتربت نسبيا من القاهرة، حيث يفترض أن تقيم في مسكن مريح، تتخلص فيه وأسرتها من أعباء السفرة الطويلة في مراكب النيل، وسط الحشرات الطائرة والزاحفة والأجواء غير النظيفة للريف المصري.
تقول إنهم ما إن اقتربوا من القاهرة حتى بدأوا يهنئون أنفسهم، على سلامة الوصول، استعدادا لرحلة على ظهر حمار للانتقال إلى بيت قاهري، تقول في رسالتها الثانية لصديقتها: «في صباح اليوم التالي، أمكننا أن نلمح الأهرامات الجليلة التي لم تكن واضحة بسبب موجات الهواء الساخن المتراكمة على سطح المنبسط، الذي يفصلنا، كانت على بعد ثلاثة فراسخ، وقد وصلنا بعد قليل إلى ميناء بولاق، هو الميناء الرئيسي بالقاهرة، وعند وصولنا اضطررت أنا وزوجة أخي أن نرتدي الملابس الشرقية، وقد وجدنا هذا التبديل صعباً جدا، وعند إتمامه شعرنا باختناق لا يمكن أن ننساه، تخيّلي أن الوجه يُسدل عليه بإحكام خمار من الموسلين، المزدوج في الجزء الأعلى منه، ولا يظهر إلا العينين، وفوق رداء حرير ملون غطاء من الحرير الأسود، يحيطني من كل جهة، كنت مكبلة تماما باستثناء عيني اللتين نظرتا بفزع إلى العتبة العالية التي يجب أن أتسلقها وإلى الحمار الواقف فوقها الذي يجب أن أمتطيه، لا يوجد إطلاقا رداء ركوب أقل ملاءمة وأكثر عرقلة من هذا الرداء، ولو كان باستطاعتي الوصول إلى بغيتي دون لبسه لكنت فعلت، ولكنه من المستحيل أن أقتحم حريم النساء بملابس أفرنجية، علاوة على علمي أن المسلم يعتقد أن اللعنة تحل على «الرائي والمرئي»، لهذا أنا حريصة على ألا أعرض أي مار في الطريق لما يعتبره خطيئة، أو أعرض أنفسنا للقذف واللعنات».

فلاحة البساتين

تنتقل الكاتبة إلى بعد آخر من أبعاد ملاحظاتها الثاقبة، وهي شكل شوارع القاهرة وحالة بساتينها التي لم تكن في هذا الزمن -منتصف القرن التاسع عشر- يمكن مقارنتها ببساتين بلادها «إنكلترا» وإن كانت ترى أن الحالة العامة لشوارع القاهرة يمكن أن تتحسن لو تم الاهتمام بشوارعها وبالبساتين التي يمكن أن تغير شكل المدينة.
لا تنسى أن تقول لصديقتها إن بعض الشوارع القاهرية التي مرت بها مع أسرتها كانت «مكتظة بالأهالي»، وانهم حين وصلوا إلى مقر إقامتهم المؤقت اكتشفوا أنه منزل لطيف، تحيط به الحدائق، ورأت بأم عينيها أشجار النخيل الرشيقة، محملة بالثمار، وأشجار السنط والموز والبرتقال والليمون، وأيضا أشجار الرمان والكروم، واعتبرتها تعكس حالة من «التنوع البديع»، على حد وصفها، لكنها سرعان ما اكتشفت أن كل هذه المزروعات لا ينقصها لتصبح رائعة سوى الحاجة الماسة إلى الماء المنعش، تقول: «أوراق النبات مغطاة بطبقة من الغبار، والتربة تسقى بساقية يديرها ثور صبور، يخطو خطواته الوئيدة دون توقف، ولا يبدو عليه الكلل من جراء العمل المضني، الدائم، إن تصميم الحدائق غريب حقا، إذ نجد الأرض مقسمة إلى مماش متوازية طويلة، تحدها على الجانبين قنوات، ثم تقسم ثانية بواسطة تلال من التربة، ارتفاعها حوالي نصف قدم إلى قطع مربعة صغيرة، طول كل ضلع ياردتان تقريباً، ويسمح بدخول الماء إلى هذه المربعات، الواحدة تلو الأخرى، حين أرى هذه القنوات والأحواض التي يكسوها الماء لفترة دون أن تمتصها التربة لا يسعني إلا أن أرجع بذاكرتي إلى حدائقنا الزاهية الجميلة في إنكلترا، وطريقتنا في سقي الأزهار بعناية حتى لا يزداد تشبع التربة بالماء، فيسبب لها الضرر، كما لا يروق للعين، هذه الذكريات تجعلني أجزم بأن فلاحة البساتين في مصر لا جدوى منها، ولا تساوي العناء الذي يبذل فيها وتحتاج إليه، قد يكون مثل هذا القول تحيزا لوطني ولما ألفته من مناظر طبيعية مختلفة كل الاختلاف عما أجده هنا».


الحَبرة

تتوقف الكاتبة طويلا عند ملابس النساء المصريات، لأنها امرأة من ثقافة مغايرة أولا، وكونها تريد أن تنقل العالم العربي من جانبه النسائي ثانيا، وتعتمد على شرح أخيها في كتابه «المصريون المعاصرون عاداتهم وتقاليدهم»، للطريقة التي ترتدي بها نساء مصر «الحبرة»، حيث أوضح أن السيدات التركيات يشبكن «الحبرة» من الأمام ظناً منهن أنه لا يليق أن تبدو السبلة أو القميص الملون الذي تحتها، تقول الكاتبة: «أما رداء المنزل فملائم للطقس وجميل جداً بخلاف ملابس الخروج التي تبدو بشعة وغريبة».
بعد ذلك، تنتقل الكاتبة لوصف رحلتهم من ميناء بولاق إلى قلب القاهرة، التي تبلغ مسافتها نحو ميلين، تقول: «ركبنا جميعاً الحمير، يتقدمنا أحد الانكشارية (جنود)، وسرنا في بولاق مندهشين من الحالة الخربة التي بدت عليها هذه الضاحية، قيل لنا إن بها بعض المنازل الفخمة، لكن لم يحالفنا الحظ أن نراها، ابتهجنا حينما خرجنا من أزقتها الضيقة إلى ساحة واسعة، لكن سرعان ما شعرنا بضيق مؤلم من جراء الغبار الذي كان يتناثر مع خطوات الحمير الوئيدة، وقتئذ شعرت بميزة الغطاء الذي لا يظهر سوى العينين، وأخيرا دخلنا القاهرة، وزادت دهشتي عشرة أضعاف».
في القاهرة تقول الكاتبة إنها أصيبت بدهشة كبيرة، بسبب ما رأته في بيوتها وشوارعها الضيقة والمساحات الجمالية الشائعة غير المستغلة، وبينما لاحظت من قبل أن شوارع مدينة الإسكندرية الساحلية ضيقة، إلا أنها وبمجرد نزولها القاهرة تأكدت أنها تبدو فسيحة جدا إذا قورنت بشوارع القاهرة، وتلاحظ عين المرأة الأوروبية أيضا في القاهرة «المشربيات» -أي النوافذ العليا البارزة- التي تواجه بعضها بعضاً عبر الطريق، تكاد تتلامس، وكثيراً ما تكون على مدى ذراع فقط، تقول الكاتبة: «لقد كان أول انطباع أحسست به عند دخول هذه المدينة ذائعة الصيت، انني ألج مكانا ظل مهجورا لما يقرب من قرن من الزمن، وفجأة ازدحم بالسكان الذين لم يستطيعوا -لفرط فقرهم أو لأي سبب آخر- أن يصلحوا من شأنه ويزيحوا من فوقه خيوط العنكبوت العتيقة المكدسة، فأنا لم أر من قبل مثل هذا العدد الهائل من خيوط العنكبوت، التي لم يمسسها أو يؤرق ساكنيها بشر، عالقة ومتدلية من فتحات، تقود إلى ظلام دامس، وددت لو أن في استطاعتي أن أقول إني لا أهاب هذه المخلوقات، ولكن بصراحة، لا أظن أنه يوجد في عالم الحشرات من هو أبشع منظرا من العناكب ذوات الأرجل السميكة السوداء».
 
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون



الاثنين 29 يونيو 2015 - الساعة 00:02
تستكمل الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول شقيقة المستشرق الإنكليزي المهموم بالشأن المصري، إدوارد وليم لين، قراءتها لعوالم المصريات، منتصف القرن التاسع عشر، وتكتب في كتابها «حريم محمد علي باشا» قصصهن من وجهة نظر غربية، وتتأمل المفارقات الكبيرة والمدهشة التي كانت نساء مصر يعشنها قبل نحو مئتي عام من الآن.
الكاتبة ـ التي زارت القاهرة عام 1842 ـ تمكنت من رؤية عالم الحريم، حيث لا تمنع التقاليد الشرقية المرأة الأجنبية من دخول جناح الحريم، أو معرفة ما يمكن معرفته عن عالم النساء في مصر، بين عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر.

1435496559_3-3.jpg

1435496558_63_1-3.jpg

1435496558_83_2-3.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
تغوص الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول بقدميها في حكايات القاهرة وحواديت ناسها، حتى أعمق نقطة ممكنة وهي البريطانية التي جاءت في رحلة إلى الشرق استجابة لضغوط من أخيها الراغب في معرفة كل شيء عن الواقع المصري، وكانت هي وسيلته الوحيدة، لمعرفة أسرار الحريم في مصر، سواء كن حريم النبلاء أو حريم البسطاء.
الزيارة تمت نحو عام 1842، خلال فترة حكم محمد علي لمصر، وبينما ركزت في الحلقتين السابقتين على وصف رحلتها من الإسكندرية إلى القاهرة، لكنها في هذه الحلقة تركز في فترة الإقامة الأولى في القاهرة، حيث سكنت مع الأسرة، في بيت بشبرا قبل أن تنتقل إلى منزل آخر قالت إنه منزل جيد، لكن واجهت فيه الأسرة البريطانية الكثير من المتاعب، مستخدمة المثل الشعبي المصري الذي يقول :{الحلو مايكملش».
تقول الكاتبة إنها رأت بشراً كثيرين في «مالطا» و{الإسكندرية» وظنت في البداية أنها لن تجد شيئاً مختلفاً في مصر، ثم تعود وتكتب في رسالتها إلى صديقتها الإنكليزية، قائلة : «لقد كنت مخطئة، لأن غرائب هذا المكان «تقصد القاهرة» وسكانه فاقت كل توقعاتي، إن طريق شبرا يمر على مرأى من نوافذ المنزل الذي أقمنا فيه، ويحلو لي مشاهدة المواكب المتعددة التي تأخذ طريقها من المدينة وإليها».
رأت من نافذة هذا البيت مواكب عرس وجنائز، كانت تمر أمام البيت فتنظر إليها من النافذة، وكانت مواكب العرس تثير ضحكها أكثر من أي شيء آخر نظراً إلى ما فيها من مفارقات رأت أنها مثيرة للضحك، تقول: «يضحكني موكب العرس الذي تسير فيه العروس المنقبة الملتفة بشال عريض تحت قطعة من الحرير، وتقف بجانبيها امرأتان، وأفراد القبيلة يعبرون عن سعادتهم بأداء حركات بهلوانية أمام «الموعودة»، ناهيك عن أطفال الجيران الذين يشاركون أيضاً في الهرج والمرج في مؤخرة الموكب، وأشفق على العروس التي تكاد تختنق دون ريب، وهي تسير لمسافة قد تطول أحياناً على قدميها تحت وهج شمس الظهيرة المحرقة، في حالة تشبه الإغماء من شدة الإعياء، تسير العروس وحولها بعض
«الآلاتية»، يدقون الطبول وينفخون المزامير حادة الصوت، فتنبثق أصوات يظنونها أنغاماً موسيقية، وفي الوقت نفسه تطلق النساء المرافقات الزغاريد النشاز التي تصم الآذان».
وتتوقف أمام المواكب الجنائزية، فتقول إنها كانت تصيبها بالحزن، إذ تحمل جثة الرجل المتوفي في نعش مفتوح، لا غطاء عليه سوى شال يظهر من تحته شكل جسد الميت بوضوح، أما جثة المرأة فكانت لحسن الحظ تحمل في نعش مقفل يغطيه أيضا شال، تقول: «كما يغطي شال آخر قطعة قائمة من الخشب، يعلوها بعض ما تزين به المرأة غطاء رأسها، وجثث الأطفال تحمل على مثل هذا النوع من النعوش».
تتوقف الكاتبة لأنها امرأة أمام بكاء أم نائحة على ولدها الميت، في إحدى هذه الجنائز، تقول: «سمعت مرة صوتاً لن أنساه أبداً عند اقتراب موكب جنائزي، كان صراخ حزن عميق، عبرة من قلب جريح متميزة بين «ولولة» النائحات المأجورات اللاتي يصاحبن الجوقة الجنائزية، هرعنا إلى النوافذ ورأينا رجلاً يتقدم موكباً من النساء، ويحمل بين ذراعيه جثمان طفل صغير ملفوف بشال، ينقله هكذا إلى مثواه الأخير، لا شك في أن صرخة الألم المبرح عصرت من قلب أم ثكلى يوشك أن ينفطر، هناك حقيقة أؤكدها دائماً، وهي أنه لا يوجد حب يفوق في قوته وعمقه، حب الأم لولدها والولد لأمه».
«المز» و{الخُف»

في بداية إقامتها في القاهرة، تقول الكاتبة إنها اكتشفت أنها لن تتمكن من زيارة «حريم النبلاء» إلا بعد أن تتقن اللغة العربية، فقررت بعد تفكير عميق تأجيل زياراتها المعتزمة لحريم النبلاء إلى أن تتقن إلى حد ما اللغة العربية، على الرغم من أن اللغة التركية هي المستعملة عادة في هذه الأماكن، لكنها تقرر أن الجميع هنا يفهم العربية، وحيث إنها اللغة السائدة في مصر، قالت إنها لابد أن تتعلمها بداية لتتمكن من تحقيق الهدف المنشود.
وعلى الرغم من ذلك، لم يتمكن شقيقها من الحصول على مسكن ملائم لعائلته التي تتكون من زوجته وشقيقته «الكاتبة» وولديها. تقول في إحدى رسائلها: «لقد وجد أخي صعوبة شديدة في الحصول على مسكن ملائم رغم المساعدات الكريمة من أصدقائنا، الذين شملونا برعايتهم، كما أنني اكتسبت بعض الخبرة عن عادات وتقاليد الحريم من سيدتين سوريتين، عرضتا بكل لطف أن تكونا عونا لنا بشتى الطرق، وأخيراً وبعد طول البحث على مدى شهر بأكمله وجدنا ضالتنا، منزلاً مناسباً جداً، نقطن فيه الآن، ولكن الحلو لا يكتمل، وبسبب مشكلة غاية في الغرابة، نجد أنفسنا مضطرين للبحث عن سكن آخر في أقرب فرصة ممكنة، المنزل في الواقع ممتاز، وهو تجديد لبناء قديم، ولهذا سوف أصفه لك ليكون لديك فكرة عن المساكن الراقية في القاهرة، كما أن تصميمه الداخلي سوف يوضح لك سبب المتاعب التي تعرضنا لها».
وأخذت الكاتبة في وصف المسكن، الذي يعتبر نموذجاً للبيت التقليدي في مصر، خلال القرنين الماضيين: «الدور الأرضي مكون من فناء مفتوح للسماء، تحيط به حجرات ترتفع لعدة طوابق، وبه خمس حجرات، الكبرى منها لاستقبال الضيوف من الرجال، تسمى «المندرة» في وسطها نافورة ماء، ثم غرفة الشتاء، وأخرى صغيرة للنوم، ينزل بها الضيوف من الرجال، بعد ذلك مطبخ وغرفة صغيرة للخدم، على يمين باب الشارع تماماً مدخل الحريم الذي يقود إلى درجات، تؤدي إلى حجرات النساء، وباستثناء حجرات الدور الأرضي يعتبر البيت بأكمله «الحريم» في الطابق الأول غرفة مرصوفة بالرخام، سقفها مفتوح من جهة الشمال، وبه ميل إلى أعلى مما يساعد على دخول نسمة عليلة إلى المكان، هناك أيضاً خمس حجرات أخرى بهذا الطابق، اثنتان رئيسيتان، تنقسم الأرض في كل منهما إلى قسمين، الجزء الأكبر أي حوالي ثلاثة أرباع المساحة يرتفع بنحو خمس أو ست بوصات، أما الجزء المنخفض فمرصوف بالرخام، ويترك فيه «الخف» الخارجي ـ حذاء ـ ليظل الجزء المرتفع المغطى بالبسط طاهراً غير مدنس، ويلبس في القدم بالإضافة إلى الجورب نوع من «الخف الداخلي» يصنع كله من الجلد المراكشي الأصفر اللون الناعم ويسمى «المز»، أما الخف الخارجي الذي لا كعب له فيطلق عليه «البابوج»، وكثيراً ما ينزلق هذا البابوج من قدمي وسوف يظل ينزلق لأنني لن أتعود أبداً مهما حاولت على طريقة السير بجر القدمين كما تفعل نساء هذا البلد، وعند ارتداء ملابس الخروج أو الركوب يبدل «المز» بجوارب عالية من الجلد المراكشي وفوقها «البابوج» كالمعتاد ولونها دائماً أصفر فاتح».

«عفريت»

تنتقل الكاتبة، بعد وصفها لمزايا البيت، إلى موضوع شديد الأهمية في التراث المصري، وهو موضوع الخرافات التي تسيطر على عقول كثير من بسطاء المصريين، حيث اصطدم وعيها الأوروبي العلمي ـ إلى حد كبير ـ بصورة الخرافات التي تملأ وعي أهل الشرق، على هيئة «عفريت» قال الخدم الذين استأجرهم أخوها، إنه يسكن في حمام المنزل الذي يسكنون فيه، ويريد أن يزعج كل ساكن لهذا البيت.
تقول: «بعد قضاء بضعة أيام هنا، دهشنا حين علمنا أن الخدم لا يستطيعون النوم ليلاً بسبب طرق متواصل وظهور «عفريت» أو روح شريرة أو شبح، في صبيحة يوم، أزعجنا صوت شجار تحت نوافذنا وعندما استفسر أخي عن السبب من أحد الخدم أجابه: «الأمر ليس ذا بال يا أفندي، ولكن الموضوع وما فيه هو أن الحمام يسكنه «عفريت». أردف أخي وهو العليم الخبير بمعتقدات المصريين: «وهل رأيت حماماً في الدنيا لا تسكنه العفاريت؟».
تستكمل الكاتبة الحكاية على لسان الخادم الذي قال إن العفريت يقيم في المنزل منذ زمن بعيد، وأنه لن يسمح لأي ساكن أن يبقى دون أن يزعجه، وأنه لا يسمح ببقاء أحد أكثر من شهر واحد، مشيراً إلى أن الشخص الذي عاش قبلهم في البيت لم يستطع البقاء سوى حوالي تسعة أشهر لأن العفريت كان يؤرق نوم أسرته طول الليل.
تقول الكاتبة إنهم في بداية الأمر كانوا يظنون أن الضجيج الذين يسمعونه ويقلق نومهم، يرجع لمظاهر الابتهاج التي كان يعبر بها جار لهم، عن سعادته بمناسبة عرسه، تقول: «كانت الاحتفالات غاية في الإفراط والإسراف ربما لأن العريس كان كهلاً عجوزاً، وعروسه كانت صبية يافعة»، لكنهم أصيبوا فعلياً بالذعر بعدما سمعوا صوت ثلاث طلقات مدوية من سلاح ناري، رنت في أرجاء المنزل وأثارت فزع الكبير قبل الصغير وأصبحت القضية بحاجة إلى تدخل.
تكتب الكاتبة لصديقتها الإنكليزية عن كارثة «العفريت» قائلة: «بعدما بحثنا في الموضوع، علمنا أن الرجل الذي كان يمتلك هذا البيت في الماضي والذي وافاه الأجل منذ فترة، كان أثناء إقامته هنا قتل بائعاً متجولاً في فناء الدار كما قتل جاريتين، إحداهما كانت زنجية وقضي عليها في الحمام، ليس من المستغرب إذن أن يكون لمثل هذه القصة التي تبدو واقعية أثر فعال في أناس اعتادوا على الإيمان بالخرافات والخزعبلات، مع الأسف إن أخي كان يجهل هذه الحوادث حينما استأجر المنزل، ولو علم بها لأدرك أنه من المستحيل التغلب على المعتقدات خصوصاً لدى الطبقة السفلى، وأنه من المحال أن تظل عندنا خادمة في مثل هذه الظروف».
تروي الكاتبة تطورات الموقف، وتقول إن البواب طلب من أخيها ترك المنزل، لكن أخيها رد عليه قائلاً:{دعنا ننتظر بضع ليال أخر، وإذا ظهر العفريت هذه الليلة، استدعوني في الحال»، تقول إن أخاها هدأ من روع الخادمين ووعدهما بالبحث عن سكن آخر، إن لم تكف المضايقات في منزل شبرا الغريب الأطوار، وتقول: «ليس بالأمر الهين العثور على منزل مناسب خارج وسط المدينة، إذ نرى من الضروري للحفاظ على صحة ولدي أن نسكن في غرب المدينة بالقرب من الضواحي حيث الهواء نقي وصحي، وحيث نفذ أمر إبراهيم باشا بإزالة أكوام القمامة من مساحات واسعة من الأرض وزرعها بأشجار مختلفة مثل الزيتون والنخيل والسرو والسنط وغيرها، وهذه المزارع مفتوحة للجمهور ومناسبة جداً لنزهة الأطفال».

{لالا زار}
على الرغم من أن الكاتبة تعتبر نفسها في بلد غريب، فإنها كانت من اللحظة الأولى معنية تماماً وإلى أقصى حد بالدخول في تفاصيل الحياة المصرية، التي عاشتها مواطنة إنكليزية تبحث عن إقامة مريحة في القاهرة، لكنها لم تكن تتصور أبداً أن تأتيها المضايقات من كائنات خرافية في هذا البلد الشرقي.

تكتب لصديقتها وقد سيطر عليها الغيظ: {فاتني أن أذكر لك أن الرجل الحقير عديم الضمير، الذي كان في الماضي يمتلك هذا البيت كان – ربما تكفيراً عن جرائمه – قد أوقفه على مسجد، بشرط أن يظل في حوزة مالكته الحالية {لالا زار} طوال حياتها، وهنا يخطر ببالي حادثة لم نكن نفهمها حينذاك، ففي اليوم السابق لانتقالنا هنا، أرسلنا أحد الخدم ليستأجر بعض النسوة لتنظيف البيت تحت إشرافه، وحينما وصل رفضت صاحبة البيت (واسمها لالا زار، أي حوض الزنبق) أن تسمح له بالدخول، قائلة: ارجع إلى الأفندي، وأخبره أنني أخبز بعض {القرص} في فرن المطبخ لأحملها باكراً إلى القرافة، وأوزعها على الفقراء والمساكين عند قبر المرحوم صاحب البيت الأصلي، وهذا عمل خير من أجل سيدك ومن أجلي أنا، وسوف يقدر سيدك هذا.. مسكينة، واضح أنها كانت تأمل أن يكون عمل الخير هذا بمثابة كفارة تمنع بها أي مضايقات لمستأجريها وبالتالي، الخسارة المادية لها}.
تستمر مضايقات العفريت غير المتوقعة، تقول الكاتبة، فبعد يومين فوجئوا بقصة غاية في الغرابة، حين أخبرهم البواب بصوت مرتجف من الفزع أنه لم يذق طعم النوم إطلاقاً، لأن العفريت كان يطوف طوال الليل في الشرفة الداخلية بالقبقاب ـ حذاء منزلي ذو نعل خشبي ـ وأنه طرق بابه عدة مرات بقطعة من الحجر أو شيء صلب، تقول: {هنا بادرناه بالسؤال، لماذا لم يستدع أخي، كان الرد حاضراً، خوفاً من العفريت الذي كان يتجول في الشرفة ليلاً، يطرق بعنف كل باب يقابله، تكررت هذه الأصوات عدة ليال، وكثيراً ما كانت تبدأ في المساء قبل أن نأوي إلى فراشنا، لم نكتشف الجاني مما جعلني أخاف على ابني، لم أكن أخشى أي أذى جسماني، قدر ما خشيت الضرر النفسي والجنوح إلى الخرافات والخزعبلات التي تفسد العقل البشري أيما إفساد}.
حادث غريب، يجعل هذا البيت المسكون قصة مثيرة للأسى حقاً، حيث عثروا في صباح عدة أيام متتالية على خمس أو ست قطع من الفحم ملقاة أمام الباب المؤدي إلى غرف النوم، يدل هذا، بحسب المعتقدات السائدة في مصر إلى الآن، على الدعاء بأن يحل الشر علينا، مثل قول {فلتسود وجوهكم}.
تقول الكاتبة: {الشيء الوحيد الذي يريحني في هذه الظروف المزعجة أن ولداي يعتبرانها دعابات، تثير الضحك ويعتقدان أن هناك شخصاً أو عدة أشخاص أشرار أعجبهم المنزل بدرجة جعلتهم يصرون على اقتنائه وطرد أي سكان فيه بواسطة الأصوات المزعجة والمضايقات المختلفة، ولكن الأمر أكثر جدية بالنسبة للمسكينة {لالا زار} فواضح أن تركة المالك السابق لن تكون أبداً ذات فائدة لها أو للمسجد، وسوف تندهشين حين أخبرك أن إيجار هذا المنزل لا يتعدى اثني عشر جنيهاً في السنة، والمنزل فخم، يفوق بكثير سائر المنازل الأخرى مما جعل أهل البلد يطلقون عليه اسم {بيت الأمير}.
 
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة



الثلاثاء 30 يونيو 2015 - الساعة 00:02
تستكمل الكاتبة البريطانية، صوفيا لين بول، شقيقة المستشرق الإنكليزي، إدوارد وليم لين، قراءتها للمصريات، منتصف القرن التاسع عشر، وتفتح في كتابها «حريم محمد علي باشا» بابا لفهم أوضاع المرأة المصرية والعربية خلال القرنين الماضيين.
وإذا كانت الكاتبة، التي زارت القاهرة عام 1842، رصدت في رسائلها إلى صديقتها الإنكليزية أوضاع المصريين وقناعاتهم وأسلوبهم في الحياة والتفكير والتصرف، فإنها رصدت الحلقة السابقة القناعات الخرافية في مصر خلال هذه الفترة، والإيمان بالتفكير الأسطوري المتعلق بالقوى الخرافية من أشباح وعفاريت وغيبيات اعتبرتها سببا من أسباب تخلف الشرق.

1435583395_03_3-3.jpg

1435583394_72_1-3.jpg

1435583394_88_2-2.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
تصف الكاتبة في هذه الحلقة بكثير من الإعجاب أصوات المؤذنين في المساجد المصرية، وتعتبر الأذان نداء تتمنى أن يحذو حذوه المسيحيون في كل بلاد الدنيا، مشيرة إلى أن الصيام يساعد المسلمين على كثير من الابتهاج، ويكون أذان العشاء دليلا على السعادة التي ينعم بها المسلمون بعد يوم طويل من الإجهاد.
وتنتقل الكاتبة البريطانية في رسالتها الجديدة إلى صديقتها لرصد أحوال المصريين في شهر رمضان الكريم، الذي يشهد منذ قرون طويلة أشهر الاحتفالات المصرية والعربية بالطقوس الإسلامية، والذي تذكر أن هلاله ظهر في هذه السنة خلال أكتوبر من عام 1842.
الكاتبة، التي اعتبرت واحدة من أكثر المستشرقين إعجابا وتفهما للشرق وقضاياه ومتاعبه، لفتت في بداية الرسالة إلى أن أهم موضوع يشغل المصريين في الشوارع والحوانيت وفي الجلسات العامة والخاصة، هو حال نهر النيل، الذي لا يزال يرتفع حتى الآن، ويسبب قلقا شديدا وخوفا من تفشي وباء الطاعون، بعدما تنحسر المياه.
وتذكر الكاتبة أنه في عام 1818 استمر الارتفاع إلى 16 أكتوبر، قائلة: {غمرت المياه الجزء الأسفل من منزلنا، ووصلت إلى ارتفاع قدم في بعض شوارع القاهرة، وتدفقت داخل العديد من المنازل}.
تترك صوفيا لين بول أهم الموضوعات التي تشغل بال المصريين، خوفا من الفيضان الذي يغمر الأرض والمنازل والبيوت والشوارع بالماء، والأوبئة التي يسببها بعد انحسار الماء، لتنتقل إلى موضوع آخر شديد القدسية لدى المصريين وهو موضوع الصيام، الذي تقول إنه كان شديد الوطأة بسبب الحر، وسط المخاوف من الطاعون.
وتوضح أن {اليوم هو الثاني عشر من رمضان، أي شهر الصيام، إنني أشفق من كل قلبي على كل صائم، فالجو عاد ثانية شديد الحرارة، ومن المدهش حقا أن يحافظ المرء على هذا الفرض، ويحرم على نفسه من مطلع الفجر إلى غروب الشمس، ولو جرعة ماء، أعتقد أن كثيرين جدا يلتزمون فعلا بكل إخلاص بالصيام، وشوارع القاهرة في هذا الشهر تعطينا حقا صورة مسلية لتصرفات الأهالي المختلفة، بعضهم يجلس عاطلا ممسكا بعصا مزركشة أو مسبحة في يده، في حين نرى أولادا يصومون لأول مرة، بل بعض الرجال أيضا، يحاولون الترفيه عن أنفسهم وتسلية صيامهم بألعاب صبيانية، وما أكثر من يظهرون بشتى الطرق أن الصيام لا يساعد على تهذيب حدة طبعهم}.
وتحكي الكاتبة المشغولة بالحكايات أنها رأت بالقرب من مسكنها، قبل مغرب الشمس بقليل، امرأة عجوز، تقود زوجها الضرير من يده، وتحمل غليونه معدا ليتمتع به حينما يحل له ذلك بعد المغرب، قائلة إن الزمن والوهن بدا عليهما في صورة الانحناء الذي يصيب العواجيز في ظهورهم، مبينة أنها حزنت حين أحست أنهما من الصائمين.
وتضيف: {كان منظرا مؤثرا يدعو إلى الشفقة والتبجيل في آن واحد، حيث إنه من الملاحظ أن العديد من المسنين يهبطون إلى مثواهم الأخير مع انتهاء شهر الصوم، لذا شعرت نحوهما بالخوف من أن يلحقهما أذى}.
وتلاحظ لين بول الفارق بين صيام الأغنياء وصيام الفقراء، حيث تقول إن علية القوم يحولون الليل نهارا والنهار ليلا، فهم يفعلون كل شيء مساء، وينامون حتى أذان العصر، ولهذا قلما يشاهدون في الطرقات، ومنهم من يفطرون في الخفاء، مضيفة: {لا أظن أن عامة الشعب يسلك مثل هذا المسلك، في الواقع لا يستطيع أحد أن يسمع صيحات الفرح التي تعلو ويملأ صداها أرجاء المدينة حينما يطلق مدفع من القلعة وقت المغرب، معلنا نهاية الصيام لبضع ساعات، دون أن يغبط القوم على نهاية يوم من أيام رمضان، لا يوجد صوت يضاهي روعة النداء لصلاة العشاء من المآذن العديدة، وقد ذكرت لك إحساسنا حينما سمعناه لأول مرة بالإسكندرية، ولكن هنا في القاهرة، فإن وقعه أعمق بكثير، أحيانا، حينما تكون الريح مواتية يمكننا سماع ما يقرب من مائة صوت رخيم في وفاق تام وقور، إذ يقف المؤذن بين السماء والأرض ينادي البشر لعبادة رب الكون... آه! كم أتمنى كلما انطلقت هذه الأصوات مع نسيم الليل، أن يهمس كل مسيحي يسمعها بصلاة صامتة ترتفع إلى الملكوت الأعلى طالبة لهم الرحمة، فهم بأمس الحاجة إلى الشفقة، إذ إن نور الإنجيل في بلدهم، ولكن وا أسفاه! لقد حجب عنهم هذا النور، وعميت عيونهم بسبب التعصب}.
وتتابع قائلة: و{(لأكون صريحة) أيضا بسبب سلوك كثير من الأوربيين المقيمين بينهم، والذين يدعون أنهم مسيحيون، لهذا ومن أجل خطايا الآخرين، يبذل المسيحي الصادق جهده هباء، لست ممن يلقي اللوم جزافا ولكن كثيرين من أصدقائنا هنا، من ذوي المكانة الرفيعة، يضمون صوتهم إلى صوتي مستنكرين أفعال هؤلاء المسيحيين بالاسم فقط، الذين يسيئون باستهتارهم إلى سمعتنا لدى المسلمين، المتحاملين أصلا ضدنا، هذه المدينة ذات الأهمية الأزلية يمكن أن تعتبر الآن ضمن {الطرق المطروقة} على نطاق واسع، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي لا نخجل فيه من أن يقال هؤلاء مسيحيون}.
حشرات

تحكي الكاتبة ما رأته من علامات الصيام بين المسلمين، حيث يفطر المسلم الصائم عند مغرب الشمس، وعادة ما تبدأ هذه الوجبة ببعض المرطبات الخفيفة مثل الفطائر والزبيب، حيث ترصد كيف أن كثيرا من الناس يشعرون، بسبب الصوم الطويل، بضعف شديد يحول دون تناولهم وجبة كاملة في الحال، قائلة: {لذلك نجد من (يشق ريقه) فقط بكوب من العصير أو بفنجان من القهوة، ويتبع ذلك وجبة كاملة تقوم مقام العشاء المعتاد، ويخلدون بعدها غالبا للنوم لفترة قصيرة، ومن الشائع أن يطوف مناد بعد المغرب بساعتين بالأحياء المختلفة، ويقرع طبلة صغيرة عند باب كل بيت ويحيي أهله بكلمات إطراء، كما أن أذان صلاة الفجر يكون أبكر من المعتاد بحوالي ساعة ونصف الساعة ليذكر الجميع بحلول وقت تناول الوجبة الثانية، والمنادي يطوف مرة ثانية بالأحياء المختلفة محدثا ضجيجا، ويواظب عليه حتى يوقظ أهل كل بيت طلب منه هذه الخدمة}.
وتضيف: {ترين أنهم لا يوفرون جهدا ليذكروا الصائم بفترة الرخصة، ومما يدعو للعجب تنوع الأصوات التي تزعج ليالي هذا الشهر المتعب، وفجر كل صباح، يطلق مدفع الإمساك عن الطعام من القلعة محدثا دويا شديدا تكاد المدينة أحيانا، ترتج معه من أساسها، رغما عنا، ونضطر لسماع تلك الأصوات التي ذكرتها من خلال فتحات مشربيات النوافذ، حقيقة أن نوافذنا مهيأة بضلف زجاجية علاوة على المشربيات الخشبية المنقوشة، ولكن الزجاج لا يغلق إلا في الشتاء، إذ إن النوم يتعذر خلال الموسم الحار إلا إذا فتحت جميع النوافذ، وإن أمكن الأبواب أيضا قياسا على دهشتي لدرجات الحرارة الشديدة التي مرت بنا منذ مجيئنا، أظن أنه لا يمكنك تصور مداها، وقد حدث منذ بضعة أيام أن فتحت صندوقا من الكرتون مليئا بشمع الأختام، ووجدت أن كل ما به قد تحول إلى كتلة مستطيلة بشكل الجزء الأسفل للصندوق}.
وتنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى رصد جانب من المتاعب التي يواجهها الناس بسبب الحشرات، وهي تظن أن الذباب أكثرها إزعاجا لكثرته ومضايقاته المستمرة، ومن الممكن علاجه من وجهة نظرها، عبر وضع شبكات على الأبواب والنوافذ لمنع دخوله، ولكن هناك أياما وأسابيع وأشهرا تكون فيها وطأة الحر بمصر بالغة الشدة.
وتقول إن {البق يكثر في المنازل العتيقة ولكن لحسن حظنا، لم نتعرض لمضايقات هذه الحشرات المقززة، يقولون إن البراغيث مزعجة جدا في هذا الموسم، ولكن الموسم لم يبدأ بعد بالنسبة لنا، وأعتقد وأتمنى، أن يكون للنظافة في بيوتنا أثر فعال لمنع اهتمامها بنا، وقد سمعت مرة من محاضر في التاريخ الطبيعي ما يفيد بأن هناك بعض الحشرات لا يليق ذكر اسمها في الأوساط الراقية ولهذا، لن أذكر اسمها هنا يا صديقتي العزيزة، ولكننا رأينا خمسا منها، لقد وصلت إلينا على خمس فترات مختلفة في لفائف من الأقمشة الجديدة من أحد الأسواق، وهذا يجعلنا نمعن النظر بدقة شديدة في كل شيء جديد}.

موكب المحمل

من بين أكثر مشاهداتها أهمية وصف الكاتبة لطلعة المحمل، حيث كانت كسوة الكعبة المشرفة تحمل من مصر إلى الأراضي المقدسة برداء جديد كل عام، وهي الكسوة التي كان يقوم عليها أثرياء مصر من مسلمين ومسيحيين وأعيان من كل البلاد، حيث تقول الكاتبة: {رجعت لتوي من مشاهدة موكب المحمل الطريف، استعدادا لرحيل قافلة الحج الكبيرة إلى مكة، قمنا مبكرين، ومضينا راكبين لمدة ساعة تقريبا حتى وصلنا إلى شارع المدينة الرئيسي المواجه لخان الخليلي، أهم سوق تركي بالقاهرة، أنا مقتنعة تماما بأن الحمير هي أكثر وسائل النقل أمنا في طرقات هذه المدينة، والسيدة لا تمتطي سوى الحمار بعد وضع قطعة من السجاد فوق السرج}.
وتضيف أنهم استأجروا لمدة يوم واحد، غرفة في الطابق الأول تطل على الشارع، لرؤية طلعة المحمل، واصفة المشهد الذي انتهى من حياة المصريين قبل عقود طويلة: {بدأت ضجة غريبة مصدرها شرذمة من الصبية مزودون بعصي ينهالون بها بالضرب على كل مسيحي ويهودي يصادفهم (هذه عادة مسموح بها في أيام هذا الموكب)، وقد شاء سوء الطالع أن يهاجم فرنجي على هذا النحو تحت نافذتنا، ولم ينقذه بصعوبة سوى تدخل بعض الأهالي الذين أبدوا نحوه كثيرا من العطف، هنأنا أنفسنا اليوم على مظهرنا الشرقي، وأننا أتقنا التعامل مع ملابسنا حتى لا نثير الشكوك، أذكر أنه في ذات يوم تعثر الحمار الذي كنت أمتطيه فصاح أحد المارة من الأتراك (ياساتر)، ولا أظنه يطلب لي الستر لو علم أني إنكليزية}.
وتكمل: {المهم، تقدم الموكب رجلان شاهران سيفيهما، ويقومان من آن لآخر بمبارزة وهمية، يتبعهما مهرج، يمتطي صهوة جواد، على رأسه طرطور طويل مدبب، وله لحية كثة من التيل المجدول ويرتدي فروة كبش، وكان يمسك في يمينه عصا رفيعة، وفي يساره رزمة من الورق يتظاهر بكتابة فتاوى قضائية وعلى وجهه تعبير الضاحك الباكي، يلي ذلك، قبل الظهر بساعة ونصف الساعة، مدفع القافلة النحاسي الصغير، تتقدمه فرقة من المشاة النظاميين، وتتبعه فرقة أخرى على رأسها جوقة بآلاتها الموسيقية الأوروبية، لا يمكنني أن أمتدح العزف، ولكنه كان على الأقل، أقرب شيء للموسيقى مما سمعته في مصر، إلا أنني لم أستمع بعد إلى المحترفين من مطربي هذا البلد، ولقد أخبرني بعض الذواقة أنه إن لم ترق لي الألحان التي ينشدونها فستبهرني مهارتهم ونبرات أصواتهم}.

الحشو المستمر


تتابع الكاتبة وصف {المحمل} الذي رأته بعينيها في القاهرة منتصف القرن التاسع عشر، وهي تعتقد أنه يمشي فارغا وإن كان ذلك غير حقيقي، إلا أنها تنقل ما كتبه شقيقها عن أن المحمل عادة اخترعتها {شجرة الدر}، الملكة المصرية التي قررت ذات مرة أن تخرج إلى الحج، واختارت فكرة الهودج التي سار عليها في ما بعد ملوك مصر، إلا أن الحقيقة هي أن المحمل كان دائما يحمل كسوة الكعبة هدية من مصر إلى حكام منطقة شبه الجزيرة العربية.
وتقول: {تبع الجنود، موكب ضخم من الدراويش، جاءت السعدية في المقدمة، يحملون رايات عديدة، على معظمها أسماء الله ومحمد ومؤسس الطريقة، مدونة على خلفية من الحرير الأخضر، وكان أغلب هؤلاء الدراويش يقرعون نوعا من الطبول الصغيرة يسمى (الباز) يمسك في اليد اليسرى، ويقرع بسير قصير سميك، بعضهم يدقون الدفوف، والجميع يرددون هتافات دينية لأسماء وصفات الجلالة مع هز الرؤوس المستمر ذات اليمين وذات اليسار، وما زاد من كون هذه الحركات ملفتة للأنظار أنهم كانوا يرتدون قلنسوات عالية جدا من الصوف، شد انتباهنا إليهم ما كانوا يلبسونه من مختلف الأزياء، إضافة إلى الجدية البينة في مسلكهم}.
تكمل الكاتبة وصفها للموكب الكبير، الذي ضم كذلك {الرفاعية}، الذين يحملون رايات سوداء، ويدقون الباز والدفوف، ويرددون الهتافات ذاتها و{القادرية}، الذين يرفعون شعائر طائفتهم، وكذلك {الأحمدية} و{الإبراهمية} براياتهم الحمراء والخضراء، وغيرهم.
وتنقل صوفيا لين بول عن أخيها قوله: {هناك في الواقع تدهور محلوظ من حيث مظاهر عظمة هذا الموكب من عام إلى عام، نتيجة لأن الدولة تقتصد من المال الذي كان ينفق لهذا الغرض، ولكن بالنسبة لي ولمن لم يشاهده من قبل، كان المنظر مبهرا للغاية، ولم يتقدم الموكب كما جرت العادة في الماضي، عظماء القوم بملابسهم المذهبة، وكذلك الجمال لم تزين، بعد ذلك جاء فوق صهوة جواد بهيج، الشيخ شبه العاري الذي ظل لعدة سنين مضت يتبع المحمل ويقوم بهز رأسه بحركة دائرية متواصلة، ويتقاضى على هذا العمل المجيد منحة من الحكومة}.
وتتابع نقلا عن أخيها: {إذا كان هو الرجل نفسه الذي يقوم عاما بعد عام بهذه الحركة السخيفة (قيل لي إنه هو بعينه)، فإنني أعجب أن رأسه تحملت مثل هذه الحركات غير الطبيعية على هذا المدى الطويل! تبعه عدد من الجمال والخيول المساقة، زينتها براقة ولكنها غير مكلفة زينت الجمال بطرق مختلفة، بعضها تدلت بأجراس صغيرة على جانبي رحال مغطى بقماش ملون، وغطى بعضها الآخر جريد النخيل، أو ريش الطاووس أو رايات صغيرة مثبتة على رحال مزدان بالودع، ثم جاءت فرقة من الجنود النظاميين يتبعهم أمير الحج ( أي رئيس الحجاج)، ثم مر عرض لمجموعة الهدايا التي توزع عادة أثناء الحج، ثم عدد من الطبالين فوق ظهور جمال، يدقون طبولا ضخمة، وبعدهم، مجموعة أخرى من الجمال المساقة وعدد كبير من حاملي المشاعل} .
وتنهي الكاتبة ملاحظاتها بقراءة واعية في نوعية تغذية الأطفال في مصر، خلال هذا الزمن، مؤكدة أن هناك إجماعا بين كل الناس من كل الطوائف على شيء واحد، هو شراء أي شيء لأولادهم من كل بائع حلوى يمر، وما أكثرهم في مثل هذه المناسبات، مشددة على أن الأطفال يتعرضون بسبب هذه القناعة، لنظام من الحشو المستمر أثناء مرور الموكب.
وتقول: {هنا تفتحت عيني لعامل جديد يفسر المظهر الكئيب لأطفال هذا البلد، إن آباءهم يحشرون في أفواههم أي شيء وكل شيء قابل للأكل، دون أدنى اعتبار لفائدته أو عدمه، كيف إذن يمكنهم أن يكونوا أصحاء أقوياء؟}.
 
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات



الأربعاء 01 يوليو 2015 - الساعة 00:02
تستكمل الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول، شقيقة المستشرق الإنكليزي، إدوارد وليم لين، قراءتها للمجتمع المصري بعين الأنثى الأوروبية، منتصف القرن التاسع عشر، وتفتح في كتابها «حريم محمد علي باشا» باباً لفهم أوضاع المرأة المصرية والعربية خلال القرنين الماضيين.
وإذا كانت الكاتبة - التي زارت القاهرة عام 1842 - رصدت في رسائلها إلى صديقتها الإنكليزية أوضاع المصريين وقناعاتهم وأسلوبهم في الحياة والتفكير والتصرف، فإنها تتطرق في هذه الحلقة إلى ما يخص درجة الجمال في حريم محمد علي باشا، وقالت عبارتها الدالة: «فيما يخص الجمال، لا يمكنني أن أقول سوى أن واحدة فقط كانت لافتة جداً».
لم تكن الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول بحاجة إلى كل هذه المقدمات الطويلة كي تصل إلى هدفها المنشود، وهو دخول عالم والاطلاع على أسرار «حريم محمد علي»، المكان الذي لم تدخله امرأة أجنبية قبلها، وقد سبق أن قالت في حلقة سابقة، خلال رسالتها الأولى إنها لم تشأ أن تتصل بحريم القصر، قبل أن تتعرف على حريم الشارع أولاً وتتعلم اللغة العربية أو التركية، لكي تستطيع أن تستفيد على أفضل نحو من تحقيق هدفها المنشود.

1435668921_84_2-3.jpg

1435668921_47_3-3.jpg

1435668921_66_1-4.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
تقول الكاتبة صوفيا لين بول لصديقتها الإنكليزية، في الرسالة السابعة، إنها عندما قدمت أول مرة إلى القاهرة، ظلت فكرتها عنها مشوشة فترة طويلة، وأن القاهرة بالنسبة لها كانت تبدو لها محض «سرداب من المنازل الخربة»، مدينة ذات هندسة غاية في الغرابة، مظهرها العام عتيق وموغل في القدم، تقول إنها دهشت حينما قيل لي إن القاهرة وقتها 1842 كانت تبدو أقل كآبة منذ بضع سنوات قليلة فقط.
لا تريد الكاتبة أن تسخر من مدينة القاهرة، بل على العكس، تحاول أن تتحدث عن عظمة الدور الذي لعبته القاهرة في التاريخ، بغض النظر عن مدى تدهور حالتها الآن، تقول: «تفخر القاهرة باسم «أم الدنيا» وغيره من الألقاب الطنانة، وفي الواقع وعلى الرغم من تدهور حالها كثيراً منذ اكتشاف طريق «رأس الرجاء الصالح» إلى الهند، وخصوصاً في السنوات الماضية، فإنها لاتزال من أهم مدن الشرق، وهي إجمالاً مدينة عربية الطابع، توجد داخل أسوارها أجمل النماذج للعمارة العربية، المنازل الخاصة عادة، متوسطة الاتساع، الجزء الأسفل منها من الحجر، يعلوه بناء من الطوب، وبعضها لا تعدو أن تكون أكواخاً».
تستكمل الكاتبة أوصاف القاهرة لصديقتها في هذه الرسالة، تقول إن الطرقات غير مرصوفة وضيقة جداً، يبلغ اتساعها غالباً ما بين خمسة وعشرة أقدام وأحياناً يكون عرضها أقل من أربعة أقدام، إلا أن هناك بعض الطرقات، عرضها أربعون أو خمسون قدماً ولكن لمسافات فقط، تقول:
«دعيني أصف لك الآن الطرقات بأسمائها المختلفة، هناك الشارع، أو الطريق العام، وهو عادة غير محدد، سواء من حيث اتجاهه أو عرضه، في أغلب أجزائه نجد أن عرضه لا يتسع بما يكفي لمرور جملين محملين جنباً إلى جنب، وهذا يسبب متاعب كثيرة للمارة بالرغم من ندرة مرور العربات، وإذا ثقلت الأحمال على الحمير، توضع فوق ظهور الجمال، وكلاهما يستخدم لإمداد سكان القاهرة بماء النيل الذي ينقل في قرب، الجمل يحمل قربتين والحمار يحمل قربة واحدة من جلد الماعز تربط حول الرقبة، كثيراً ما تعطل هذه الحيوانات الحركة في الشوارع الرئيسية التي غالباً ما تكتظ بالمارة المترجلين والراكبين. المنظر العام يتسم بالفوضى وشدة الزحام خصوصاً حينما تتقابل مجموعتان من الجمال في مكان لا يسمح إلا بمرور واحد، وهذه ظاهرة كثيراً ما تتكرر، وغالباً ما تستخدم الحمير في الانتقال من مكان الى آخر، إذ إنها تناسب طرقات القاهرة كما أنه من السهل استئجارها في أي وقت».
ترسم الكاتبة لوحة زيتية واضحة المعالم للشوارع والبيوت والميادين، لشكل الناس في الشوارع الذي لم تكن هناك كاميرات لتصورها، ولا تعكس رسومات الأجانب في مصر خلال القرن التاسع عشر كل جوانب الحياة الاجتماعية في مصر، مثلما تحاول الكاتبة البريطانية أن تفعله في كتابها «حريم محمد علي».
من بين ما تميز في وصفه أوضاع المصريين في الشوارع، بعضهم يركبون الحمير، لأن خطوتها أسرع وأسلس والجلوس عليها مريح خصوصاً «فوق بردعة عريضة زاهية الألوان»، تقول الكاتبة لافتة النظر إلى واحد من بقايا أزمنة العبودية القديمة: «من المعتاد أن يعدو خادم إلى جانب الحمار وأن يكد الخادم نفسه بالصياح المستمر ليفسح الطريق أمام سيده، وعلى الرغم من الخادم أو الخادمين اللذين يبذلان أقصى جهدهما لإفساح الطريق أمامه فكثيراً ما يضطر إلى الرجوع من حيث أتى، ولهذا من النادر أن يرى موكب من الخيالة في شوارع القاهرة الرئيسية، كما أن هناك بعض الطرقات الضيقة لا يستطيع شخص يمتطي جواداً أن يمر فيها إطلاقاً، ومن المعتاد أن يتبادل أشخاص من الطبقتين العليا والوسطى التحية في الطريق دون سابق معرفة وكثيراً ما كان أخي يتلقى التحية الإسلامية، أذكر هذا فقط لأبيّن خطأ الرأي الذي يدّعي أن أبناء الشرق يمكنهم بنظرة واحدة الكشف عن الأوروبي المتخفي في إزار شرقي».

طاقية وطربوش

اهتمت الكاتبة البريطانية بملابس المصريين في الشوارع من كل الطبقات ومن الجنسين والأطفال أيضاً، وكانت معنية أن ترى مصر بعيون أنثوية، بدت وكأنها عين ثالثة على المجتمع المصري من مئتي عام، حيث الحياة لاتزال في الطور الأول من النهضة التي تركها حكم محمد علي على المصريين، وقد جاء حكم أسرته ـ من بعده ـ بكثير من التطوير والتحديث، في حقيقة الأمر، ما يجعل الصورة التي رسمتها الكاتبة عن مصر والمصريين تستبق إنجازات أبناء محمد علي في تحديث مصر، فقد دخل قطار السكة الحديد مصر وتأسست «محطة مصر» نحو 1850، أي بعد تأسيسه في لندن بعشرة أعوام، كما افتتحت قناة السويس بعد زيارة الكاتبة بربع قرن تقريباً.
تقول الكاتبة واصفة حال المصريين من ملابسهم: «الذي لا شك فيه أن الشخص الأجنبي بأفكاره وتخيلاته عن أبهة الشرق وفخامته، سوف يفاجأ بمنظر كثير من الناس وملابسهم الرثة في شوارع القاهرة، اللون الأزرق هو الغالب على ملابسهم، إذ إن الجلباب الواسع المصنوع من القطن أو التيل الذي يرتديه الرجال والنساء من الطبقة الدنيا يصبغ بالنيلة، وهي من إنتاج البلد، وكثيراً ما يرتدي الرجال وخصوصاً الخدم، صدرية من الحرير أو الجوخ تحت الجلباب الأزرق، وقد يبلغ الفقر ببعضهم فلا يمتلكون حتى عمامة مُهلهلة، ولباس رأسهم الوحيد، طاقية ضيقة من جوخ أبيض أو بني أو طربوش عتيق وكثيرون منهم حُفاة القدمين».
تحاول أن تفرق بين ملابس المصريين حين تشير إلى أن ملابس المسيحيين واليهود، تتميز بعمامة سوداء اللون أو زرقاء أو سمراء، أما ملابس النساء من الطبقة الراقية فتبدو غريبة جداً بالنسبة للأجانب من الأوروبيين، وهي تفرد لها لحسن الحظ مساحة وصف كبيرة:
«عند الخروج يختفي الفستان الفاخر الذي يلبس في البيت تحت خمار فضفاض من الحرير يدعى «الثوب» وغطاء حريري واسع أسود اللون يسمى «الحَبرة» يكاد يلتف حول الجسد كله، ويستعاض عنه في حالة غير المتزوجات بغطاء حريري أبيض، أما البرقع، فمن القماش الرقيق الأبيض وهو ضيق العرض، ويصل من العينين إلى قرب القدمين، ومن الصعب على النساء، وهن مكبلات بهذه الطريقة أن يتحركن بسهولة، ولهذا قلما نراهن في الطرقات المزدحمة مترجّلات، حيث تؤجر لاستخدامهن حمير مدربة مزودة ببرادع عالية وعريضة مغطاة بسجاد تجلس فوقه السيدة، ورجلاها تتدليان على جانبي الحمار، ويرعاها خادمان على الناحيتين، وكثيراً ما يرى موكب طويل من الممتطيات من السيدات والجواري على هذا النحو، أي حريم بأكمله، بالزي نفسه، الواحدة وراء الأخرى، وكل المارة يفسحون لهنَّ الطريق باحترام زائد، وترتدي نساء الطبقة الدنيا برقعا أسود اللون – أراه أكثر جمالاً من الأبيض – مزيناً في بعض الأحيان بعملات ذهبية وخرز، أو يجذبن طرف خمار الرأس على الوجه بحيث لا تظهر سوى عين واحدة».
وبينما تتجول الكاتبة في شوارع القاهرة تلحظ بعين مدربة أن عدداً كبيراً من الأشخاص العميان يمشون في الشوارع، وعدداً أكبر ممن يضعون ضمادة فوق عين واحدة، لافتة إلى أنها قلما رأت امرأة بعلَّة في عينيها، كما تلحظ أن المحال التجارية، لا تعدو أن تكون محالاً صغيرة، تشغل عادة الجزء الأمامي من الطابق الأرضي لكل بيت يطل على شارع رئيسي، ومخزون البضاعة في أغلبها ضئيل جداً، والمنازل، باستثناء قليل منها، تتكون من طابقين أو ثلاثة، كما تلحظ أن النوافذ ذات المشربيات الخشبية تمتد إلى الخارج، مما يجعل الطرقات مظلمة، ولكنها في الوقت نفسه ظليلة ورطبة، وعلى جانبي الشوارع الرئيسية شوارع وأحياء جانبية.
تقول واصفة شوارع القاهرة، بعدما أعادت الحملة الفرنسية «1798 ـ 1801» تنظيمها بنحو أربعين عاماً:
«يختلف الدرب أو الطريق الجانبي عن الشارع، في كونه أضيق وأقصر، وغالباً ما يتراوح عرضه ما بين 6 و8 أقدام، وهو طريق عام له بوابتان عند طرفيه بهما بابان كبيران من الخشب، يغلقان دائماً بالليل، وبعض الدروب ليس بها سوى مساكن خاصة، وبعضها بها متاجر، والحارة أو الحي، منطقة محددة تتكون من طريق أو زقاق واحد أو أكثر وفي العادة لا يحتوي الحي الصغير إلا على مساكن خاصة، وله مدخل واحد بباب خشبي، يغلق ليلاً مثل باب الدرب».

«خان الخليلي»

تحكي الكاتبة عن كل شيء يتعلق بالنساء واهتماماتهن، عن الأسواق التي تشبه مجموعة من طرقات قصيرة، أو شارع يضم على جانبيه دكاكين، غالباً تضم محلات لتجارة واحدة، وتشير إلى أن كثيراً من الأسواق مغطاة بحصر ممتدة على دعامات خشبية، وبعضها ذات أسقف خشبية، وأغلب الشوارع العامة الرئيسية وكثير من الطرقات الجانبية، تحوي كلها أو جزء كبير منها، سلسلة من الأسواق.
تقول : «كثير من خانات القاهرة تشبه الأسواق التي ذكرتها إلا أنها عادة مجموعة من المتاجر والمخازن، تحيط بحوض مربع أو مستطيل، ويجدر بي أن أذكر «خان الخليلي» لأنه واحد من أهم أسواق القاهرة، ويقع في وسط المنطقة التي تكوّن المدينة الأصلية، شرقي الشارع الرئيسي بقليل، وهو يشغل موقع مقابر «الفاطميين»، وسوق «خان الخليلي» يتكون من مجموعة أزقة قصيرة ذات منعطفات عديدة وله أربعة منافذ من أحياء مختلفة، ويشغل الأتراك معظم دكاكين هذا الحي، ويتاجرون في الملابس الجاهزة وقطع الثياب الأخرى وأيضاً في كل أنواع الأسلحة وسجادات الصلاة الصغيرة، التي يستخدمها المسلمون علاوة على المستلزمات الأخرى، ويقام هناك (كما في أسواق أخرى عديدة بالقاهرة ) بيع بالمزاد العلني مرتين كل أسبوع، أيام (الاثنين) و(الخميس)، وحين يشتد الزحام بالخان يتعذر على المارة أن يشقوا طريقهم في بعض أجزائه، تبدأ المزايدة في الصباح الباكر وتبقى حتى صلاة الظهر، ويجوب السماسرة في السوق ذهاباً وإياباً يعرضون للبيع شتى البضائع من ملابس «قديمة وجديدة» وشيلان وأسلحة وتراجيل وغيرها، ويكثر في هذه المناسبات سقاة الماء يلبون طلبات الظمأى من قِرب يحملونها على ظهورهم ويسكبون الماء منها في أكواب من نحاس، كما يباع العناب والخبز المستدير المفلطح ومأكولات أخرى في كل أرجاء السوق، ويؤم الخان أيام المزاد كثير من المعتوهين الحقيقيين أو الذين يتظاهرون بالعته، وشحاذون بأعداد كبيرة تبعث رؤيتهم على الأسى».

حريم الباشا

اقتربت الكاتبة من الهدف المنشود، واستطاعت بعد طول بحث ودراسة وتأن، أن تصل إلى «حريم الباشا»، وكانت أول صدمة تتلقاها، أنها علمت أن للباشا أربع زوجات، وتسخر من نفسها الكاتبة، لأنها كانت تظن أن لمحمد علي باشا زوجتين فقط، لكنها اكتشفت ـ خلال مقابلة مع إحدى زوجاته الأخريات «والدة حليم بك» في القلعة ـ أنه لاتزال هناك أخرى، ليكتمل العدد الى أربع زوجات، «كما هو مصرح به في الإسلام»، تقول الكاتبة الإنكليزية.
تعترف أن الذهاب إلى القلعة ليس أمراً مريحاً، لكنها تعتبر نفسها منتصرة لأنها استطاعت أن تقتحم حريم الباشا وأن تتعرف إليهن عن قرب لتكون أول إنكليزية تحظى بهذا الشرف من غير أبناء الملوك، وتصف المشهد الذي وصلت فيه إلى القلعة، تقول واصفة حيرتها في الدخول إلى القلعة:
«الباشا أوصى بإصلاح الشارع الآتي من ناحية «باب الوزير»، ونتيجة لذلك تعترض الطريق أكوام من الحجارة والأنقاض، لقد فضلت هذا الطريق لأنه غير مرصوف والتجربة علمتني أن أخشى مدخل البوابة الكبيرة المرصوف الزلق، خصوصاً وأنا ممتطية ظهر «الحمار العالي»، ومع اني كنت أخشى أن أتعثر في ركوبي على الأنقاض إلا أنه لم يفتني أن ألاحظ ضخامة حجم بعض الأحجار التي وقعت من حائط قديم وتشبه إلى حد كبير الحجارة المبعثرة حول الأهرامات وذلك يجعلني لا أشك في أنها من بعض ما نقله قراقوش عند بنائه القلعة.
القصر المخصص في القلعة لحريم الباشا منيف وفخم، وهو أجمل بناء سكني خاص رأيته في مصر، نظامه الداخلي على النمط التركي المعتاد، بالطابق الأرضي قاعة استقبال واسعة مرصوفة بالرخام الأبيض المائل إلى الزرقة، كما تحيط بها أجنحة من غرف تنفتح فيها، وحجرات الطابق الأول على النمط نفسه، مررت بمصاحبة صديقتي مسز ليدر من المدخل الرئيسي إلى فناء مربع واسع، اجتزناه ووجدنا نفسينا في قاعة الاستقبال السفلى، صعدنا درجات سلم رخامي ضخم إلى قاعة الاستقبال العليا بالطابق الأول، وهنا تفجر أمام ناظرينا مشهد غاية في الروعة: هناك ثلاث نوافذ مواجهة لرأس السلم تشرف على القاهرة وعلى السهل من ورائها، كان في متناول بصرنا وتحت نظرنا المبهور، كافة المناطق المهمة في شمال وغرب القاهرة باختلافاتها الطريفة، منتهية من جهة الشمال ببساط الدلتا الأخضر وسهل الجيزة، كنت أتمنى أن أتلكأ بعض الوقت، ولكن الوصيفات المرافقات لنا، كن على عجل لاصطحابنا إلى حضرة السيد الأولى».
تقول إنهم وجدوها جالسة في غرفة يكسوها السجاد ومحاطة بديوان، وفي معيتها ثلاث سيدات قابلتها ومن معها بكل احترام وترحاب، أدهشها تلطفها أنها عوملت بلطف، خصوصاً لأنها تعلم ما لهذه السيدة من سمعة في الكبر والغطرسة، صُدمت حينما تحدثت معها بكل بساطة عن الأولاد، كما أي امرأة عادية، وصدمت أكثر حين سألتها بكل جدية إن كان أحد أبنائي، البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، متزوجاً»!!»، تقول إنها تصورت أنها تعني «خاطباً»، شرحت لها بأدب قائلة: «الصبي في إنكلترا لابد أن يصبح رجلاً قبل التفكير في الزواج أو في الخطبة».
تنتقل الكاتبة إلى درجة جمال الحريم في قصر الباشا فتصفه بأنه جمال محدود، وتقول: «لا يمكنني أن أقول سوى أن واحدة فقط كانت ملفتة جداً، وكذلك المصاغ الذي رأيته هناك لم يكن مما يستحق الذكر الخاص باستثناء عقود اللؤلؤ التي كانت ترتديها السيدة الأولى وسيدتان أخريان، إذ كانت تتكون من أكبر اللآلئ التي رأيتها في حياتي وتحيط بالعنق بإحكام، عند مغادرة هذا الحريم، اقتادتني الوصيفات بنوع من المراسم التي لم يسبق أن وصفتها، وهي أن يمسكن بالحبرة من طرفيها من خلفي وأنا أعبر قاعتي الاستقبال، إلى أن وصلت إلى ساتر الحريم، كانت هؤلاء الوصيفات يقلدن سيداتهن ويتبارين في إظهار الاهتمام اللائق بنا، كما أن جميع من في حريم القلعة تبدو على وجوههن السعادة التامة».
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
جولات في الشرق 15: صوفيا لين بول: زفاف في قصر الباشا بدون عريس



الخميس 02 يوليو 2015 - الساعة 00:01
تستكمل الكاتبة البريطانية «صوفيا لين بول» شقيقة المستشرق الإنكليزي، إدوارد وليم لين، قراءتها للمجتمع المصري بعين الأنثى الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، وتفتح في كتابها «حريم محمد علي باشا» باباً لفهم أوضاع المرأة المصرية والعربية خلال القرنين الماضيين.
وإذا كانت الكاتبة - التي زارت القاهرة عام 1842- رصدت في رسائلها إلى صديقتها الإنكليزية تفاصيل حياة المصريين عموماً، فإنها في هذه الحلقة الأخيرة من رحلات المستشرقين إلى الوطن العربي، تخصصها لزيارتين مهمتين قامت بهما الكاتبة إلى قصر الحريم في القلعة زمن محمد علي وزيارة أخرى إلى قصر الدوبارة، حيث تقيم الابنة الكبرى للباشا.

1435755802_61_4.jpg

1435755802_8_3.jpg

1435755802_95_1.jpg

1435755803_07_adsad.jpg

كتب الخبر: محمود خيرالله
T+ | T-
أخبار ذات صلة
جولات في الشرق 14: صوفيا لين بول: نساء الباشا لسن جميلات
جولات في الشرق 13: صوفيا لين بول: {رمضان كريم} في المحروسة
جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون
جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}
جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}
تتوج الكاتبة البريطانية «صوفيا لين بول»، رحلتها إلى مصر بزيارة قصر حريم محمد علي باشا حاكم مصر خلال زيارتها إلى القاهرة عام 1842، وبالدخول إلى القلعة النسائية التي لم يطلع عليها الغرب أبداً قبل أن تكتب شقيقة المستشرق البريطاني وعالم المصريات إدوارد وليم لين.
الكاتبة تدرك خطورة الدور المنوط بها، وهي تشرح كيف كان الدخول إلى قلوب الأسر المصرية من الأغنياء والحكام أمراً صعباً عزيز المنال، لدرجة أن بعض الأوروبيات الراغبات في رؤية حريم الباشا عرضن دفع رشاوى للتطلع إلى سكن الحريم هذا، لكن طلبهن قوبل بالرفض.
تكتب الكاتبة لصديقتها شارحة خطورة الوصول إلى قصر الحريم قائلة: {قيل لي إنه لم تطأ قدم أي من الفرنجة هذا الحريم من قبل، وأظن أن هذه هي الحال بالفعل، ولكن هناك جزءاً من البناء ذاته له مدخل من الجانب الآخر، أعد خصيصاً للباشا على النمط الأوروبي، وهذا الجزء كثيراً ما دخله الرحالة، منذ فترة وجيزة عرضت بعض السيدات الأوروبيات مبلغ عشرين دولاراً للسماح لهن بالدخول، ولكن رفض طلبهن، لم أقدم أنا أي رشوة، فأنا لا أتنازل للخدم لأدخل إلى الحريم، وزياراتي كلها، إما عن طريق صديقتي العزيزة مسز ليدر أو بدون أي لجوء إلى الجواري، ولم يصادفني أبداً أي اعتراض، ولكن عند الخروج، يقتضي الأمر إعطاء منحة لرئيس الأغوات أو حارس الباب}.
تقول صوفيا لين بول إنها بعد القيام بهذه الزيارة إلى القصر، مرت على صديقاتها القديمات، «حريم حبيب أفندي»، حيث كانت تتوقع أن تقابل بقدر من التوجس والجفاء، وأنها كانت تخشى ألا تلقى الترحيب الحار بها، والذي اعتادت عليه، وأن يتحول لقاؤها بهم إلى استقبال فاتر نظراً إلى الظروف الحالية، ففي هذا الوقت ـ تنقل لنا الكاتبة ـ طلبت إنكلترا وفرنسا من حاكم مصر امتيازاً يتمناه بشدة كل مسيحي، ولا يمكنه كحاكم مسلم، منحه بأي حال من الأحوال، وهو عدم تطبيق الحد على الأجانب الذين دخلوا الإسلام ثم عادوا إلى ديانتهم «المسيحية»، تقول الكاتبة إن نتيجة المفاوضات حول هذا الموضوع لم تتضح بعد، بينما كانت تلتقي بنات وحريم «حبيب أفندي»، تقول: «كان من المريح جداً لمشاعرنا ونحن نقوم بزيارتهم أن نجد الأسرة بأكملها ترحب بنا، بأكثر من حفاوتها المعتادة، ونظراً لأن سيدات هذا الحريم لهن دراية خاصة بالأحداث الجارية، فإن الحديث أثناء الزيارة يكون دائماً جزلاً طلياً، وغالباً ما يدور حول الأمور السياسية، لهذا بمجرد أن اتخذنا مجلسنا نوقشت الأحداث الجارية، وما لبثنا أن طرقنا موضوع الحرية في المسائل الدينية، وهنا أجد نفسي مضطرة أن أستطرد في الكلام لأذكر شيئاً أعجبت به جداً، فبينما كنت أحدث السيدة الجالسة بجواري، وجدنا الجمع كله، الذي ضم بنات الأسرة وعديداً من الضيوف، يقمن بالوقوف فجأة، ولتونا فعلنا مثلهن، حينئذ لاحظت أن السيدة الأولى قد دخلت الغرفة، سعدت جداً لظاهرة الاحترام هذه تجاه الوالدين التي لا تقتصر، كما في إنكلترا، على بعض أسر العظماء فقط، خاصة حينما تكون مصحوبة بتعلق شديد نابع من القلب كما كان واضحاً من سلوك بنات حبيب أفندي، إن احترامهن تام لوالدتهن الفاضلة كما أنها تسمح لهن، في حديثهن وتصرفاتهن، بالدلال والألفة دون أي تكلف».

«تقبيل» المنمنمات

في رسالة تستحوذ عليها قصة «زوجة حبيب أفندي» تقول الكاتبة لصديقتها البريطانية، إن السيدة الأولى في البيت حيتها بطريقتها المعتادة الساحرة واتخذت مجلسها، وأقعدت الكاتبة كما تفعل دائماً، على يمينها، دليلاً على الاحتفاء والترحيب، وتنقل لنا طرفاً من أحاديث المجتمع السياسي المصري في هذه اللحظة التاريخية البعيدة من عمر الدولة المصرية، وهي قصة تقول إن المجتمع المصري كان يمارس الجدل السياسي، أواخر أيام محمد علي، تقول: «زوجة حبيب أفندي» كانت تنصت إلى الحديث بكل اهتمام، وأن بناتها كن يترجمن ما نقول إلى التركية، لأن محصول زوجة حبيب أفندي من اللغة العربية كمثيلاتها من السيدات التركيات اللائي قابلتهن في هذا البلد، يكفي للأحاديث العادية، ولكن حينما يدور نقاش حول موضوع ذي طرافة خاصة، فإنهن يفضلن أن يكون الشرح بلغتهن.
بعد ذلك طلبت الابنة الكبرى أن نوضح لها طبيعة ما طلبته إنكلترا وفرنسا من السلطان، وحين شرحنا لها أن المسألة تخص حماية المسيحيين، الذين أسلموا ثم ارتدوا عن الإسلام إلى دينهم الأصلي، من الحد، قالت بجدية أعجبتنا جداً: «إنه يعتبر تحقيقاً لنبوءة سمعتها حينما كنت طفلة صغيرة، قيل إنه في هذه السنة بالذات سوف تبدأ أحداث جسام تدوم لمدة ثلاثة أعوام».
اعتبرت الكاتبة أن ما قالته زوجة حبيب أفندي تفسير جميل لظروف قالت إنها أصبحت «مفعمة بمشاعر مؤلمة، خاصة بالنسبة لشخص مرتبط مثلها أشد الارتباط بدينه»، لقد تحولت مشاعر الكاتبة من الجهل بالمجتمع المصري إلى الوعي بتفاصيله المؤثرة، لافتة الأنظار إلى أدوار النساء المصريات الكبيرة والمؤثرة جداً في شكل الدولة وفي القانون وفي الحياة العامة، وإلى مدى اهتمام قطاع واسع من النخبة بتثقيف بناتها وتعليمهن على أفضل نحو ممكن، تقول: «أذكر بكل صدق أنني لم أقابل مثل تلك السيدة من حيث الرقة واللطف والحصافة بالإضافة إلى العقل الراجح المثقف، في أي مجتمع شرقي آخر، ولقد جاء ذكرها بكل إجلال في كتاب مسز ديمر «يوميات» حيث أثنت بصفة خاصة على عطفها وحبها لأمها، ولا يفوتني أن أذكر اهتمام الحريم كله بكتاب مسز ديمر».
تحكي الكاتبة بعد ذلك موقفاً طريفاً جداً حدث لها مع نساء الطبقة الحاكمة في مصر، اللائي يدن بالولاء للسلطان العثماني، حيث عرضت عليهن مسز ليدر صورة للسلطان الحالي، منشورة في كتاب «مسز ديمر»، وقامت الابنة الكبرى بعمل نسخة منها بالألوان، تقول: «هذا عمل مشرف بالنسبة لسيدة تركية، لا شك أنها سوف تكون محط اهتمام كبير لدى كل زوار الأسرة، لكن إن لم تحفظ في الزجاج، فإن القبل سوف تقضي عليها تماماً في بحر بضعة أسابيع مثلما حدث، كما سمعت، لـ «منمنمة» تخص أحد عظماء الأتراك».

نظلة هانم في «الدوبارة»

تحكي الكاتبة باعتزاز كيف التقت الابنة الكبرى لمحمد علي، في قصر الدوبارة، وكيف كانت المرأة مريضة ورغم ذلك رحبت بها وهي من جانبها استغلت الظرف وقررت أن تصف كل ما رأته تقريباً داخل القصر، من السجاد والستائر والنساء والجمال الأخاذ لواحدة من زوجات محمد علي الشابات، تقول: {قدمتني أمس صديقتي مسز ليدر إلى سمو الابنة الكبرى للباشا نظلة هانم، أرملة «الدفتر دار محمد بك» كانت المقابلة مشرفة لي جداً، خصوصاً أنها، على غير العادة، تمت في غرفة نومها، لم أدرك حينما قدمت إلى «قصر الدوبارة» أنها تشكو من وعكة شديدة، ولم أرد إقحام نفسي عندما سمعت الخبر، ولكنها لما علمت بمقدمي، أبدت رغبة لرؤيتي بعد خروج الطبيبين المعالجين لها من غرفتها، ولأنها الابنة الكبرى تحتل أرفع مكانة بين سيدات مصر، أثناء انتظارنا في إحدى الغرف التي تفتح على الصالون، أسدل الستار فجأة على الباب حتى يمر الطبيبان، بعد بضع دقائق، أزيح الستار ودخلت إلى حضرة سموها، كانت تتكئ على وسائد ويبدو عليها الإعياء الشديد من وطأة السعال وضيق الصدر، ولكنها استقبلتني بكثير من الترحاب ولتوها طلبت مني الجلوس بجوارها على ديوان مرتفع، أظن أنه مخدعها، رأيت دواوين منخفضة تحيط بالغرفة كما كسيت الأرض بالسجاد التركي، لم يبد على الحجرة طابع غرفة نوم، بل كان مظهرها يميل إلى حجرة جلوس شتوية فاخرة على الطراز التركي تنفتح على الصالون الفخم الذي سبق أن وصفته لك، كان أصغر أبناء الباشا، محمد علي بك، يجلس فوق وسادة عند قدمي أخته نظلة هانم وحينما وجدني لا أعرف اللغة التركية، تلطف وتحدث معي بالفرنسية، إنه يبلغ من العمر تسعة أعوام، وبعد بضعة أشهر، سوف يعتبر قد تعدى سن الحريم، كانت والدته وعدة سيدات أخريات يجلسن على يساري، وهكذا وجدت على جانب مني سيدة في الخمسين من عمرها وهي ابنة الباشا وعلى الجانب الآخر شابة رائعة الجمال، زوجة أب لسموها وأم لأخيها».
تتوقف الكاتبة أمام مظاهر الأبهة والعراقة في بيت محمد علي، وفي حلي بناته ونسائه، تقول: «لا يفوتني ذكر «الغلايين» ـ جمع غليون ـ التي كانت سموها تستخدمها والتي كانت مباسمها مرصعة بفصوص من «البرلنتي» بطريقة جميلة وبذوق رفيع وغطاء كل منها من الحرير المطرز ببذخ ومهارة، كانت سموها تدخن دون انقطاع ولكنها كانت المدخنة الوحيدة في الغرفة، وبالمناسبة، لقد تعودت الجلوس مع المدخنات إذ إن التبغ الذي تستخدمه السيدات هنا، خفيف ورائحته تختلف تماماً عن النوع الذي تأباه بشدة بنات جنسي في إنكلترا، وحينما هممت بالانصراف، طلبت نظلة هانم مني، ثلاث مرات، أن أظل مدة أطول، ولكنني أخيراً أقنعتها بضرورة انسحابي نظراً لأن غروب الشمس قد دنا، فودعتني بلطف زائد، ولدى مغادرتي غرفتها، وجدت في انتظاري، السيدة التي تليها في المقام وكانت قد قدمت لي القهوة والشراب آنفاً، كانت تحمل كوباً من العصير لأرتشفه عند الرحيل، أذكر هذا لأنه يعتبر دلالة احترام خاص، رافقنا عدد من السيدات إلى الباب وقدمت لي إحداهن منديلاً مطرزاً، هدية من سمو الأميرة».

العجوز «دبورة»

توقفت الكاتبة عند صورة جارية رأتها في قصر الدوبارة وأعجبتها إلى درجة الاندهاش من جمالها الأخاذ وكمال بنيان جسدها، في إشارة منصفة لمستوى الجمال في قصور أبناء محمد علي، وهي تجدد اندهاشها من المعاملة الحسنة التي لاقتها في قصر الدوبارة وهي مجرد امرأة عادية، على أساس أنه من المتوقع أن يبدي حريم الباشا ونساء علية القوم احتراماً تجاه الإنكليز عامة، تقول: «إذ لو كنت من طبقة النبلاء لكان التشريف الزائد الذي ألقاه أمراً طبيعياً، ولكنه يفوق كل توقعاتي كامرأة عادية، وأثناء مغادرتي للقصر جذبت انتباهي أجمل رؤية كان لي الحظ أن أشاهدها في شخص جارية بيضاء تبلغ من العمر حوالي سبعة عشر عاماً، كانت تقف ورأسها مستند إلى الباب فبدا جسمها الرشيق في أكمل صورة، جبينها وضاء، وشعرها وعيناها أقرب إلى اللون البني الصافي منه إلى السواد وهو ما ينسجم تماماً مع بشرتها البيضاء، لا أستطيع أن أصف ملامح وجهها بالتفصيل إذ إن هناك نوعاً من كمال الجمال يتحدى بروعته كل وصف، وكان جمالها من هذا النوع، وكان يكسو طلعتها البهية مسحة من الكآبة ومظهرها العام به شيء ما يؤثر في النفس بشجن يستحيل معه أن ينساها من يراها ولو مرة واحدة».
تعرب الكاتبة عن خوفها من عدم دعوتها إلى حفل زفاف يتم التحضير له لحضور حفل الزفاف في حريم الباشا، وبعد بحث وتقص عن سبب تأخير العرس، رغم أن كل شيء جاهز وتحت السيطرة، لكنها فوجئت بمن يخبرها بسر التأجيل، تقول: «يبدو أن هناك سبباً للتأخير لا أعرف كنهه، المسألة حساسة ولا يليق أن أستفسر عنها ممن باستطاعتهم الإدلاء بالمعلومات التي أريدها، ولكني علمت منذ بضعة أيام من إحدى قريبات السلطان، وهي تشير عرضاً وبكل جدية إلى هذا الموضوع، أن هناك نقطة واحدة فقط لم يتم البت فيها بعد، ألا وهي اختيار العريس!.. أما ماعدا هذا فكل شيء قد تم ترتيبه، نجد بين عليه القوم في هذا البلد، أن رأي الابنة التي يراد تزويجها لا يؤخذ إلا نادراً جداً، فهي تنشأ وتتربى في انتظار اليوم الذي يسلمها فيه والدها إلى كنف زوج غريب عليها في شخصه وطريقة تفكيره، وتتعجبين دون شك أن مثل هذه العادات لا تزال تمارس، وقد تشعرين بالأسى نحو هؤلاء النساء المغلوبات على أمرهن اللاتي يتقرر مصيرهن بهذه الطريقة، ولكن إصلاح هذه الطريقة ضرب من المستحيل، إذ إني متأكدة أن النساء أنفسهن سوف يجزعن إذا عرض عليهن أن يتعرفن شخصياً على الزوج قبل الزفاف، وحفلات الزفاف بين الطبقات الوسطى في هذه المدينة تتميز باستعراضات كثيرة ذات طابع خاص جداً».
تنتقل إلى وصف مواكب العرس ولياليه، وتقول إن موكب عرس مر في الطرق الرئيسية المجاورة لبيتهم، حيث :»تقدم الموكب «مهرج» يمتطي حصاناً ويرتدي ملابس غريبة، تقول إنها تدعو إلى السخرية، يرتدي طرطوراً عالياً مدبباً ولحية مستعارة، ويؤدي حركات بهلوانية تثير الضحك، ويقف وراءه رجلان فوق جملين، يقرعان طبلتين ضخمتين مختلفتي الحجم على شكل قدر ومثبتتين إلى السرج، ويتبعهم رجل يرفع مشعلاً على هيئة عمود طويل مثبت في أعلاه عدة أوعية لوضع خشب الوقود ولكنه كان حينذاك مغطى بمناديل مطرزة».
تلتفت بحسها الأنثوي الذي لا يكذب إلى شخصية مهمة جداً في الشارع الذي تقيم فيه، وهي شخصية المرأة العجوز «دبورة» التي يستشيرها الناس في همومهم، وهي ككاتبة أجنبية تتصور أنها تقضي بينهم كحكم عدل، وهي ظاهرة لو صحت تكون سابقة غير معروفة المثال في الثقافة الشعبية المصرية، التي عرفت أنواعاً من التقدير للمرأة المصرية ليس من بينها أن تعتبر قاضية، كما أنها تحكي من خلالها قصة فتاة في الثالثة عشرة رفضت عريساً صغير السن، تقول في رسالتها: «أذكرك بقضية أحيلت إلى جارتنا العجوز دبورة لتبت فيها، كانت تخص شاباً وافق أن يتزوج من فتاة عرف عنها أنها عوراء وذلك طمعاً في مالها، وبعدما تزوجها وأنفق مبالغ طائلة على احتفالات العرس، ولكن المسألة لم تنته كما كان يتوقع، لقد اكتشفت أن زوجته طفلة صغيرة رقيقة تبلغ من العمر حوالي ثلاثة عشر عاماً ولكنها ذات شخصية قوية، إذ إنها رفضت بكل إباء وشمم وعناد أن تعترف به زوجاً لها، وحيث إنه كان قد عقد عليها شرعياً، لم يكن هناك مفر إلا أن يطلقها أو يعتبرها ناشزاً، وقد اتبع السبيل الثاني لأنه في هذه الحالة لا يكون مكلفاً بالإنفاق عليها بل يتولى أهلها ذلك حتى ترجع إلى كنفه، والحالات من هذا القبيل عديدة، فالبرغم من أن المرأة ذات العشرين عاماً ترضخ دون غمغمة للزواج من رجل في الستين من عمره، نجد أن الفتاة التي لم تتعد بعد سنوات المراهقة الأولى، قلما ترضى بزوج لم تنبت لحيته بعد».
 
عودة
أعلى