الاخوان المسلمين : ... 80 عاماً من الدم والغدر .... دماء الباشا بين أصابع البنا

السيب

Active Member
طاقم الإدارة
80 عاماً من الدم والغدر (1): دماء الباشا بين أصابع البنا




الجمعة 03 يوليو 2015 - الساعة 00:01
القراءة المنصفة لتاريخ الجماعات الإسلامية في مصر، تكشف أن العنف كان سمة مشتركة بين عدد من هذه التنظيمات، خصوصاً في ظروف نشأتها خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكلها جماعات خرجت من عباءة الجماعة التي تعتبر «الأم»، وهي جماعة «الإخوان» المصنفة «إرهابية» في مصر.
«الجريدة»، قرأت الكثير مما كتبه المؤرخون، حول ظروف نشأة جماعة «الإخوان»، في مصر، قبل أكثر من ثمانين عاماً، وملابسات التكوين والنشأة وظروفها، لتتعرف إلى أي مدى تورطت فيه هذه الجماعة من دماء، بادئة بقصص القتل التي اتهمت فيها عناصر الجماعة، والعمليات التي اعترف بها رموزها وقياداتها في مذكراتهم.

1435837831_19_2.jpg

1435837831_33_5.jpg

1435837831_49_3.jpg

1435837831_66_1.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-

وفقاً لشهادات الكثير من المؤرخين المصريين، فإن العمليات الإرهابية والعنف المفرط الذي نشاهده الآن في الشارع العربي، ليس وليد اللحظة أو ابن الظروف الحالية، بل هو خطوة في طريق العنف والإرهاب وضعت أسسه منذ عقود، منذ ظهور جماعة «الإخوان المسلمين»، عميدة الجماعات الإسلامية، والتي خرج من تحت عباءتها الكثير من جماعات العنف المسلح.
هكذا قال المؤرخون، أمثال عبدالعظيم رمضان، وجمال شقرة، ورؤوف عباس حامد، صاحب مقولة إن فصيل الإخوان «نجح في تبديد طاقات الحركة السياسية لقطاع عريض من الجماهير المصرية»، ولهذا المؤرخ الاستثنائي أهمية خاصة، لكونه أول من نشر وثائق رسمية تثبت تعاون الإخوان مع الإنكليز، تحديداً خلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي.
لم يخف حسن البنا يوماً طموحه في السلطة، بل عبر عن أحلامه فتلقب بـ»المرشد» ليعطي نفسه هالة دينية ورفعة عن أتباعه، مؤكداً أن هدفه الأسمى هو «أستاذية» العالم، أيّ إقامة الخلافة، ودشن مقولته «الإسلام دين ودنيا»، تحت شعارات تربوية دينية، اعتبرت على نطاق واسع خلطاً غير بريء، وتدنيساً للمقدس على حساب غايات دنيوية بحتة.
رؤوف عباس حامد، وصف هذه الأهداف قائلاً في بحثه «الإخوان المسلمون والإنكليز»: «هي أهداف يلفها الغموض، يستطيع كل طرف أن يفهمها على هواه... ويعكس هذا الموقف الهلامي القدرة التنظيمية التي تمتع بها حسن البنا، فهو يريد لدعوته الانتشار من خلال النشاط الديني، والاجتماعي دون أن يلزم نفسه أو جماعته بموقف سياسي محدد».
البنا (من مواليد عام 1906) جاء من أصول ريفية في محافظة البحيرة شمال غربي القاهرة، ولم يكن في ذهنه في البداية إلا الدعوة باستخدام وسائل سلمية، كان واقعا تحت تأثير صدمة سقوط الخلافة العثمانية، بعدما قرر مصطفى كمال أتاتورك إلغاءها، وإعلان الجمهورية التركية، لذلك عمل البنا على استخدام الدعوة كمحاولة لإحياء الخلافة، وعندما وجد أن وسائل الدعوة صادفت بعض النجاح، لكنه ظل أقل من المأمول في تأسيس دولة إسلامية يحكمها البنا، بدأ في تحويل جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تم تأسيسها في الإسماعيلية سنة 1928، من العمل الدعوي إلى العمل المسلح، عبر تشكيل ميليشيات شبه عسكرية، بحسب توصيف المؤرخ الراحل الدكتور رؤوف عباس حامد، بداية من «فرق الرحلات».
وكان البنا، وفقاً للدكتور عبدالعظيم رمضان في كتابه «الإخوان المسلمون والتنظيم السري»، يساير موجة تشكيل الأحزاب الفاشية في إيطاليا وألمانيا لميليشيات مسلحة لقمع المعارضين، وهي تجربة عرفتها مصر على يد حزب مصر «الفتاة»، لكنه زاد فعمل على إعطاء صبغة إسلامية لهذه الميليشيات باستدعاء نماذج من التاريخ، خصوصاً أن مشروع البنا لم تكن له علاقة بقضايا الاستقلال والدستور والتحديث التي شغلت القوى السياسية المدنية القائمة في مصر طوال فترة الثلاثينيات والأربعينيات، بل كان مشروعه في المقام الأول بمنزلة الرد العاطفي على انهيار الخلافة الإسلامية بسقوط الدولة العثمانية سنة 1924م.
من الثابت تاريخياً، أن البنا بدأ بعد نحو 10 سنوات من العمل الدعوي، الانتقال إلى مرحلة أعلى من العمل الميداني، فنقل البنا مقر الجماعة الرئيس من الإسماعيلية إلى القاهرة سنة 1932، وبدأ في الانخراط في أنشطة سياسية منذ يناير 1939، بالتزامن مع إصدار مجلة «النذير» الأسبوعية، لسان حال جماعة «الإخوان»، والتي صدر العدد الأول منها بافتتاحية كتبها البنا ذاته، وتضمنت رؤية الجماعة وخطواتها التالية، وفي تلك الأثناء كانت الجماعة تمارس الإرهاب الفكري والتضييق على رموز الفكر الليبرالي، ما أدى إلى ردة وانخفاض سقف الحريات.
كتب البنا في هذه الوثيقة الخطيرة قائلاً: «... سننتقل من دعوة الكلام حسب، إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال، وسنتوجه بدعوتنا إلى المسؤولين من قادة البلد، وزعمائه، ووزرائه، وكل حكامه، وشيوخه، ونوابه، وأحزابه، وسندعوهم إلى مناهجنا، ونضع بين أيديهم برنامجنا، فإن أجابوا الدعوة... آزرناهم، وإن لجأوا إلى المواربة... فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام، ولا تسير في الطريق لاستعادة كلمة الإسلام ومجد الإسلام، سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة».
وأكد البنا أن التحول من الدعوي إلى السياسي طبيعي، وأنه مجرد «خطوة ثانية في طريقتنا الإسلامية»، محذراً من أن «الجهاد العملي» بعد «الدعوة القولية»، له ثمن، والمتمثل في الاضطهاد، والمضايقات المختلفة، لكن الغريب حقاً تذييل البنا للافتتاحية بإبداء أمل الإخوان في «جلالة الملك المسلم»، في إشارة إلى الملك فاروق، ما يكشف التحالف القوي بين القصر والإخوان في تلك الفترة، خصوصاً أن الملك وحاشيته كانوا أجهزوا على الحياة السياسية، وأطاحوا بحكومة الأغلبية وفرضوا نمطاً فاشياً لقمع المعارضة.

تحالف غير مقدس

التحالف والتعاون بين الإخوان والقصر، والذي رصده بدقة رؤوف عباس حامد في مقاله «الإخوان المسلمون والإنكليز»، لم يكن بعيداً عن أعين قوات الاحتلال البريطاني، التي أحكمت قبضتها على البلاد منذ سنة 1882، وبدأ رجال الإمبراطورية البريطانية في مطلع الأربعينيات فتح قنوات اتصال مع البنا، ولم يكن تحالف الإنكليز مع «الإخوان» شيئا فريدا، بل كان جزءا من سياستها بالتحالف مع القوى الإسلامية في إطار سياسة فرق تسد، وهي السياسة الإنكليزية المتبعة طوال النصف الأول من القرن العشرين.
هذه السياسة الإنكليزية في احتواء الحركات الإسلامية تلاقت مع رغبة الملك فاروق، في تحجيم نفوذ حزب «الوفد»، من خلال الاستعانة بـ»الإخوان»، ونبه تقرير للمخابرات البريطانية في عام 1942 إلى أن «القصر بدأ يرى أن الإخوان مفيدون وأضفى حمايته عليهم»، هنا تلاقت أهداف الاستعمار والقصر، فبدأت بريطانيا جس نبض الإخوان وفتح قنوات اتصال مبكرة مع الجماعة، ووفقاً للمؤرخ الإنكليزي مارك كورتيس في كتابه «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، فإنه بحلول سنة 1942 بدأت بريطانيا في تمويل جماعة «الإخوان» بشكل قاطع.


المصدر الجريدة


http://www.aljarida.com/news/index/...-الدم-والغدر--1---دماء-الباشا-بين-أصابع-البنا
 
التعديل الأخير:
80 عاماً من الدم والغدر (2)
صندوق الـ«بندورا» الذي كشف أسرار «الجماعة»
80 عاماً من الدم والغدر (2)
صندوق الـ«بندورا» الذي كشف أسرار «الجماعة»




السبت 04 يوليو 2015 - الساعة 00:01

1435925989_5_1.jpg

1435925989_62_3.jpg

1435925989_76_2.jpg

1435925989_91_4.jpg

1435925990_05_5.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-
أخبار ذات صلة
80 عاماً من الدم والغدر (15)
دماء السادات على منصة النصر

80 عاماً من الدم والغدر (14)
الطريق إلى المنصة

80 عاماً من الدم والغدر (13)
80 عاماً من الدم والغدر (12) ((عين الشيطان)) تغتال الشيخ العالم
80 عاماً من الدم والغدر (11) شكري مصطفى... هوس التكفير
جاء اغتيال رئيس الحكومة أحمد ماهر، ليشعل الأمور في قاهرة الأربعينيات من القرن الماضي، حيث تبادل فرقاء السياسة التهمة، وإن كان القصر والحكومة السعدية، استقر في يقينهم أن جماعة «الإخوان» تقف خلف الجريمة، في وقت سعت الجماعة الى ترسيخ نفوذها في شارع السياسة المصرية متحدية القصر، ما أدى إلى تفجر الصراع بين القصر وحكوماته غير المنتخبة، وبين جماعة «الإخوان»، التي لجأت إلى سلاحها المفضل، الإرهاب، ما فتح أنهار الدماء من جديد.
تحكي الأسطورة اليونانية القديمة أن بندورا (حواء اليونانية)، حصلت على هدية خبيثة من كبير الآلهة زيوس، تمثل في صندوق مغلق، حذرها بروميثيوس، الجبار الذي أحب البشر فأهداهم سر النار، من خطورة فتح الصندوق، لكن الفضول غلب الحذر، ففتحت بندورا الصندوق فخرجت جميع الشرور التي يعج بها العالم الآن، هذه الأسطورة تحولت إلى واقع مع الإخوان، فأسرار الجماعة كشفت مرة واحدة، بمحض المصادفة، لأن صندوق بندورا الإخوان تمثل في سيارة «جيب» كشف سقوطها في قبضة الأمن المصري حقيقة التنظيم الإرهابي.
الخبير الأمني خالد عكاشة، يقول في كتابه «أمراء الدم» إن انكشاف تنظيمات الإخوان المسلحة تزامن مع توتر الأجواء بين حسن البنا وجماعته، والقصر ورئيس الحكومة الجديد محمود فهمي النقراشي، صديق أحمد ماهر الذي قضى على يد الإخوان، فرغم ادعاء القاتل الانتماء للحزب الوطني، ليبعد الشبهة عن البنا ورفاقه، فإن الأجواء توترت بعدما بدأ التنظيم الخاص بقيادة عبدالرحمن السندي في تنفيذ عمليات تصفية جسدية لمخالفي الجماعة.
وبات المراقب للعلاقة بين القصر والإخوان يؤمن أنها علاقة حكمتها قاعدة بندول الساعة، من النقيض إلى النقيض، علاقة تحكمها النفعية، القصر يريد استخدام الجماعة لتحجيم نفوذ «الوفد»، ما يسمح للقصر باحتكار السلطة بشكل مطلق، بينما ترغب الجماعة في استغلال علاقتها بالقصر لتوفير غطاء يسمح لأنصارها بممارسة جميع المخالفات دون ملاحقات.


كل من المؤرخ ريتشارد ميتشل وعبدالعظيم رمضان أكدا في دراستيهما عن الإخوان أن التقارب بين القصر والإخوان بات القاعدة مع وصول إسماعيل صدقي باشا إلى رئاسة الوزراء في فبراير 1946، وهو الرجل سيئ السمعة والمعروف بأنه رجل القصر القوي، ورغم رفض مختلف القوى الوطنية لقرار الملك تعيين صدقي، فإن الإخوان أبدوا ترحيبهم بقرار الملك، وخرجت المظاهرات الإخوانية المؤيدة، بل إن زعيم الإخوان داخل الجامعة المصرية (جامعة القاهرة فيما بعد)، علق على وعد إسماعيل صدقي بعدم استخدام العنف ضد طلاب الجامعة، مستشهدا بالآية القرآنية: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد} [مريم: 54].
وحصل الإخوان على ثمن تأييدهم لقرار الملك فاروق، فوفقا للمؤرخ ميتشل في دراسته المرجعية عن {الإخوان}، حصلت الجماعة على ترخيص بإصدار صحيفة باسم الجماعة، ظهرت بالفعل في مايو 1946 باسم {الإخوان المسلمين}، مع امتياز شراء ورق الطباعة بالأسعار الرسمية، امتياز لم تحصل عليه الصحف القاهرية على اختلاف مشاربها، والتي اضطرت لشراء ورق الطباعة من السوق السوداء بأثمان باهظة، كما منحت الحكومة المصرية لجوالة الإخوان بعض الامتيازات المتعلقة باستخدام المعسكرات الحكومية، ومنحها قطع أرض لبناء مبان للجماعة في المناطق الريفية، فضلاً عن تقديم معونات حكومية للجماعة بوصفها مساعدات لخدمات تعليمية واجتماعية!
وتم تفعيل التحالف بين القصر والإخوان عبر تصدي الجماعة لتحركات الوفد والقوى الوطنية، وبلغ الأمر مداه باستخدام الإخوان العنف لمطاردة أعضاء القوى الوطنية حماية للقصر ورئيس الحكومة إسماعيل صدقي، وبلغت الجرأة بأعضاء الجماعة حدا دفعهم لتحدي قرار الحكومة بمنع تسيير أي طوابير أو مواكب في الشارع، ونظموا مسيرة أمام قسم شرطة الخليفة (وسط القاهرة) نهاية عقد الأربعينيات، ما أدى إلى اشتباكات مع مأمور القسم ورجاله، لكن الحكومة عادت ووبخت مأمور القسم، وسوت الموقف بالسماح للإخوان بتنظيم احتفالية ضخمة أمام قسم الخليفة تأكيدا على انتصار الجماعة.
في تلك الأجواء تخلص حسن البنا من رفيق دربه أحمد السكري، الذي تجمع الكثير من المصادر والشهادات الموثقة على أنه المؤسس الحقيقي لجماعة {الإخوان}، فتم طرد السكري من الجماعة سنة 1947، وعين صالح العشماوي رئيسا للتنظيم السري خلفا للسكري، ثم آلت القيادة الفعلية إلى عبدالرحمن السندي الذي أشرف على الشق العسكري للجماعة، في ظروف يكتنفها الغموض.
في وقت بدأت الجماعة تكثف من التدريبات العسكرية لأعضائها بحجة المشاركة في حرب تحرير فلسطين، وهو ما اعتبره ميتشل {حجة لم تفعّل قط}، وكل ما حدث هو تنفيذ عدة عمليات إرهابية ضد اليهود المصريين، فتم نسف محل شكوريل، ثم وقع انفجاران في حارة اليهود (شرق القاهرة)، وتوالت التفجيرات، وكان أكبرها ما وقع بشركة {الإعلانات الشرقية}، التي أشيع مساندتها للنشاط الصهيوني، في 22 نوفمبر 1948، ما أدى إلى تصدع جميع المنازل والمحال القريبة من موقع الانفجار.
ومع تزايد وتيرة التفجيرات الإخوانية، سقط بعض شباب الإخوان في قبضة قوات الأمن، وجرت محاكمتهم أمام القاضي أحمد الخازندار، الذي سبق له أن حاكم قاتلاً شغل الناس في مصر وعرف بـ{سفاح الإسكندرية}، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات، لكنه حكم على المتهمين الإخوان بالسجن لمدد تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات، كان الحكم اختبارا لقوة الجماعة، وتوجهت الأنظار إلى حسن البنا لمعرفة الرد.

رسالة تهديد

تسرع حسن البنا وعبدالرحمن السندي في جني ثمار العمل السري الممتد منذ سنة 1928، حيث أرادا أن تصل رسالتهما واضحة إلى الجميع، من ليس معنا فمصيره القتل، كان شعورهما بالقوة يتعاظم، أدركا أن اللعب على نغمة الجهاد ضد المستعمر يجني فوائده، تقاربا مع بعض القوى السياسية على خلفية مواجهة المحتل، كما أكسبهما التحالف مع القصر غطاء من المشروعية في العمل، ومنح الإخوان حرية في شراء السلاح وجمعه.
ووفقاً لرفعت السعيد، ترك البنا الحبل على غاربه لأعضاء التنظيم السري لممارسة العنف وإرهاب جميع الخصوم، وجاءت لحظة الحقيقة عندما حكم الخازندار بإدانة شباب الإخوان، ما اعتبرته الجماعة بمثابة الإهانة وإلقاء لقفاز التحدي، فجاء قرار تصفية الخازندار، وأعطى البنا مشروعية لعملية الاغتيال، قائلاً فور سماعه بالأحكام :}لو ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله}، وهو ما اعتبره عبدالرحمن السندي بمثابة حكم بالإعدام على القاضي الجليل، ليقرر الدفع ببعض شباب التنظيم لتصفية الخازندار، ما كان مؤشراً على قرب نهاية {التحالف التاريخي} بين القصر والإخوان، بحسب توصيف المؤرخ رؤوف عباس حامد.
وتروي مجلة {آخر ساعة} في عددها الصادر في 24 مارس 1948 التفاصيل الدقيقة للدقائق الأخيرة في حياة الخازندار، في يوم 22 مارس 1948م، فقد استيقظ القاضي يوم مقتله في الخامسة والربع صباحا وهو الوقت الذي اعتاد أن يستيقظ فيه، وبعد أن راجع بعض أوراق قضاياه بدأ يرتدي ملابسه، ثم اتجه إلى مكتبه وظل فيه إلى الساعة السابعة والثلث، وعاد إلى المنزل مرة أخرى فلم يقض فيه إلا دقائق قليلة ثم خرج في السابعة والنصف تقريبا ليلحق بقطار اللوكس السريع في حلوان في الساعة الثامنة.
وبعد خروجه من منزله وعلى بعد أمتار قليلة ظهر من العدم محمود سعيد زينهم (يبلغ من العمر 22 عاما لحظة وقوع الجريمة) وحسن عبدالحافظ ( يبلغ من العمر24) من شباب الإخوان اللذين انهالا على جسد الخازاندار رميا بالرصاص حتى بلغ عدد الرصاصات التي أُطلقت عليه 14 رصاصة، استقرت منها سبع في جسد الشهيد.
ترصد {آخر ساعة} بقية أجواء الجريمة قائلة إن منفذي العمل الإجرامي طاردهم أهالي حلوان وأصحاب المحلات، بل وأطفال المدارس، ما أدى إلى ارتباك الجناة واضطرارهما إلى الهروب إلى الجبل بديلا عن الذهاب إلى المدينة كما هو متفق عليه لسهولة التخفي، لحق البوليس بالجناة وبعد تبادل قصير للنيران استسلم الإخوان الجناة، وبدأت التحقيقات التي أشرف عليها النائب العام –وقتذاك- محمود باشا منصور، قدم المتهمان إلى محكمة الجنايات وقام رئيس محكمة الجنايات المستشار عبدالفتاح بك البشري، بمحاكمة الجناة بنفسه وأصدر حكمه عليهما بالسجن المؤبد نتيجة لفعلتهم الشنعاء.
وكان للحكم وقعه على المتهمين فترصد لنا صحف ذلك العصر أن {محمود سعيد زينهم} قفز في قفص الاتهام، قفزة طاول بها سقف القاعة، أما {حسن عبدالحافظ} فقد انطلق في ضحك هيستيري، فطبقا للمؤرخ عبدالرحمن الرافعي كان ظن الجناة أن المحكمة ستحكم بإعدامهما، فما كادا يسمعان الحكم حتى قابلاه بالبشر والفرح العظيم وتعانقا وتبادلا التهاني كأنما قد حكم ببراءتهما، ما حدث بالفعل بعد نحو 4 أعوام ومع وصول الضباط الأحرار إلى سدة الحكم، كانت العلاقات الودية مع {الإخوان} مسيطرة، حيث أفرج {الأحرار} عن جميع المسجونين من {الإخوان} في السجون المصرية على رأسهم محمود سعيد زينهم.
ارتباك القيادات

جن جنون الحكومة المصرية بقيادة فهمي النقراشي، الذي تولى رئاسة الحكومة بعد إقالة إسماعيل صدقي، وبدأ في دراسة إجراءات متشددة ضد الإخوان، فالنقراشي قبل التحدي وقرر مواجهة إرهاب الإخوان بكل حزم، ما أصاب قيادات الإخوان بالارتباك، لدرجة أن البنا فور تنفيذ عملية الاغتيال وسقوط الجناة في قبضة الأمن، صلى العشاء ثلاث ركعات وسها في الركعة الرابعة، وهي المرة الوحيدة التي شاهده فيها أعضاء الجماعة يسهو في صلاته، ووفقًا لشهادة عضو التنظيم الخاص، الدكتور عبدالعزيز كامل، في كتابه {في نهر الحياة}، أنه دخل في نقاش حاد مع البنا والسندي، حول جريمة الاغتيال.
وقال كامل للبنا: هل أصدرت أمرا صريحا لعبدالرحمن السندي باغتيال الخازندار، وهل تحمل دمه على رأسك وتلقى به الله يوم القيامة؟
قال البنا: لا.
فقال كامل: إذاً فضيلتكم لم تأمر ولا تحمل مسؤولية هذا العمل أمام الله؟
فأجاب البنا: نعم.
توجه كامل بأسئلته إلى السندي بعد استئذان البنا، قائلاً: ممن تلقيت الأمر بهذا؟
السندي: من الأستاذ حسن البنا.
كامل: هل تحمل دم الخازندار على رأسك يوم القيامة؟
رد السندي: لا.
كامل: إذاً من يتحمل مسؤولية الشباب الذين دفعتم بهم إلى مقتل الخازندار؟
السندي: عندما يقول الأستاذ إنه يتمنى الخلاص من الخازندار فرغبته في الخلاص منه أمر.
كامل: مثل هذه الأمور لا تؤخذ بالمفهوم أو بالرغبة.
وسأل كامل المرشد: هل ستترك المسائل على ما هي عليه أم تحتاج منك صورة جديدة للقيادة وتحديد المسؤوليات؟
فرد البنا: بل لابد من تحديد المسؤوليات.
وفقا لشهادة كامل فتلك الواقعة كشفت عن عمق الخلافات بين البنا والسندي، ومدى شعور الأخير بالقوة لرئاسته التنظيم الخاص، وانتهاجه لمنهج أكثر دموية، فيما كان البنا يرغب في مزيد من التدرج والتراجع خطوات، والبعد عن الاصطدام المباشر مع القصر والحكومة، بعدما استشعر أن اندفاعه عرض الجماعة كلها للخطر، لكن خيوط لعبة العنف والقتل التي أطلقها البنا من قبل، أفلتت بالكامل من بين يديه، فلم تعد تخضع له بقدر ما بات يخضع هو لها، تقوده أنى شاءت.

سقوط {الجيب}

في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، وصلت العلاقة بين الإخوان والدولة المصرية إلى نقطة الصدام، تم إلقاء القبض على البنا لكن أفرج عنه لعدم كفاية الأدلة ضده، في وقت بدأ القصر وحكومة النقراشي في استشعار خطر جماعة {الإخوان} التي تحولت إلى كيان مواز للدولة المصرية، دولة داخل الدولة، لا تعلم الدولة المصرية عنها شيئا.
كان أكثر ما يخشاه القصر، وفقا لكتاب ريتشارد ميتشل، أن يعلن الإخوان الثورة على النظام القائم، رأى القصر أن عملية رعاية الإخوان ودعمها في مواجهة الوفد، انتهت بتحويل الإخوان إلى خطر لا يقل خطورة عن الوفد، فتقاربت وجهات النظر بين القصر وحكومة النقراشي بضرورة توجيه ضربة قاصمة، لكن نقص المعلومات حول التنظيم وقف حائلا أمام التحرك ضد الإخوان.
ويقول عبدالعظيم رمضان إن القدر حل إشكالية القصر وحكومة النقراشي، ففي يوم 15 نوفمبر 1948، وأثناء قيام عدد من أعضاء النظام الخاص بنقل أوراق فائقة السرية وبعض الأسلحة والمتفجرات في سيارة جيب من إحدى شقق الإخوان السرية إلى شقة أخرى بحي العباسية (شمال القاهرة)، اشتبه الأمن في السيارة التي لم تكن تحمل أرقاما، ومع توقيف السيارة عثرت قوات الأمن على كنز معلوماتي تمثل في أسماء 32 قياديا من قيادات التنظيم الخاص، الذي لم تكن سلطات الأمن تعلم عنه شيئا، فضلا عن وثائق وأرشيفات الجهاز بأكمله.
وحتى ذلك التاريخ لم يكن الأمن المصري يعلم شيئا عن التنظيم الخاص، ففي يناير 1948 اكتشفت قوات الأمن وجود مخزن سلاح في جبل المقطم، يحتوي على 165 قنبلة ومجموعة ضخمة من السلاح، وعند إلقاء القبض على من تواجد في المكان، قالوا إنهم يجمعون السلاح لحرب تحرير فلسطين، فتم الإفراج عنهم، على الرغم من أن قائدهم كان سيد فايز، القيادي بالتنظيم السري، فالمعلومات كانت معدومة عن هذا التنظيم المسلح قبل واقعة الجيب.
وفي مساء ذلك الیوم كانت إحدى عربات الجیب تتأهب للوقوف أمام أحد المنازل بالقاهرة في نفس اللحظة التي تصادف فيها مرور قوة من رجال البولیس، وعندما لاحظ رجال الشرطة أن العربة غیر مطلیة بأي دهان وأنها محملة بالأقفاص، ذهبوا لمواجهة الرجلین اللذین هبطا منها ولاذا بالفرار في الحال، إلا أن الأهالي الذين تجمعوا بعد أن أخذ رجال الأمن في الصیاح: {صهاینة.. صهاینة}، أوقفوهما على بعد مسافة قصیرة.
وخلال لحظات قلیلة كان رجل ثالث یحمل حافظة جلدیة یسیر في طریقة إلى المكان المحدد للقاء- قد أثار الشبهات وأوقف هو أیضا عن طریق الأهالي، وكشف تفتیش شقة الشخص الثالث- والتي كانت هي المكان المحدد للقاء بين رجال التنظيم- عن ثلاثة آخرین من المجموعة، وخلال ساعات قلیلة وصل عدد المقبوض عليهم إلى 32 شخصا، ومن خلال الأوراق والوثائق التي عثر علیها في السیارة الجیب والحافظة الجلدیة وملفات المذكرات والأجندة ومحفظة الجیب والسجلات الشخصیة الأخرى التي عثر عليها في منازل المقبوض عليهم، انكشف أمر الجهاز السري للإخوان المسلمین.
بعدما وضعت حكومة النقراشي يدها على تلك الوثائق بدأت في إجراءات حل جماعة {الإخوان}، وفي 28 نوفمبر ألقي القبض على حسن البنا، الذي أمضى نحو شهر في الحجاز لأداء فريضة الحج، لكن أفرج عنه بعدها، وحاول البنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه ومحاولة تأجيل لحظة مواجهة العاصفة.
لكن الأحداث بسرعتها طوت الجميع، فأثناء تظاهرات للطلبة من جميع التيارات داخل الجامعة المصرية ضد قبول الهدنة في حرب فلسطين، خرجت قوات الشرطة بقيادة حكمدار القاهرة، سليم زكي، وخلال المعركة الساخنة بين الطرفين، ألقيت قنبلة على زكي أودت بحياته، وعلى الفور تم اتهام الإخوان بالوقوف خلف الجريمة.
حاول البنا، وفقا لرفعت السعيد في كتابه {الإرهاب المتأسلم}، التدخل بكل السبل لفتح خط اتصال بالملك والقصر، بذل ماء الوجه، ذكّر بالتحالفات القديمة، حاول التواصل مع رئيس الديوان الملكي إبراهيم عبدالهادي، لكنه لم يحصل على أكثر من كلمات مبهمة من صديقه وكيل وزارة الداخلية، عبدالرحمن عمار، بأن شيئا ما سينقذ الموقف، وكان ذلك في 8 ديسمبر 1948.
انتظر حسن البنا تحرك القصر في مقر الجماعة، بعد ساعات من مكالمته مع عمار، استمع البنا ورفاقه إلى نبأ عاجل على الراديو بصدور قرار من وزارة الداخلية بحل جماعة {الإخوان المسلمين} بكل فروعها في عرض البلاد وطولها، الغريب أن القرار جاء بناء على مذكرة أعدها عبدالرحمن عمار نفسه.
وفي الحال أحاطت قوات الشرطة بمقر الجماعة الرئيسي وألقي القبض على الجميع باستثناء البنا، الذي ترك وحيدا في مقر الجماعة يشاهد والحسرة تأكل قلبه انهيار ما بناه في نحو عشرين عاما، حاول البنا أن يستجدي النقراشي لكن الأخير رد بقسوة قائلا: {لا خطر منك بعد أن قصصنا أجنحتك}، فالتنظيم الخاص كان انهار بعد سقوط معظم قيادته –وفي مقدمتهم السندي نفسه- في قبضة الأمن، ما مكن الدولة المصرية من فصل قيادات الإخوان عن قواعدها التنظيمية فسادت الفوضى صفوف الجماعة.
وحاولت الجماعة التخلص من أوراق قضية سيارة {الجيب} بأي وسيلة ممكنة، ووصل الأمر إلى محاولة تفجير محكمة الاستئناف (13 يناير 1949) لإتلاف أدلة الاتهام ضد قيادات الجماعة وتدمير جميع المستندات التي عثرت عليها الشرطة في سيارة {الجيب}، لكن أمكن ضبط المتفجرات وتم إخراجها خارج المحكمة، حيث انفجرت وأسقطت 25 مواطناً بجروح مختلفة
... يتبع
 
وابل / 80 عاماً من الدم والغدر 3: دماء النقراشي والبنا تؤجِّج صراع الدولة والتنظيم
80 عاماً من الدم والغدر 3: دماء النقراشي والبنا تؤجِّج صراع الدولة والتنظيم



الأحد 05 يوليو 2015 - الساعة 00:01

1436018835_78_22165165w.jpg

1436018835_91_331515w.jpg

1436018836_08_551516w.jpg

1436018836_23_115156w.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-
أخبار ذات صلة
80 عاماً من الدم والغدر (15)
دماء السادات على منصة النصر

80 عاماً من الدم والغدر (14)
الطريق إلى المنصة

80 عاماً من الدم والغدر (13)
80 عاماً من الدم والغدر (12) ((عين الشيطان)) تغتال الشيخ العالم
80 عاماً من الدم والغدر (11) شكري مصطفى... هوس التكفير
يتوقف التاريخ عند لحظات حاسمة فارقة ليسجلها، فما بعدها لا يشبه ما سبقها، في أوقات معينة يقف التاريخ منتبهاً مسجلاً تلك الأحداث التي تعيد تشكيل تاريخ الأمم، ومن تلك اللحظات التي عاصرتها مصر في تاريخها الحديث، تعد الأيام القليلة الممتدة من الشهر الأخير في عام 1948 حتى الشهر الأول من عام 1949 عامرة بالأحداث التي كشفت طبيعة الصدام بين الدولة المصرية وتنظيم «الإخوان المسلمين»، بين دولة كانت ترغب في احتكار كل السلطة وتقصي جميع أشكال الحكم الديمقراطي، وتنظيم يريد الوصول إلى السلطة لاحتكارها مستخدما وسائل لا تقل إجراما عن النظام الملكي المصري، فكان طبيعيا أن يحدث الصدام.

كانت الأمور مشتعلة، الإخوان كشفت عن وجهها الإرهابي، فيما صعد القصر وحكومة النقراشي من إجراءات وقرارات ضد جماعة «الإخوان»، وتم تمهيد المشهد للوصول إلى قمة المأساة بإعلان حل جماعة «الإخوان المسلمين»، وشنت الصحف القاهرية هجوما ساحقا على جماعة «الإخوان»، ولخصت مجلة «آخر ساعة» الموقف قائلة: «لقد تخلصت الحكومة من جماعة يمكن اعتبارها أقوى خصومها، وهذه الجماعة لم تكن مجرد حزب بل كانت تشبه بالأحرى دولة كاملة بأسلحتها ومستشفياتها ومدارسها ومصانعها وشركاتها».
واستندت الحكومة في قرار الحل إلى مذكرة اتهام أعدتها وزارة الداخلية، تتضمن جميع أعمال العنف التي ارتكبتها الجماعة، وضمت المذكرة 13 مادة، من بينها سعي الجماعة لقلب نظام الدولة السياسي القائم عبر استخدام عصابات مسلحة والقنابل والآلات المفرقعة، فضلا عن تخريب المنشآت الحكومية وأقسام ومراكز الشرطة، فضلا عن تعريض حياة الناس وأموالهم عمداً للخطر باستعمال القنابل والمفرقعات، وهي تهم يمكن إعادة توجييها إلى إخوان القرن الواحد والعشرين الذين عادوا لممارسة العنف بالطريقة القديمة.
على كل حال، استند النقراشي إلى مذكرة الاتهام لإصدار قرار عسكري بصفته الحاكم العسكري من 9 مواد، نصت المادة الأولى على أن: «تحل فوراً الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين بشعبها أينما وجدت، وتغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها، وتضبط جميع الأوراق والوثائق والسجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال، وكل الأشياء المملوكة للجمعية، ويحظر على أعضائها والمنتمين إليها بأي صفة كانت، مواصلة نشاط الجمعية، وبوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لإحدى شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها أو جمع الإعانات أو الاشتراكات أو الشروع في شيء من ذلك».
انطلقت أجهزة الأمن المصرية تطارد أعضاء جماعة «الإخوان» بشراسة، حاول البنا التصدي لهذه الهجمة فأجرى كل اتصالاته، لكنه لم يلق القبول ولم يتلق إلا ضحكات شامتة، الدولة المصرية كانت مصممة على سحق التنظيم بكل ما أوتيت من قوة، وكان البنا يعيش أسوأ أيام حياته على الإطلاق، فمن ناحية رأى بأم عينيه كيف انهار ما سعى إلى بنائه طوال عقود، ومن ناحية أخرى فقد القدرة على توجيه التنظيم الذي تعرض لضربة فككت أوصاله، في تلك الأجواء وصلت الأمور إلى قمة المأساة.
حاول البنا اللعب على القصر والنقراشي عله ينقذ ما يمكن إنقاذه، ففي وثيقتين وجدتا ضمن أوراق النقراشي باشا نكتشف تضارب البنا وتخبطه السياسي، أولهما رسالة البنا إلى الملك فاروق، وتقرير من وزارة الداخلية مرفوع للنقراشي حول زيارة مرشد «الإخوان المسلمين» لديوان الوزارة، لا يفصل بين الاثنين سوى ثلاثة أيام، في الرسالة الأولى يستعدي المرشد العام الملك على النقراشي، بينما نجده في زيارته الى ديوان وزارة الداخلية يمتدح النقراشي، ويتنصل من مسؤوليته تجاه من «اندسوا على الإخوان المسلمين»- على حد قوله.
من الوثيقة الأولى التي أرسلها البنا إلى الملك نقتبس: «يا صاحب الجلالة إن الإخوان يلوذون بعرينكم وهو خير ملاذ، ويعوذون بعطفكم وهو أفضل معاذ، ملتمسين أن تتفضلوا جلالتكم بتوجيه الحكومة أو بإعفائها من أعباء الحكم ليقوم بها من هو أقدر على حملها»، ويغازل البنا الملك فيقول: «الإخوان هي أطهر مجموعة على ظهر الأرض... وأكسب ورقة في يد كل عامل لخير البلاد والعباد».
الوثيقة الثانية هي مذكرة رفعها وكيل وزارة الداخلية عبدالرحمن عمار، إلى النقراشي، الذي جمع بين منصب رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية، عن ملخص مقابلته مع البنا يقول فيها عكس ما قاله للملك تماماً، كتب عمار: «حدثنا البنا أنه يريد أن ينهي إلى دولة رئيس الوزراء بأنه قد عول نهائياً على ترك الاشتغال بالشؤون السياسية، ثم تكلم مادحاً دولة النقراشي باشا قائلاً إنه على يقين من نزاهته وحرصه على خدمة وطنه وعدالته في كل الأمور.. ومن مصلحة الحكومة والأمة معاً أن يبقى الصرح الضخم الذي جاهد الإخوان المسلمون سنوات طويلة في إقامته».
كما هو متوقع فشلت مناورة البنا، لم يدرك أن القصر والحكومة اتفقا على تصفية تنظيم الإخوان، وأن آلة العنف دارت ولم يعد في الإمكان السيطرة عليها، تملك اليأس من البنا الذي رأى كل حلفائه خانوه، أدرك أنه خسر كل شيء، التنظيم يترنح تحت قسوة ضربات الأمن وإلقاء القبض على المئات من أنصار جماعته، ندم على موافقته على افتتاح الحكومة للمعتقلات اعتقادا منه أنها لن تستقبل إلا معارضيه، أخذته المفاجأة وهو يرى العشرات من أبناء تنظيمه يساقون إلى المعتقلات، والبنا في قمة يأسه، جاء خبر هز كيانه كله، وأدرك وقتها أن كل شيء انتهى.

اغتيال

إزاء الملاحقات الأمنية لأنصار الجماعة، جاء رد فعل الإخوان عنيفاً، فبعد مرور عشرين يوماً على قرار حل الجماعة، روعت القاهرة بنبأ مقتل رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي باشا على يد شاب إخواني، يدعى عبدالمجيد أحمد حسن، الذي ألقي القبض عليه واعترف فيما بعد أنه قام بفعلته انتقاما من النقراشي بعد قراره بحل جماعة «الإخوان المسلمين».
وأجمعت صحف ذلك الزمان على وصف تفاصيل الحادثة، إلا أن صحيفة «الزمان» المسائية، لصاحبها إدجار جلاد بك ورئيس تحريرها جلال الدين الحمامصي، كانت سباقة لصدورها في مساء يوم الحادثة بنقل التفاصيل الأولية للحادثة.
ففي العاشرة إلا الثلث من صباح يوم 28 ديسمبر 1948، دخل ضابط بوليس برتبة ملازم أول صالة وزارة الداخلية في الطابق الأول، فأدى له حراس الوزارة التحية العسكرية، وأخذ يقطع الوقت بالسير البطيء في صالة الوزارة كأنه ينتظر شيئا ما، وعندما أحس بقرب وصول دولة النقراشي باشا، الذي نزل من سيارته محاطاً بحرسه الخاص واتجه الى المصعد، فأدى له هذا الضابط التحية العسكرية فرد عليه مبتسماً، وعندما أوشك النقراشي على دخول المصعد أطلق عليه هذا الضابط ثلاث رصاصات في ظهره فسقط قتيلا، ونقل جثمانه إلى داره بمصر الجديدة، وأعلنت محطة الإذاعة الحداد مدة يومين تقتصر فيهما البرامج على القرآن الكريم والأخبار والأحاديث، بمعرفة المذيعين وحدهم مع إعفاء المذيعات كنوع من الحداد.
أما القاتل فقد اتضح أنه ضابط مزيف كان يتردد على قهوة بالقرب من وزارة الداخلية، وقال رواد المقهى إنهم عرفوا الضابط المزيف باسم حسني أفندي، وأنه تلقى مكالمة هاتفية قبل الجريمة بعشرين دقيقة من شخص مجهول أخبره أن النقراشي باشا في طريقه إلى مكتبه بوزارة الداخلية، وقام المارة والمتواجدون من العامة بالقبض على المجرم وأوسعوه ضربا وسلموه إلى الشرطة.
ورفض عبدالحميد حسن، الذي كان طالبا بكلية الطب البيطري، الاعتراف بأي تفاصيل عن ملابسات الجريمة ملتزما الصمت مدة ثلاثة أسابيع تعرض خلالها لجميع صنوف التعذيب، حتى أصدر المرشد العام للإخوان حسن البنا بيانه الشهير «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين»، الذي تبرأ فيه من هذه الأعمال الإرهابية ومرتكبيها، في محاولة أخيرة من البنا لإنقاذ الجماعة من مصيرها، لكن البيان بالصيغة التي خرج بها كان له أثر سلبي على الإخوان الذين انهارت معنوياتهم إلى الصفر، فالرجل الذي بايعوه على الجهاد، تخلى عنهم في أحلك الظروف.
ما إن تأكد القاتل عبدالمجيد حسن بأن البنا أصدر بيانه يعلن تبرأه منه، حتى انهار وأدلى باعتراف تفصيلي، وقال لمدير المباحث الجنائية الأميرالاي محمود عبدالمجيد بك، :»أيوه قتلته وأعترف بكده لأنه أصدر قرارا بحل جمعية الإخوان المسلمين، وهي جمعية دينية ومن يحلها يهدم الدين... قتلته لأني أتزعم شعبة الإخوان منذ كنت تلميذا في مدرسة فؤاد الأول الثانوية».

غضب

شيعت جنازة رئيس الحكومة النقراشي باشا وسط مشاعر غضب من أنصاره، الذين هتفوا «الموت لحسن البنا»، وبدأت ردود الأفعال تتوالى في أعقاب مقتل النقراشي، فقد توالت برقيات العزاء من دول العالم المختلفة وهي البرقيات التي أفردت لها الجرائد وقتها مساحات واسعة في حين تقدم سفراء وقناصل الدول المختلفة بتقديم واجب العزاء.
وخرجت جريدة الكتلة، لسان حال حزب الكتلة الوفدية بعنوان رئيسي «مصرع المغفور له دولة النقراشي»، وهو نفس موقف جريدة «المصري» اليومية وفدية الهوى المعادية للنقراشي فقد تناست عداءها للرجل، فخرجت بعنوانها الرئيسي «اغتيال دولة النقراشي باشا في وزارة الداخلية»، وأفردت صفحتها الأولى لتفاصيل الجريمة.
في حين قدمت جريدة «صوت الأمة» لسان حال حزب الوفد-المنافس الرئيسي للحزب السعدي- تغطيتها للحادث بالتأكيد على أن يدا أثيمة فاجرة امتدت بثلاث رصاصات غادرة إلى المغفور له محمود فهمي النقراشي فسقط صريعا، وتابعت مجلة «آخر ساعة» تفاصيل الجريمة وتحقيقات النيابة مع القاتل حتى خرجت باعترافات عبدالمجيد أحمد حسن بانتمائه الى جماعة الإخوان.
وبعد الحادث بأربعة أيام، وفي صحيفة «أخبار اليوم» الصادرة صباح (السبت) أول يناير سنة 1949 نقرأ العنوان الرئيسي بالبنط الأسود الكبير «قاتل النقراشي له شركاء»، مع عنوان ثانوي باللون الأحمر «إبراهيم عبدالهادي باشا سيجري الانتخابات القادمة»، إضافة إلى صورة الفقيد بجوار صاحبة العصمة السيدة الجليلة أرملته وكان النقراشي يمانع في نشر هذه الصورة عندما كان على قيد الحياة.
على الصفحة الثالثة أيضا من نفس عدد «أخبار اليوم السابق»، نجد مقالا بقلم الكاتب الصحافي الكبير مصطفى أمين تحت عنوان «النقراشي كان يعرف أنه سيموت»، يقول فيه إنه ذهب لزيارة النقراشي باشا في منزله قبل اغتياله بأسبوعين تقريبا ولفت نظره أثناء جلوسه في الصالون، انتظارا لنزول الباشا، أن حوائط المنزل مزينة بصور أصدقاء النقراشي الراحلين، ومنهم د. محجوب ثابت وشاعر النيل حافظ إبراهيم ورفيق كفاحه أحمد ماهر، وصورة مصطفى النحاس باشا رغم اختلاف النقراشي معه.
ودار الحوار بين مصطفى أمين والنقراشي حول القرار الذي ينوي إصداره بحل الإخوان المسلمين، فتمسك النقراشي برأيه في ثبات عجيب، وقال بالنص: «سوف أصدر القرار وأنفذه وبعد الاطمئنان على الحالة سأستقيل، وأعود معلما كما بدأت وأعلم ابني هاني وصفية بنفسي».
ولما رأه مصطفى أمين مصرا على تنفيذ رأيه تنبأ باغتياله، وقال له: «قد تكسب رأيك ولكننا سنخسرك». وعاد مصطفى أمين الى بيته باكيا وكان يشعر وهو يصافحه أنه الوداع الأخير، وتحققت النبوءة واغتيل النقراشي، فختم مصطفى أمين مقاله قائلا: «تلقيت نبأ مقتل النقراشي فلم أبك ولم أنتحب لأني بكيته بالدمع السخين قبل أن يموت بأسبوعين».
حزنت مصر وجزعت لمقتل النقراشي باشا، وشيعه مجموع الشعب ليدفن بجوار صديقه ورفيق عمره أحمد ماهر باشا في المدفن المقام بشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا)، بالقرب من مستشفى دار الشفا بالعباسية ومن الغريب أن القاتل أعلن ندمه عقب اعترافه الجريمة، وقد توالت حفلات تأبين النقراشي باشا وتبارى الشعراء والأدباء في رثائه ومنهم صديقه علي بك الجارم بقصيدته الغائية الفخمة ومطلعها:
ماء العيون على الشهيد ذراف ... لو أن فيضا من معينك كافي
وإذا بكى القلب الحزين فماله ... راق ولا لبكائه من شافي
ورثاه أيضا صديقه الشاعر والمفكر الكبير عباس محمود العقاد بقصيدة أنيقة عنوانها ‹الشهيد الأمين» مطلعها:
أسفي أن يكون جهد رثائي ... كلم عابر ورجع بكاء الانتقام
انتهت مشاهد الحزن سريعاً، وبدأ القصر الملكي في الاستعداد للانتقام من قتلة النقراشي، تم تحميل حسن البنا المسؤولية كاملة على جريمة الاغتيال، رغم محاولته التنصل بإصدار بيانه الشهير الذي تبرأ فيه من أعضاء جماعته، إلا أن القصر اتخذ قراره بتصيفة البنا سياسياً ومعنوياً أولا، ثم إطلاق رصاصة الرحمة لتصفيته جسدياً ثانياً، فقد تولى رئاسة الحكومة إبراهيم عبدالهادي، الصديق الحميم للنقراشي ورئيس الديوان الملكي، الذي أصبح اسمه في الشهور التالية مرتبطا في أذهان جميع المصريين بالسلطة الرسمية الغاشمة، فمن خلاله كان القصر الملكي يحكم بصورة مباشرة ويتحكم في الحياة السياسية، فضلا عن لجوء عبدالهادي إلى العنف المفرط في مواجهة الإخوان.
في تلك الأثناء، كان حسن البنا على وشك الانهيار، يستجدي العفو من القصر، استغلت الحكومة حالة البنا في التلاعب به، وافق عبدالهادي على عرض البنا في مساعدة الحكومة لاستعادة الأمن مقابل إعادة الشرعية للجماعة، شكلت لجنة وساطة، ضمت صالح حرب باشا وزكي علي باشا ومصطفى مرعي بك ومحمد الناجي ومصطفى أمين، وهم جميعا من أصدقاء الجانبين، وكان ثمرة عمل هذه اللجنة إصدار البنا لبيانه الشهير الذي حمل عنوان «بيان للناس»، الذي استنكر فيه عملية اغتيال النقراشي وتبرأ فيه من قاتليه، وكان البيان خطوة في طريق قتل البنا سياسياً.
استغل رئيس الحكومة عبدالهادي محاولة الإخوان لتفجير محكمة الاستئناف في 13 يناير 1949، وإلقاء القبض على عضو التنظيم الخاص شفيق إبراهيم أنس، الذي اعترف بإعطاء القنبلة لأحد السعاة لوضعها داخل المحكمة، لكنها انفجرت خارجها، استغل عبدالهادي الحادث لممارسة مزيد من الضغوط على البنا، الذي أصدر بيانا جديدا ضمنه عبارته الشهيرة «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين»، ثم وجه البنا نداء عاما إلى شباب الجماعة للكف عن كتابة خطابات التهديد وارتكاب أعمال العنف، معتبرا أي أفعال أخرى موجهة إليه شخصيا.
عندما حصل عبدالهادي على ما يريد من البنا، أغلق باب المفاوضات معه، وقرر استخدام مزيد من العنف في مطاردة الإخوان وتعذيبهم في السجون، وعندما فقد البنا أي أمل في استعادة الود المفقود مع القصر، أصدر البنا بيانه الأخير بعنوان «القول الفصل»، وزع سراً، برر فيه لجوء الإخوان إلى العنف، في محاولة بائسة لاستعادة شعبيته المتداعية بين صفوف جماعته.
دقت ساعة النهاية لحسن البنا، ففي مساء السبت 12 فبراير 1949، وبعد اجتماع مع صهره عبدالكريم منصور في مقر جمعية الشبان المسلمين، بشارع الملكة نازلي (شارع رمسيس الحالي بوسط القاهرة)، وطلبا من ساعي الجمعية عوض باستدعاء سيارة أجرة، في الثامنة و12 دقيقة، وكانت الأجواء هادئة في الشارع في تلك اللحظة، لم ينتبه أحد للسيارة السوداء الموجودة على الناحية الأخرى من الشارع.
جلس البنا في المقعد الأيمن من السيارة وصهره في المقعد الأيسر، فجأة ظهر رجلان من العدم، عبرا الطريق قادمين من السيارة السوداء، اتجه أحدهما صوب البنا أطلق عليه النار من مسدس يحمله، حاول البنا المقاومة وأمسك المسدس، لكن المهاجم المجهول عاجله بضربة قوية ثم أجهز عليه، بإطلاق رصاصة قاتلة من مسافة متر، ابتلع الظلام المهاجمين، ولم يعثر لهما على أثر، تركا خلفهما البنا قتيلا وفي جسده 6 أعيرة نارية.
من قتل البنا؟ ظل السؤال معلقا، وإن كانت أسهم الاتهام صوبت إلى القصر وحكومة عبدالهادي، باعتبارهما المستفيد الأول من قتل البنا، لكن وفقاً للمؤرخ مارك كويتس في كتابه «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، فإن تقرير هيئة المخابرات الخارجية البريطانية بهذا الشأن يتحدث بكل وضوح عن أن الحكومة «دبرت الاغتيال بموافقة القصر، فقد تقرر إزاحة حسن البنا من مسرح نشاطاته بهذه الطريقة، لأنه طالما ظل حراً، فالأرجح أن يسبب إزعاجاً للحكومة، في حين أن اعتقاله سيؤدي يقينا إلى مزيد من الاضطرابات مع أنصاره، الذين لا ريب في أنهم يعتبرونه شهيداً لقضيتهم»، هكذا تم التخلص من حسن البنا لينهي الملك فاروق ورئيس حكومته الفاشية إبراهيم عبدالهادي إرهاب الإخوان بإرهاب مماثل.
انتهت مواجهة أربعينيات القرن الماضي بين الدولة والإخوان بعد عاصفة الدم وسقوط الجماعة في فخ الإرهاب، واعتماد منهج التصفية الجسدية والتفجيرات للمنشآت العامة، فكانت الحصيلة مقتل رئيسي حكومة أحمد ماهر ثم محمود فهمي، واغتيال حكمدار القاهرة، والقاضي أحمد الخازندار، فضلا عن وفاة وإصابة العشرات في التفجيرات التي طالت منشآت عامة وخاصة، ثم سقط حسن البنا نفسه ضحية لدائرة العنف التي أطلقها، لكن الجماعة الدموية كانت على أعتاب مواجهة أعنف فالخمسينيات تطل بوجهها ومعها ثورة 23 يوليو 1952، وبدأت نذر المواجة بين الضباط الأحرار والإخوان تلوح في الأفق.
 
لطريق إلى «المنشية»
80 عاماً من الدم والغدر 4
الطريق إلى «المنشية»




الاثنين 06 يوليو 2015 - الساعة 00:01

1436098793_06_2.jpg

1436098793_22_3.jpg

1436098793_33_1.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-
أخبار ذات صلة
80 عاماً من الدم والغدر (15)
دماء السادات على منصة النصر

80 عاماً من الدم والغدر (14)
الطريق إلى المنصة

80 عاماً من الدم والغدر (13)
80 عاماً من الدم والغدر (12) ((عين الشيطان)) تغتال الشيخ العالم
80 عاماً من الدم والغدر (11) شكري مصطفى... هوس التكفير
تعد حادثة المنشية، التي حاول فيها بعض عناصر جماعة «الإخوان المسلمين» اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر، أكتوبر 1954، من أهم فصول الإرهاب الذي تعرضت له مصر ولاتزال، وفي هذه الحلقة والحلقات التالية نستعرض تفاصيل الصراع الذي دار في الظل بين فرقاء المشهد المصري، ورسم الطريق إلى حادثة المنشية الإرهابية، فما دار في الظل كان أكثر إثارة وحسما مما دار في العلن.في نهار صامت تترقب فيه شوارع القاهرة ما ستسفر عنه أحداث ميدان «التحرير»، حيث أيقونة ثورة 25 يناير 2011، ممتلئ على آخره، والقيادي الإخواني محمد مرسي يفتح أزرار بدلته محتفيا بانتصاره في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2012، وغير بعيد عن مشهد الاحتفال بوصول أول «إخواني» إلى رئاسة مصر.
وفي أستوديو إحدى الفضائيات خرج ابن القيادي في الجماعة عبدالقادر عودة، د. خالد عودة، معلنا قبول العزاء في والده الذي أعدمه نظام الضباط الأحرار سنة 1954، نافيا مشاركة والده في محاولة اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر، إلا أن أحد المشاركين في عملية الاغتيال المدعو، خليفة عطوة، يدخل على الخط معلنا صحة الواقعة قائلا: «مش هنكدب على ربنا تاني، كفاية كدب، الواقعة صحيحة».


يختلط الماضي بالحاضر، ليعيد تشكيل المستقبل، فجماعة «الإخوان» لم يغادرها العنف طويلا، ولم تقلع عن الإرهاب وأساليب الدم إلا على سبيل «التُقية»، تركت العنف لفترة لأنها أوكلت لجماعات خرجت من عباءتها مهمة القتل باسم الإسلام، لكن الأقنعة لا تنجح في إخفاء النوايا إلا لبعض الوقت، عنف الإخوان عاد إلى الواجهة وسقطت كل أحاديث المعايشة والمشاركة، اكتشف الجميع أنها كانت محض سراب.
وظل «الإخوان» ينكرون محاولتهم اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر لعقود، حتى تم الاعتراف بصحة الواقعة عقب وصول محمد مرسي في يونيو 2012، وقتها شعر الإخوان بالتمكين، لاعبهم حلم أستاذية العالم، لم يدركوا طبيعة الشعب المصري، مد لهم الأخير الحبل لكي يسقطوا في مصيدة أفعالهم، تم إطاحة الإخوان من السلطة سريعا، فسقطت مقولات الجماعة عن المشاركة وعادت إلى العنف، في وقائع مسجلة بالصوت والصورة.
محاولة اغتيال عبدالناصر ظلت الجريمة الوحيدة التي بذل الإخوان جل جهدهم في نفيها عنهم، لا تعرف لماذا، الأمر الذي يطرح عدة أسئلة عن طبيعة العلاقة الملتبسة بين الإخوان والزعيم العربي، يلح علم النفس على المرء لتحليل هذه العلاقة، فهل وقع الإخوان في عشق جلادهم، ألم يكن عبدالناصر صورة البطل الذي انتظروه ليعيد إحياء أمجاد الأمة؟ هل وقع الإخوان في فخ العلاقات غير السوية في نظرتهم لعبدالناصر، فلم ينسوا يوما ما فعله في التنظيم، لكنهم يتذكرون له أنه كاد يحقق أحلام حسن البنا يوما؟ هل حكمت عقدة أوديب نظرة الإخوان، الأب الذي عبدوه وحاولوا قتله؟ أسئلة متروكة لتحليلات علماء النفس.
ما جرى في 7:55 ليل 26 أكتوبر 1954 لم يكن إلا قمة الجبل الجليدي الغاطس في سنوات مضطربة سبقت هذا التاريخ، ولولا ما جرى في سنوات نهاية الأربعينيات حتى مطلع الخمسينيات، ما كان يمكن أن تصل الأمور إلى قمة مأساتها بالصدام بين نظام يوليو وجماعة «الإخوان»، والذي فلت من عقاله في منتصف الخمسينيات وامتد إلى منتصف الستينيات، في مواجهة تكسير عظام كانت الأعنف بين الدولة المصرية وتنظيم الإخوان، حتى تاريخه.

علاقات قديمة

تبدو خيوط القصة مفككة، وجمعها يلقي بعض الضوء على ما جرى، في الأربعينيات كانت هناك مجموعة من ضباط الجيش الصغار، الذين ساءهم ما وقعت فيه البلاد من تراجع وضياع لاستقلالها في حادثة 4 فبراير 1942، عندما أجبر الاحتلال الإنكليزي الملك فاروق على تغيير الحكومة بعد حصار قصر عابدين.
ثم جاءت حرب تحرير فلسطين 1948 لتعمق الجروح، هزيمة موجعة للجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية، أثبتت أن التغيير في القيادة مطلوب، من رحم تلك المعاناة خرج إلى الوجود تنظيم الضباط الأحرار داخل صفوف الجيش المصري.
وبينما سنوات الأربعينيات تغلي بالتغيرات الاجتماعية والسياسية، كان طبيعيا أن يتنقل الشباب بين مختلف التيارات بحثا عن حل لأزمة بدت مستحكمة، في تلك الأجواء اطلع بعض ضباط الجيش على فكر «الإخوان»، كان بينهم جمال عبدالناصر، بينما كان أنور السادات على علاقة وثيقة بالمرشد العام لجماعة الإخوان حسن البنا، وبدا البعض منحازا للفكر اليساري مثل خالد محيي الدين.
ورغم التباين في تقييم مدى عمق علاقة عبدالناصر بتنظيم الإخوان في الفترة الأولى من حياته، فإن شهادة خالد محيي الدين في مذكراته «والآن أتكلم» حسمت الأمر بتأكيد وجود صلة بين الضباط الأحرار و»الإخوان»، في إطار سعي الضباط في مقتبل الأيام للبحث عن القوى القادرة على الاصطفاف لمواجهة الاستعمار الإنكليزي، لكن الأمر لم يتعد مرحلة جس النبض والتقارب في مواجهة نفس الخطر الذي يتهدد الجميع، فظل ما يفرق بين الضباط الأحرار وجماعة «الإخوان» أكبر من أي محاولة لتقريب وجهات النظر.
ويرصد محيي الدين أول لقاء جمعهم بالبنا قائلا: «... كان حسن البنا يمتلك مقدرة فذة على الإقناع وعلى التسلل إلى نفوس مستمعيه، وكان قوي الحجة واسع الاطلاع، وفي اللقاء الأول معه بدأنا نحن بالحديث، وطرحنا –أنا وعبدالناصر- آراءنا، وعندما تكلم البنا أفهمنا بهدوء وذكاء أن الجماعة تعاملنا معاملة خاصة، ولا تتطلب منا نفس الولاء الكامل الذي تتطلبه من العضو العادي... تناقشنا معه، كان رحب الصدر، ألححت في ضرورة إعلان برنامج (للإخوان)... وأجاب (أي البنا): لو وضعت برنامجا لأرضيت البعض وأغضبت البعض، سأكسب ناسا وأخسر آخرين، وأنا لا أريد ذلك».
ويتابع محيي الدين: «وتتالت مقابلاتنا مع حسن البنا، وقد كان يمتلك حججا كثيرة لكنها لم تكن كافية ولا مقنعة بالنسبة لأكثرنا، وظل عبدالناصر مستريبا في أن الجماعة تريد أن تستخدمنا كمجموعة ضباط لتحقيق أهدافها الخاصة»، مؤكدا أن علاقة مع الإخوان سرعان ما أصابها الفتور قائلا: «... لا يمكن أن نقول إننا في يوم كذا انسحبنا من الجماعة، فقط أصبحت الشكوك تملؤنا وأصبحنا على غير وفاق، وغير متحمسين، وبدأنا نتباعد أنا وجمال، وربما بدأت الجماعة هي أيضا تستشعر أننا لا نمتلك الولاء الكافي فبدأت تتباعد عنا، وتدريجيا يأتي عام 1947 ليجد علاقتنا –جمال وأنا- وقد أصبحت باهتة تماما مع جماعة الإخوان».
وبغض النظر عن مدى دقة هذه الشهادة التي كتبت بعد رحيل عبدالناصر بسنوات، وبعد الوقائع نفسها بعقود، فإن المؤكد أن علاقة ما جمعت الإخوان بتنظيم الضباط الأحرار، وعندما قامت ثورة 23 يوليو 1952، كان الإخوان على معرفة بأبرز قادة الثورة الجديدة، بل إن بعض الإخوان تمادوا واعتقدوا أن الثورة التي أطاحت الملك فاروق هي ثورة إخوانية، ونظروا إلى قادة التنظيم نظرة تقدير وعرفان، وانتظروا منهم البدء في إقامة دولة إخوانية، فيما لم يكن الضباط الأحرار -وخاصة عبدالناصر- يدينون لأحد بما حققوه من نجاح إلا لأنفسهم فقط.

إعادة بناء

كانت الأمور مهيأة داخل جماعة «الإخوان» للقبول بتحالف غير معلن مع تنظيم الضباط، فقبل ثورة 23 يوليو وفي مطلع الخمسينيات كان تنظيم «الإخوان المسلمين» يعيد ترتيب صفوفه بعد الضربة الساحقة التي تعرض لها على يد الملك فاروق ورجال قصره، بحل التنظيم وتصفية حسن البنا، وإلقاء معظم قيادات الجماعة في السجون في أحداث 1948-49، وهي الأحداث التي خلفت انقسامات حادة داخل التنظيم، إذ بدأ الصراع بين الجناح المتطرف بقيادة صالح عشماوي، وآخر أكثر اعتدالا، وتأجيلا للصراعات تم اختيار المستشار حسن إسماعيل الهضيبي لشغل منصب المرشد العام للجماعة، رغم انه لم يكن من قيادات التنظيم.
ولم يمر اختيار الهضيبي مرشدا عاما مرور الكرام، بل أدى إلى أزمة داخل التنظيم، في ظل رفض العديد من قيادات الجماعة له، فهذا مراقب المركز العام للإخوان، فتحي العسال، يعتبر في شهادته التي أصدرها في كتاب «الإخوان المسلمون بين عهدين»، وصول الهضيبي إلى منصب المرشد «بداية النهاية في تاريخ الإخوان»، قائلا: «واختير الهضيبي الذي لا يعرفه أحد من الإخوان مرشدا عاما، واعترف الإخوان بزلتهم بعد اختياره، وعرفوه قريبا ونسيبا وصهرا لأربعة من رجال السراي الملكية... وكانت هذه القرابات بمثابة نعش لجماعة الإخوان، لأنها حكمت باختياره مرشدا»، معتبرا إياه مرشدا (أي مخبرا) للسراي لا للجماعة، ودلل العسال على ما اعتبره ثمنا لصفقة تعيين الهضيبي، أن الأخير تسلم من الدولة المركز العام للجماعة في حي الحلمية بالقاهرة، والذي كانت الدولة صادرته في أزمة 1948.
أما عن السياق العام للأحداث فيؤكد أن الجماعة التي بدأت عملية لملمة أوراقها، كانت تريد أن تنتهز الفرصة السانحة لإجراء عملية غسل، فاستكانت الجماعة تتحين الفرصة المناسبة للانقضاض على كرسي الحكم، منتظرة ما تسفر عنه الأيام من صراعات بين مختلف القوى السياسية، فالقوى الليبرالية نجحت في إقصاء حكومة السعديين التابعة للقصر، وأجريت الانتخابات التي فاز بها حزب الوفد باكتساح، وشكل مصطفى النحاس الحكومة في يناير 1950، وكان من أول قراراته الإفراج عن المعتقلين السياسيين بمن فيهم كوادر الإخوان، نكاية في القصر.
لكن جماعة «الإخوان» رفضت التحالف مع حزب الوفد، بل إن صالح عشماوي استصدر قرارا من مكتب الإرشاد لطرد مصطفى مؤمن من الجماعة، وهو الشخص المسؤول عن ملف الاتصال بين الجماعة والوفد، وكان هدف الجماعة استخدام ورقة العداء مع الوفد من أجل أن تستعيد علاقتها بالقصر، بل إن عملية اختيار المرشد الجديد كانت محاولة واضحة للتزلف للملك فاروق، فالهضيبي كان صهرا لناظر الخاصة الملكية نجيب باشا سالم.
ونجحت خطة الإخوان في التقرب من الملك فاروق الذي لم يبغض في حياته أكثر من حزب الوفد، وكان يرغب في الإطاحة بحكومة النحاس بأي شكل، ولم يجد أفضل من الإخوان والقوى السياسية الهامشية لتنفيذ رغباته، لذلك لم يكن غريبا أن يستقبل الملك -الذي رفض لقاء حسن البنا دوما- المرشد العام الجديد حسن الهضيبي في القصر الملكي نوفمبر 1951، ووفقا لشهادة الأخير المنشورة في مجلة روز اليوسف، فإن الملك طلب من الجماعة التخلص من العناصر الثورية داخل صفوف الجماعة، والالتزام بمهادنة الإنكليز والعمل على مواجهة الخطر الشيوعي.
لكن الهضيبي، وإن التزم بشكل واضح وصريح بكل ما اتفق عليه مع الملك، إلا أنه عمل على فتح خطوط اتصال مع تنظيم الضباط الأحرار، وكان المسؤول عن هذا الملف داخل الجماعة هو حسن العشماوي، يعاونه صالح أبو رقيق، في وقت كان الصراع على أشده داخل الجماعة بين التيار المتشدد بقيادة عبدالرحمن السندي وصالح عشماوي، والتيار الأقل تشددا بقيادة الهضيبي ومعظم أعضاء مكتب الإرشاد، ووجود تيار ثالث مهادن أقل شأنا.
كان الهضيبي اعتمد نهج التهدئة مع القصر تجنبا لأي صدام قد يكلف الجماعة البقية الباقية من قوتها من ناحية، والعمل على كسب ثقة الملك فاروق من أجل الحصول على وضع أفضل للجماعة في خريطة السياسة المصرية، لذلك نراه يستغل أي فرصة لإعلان ولائه الكامل للقصر، فمرة يزور الملك في أوج التظاهرات الرافضة لسياسات الملك وفساده في 1951، ليخرج بعدها مطالبا شباب الإخوان بالعكوف على قراءة القرآن والبعد عن التظاهرات، ومرة ثانية يزور القصر في 16 يناير 1952، مهنئا بمولد ولي العهد الأمير أحمد فؤاد.
سياسة الموالاة التي اتبعها الهضيبي كانت سببا في اشتعال الصراع داخل تنظيم الإخوان، وبلغ الصراع مستوى التصفية الجسدية، فالقيادي الإخواني محمد عبدالحليم، الذي يعد أحد أهم مؤرخي الإخوان، رصد في كتابه «الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ» كيف أن عبدالرحمن السندي دبر جريمة اغتيال القيادي الإخواني سيد فايز، الذي أوكلت له مهمة تحرير التنظيم الخاص من سيطرة السندي، يقول عبدالحليم: «لقد تخلص (أي السندي) منه (أي فايز) بأسلوب فقد فيه دينه وإنسانيته ورجولته وعقله»، شارحا كيفية تنفيذ الجريمة بالقول: «انتهز السندي فرصة ذكرى المولد النبوي الشريف، وأرسل إليه في منزله هدية علبة مغلقة عن طريق أحد عملائه... فلما حضر وفتح العلبة انفجرت فيه وقتلته».
كانت الرغبة الإخوانية عارمة في التخلص من السمعة السيئة للتنظيم الخاص بتحميل السندي جميع الأخطاء والجرائم، وكان الأخير عنيفا في طرحه فثبتت عليه التهمة سريعا، خاصة عندما حاول احتلال المركز العام للجماعة هو وأنصاره، بل توجهوا إلى بيت الهضيبي وأساءوا إليه، وكان الهدف اقتحام المنزل وإجبار الهضيبي على الاستقالة، وتعيين أحد كبار رجال التنظيم الخاص مرشدا للجماعة، إلا أن المخطط فشل لأن الهضيبي تمسك بمقعده.
كما أن القطاع الأكبر من قيادات الإخوان رفضوا تحركات السندي، على الفور اجتمع مكتب الإرشاد في 22 نوفمبر 1953، وتقرر تشكيل لجنة من الهيئة التأسيسية للتحقيق في جرائم السندي، انتهت إلى إدانته، فصدر القرار بفصل السندي وصالح عشماوي ومجموعة من أبرز معاونيه.

اتصالات جديدة

في تلك الأجواء، بدأت الجماعة تعيد التواصل مع تنظيم الضباط الأحرار الذي بدأ يكتسب شعبية واسعة داخل صفوف الجيش المصري، خاصة بعد الهزيمة في حرب 1948، والتي انتهت بميلاد الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، وكان عبدالناصر واضحا في البداية بعدم تبعية الضباط الأحرار لأي تنظيم آخر بما فيها جماعة «الإخوان»، ما أدى إلى انسحاب عبدالمنعم عبدالرؤوف من تنظيم الضباط الأحرار لرغبته الواضحة في إعلان تبعية الضباط الأحرار للإخوان، الأمر الذي رفضه عبدالناصر، مكتفيا بصلة التعاون المشترك.
وعلمت قيادات الإخوان أن شباب الضباط داخل الجيش يريدون القيام بعمل حاسم ضد الملك فاروق، ويقول حسن العشماوي: «بعض الزملاء –الذين لم نسمع لهم يومئذ- رفضوا إلى آخر لحظة قيام الجيش بحركة عسكرية كخطوة نحو الثورة العامة، لأنهم لا يثقون بحركات الجيوش، أما المتحمسون منا ومن غيرنا، المؤملون كثيرا في مستقبل الحرية، فلم يستمعوا إلى الزملاء الذين أشرت إليهم، ورأوا مخاطر مشاركة العسكريين في الثورة أهون من بقاء النظام القائم في مصر».
ووفقا للمؤرخ المصري د. عبدالعظيم رمضان، في كتابه «الإخوان المسلمون والتنظيم السري»، فإن صالح أبو رقيق كان أول من علم بميعاد الثورة قبل وقوعها، فوفقا لشهادة عضو مجلس قيادة الثورة، ففي صباح اليوم السابق على الثورة مباشرة، ذهب عبدالناصر وكمال الدين حسين إلى صالح أبو رقيق، وكان من قادة الإخوان، وأخطراه حسب الاتفاق المسبق بموعد الثورة، بهدف كسب تأييد الإخوان للثورة، كما تم الاتفاق على أن تقوم قوات من متطوعي «الإخوان» بالمعاونة مع وحدات الجيش للسيطرة على طريق السويس، لصد أي هجوم إنكليزي محتمل أن يتحرك نحو القاهرة لقمع تحركات الضباط وإعادة فاروق إلى عرشه.
كان الأمر أكبر من قدرة أبورقيق على الفصل فيه منفردا، اتصل بمرشد الإخوان، الهضيبي، الذي كان متواجدا في الإسكندرية وقتها، أخبره بالأمر الجلل، حصل سريعا على الرد، وافق الهضيبي على مساندة التنظيم للضباط الأحرار في مسعاهم، هنا توقف التاريخ لحظات، فمصر كانت مقبلة على صفحة جديدة في تاريخها، التحالفات القديمة كانت على وشك السقوط، وتحالفات جديدة على وشك أن تُعقد، لكن الحقيقة التي ظلت راسخة أن ما جرى في يوم 23 يوليو 1952 غير تاريخ مصر للأبد.
 
80 عاماً من الدم والغدر (5)



الثلاثاء 07 يوليو 2015 - الساعة 00:01
سنوات ما قبل الإعصار

1436193553_71_1.jpg

1436193553_86_3.jpg

1436193554_01_4.jpg

1436193554_14_2.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-
أخبار ذات صلة
80 عاماً من الدم والغدر (15)
دماء السادات على منصة النصر

80 عاماً من الدم والغدر (14)
الطريق إلى المنصة

80 عاماً من الدم والغدر (13)
80 عاماً من الدم والغدر (12) ((عين الشيطان)) تغتال الشيخ العالم
80 عاماً من الدم والغدر (11) شكري مصطفى... هوس التكفير
مع نجاح ثورة «23 يوليو» في إطاحة نظام الملك فاروق، والقضاء على الحياة النيابية، ظهرت إلى السطح طبيعة التحالف بين القوة الجديدة وتنظيم «الإخوان المسلمين»، وهو التحالف الذي لم يدم طويلا، إذ سرعان ما حاول «الإخوان» مصادرة الثورة لمصلحتهم، مما عجل الصدام بين الطرفين.
تحرك الضباط الأحرار ضد الملك فاروق في 23 يوليو 1952، ونجح الضباط الشباب في الانقلاب على السلطة وإطاحة النظام الملكي فعليا، بعدما أجبروا الملك على التنازل عن العرش في 26 يوليو، وهي تحركات لاقت تجاوبا من مختلف طبقات الشعب، التي أعلنت انحيازها لتحرك الضباط عن ميلاد ثورة «23 يوليو»، وفقا لتسمية عميد الأدب العربي، طه حسين.
ومع الثورة بدأت صفحة جديدة في تاريخ مصر المعاصر، كانت عنوانا لانتهاء عصر بتحالفاته السياسية وتركيبته الاجتماعية، وأفسحت المجال لإنشاء نظام جديد، ما جعل مختلف القوى السياسية في حالة تحفز لما سيصدره النظام الجديد من قرارات.
دارت العجلة سريعا فتم تعيين الأمير الصغير أحمد فؤاد ملكا على مصر والسودان، ولم يكن أكثر من رضيع لم يتجاوز عامه الأول، وتم تعيين مجلس وصاية، بينما تولى الضباط الأحرار تسيير أمور البلاد بصورة فعلية، ولم يكن غالبية المصريين يعرفون الكثير عن هؤلاء الضباط الشباب، باستثناء من بدا وكأنه رئيس هذه الحركة، اللواء أركان حرب محمد نجيب، الذي اختاره شباب الضباط ليكون على رأس تنظيم «الأحرار» لاكسابه شرعية في صفوف الجيش.
وكان طبيعيا أن تبدأ القوى السياسية وقتذاك في إعلان موقفها من الأحداث التي لم تتضح أبعادها بعد، لذلك التزمت معظم القوى السياسية الحذر، وتمسكت بالصمت حتى اتضاح المواقف، لكن جماعة «الإخوان» فاجأت الجميع وأعلنت ترحيبها بتحركات الضباط الشباب، وخرجت في بيان رسمي ممهور بتوقيع المرشد حسن الهضيبي، ونشرته صحيفة «الدعوة» الناطقة باسم الجماعة، في 29 يوليو، أي بعد قيام الثورة بستة أيام، وهذا نص البيان:
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
وبعد... في الوقت الذي تستقبل البلاد فيه مرحلة حاسمة من تاريخها بفضل هذه الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم، أهيب بالإخوان المسلمين في أنحاء الوادي أن يستشعروا ما يلقي عليهم الوطن من تبعات، في إقرار الأمن، وإشاعة الطمأنينة، وأخذ السبيل على الناكثين ودعاة الفتنة، ووقاية هذه النهضة الصادقة من أن تمس روعتها وجلالها بأقل أذى أو تشويه، وذلك بأن يستهدفوا على الدوام مثلهم العليا، وأن يكونوا على تمام الأهبة لمواجهة كل احتمال.
والإخوان المسلمون بطبيعة دعوتهم خير سند لهذه الحركة يظاهرونها، ويشدون أزرها حتى تبلغ مداها من الإصلاح، وتحقق للبلاد ما تصبو إليه من عزة وإسعاد. وإن حالة الأمن لتتطلب منكم بوجه خاص أعينا ساهرة ويقظة دائمة، فلقد أعدتكم دعوتكم الكريمة رجالا يُعرفون عند الشدة، ويلبون عند أول دعوة، فكونوا عند العهد بكم، والله معكم.
وستجتمع الهيئة التأسيسية في نهاية هذا الأسبوع بإذن الله لتقرر رأي الإخوان في ما يجب أن تقترن به هذه النهضة المباركة من خطوات الإصلاح الشامل ليدرك بها الوطن آماله، ويستكمل بها مجده {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، والله أكبر ولله الحمد.

المرشد العام حسن الهضيبي

استثمر الإخوان علاقتهم السابقة بتنظيم الضباط الأحرار، عملوا على تقوية صلتهم بالتنظيم الذي بدا وكأنه يجمع مصادر القوى بين يديه، راهنوا على الجيش للاقتراب خطوة من السلطة، كان هدف الإخوان استخدام الضباط الأحرار لتصفية القوى السياسية القائمة بما يسمح للجماعة بأن تتصدر المشهد ثم تصل إلى خطوتها النهائية بإحكام المرشد قبضته على السلطة، لذلك أصدرت الجماعة بيانا مطلع أغسطس 1952 هاجموا فيه الحياة النيابية هجوما شديدا، وأعلنوا أن التجارب الليبرالية الدستورية «لم تقدم نيابة صالحة ولا تمثيلا صحيحا»، وأن الحياة البرلمانية «انتهت إلى أن أصبحت أداة تعطي شهوات الحكام ومظالم السلطان صيغة قانونية».
هكذا ربطت جماعة «الإخوان» نفسها بمجلس قيادة الثورة، واستمرت العلاقات الودية بين الطرفين بشكل أساسي في الشهور الأولى التالية على ثورة يوليو، حاولت الجماعة استثمار هذه العلاقة لفرض نفوذها على تنظيم الضباط، بدأت بمحاولة المطالبة بضرورة عرض القرارات الكبرى قبل إعلانها.
رفض مجلس قيادة الثورة الأمر سريعا، خاصة عبدالناصر الذي قال إنه يرفض وضع «الثورة» تحت وصاية الجماعة، لكن هذا لم يؤثر سلبا على علاقة الطرفين، إذ عرض محمد نجيب على الجماعة المشاركة بثلاثة أسماء في أول وزارة شكلها بعد الإطاحة بحكومة علي ماهر، لكن الخلاف داخل الجماعة حول أسماء الشخصيات المرشحة امتد إلى مناقشة إمكانية المشاركة في الوزارة من عدمها، انتهى بضم الشيخ أحمد حسن الباقوري للوزارة وزيرا للأوقاف.
كان غرض الإخوان عدم التورط في لعبة الحكم وإعطاء شرعية لنظام يوليو، أرادت الجماعة أن تمسك بخيوط اللعبة في يدها وحدها، راوغت خشية أن تفشل الثورة وتعود قوى العصر البائد فتخسر الجماعة كل شيء، لذلك اتبعت «الإخوان» تطبيق التقية، وقررت فصل الباقوري بمجرد قبوله الحقيبة الوزارية، بينما تعالت الأصوات داخل الجماعة بالبدء في انتهاج طريقها بصورة مستقلة عن الضباط الأحرار، مع ضمان عدم الاحتكاك بمجلس قيادة الثورة، والعمل على تجنب الصدام إلى حين، ما أعطى دفعة لاستمرار العلاقات بين الفريقين لبعض الوقت.
وفي أقوى إشارة على قوة العلاقات بين الطرفين، أعاد مجلس قيادة الثورة فتح التحقيق في قضية اغتيال حسن البنا، سريعا في 11 أكتوبر 1952 صدر القرار بالعفو الخاص عن المحكوم عليهم من جماعة «الإخوان» في قضية اغتيال الخازندار والنقراشي ومختلف قضايا الإرهاب التي وقعت في الأربعينيات من القرن المنصرم، بينما شارك الإخوان بثلاثة ممثلين في لجنة صياغة دستور جديد للبلاد، بعد إسقاط العمل بدستور 1923، في حين لم يحصل حزب الوفد، حزب الأغلبية آنذاك، على أكثر من 4 مقاعد.

حل الأحزاب

وصل التحالف بين الضباط الأحرار وجماعة «الإخوان» إلى قمته عندما صدر مرسوم بحل الأحزاب ومصادرة أموالها، في 18 يناير 1953، والغريب أن القرار استثنى جماعة «الإخوان المسلمين» بحجة أنها لا ينطبق عليها ما ينطبق على الأحزاب من أحكام، وأيد الإخوان هذا القرار الذي استهدف التخلص من أعدائهم القدامى في المقام الأول.
وشعرت الجماعة أن الضباط الأحرار في حاجة لتأييد الإخوان في هذه اللحظة، لإعطاء شرعية لهذا القرار الذي قضى على الحياة النيابية في مصر، وحاولت الجماعة فرض إرادتها على الضباط، عندما زار كل من صلاح شادي ومنير دلة مكتب عبدالناصر، وطلبا منه تكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها، لكن عبدالناصر قال -وفقا لسجلات محكمة الشعب- «لقد قلت للمرشد سابقا إننا لن نقبل وصاية، وإنني أكررها اليوم مرة أخرى في عزم وإصرار».
كانت فكرة وصاية الإخوان على الثورة سببا في الصراع داخل الجماعة بين فريق يرى ضرورة التعاون بلا تحفظ مع الضباط الأحرار، ويمثل هذا التيار عبدالرحمن السندي، رئيس التنظيم الخاص، وبين تيار الوصاية بقيادة المرشد حسن الهضيبي، واستطاع الأخير إطاحة السندي من منصبه وتقليص نفوذه، ما فجر الصراع بين الرجلين، والذي انتهى بتدبير السندي لاغتيال القيادي الإخواني سيد فايز، ثم فصل السندي من التنظيم، وبالتالي انفجر الصراع بين الفرقاء داخل الجماعة، خاصة أن هناك العديد من القيادات لم تكن راضية عن أداء الهضيبي، لكن الأخير استطاع حسم الصراع لمصلحته قرب نهاية عام 1953.
في تلك الأجواء، كانت نذر الصدام تتجمع بين رئيس الجمهورية محمد نجيب ورئيس مجلس الوزراء جمال عبدالناصر، المؤسس الحقيقي لمجلس قيادة الثورة، ولما كان نفوذ عبدالناصر داخل تنظيم الضباط الأحرار هو الأقوى، فكان طبيعيا أن يسعى نجيب للبحث عن حلفاء، ولم يجد أفضل من جماعة «الإخوان»، لبحث ضمهم إلى صفه في صراعه مع عبدالناصر، واعترف نجيب بتحالفه مع الإخوان في مذكراته الشخصية، وقال إن شروطه للتحالف كانت تتضمن إنهاء الحكم العسكري، وعودة الجيش إلى ثكناته، وإقامة الحياة الديمقراطية، بعودة الأحزاب وإلغاء الرقابة على الصحف.
ووفقا لنجيب فإن «الإخوان» رفضوا تلك الشروط، وطالبوا ببقاء الحكم العسكري، وعارضوا عودة الأحزاب وإقامة الحياة النيابية، كما عارضوا إلغاء الأحكام العرفية، وطالبوا باستمرار الأوضاع كما هي، على أن ينفرد محمد نجيب بالحكم، ويتم إقصاء عبدالناصر وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأن تتشكل حكومة مدنية لا يشترك فيها الإخوان، لكن يتم تأليفها بموافقتهم، لكي تكون خاضعة لتوجيه الجماعة.
كما اشترط الإخوان تعيين رشاد مهنا قائدا عاما للقوات المسلحة، وأن تشكل لجنة سرية استشارية يشترك فيها بعض العسكريين الموالين لمحمد نجيب وعدد مساو من الإخوان، على أن تعرض عليها جميع القوانين قبل إقرارها.
رفض نجيب مطالب الإخوان لأنها تعني حال الموافقة عليها تحوله إلى عروسة ماريونت في يد الجماعة، التي ستتحول إلى الحاكم الفعلي للبلاد، دون أن تظهر في الصورة، وهو ما أدى إلى فشل المفاوضات، لكن اتضح للجميع أن الإخوان راهنوا في كل الأحوال على مساندة نجيب في صراعه مع عبدالناصر، ما كان له أكبر الأثر على مجريات الأمور في تلك الأيام العصيبة.
جاء الصدام سريعا عندما حاول الإخوان استعراض قوتهم في جامعة القاهرة، في تظاهرة للاحتفال بذكرى شهداء معركة القناة 12 يناير 1954، واصطحب الإخوان معهم الإيراني نواب صفوي، زعيم جماعة «فدائيات إسلام»، عندما تعدى طلاب الإخوان على طلاب مختلف القوى السياسية الأخرى، في وقت تجمعت معلومات للأجهزة الأمنية تفيد بأن الإخوان تعمل على تجنيد ضباط في الجيش والشرطة، ما أثار غضب عبدالناصر الذي أبلغ حسن العشماوي، ممثل المرشد، رفضه لتحركات الإخوان قائلا: «هذه الحوادث تُظهر أنكم تدبرون أمرا سيجني على مصير البلاد، ولن يستفيد منه إلا المستعمر، وإنني أنذر إننا لن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه التصرفات، التي يجب أن تُوقف إيقافا كاملا».
وفي 14 يناير 1954، صدر قرار مجلس قيادة الثورة بحل جماعة «الإخوان»، واعتقال 450 عضوا، بموافقة جميع الأعضاء باستثناء محمد نجيب، وقال نص القرار: «إن الثورة حينما حلّت الأحزاب لم تطبق أمر الحل على الإخوان إبقاء عليهم وأملا فيهم، وانتظارا لجهودهم وجهادهم في معركة التحرير، ولكن نفرا من الصفوف الأولى في هيئة الإخوان أرادوا أن يسخروا هذه الهيئة لمنافع شخصية، وأهواء ذاتية، مستغلين سلطان الدين على النفوس، وقد أثبت تسلسل الحوادث أن هذا النفر من الطامعين استغلوا هيئة الإخوان والنظم التي تقوم عليها لإحداث انقلاب في نظام الحكم تحت شعار الدين».
جاء قرار الحل ليعمق الخلاف بين نجيب وبقية أعضاء مجلس قيادة الثورة، فنجيب رفض الموافقة على قرار الحل، معلقا في مذكراته على هذه الواقعة قائلا: «لم أكن موافقا على حل الإخوان، ولم أكن موافقا على بيان الحل، وأحسست أن موقفي أصبح في غاية الحرج، هل أنا موافق على كل هذا؟ هل أنا رافض وغير مقتنع به؟ أين أنا من كل هذا بالضبط. ولم أجد مفرا من أن أقدم استقالتي».

صراع الضباط

انفجر الصراع بين نجيب وعبدالناصر، ليعلن الأول استقالته من منصبه رئيسا للجمهورية في 23 فبراير 1954، جاءت الاستقالة لتفجر كل الأوضاع، من ناحية كشفت الصراع بين قادة الثورة، كما عطلت المفاوضات السرية بين عبدالناصر والقيادي الإخواني عبدالقادر عودة الذي تولى إدارة التنظيم عقب اعتقال الهضيبي، بخصوص حل التنظيم السري والابتعاد عن ممارسة السياسة، في وقت نظم قادة التنظيم السري تظاهرة حاشدة أمام قصر عابدين في 28 فبراير، ومارس أنصار الإخوان الإرهاب وأطلقوا النار في قصر النيل.
وأمام الحشد الإخواني الضخم غير عبدالقادر عودة ولاءاته عندما تحالف مع نجيب ضد عبدالناصر، وأمر المتظاهرين بالانصراف، تزامن ذلك مع تراجع مجلس قيادة الثورة عن قبول استقالة نجيب وأصدر المجلس بيانا جاء فيه: «حفاظا على وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة محمد نجيب رئيسا للجمهورية، وقد وافق سيادته على ذلك»، لكن عبدالقادر عودة دفع ثمن تحالفاته فتم إلقاء القبض عليه سريعا، ووجهت إليه تهمة محاولة قلب نظام الحكم، وتم تنفيذ عقوبة الإعدام فيه في 9 ديسمبر 1954.
لم تهدأ الأجواء بين نجيب وعبدالناصر، في وقت خرج الهضيبي من السجن، وحاول محمد نجيب الاتصال مجددا بالإخوان لكن هذه المحاولات فشلت، البعض حاول قراءة الصراع داخل مجلس قيادة الثورة على اعتباره صراعا بين الديمقراطية والاستبداد، رغبة نجيب في إقامة نظامه الديمقراطي في مواجهة رغبة عبدالناصر في الانفراد بالسلطة، فالتعمق في قراءة المشهد يثبت أن الجميع كان في سباق على السلطة وإن اختلفت المبررات، وكان الفرقاء يعلمون أن الأجراس تدق فقط للمنتصر.
لذلك سرعان ما تفجر الصراع بين الطرفين داخل مجلس قيادة الثورة، وانتصر عبدالناصر داخل المجلس في 25 مارس 1954، بإقرار مقترحاته في اجتماع لمجلس قیادة الثورة، أعقبه إصدار المجلس مجموعة من القرارات التاریخیة، حیث أعلن اتخاذ الإجراءات فورا لعقد جمعیة تأسیسیة تنتخب بطریق الاقتراع العام المباشر، على أن تجتمع خلال شهر یولیو ١٩٥٤، وهي القرارات التي لم يتقبلها خالد محيي الدين فقدم استقالته من مجلس قيادة الثورة.
وكان مجلس قيادة الثورة قرر السماح بقیام الأحزاب، وحل مجلس قیادة الثورة في ٢٤ یولیو، وهي قرارات رأى ضباط الجيش أنها تهدد بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 23 يوليو 1952، لذلك اجتمعوا وقرروا إرجاء قرارات ٥ و٢٥ مارس ١٩٥٤ حتى نهایة فترة الانتقال وانتهت الأزمة، وقرر مجلس الثورة في ١٧ أبریل عام ١٩٥٤ أن یكتفي اللواء محمد نجیب بمنصب رئیس الجمهوریة فقط، على أن یتولى عبدالناصر منصب رئیس الوزراء، وهي فترة كان نفوذ نجيب خلالها محدودا، وظل مبعدا في قصر عابدين بعيدا عن دوائر صنع القرار.
وحمل يوم 14 نوفمبر 1954 نهاية الصراع، إذ أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بإعفاء محمد نجيب من منصب رئيس الجمهورية على أن يتولى مجلس الوزراء، الذي يتولى رئاسته عبدالناصر، سلطات رئيس الجمهورية، كما صدر قرار بتحديد إقامة محمد نجيب، وحرمانه من حقوقه السياسية مدة عشر سنوات، ليخرج من معادلة القوى السياسية في مصر للأبد.
تابعت جماعة «الإخوان» بترقب شديد نتيجة الصراع داخل تنظيم الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة، لكن اتجاه المؤشرات لحسم الصراع لصالح عبدالناصر وهزيمة نجيب حليف الإخوان السابق، دفع الجماعة إلى استعادة علاقتها القديمة بحليف قديم، فهناك على ضفاف قناة السويس كان نحو 100 ألف جندي إنكليزي هم قوام قوات الاحتلال البريطاني في مصر على أهبة الاستعداد انتظارا لأوامر لندن للتدخل في أحداث القاهرة، من هنا بدأت الجماعة تفتح خطوط اتصال مع قوات الاحتلال البريطاني، كان هدف الجماعة واضحا، الوصول إلى السلطة مهما كانت التنازلات، وهنا انتقل صراع السلطة إلى مستوى أكثر خطورة.
... يتبع
 
80 عاماً من الدم والغدر (6)
مفاجآت تحالف الإخوان والإنكليز ضد ناصر



الأربعاء 08 يوليو 2015 - الساعة 00:01

1436275629_54_2.jpg

1436275629_72_1.jpg

1436275629_88_3.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-
أخبار ذات صلة
80 عاماً من الدم والغدر (15)
دماء السادات على منصة النصر

80 عاماً من الدم والغدر (14)
الطريق إلى المنصة

80 عاماً من الدم والغدر (13)
80 عاماً من الدم والغدر (12) ((عين الشيطان)) تغتال الشيخ العالم
80 عاماً من الدم والغدر (11) شكري مصطفى... هوس التكفير
كانت مياه النيل تمضي هادئة في نيل القاهرة، مطلع عام 1954 غير عابئة بالغليان السياسي الذي بات واضحاً في مجلس قيادة الثورة بمقره الواقع على نيل جزيرة الزمالك، مع خروج صراع محمد نجيب، وجمال عبدالناصر إلى العلن، والذي انتهى بانتصار الأخير، في وقت بدأت جماعة «الإخوان المسلمين» العمل على البحث عن حلفاء جدد، ولم تجد أفضل من الإنكليز لتوحيد الجهود ضد ناصر.
وصلت العلاقة بين «الإخوان المسلمين»، ونظام جمال عبدالناصر إلى طريق مسدود، فشهر العسل، والتحالف الوقتي في بدايات ثورة 23 يوليو 1952، انتهى سريعا بصدام عنيف، بعدما سعت الجماعة لاستخدام تنظيم الضباط الأحرار للوصول إلى السلطة، عبر إجبار الضباط على إعلان تبعيتهم للمرشد العام للجماعة، المواجهة بين الفريقين كانت على كل شيء، ولا تحتمل القسمة على اثنين، السلطة لم تكن تتسع إلا لفريق واحد، استخدمت جميع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، وإذا كان الضباط استخدموا أدوات السلطة لقمع الإخوان، فإن الجماعة مضت بعيدا، وسقطت في فخ العمالة بالتحالف مع بريطانيا، قوة الاحتلال، كما تكشفه تقارير رسمية صادرة عن المخابرات البريطانية.




المؤرخ البريطاني مارك كورتيس يرصد في كتابه «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، تاريخ العلاقات البريطانية الإخوانية، استنادا لوثائق أصلية في الأرشيف البريطاني، كاشفا عن أن المسؤولين البريطانيين الذين كانوا يعملون مع القصر في مصر، عقدوا أول اتصالاتهم المباشرة مع «الإخوان المسلمين» في سنة 1941، وقدموا منذ هذا التاريخ الأموال للجماعة، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان تنظيم الإخوان يعمل على التصدي لنمو التيارات اليسارية، والمعروف أن الإخوان نقلوا معلومات للحكومة للمساعدة في مطاردتها المستمرة للشيوعيين الحقيقيين والمشتبه بهم، خاصة في النقابات والجامعات.
وأشار كورتيس إلى أنه في أكتوبر 1951، انتخب الإخوان مرشدهم الجديد، القاضي السابق حسن الهضيبي، حيث إنه شخصية لم ترتبط علنا بالإرهاب، واشتهر بمعارضته لعنف الجماعة في الأربعينيات، بيد أن الهضيبي عجز عن تأكيد سيطرته على الشعب المتصارعة داخل التنظيم.
وذكر تقرير للسفارة البريطانية بالقاهرة في أواخر 1951 أن الإخوان «يملكون تنظيماً إرهابياً منذ عهد بعيد لم تقض عليه مطلقا إجراءات الشرطة، رغم الاعتقالات الأخيرة»، بيد أن التقرير من جانب آخر قلل من شأن نوايا «الإخوان» تجاه البريطانيين، ذاكراً أنهم «يخططون لإرسال إرهابيين لمنطقة القناة» لكنهم «لا يعتزمون جعل تنظيمهم يتصادم مع قوات صاحبة الجلالة»، ونبه تقرير آخر إلى أنه على الرغم من أن «الإخوان المسلمين» كانوا مسؤولين عن بعض الهجمات على البريطانيين، فربما كان هذا يرجع إلى «عدم الانضباط، ويبدو أنه يتعارض مع سياسة قادتهم».
وفي الوقت نفسه، في ديسمبر 1951، تبين الملفات البريطانية التي رفعت عنها السرية، واعتمد عليها كورتيس في إعداد كتابه، أن المسؤولين البريطانيين كانوا يحاولون ترتيب لقاء مباشر مع الهضيبي، وقد عقدت عدة اجتماعات مع أحد مستشاريه، يدعى «فرخاني بيه»، وهو شخص لا يعرف عنه الكثير ولم تكشف المصادر حقيقة اسمه، وتدل البيانات المستمدة من الملفات على أن قادة الإخوان كانوا مستعدين تماماً للقاء البريطانيين سراً، رغم دعوتهم العلنية لشن هجمات عليهم. وبحلول ذلك الوقت، كانت الحكومة المصرية تعرض على الهضيبي «رشا ضخمة» لمنع الإخوان من ارتكاب مزيد من أعمال العنف ضد النظام، حسب ما أوردت وزارة الخارجية البريطانية.
وعقب قيام ثورة «23 يوليو 1952»، ساند الإخوان الانقلاب، وفقاً لتسمية التقارير البريطانية، فقد أسعدتهم رؤية فاروق وهو يرحل، والواقع أنهم كانت لهم بعض الصلات المباشرة بالضباط الأحرار، ومن بينهم أنور السادات الذي وصف دوره فيما بعد بأنه كان وسيطا بين الضباط الأحرار وحسن البنا، وقد كتب السفير البريطاني في القاهرة، السير ريتشارد بومونت، بعد أن خلف السادات عبدالناصر رئيسا في 1970، يقول: «من الواضح أنه كان واحداً من الضباط الأحرار، يتم الاعتماد على صلته بهم للمساعدة في تدعيم أهدافهم السياسية»، ومنح الإخوان قادة الثورة تأييداً محلياً مهماً، وتم الحفاظ على العلاقات الطيبة باقي عام 1952، وطوال العام التالي في معظمه.

اجتماع الهضيبي

وفي أوائل 1953، اجتمع مسؤولون بريطانيون مباشرة بالهضيبي، ظاهرياً لمعرفة موقف «الإخوان» تجاه المفاوضات الوشيكة بين بريطانيا والحكومة المصرية الجديدة، في ظل نظام الضباط الأحرار، بشأن جلاء القوات البريطانية عن مصر، وكانت اتفاقية العشرين عاما الموقعة في 1936، والتي نظمت الوجود البريطاني في مصر، توشك أن تنتهي بعد فترة وجيزة كما هو مقرر، وحيث إن بعض الملفات البريطانية لاتزال قيد الرقابة، فليس من المعروف على وجه الدقة ما الذي حدث في هذه الاجتماعات.
لكن ريتشارد ميتشل، صاحب أهم دراسة عن «الإخوان المسلمين»، خلص إلى أن دخول «الإخوان» في هذه المفاوضات تم بطلب من البريطانيين واثار صعوبات بالنسبة لمفاوضي الحكومة المصرية، موفراً «للجانب البريطاني أداة للتأثير».
وأشار كورتيس إلى أن البريطانيين في سعيهم لاستطلاع وجهات نظر «الإخوان»، كانوا يرغبون في استخدام الجماعة للتدخل في شؤون الأمة المصرية، وكان الهضيبي في موافقته على إجراء المحادثات، يدعم هذه الفكرة وبذلك يضعف موقف الحكومة.
وأكد الصحافي المصري محمد حسنين هيكل هذه الوقائع، كاشفاً في كتابه «ملفات السويس»، تلقي عبدالناصر لتقارير عن الاجتماعات التي عقدها الهضيبي في بيته مع المستشار الشرقي للسفارة البريطانية، تريفور إيفانز، وأخبر الهضيبي البريطانيين رغبته في التحالف معهم حال الوصول إلى السلطة، على أن يمنح بريطانيا حقوقا دائمة في قاعدة قناة السويس بعد الانسحاب الرسمي لقوات الاحتلال، وهو ما جعل عبدالناصر يستشيط غضبا من هذه التقارير التي جاءت في وقت تتعثر فيه مفاوضات الجلاء مع الاحتلال البريطاني.
وعلى الفور خرجت الحكومة لتدين هذه الاجتماعات بين البريطانيين والإخوان باعتبارها «مفاوضات سرية من وراء ظهر الثورة»، واتهمت المسؤولين البريطانيين صراحة بأنهم يتآمرون مع الإخوان، كما اتهمت الهضيبي بأنه قبل شروطاً معينة للجلاء البريطاني عن مصر تغل أيدي مفاوضي الحكومة، وفي الحقيقة كانت الجماعة تتلاعب بالمواقف الوطنية من أجل تثبيت مكاسب خاصة بـ«الإخوان»، فالجماعة طوال تاريخها لم تهتم إلا بتحقيق مصالحها الشخصية، فالجماعة وفقا لشهادة المستشار طارق البشري، في كتابه «الحركة السياسية في مصر»، كان اهتمامها بالقضايا الوطنية ضعيفاً منذ الأربعينيات.

فرق تسد

ويقول صاحب كتاب «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، إنه يبدو من المعلومات المحدودة المتوافرة، أن الاستراتيجية البريطانية في التعاطي مع المشهد المصري، هي استراتيجية «فرق تسد» التقليدية، والتي تهدف لاكتساب «وسيلة للتأثير على النظام الجديد في سعيه لتحقيق مصالحه»، واستغلال البريطانيين للإخوان المسلمين لم يكن يمكن إلا أن يفاقم التوترات بين النظام والإخوان ويقوي مركز الجماعة.
وبينت مذكرات داخلية بريطانية أن مسؤولين في لندن أخبروا عبدالناصر عن بعض اجتماعاتهم مع الهضيبي وغيره من أعضاء جماعة «الإخوان»، وطمأنوه بأن لندن لا تفعل شيئاً في الخفاء.
بيد أن حقيقة إجراء المفاوضات نفسها زرعت بلا ريب الشك في عقل عبدالناصر، بشأن جدارة «الإخوان» بالحصول على ثقته، وفي ذلك الوقت، كان المسؤولون البريطانيون يعتقدون أن الإخوان وجماعتهم شبه العسكرية، رهن إشارة النظام المصري، في إطار مقاربة الجماعة القائمة على تأييد بلا تحفظ للضباط الأحرار مقابل الدفاع عن نظام يوليو بسخاء، في مقابل تنفيذ أجندة الإخوان الخاصة، الهادفة إلى إحكام قبضة المرشد على السلطة من وراء ستار.
وتحتوي ملفات الأرشيف البريطاني على مذكرة تتضمن تفاصيل اجتماع عقد بين المسؤولين البريطانيين، والإخوان في 7 فبراير 1953، أخبر فيه شخص اسمه «أبورقيق»، وهو قد يكون القيادي الإخواني صالح أبورقيق، المستشار الشرقي للسفارة البريطانية، تريفور إيفانز، أنه: «إذا بحثت مصر في كل أرجاء العالم عن صديق فلن تجد سوى بريطانيا»، وفسرت السفارة البريطانية في القاهرة هذا التعليق بأنه يكشف عن وجود مجموعة داخل قادة الإخوان مستعدة للتعاون مع بريطانيا، حتى وإن لم تتعاون مع الغرب، إذ كانوا عديمي الثقة في النفوذ الأميركي.
ويرد في ملاحظة مكتوبة بخط اليد في جزء من مذكرة السفارة: «إن هذا الاستنتاج له ما يبرره على ما يبدو وهو يدعو للدهشة»، كما تلاحظ المذكرة أن الاستعداد للتعاون «ربما ينبع من تزايد نفوذ الطبقة الوسطى في الإخوان».
وأصبح الاستعداد الجلي للتعاون بين البريطانيين و«الإخوان» أكثر أهمية بحلول نهاية 1953، ففي ذلك الوقت كان نظام عبدالناصر يتهم الإخوان بمقاومة الإصلاح الزراعي وتدمير الجيش من خلال «جهازهم السري»، وفي يناير 1954، تصادم أنصار الحكومة و»الإخوان» في جامعة القاهرة، وأصيب عشرات الأشخاص وجرى إحراق سيارة جيب تابعة للجيش، ودفع هذا عبدالناصر إلى حل التنظيم، وكان من بين القائمة الطويلة من الاتهامات الموجهة للإخوان في مرسوم الحل، الاجتماعات التي عقدها الإخوان مع البريطانيين، التي رفعها النظام فيما بعد إلى مستوى «معاهدة سرية».




تحالف جديد


وبدأ البريطانيون يتآمرون مع الإخوان أنفسهم لتحقيق الغايات نفسها في التخلص من عبدالناصر بأي ثمن، وخلال سنوات ثلاث من النظام الجديد، شملت إصلاحات عبدالناصر الداخلية إعادة توزيع الأراضي لمصلحة فقراء الريف، واتخاذ خطوات نحو تعزيز الإصلاح الدستوري للحكم ليحل محل الحكم المطلق، وهو ما تسبب في غضب الإنكليز، لأن هذه القرارات ساعدت على زيادة شعبية عبدالناصر، ويلاحظ السفير البريطاني في القاهرة السير رالف ستيفنسون، الذي كان قد تقرر رحيله، أن نظام عبدالناصر كان «جيدا بقدر ما كانت أي حكومة مصرية سابقة منذ 1922، وهو أفضل من أي نظام في أحد الجوانب، ألا وهو محاولته أن يفعل شيئاً لشعب مصر بدلا من مجرد الحديث عنه».
وطالب ستيفنسون، من وزير الخارجية، هارولد ماكميلان في حكومة أنطوني إيدن، مساعدة حكومة عبدالناصر، قائلا «إنهم «قادة مصر» يستحقون، في رأيي، كل مساعدة تستطيع بريطانيا العظمى أن تقدمها لهم على الوجه الصحيح»، وبعد كتابة هذه المذكرة بتسعة أشهر، قرر البريطانيون إزاحة عبدالناصر، ورغم فشل محاولة اغتيال عبدالناصر في المنشية، فإن الاتصالات الإنكليزية الإخوانية تواصلت بعد ذلك.
كان البريطانيون والأميركيون في قمة انخراطهم في تدبير مؤامرات للانقلاب ضد الأنظمة العربية التي خلفتها حركة التحرر، خصوصاً في سورية ومصر، باعتبارها جزءاً من عملية إعادة تنظيم أكبر لمنطقة الشرق الأوسط لدحر «فيروس القومية العربية»، وحسب ما جاء في مذكرة بالغة السرية لوزارة الخارجية لم يكشف عنها إلا في مطلع القرن الواحد والعشرين، فإن رئيس الولايات المتحدة داويت أيزنهاور، وصف للبريطانيين «الحاجة إلى خطط ميكافيلية رفيعة المستوى للتوصل لوضع موات لمصالحنا في الشرق الأوسط»، يمكنه أن «يقسم العرب ويهزم أهداف أعدائنا»، في إشارة إلى الخطر السوفياتي الذي بدأ يلوح في شرق المتوسط.
وفي مارس 1956، عزل الملك حسين عاهل الأردن الجنرال البريطاني جون جلوب قائد الفيلق العربي، وهي خطوة حمل إيدن وبعض المسؤولين البريطانيين مسؤوليتها لنفوذ عبدالناصر، وعندئذ كانت الحكومة البريطانية قد خلصت إلى أنها لم تعد تستطيع العمل مع عبدالناصر، وأن تخطيطاً بريطانياً وأميركياً جاداً للإطاحة بنظامه قد بدأ، وأخبر إيدن وزير خارجيته الجديد، أنطوني ناتنج، أنه يريد «اغتيال» عبدالناصر، وكان هذا قبل اتخاذ الأخير لقراره بتأميم قناة السويس في يوليو 1956، وهو عمل كان من المحتم أن يؤدي إلى خسارة مصالح بريطانيا ومصادر قوتها الواحدة تلو الأخرى في الشرق الأوسط، كما شرح إيدن في مذكراته، خائفا من تأثير التداعي الذي سيترتب على الإجراء الذي اتخذته مصر.
وقد شرح الموقف الوكيل الدائم لوزارة الخارجية، غيفون كيربابتريك، قائلاً: «إذا سمحنا لعبدالناصر أن يفلت بضربته في قناة السويس، فإن العاقبة ستتمثل في القضاء على الملكية في السعودية»، وذلك لخوفه من أن تستلهم القوى الوطنية تحدي عبدالناصر الناجح للغرب في مصر.
ويقر كورتيس الذي ألف كتابه في 2010 بأن الكثير من الملفات البريطانية الخاصة بأزمة «قناة السويس» قيد الرقابة رغم مرور عقود طويلة عليها، لكن بعض المعلومات تسربت على مر السنين حول مختلف المحاولات البريطانية للإطاحة بعبدالناصر أو اغتياله، وانطوت واحدة على الأقل من هذه الخطط على التآمر مع «الإخوان المسلمين»، ويلاحظ ستيفن دوريل أن المسؤول التنفيذي السابق عن العمليات الخاصة وعضو البرلمان، بيل ماكلين، وسكرتير «مجموعة السويس» البرلمانية، جوليان إيمري، ورئيس محطة المخابرات الخارجية البريطانية في جنيف، نورمان دارشير، أجروا جميعا اتصالات بـ»الإخوان» وعقدوا لقاءات في سويسرا.
وكان ذلك في هذه المرة جزءاً من علاقاتهم السرية مع المعارضة لعبدالناصر، ولم يظهر مطلقا المزيد من التفاصيل عن اجتماعات جنيف هذه، لكنها ربما انطوت على بحث تنفيذ محاولة للاغتيال وإقامة حكومة في المنفى تحل محل عبدالناصر بعد حرب السويس.
وفي سبتمبر 1956، أجرى مسؤولون بريطانيون اتصالا مع مسؤول سعودي في جنيف أخبروه بوجود «معارضة سرية ضخمة لعبدالناصر هناك»، والواقع أنه كان يخشى أن يؤدي تأميم عبدالناصر لقناة السويس إلى القضاء على المعارضة المصرية، وكان مفهوم المعارضة المصرية عند الإنكليز ينحصر في «الإخوان».
وعلى وجه التأكيد، كان المسؤولون البريطانيون يرصدون بانتباه أنشطة الإخوان المعادية للنظام، ويعترفون بأنها قادرة على أن تشكل تحدياً جاداً لعبدالناصر، وهناك أيضا أدلة على أن البريطانيين أجروا اتصالات مع التنظيم في أواخر 1955، عندما زار بعض الإخوان الملك فاروق، الذي كان حينذاك منفيا في إيطاليا، لبحث التعاون ضد عبدالناصر.
واكتشفت السلطات المصرية في أغسطس 1956، حلقة تجسس بريطانية في البلاد وألقت القبض على أربعة من رعايا بريطانيا، منهم جيمس سوينبرن، وكان يعمل مدير أعمال في وكالة الأنباء العربية، وهي واجهة لهيئة المخابرات المركزية في القاهرة، وتم طرد اثنين من الدبلوماسيين البريطانيين تورطا في جمع الاستخبارات، ومن الواضح أنهما كانا على اتصال «بعناصر طلابية لها اتجاهات دينية» بفكرة «تشجيع أعمال الشغب التي يقوم بها الأصوليون والتي يمكن أن توفر مسوغاً للتدخل العسكري لحماية أرواح الأوروبيين».
وفي أكتوبر، شنت بريطانيا في تحالف سري مع فرنسا وإسرائيل، غزواً على مصر للإطاحة بعبدالناصر، لكن رفض الولايات المتحدة تأييد التدخل هو في الأساس الذي أوقفه، وتم الاضطلاع بالغزو والبريطانيون يدركون أن «الإخوان المسلمين» قد يصبحون هم المستفيد الأول ويشكلون حكومة ما بعد عبدالناصر، وتبين المذكرات أن المسؤولين البريطانيين كانوا يعتقدون في هذا السيناريو، ومع ذلك خشى المسؤولون البريطانيون من أن ينتج استيلاء الإخوان على السلطة، شكلاً أكثر تطرفا من الحكم في مصر، ومرة ثانية، فإن هذا لم يوقفهم عن العمل مع هذه القوى.
وبعد هزيمة عبدالناصر للبريطانيين ببضعة أشهر، كان تريفور إيفانز، وهو المسؤول الذي قاد الاتصالات البريطانية مع الإخوان قبل أربع سنوات، يكتب مذكرات في مطلع 1957 يوصي فيها بأن «اختفاء نظام عبد الناصر... يجب أن يكون هدفنا الأول»، ولاحظ مسؤولون آخرون أن الإخوان ظلوا نشيطين ضد عبدالناصر في الداخل والخارج على حد سواء، خصوصا في الأردن حيث كان يتم شن «حملة دعاية ضارية» ضده، وتبين هذه المذكرات أن بريطانيا ستواصل التعاون مع هذه القوى في المستقبل القريب، وقد حدث هذا فعلاً فيما بعد.
هكذا ترصد الوثائق البريطانية الاتصالات السرية بين الإنكليز والإخوان، وسط مساعي الجماعة للإطاحة بنظام عبدالناصر، وكيف وصلت الجماعة إلى الدرك الأسفل من الخيانة، باختيارها التعاون مع الدولة التي احتلت مصر ونهبت خيراتها لأكثر من 70 عاما، وكيف تقبلت جماعة «الإخوان» بكل رضى أن تتحول إلى مجرد قفاز في يد الاستعمار البريطاني لضرب السلطة الوطنية للبلاد، بغض النظر عن أي حديث عن عمق الخلافات بين ناصر والإخوان، وفي هذه الأجواء من الخيانة لم يكن غريبا أن تخطط «الإخوان» لعملية اغتيال عبدالناصر بأعصاب باردة.
... يتبع
 
/ 80 عاماً من الدم والغدر (7) ... 8 رصاصات... ولحظات فاصلة
80 عاماً من الدم والغدر (7) ... 8 رصاصات... ولحظات فاصلة



الخميس 09 يوليو 2015 - الساعة 00:01
وصل الصراع إلى ذروته بين جمال عبدالناصر وجماعة «الإخوان المسلمين» في سنة 1954، فالجماعة التي راهنت من قبل على محمد نجيب، رأت كيف سقط سريعاً وخرج من معادلة السلطة وحساباتها المعقدة، كان «الإخوان» وتنظيمهم الخاص يدركون جيداً أنه لا ستار يعملون من خلفه، وأن المواجهة مع عبدالناصر وثورة يوليو باتت وجها لوجه، هنا عادت الجماعة إلى سلاحها القديم، الإرهاب بسيف الاغتيال.

1436361323_59_4.jpg

1436361323_76_1.jpg

1436361323_87_2.jpg

1436361324_01_3.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-
أخبار ذات صلة
80 عاماً من الدم والغدر (15)
دماء السادات على منصة النصر

80 عاماً من الدم والغدر (14)
الطريق إلى المنصة

80 عاماً من الدم والغدر (13)
80 عاماً من الدم والغدر (12) ((عين الشيطان)) تغتال الشيخ العالم
80 عاماً من الدم والغدر (11) شكري مصطفى... هوس التكفير
قطعت المفاوضات بين مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952، بقيادة جمال عبدالناصر، وبين قوات الاحتلال البريطاني شوطا كبيرا، واقتربت اللحظة التي ناضل من أجلها الشعب المصري طوال 70 عاما، اللحظة التي يغادر فيها آخر جندي بريطاني التراب المصري بلا عودة، في تلك الأثناء، كان عبد الناصر قد أحكم قبضته على السلطة، وفكر جديا في اختيار شخصية مدنية ذات قبول عام لتولي منصب رئاسة الجمهورية بصورة شرفية، على أن يتولى هو إدارة شؤون البلاد من خلال منصب رئاسة الوزراء، ووفقا لمحمد حسنين هيكل في كتاب «ملفات السويس»، فإن عبد الناصر وقع اختياره على أستاذ الجيل، أحمد لطفي السيد، أحد أبرز المفكرين المصريين ومن كبار ممثلي التيار الليبرالي –وقتذاك- لكن لطفي السيد اعتذر وأكد لعبد الناصر أن من بدأ الطريق عليه المضي فيه قدما.
أدرك «الإخوان» أن بقاء عبد الناصر في السلطة فترة أطول سيمكنه من تثبيت دعائم نظامه، وأن عملية إزاحته ستصبح ضربا من المستحيل، لذلك بدأت الجماعة تفكر جديا في التخلص من عبد الناصر، خاصة أن الأخير كان يعاني من عدم حصوله على الإجماع الشعبي بعد، فقطاع من الشعب أعرب عن انحيازه لمحمد نجيب، فيما كانت مفاوضات الجلاء تستغرق جلّ وقت عبد الناصر، لأن فشل المفاوضات يعني خسارته للملف الأبرز الذي تصدى لإدارته بصورة منفردة.
بدأت جماعة «الإخوان» تستغل مفاوضات الجلاء للضغط على عبدالناصر، في محاولة لإظهاره بمظهر المفرط في الثوابت الوطنية، وحشد الشعب ضده عبر حرب المنشورات التي بدأت الجماعة في نشرها بصورة سرية لتشويه عبد الناصر عبر اتهامه بالخيانة والعمالة للإنكليز، والادعاء ظلما بأنه يحارب الإسلام، بل إن بعض هذه المنشورات تجاوزت في حق عبد الناصر فاتهمته بأنه أثث بيته بمفروشات من القصور الملكية المصادرة عن طريق لجنة جرد القصور، وهو الاتهام الباطل بشهادة القيادي الإخواني محمد خميس الذي أكد أنه لا يوجد في بيت عبد الناصر من الأثاث «سوى العفش اللي كان فيه من أيام زواجه».
كان غرض الإخوان واضحا هو حشد الشعب ضد عبد الناصر عبر إلحاق الاتهامات الجزافية له، كان يقف خلف هذه الحملة التنظيم الخاص الذي أعيد ترتيبه منذ مطلع 1953، وبات يتحكم في أجهزة الجماعة الداخلية، لينعكس الوضع على مكانة حسن الهضيبي الذي بات مرشدا اسما للجماعة، لا يدري حقيقة ما يجري في الاجتماعات السرية لقادة التنظيم.
ووفقا للمؤرخ ريتشارد ميتشل، فإن الهضيبي ظل غير مدرك لحقيقة أن التنظيم الخاص قد عاد إلى سابق عهده، بعد أن استطاع القيادي الإخواني عبد المنعم عبد الرؤوف تنفيذ برنامج تجنيدي جديد زادت سرعة إيقاعه بعد الإفراج عن كوادر الجماعة عقب أزمة مارس 1954، فأقيمت سلطة عليا للتنظيم بدأت في استهداف قيادات في تنظيم الإخوان ذاته، بعد قرار حل الجماعة في يناير 1954، والذين تسبب عدم إلقاء قوات الأمن القبض عليهم في شائعات داخل التنظيم بتواطئهم مع النظام المصري.

أفكار الاغتيال

صعَّد التنظيم الخاص من أدائه، فقرر توجيه أسلحته ضد نظام عبد الناصر، من خلال تبني مفهوم «الانتفاضة الشعبية» للإطاحة بنظام 23 يوليو، وكان صاحب هذه الفكرة هو عبد المنعم عبد الرؤوف، القيادي الإخواني الذي فر من محبسه، ولاقت الفكرة تأييدا من قبل قيادات التنظيم الخاص، ما شجع عبدالرؤوف على طرح عدة أفكار إرهابية أخرى، كلها تتعلق بكيفية اغتيال عبدالناصر، ومن ضمن تلك الأفكار كان ارتداء بعض أعضاء التنظيم السري ثيابا عسكرية لكي يسهل دخولهم إلى مقر مجلس قيادة الثورة بوسط القاهرة، بهدف تفجير المبنى وقتل كل من فيه بداية من عبد الناصر نفسه، وانتهاء بكل الوزراء، مرورا بأعضاء مجلس قيادة الثورة.
ولقيت إحدى أفكار عبد الرؤوف تجاوبا داخل التنظيم، مع تطوير الفكرة لكي تستهدف قتل عبد الناصر وحده، باستخدام حزام ناسف من الديناميت يرتديه أحد أعضاء الجماعة، ليتقدم إلى عبد الناصر، ويفجر الحزام ليأخذهما معا إلى الدار الآخرة، لكن ما عاق تنفيذ هذا المقترح عدم تطوع أي من أعضاء الجماعة لتنفيذ هذه العملية الانتحارية.
لذلك تم تأجيل فكرة الاغتيال إلى حين، مع التركيز أكثر على فكرة لاقت تجاوبا أكبر في صفوف الجماعة، وهي تنفيذ ثورة شعبية باستغلال حالة السخط المتفشية في صفوف القوى السياسية المدنية المعارضة لنظام يوليو، فضلا عن أن صراع عبد الناصر ونجيب ألقى بظلال كئيبة على وحدة الجيش المصري، مع الحديث عن انحياز سلاح الفرسان لصالح نجيب، وهو ما رأت فيه الجماعة فرصة لتقسيم الجيش والعمل على إضعافه من أجل ضمان عدم تدخله لقمع تحركات الإخوان في الشارع.
وتلخص المخطط في تنفيذ مظاهرة شعبية ضخمة من عناصر الإخوان، يمكن إقناع القوى السياسية المختلفة بالانضمام إليها، بالتزامن مع تنفيذ انقلاب عسكري بقيادة نجيب والقيادات المؤيدة له داخل الجيش، لإصابة عبدالناصر بالشلل، وإذا ما تكلل المخطط بالنجاح فسيتولى نجيب إدارة البلاد وإعادة تشكيل مجلس قيادة الثورة، على أن يتولى الإخوان إدارة البلاد من وراء ستار، وكان تخطيط عبد الرؤوف قائما على أن تكون مسيرات الإخوان مسلحة، مع تنفيذ عمليات اغتيال واسعة لأعضاء مجلس قيادة الثورة.
ورغم علم الهضيبي بهذه المخططات إلا أنه تمسك بأمرين، الأول عدم استخدام العنف والاكتفاء بتنظيم تظاهرات سلمية، والثاني التشديد على عدم تحرك الإخوان إلا بعد تحرك محمد نجيب والجيش، لكن قيادات التنظيم السري لم تهتم كثيرا بتوصيات الهضيبي، ومضت في خطة اغتيال عبد الناصر، بعدما تبين أن الجيش في مجمله يدين بالولاء لعبد الناصر، وظهر للجميع أنه لا يمكن الاستناد إلى التحالف مع نجيب.
وعلى الفور تم اختيار «سمكري» من ضاحية إمبابة شمال الجيزة، يدعى محمود عبد اللطيف، لكي ينفذ عملية اغتيال عبد الناصر، وكان قائد قطاع إمبابة، المحامي هنداوي دوير، هو من تولى إبلاغ عبد اللطيف بهذا القرار، وترك له ثلاثة أيام مهلة لاتخاذ قراره، لكن في 19 أكتوبر 1954 وقع جمال عبد الناصر معاهدة الجلاء مع الإنكليز، وهو مكسب وطني كانت تطالب به مختلف القوى السياسية منذ بداية الاحتلال البريطاني في 1882، لكن الإخوان زايدوا على عبد الناصر في محاولة يائسة لإحراجه بالحديث عن أن المعاهدة تعد خيانة لآمال الأمة المصرية.
رصاصات قاتلة

حسم عبد اللطيف أمره وقرر تنفيذ العملية في نفس يوم توقيع عبد الناصر على المعاهدة، لكنه أجل تنفيذ العملية نظرا لشدة الازدحام وقتها، معطيا لنفسه مهلة لتجهيزات أكثر استحكاما، واتبع الإخوان منهج التمويه من خلال محاولة إظهار الجماعة بصفتها مؤيدة للمعاهدة، فزار القيادي الإخواني البارز كمال خليفة، مقر الحكومة المصرية، وقدم التهنئة للحكومة على إنهائها الناجح للمفاوضات وكان ذلك يوم 24 أكتوبر.
وفي يوم 26 أكتوبر وبينما يجلس ممثل الإخوان مع أنور السادات لبحث تصفية الأجواء بين النظام والإخوان، في تلك اللحظة كان رئيس قطاع الأسر الإخوانية، عبد العزيز كامل، يزور منزل هنداوي دوير في حي إمبابة، فيما كان الأخير قد أرسل محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية لتنفيذ عملية اغتيال عبد الناصر. ويروي هنداوي في تقارير «محكمة الشعب» تفاصيل تلك اللحظة الحاسمة قائلا: «جاني (أي عبد اللطيف) وقال لي: أنا مسافر إسكندرية، قلت له: ليه يا محمود؟ قال: والله أنا قرأت في جريدة القاهرة إن الرئيس مسافر إسكندرية، قلت له: يا محمود بلاش الحكاية دي، بلاش السفر لإسكندرية، قال: لا، أنا حسافر، وفعلا سافر».
وفي مساء 26 أكتوبر، كان عبد الناصر يلقي خطابه أمام الآلاف من المواطنين وسط ميدان المنشية في الإسكندرية، متحدثا عن كفاح مصر والمصريين لنيل الاستقلال الذي تكلل بتوقيع اتفاقية الجلاء، وفي تلك اللحظات سمع دوي إطلاق النار، ثماني رصاصات قاتلة اخترقت الصمت، وقطعت خطاب عبدالناصر الحماسي، لم يسمع المصريون عبر موجات الراديو إلا صوت طلقات الرصاص ثم أصوات متداخلة، أجواء جعلت المصريين ينصتون في وجل، ثوان معدودات اكتسبت ديمومة طويلة، كانت البلاد في مفترق طرق، واغتيال عبدالناصر في تلك اللحظة كان سيعصف بالبلاد في طريق الفوضى.
عاد الأمل للمصريين سريعا عندما استمعوا لصوت عبد الناصر يهتف «أيها الرجال فليبق كلٌ في مكانه، حياتي فداء لمصر، دمي فداء لمصر، أيها الرجال، أيها الأحرار، أتكلم إليكم بعون الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا علي، إن حياة جمال عبدالناصر ملك لكم، عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملا من أجلكم ومكافحا في سبيلكم، سيروا على بركة الله، والله معكم ولن يخذلكم، فلن تكون حياة مصر معلقة بحياة جمال عبدالناصر، إنها معلقة بكم أنتم وبشجاعتكم وكفاحكم، إن مصر اليوم قد حصلت على عزتها وعلى كرامتها وحريتها، سيروا على بركة الله نحو المجد نحو العزة نحو الكرامة».
لم تصب الرصاصات عبد الناصر، وإن كانت أصابت أحد الضيوف السودانيين وقتلته في الحال، لكن رسالة الإخوان الإرهابية كانت قد وصلت للجميع، معلنة تحديها لعبد الناصر في لعبة السلطة، ملقية بقفاز التحدي في وجه نظام يوليو، لكن مع فشل عملية الاغتيال سارع البعض لتبرئة ساحته، فهذا رئيس وزراء بريطانيا –آنذاك- ونستون تشرشل يرسل رسالة شخصية لعبد الناصر يقول فيها: «أهنئك بنجاتك من الهجوم الخسيس الذي وقع على حياتك في الإسكندرية مساء أمس».

تهرب المرشد

حاول مرشد «الإخوان» تجاهل الواقعة والظهور بمظهر الحليف الذي يهتم بصحة عبد الناصر، فبعث إلى عبدالناصر بالخطاب التالي مكتوبا بخط يده، جاء فيه: «وجدت أثناء قدومي من الإسكندرية أمس محوطا بمظاهر توحي بأن الحكومة تتوقع قيام «الإخوان المسلمين» بحركة، ربما كانت لأخذي عنوة، ولو أن الحكومة أعلنت رغبتها في مجيئي لبادرت والله بالمجىء، أسعى إليها من تلقاء نفسي دون أن يحرسني حارس، على أن هذه المظاهر قد أورثتني حسرة وجعلتني أتمنى لو وهبت البلد حياتي في سبيل جمع الكلمة وصفاء النفوس، فأحببت أن أبادر بالكتابة إليك، أرجو أن يتسع صدرك للقائي بضع دقائق أشير عليك فيها بما يحقق أمانيك وأمانيَّ، وأنا أعلم أنك قد تكون راغبا عن هذا اللقاء، ولذا تركت أمر تدبير الجماعة، من نحو خمسة أشهر، إلى غيري فلم يصلوا معك إلى شيء، وأريد الوصول إلى شيء، حتى يتجه البلد كله اتجاها واحدا، ثم لا يجدني أحد في مكاني الذي أنا فيه من الإخوان».
وأبادر فأقول لك: إن ما سمي اختفاء قد أدهشني أن ينسب إليَّ تدبير جرائم، فهذا كان مفأجاة لي وأقسم بالله العظيم وكتابه الكريم إني ما علمت بوقوع جريمة الاعتداء عليك إلا في الساعة التاسعة صباح اليوم التالي، ولا كان لي بها علم وقد وقعت من نفسي موقع الصاعقة لأنني ممن يعتقدون أن الاغتيالات مما يؤخر حركة الإخوان ويؤخر الإسلام والمسلمين ويؤخر مصر.
وقد كنا بحثنا هذه المسألة (الاغتيالات) في الجماعة منذ زمن بعيد واستقر رأينا على ذلك، وأخذنا نوجه الشباب إلى هذه الحقيقة، حتى لقد مضى وجودي بينهم ثلاث سنوات لم يقع فيها شيء من العنف، ولست أجد سببا لذلك بنعمة الله، ولا اختلفنا على كثير، وإنما جسم الخلاف أنه لا يسمح لي بإدلاء رأيي، فأما المعاهدة فإنى كنت أخبرتكم أن الإخوان لا يوافقون على معاهدات وأعداؤهم في داخل البلاد، ولكنهم يصرحون أن هذه المعاهدة قد قربت البلاد من أمانيها قربا كبيرا، ونلح في استكمال الباقي حتى لا يطمع الإنكليز فينا، وهذا هو محصل رأيك أنت في المسألة.
وأما مسألة الحملة التي شنها عليك الإخوان في سورية فإني لا أعلم بها ولا بتفاصيلها، فإن عبد الحكيم عابدين (عضو مكتب الإرشاد)، ودعنا في المطار يوم 3 يونيو، ولم أره إلى الآن ولم يكن بيني وبينه أي نوع من الاتصال، وحين عدت بعد عيد الأضحى وجدته ذهب لأداء فريضة الحج، ويجب أن نتحقق عما إذا كان قد اشترك في هذه الحملة، وحضر اجتماعاتها.
وقد بلغني أنه رماك بأنك قابلت رجالا من إسرائيل في أثناء سباحتك في البحر، وهذه على وجه الخصوص إذا كان قد قالها أحد، لا يقره عليها بل يستنكره كل الاستنكار، وفوق ذلك فإنها (واقعة عبد الحكيم عابدين بذلك) حصلت أيام اعتكافي، وأما هذا الاعتكاف فقد أشار عليَّ به الإخوان لسبب ما هو الخوف من وقوع حوادث مؤسفة على أثره، ولقد كنت أخبرت الإخوان بأن أضع استقالتي تحت تصرفهم إذا وجدوا في وجودي ما يعطل الاتفاق بينهم وبين الحكومة، وأكدت ذلك لهم بخطاب أرسلته لهم من هناك وتركت لهم التصرف في شؤونهم من تلقاء أنفسهم.
هذا وقد يكون في المشافهة خير كثير ــ إن شاء الله ــ وقد يكون في نفسك أشياء تحب أن تستجليها، ولا أذكر التحقيق الذي يجري، فإني متحمل كل ما يمس شخصي، وسأدفعه بإذن الله بما يريح نفسك إلى الحق الذي هو بغية الجميع، هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقكم ويوفق البلاد كلها للخير والحرص على الوئام».
... والسلام عليكم ورحمة الله.... المخلص حسن الهضيبي

اعترافات متهم

هل هناك أفضل من شهادة صانع الحدث، اعترافات المتهم هي أقصر طريق إلى الحقيقة، لكن هل تبرع الشاب محمود عبد اللطيف باعتراف كامل تحت الضغط والتعذيب؟ هل الاحتمال قائم بقوة، لكن على كل حال تظل لتلك الوثيقة الملطخة بخط اليد التي أطلقت الرصاص على عبد الناصر أمراً جديراً بالالتفات إليها، خاصة أن الاعتراف جاء في معرض الفخر بالجريمة الإرهابية، نتنحى أمام الوثيقة التي كتبت والأحداث ساخنة لا ينقصها الجدة، لتقص علينا بعض ما جرى.
قدم عبد اللطيف اعترافه الكامل إلى محكمة الشعب التي كانت تتولى محاكمته علنيا، والتي انفرد بنشرها محمد حسنين هيكل في كتابه «ملفات السويس»، جاء فيها بالنص:
«بسم الله الرحمن الرحيم»، وبه نستعين،،،
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
سيدي رئيس محكمة الشعب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن الله حق يحب الحق: أنا محمود عبد اللطيف محمد انضممت إلى «الإخوان المسلمين» من سنة 1942، وكان اعتقادي في هذه المدة أن هذه الجماعة تعمل لله، وأن قادة الإخوان لا يأمرون إلا بما فيه خير الإسلام والمسلمين، فكنت أسمع كل أمر في طاعة ودون تردد أو مناقشة، لأن هذا صادر عن أناس مسلمين يعملون للإسلام ويقدرون مسؤولية الله في أي عمل يعملونه فكنت معهم على هذا الأساس، وكنت أعيب على بعض الطلبة حين يناقشون في أي أمر، وأقول في نفسي إن الطلبة عندهم حب الجدال في أي شيء.
وكان كل أمر يأتيني من الإخوان أرى أن في طاعة هذا الأمر طاعة لله خالصة حتى ضموني إلى النظام السري في هيئة الخلية المكونة من ثلاثة أفراد وبعد تكوين هذه الخلية بقليل طلبوا مني أنا وسعد حجاج مراقبة منزل أنور السادات وجريدة «الجمهورية» مقر عمله، ومراقبة الحراسة عليه وطريقة مهاجمته لاغتياله، وبعد دراسة وافية استقر الأمر على مهاجمته في باب دار الجريدة، وفي هذا الحين قرأت الاستخارة لأتبين حقيقة الأمر، هذه الاستخارة أيضا قد علمنا إياها الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة المأثورات، وهي الأدعية والأوراد الثابتة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وفائدتها أن الأمر إن كان خالصا لوجه الله ييسره الله، وإن كان غير ذلك يوقفه الله.
وبعد قراءتي لهذه الاستخارة أتاني الأخ توفيق المكلف بهذه المهمة، وقال: انتظروا حتى يأتي أمر التنفيذ، وبعد ذلك انقطع عنا مدة حتى علمت بعد ذلك أنه قبض عليه خارج القاهرة، وتسلم مكان توفيق هنداوي دوير، وقال أنا أعطيكم الأوامر، فقلت خيرا إن شاء الله، وقبل الحادث بأسبوع أخبرني أنا وسعد حجاج بأمر الإخوان باغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، وقال لنا أي واحد منا نحن الثلاثة تتاح له الفرصة ينفذ هذا الأمر ففي هذا الحين قرأت أيضا الاستخارة، وبعدها بيوم قال هنداوي: أوقف الأمر، وكان لم يعطني سلاحا بعد، وبعدها بيومين أحضر لي السلاح وقال سر على بركة الله.
وقبل الحادث بيوم قابلته وأخبرته أن الرئيس مسافر إلى الإسكندرية لإقامة احتفالات شعبية، وأني معتزم السفر فتردد قليلا ثم قال سافر على بركة الله، وارتكبت الحادث ومن نعمة الله علي أني لم أذهب بدماء الرئيس جمال عبد الناصر، وأقف بين يدي الله بها، وعلمت من التحقيق في الجلسة الثانية من هنداوي دوير أن هذا الاغتيال السياسي لم يكن من الإسلام في شيء، وإنما هو ميراث ورثناه من قبل، وفي رأيي أن هذه العبارة هي من قول الكافرين الذين قالوا «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» [الزخرف: 23].
فلو كنت أعلم هذا من قبل لناقشت كل أمر يأتيني من الإخوان، وأنا كنت أول ضحية في هذا الشأن لأني كنت أخذ كلامهم عن ثقة ويقين بأنه للإسلام، فأحب أن أنبه جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى هذا بألا يأخذوا من أي أحد يثقون به من المسلمين أمرا حتى يتبينوا حقيقة هل هو لله والإسلام أم لغير ذلك، وإني قلت هذا الكلام لا طمعا في تخفيف العقوبة ولكنه إحقاقا للحق، والأمر بين يدي عدالة المحكمة، فهي صاحبة الشأن والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام عليكم يا سيدي الرئيس ورحمة الله وبركاته... «محمود عبد اللطيف محمد».
جاء ردّ الفعل قويا وعنيفا من قبل نظام عبد الناصر، فالرجل استغل حادثة الاغتيال لتثبيت شرعيته وبناء قاعدة شعبية مؤيدة له، كما مكنته الحادثة من حسم الصراع مع خصومه بشكل نهائي، فمحمد نجيب خرج من السلطة إلى الأبد، وتم العصف بجماعة «الإخوان المسلمين»، ومحاكمة بعض القائمين على مخطط الاغتيال، بينما ألقي بكوادر التنظيم الإرهابي في السجون، وكان من بين مَن اعتقلوا سيد قطب، وحكم عليه بالسجن خمسة وعشرين عاما أشغالا شاقة، وقد أصبح بحلول الستينيات من المنظرين الأساسيين للتطرف الإسلامي بكتاباته في سجن عبد الناصر، ما قاد إلى المواجهة الثانية بين الزعيم والتنظيم.



spacer.gif
 
التعديل الأخير:
/ 80 عاماً من الدم والغدر (8): سيد... قطب الإرهاب
80 عاماً من الدم والغدر (8): سيد... قطب الإرهاب



الجمعة 10 يوليو 2015 - الساعة 00:01
لم تكن محاولة اغتيال الإخوان لجمال عبد الناصر المحاولة الوحيدة التي استخدمت فيها الجماعة أسلوب الإرهاب والغدر، فمواجهة عام 1954 خلفت حقدا دفينا لدى الإخوان إزاء نظام عبدالناصر، ما جعل التنظيم ينتظر الفرصة ليضرب من جديد، تزامن ذلك مع صعود سيد قطب داخل الجماعة موفرا الجانب التنظيري لمنظومة التكفير وجاهلية المجتمع، وهي القاعدة التي خرج من عباءتها مختلف التنظيمات الإرهابية بعد ذلك.

1436442120_83_3.jpg

1436442121_19_1.jpg

1436442121_32_4.jpg

1436442121_44_2.jpg

كتب الخبر: حسن حافظ
T+ | T-
أخبار ذات صلة
80 عاماً من الدم والغدر (15)
دماء السادات على منصة النصر

80 عاماً من الدم والغدر (14)
الطريق إلى المنصة

80 عاماً من الدم والغدر (13)
80 عاماً من الدم والغدر (12) ((عين الشيطان)) تغتال الشيخ العالم
80 عاماً من الدم والغدر (11) شكري مصطفى... هوس التكفير
جرت في نهر السياسة المصرية الكثير من المياه منذ تلك اللحظة التي وقع فيها الصدام بين جمال عبد الناصر وجماعة «الإخوان المسلمين» سنة 1954، وهي المواجهة التي خرجت منها الأخيرة منهكة مهيضة الجناح، بعدما نجح عبد الناصر في توجيه ضربة قاصمة للتنظيم إثر فشل محاولة اغتياله من أعضاء الجماعة، فانطلاقا من عام 1955 ثبت عبدالناصر أقدامه مع تبلور مشروعه حول القومية العربية وسياسات عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ودعم حركات التحرر العربية والإفريقية، وتبنيه لمشروعات بنية تحتية، والبدء في عملية تصنيع ضخمة، ما أكسبه شعبية طاغية بين المصريين والعرب، وجعله أحد أهم قادة العالم الثالث مع نهاية الخمسينيات.
وبينما أصبح عبدالناصر مطمئنا لسيطرته على أمور السلطة مستندا لدعم شعبي هائل، كانت جماعة «الإخوان» تعاني التشرذم والانسحاق أمام الآلة الأمنية لنظام عبدالناصر من ناحية، ولعدم وجود قبول شعبي كاف لتحقيق أهداف الجماعة في الانقضاض على الحكم من ناحية أخرى، لذلك كان طبيعيا أن يفرج عبد الناصر عن قيادات الجماعة وكوادرها تباعا بعد سنة 1956، فالرجل ظن أنه لم يعد مهددا من أي قوة سياسية في مصر نظرا للتأييد الشعبي الجارف، لكنه كان مخطئا، فبينما خرج المرشد العام للجماعة حسن الهضيبي، خرج سيد قطب من السجن بعفو صحي هو الآخر سنة 1964، ولم يكن في همه بعد أن وضع بذرة مشروعه التكفيري إلا الانتقام لجماعة «الإخوان» والمشروع الإسلامي بصفة عامة، ليبدأ معه فصل جديد من فصول المواجهة مع نظام عبدالناصر.
ويرصد المؤرخ المصري عبدالعظيم رمضان في كتابه «الإخوان المسلمون والتنظيم السري»، حالة الإخوان بعد الخروج من السجون قائلا: «خرج الإخوان المسلمون من كهوف السجون عاجزين تماما عن استيعاب التغييرات السياسية والاجتماعية التي حدثت أثناء محنتهم، أو فهم التحول الذي طرأ على القوى الوطنية والديمقراطية من موقف المعارضة والمقاومة للثورة في أزمة فبراير-مارس 1954، إلى موقف التأييد والمساندة في عام 1964، وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا إدراك مغزى التغيير الاجتماعي الكبير الذي وقع أثناء وجودهم في السجون متمثلا في تحرير جماهير غفيرة من الفلاحين والعمال بقوانين الإصلاح الزراعي والتأميم، وإنما خرجوا تملأهم فكرة واحدة هي الانتقام لما جرى للجماعة سنة 1954».
لكن جماعة «الإخوان» كانت مفككة الأوصال بعد سنوات السجن الطويلة التي لم تخل من شتى صنوف التعذيب، كانت في حاجة إلى قائد يتولى زمام المبادرة ويعيد ترتيب الصفوف، يعمل على إعادة التأصيل لأفكار الجماعة ويعطيها المشروعية الفكرية لإعطاء نوع من أنواع التماسك النفسي للإخوان من الداخل، كانت الرغبة ملحة في إعطاء تفسيرات معقولة للمحنة التي تعرضت لها الجماعة، كانوا يظنون أنهم على الحق وداعبهم الأمل في الوصول إلى سدة الحكم مرات، فلماذا فشلوا ولماذا انقلب السحر على الساحر فقتل البنا بسلاح الإرهاب الذي خلقه، ثم دخل الإخوان أفواجا إلى السجون.
وسط تيه الإخوان ظهر سيد قطب، وتقدم الصفوف ليتولى قيادة الدفة، أعطى الجماعة التأصيل الفكري القائم على حصر نقاء الإيمان في عناصر الجماعة، متهما المجتمع كله بالجاهلية وهي أفكار كانت تعني في التفسير النهائي تكفير المجتمع بأكمله، وكانت أفكار قطب أشبه ما تكون بفكرة نقاء اليهود على أساس ديني، هو يطرح الفكرة ذاتها على الصعيد الإسلامي ويحصرها في جماعة «الإخوان».
لكن هذه الأفكار رغم غرابتها إلا أنها أعطت الفرصة للإخوان من أجل الانغماس أكثر في فكر التكفير وانتهاج الإرهاب على قواعد أكثر منهجية قائمة على ليّ عنق النصوص الدينية لخدمة مشروع الجماعة، وإعطاء مكانة أعلى لأعضاء الجماعة باعتبارهم الفئة المؤمنة، فمن هو سيد قطب الذي أسس لفكرة التكفير وجاهلية المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والذي أوحت كتاباته بأفكار التكفير لكل الجماعات التي انتهجت العنف والإرهاب على مدار نصف قرن.

حياة قلقة

ولد سيد قطب في عام 1906 م بقرية «موشا» بأسيوط (جنوب القاهرة)، في أسرة متوسطة الحال، وكان والده قطب إبراهيم مهوسا بتثبيت صورته ضمن أعيان القرية ففقد معظم ثروته وراء هذا الحلم، وعلى عادة أهل الريف في مطلع القرن العشرين، تزوج قطب بأكثر من امرأة، أنجب من الأولى ابنه الأكبر محمد قطب، وأنجب من الأخرى سيد وشقيقتيه حميدة وأمينة، وكانت إحداهما تكبره بثلاث سنوات، والأخرى تصغره بثلاث سنوات أيضاً.
حاول قطب الأب أن يصدر انطباعا أنه من أعيان قريته، فعمل على تحويل منزله إلى مركز لاستقبال الفقراء والبسطاء والأعيان في المواسم والأعياد الدينية خاصة طوال شهر رمضان الكريم، فضلا عن توليه أولاده وبناته بالرعاية وتوفير كل السبل لتعليمهم بشكل جيد، لكن حجم إنفاق قطب أدى إلى مروره بأزمة مالية أدت إلى بيعه ممتلكات الأسرة من الأراضي الزراعية تباعا.
في تلك الأثناء، ارتبط سيد قطب، وفقا لسيرة حياته التي سجلها في كتاب «طفل من القرية»، بأسرة أمه التي وصفها بأنها كانت «أعرق» من أسرة والده، خاصة أن اثنين من أخواله كانا ممن تلقيا التعليم في الأزهر الشريف، وهو ما جعل الفتى سيد أكثر تعلقا بأسرة أمه، وبدأت تراود الأسرة فكرة أن يستكمل سيد قطب تعليمه في الأزهر الشريف، وبدأت عملية إعداده لهذه المهمة، لكن انقساما ضرب العائلة حول وجهة سيد، إلا أن الأب حسم الأمر بتقديم أوراق سيد في مدرسة ابتدائية لأنها أرقى من التعليم التقليدي في الكتاب، فضلا عن أن المدارس كانت تهتم وقتها بتحفيظ القرآن.
ومع مضي عامين على سيد قطب في المدرسة، وقعت حادثة غيرت مجرى حياته، إذ أعلنت المدرسة الاستغناء عن شيخ الكتاب لأنه لم يكن يحمل شهادة تعليمية، ولم يكن يعرف شيئاً عن الحساب، وتم تعيين أحد الفقهاء المتعلمين في وظيفته، لكن هذه الخطوة أطلقت شائعة أن الحكومة تريد محو تحفيظ القرآن الكريم، وأكد قطب أن شيخ الكتاب هو من غذى هذه الشائعة انتقاما من المدرسة وترويجا لكتابه الذي سيعود للتعليم فيه.
وهي الشائعة التي كان لها مفعول السحر في سحب أولياء الأمور أبناءهم من المدرسة وإلحاقهم بالكتاب من جديد، وكان من ضمن هؤلاء سيد قطب، لكنه لم يستطع التأقلم مع نظام التدريس والطلبة المخالطين له وطلب من والده إعادته إلى المدرسة ووعده بحفظ القرآن كاملاً، ليعود إلى المدرسة الأولية، وفي نهاية السنة الرابعة كان قد أتم حفظ القرآن، وانتهى من الدراسة الابتدائية في العاشرة من عمره.
وعندما بلغ سيد 13 عاما قامت ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنكليزي، وهي مناسبة تفجر فيها الشعور الوطني للمصريين للمرة الأولى منذ عهود، وتوالت المقالات والمنشورات الحماسية وخرجت إلى النور قصائد عصماء تمجد التضحية في سبيل الوطن، وفي هذه الأجواء عرف سيد قطب طريقه إلى دنيا الأدب، فبدأ في كتابة الأشعار وإلقائها في منتديات عائلته، ما أكسبه شهرة في مجتمعه الريفي.
وبعد سنتين من ثورة 1919 انتقل قطب إلى القاهرة، وكان الانتقال هربا من تراجع القدرة المادية للأسرة، فوالده الذي باع الكثير من أملاكه، كان يعاني ضائقة مالية، وهو نفس حال أخواله، لذلك طالبته أمه بالسفر إلى القاهرة والعمل لتوفير احتياجات الأسرة حتى لا تسقط في هوة الفقر.
استقر سيد قطب في القاهرة، عند خاله الذي يعمل بالتدريس والصحافة، حيث التحق بمدرسة للمعلمين، وما كاد ينهي دراسته حتى انخرط في عملية البحث عن وظيفة لسد احتياجات الأسرة التي بدأت معركة مصيرية مع الفقر، فبعد أن تخرج في مدرسة المعلمين اضطر أن يعمل مدرساً ابتدائياً حتى يستعين بمرتبه في استكمال دراسته العليا، دون أن يحمل أسرته أي مصاريف إضافية، فضلا عن استقطاع جزء من دخله لإرساله إلى والده.
بالتزامن مع العمل، واصل قطب دراسته في كلية «دار العلوم»، وتخرج في سنة 1933، وكان عمره 27 عاماً، وفي نفس عام التخرج كون سيد قطب مع رفاق الدفعة «جماعة دار العلوم»، كان هدفها الدفاع عن اللغة العربية، ثم عُين موظفًا، غير أن مرتبه لم يتجاوز 6 جنيهات، وهو مبلغ غير كاف للإنفاق على نفسه وتحمل أعباء أسرته، لذلك انتقل إلى العمل في وزارة المعارف (التربية والتعليم في وقتنا هذا)، منذ مطلع الأربعينيات لكنه استقال من عمله عام 1952، نظرا لخلافاته مع رجال الوزارة.
في تلك الأثناء، مر سيد قطب بعدة تجارب عاطفية فاشلة، ما تكاد الواحدة منها تبدأ إلا لتنتهي نهاية حزينة، ما عبر عنه قطب في روايته «أشواك»، في وقت بدأت تستهويه الكتابات الأدبية، فتقرب من عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، ولازم صالونه الأدبي، وتعلم منه الكثير في مجال النقد الأدبي، لكنه سرعان ما اختلف مع العقاد لتنتهي العلاقة بينهما بخصام.
وهو ما تكرر مع عميد الأدب العربي، طه حسين، إذ أعجب به سيد قطب إلى المنتهى في البداية، بل أهدى إليه كتابه «طفل من القرية» الذي يعد محاولة لمضاهاة رائعة طه حسين «الأيام»، وكتب قطب في الإهداء: «إلى صاحب كتاب الأيام. إلى الدكتور طه حسين بك، إنها يا سيدي كأيامك، عاشها طفل في القرية، في بعضها من أيامك تشابه، وفي سائرها عنها اختلاف، اختلاف بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة»، لكن سرعان ما هاجم قطب طه حسين دفاعا عن العقاد.

الرجل الغامض

وفي هذه الفترة الملتهبة في تاريخ مصر، فترة الأربعينيات المليئة بالانقلابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، اقترب سيد قطب من الإلحاد، بل إن الروائي الكبير سليمان فياض في مقالته المهمة «سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين» أكد أنه سمع بأذنه من قطب ذاته أنه ظل ملحدا 11 عاما، ثم خرج من حيرة الإلحاد إلى طمأنينة الإيمان، وإلى هذه الفترة المضطربة في حياة قطب تعود بعض أكثر آرائه تطرفا، والتي نشرها في مقال له بجريدة «الأهرام» عدد 10 يوليو 1938، بعنوان «خواطر المصيف.. الشواطئ الميتة»، والذي شجع فيه ظاهرة التعري على الشواطئ، وهي فكرة تكشف مدى التمرد الذي وصل إليه قطب في كتاباته، وإلى هذه الفترة ترجع الأفكار الأكثر غرابة لقطب والتي رسخته كأحد أهم نقاد أمراض المجتمع المصري، ما لفت إليه أنظار المخابرات الإنكليزية.
وهنا يظهر رجل غامض في حياة قطب غير دفة الأحداث، كان هذا الرجل هو المستشرق ورجل المخابرات الإنكليزي هيوارث دن، فقد وصل إلى القاهرة في منتصف الثلاثينيات، ودرّس اللغة الإنكليزية في المدارس المصرية، واعتنق الإسلام وتزوج امرأة مصرية اسمها فاطمة، وتعاون في الأربعينيات مع المخابرات الإنكليزية، وبدأ يمد علاقته بالشخصيات المؤثرة في المشهد المصري، فتوثقت علاقته بمرشد الإخوان حسن البنا، ثم شارك في مفاوضات بين البريطانيين والبنا من أجل التعاون ضد قوى المحور (الألمان والإيطاليين) في الحرب العالمية الثانية.
في تلك الأثناء، تعرف دن على سيد قطب، وكان اهتمام المستشرق البريطاني منصبا على مقالات قطب ورؤيته الاجتماعية لحل مشاكل المجتمع المصري بحلول إسلامية، وهو ما جعله موضع اهتمام الإنكليز في إطار البحث عن بدائل قادرة على مواجهة خطر التمدد الشيوعي في العالم، وكانت المخابرات البريطانية ترى أنه يمكن استغلال الحركات الإسلامية كحائط صد أمام التقدم الشيوعي، خاصة أن العالم الإسلامي يقع على حافة العالم السوفياتي، ما يجعل إمكانيات الصدام بين العالمين قوية.
ويذهب الصحافي والباحث السعودي علي العميم في مقدمته للترجمة العربية لكتاب هيوارث دن {الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة}، إلى أن {دَن} هو من دبر لسيد قطب المنحة إلى الولايات المتحدة للاطلاع على التجربة الأميركية في الحرية والديمقراطية، وأن دن استغل نفوذه ونفوذ الاحتلال البريطاني من أجل تسهيل عملية إيفاد قطب إلى أميركا، عبر توفير إدراج اسمه في بعثة وزارة المعارف سنة 1948.
وللمفارقة كان قطب قد استقال من الوزارة في وقت سابق ولا يحق له التقدم بطلب الالتحاق بالبعثة المخصصة للعاملين في الوزارة، كما أنه تجاوز وقتذاك السن القانونية للابتعاث إلى الخارج، فقد كان وقتها في 42 من عمره، فضلا عن أن البعثة جاءت على غير المعتاد فلم تحدد لقطب أي مناهج يدرسها في أميركا أو جامعة يلتحق بها، بل ترك له حق التجول في أميركا بطولها وعرضها يفعل ما يشاء، ما يلقي بظلال على طبيعة دور رجل المخابرات البريطاني في تسهيل عملية سفر قطب، خاصة أن {دن} سافر في نفس الفترة إلى أميركا، وكان على علاقة بقطب بل واطلعه على مسودة كتابه عن التيارات الإسلامية في مصر.
سافر قطب إلى أميركا، ومكث هناك نحو ثلاث سنوات، ليعود إلى مصر في صيف 1951، وهو غير الرجل الذي سافر من قبل، عاد من أميركا محملا بانطباعات شديدة السلبية عن الحضارة الغربية، وأصيب بصدمة نفسية بما وصفه بـ{التردي الأخلاقي} والانهماك الغربي في الحياة المادية والاستهلاكية بصورة أفزعته، فعاد محملاً بكراهية للنظام الرأسمالي والغرب عموما، وبدأت فكرة جاهلية المجتمع المعاصر تختمر في ذهنه، وعبر عن احتقاره لأميركا في مقال {من الذى لا يحتقر أميركا ويحتقر معها آدمية الأميركان}.
وكتب قطب عن فترة ما بعد عودته من أميركا قائلاً: {استغرقت في صراع شديد بالقلم والخطابة والاجتماعات ضد الأوضاع الملكية القائمة والإقطاع والرأسمالية، وأصدرت كتابين في الموضوع غير مئات المقالات في صحف الحزب الوطني الجديد والحزب الاشتراكي ومجلة الدعوة ومجلة الرسالة وكل جريدة أو مجلة قبلت أن تنشر لي بلا انضمام لحزب معين}، لكنه فاجأ الجميع عندما قرر الانضمام إلى تنظيم {الإخوان المسلمين}.
كان التحول هائلا فلم يكن أحد يتوقع أن ينضم قطب إلى الإخوان المسلمين، خاصة أنه لم يقدم على هذه الخطوة في عز مجد الجماعة، عندما كان حسن البنا على قيد الحياة، والجماعة تعد أكبر قوة سياسية بعد حزب {الوفد} مباشرة، كما أن قطب رغم علاقته المتينة ببعض قيادات الإخوان فإنه أعلن تمسكه بعدم الانتماء الحزبي، فلماذا تأخر قطب في خطوته تلك، يقدم المستشرق ورجل المخابرات الإنكليزي هيوارث دن جزءا من الإجابة عبر صداقته لكل من البنا وقطب قائلاً: {كان حسن البنا إنسانا غيورا، فلم يستسغ منافسة سيد قطب له في مجال الإصلاحات الاجتماعية على أُسس إسلامية، كان يريد أن يكون هو الحبْر الأعظم، وألا يكون ثمة مسيلمة آخر في مصر}.

مذكرة اعتراف

يروي قطب ذاته قصة انضمامه للإخوان في مذكرة اعترافه التي كتبها بعد أحداث 1964، قائلًا:
{لم أعرف إلا القليل عن الإخوان المسلمين إلى أن سافرت إلى أميركا في ربيع 1948 في بعثة لوزارة المعارف (كما كان اسمها في ذلك الحين)، وقد قتل الشهيد حسن البنا وأنا هناك في عام 1949، وقد لفت نظري بشدة ما أبدته الصحف الأميركية وكذلك الإنكليزية التي كانت تصل إلى أميركا، من اهتمام بالغ بالإخوان ومن شماتة وراحة واضحة في حل جماعتهم وضربها وفي قتل مرشدها، ومن حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب في المنطقة وعلى ثقافة الغرب وحضارته فيها.
وصدرت كتب بهذا المعنى سنة 1950، أذكر منها كتابا لجيمس هيوارث دن بعنوان (التيارات السياسية والدينية في مصر الحديثة)، كل هذا لفت نظري إلى أهمية هذه الجماعة عند الصهيونية والاستعمار الغربي، في الوقت ذاته صدر لي كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) سنة 1949 مصدَّرا بإهداء هذه الجملة: إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يريدون هذا الدين جديدا كما بدأ، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم}.
وتابع قطب: {ففهم الإخوان في مصر أنني أعنيهم بهذا الإهداء ولم يكن الأمر كذلك، ولكنهم من جانبهم تبنوا الكتاب واعتبروا صاحبه صديقا، وبدأوا يهتمون بأمره، فلما عدت في نهاية عام 1950، بدأ بعض شبابهم يزورونني ويتحدثون معي عن الكتاب، ولكن لم تكن لهم دار لأن الجماعة كانت لاتزال مصادرة، وظل الحال كذلك إلى أن قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952، ومرة أخرى استغرقت كذلك في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو حتى فبراير سنة 1953 عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها وحول مسائل أخرى جارية في ذلك الحين، وفي الوقت نفسه كانت علاقاتي بجماعة الإخوان تتوثق باعتبارها - في نظري - حقلاً صالحا للعمل للإسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحرية إحياء وبعث شاملة، وقد كانت نتيجة هذه الظروف مجتمعة انضمامي بالفعل سنة 1953 إلى جماعة الإخوان المسلمين}.
جاء انضمام سيد قطب إلى جماعة {الإخوان المسلمين}، في وقت كان هو يقترب أكثر من أفكار جاهلية المجتمع وتكفيره، كاشفا عن رؤيته المثالية القائمة على قراءة غير واقعية للتاريخ الإسلامي، في وقت كانت الجماعة تخوض مواجهتها الأولى ضد عبد الناصر، والتي انتصر فيها الأخير، لتفتح السجون أبوابها مشرعة أمام مئات الإخوان، وكان من بين هؤلاء سيد قطب ذاته، كان على الرجل الذي عاش في عالم الأفكار والتنظير أن ينزل إلى أرض الواقع ويصطدم بها، اكتشف قسوة الحياة داخل السجون، فانهارت المثاليات التي كان يحيط بها نفسه، وبدأ في اتخاذ مواقف أكثر حدة، لكنه وهو يخط كتبه الأخيرة والتي ضمنها الأفكار الأكثر تطرفا، كان يقترب هو وجماعته {الإخوان} من الاصطدام بزعامة عبد الناصر.
... يتبع
 
عودة
أعلى