تعديل الدستور (1) هل هو المدخل لمعالجة سوء أداء المؤسسات السياسية؟
• صورة التقطت في مبنى المجلس التأسيسي خلال الاستراحة بتاريخ 31 يناير1962.. ويبدو (من اليسار) صباح الاحمد وزير الارشاد والانباء في ذلك الوقت ثم المرحوم عبدالطيف ثنيان الغانم رئيس المجلس التأسيس ثم المرحوم محمد يوسف النصف
بقلم: محمد الفيلي
أمام اضطراب العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأمام سوء اداء الحكومة والمجلس المنتخب للتشريع والرقابة، حاول البعض البحث عن حل، ومن ضمن الحلول التي طرحت افتراض ان مكمن الداء هو التنظيم المقرر لهذه العلاقة وبالذات الدستور، ولذلك طرحت فكرة تعديل الدستور، خصوصا ان هذا الدستور لم يعدل منذ صدوره عام 1962. واذا كانت مشكلة سوء اداء السلطات العامة واضحة بدليل ضعف ادائها المتمثل في سوء اداء الاجهزة الحكومية وتوتر العلاقة بين الحكومة ومجلس الامة، والذي اخذ مظاهر متعددة منها امتناع الحكومة عن حضور جلسات مجلس الامة لفترة طويلة، واندفاع اعضاء مجلس الامة في تقديم مقترحات تشريعية تتعارض مع الصورة التي رسمها الدستور للفلسفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، فهل السبب في ذلك هو اسلوب تنظيم السلطات العامة الذي اخذ به الدستور وهل يكون حل المشكلة بتعديل الدستور؟ ثم لماذا لم يعدل الدستور الكويتي مع انه يقترب في عمره من الخمسين عاما؟
سنحاول من جانبنا ان نتعامل مع هذه الاسئلة.. ولعله من المستحسن ان نعرض لموضوع تعديل الدستور على مستوى القانون المقارن قبل الدخول في الحالة الكويتية.
أولا: تعديل الدساتير
بما ان التساؤل كان هو مدخلنا للموضوع فلعل نفس الاسلوب ملائم للتوغل فيه قليلا، ولذلك نطرح الاسئلة التالية:
ــ هل الدستور قابل للتعديل؟
ــ لماذا يكون التعديل اصعب في بعض الدول واسهل في دول اخرى؟
أ- قابلية الدستور للتعديل:
الدستور قانون ينظم ظاهرة السلطة في الدولة، ولذلك هو يحدد شكلها واسلوب الحكم فيها، فيحدد السلطات العامة من حيث تكوينها ووظائفها واسلوب توليها، وفي مرحلة متقدمة اصبحت الدساتير تحدد الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وتنظيم مركز الفرد في مواجهة الدولة والحقوق والحريات العامة، واذا كان الدستور قانونا ينظم سلوكا اجتماعيا، واذا كان موضوع التنظيم هو الظاهرة الاجتماعية، واذا كانت هذه الظاهرة بطبيعتها متغيرة، اذا يجب ان تكون القاعدة المنظمة قابلة للتغيير، والا فقد نصل الى مرحلة تكون القاعدة بعيدة جدا عن الواقع، وبالاضافة الى ذلك فإن ربط تشريع القانون بالديموقراطية يقود الى القول بعدم جواز منع تعديل القانون على الارادة الشعبية، ولذلك اخذ بعض الفقه وحتى بعض المشرعين موقفا من النصوص المانعة من تعديل بعض احكام الدستور، ولعل الخطاب الاوضح في هذا المجال ما قررته المادة 28 من اعلان الحقوق الفرنسي الصادر عام 1793 والتي تقرر أن من حق الشعب دائما تعديل دستوره وليس لجيل ان يلزم الاجيال اللاحقة بارادته.
واذا كانت الاعتبارات السابقة تقود إلى منطقية تعديل الدستور، فإن هناك اعتبارات أخرى تقود إلى التأني في التعديل، بل إلى منع التعديل في مواضع معينة من الدستور، فسمو الدستور واتفاق الجماعة على وجود قيم تشكل حجر الزاوية في حياتها يقود إلى وجوب جعل التعديل أصعب أو حتى ممنوعاً:
1 ــ سمو الدستور
الدستور هو القانون الذي يحدد وجود السلطات العامة في الدولة ويقرر وظائف هذه السلطات وأسلوب عملها، ومن ضمن هذه السلطات السلطة التشريعية. فإن كانت هذه السلطة قادرة على تغيير احكامه كما تغير في القوانين فإن الدستور سيفقد وظيفته المعيارية، كما ان مثل هذا الأمر سيجعل التفريق بين السلطة التأسيسية (المنشئة) والسلطات المنشأة أمراً غير واضح، واذا كان السمو لا يرتبط من الناحية النظرية بالجمود، فالدستور البريطاني على الرغم من مرونته لأنه قابل للتعديل من قبل المشرع العادي فإنه ما يزال سامياً بمعنى ان القيم الاساسية فيه مثل الديموقراطية وحماية الحريات العامة والنظام البرلماني لا يمس بها المشرع العادي ولا يسير تعديل القوانين الا في اتجاه تأكيدها (التعديل الأخير في قانون البرلمان لعام 2003 يعطي دوراً أكبر لمجلس العموم المنتخب)، ومع ذلك فإن الحالتين البريطانية والاسرائيلية هما الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فلا تركن الدول للسمو الموضوعي بل تقرنه بالسمو الشكلي وهو يتحقق عندما يكون تعديل الدستور باجراءات خاصة أصعب من تعديل القانون، واختيار درجة الصعوبة يتباين بحسب الدول، فبعضها يجعل التعديل بيد السلطة التشريعية ولكن اقرار التعديل يحتاج لاجراءات أطول وأغلبية أهم لاقراره، بل تشترط بعض الدول ان يمر التعديل عبر الشعب مباشرة من خلال الاستفتاء، وتصعيب اجراءات التعديل يقود لفكرة السمو الشكلي فلا يعود القانون المخالف للدستور معدلا له لان اجراءات تعديل الدستور مختلفة عن تعديل القانون وهذا الواقع يقود لامكان تنظيم الرقابة على دستورية القوانين، كما ان تصعيب اجراءات التعديل يقود إلى حماية الدستور من التعديلات المتسرعة وهو ما يحفظ للدستور دوره كقاعدة معيارية، ومن ضمن الآليات المعروفة في القانون الدستوري لحماية الدستور من التعديل المتسرع وضع فترات لا يجوز فيها التعديل وبالذات في الفترة الاولى من وضعه، وقد ابتكر المشرع الدستوري البرتغالي اسلوباً خاصاً في هذا المجال، فهو يشترط توافر اغلبية الثلثين (66.66%) من قبل البرلمان لتعديل الدستور اذا ما كان التعديل السابق قد مضى عليه خمس سنوات، اما اذا كان التعديل السابق لم تمض عليه هذه المرة فإن الدستور البرتغالي لعام 1976 يشترط في هذه الحالة توافر اغلبية الاربعة أخماس (80%).
2 ــ حماية القيم الاساسية
منع تعديل احكام الدستور في ظروف معينة (حالة احتلال جزء من اقليم الدولة بالنسبة لدستور 1958 الفرنسي) او حماية احكام معينة من التعديل مثل الشكل الجمهوري للدولة (دستور 1958 الفرنسي، دستور 1949 الالماني) او الشكل الملكي للحكم (دستور 1962 الكويتي، دستور 1978 الاسباني) او الحقوق والحريات (الدستور الكويتي واكثر الدساتير الاوروبية). امر دارج في الدساتير. وهذه الاحكام تجد تفسيرها في الاحداث التاريخية التي مرت بها بعض الدول او في اعتقاد الجماعة بان هذه الاحكام تشكل حجر الزاوية في النظام السياسي للدولة وان المساس بها يعني المساس بجوهر النظام السياسي للدولة، وهذه الاحكام دفعت ببعض الفقه للقول بوجود تدرج في القيمة القانونية لنصوص الدستور بل اعتبر بعض الفقه بان هناك احكاما تعلو في القيمة على احكام الدستور، ولذلك لا يجوز للمشرع الدستوري ان يعدل في الدستور بما يخالفها ويغدو تعديله في هذه الحالة باطلاً، واذا كان لهذا الرأي سند فكري فان الاخذ به في اطار واقع القانون الدستوري القائم يعتبر صعبا، مع ذلك فان هذه النظرية تجد لها تطبيقا منظما في المانيا لان الدستور الالماني بعد ان قرر عدم جواز مخالفة مشروع الدستور للشكل الاتحادي والديموقراطي للدولة وعدم جواز الاخلال بالاحكام المقررة للحقوق الاساسية للافراد جعل المحكمة الدستورية مختصة بفحص مشروع تعديل الدستور وجعل لها الحق بتقرير عدم مشروعية مشروع التعديل، والى جوار الحل الذي اخذ به الدستور الالماني فان القضاء الدستوري في ايطاليا يقرر ان هناك مبادئ سامية لا يجوز للدستور ان يخالفها مما يعني امكان مراقبته لمشروع تعديل الدستور.
ويقدم الدستور الاسباني حلا توفيقيا في هذا المجال، فهو يقرر ان بعض احكام الدستور تمتنع على التعديل وفق الاجراءات العادية ولذلك يضع لتعديلها احكاما خاصة، فيلزم لتعديلها ان تعرض على البرلمان فاذا ما قرر الموافقة على تعديلها من حيث المبدأ يحل البرلمان ويعاد انتخابه وفي هذه الحالة لا يتم اقرار تعديل هذه الاحكام الا اذا قرر البرلمان الجديد (وهو مكون من مجلسين) الموافقة على التعديل باغلبية الثلثين ومن بعد ذلك يجب ان يعرض موضوع التعديل على الشعب في استفتاء لاقراره.
نستخلص مما سبق ان فكرة الدستور ذاتها تقتضي ان يكون تعديله ممكنا، لانه قانون يحكم السلوك الاجتماعي، فلا يستقيم ان نقول ان موضوع القاعدة متغير وحكم القاعدة غير قابل للتغيير كما ان عدم جواز التعديل مطلقا يتعارض مع المبدأ الديموقراطي ذاته، فلا يجوز لجيل ان يحجر على من يأتي بعده، ومع ذلك فان وظيفة الدستور ذاته لا تستقيم الا بتوفير قدر من الجمود له، فبدون هذا الجمود يفقد الدستور سموه، والحل هو تصعيب اجراءات التعديل كي يمكن للدستور أن يظل قانوناً معيارياً يضع حدوداً للسلطات العامة، كا ان هذه الوظيفة تقتضي ايضاً حمايته من التعديل المتسرع، بل ان جعل بعض احكامه غير قابلة للتعديل اصبح في الواقع امراً مقبولاً، لأن الدساتير اليوم اصبحت تقوم بشكل متزايد بوظيفة القوانين الاساسية التي تحمي الديموقراطية من اندفاع الأغلبية، فقد اثبت الواقع ان الديموقراطية النيابية لا تكفي لحماية قيم الديموقراطية من الاندفاع الذي تحكمه الازمات.
تعديل الدستور (2) هل هو المدخل لمعالجة سوء أداء المؤسسات السياسية؟
• المجلس التأسيسي لمجلس الأمة ومناقشة الدستور
بقلم: محمد الفيلي
اذا كان الدستور قابلاً للتعديل في اطار هذه الضوابط فما الذي يفسر كثرة حالات التعديل في بعض الدول وقلتها في دول اخرى؟
ب- كثرة التعديلات وقلتها:
اذا ما تركنا جانباً دول العالم الثالث وقصرنا المراقبة على اوروبا واميركا فسنجد ان ظاهرة تعديل الدستور من حيث عدد مرات التعديل والاحكام التي ينصب عليها التعديل تلفت النظر، بل ان بعض المراقبين ينظر اليها بحذر. ففي حلقة نقاشية نظمتها الجمعية الفرنسية للدستوريين عام 2006 سجل مقرر الحلقة الاستاذ B.MATHIEU ان كثرة تعديلات الدستور في بعض البلاد سوف تقود الى صعوبة التفرقة بين القانون والدستور، وان هناك خشية من ان التعديل هو وسيلة تخفي فيها المؤسسات السياسية المشكلة الحقيقية، ذلك ان التعديل مؤشر على وجود مشكلة، وان هناك خشية من ان يتم استبدال حل المشكلة باللجوء لاجراء التعديل، لأنه اسهل من حل المشكلة ذاتها.
واذا ما تركنا التشخيص السابق جانباً عرضنا لظاهرة التعديل ذاتها من خلال نماذج محددة، فاننا سنجد ان مرات تعديل الدستور الفرنسي وفق اجراءات المادة 89 قد وصل الى 16 مرة، ولكن عدد مرات التعديل لا يكشف دوما عن موضوعات التعديل بشكل دقيق، فاذا كانت التعديلات القديمة تتصل بعدد بسيط من النصوص، فان التعديلات الاحدث تنصرف الى اعداد كبيرة من النصوص، فتعديل عام 2003 اضافة كتلة كاملة من النصوص وهي الاعلان البيئي، اما التعديل الأخير وهو تعديل عام 2008، وقد كان عنوان مشروعه تحديث مؤسسات الجمهورية الخامسة، فقد انصب على 35 حكماً في الدستور.
ويلاحظ أن المقاربة بين الدول قد تعطي نتائج مستغربة، ففي حالة البرتغال واسبانيا الوضع الظاهر يدعو للاستغراب لأول وهلة، فعمر الدستورين متقارب (البرتغال عام 1976 واسبانيا 1978) وهناك تقارب ثقافي بين البلدين. ولكننا نلاحظ أن الدستور الاسباني عدل مرة واحدة فقط وبمناسبة اقرار الاتفاقية الاوروبية، أما الدستور البرتغالي فقد عدل سبع مرات، ولكن بعض هذه التعديلات (1982 و1989) انصرف في كل مرة إلى ما يقارب المائتي مادة من دستور عدد نصوصه يصل إلى حوالي ثلاثمائة.
واذا كان دستور 1949 الألماني كما الدستور الاميركي كلاهما يأخذ بالأسلوب الاتحادي الذي يؤدي إلى تصعيب اجراءات التعديل عادة، فإن الدستور الاميركي الصادر عام 1787، وهو اقدم الدساتير المكتوبة في العالم، عرف حتى عام 1998 سبعة وعشرين تعديلا من اصل ثلاثة وثلاثين مشروع تعديل مقرة من قبل البرلمان، في حين ان الدستور الألماني لعام 1949 اقر فيه لنفس التاريخ اثنان واربعون تعديلا.
واذا ما بحثنا عن تفسير لهذا الأمر فإننا نعتقد أن مدى ارتباط الدستور بفكرة التوافقية أو بفكرة العقد الاجتماعي يمكن أن يفسر عدد التعديلات.
1ــ الدستور عقد اجتماعي
وجود الحاكمين والمحكومين داخل الجماعة المنظمة ظاهرة اجتماعية، وفي الدول الملكية يؤدي النظام الوراثي لتحديد الحاكم والمحكوم بشكل مسبق، ولذلك فإن الدساتير في مثل هذه الجماعات كثيرا ما يتم تكييفها بأنها عقد، لأن الدستور وبمناسبة تنظيمه لظاهرة السلطة يحدد اسلوب تولي الحكم واسلوب ممارسة الحكم وحقوق الحاكم وواجباته وحقوق المحكومين وواجباتهم، ويصبح تكييف الدستور كعقد اكثر وضوحا عندما يتم وضع الدستور باتفاق بين الحاكم والشعب.
وإذا ما تركنا جانبا اسلوب وضع الدستور، فإن الدستور بعد أخذه لهذه الصفة ليس عقدا من الناحية القانونية، ولكنه قانون ينظم عملية الحكم وبالتالي فإنه ينظم المركز القانوني للحاكم والمركز القانوني للمحكوم، وهو بصفته قانونا ينظم السلوك الاجتماعي ملزم للحاكم والمحكوم بنفس الدرجة، وبالرغم من غياب الأساس القانوني لوصف الدستور بأنه عقد وبالذات بعد إقراره وبالرغم من وضوح تباين الطبيعة القانونية بين القوانين (والدستور قانون) والعقود، فإن الوصف السياسي للدستور بأنه عقد ظل صامداً في بعض الأحيان ولعل تفسير ذلك يكمن في أمرين:
- استمرار أثر نظريات العقد الاجتماعي والعقد السياسي وهي نظريات ظهرت في القرن الثامن عشر لتفسير ظاهرة السلطة في الجماعات المنظمة.
- تكييف الدستور بأنه عقد يقود الى جعل التزام الحاكم بقواعد المشروعية التي يقررها الدستور أكثر سهولة، فهو يلتزم بما كان هو ذاته طرفاً في إقراره.
والتكييف السياسي للدستور بأنه عقد يقود إلى التردد العملي في تعديل أحكامه، وهذا ما نلاحظه في الدساتير الملكية القديمة وبالذات بعد الثورة الفرنسية، ونلاحظ ان الدساتير الملكية الحديثة في أوروبا لا ترتبط في وجودها بصفة العقد حتى لو وضعت بهذا الأسلوب لأن الجماعة تتعامل معها بوصفها قانونا، وهذا يعني انها تعدل، وفق الإجراءات المقررة فيها، كقانون، كلما استشعرت الجماعة أن هناك حاجة منطقية لتعديل بعض أحكامها، إما لأن العمل قد كشف عن قصور هذه الأحكام، أو لأن الجماعة تبتغي تغييراً في بعض الأحكام لأن هناك قناعة بأهمية التعديل.
2- التوافقية كأساس للدستور
من المنطقي أن يوجد حد أدنى من التوافقية لوضع الدستور، خاصة إذا ما وضع بأسلوب ديموقراطي ولكن ولادة بعض الدساتير ترتبط بمخاض عسر، وأحياناً طويل ناتج عن صعوبة التوفيق بين الكتل التي شاركت في وضعه، وفي هذه الحالة فإن تعديل الدستور يغدو صعباً جداً لأن فتح باب التعديل هو فتح لتقديم مطالب متعارضة، خاصة إذا كانت هذه الأطراف عديدة ويستند الأستاذ Pierre BON لهذا الأمر لتفسير سهولة مرور التعديلات في الدستور البرتغالي مقارنة بالدستور الاسباني (تقييم التعديل الدستوري، الحالة البرتغالية، حلقة النقاش التي نظمتها الجمعية الفرنسية للقانون الدستوري، 14 نوفمبر www.droitconstilutonnel.org , 2006
وبعد المحاولة السابقة لتفسير واقع قلة التعديلات في بعض الدساتير، نعتقد ان طبيعة الدستور تقتضي الحذر في تعديله وقولنا بوجوب الحذر والاقتصاد لا يعني القول بعدم جواز التعديل، بل ان الامتناع عن التعديل او الافراط في الحذر منه مؤشر بذاته على وجود خلل في النظام السياسي للدولة. واذا ما حاولنا تقسيم تعديلات الدستور والبحث عن وصف لها، فاننا امام احتمالات كثيرة، فالتعديل قد يكون جزئياً ينصب على حكم واحد او احكام قليلة، وقد يكون واسعا ينصرف الى عدد مهم من الاحكام من دون ان يكون شاملا لكل الدستور، وقد يكون التعديل هادفا لاصلاح خلل في نص من النصوص كشف العمل عن سوئه، وقد ينصرف التعديل لتبني توجه جديد للجماعة بل قد ينصرف التعديل لتغيير الميكانيكية التي قام عليها الدستور، وقد يكون التعديل واجباً اقتضته التحولات السياسية وقد يكون مستحبا. ويمكن لنا ذكر امثلة في الدستور الفرنسي ( ما دمنا في اطار القانون المقارن) فالتعديل الذي قدمه الرئيس جيسكار ديستان عام 1974 كان ضروريا في ظل الظروف التي وصل فيها الرئيس الى الرئاسة، فليس من السائغ ان يسمح النظام السياسي بوصول الرئيس عن طريق الائتلاف السياسي من دون ان تكون للأقلية حقوق تسمح لها بقدر معقول من الفاعلية، ولذلك كان منطقيا تعديل الدستور على نحو يسمح للاقلية بالاحتكام للقضاء الدستوري، اما التعديل الاخير (عام 2008) فهو في رأيي اقرب الى المستحب، وان كان يقتضيه منطق اقتراب فرنسا اكثر من النظام البرلماني، عبر توحيد مدة الرئاسة بمدة الجمعية الوطنية، فبعد هذا التعديل اصبح منطقيا ضبط اختصاصات الرئيس حتى يوجد اساس من المشروعية السياسية لاستخدامها، كما ان زيادة اختصاصات البرلمان تصبح امرا جيدا للرئيس فهو ايضا رئيس للاغلبية البرلمانية. وتعديل الدستور لا ينصرف فقط الى المؤسسات السياسية بل قد يكون تعبيرا عن فلسفة جديدة يؤمن بها المجتمع، ومثال ذلك تعديل الدستور الفرنسي عام 2003 لاقرار العهد البيئي، فالاعتقاد بحق الانسانية في بيئة سليمة يتجاوز القناعات والتقسيمات السياسية التقليدية. واذا كنا في الامثلة السابقة قد عرضنا لتعديل الدستور كأمر واجب او متسحب فان تعديل الدستور من الممكن ايضا وصفه بانه سيئ، وذلك ان كان الباعث له سيئا مثل تقليص الديموقراطية او اضعافها، او كان التعديل غير قائم على دراسة جدوى قانونية.
واذا كان تعديل الدساتير في القانون المقارن على النحو الذي عرضنا له فما هو القول في تعديل الدستور في الكويت.
تعديل الدستور (3) هل هو المدخل لمعالجة سوء أداء المؤسسات السياسية؟
بقلم: محمد الفيلي
ثانيا: تعديل الدستور الكويتي
تفاعل واضعو الدستور الكويتي مع الاعتبارات التي تحكم الدساتير فجعلوا دستورهم قابلاً للتعديل ولكن وفق إجراءات خاصة اشد من إجراءات تعديل القانون وقد جعلوا للسلطة التنفيذية دوراً مماثلاً لدور السلطة التشريعية في تعديل القانون على نحو يجعل التعديل مستحيلا من دون موافقة الأمير، وقد اخذ الدستور الكويتي بالتوجه العام في كثير من الدساتير عندما قرر ان مسائل معينة محجوبة عن التعديل. وإذا ما استعملنا قواعد التحليل اللغوي فإننا نجد ان المشرع الدستوري يوجه رسالة لمن يتولى تعديل الدستور، فهو لا يستخدم التعبير القانوني الدارج وهو «تعديل» ولكنه يستخدم تعبير «تنقيح» وذلك في المواد 174 و175 و176، وإذا كان التعديل تعبيراً محايداً يعني التغيير في أي اتجاه كان فإن لفظ «التنقيح» يفترض ان التغيير الى الأفضل فقط، والدستور الكويتي لم يتم تعديله إلى الآن، وإن كان قد قدمت اقتراحات بتعديل حكم المادة الثانية منه، كما ان الحكومة في فترة تعطيل احكام الدستور كونت لجنة للنظر في دراسة أفكار لتعديل بعض أحكام الدستور ولكنها لم تتقدم بأي مشروع لتعديل الدستور، وقد ظهرت دعوات سياسية للتفكير بتعديل الدستور كوسيلة للتعامل مع توتر العلاقة بين السلطتين التنفيذية و التشريعية أو كأسلوب للتعامل مع سوء اداء السلطات العامة. ونعرض لأحكام التعديل أولاً ومن بعد ذلك لمدى الحاجة الى التعديل.
أ- أحكام التعديل:
تقرر المادة 174 من الدستور عدم جواز تعديل الدستور قبل مضي خمس سنوات على العمل به، وهذا الحكم يجد مبرره في توفير فترة من العمل المتكامل بالدستور قبل الحكم على صلاحية أحكامه لتحقيق الأغراض التي وضع لأجلها، وبمضي هذه المدة (شهر يناير عام 1968) يصبح تعديل أحكامه (تنقيحها) ممكنا وفق الإجراءات التي رسمتها المادة 174 ووفق التحديدات التي قررتها المادتان 175 و176.
1 - إجراءات التعديل
إذا ما تركنا جانباً الأحكام التي لا يجوز تعديلها مطلقاً أو في ظروف خاصة فإن تعديل الدستور يمر بمراحل ثلاث وهي الاقتراح والإقرار من حيث المبدأ والإقرار النهائي.
الاقتراح
حق الاقتراح مقرر لثلث أعضاء مجلس الأمة كما هو مقرر للأمير والاداة التي يمارس بها الأمير حق الاقتراح هي المرسوم، لأن الأمير يمارس اختصاصاته بواسطة وزرائه إلا ما ورد فيه حكم خاص، وبما أن حق الاقتراح المقرر في المادة 174 لم يرد به حكم خاص من حيث الاداة فنرجع للأصل العام.
- الإقرار من حيث المبدأ:- لتحقيق هذا الأمر يلزم ان يقر اغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة مشروع التعديل، وأن يصدر مرسوم عن الأمير بالموافقة على الاقتراح من حيث المبدأ وبدون اجتماع الإرادتين لا يمكن الانتقال للمرحلة الثالثة وهي الإقرار النهائي.
- الإقرار النهائي:- لا يقر مشروع التعديل أو اقتراح التعديل إلا بموافقة أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة (الأعضاء المنتخبين والأعضاء بحكم وظائفهم أي الوزراء حتى لو لم يكونوا من المنتخبين) ولا يكون التنقيح نافذا مع ذلك إلا بعد تصديق الأمير عليه واصداره، وقد حرص الدستور على تقرير ان إجراءات تعديل الدستور لا تنطبق عليها الأحكام المقررة للتشريع العادي كما وردت في المادتين 65 و66 ولذلك لا يلزم صدور مرسوم مسبب لرفض التصديق على المقترح الذي اقره مجلس الأمة، كما أن المجلس لا يستطيع تجاوز اعتراض الأمير بأي أغلبية كانت، وإذا رفض اقتراح التعديل من حيث المبدأ أو من حيث موضوع «التنقيح» فلا يجوز عرضه من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض.
ونلاحظ في الإجراءات التي قررتها المادة 174 لتنقيح الدستور عددا من الأمور، فهذه الإجراءات جعلت سمو الدستور لا يقف عند السمو الموضوعي ولكنه أيضاً يأخذ وصف السمو الشكلي فهو دستور جامد، تعديله يحتاج الى إجراءات اشد وأصعب من إجراءات تعديل القانون العادي فالأغلبية اللازمة للإقرار اهم من الأغلبية اللازمة لوضع تشريع عادي. وبالإضافة لذلك فإن الشركاء في هذا التعديل يقومون بدور متساو، فلا يمكن لأحدهم ان يتجاوز موافقة الآخر، فإذا كان القانون من الممكن ان يصدر بارادة مفترضة للأمير عند عدم التصديق عليه او عدم رفض التصديق خلال شهر، فإن الدستور لا يصدر الا اذا صدق عليه الامير فعلا وهو لا يحتاج عند رفض التصديق لتقديم اسباب لذلك فيمكن لرفض التصديق عدم التصديق فقط دون حاجة لإصدار قرار بذلك.
وفي الجزئية الاخيرة يمكن ان يطرح التساؤل عن المدة التي تلزم للقول بأن الاقتراح اصبح مرفوضا اذ ان الدستور لم يحددها فهل يعتبر الاقتراح مرفوضا اذا لم يتم التصديق خلال شهر ام اكثر ام اقل؟، خصوصا ان النص يرتب حكما على رفض الاقتراح وهو عدم جواز اعادة تقديمه «من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض»نعلم بأنه لا يمكن القياس على احكام التشريع العادي لأن نص المادة 174 قرر صراحه ذلك، اما اذا اخذنا بظاهر النص فمدة العام تظل معلقة حتى صدور قرار الرفض او بسقوط الاجراءات لنهاية الفصل التشريعي، علما بأن العمل في الولايات المتحدة الاميركية يجعل مشروع التعديل المقر من قبل البرلمان قائما حتى يصدر قرار عن مشرعي الولايات بأغلبية الثلاثة أرباع بإقراره او رفضه وقد اقر التعديل السابع والعشرون للدستور عام 1992 مع انه قد تم قبوله كاقتراح عام 1789.
واذا كان اكتمال الاجراءات السابقة يكفي لتعديل احكام الدستور فإن ذلك لا يعني إمكان تعديل اي حكم من احكام الدستور وفق هذه الاجراءات اذ ان الدستور نفسه يحمي بعض احكامه من التعديل اما مطلقا او في ظروف خاصة.
2ـ الممنوع من التعديل
تقرر المادة 175 «الاحكام الخاصة بالنظام الاميري للكويت وبمبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها ما لم يكن التنقيح خاصا بلقب الإمارة او بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة». وتقرر المادة 176 ان «صلاحيات الامير المبينة في الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها في فترة النيابة عنه». وفي موضوع الاحكام المحمية من التعديل يمكن ان نتساءل عن نطاق المنع من التعديل والرقابة على احترام احكام هذا المنع.
- نطاق المنع: بالنسبة لمبادئ الحرية والمساواة فان المنع من التعديل ينصرف الى المساس بها لأنها الحد الادنى الذي يقرر الدستور القبول به اما الزيادة في هذه المبادئ فهي مقبولة بشرط ان تتضمن هذه الزيادة «ضمانات للحرية والمساواة» المقررة في هذا الدستور او ان يأتي التعديل بطائفة جديدة من الحقوق والحريات وهو ما يعبر عنه بالجيل الثالث من الحقوق والحريات الذي لم ينص عليه دستور1962.
اما عن «الاحكام الخاصة بالنظام الاميري للكويت» فان المنع من التعديل لا ينصرف لاحكام قانون توارث الامارة الذي تقرر المادة الرابعة امكان تعديله وفق الاجراءات المقررة لتعديل الدستور، كما ان المنع من التعديل لا ينصرف «لصلاحيات الامير المبينة في الدستور «لان المادة 176 تجيز تعديلها في غير فترة النيابة عن الامير فنطاق المنع بالنسبة لها محصور في فترة النيابة عن الامير،ولذلك فإن المنع من التعديل سوف ينصرف لذات مبدأ الوراثة في الحكم كما قررته المادة الرابعة من الدستور باعتبار انه بقية الاحكام قد وردت في قانون توارث الامارة وهو قانون قابل للتعديل وفق احكام تعديل الدستور.
3- الرقابة على احكام المنع
احكام المنع من التعديل احكام ملزمة لورودها في الدستور ومع ذلك فان تقرير المساس بها من المكن ان يكون محل تساؤل فهل يناط امر هذه الرقابة بجهة محددة، منفصلة عن الاطراف المشاركة في التعديل؟ هل يمكن للقضاء بشكل عام او للمحكمة الدستورية ان تقرر عدم سلامة اقتراح التعديل او مشروع التعديل او ان تقرر بطلان قرار التعديل لصدوره بالمخالفة للضوابط التي قررتها المادتان 175 و 176؟ للأسف يخلو الدستور من حكم في هذه المسألة.
أماعن القضاء العادي فاقتراح تعديل الدستور كأي اقتراح آخر غير قابل أن يكون محلا لمنازعة قضائية، وكذلك مرسوم تقديم مشروع الاقتراح. أما عن «الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح» والتي تشير اليها المادة 173 من الدستور، فإن اختصاصها، كما هو مبين في الدستور، فحص دستورية التشريعات، والاقتراح والمشروع ليسا من التشريعات. أما بعد اقرار التعديل فإن اختصاصها كما هو ظاهر من النص ينصب على التشريعات الادنى من الدستور، لأنها تـفحص مشروعية هذه التشريعات وفق المعيار المقرر في الدستور. أما أحكام الدستور، وهي كلها ذات القيمة نفسها حتى لو كان بعضها ممنوعا من التعديل، فلا تدخل في اطار الرقابة، لا يبقى كجهة رقابة مباشرة الا السلطتان التنفيذية والتشريعية كأطراف في عملية تعديل الدستور تحت رقابة الرأي العام.
وأحكام التعديل التي قررها الدستور الكويتي لم تطبق لأنه لم يناقش امام مجلس الامة اقتراح لتعديل أي حكم من أحكام الدستور، بالرغم من التداول السياسي لفكرة تعديل الدستور، فلا الحكومة استخدمت حقها للتقدم بمشروع تعديل الدستور، ولا الأعضاء اقترحوا تعديلا للدستور خارج اطار المادة الثانية. هل هذا ناتج عن قناعة بكفاية أحكامه المنظمة للعلاقة بين السلطات؟ أم أن هناك حاجزا نفسيا في مواجهة التعديل؟ وهل هناك حاجة حقيقية لتعديل الدستور؟
ب - مدى الحاجة لتعديل الدستور: مهما بذل المشرع من جهد في إعداد النص بشكل متقن فإن احتمال وجود فرضيات لم يدرسها المشرع أمر وارد، كما أن العمل قد يكشف عن فرضيات لم يعالجها النص بشكل جيد، وبالإضافة لما سبق فإن بعض الأحكام تقرر بناء على واقع قائم وقت اعداد النص، ولذلك فإن المنطق يقود الى وجوب تعديل هذه الأحكام لتغير الواقع بعد دخول النص حيز التنفيذ، فهل توجد الفرضيات السابقة في اطار الدستور الكويتي؟ نحن نعتقد أن هذه الفرضيات قائمة ونعرض لأمثلة لها.
فمن ضمن الفرضيات التي لم يعرض لها النص ذكرنا مسألة عدم تحديد ميعاد للرفض واثر ذلك على احتساب المدة التي لا يجوز تقديم اقتراح جديد لتعديل الدستور فيها، كما تقرر المادة 174 من الدستور، ومن ضمن أمثلة النصوص التي لم يرد فيها توضيح يضبط التطبيق نص المادة 152 وايضا المادة 153 فموارد الثروة الطبيعية على اطلاقها واسعة جدا، فالماء والهواء والشمس من موارد الثروة الطبيعية مثلا، فهل الترخيص باستخدام الطاقة الشمسية او حركة الرياح كمصدر لتوليد الطاقة أو حتى الترخيص بتعبئة الماء في زجاجات يحتاج الى ترخيص تشريعي؟ نعم الاعمال التحضيرية والعمل ساهما في تفسير النص ولكن الاصل ان يحتوي النص على الضبط اللازم كأن يناط بالمشرع العادي تحديد الحالات التي تحتاج الى ترخيص وفق معيار الأهمية أو أثر الاستهلاك على أصل المصدر. ونلاحظ في هذا الاطار ان الدستور بعد ان منع تعديل بعض الاحكام، لم يحدد آلية الرقابة القضائية لمراقبة التعديل. وتحديد عدد أعضاء مجلس الأمة، كما ورد في المادة 80 من الدستور، يقدم مثالا جيدا للأحكام التي تم تقريرها بناء على الواقع القائم وقت إعداد النص، فالأعمال التحضيرية تقرر بوضوح بأن اختيار الرقم خمسين لتحديد عدد الأعضاء المنتخبين في مجلس الأمة ارتبط بعدد سكان الكويت وقت اعداد النص، وهذا يعني منطقيا أن ثبات العدد حتى اليوم أضحى غير مقبول لزيادة عدد السكان، وبذلك يصبح التعديل في حكم الواجب.
وتعديل الدستور لا يرتبط بالضرورة بالفرضيات الجزئية التي عرضنا لها، فالدستور لا يمنع اطراف التعديل من ان يقدموا افكارا لتعديل الدستور ماداموا لا يخالفون الضوابط المقررة في المادتين 175 و176، وليس من دورنا ان نفترض، بدلا من مجلس الامة أو الامير أو الحكومة، النصوص او الاحكام الواجب تعديلها أو المواضيع الواجبة اضافتها للدستور، ولكننا نعتقد أن هناك أمورا تفسر عدم حماس اطراف التعديل في تفعيله وهما أمران، الاول هو الميكانيكية التي تم اعتمادها لوضع دستور 1962، ونعني بذلك بناءه على أساس تقبله لأكثر من أسلوب في تنظيم تشكيل الحكومة مع اعطائها قدرا كبيرا من الحماية، والأمر الآخر هو الاسلوب التوافقي في إعداد الدستور.
1- ميكانيكية تشكيل الحكومة وضماناتها
عند البحث عن نظام الحكومة الأمثل للكويت طالب البعض بالنظام الرئاسي لأنه، كما يعتقدون، يوفر الاستقرار للحكومة ويعطيها القدرة على تنفيذ سياستها من دون معوقات، وطالب الفريق الآخر بالنظام البرلماني لأنه يوفر رقابة شعبية لعملية الحكم، ولكن أيا من الفريقين لم يستطع ان يفرض تصوره فالنظام الرئاسي لا يستقيم من دون انتخاب الرئيس والنظام البرلماني يعني أن الحكومة تعين من قبل الشعب فهو يختار الأغلبية البرلمانية التي بدورها تفرض الحكومة، ومثل هذا الحل لم يكن مقبولا بالنسبة للأسرة الحاكمة، كما ان النظام البرلماني لا يستقيم من دون احزاب سياسية والأحزاب السياسية لم تكن مقبولة لدى قطاعات مهمة من الرأي العام، لأن التجارب العربية انذاك قدمت عن الأحزاب صورة منفرة، ولذلك تم التوجه الىنظام يسمح بتبني البرلمانية إلى حد كبير كما يسمح بالابتعاد عنها إلى حد بعيد، وترك أمر الاقتراب من الحكومة البرلمانية أو الابتعاد عنها بيد الأمير فهو يختار رئيس مجلس الوزراء بأمر أميري ويمكنه ان يختار رئيس مجلس الوزراء من الأغلبية البرلمانية (إن وجدت) كما يمكنه أن يقدر غير ذلك ولا يفرض عليه الدستور إلا إجراء مشاورات تسبق اختيار رئيس مجلس الوزراء. فالدستور، وإن جعل في حكم المستحب اختيار الحكومة من الاغلبية البرلمانية فإن حكم الواجب ينصرف فقط الى وجوب اختيار وزير على الاقل من خارج البرلمان ووزير من داخل مجلس الامة والى جوار ذلك أعطى الدستور للحكومة مزايا عديدة فهي عضو في مجلس الأمة يشارك في الأعم الأغلب من انشطته، بما في ذلك تشكيل لجان المجلس، ولم يجعل للمجلس تحريك المسؤولية السياسية للحكومة إلا بعد الاستجواب، وهو ما يوفر للحكومة فرصة مضاعفة لمواجهة محاولات تحريك مسؤوليتها السياسية، ووفر حماية إضافية لرئيس مجلس الوزراء إذ لم يسمح للمجلس بطرح الثقة به، مستبدلاً النظام التقليدي للمسؤولية السياسية بنظام خاص وهو إعلان عدم إمكان تعاون ويترتب على هذا الطلب الاحتكام الىالأمير فإما ان يحتكم الأمير بدوره للشعب ويحل المجلس كي تعاد الانتخابات او ان يقيل رئيس مجلس الوزراء، والأمران السابقان يعوقان، من الناحية العملية، تحريك التعديل في مجال اسلوب تشكيل الحكومة فمن يطالب بالحكومة البرلمانية لا يستطيع ان يطالب بالتعديل فالدستور فتح الباب أمام وجودها، بل ان المذكرة التفسيرية جعلتها الهدف المأمول الوصول اليه، وعدم الوصول الفعلي اليه ليس خطأ من الدستور فلا توجد أغلبية برلمانية حقيقية وغياب الأحزاب كمعوق نظري لعدم وجود الاغلبية المنضبطة في البرلمان يعود الى تقاعس المشرع وعدم رغبته في اقرار تنظيم للاحزاب السياسية. ومن يطالب بحكومة تكنو قراط أو كفاءات لا يستطيع ان يطلب تعديل الدستور فالدستور لا يمنع ذلك، بل أنه يوفر للحكومة ضمانات كثيرة تجعلها قادرة على العمل حتى من دون مساندة كبيرة من البرلمان فهي تملك ما يقارب ثلث عدد أعضاء مجلس الأمة ولذلك فيكفيها ان تقنع بعض أعضاء مجلس الأمة المنتخبين كي تنفذ برنامجها.
والموقف السابق للدستور أغلق من الناحية العملية باباً مهماً من ابواب التعديلات، اما بقية ابواب التعديل فإن عدم فتحها قد يجد تفسيره في وجود الحاجز النفسي الناتج عن التوافقية التي قادت لوضع الدستور.
2ـ التوافقية
اسلوب تنظيم تشكيل الحكومة يكشف عن قدر كبير من التوافقية في وضع الدستور الكويتي وهي توافقية لم تكن كافية لحسم كل نقاط الخلاف، ففي بعض المسائل اضطر اعضاء المجلس التأسيسي الى ترحيل نقاط الخلاف للمستقبل كي يتمكنوا من تجاوزها، ففي مسألة الاحزاب السياسية مثلا، ونتيجة عدم قدرتهم على حسم الموضوع في اتجاه منع الاحزاب السياسية او في اتجاه تنظيمها رحلوا الموضوع للمستقبل وجعلوه بيد المشرع العادي. وتكشف الاعمال التحضيرية ان بعض نقاط الخلاف لم يتمكن اعضاء المجلس التأسيسي من تجاوزها من دون تدخل عبدالله السالم، مع انه كان خارج المجلس التأسيسي من الناحية القانونية. وقد بقيت القوى السياسية المشاركة في وضع الدستور بعد وضعه، حتى لو حدث تغير في نسبة تأثيرها، وهذا الواقع قاد عمليا الى صعوبة طرق باب تعديل الدستور فكل طرف يرى ان احكام الدستور تشكل الحد الادنى لقناعاته وبالتالي هي لا تلائمه تماما، ولذلك هو يرغب في تغييرها ولكنه يعلم ان مشروعه للتعديل لا يناسب بالضرورة بقية الاطراف، وبالتالي هو وضع يجسده المثل الشعبي «امسك مجنونك حتى لا يأتيك أجن منه». ولعل البعض يقول ان هذا التفسير وان كان يساعد في فهم لماذا لم يعدل الدستور فانه لا يحل المشكلة، ونحن من جانبنا لا نعتقد ان مشكلة العلاقة بين السلطات او سوء ادائها راجع الى عدم تعديل احكام الدستور، ودليلنا ان طبيعة هذه العلاقة وطبيعة هذا الأداء ليستا على وتيرة واحدة، فقد مررنا منذ عام 1962 بفترات افضل من اخرى مع ان الدستور كان ثابتا مما يدل على ان المشكلة لا تكمن في احكام الدستور، وفي هذا الصدد نلاحظ أن اداء السلطات العامة وتحقيق التنمية ليسا بالأمر السيئ في اسبانيا علما بأن الدستور الاسباني لم يعرف تعديلا مهما منذ تاريخ اقراره عام 1978، مع ان الاجندة الاسبانية تحتوي على عدد من مشاريع تعديل الدستور تنتظر الفرصة الملائمة لتقديمها.
في ختام هذا المقال نحن نعيد التذكير بان الدستور قد قرر اسلوب تعديله، وان من يرى ان تطوير اداء السلطات العامة يرتبط بتعديل الدستور عليه ان يتقدم بمشروعه كي يكون محلا للبحث والتقييم ويمكنه في حال تقديم مبررات حقيقية ان يجد انصارا لمشروعه.
للأمير و لثلث أعضاء مجلس الأمة حق اقتراح تنقيح هذا الدستور بتعديل أو حذف حكم أو أكثر من أحكامها أو بإضافة أحكام جديدة إليه.
ولا يجوز اقتراح تعديل هذا الدستور قبل مضي خمس سنوات على العمل به.
فإذا وافق الأمير وأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة على مبدأ التنقيح وموضوعه، ناقش المجلس المشروع المقترح مادة مادة، وتشترط لإقراره موافقة ثلثي الأعضاء الذي يتألف منهم المجلس، ولا يكون التنقيح نافذاً بعد ذلك إلا بعد تصديق الأمير عليه وإصداره، وذلك بالاستثناء من حكم المادتين 65 ، 66 من هذا الدستور.
وإذا رفض اقتراح التنقيح من حيث المبدأ أو من حيث موضوع التنقيح فلا يجوز عرضه من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض.
اشترطت هذه المادة لإدخال أي تعديل على أحكام الدستور موافقة الأمير على مبدأ التعديل أولا ، ثم على موضوعه ، وجعلت حق رئيس الدولة في هذا الخصوص ' حق تصديق ' بالمعنى الكامل لا مجرد حق اعتراض توقيفي كما هو الشأن في التشريعات العادية وفقا للمادة 52 من الدستور ، ولذلك نصت الفقرة الثانية من المادة 174 في صراحة على استثناء حكمها من حكم المادة 52 المذكورة .
بل وأضافت الفقرة الثالثة من المادة 174 أنه ' إذا رفض اقتراح التنقيح من حيث المبدأ أو من حيث موضوع التنقيح فلا يجز عرضه من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض ' والرفض هنا شامل لحالتي حصوله من جانب الأمير أو من جانب مجلس الأمة . وبهذا الوضع لا يكون تعديل ما للدستور إلا برضاء الجهتين اللتين تعاونتا من قبل في وضعه ، الأمير والأمة ، وعبرت عن هذا التراضي ديباجة الدستور عندما نصت على صدور الإرادة الأميرية بالتصديق عليه وإصداره ' بناء لما قرره المجلس التأسيسي '
المذكرة التفسيرية
المادة 175
الأحكام الخاصة بالنظام الأميري للكويت وبمبادىء الحرية والمساواة المنصوص عليها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها، ما لم يكن التنقيح خاصاً بلقب الإمارة أو بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة.
المادة 176
صلاحيات الأمير المبينة في الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها في فترة النيابة عنه.
لإلقاء الضوء على طبيعة النظام السياسي في الكويت وأهم سمات كل من النظامين البرلماني والرئاسي والفروقات بينهما، تنشر «القبس» ما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور الكويتي بشأن الموضوع.
اقتضى الحرص على وحدة الوطن واستقرار الحكم، ان يتلمس الدستور في النظام الديموقراطي الذي تبناه طريقا وسطا بين النظامين البرلماني والرئاسي مع انعطاف اكبر نحو اولهما لما هو مقرر اصلا من ان النظام الرئاسي انما يكون في الجمهوريات، وان مناط قيامه كون رئيس الدولة منتخبا من الشعب لبضع سنوات ومسؤولا أمامه، بل وأمام ممثليه على نحو خاص. كما اريد بهذا الانعطاف ألا يفقد الحكم طابعة الشعبي في الرقابة البرلمانية أو يجافي تراثنا التقليدي في الشورى وفي التعقيب السريع على اسلوب الحكم وتصرفات الحاكمين. وليس يخفى ان الرأي ان تراخى والمشورة ان تأخرت، فقدا في الغالب أثرهما، وفات دورهما في توجيه الحكم والادارة على السواء.
عيوب وميزة
على ان هذه الفضائل البرلمانية لم تنس الدستور عيوب النظام البرلماني التي كشفت عنها التجارب الدستورية، ولم تحجب عن نظرة ميزة الاستقرار التي يعتز بها النظام الرئاسي، ولعل بيت الداء في علة النظام البرلماني في العالم يكمن في المسؤولية الوزارية التضامنية أمام البرلمان، فهذه المسؤولية هي التي يخشى ان تجعل من الحكم هدفا لمعركة لا هوادة فيها بين الاحزاب، بل وتجعل من هذا الهدف سببا رئيسيا للانتماء الى هذا الحزب او ذاك، وليس اخطر على سلامة الحكم الديموقراطي من ان يكون هذا الانحراف اساسا لبناء الاحزاب السياسية في الدولة بدلا من البرامج والمبادئ، وان يكون الحكم غاية لا مجرد وسيلة لتحقيق حكم أسلم وحياة أفضل. واذا آل امر الحكم الديموقراطي الى مثل ذلك، ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها، وحرف العمل السياسي عن موضعه ليصبح تجارة باسم الوطنية، ومن ثم ينفرط عقد التضامن الوزاري على صخرة المصالح الشخصية الخفية، كما تتشقق الكتلة الشعبية داخل البرلمان وخارجه مما يفقد المجالس النيابية قوتها والشعب وحدتها، لذلك كله كان لا مفر من الاتعاظ بتجارب الدول الاخرى في هذا المضمار، والخروج بالقدر الضروري عن منطق النظام البرلماني البحت رغم ان نظام الامارة وراثي.
وسط بين نظامين
وفي تحديد معالم ذلك النهج الوسط بين النظامين البرلماني والرئاسي، وتخير موضع دستور دولة الكويت بينهما، تتلاقى مشقة الاستخلاص النظري بمشقة وزن المقتضيات المحلية والواقع العملي، وأولهما معضلة فقهية، وثانيهما مشكلة سياسية. وخير النظم الدستورية هو ذلك الذي يوفق بين هذين الأمرين، ويحل في آن واحد كلتا المعضلتين.
وقد عمل الدستور على تحقيق هذا التوفيق بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي بالاسلوب المزدوج التالي:
أ ــ جعل الدستور حجر الزاوية في كفالة الاستقرار في الحكم متمثلا في الامور الآتية:
1 ــ كون نظام الامارة وراثيا.
2 ــ عدم النص على اسقاط الوزارة بكاملها بقرار عدم ثقة يصدره مجلس الامة، والاستعاضة عن ذلك الاصل البرلماني بنوع من التحكيم يحسمه الامير بما يراه محققا للمصلحة العامة، وذلك اذا ما رأى مجلس الامة عدم امكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء (مادة 102)، وبشرط ألا يصدر قرار بذلك الا بناء على استجواب وبعد الانتهاء من مناقشته، (والاستجواب لا تجوز مناقشته اصلا الا بعد ثمانية ايام على الاقل من تقديمه ما لم يوافق من وجه اليه الاستجواب على الاستعجال). ويجب ايضا ان يكون قرار المجلس بعدم التعاون صادرا بموافقة اغلبية الاعضاء الذين يتألف منهم المجلس (فيما عدا الوزراء - مادة 101). فان امكن اجتياز هذه العقبات جميعا وصدر قرار المجلس بعدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء لم يترتب على ذلك تنحيه (والوزراء بالتالي) عن الوزارة كما هو مقرر بالنسبة للوزير، وانما يكون الامير حكما في الامر، ان شاء اخذ برأي المجلس واعفى الوزارة، وان شاء احتفظ بالوزارة وحل المجلس، وفي هذه الحالة اذا استمر رئيس الوزارة المذكورة في الحكم وقرر المجلس الجديد ــ بالاغلبية ذاتها المنوه عنها ــ عدم التعاون معه اعتبر معتزلا منصبه من تاريخ قرار المجلس الجديد في هذا الشأن، وتشكل وزارة جديدة.
ولا يخفى ما في هذه الضمانات من كفالة لاستقرار الوزارة في مجموعها، بل لعلها، من الناحية العملية، لا مندوحة من ان تؤدي الى ندرة استعمال هذا الحق البرلماني، كما ان رئيس مجلس الوزراء الذي يصل تبرم مجلس الامة به ومعارضته لسياسته حد تعريض المجلس نفسه للحل، وتعريض اعضائه انفسهم لخوض معركة انتخابية مريرة، ليس من المصلحة العامة تحصينه اكثر من ذلك او كفالة بقائه في الحكم الى أبعد من هذا المدى.
وفي مقابل الضمانات المقررة لرئيس مجلس الوزراء على النحو السابق، وجب النص على الا يتولى مع الرئاسة اي وزارة، وهو امر له اهميته من ناحية سير العمل الحكومي، وبمراعاة ضخامة اعباء رئاسة الوزارة في التوجيه العام للحكم، والتنسيق بين الوزارات واتجاهاتها، وتحقيق رقابة ذاتية يمارسها رئيس مجلس الوزراء على الوزارات المختلفة، مما يضاعف اسباب الحرص على المصلحة العامة والتزام هذه الوزارات للحدود الدستورية والقانونية المقررة.
3 - وضع قيود ايضا على المسؤولية السياسية الفردية للوزراء، بحيث لا يجوز طرح الثقة بالوزير الا بناء على رغبته هو أو بطلب موقع من عشرة من اعضاء المجلس على الأقل (أي خمس الأعضاء)، وذلك اثر مناقشة استجواب على النحو المبين آنفا في شأن رئيس مجلس الوزراء، مع التزام المواعيد السابق بيانها لمناقشة الاستجواب، ثم لاصدار قرار من المجلس في شأنه، وباشتراط موافقة اغلبية الاعضاء السابق بيانها كذلك. فان صدر القرار على الرغم من كل هذه العقبات اعتبر الوزير معتزلا منصبه من تاريخ قرار عدم الثقة، وقدم استقالته وجوبا الى رئيس الدولة استيفاء للشكل القانوني (مادة 101)، ولذلك لا يبقى هذا الوزير في منصبه ولو ارتأى رئيس الدولة حل مجلس الأمة والرجوع الى رأي الشعب. ومن المأمول باطمئنان ان يحول جو التعاون المنشود والذي حرص الدستور على تهيئة اسبابه، دون اللجوء الى هذا الاجراء الاستثنائي البحت، فالمصلحة العامة هي رائد الوزير في الحكم، وهي كذلك رائد المجلس في الرقابة، فوحدة هذا الهدف كفيلة بضمان وحدة الاتجاه وتلاقي المجلس والحكومة، في تقدير مصلحة المجموع، على كلمة سواء.
4 - اقتضت ظروف الملاءمة ومراعاة واقع الكويت كذلك ألا يؤخذ على نحو مطلق بالقاعدة البرلمانية التي توجب ان يختار الوزراء من بين اعضاء البرلمان، ومن ثم تمنع تعيين وزراء من خارج البرلمان، وهي قاعدة ترد عليها استثناءات متفاوتة في بعض الدساتير البرلمانية. لهذا لم يشترط الدستور ان يكون الوزراء أو «نصفهم على الأقل» من اعضاء مجلس الامة، تاركا الأمر لتقدير رئيس الدولة في ظل التقاليد البرلمانية التي توجب ان يكون الوزراء قدر المستطاع من اعضاء مجلس الأمة. وفي ذلك ايضا مراعاة لتلك الحقيقة الحتمية وهي قلة عدد اعضاء مجلس الأمة (وهم خمسون عضوا) تبعا لعدد السكان، مما قد يتعذر معه وجود العدد الكافي من بين هؤلاء الاعضاء لسد حاجة البلاد من الوزراء اللازمين لحمل اعباء الدولة في هذه المرحلة التاريخية من حياتها، مع ضرورة احتفاظ المجلس كذلك بعدد كاف من الاعضاء القادرين على اداء رسالة هذا المجلس ولجانه المتعددة. لذلك كله قررت الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور ان «يكون تعيين الوزراء من أعضاء مجلس الأمة ومن غيرهم»، وبذلك يكون التعيين وجوبيا من الفئتين في ضوء الأصل البرلماني المذكور والتقاليد البرلمانية المنوه عنها. ومقتضى ذلك - كما سبق - التوسع قدر المستطاع في جعل التعيين من داخل مجلس الأمة.
وايراد هذا الحكم الخاص بتعيين وزراء من غير اعضاء مجلس الأمة، مع تعمد ترك ما تتضمنه الدساتير الملكية عادة من نص على ان «لا يلي الوزارة أحد اعضاء البيت المالك» أو «أحد من الأسرة المالكة» يؤدي الى جواز تعيين اعضاء الأسرة الحاكمة وزراء من خارج مجلس الأمة. وهذا هو الطريق الوحيد لمشاركتهم في الحكم نظرا إلى ما هو معروف من عدم جواز ترشيح أنفسهم في الانتخابات حرصا على حرية هذه الانتخابات من جهة، ونأيا بالأسرة الحاكمة عن التجريح السياسي الذي قلما تتجرد منه المعارك الانتخابية من جهة ثانية.
الأسرة من صميم الشعب
ويشفع لهذا الاستثناء في اسلوب الحكم البرلماني بالنسبة الى الكويت بصفة خاصة كون الأسرة الحاكمة من صميم الشعب، تحس باحساسه ولا تعيش في معزل عنه. كما يشفع له ايضا كون عدد سكان دولة الكويت قد استلزم الأخذ بنظام المجلس الواحد. فلم يعد هناك مجلس ثان (مجلس شيوخ أو مجلس أعيان) يمكن لأعضاء البيت الحاكم عن طريق التعيين فيه في شؤون الدولة العامة.
5 - ابتدع الدستور فكرة لا تخفى اهميتها برغم عدم مجاراتها لكمال شعبية المجالس النيابية، فقد نصت المادة 80 على ان «يعتبر الوزراء غير المنتخبين بمجلس الأمة اعضاء في هذا المجلس بحكم وظائفهم»، وهو أمر كان لا مندوحة معه من ضابطين، أولهما وضع حد أعلى لعدد الوزراء، سواء كانوا وزراء عاديين أو وزراء دولة، وهو ما قررته العبارة الأخيرة من المادة 56 بقولها «لا يزيد عدد الوزراء جميعا على ثلث عدد اعضاء مجلس الأمة»، وبهذا التحديد لا يكون هناك خوف من اغراق مجلس الأمة (وعدد اعضائه اصلا خمسون عضوا) بأعضاء غير محددي العدد من الوزراء المعينين من خارج المجلس، مما يخشى معه المساس بشعبية المجلس النيابي أو بأهمية قراراته. أما الضابط الثاني فبمتكر كذلك، وهو اشتراط الا يشترك الوزراء في التصويت على الثقة بأحدهم (المادة 101) أو على موضوع عدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء (المادة 102) ويشمل هذا الحظر الوزراء جميعا، ولو كانوا من اعضاء مجلس الأمة المنتخبين. وحكمة هذا النص كذلك ما هو مقرر صراحة أو بحكم الواقع من تضامن الوزراء وتساندهم في مثل هذه المناسبة، فمنعهم من الاشتراك في التصويت في هذين الأمرين يدع مجال البت فيه كاملا لأعضاء مجلس الأمة غير الوزراء.
6 - لم يقيد الدستور استعمال الحكومة لحق الحل بأي قيد زمني، كما فعلت بعض الدساتير البرلمانية، اكتفاء بالقيد التقليدي المهم الذي بمتقضاه اذا حل المجلس لا يجوز حله لذات الاسباب مرة اخرى، مع وجوب اجراء الانتخابات للمجلس الجديد في ميعاد لا يجاوز شهرين من تاريخ الحل، والا استرد المجلس المنحل كامل سلطته الدستورية إلى حين اجتماع المجلس الجديد، واجتمع فورا كأن الحل لم يكن (مادة 107).
7 - في نصوص متفرقة من الدستور، ترك مجال واسع لتصرف رئيس الدولة أو السلطة التنفيذية من دون رجوع سابق الى مجلس الأمة، أو دون الرجوع اليه كلية، ومثال على ذلك اختيارنائب الأمير (مادة 61) واعلان الحرب الدفاعية (مادة 68) واعلان الحكم العرفي (مادة 69) وابرام المعاهدات فيما لم يستثن منها بالذات (مادة 70)، والاستعاضة بثقة رئيس الدولة في تشكيل الوزارة عن حصولها على ثقة مجلس الامة عقب كل تجديد لانتخابات هذا المجلس (مادة 98).
8 ـ يسند هذه الضمانات والنصوص جميعا نص المادة 174 المقرر لضوابط تعديل الدستور، فقد اشترطت هذه المادة لادخال اي تعديل على احكام الدستور موافقة الامير على مبدأ التعديل اولاً، ثم على موضوعه، وجعلت حق رئيس الدولة في هذا الخصوص «حق تصديق» بالمعنى الكامل لا مجرد حق اعتراض توقيفي كما هو الشأن في التشريعات العادية وفقا للمادة 52 من الدستور، ولذلك نصت الفقرة الثانية من المادة 174 في صراحة على استثناء حكمها من حكم المادة 52 المذكورة، بل وأضافت الفقرة الثالثة من المادة 174 انه «اذا رفض اقتراح التنقيح من حيث المبدأ أو من حيث موضوع التنقيح فلا يجوز عرضه من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض»، والرفض هنا شامل لحالتي حصوله من جانب الامير او من جانب مجلس الامة. وبهذا الوضع لا يكون تعديل ما للدستور الا برضاء الجهتين اللتين تعاونتا من قبل في وضعه، الامير والامة، وعبرت عن هذا التراضي ديباجة الدستور عندما نصت على صدور الارادة الاميرية بالتصديق عليه واصداره «بناء على ما قرره المجلس التأسيسي».
ب - قدر الدستور - من الناحية الثانية - ضرورة الحذر من المبالغة في ضمانات السلطة التنفيذية.
وذلك مخافة ان تطغى هذه الضمانات على شعبية الحكم، او تضيع في التطبيق جوهر المسؤولية الوزارية التي هي جماع الكلمة في النظام البرلماني. ومما يبعث على الاطمئنان في هذا الشأن، ويدفع تلك المظنة الى حد كبير، ما اثبتته التجارب الدستورية العالمية من ان مجرد التلويح بالمسؤولية فعال عادة في درء الاخطاء قبل وقوعها او منع التمادي فيها او الاصرار عليها، ولذلك تولدت فكرة المسؤولية السياسية تاريخياً عن التلويح او التهديد بتحريك المسؤولية الجنائية للوزراء، وقد كانت هذه المسؤولية الجنائية هي الوحيدة المقررة قديماً. كما ان تجريح الوزير، او رئيس مجلس الوزراء، بمناسبة بحث موضوع عدم الثقة او عدم التعاون، كفيل باحراجه والدفع به الى الاستقالة، اذا ما استند هذا التجريح الى حقائق دامغة واسباب قوية تتردد اصداؤها في الرأي العام. كما ان هذه الاصداء ستكون تحت نظر رئيس الدولة باعتباره الحكم النهائي في كل ما يثار حول الوزير او رئيس مجلس الوزراء، ولو لم تتحقق في مجلس الامة الاغلبية الكبيرة اللازمة لاصدار قرار «بعدم الثقة» او «بعدم التعاون». كما ان شعور الرجل السياسي الحديث بالمسؤولية الشعبية والبرلمانية، وحسه المرهف من الناحية الادبية لكل نقد او تجريح، قد حملا الوزير البرلماني على التعجيل بالتخلي عن منصبه اذا ما لاح له انه فاقد ثقة الامة او ممثليها، وقد بلغت هذه الحساسية احيانا حد الاسراف مما اضطر بعض الدساتير الحديثة للحد منها حرصاً على القدر اللازم من الاستقرار الوزاري.
ومن وراء التنظيم الدستوري لمسؤولية الوزراء السياسية، توجد كذلك، وبصفة خاصة، رقابة الرأي العام التي لا شك في ان الحكم الديموقراطي يأخذ بيدها ويوفر مقوماتها وضماناتها، ويجعل منها مع الزمن العمود الفقري في شعبية الحكم. وهذه المقومات والضمانات في مجموعها هي التي تفيء على المواطنين بحبوحة من الحرية السياسية، فتكفل لهم ــ الى جانب حق الانتخاب السياسي ــ مختلف مقومات الحرية الشخصية (في المواد 30 و31 و32 و33 و34 من الدستور) وحرية العقيدة (المادة 35)، وحرية المراسلة (المادة 39)، وحرية تكوين الجمعيات والنقابات (المادة 43)، وحرية الاجتماع الخاص وعقد الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات (المادة 44)، وحق تقديم العرائض الى السلطات العامة (المادة 45)، وفي جو مملوء بهذه الحريات ينمو حتما الوعي السياسي ويقوى الرأي العام. وبغير هذه الضمانات والحريات السياسية، تنطوي النفوس على تذمر لا وسيلة دستورية لمعالجته، وتكتم الصدور آلاما لا متنفس لها بالطرق السلمية، فتكون القلاقل، ويكون الاضطراب في حياة الدولة، وهو ما اشتهر به النظام الرئاسي في بعض دول اميركا اللاتينية، وما حرص الدستور على تجنبه وتجنيب الكويت أسبابه.
طابع غالب
ويتجاوب مع هذه المعاني كذلك ما لا يخفى من ضرورة مرور الحياة الدستورية الجديدة، ذات الطابع البرلماني الواضح بل الغالب، بفترة تمرين على الوضع الجديد، يتبين خلالها ما قد يكون في هذا الوضع من توسعة او تضييق. وهي ان تضمنت بعض التضييق فان ذلك منطق سنة التطور، وفيه مراعاة لحداثة العهد بهذه المشاركة الشعبية في الحكم وتمهيد لاعادة النظر في الدستور بعد السنوات الخمس الاولى من تطبيقه بنص الفقرة الاخيرة من المادة 174، وبالضوابط المنصوص عليها في تلك المادة، كما يدخل في الاعتبار من هذه الناحية ما عرفت به حكومة الكويت من حرص على مصالح المواطنين، وتجاوب مع اتجاهات الرأي العام واحاسيسه.
شعبية موفورة
ومن ناحية اخرى، لا تزال الشعبية موفورة في احكام الدستور بالقدر الكافي، فلمجلس الامة ابتداء حق ابداء ما يراه من ملاحظات على برنامج كل وزارة جديدة (مادة 98)، وله في مواجهة رئيس مجلس الوزراء والوزراء حق السؤال (مادة 99)، وحق الاستجواب (مادة 100)، وحق سحب الثقة من الوزراء فرادى (مادة 101)، وحق الاحتكام الى رئيس الدولة في كيان الوزارة بأسرها باعتبارها مسؤولة بالتضامن امام الامير، والتزام رأي المجلس الجديد في شأن رئيس مجلس الوزراء اذا جدد تعيينه فظل رئيسا للوزراء بعد الانتخابات وانعقاد المجلس الجديد (مادة 102)، كل ذلك بالاضافة الى ما يرجى مع الزمن من تناقص عدد الوزراء الذين يعينون من غير اعضاء مجلس الامة، من التجاوب واقعيا ــ كما سبق ــ مع اتجاهات المجلس المذكور وعدم الرغبة في مخالفة نظره ولو كانت لهذه المخالفة وسيلة شكلية في الدستور.
وفي النهاية فالمسألة قبل كل شيء مسألة ملاءمة سياسية، تعبر عن واقع الدولة وتتخير اقدر الاصول النظرية على التزام الحد الضروري من مقتضيات هذا الواقع.
لوي استخدام الأدوات الدستورية لتنقيح الدستور ضمنيا
06/01/2013
قراءة بطلب تفسير المواد 108 و110 و111 من الدستور سابقة لم تشهدها الحياة البرلمانية
كتب عادل عبدالعزيز الصرعاوي :
من واقع القراءة السريعة لطلب التفسير للمواد 108 و110 و111، الذي تقدّم به عدد من النواب الأسبوع الماضي، فإنه مع احترامنا لمقدمي الطلب، إلا أن هذه الخطوة تعتبر السابقة الأولى على مدى 50 سنة من صدور الدستور بعد حالة طلب التفسير بشأن ما شاب عملية التصويت على انتخابات رئيس المجلس سنة 1996.
ويعلم الجميع أنه لا يمكن أن يتم تحصين الممارسة الديموقراطية من خلال طلبات التفسير للمحكمة الدستورية، وإنما من خلال تفعيل مواد اللائحة الداخلية للمجلس.
وإذا نظرنا إلى آراء المختصين، سنجد أن الخبير الدستوري د. محمد المقاطع يؤكد في كتابه الوسيط في نظام الدستور الكويتي ومؤسساته السياسية (الباب الثاني) المطلب الرابع (ضمانات دستورية وقانونية لحماية العضو ووظيفته النيابية) «الحصانات» أن الدستور الكويتي أرسى أعرق وأهم الضمانات النيابية على الإطلاق، التي تحفظ منزلة ومكانة العضو، لما لها من شرف تمثيل الأمة، حيث قسم الحصانة إلى نوعين: حصانة موضوعية وحصانة إجرائية، مشيرا بهذا الصدد إلى أن الحكمة في تقرير هذه الحصانة كغاية جليلة، تكمن في إحاطة عضو مجلس الامة بالدعم اللازم لممارسة مهامه، من دون أن يكون مترددا أو متخوفا او حتى انتقائيا فيما يختاره من ألفاظ أو عبارات أو كلمات أو آراء أو مواقف عند ممارسة مهامه، خشية أن تتم مؤاخذته عليها أو مساءلته عنها بأي صورة من الصور.
الحصانة الموضوعية
وأشار المقاطع في كتابه إلى تساؤل يتطابق مع مضمون طلب التفسير محل البحث، وهو هل هذه الحصانة الموضوعية تعصم عضو مجلس الأمة من المساءلة بصورة مطلقة؟
بمعنى آخر: هل عضو مجلس الأمة يقوم بالتعبير عن آرائه وأفكاره من دون قيد أو شرط؟
والجواب بالإيجاب فيما يتعلق بالمساءلة الجنائية، وكذلك المدنية التي تكون للآخرين أيا كانوا في مواجهته، لكنها لا تعصمه من المساءلة التأديبية من قبل أعضاء مجلس الأمة باعتبارهم يمثلون مؤسسة برلمانية لها لائحة داخلية تفرض جزاءات على أي مخالفة يقوم بها العضو.
والمادة 181 من الدستور تأتي لتكمل المواد 108 و110 و111 التي أجازت إعلان الأحكام العرفية في الأحوال التي بيّنها القانون، والتي تقرر ما يلي: (........... ولا يجوز بأي حال تعطيل انعقاد مجلس الأمة في تلك الأثناء أو المساس بحصانة أعضائه)، وهذه الماده ترسي حكما جوهريا في شأن الحصانة، حينما تمر الدولة بفترة المشروعية الاستثنائية بإعلان الأحكام العرفية فيها، ومع ما قد يترتب على ذلك من تضييق للحريات وتعطيل لأحكام الدستور التي أجازت هذه المادة في مثل هذه الأحوال وفقا للحدود التي يبينها قانون الأحكام العرفية، بأنه لا يمكن في هذه الفترة المساس بحصانة أعضاء مجلس الامة، التي تستمر بكل أبعادها وبأقصى درجاتها، بنوعيها الموضوعي والإجرائي في هذا الوقت.
وما يلاحظ أن مقدمي الطلب يركنون في أسباب تقديم طلبهم إلى بعض الممارسات النيابية خلال الفترة الماضية، من تطاول على ذمم الناس، والتعرض لكراماتهم، وهو الأمر الذي بكل تأكيد لا نقره ونرفضه، ولكن لا يمكن أن نسقط ممارسات البعض على الدستور، وإنما يتم ذلك من خلال تفعيل مواد اللائحة الداخلية للمجلس.
لذلك، فإن أكبر التحديات التي يواجهها الدستور هي ممن يدعي حمايته، خصوصاً أن مواجهة تخوفات البعض من الانحراف بالممارسة النيابية يقع على المجلس بتحمل النواب مسؤولياتهم من واقع تفعيل المواد:
مادة 88
«لا يجوز للمتكلم استعمال عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضرار بالمصلحة العليا للبلاد، أو أن يأتي أمراً مخلاً بالنظام، فإذا ارتكب العضو شيئاً من ذلك، لفت الرئيس نظره، وعند الخلاف يفصل المجلس في الأمر دون مناقشة».
مادة 89
«للمجلس أن يوقع على العضو الذي يخل بالنظام أو لا يمتثل لقرار المجلس بمنعه من الكلام، أحد الجزاءات الآتية:
أ - الإنذار.
ب - توجيه اللوم.
جـ - منع العضو من الكلام بقية الجلسة.
د - الإخراج من قاعة الاجتماع مع الحرمان من الاشتراك في بقية أعمال الجلسة.
هـ - الحرمان من الاشتراك في أعمال المجلس ولجانه مدة لا تزيد على أسبوعين.
ويصدر قرار المجلس بهذا الشأن في الجلسة ذاتها، وللمجلس أن يوقف القرار الصادر في حق العضو إذا تقدم في الجلسة التالية باعتذار كتابي عما صدر منه».
وهاتان المادتان لم تُفعلا بشكل جاد باستثناء الفترة الأخيرة، وأعتقد بأنهما كفيلتان لمواجهة مثل تلك الممارسات لو استمر المجلس في تفعيلهما.
كرامات الأشخاص
ومن المؤسف أن يشير الطلب إلى ما يتعلق بالسؤال البرلماني، وما قد يتضمنه من عبارات غير لائقة أو مساس بكرامات الأشخاص وفق المادة 134، في حين أن طلب التفسير يتعلق بالمواد 108، 110، 111، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا أنه محاولة لتحصين بعض ممارسات الفساد، حتى من السؤال البرلماني، وهو ما يقضي كلياً على الشق الرقابي للمجلس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، من يحدد أن ما استخدم من ألفاظ أو عبارات أو مستندات، بأنها تسيء إلى كرامات الأشخاص أو أنها تمس ذممهم المالية؟ أليس هو المجلس؟ إذاً، ما جدوى طلب التفسير؟ خاصة وإنه بعد صدور حكم المحكمة الدستورية بتفسير تلك المواد، وتم عرض موضوع تعرض أحد أعضاء المجلس بالإساءة إلى أحد الأشخاص على المجلس، ولم يحزُ مقترح توقيف العضو عن الحديث أو توقيع عقوبة عليه الأغلبية، فما جدوى طلب التفسير؟ علما بانه بالامكان ان يتحمل رئيس المجلس واعضاء مكتب المجلس مسؤولياتهم بمواجهة مثل تلك الممارسات، وهي التي تمت بالفعل خلال المجلس الماضي (مجلس 2009) من واقع رد بعض الاسئلة التي تشوبها شبهة عدم الدستورية خلال تفعيل المادة 122 من اللائحة الداخلية والتي تنص على:
«يجب أن يكون السؤال موقعا من مقدمه، ومكتوبا بوضوح وإيجاز قدر المستطاع، وأن يقتصر على الأمور التي يراد الاستفهام عنها من دون تعليق عليها، وألا يتضمن عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضرار بالمصلحة العليا للبلاد.
فإذا لم تتوافر في السؤال هذه الشروط جاز لمكتب المجلس استبعاده بناء على إحالة من الرئيس، فإن لم يقتنع العضو بوجهة نظر المكتب، عرض الأمر على المجلس للبت فيه من دون مناقشة، وذلك قبل اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في المادة 123 من هذه اللائحة».
أبرز الملاحظات
من الممكن إيجاز ملاحظاتنا على طلب التفسير بعدد من النقاط هي:
• الطلب يأتي مخالفا لما جبل عليه المجلس بالدفع لدى المحكمة الدستورية بكل الطعون الدستورية السابقة بعدم اختصاص المحكمة الدستورية بتفسير مواد الدستور، والتي تأتي بالمخالفة للمادة 173 من الدستور.
• الطلب من شأنه ان ينسف ما استقرت علية الديموقراطيات العريقة لمفهوم الحصانة البرلمانية.
• الممارسات الخاطئة من البعض لمفهوم الحصانة البرلمانية لايمكن اسقاطة على الدستور وتجربتنا ومكتسباتنا الديموقراطية.
• الطلب من شأنه ان يلغي احد اهم المكتسبات الدستورية منذ صدور الدستور وهو مفهوم الحصانة البرلمانية.
• من المؤسف ان يأتي هذا الطلب بعد مضي ثلاثة اسابيع فقط من بدء المجلس اعماله، فهل هذه الفترة كافية لمعايشة مثل تلك الجوانب.
• قد يفسر البعض ان وراء هذا الطلب اطراف تضررت من الدور الرقابي للمجلس والمراد تحصينهم من هذا الدور الرقابي.
• الطلب وما يهدف اليه يعطل، بل يلغي، شقا مهما للدور الرقابي للمجلس.
• الطلب يعطي حصانة مطلقة لغير العاملين بالمؤسسات الحكومية من الدور الرقابي للمجلس ويبعدهم عن المساءلة عن اي ممارسات فساد او اضرار بالمال العام.
• الطلب مبني على افتراضات غير واقعية ولم تشهدها تجربتنا الديموقراطية على مدى الـ 50 سنة الماضية بهدف خلق حالة من الوهم لاقناع الرأي العام بطلب التفسير.
• يشهد تاريخ المجلس تصديه لطلبات التفسير استشعارا منه للانعكاسات السلبية لمثل تلك الطلبات، حيث يحضرني تصدي الأخ الفاضل عبدالله الرومي لأحد الأحكام التي تمس حصانة عضو مجلس الامة بما يتعارض مع الموادة 108 / 110 من الدستور، حيث تدخل بالمحكمة نيابة عن المجلس وقام بتقديم مذكرة تعكس رأي المجلس الرافض لهذا الاخلال الدستورى، فهل يأتي اليوم مجلس الامة ليتبنى مثل هذا الاخلال؟
• سبق وان قاد عبدالله الرومي خلال فبراير 2011 مبادرة شخصية بالطلب من الحكومة بسحب طلب تفسير سبق وان تقدمت به لتفسير بعض مواد الدستور (100و101و111و163)، وبفضل الله ثم جهود الرومي قامت الحكومة بسحب الطلب، فهل يأتي الآن مجلس الامة لتقديم مثل تلك الطلبات؟ فعلا انه امر مستغرب.
• هل يعقل ان تتراجع الحكومة عن طلب تفسير المادة 111 من الدستور خلال فبراير 2011، ويأتي المجلس بتقديم طلب التفسير نفسه خلال يناير 2012 ؟ انه فعلا امر مستغرب. فهل الحكومة احرص من المجلس على احترام الدستور؟
• الطلب يأتي من باب المبالغة بالضمانات للسلطة التنفيذية، وهو الامر الذي يخالف ما ورد بالمذكرة التفسيرية للدستور تحت الفقرة ( ب - قدر الدستور - من الناحية الثانية - ضرورة الحذر من المبالغة في ضمانات السلطة التنفيذية).
• يذهب الطلب إلى انه لايمكن الحديث عن اي قضايا فساد او ممارسات مخالفة للقانون الا من خلال احكام نهائية يمكن ان يستند اليها عند عرض تلك الموضوعات على المجلس او لجانه، وهو الامر الذي يتنافى مع مبدأ الرقابة والحد من التجاوزات وحالات التعدي على المال العام قبل وقوعها.
• الطلب تعدى مقصوده الاستفهامي من خلال تفسير بعض مواد الدستور إلى توجيه القضاء بكيفية التصرف في حالة عدم موافقة المجلس على رفع الحصانة من واقع سرده إلى اربعة اسباب يمكن الركون اليها بالتعامل مع حالات عدم رفع الحصانة، الامر الذي يخل بأبسط مبادىء فصل السلطات وفق المادة 50 من الدستور التي تنص على مايلي:
أن المجلس هو المختص بتحديد الجزاءات التي تقرر على العضو في حالة مخالفته للائحة، فكيف تتصدى المحكمة الدستورية لتحديد او اضافة جوانب جديدة في حالة مخالفة اعضاء المجلس للائحة الداخلية؟ الامر الذي يفسر بالنهاية عدم دستورية الطلب لتعارضه مع المادة 50 من الدستور التي تؤكد فصل السلطات وتعاونها، وعليه فان تصدي المحكمة الدستورية لايمكن تفسيره الا تدخلا باعمال المجلس.
• الطلب يعكس بالنهاية، سواء كان بقصد او من دون قصد، انه بمنزلة اضافة مواد للدستور، وهو الأمر الذي يعتبر في النهاية تنقيحا وعبثا فعليا بالدستور.