مملكة الضحك (1): ماري منيب… ملكة الكوميديا تولد من رحم المعاناة
كتب: ماهر زهدي
نشر في 15, August 2011 :: الساعه 10:02 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
ربما لا يوجد بين ناطقي اللغة العربية، من المحيط إلى الخليج، مَن لا يتذكّر «بخشوان هانم»، تلك التركية العانس الخفيفة الظلّ السليطة اللسان، التي تطل من حين الى آخر من شباك حجرتها لتسأل سائقها الجديد: «إنتي جاية اشتغلي إيه؟». ذلك المشهد الأشهر من المسرحية الكوميدية «إلا خمسة»، أول بطولة مطلقة لـ«مملكة الضحك المتحركة» ماري منيب أو كما كان يناديها أعضاء فرقة نجيب الريحاني وفنانوها «الست مرمر»، الفنانة المتعدّدة المراحل، التي استمر تألّقها فوق خشبة المسرح وعلى شاشة السينما أكثر
من 50 عاماً.
فنانة من طراز فريد لم وربما لن يتكرّر في السينما العربية، فلم تستطع أي فنانة مهما كان اسمها وخبرتها التمثيلية وحجم نجوميتها، أن تملأ الفراغ الذي تركته ماري منيب، فهي ليست برشاقة نجمات جيلها أو من سبقنها أو من جئن بعدها، ولم تكن جميلة الجميلات، ولم تدرس التمثيل في كبرى معاهد أو أكاديميات التمثيل، ومع ذلك استطاعت ببساطتها الاستحواذ على قلوب الجماهير العربية، بملامحها التي تشعّ طيبة وحناناً، ولا تزال «قفشاتها» وعباراتها تتردد بين الجماهير من مختلف الأجيال.
فقد تخصّصت إلى حدّ البراعة في تجسيد دور «الحماة النكدية» التي لا تدّخر جهداً في الوقيعة بين ابنتها وزوجها، أو ابنها وزوجته، فهي القادرة بكلمة واحدة أن تحوّل أجمل جنة إلى جحيم لا يطاق، وعلى رغم ذلك لا تستطيع أن تكرهها.
قدّمت ماري منيب تلك الشخصية في أكثر من فيلم سينمائي: «حماتي قنبلة ذرية»، «حماتي ملاك»، «الحموات الفاتنات»… وهي بالتأكيد لم تكن الوحيدة من بين بنات جيلها أو من سبقنها التي تجسّد تلك الشخصية، غير أنها كانت أكثرهن خفة دم وحضوراً، وأكثر من تركت بصمة واضحة على شريط السينما وخشبة المسرح من خلال هذا الدور.
فمن خلال تجربتها الزاخرة بالإبداع والتحدّي، فرضت ماري منيب وجودها واستقطبت جمهورها، وذاع صيتها فوق خشبة المسرح بين الفرق المسرحية الموجودة منذ عشرينيات القرن العشرين، حتى أنها طرقت أبواباً أخرى في مجالات التمثيل، فعملت في السينما التي شهدت تألّقها وبداية شهرتها الحقيقية ونجحت في عمل ثنائيات مع الكثير من نجوم الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وربما الستينيات، فكانت ثنائيات كوميدية تركت بصمة مهمة في تاريخ السينما العربية، لكن المدهش أن ماري لم تحبّذ العمل في التلفزيون، على رغم معاصرتها له ما يقرب من تسع سنوات، والسبب في رأيها أن تقاليد التلفزيون المهنية تختلف كثيراً عن المسرح والسينما.
ابنة الريحاني
رغم خوضها تجارب طويلة والتحاقها بمدارس متعددة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، فإن مدرسة الريحاني تحديداً هي التي صقلت ماري منيب ورسمت لها الشخصيات الكوميدية التي تتناسب مع إمكاناتها الفنية على يد عملاق الكوميديا نجيب الريحاني والمبدع الكاتب بديع خيري، فقدّمت أنماطاً جديدة اختيرت لها بعناية مدروسة، فأضافت إليها وقدّمتها بطريقتها الساخرة الساحرة التي انحاز إليها الجمهور، خصوصاً شخصيات: العانس، الشمطاء المتصابية، أو السيدة الشعبية ذات اللسان السليط، التي لا تنسى أن تذكّر الجميع بأنها «خبرة.. ومدوباهم اتنين»، حتى لو كانت تبدو خلال العمل أنها تخطّت الخمسين من عمرها، إلا أنها تذكّر كل من أمامها بأن المشكلة الحقيقية في الرجال أنهم «عديمو النظر» لا يقدرون جمالها، ولا مانع من أن ترتبط بشاب في الخامسة والعشرين من عمره، على اعتبار أنه «يكبرها» بأربع أو خمس سنوات، لأن عمرها لم يتخطَّ يوماً ـ في كل أدوارها ـ الحادية والعشرين ربيعاً، بل إنها كانت أحياناً تكسر القاعدة ليصل عمرها إلى 16 عاماً!
67 عاماً كان عمرها آنذاك تقريباً، بدأته بالشقاء والكفاح منذ طفولتها، فلم يقدَّر لها أن تعيش طفولتها كمن هنّ في مثل عمرها، فلم تكن قد تخطّت عامها الثالث عشر حتى اتجهت إلى التمثيل، صعدت السلّم من بدايته، اعتماداً على قدراتها الخاصة والموهبة التي حباها بها الله، فواصلت الرحلة لتصعد وتتربّع على عرش قلوب الملايين ممّن أحبوها.
نجحت ماري منيب بقوة من دون أن تعتمد على أنوثتها أو جمالها أو جمال صوتها في الأداء، بل اعتمدت على صدقها الفني وقدراتها على تجسيد كل الشخصيات، وخفّة ظلّها الطبيعية وسرعة بديهتها وحضورها الطاغي.
ومع أنها لم تتلقَّ أي قدر من التعليم أو التدريب في فنّ التمثيل، استفادت ماري منيب من كبار المخرجين الذين عملت معهم، ووظَّفت ملهاة التهريج والمكايدة من دون إسراف أو استخدام نكات لفظيّة جارحة أو حركات جسدية غير محبّبة.
وعلى رغم حرصها الشديد على احترام النص المكتوب، إلا أنها كانت تصبغ كل شخصية تجسِّدها بصبغتها الخاصة، وتضيف إليها «لزمه طريفة» سواء من خلال جملة حوارية أو حكمة أو مثل شعبي أو توظيف قطع الأكسسوارات، فلا تجد في أدوارها التي تمحورت كلّها حول «الأم والحماة» أي تشابه بينها، إذ كانت تقدّم شخصيّاتها بطريقة مبتكرة غير مكرّرة، ما حال دون تكرارها ثانيةً من أي ممثّلة أتت بعدها.
لذا لم يكن من بين جيلها أو من الأجيال السابقة أو حتى اللاحقة عليها، من لم يتمنَّ العمل معها، إذ عملت مع مختلف الأجيال، بداية من فوزي الجزائرلي، مروراً
بـ «بربري مصر الوحيد» علي الكسار، ثم يوسف بك وهبي، ونجيب الريحاني، الذي توقّفت ماري عند محطّته طويلاً، وإسماعيل ياسين، عبد الفتاح القصري، حسن فايق، استيفان روستي، ميمي شكيب، زوزو شكيب، محمد الديب، محمد شوقي، إسكندر منسي، محمود لطفي، فيكتوريا، حبيقة، سراج منير، عباس فارس، سعاد حسين، عدلي كاسب، أديب الطرابلسي، ومن الأجيال التي تلت جيل الرواد: نجوى سالم، جمالات زايد، عادل خيري، فريد شوقي، هدى زكي، حسين عبدالنبي، محمد عوض، إبراهيم سعفان، سهير الباروني، نيللي، أحمد مظهر، وعادل إمام، ومن المخرجين: عزيز عيد، نجيب الريحاني، يوسف وهبي، بديع خيري، سراج منير، عدلي كاسب، عبدالعزيز أحمد، عادل خيري، نبيل خيري، حافظ أمين، عبدالمنعم مدبولي، وغيرهم.
إنها ماري حبيب نصر سليم، التي أكملت بقية حياتها باسم «السيدة أمينة عبد السلام»، في الوقت الذي احتفظت فيه باسم شهرتها «ماري منيب» احتراماً لفنّها، ولجماهيرها التي عشقتها.
بيروت أولاً
ظلّت ماري منيب طيلة حياتها تعتبر نفسها مصرية من أصول لبنانية، مصرية الروح والهوى، لبنانية الجسد، عربية الملامح، فهي تشبه بيروت في نضارتها وثلوجها البيضاء، وتشبه القاهرة بسحرها وخفة دمها، سيدة يمكن أن تختصر أجمل ما في لبنان وأجمل ما في مصر، فإذا كانت مصر قد شهدت شبابها وتألّقها ونجوميّتها، فلبنان كان بلد المولد والطفولة المبكرة.
في ذلك الوقت المبكر من مطلع القرن العشرين، كان لبنان، كغيره من الأقطار العربية، يعاني من نير الاستعمار، إذ ظلّ حتى العام 1918 مقاطعة ضمن مقاطعات الإمبراطورية العثمانية، إلى جانب التدخلات البريطانية والفرنسية في ما بعد، لكنه تميّز منذ القرن السادس عشر بانفتاح لافت على أوروبا، سياسي وثقافي في آن، وإن كانت للصراع «الدرزيّ المارونيّ»، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمسمى بـ «فتنة عام 1861» نتائج خطرة على لبنان برمّته، فقد تمخّض عنه وجود نظام حكم قائم لمتصرفيّة لبنانيّة كان يعمل جاهداً على الاستقلال عن الحكومة العثمانيّة، وقد فتح الوضع الإداري الجديد لجبل لبنان نافذة واسعة على أوروبا، وهذا أمر أدى إلى تدخّل تلك الدول بشكل واسع في شؤون لبنان وطوائفه، وقد تطوّر مفهوم التدخّل الأوروبي في لبنان إلى استغلال الامتيازات الأجنبية التي تحوّلت في ما بعد إلى نوع من الحماية الأجنبية. كذلك، أحدثت الفتن المتعاقبة بين الطوائف في جبل لبنان شرخاً في العلاقة الحسنة التي ظلّت تسود مجتمع الطوائف اللبنانية.
من خلال تلك الأوضاع المتزامنة مع ضعف الدولة العثمانيّة، برزت فكرة القومية العربية، والحركة الوطنية العربية المناهضة للحكم العثماني في بلاد الشام، وقد تجلّى هذا المفهوم الفكري الرامي إلى إحياء العروبة عبر حركة إحياء اللغة العربية، والأدب العربي، والتاريخ العربي والتراث العربي برمته. وقد تعمّق هذا الفكر العربي وتوسّع في بلاد الشام في أعقاب بروز القومية الطورانية التركية التي حمل لواءها أتباع جمعية «الاتحاد والترقي»، فكان نموّه ردّة فعل على الاتجاه التركي المتعصّب الذي ركّز على تعزيز سياسة «التتريك» والإضرار بالعرب، وقد نشط هذا الفكر في بلاد الشام من خلال كتابات اليازجي والبستاني، وهما في طليعة رواد الفكرة العربية، التي استطاعت أن تحفظ للبنان هويّته العربية.
في ذلك الوقت، لم يكن الأهالي في لبنان بمعزل عن تلك الأحداث، خصوصاً أن التعليم كان قد انتشر مبكراً، وحدث معه تفتّح في الوعي لدى الشعب العربي في بلاد الشام، بسبب التعرّف إلى التيارات الغربية، فقد قامت في القرن السابع عشر علاقات بين الأمير فخر الدين ودوقات توسكانيا، ثم أقام الأمير بشير الشهابي في القرن التاسع عشر علاقات مع فرنسا، هذه الروابط التي كانت العائلات الحاكمة المحلّية تقيمها مع أوروبا أثارت بالطبع استياء السلطة العثمانية المسيطرة آنذاك على الشرق بكامله. وفي موازاة ذلك، تطوّرت العلاقات مع إيطاليا وفرنسا على الصعيد الثقافي، وإن كان لبنان استفاد من هذه العلاقات، لا سيما في تطوير الطباعة والاطلاع على الأفكار القومية والديمقراطية الأوروبية وتطوير التعليم وتحديثه، فقد ساهم الكثير من اللبنانيين في المقابل منذ القرن السادس عشر في نشر الثقافة واللغة العربيّتين في أوروبا.
أدت حركة التبادل هذه والاتصال بين لبنان والغرب، طوال القرن التاسع عشر، إلى قلب البنى الاقتصادية التقليدية في البلاد، فإن كان لبنان قد عُرف في العصور القديمة بالحضارة الفينيقية المتألّقة التي تفوّقت في مجالي الملاحة والتجارة، إلا أن الحملات الصليبية، ثم غزو المغول أجهزا تماماً على مدن بيبلوس وصيدا وصيدون وطرابلس، أما بيروت فقد اشتهرت في عهد الإمبراطورية البيزنطية بمدرسة الحقوق، لحرص الغالبية من أبنائها على دراسة الحقوق، بل على التعلّم في الاختصاصات كافة، فأتى في المرتبة الثانية بعد الحقوق الاقتصاد والتجارة.
طريق المال
من بين هؤلاء الذين حرصوا على دراسة الاقتصاد والتجارة، سليم حبيب نصر الله، الذي عشق الاقتصاد والأرقام عن والده حبيب نصر الله، الذي كانت له تجارة كبيرة في بيروت، ومع ذلك كان حريصاً على أن يعلّم ابنه تعليماً عالياً.
وما إن أنهى سليم حبيب دراسته حتى وجد طريق العمل مفتوحاً أمامه ومرحباً به، لما يحمله من شهادة عالية لم تتوافر لكثيرين من أهل بيروت في ذلك الوقت المبكر من نهاية القرن التاسع عشر.
عمل سليم في أحد أكبر مصارف بيروت، ولم يستغرق وقتاً طويلاً حتى يثبت براعة فائقة في عمله، الأمر الذي انعكس عليه مادياً بشكل إيجابي وسريع، فخلال سنوات قليلة أضحى أحد أنشط الصيارفة في بيروت وأشهرهم، وأصبح له دخل كبير ومميّز، غير أن هذا الدخل لم يكن حافزه الأول الاستقرار الأسري، بل الدخول في «لعبة المال»، أي محاولة جني الأموال بسرعة ويسر، سواء عن طريق «البورصة» وهو عمل مشروع إلا أنه غير ثابت الربح، فكانت نصائح الأصدقاء بأبواب أخرى تجلب المال له سريعاً، إما عن طريق المراهنات على الخيل، أو لعب «القمار»، وإن كان الأخير هو من تمكّن من سليم وأصبح مداوماً عليه كل ليلة، حتى ضجّت به الأسرة، وكانت النصائح للأم من الأهل والجيران:
= سليم بدو شي ينسّيه اللعب والسهر.
- ما في كلام… أفضل شي يتزوج.
_ هذا يوم المنى ياخانو… من بكير بزوجه إذا بيريد.
= وحتى إذا ما بيريد… بدك تخلّيه يريد.
= ما في صبية في بر الشام كله ما بتتمنى الزواج من سليم.
- ما في أجمل ولا أشطر من قاسمة.
_ قاسمة من؟
- قاسمة مسك… وهي مثل المسك… جمال ودلال وبيت وأصل وعيلة.
على رغم الأجواء السياسية المضطربة التي كان يعيشها لبنان آنذاك، إلا أنها لم تمنع أهله من الاستمتاع بالحياة، واقتناص السعادة كلما أمكنهم، فلم يمضِ سوى أشهر قليلة حتى كان سليم قد تزوّج من قاسمة مسك، سيدة ممن تتّضح فيهم ـ كما يقال ـ «ملامح الشوام»، شديدة البياض ممتلئة القوام، «ست بيت» ماهرة، ليس في كل شؤون المنزل من أعمال طبخ وغسيل وخلافه فحسب، بل أيضاً في الكثير من الحرف النسائية اليدوية مثل أعمال التطريز والحياكة، وشغل «الأركيت»، فهي من عائلة بسيطة هاجر كثر منها خارج لبنان سعياً وراء الرزق، بعضهم اتّجه إلى مصر، وآخرون إلى سورية، والبعض الآخر إلى أوروبا.
البشارة الأولى
استطاعت قاسمة أن تحوِّل بيت سليم إلى جنة حقيقية، بيت يملؤه الحب والحنان، تجتهد لتوفّر له كل سبل الراحة، وعلى رغم ذلك كلّه، لم تفلح محاولات قاسمة واجتهاداتها في ثني سليم عن تلك الآفة التي ابتلى بها، وهي «القمار».
ظنّت قاسمة أنها لو أخبرت سليم بالمفاجأة التي تحملها في أحشائها، فستكون سبباً قوياً في ثنيه عن الطريق الذي يسير فيه:
= سليم… بدي أحكي معك.
* حبيبتي قاسمة أنا مستعجل… إن شاء الله لما بعود في المسا بنحكي للصبح.
= حبيب إنت بتعود تعبان ومزعبر وما بدك تاكل ولا تحكي ولا تنظر حدا.
* لا حبيبتي اليوم إن شاء الله بعود طاير في السما… بس بدي تدعيلي.
ترك سليم قاسمة واستكمل طريقه في اتجاه الباب للخروج، وقبل أن يغادر أطلقت مفاجأتها التي أعادته مهرولاً إليها.
= إمو لإميل مرأت لهون أمس.
* أم إميل الـ…
= إيه هيي… وقالتلي بشّري الأستاذ سليم إنه قريباً بيصير أب.
كاد سليم أن يطير فرحاً، غير أنه استثمر هذه البشارة لصالح مهمّته التي يتعجّل الذهاب إليها وهي لعب الورق.
* هذه أجمل بشارة… بشرة خير يا ستي… أنا هلأ متأكّد إنو اليوم يوم سعد إلي… من شان هيك ربح اليوم كلّه إليك… بجبلِك هدية عظيمة بكرا يا أم بشارة.
= بشارة… شو بشارة هيدا.
* بشارة هيدا ولي العهد… شو رأيك بنسميه بشارة… اسم منيح وكلّه أمل وبشرى.
= ابنك وكيف ما بدّك بتسميه.
راحت أسرة سليم تنتظر أول حفيد لها، الجميع يلتفّون حول قاسمة، يرون أن أحشاءها تحمل من سيبعث اسم عائلة «حبيب نصر الله» من جديد، ويكتب لها البقاء، فقد بات الأمل كبيراً في سليم وزوجته، لذا راح الكلّ يتمنّون في أنفسهم بقدوم ولي العهد «بشارة».
لم تدم الأمنيات طويلاً، وسرعان ما كشفت الأيام عما تخفيه أحشاء قاسمة، التي استقبلت وزوجها سليم مولودهما الأول الذي لم يكن «بشارة» كما كان يتمنى الجميع بل فتاة أطلقت عليها أمها إسم «أليس».
لم يكن استقبال سليم لطفلته الأولى «أليس» لائقاً بها، ربما فرح لأنه أصبح للمرة الأولى أباً، غير أن وجودها لم يكن دافعاً له لأن يستقر في بيته ويلتهي عن عادة لعب القمار، الذي كان يستدعي منه السهر كل ليلة إلى ساعات متأخرة من الليل. وعلى رغم ذلك، لم يتقاعس سليم عن عمله الذي كان يحبّه ويخلص له بشكل كبير، ما كان سبباً لترقّيه بسرعة في درجاته الوظيفية، إلا أن هذا الإخلاص في العمل واللعب، كان على حساب صحّته التي أهملها بشكل كبير.
في الوقت الذي لم يكن وجود أليس سبباً في تغيير حياة سليم، أصبحت هذه الطفلة كلّ حياة أمها قاسمة، فملأت عليها الدنيا ووقت فراغها، ولم تعد تلحّ على سليم بالبقاء في البيت، إلا أنها لم تمتنع عن عادة انتظاره حتى ساعات متأخرة من الليل، وفي أحيان كثيرة ساعات مبكرة من الصباح.
كعادة أهل ذلك الزمان، كانت النساء يجتمعن في يوم محدّد في بيت إحداهن، في وقت يغيب فيه الأزواج، يجلسن في شكل صالون، يتبادلن الحكاوي والسمر، بل ويتناقشن في مشاكل بعضهنّ البعض.
وفي أحد تلك الصالونات كان اقتراح المجلس النسائي أن الحلّ الوحيد لإعادة سليم إلى بيته أن يكون له ولد، فإذا كان الله قد رزقه في المرة الأولى بابنة جميلة، فربما سيكون المولود الثاني ذكراً يعيده إلى رشده ويبعده عن تلك الآفة اللعينة.
لم يمر وقت طويل حتى شعرت قاسمة بأن مولوداً جديداً يتحرّك في أحشائها، غير أنها هذه المرة لم تسمح لنفسها بالفرح الزائد عن الحد، لأن المولود الثاني قد يكون إما سبباً في عودة سليم إليها والى أسرته أو سبباً في زيادة الهوة بينهما.
لم يكن مثل هذا الشتاء قد مر على لبنان منذ سنوات، هكذا وصف أهل بيروت شتاء عام 1902، مع ذلك لم تمنع قسوة هذه الأجواء سليم حبيب من الخروج والسهر، كعادته كل ليلة، للعب الورق، ولم يكن يدري أن الأقدار رتبت له موعداً لوصول مولوده الثاني، وكلما برقت السماء ورعدت، زادت مخاوف قاسمة على زوجها وزادت آلام المخاض لديها، بينما وقفت أم جدعون الخادمة والمربية، حائرة لا تعرف ماذا تفعل، لا بدّ من إحضار القابلة أم إميل وسليم ليس في المنزل والجو يزداد سوءاً والأمطار والرعد والبرق تشكّل حاجزاً أمام أي محاولة للخروج.
لم يعرف سليم سرّ الحظ الذي نزل عليه فجأة تلك الليلة فقد ربح، خلال دقائق أمضاها في اللعب، أضعاف ما كان يربحه في ساعات وعلى مدار ليال عدة:
= ماشاء الله سليم… الجو تلج وبيشتي وإنت حظك اليوم نار.
* بلا حظ… بلا بطيخ… هادي شطارة ومفهوميّة.
= اليوم صارت شطارة ومفهومية ولما بتخسر بيصير الحظ ملعون.
- إذا بتريد سليم سلفني شي ألفين تلاتة لبكرا… بدي عوّض الخسارة.
يضحك سليم وهو يلملم أمواله ويستعدّ للانصراف:
* متل ما بيقولوا إخوانا المصاروة… «السلف تلف».. بيكفي عاد اليوم… الجو صعب كتير… يلا يلا فوتنا العافية معكم.
البشارة الثانية
لم يكد سليم يضع قدميه داخل منزله حتى كان صراخ قاسمة يشقّ الظلام ليخترق قلبه وليس مسامعه، استقبلته أم جدعون عند باب المنزل وجسدها ينتفض من الخوف على حالة السيدة قاسمة، فهذه ساعتها، لم تكن العربة التي أوصلت سليم قد انصرفت بعد، وبينما كان السائق يدير وجهة الخيول ليعود أدراجه، لم يدرِ سليم كيف قفز ثانية إلى داخل العربة منطلقاً بها ليحضر القابلة أم إميل.
على رغم أن المولود الثاني لسليم جاء أنثى أيضاً، عكس ما كان يتمنى مثل المرة الأولى فإنه فرح بقدومها وشعر بأنها «وش السعد» عليه، وكان مقياسه في ذلك الأرباح التي حقّقها في 11 فبراير 1902 ليلة مولدها، لذا سماها هذه المرّة بنفسه، ليس لأنها «وش السعد» فحسب بل لأنها تشبه والدته إلى حدّ كبير، فأطلق عليها اسمها: ماري سليم حبيب نصر الله.
مثلما كانت سعادة سليم بمولودته الثانية ماري، كانت سعادة شقيقتها أليس بها، وربما أكثر، إذ لم تعد بمفردها فقد تخطت أليس عامها الثاني وأصبحت تمشي، بل وتركض وتلعب وتملأ البيت مرحاً، تعشق والدها وتتعلق به وتبكي عند مغادرته المنزل، فيما هو متعلّق بها بسبب بشرى اللقاء الأول والأرباح التي حقّقها ليلة مولدها.
بالقدر نفسه من السعادة وربما أكثر كانت سعادة قاسمة لأن ماري أعادت والدها سليم إلى البيت الذي غمرته السعادة بوجوده فيه، وأصبح لا يغادر المنزل إلا للزيارات العائلية فحسب، ويمضي غالبية وقته بين أليس وماري، وبينهما قاسمة، ولم تكد ماري تكمل عامها الأول حتى زاد يقين سليم بأنها «وش السعد» عليه:
* وين ماري؟
= ماري وأليس بغرفتهن… فيه شي لا سمح الله؟
* إيه فيه… فيه أشياء كتيرة.
= خير… وجعت قلبي.
* ياستي خير إن شاء الله… وقلبك ما بينوجع طول ما أنا موجود…
= إحكي سليم شو فيه؟
* الله بعتلي البنت مارى وبعت معها الرزق.
= ماري وحدها… وأليس وأمّها ما إلهن مكان؟
* ياستي كلكن ع راسي… بس البنت ماري رزقها واسع.
= شو اللي صار؟
* تلقيت ترقية كبيرة… ومن اليوم وطالع إنت صرتي حرم سليم بك مدير البنك.
بداية الضياع
مرّ عامان كان فيهما سليم مثال الزوج المحبّ لأسرته ولابنتيه، حوّلت خلالهما قاسمة البيت قطعة من الجنة، غير أن هذه النقلة الاجتماعية الجديدة لسليم لم تكن دافعاً للاستمرار في حياة الاستقامة والاستقرار، فسرعان ما عاد إلى اللهو واللعب والسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، بعدما أعاده الأصدقاء إلى لعب القمار مجدداً، وكما هي العادة، بدأ بالربح الذي أغراه بالاستمرار، لتكتشف قاسمة أنه عاد إلى تلك الآفة التي كانت تشاركه فيها.
كانت قاسمة تنتهز فرصة غياب سليم عن المنزل وتنجز أموراً منزلية كثيرة تفاجئه بها يومياً، من تطريز وشغل الإبرة والأركيت، غير أن سليم لم يكن يقابل ذلك بامتنان بقدر ما كان يهمّه ألا تنزل زوجته إلى مستوى اجتماعي أقلّ مما يريدها فيه، لا سيما أنه يمكنه أن يشتري لها ما تريده وبأي ثمن. وكانت قاسمة ترى في ذلك ما يشغلها ويعوّضها عن غيابه، وبعدما كانت تنتظر بمفردها على شرفة المنزل إلى حين عودته، أصبح معها شريك في الانتظار، ماري التي لم تكن تخلد إلى النوم قبل أن ترى والدها وتقبّله، وكانت قاسمة تتركها ساهرة إلى هذا الوقت المتأخر من الليل، لربما يرقّ قلب سليم على سهر هذه الطفلة التي لم يصل عمرها إلى الثلاث سنوات ويعود مبكراً من أجلها، غير أنه لم يعبأ بذلك، أو ربما لم يلتفت إلى تلك الحيلة.
مثلما كان الربح دافعاً لاستمرار سليم في اللعب، كانت الخسارة دافعاً أقوى للاستمرار لتعويض ما يخسره، حتى كان اليوم الفصل في حياته، استمرّ في الخسارة حتى أنه لم يجد سوى بيته ليكتب به ورقة «رهن» مقابل اللعب، وكانت المفاجأة أنه خسره أيضاً، وأصبح المنزل الذي تعيش فيه طفلتاه وزوجته قيد الرهن. لم يتحمّل قلب سليم الصدمة وسقط على طاولة القمار، فحمله الأصدقاء إلى بيته يصارع الموت، وشخّص الأطباء حالته بأنه تعرّض لصدمة عصبية عنيفة أثرت على قلبه الذي لم يعد يتحمّل صدمة ثانية، وإلا لن تكون هناك ثالثة.
لم يكن حزن سليم على ما خسره من أموال، بل كان قلبه يعتصر كلما شاهد طفلتيه أمامه:
* ترى ماذا سيكون مصير هاتين الطفلتين إذا قدم حسون ورقة الرهنية للمحكمة؟ سيتم طردنا جميعاً إلى الشارع… سننفضح في المنطقة… ولن أستطيع العيش فيها بعد اليوم… وهيك ما بسترجي أطلب مساعدة العيلة… يا ويلك يا سليم… دبرها من عندك يا الله.
جاء الإنقاذ عن طريق أصدقاء اقترحوا على سليم السفر معهم إلى مصر، فهم يضاربون في البورصة ويحققون أرباحاً طائلة هناك، وفي أقلّ من شهر يستطيع استعادة أمواله وربما أكثر.
رحلة إلى مصر
دارت الفكرة في رأس سليم ولم يضيّع وقته، تقدّم فوراً بإجازة من البنك لمدة 15 يوماً وأقنع قاسمة بأن لديه مهمة عمل في القاهرة سيغيب خلالها أسبوعين ويعود سريعاً، وسينتهز الفرصة ويعرض نفسه على الأطباء هناك، وعلى رغم عدم رضا قاسمة عن سفره، إلا أنها رضخت للأمر الواقع ووافقت شرط ألا يطول بقاؤه يوماً واحداً بعد انقضاء مهمته.
ودّع سليم زوجته وطفلتيه بحرارة وبكاء، كأنه اللقاء الأخير بينهم، وأمسك سليم ماري بين يديه ونظر في عينيها قائلاً:
* شو بدك البابا يجبلك معو من مصر؟
- ما بدي شي… بدي روح معك.
* ما بتأخّر… بتنامي وبتصحي بتلاقيني معك… بنلعب ونجري وبجبلك أشيا كتير كتير حلوة… بس البابا إلو عندك طلب… بدي تدعيلي إنو الله يرزقني ويوفّقني، ويكون وجهك الصبوح هيدا حلو عليّ في مصر، مثل ما كان في بيروت.
هزت الطفلة رأسها بالإيجاب والدموع تسيل من عينيها ولم تنطق.
ترك سليم زوجته وطفلتيه وليس معهن من المال سوى ما يكفي بالكاد انقضاء هذا الشهر، وعلى ظهر أول باخرة متّجهة إلى الإسكندرية كان يمنّي نفسه باستعادة وضعه المالي في مصر.
وقف سليم أمام البحر ونظر إلى السماء، وراح يقسم بينه وبين نفسه أنه إذا استعاد توازنه المالي فلن يعود إلى اللعب ثانيةً.
وجد سليم الإسكندرية تشبه بيروت إلى حدّ بعيد، لم يشعر فيها بالغربة ويمكنه العثور بسهولة على من يتأقلم معه، فقد استطاع برفقته أصدقاء أتوا معه من بيروت، معرفة الطريق إلى صالات لعب «القمار»، ولأن سليم محترف قديم لم تكن لديه مشكلة بل راحت الدنيا تبتسم له قليلاً وبدأ يحقّق أرباحاً أنسته الخسائر التي مني بها في بيروت، لدرجة أنه نسي النزول إلى القاهرة، بل وانتهت الخمسة عشر يوماً، المدة التي كان قد وعد زوجته بأنه سيمضيها في مصر، وزاد عليها وهو في الإسكندرية.
انتعشت حالة سليم المادية إلى حدّ ما، فكان أول ما فعله أن أرسل إلى زوجته مبلغاً يعينها وطفلتيه على العيش مرفقاً بخطاب يعتذر فيه عن العودة إلى بيروت لأن عمله لم ينته في مصر، ثم غادر إلى القاهرة ليبدأ رحلة البناء من جديد، وكان أول بيت يطرقه سليم في القاهرة هو بيت نبيه بك خال قاسمة، الذي كان يسكن في منطقة في شرق القاهرة حديثة العهد والبناء يطلق عليها «صحراء مصر الجديدة» على أطراف المدينة، وكان أحد رجال المال والتجار الذين يعملون في تجارة القطن والمضاربين بالبورصة، فحرص سليم على أن تكون علاقته به استشارية ليرسم له خارطة طريق حول التجارة والمضاربة في بورصة القاهرة، ورفض أن يقيم في بيته، وفضل النزول في أحد الفنادق في حي العباسية، القريب من مصر الجديدة.
ماري في القاهرة
خلال أسابيع استقلّ سليم بنفسه بعيداً عن نبيه بك، كي لا يثقل عليه من ناحية، وكي لا يكون قناة تنقل أخباره إلى قاسمة ابنة شقيقته، التي كان سليم يرسل إليها المال خلال الستة أشهر الأولى، لا سيما أن أموره المالية أخذت في الانتعاش، وأقام شبكة صداقات واسعة، سواء من الأصدقاء اللبنانيين أو من المصريين، غير أنه كان يتجنّب لقاء نبيه بك خصوصاً أن أخباره انقطعت عن قاسمة ولم يعد يرسل إليها مبالغ اعتاد إرسالها إليها شهرياً بعدما عاد إلى لعب القمار الذي لم يصمد كثيراً أمام إغراءاته، وسرعان ما جرفه التيار ونسي قاسمة، بل ونسي أليس وماري، وإن كان لم يغب عن ذهنهنّ لحظة واحدة، خصوصاً ماري التي كانت دائمة السؤال عن «البابا»، وتأتي الإجابة المعتادة على لسان قاسمة:
* ماري… إنت بتعرفي أنو البابا بيحبك كتير… بس يخلص شغله في مصر بييجي وبيجبلك إشيا حلوة كتير إنت وأليس.
= أنا ما بحب مصر هادى… أخدت البابا وما بيعود.
* لا حبيبتي… أكيد بيعود… بس إنت الحين أدخلي غرفتك مع أختك وبكير بيعود إن شاء الله.
كانت قاسمة تبحث كل مرة عن حيلة جديدة تهرب بها من مواجهة أليس وماري عند سؤالهما الدائم عن والدهما، غير أنها لم تستطع إخفاء مشاعرها الحقيقية عن والدتها السيدة منيرة، التي كانت تزورها بشكل شبه يومي، ليس للاطمئنان عليهن باعتبارهن بلا رجل فحسب، بل الأهم هو توفير نفقات العيش لهن بعدما انقطعت عنهن أموال سليم:
* بعرف أمي إني أثقلت عليكِ في المصاري إنت وأبي لكن…
- لا تكملي بنتي… شو هالحكي… شو مصاري وما مصاري… القصة قصة سليم… وين راح… حتى أخي نبيه بك بيحكي في مكتوبه الأخير إنه ما عاد بيعرف وين أراضيه ولا وين راح… حيّ ولا…
* أمي الله يخليك ما تكملي…
- لا بنتي بعيد الشر عنه… لكن في نيسان بيصير له عامين…
* إيه عامين… قال أسبوعين وصار له عامين.
- وحتى لو عاد اليوم وين بيشتغل بعد ما المصرف استغنى عنه؟
* بيشتغل وين ما بده بس يعود أمي… يعود… ما بقدر أتحمل أكتر من هيك.
لم تكن أخبار بيروت وما يحدث فيها غائبة عن سليم، في وقت ضاقت به الأحوال من جديد، ولم يعد معه من المال سوى خمسة آلاف جنيه، ربما هو مبلغ ضخم لدى آخرين، غير أن ما خسره سليم أضعاف هذا المبلغ، فقرر أن يودعه في «البتراخانة» ـ كنيسة بطريرك الكاثوليك ـ إلى حين عودته من بيروت، إذ قرر السفر إليها لإحضار زوجته وابنتيه للعيش معه في القاهرة، واتجه من فوره إلى نبيه بك وأطلعه على قراره بالبقاء في مصر والمبلغ الذي أودعه في الكاتدرائية، ونيته السفر إلى بيروت لإحضار قاسمة والطفلتين، فلم يكن أمام الأخير إلا أن بارك قراره، وكان في وداعه في رحلته من القاهرة إلى الإسكندرية التي ظل فيها ثلاثة أيام قبل وصول المركب الذي سيقلّه إلى بيروت.
انتظرت قاسمة أن يحلّ شهر حزيران لتستطيع ركوب البحر، قد لا تتحمل الطفلتان برودة هوائه، والسفر إلى مصر بحثاً عن زوجها بعدما أقنعها الأهل والمقربون بأنه لا بديل عن ذلك، ويستطيع نبيه بك العثور على سليم خلال أيام، ومع أن سعادة قاسمة وأليس بهذا القرار كانت كبيرة إلا أن الأسعد حالاً به كانت ماري:
* الحين أمي أنا بحب مصر كتير… من شان بنروح ونشوف البابا فيها… البابا وحشني كتير كتير.
ربما خرجت قاسمة ومعها أليس وماري من باب ميناء الإسكندرية ودخل سليم من باب آخر، فقد غادر إلى بيروت على المركب نفسه الذي أقلّ زوجته وطفلتيه إلى الإسكندرية.
رحيل سليم
عانت قاسمة كثيراً في السفر من الإسكندرية إلى القاهرة، ومن القاهرة حتى العثور على بيت خالها في ضاحية مصر الجديدة، غير أن أليس التي كانت بلغت عامها الثامن وماري التي بدأت عامها السادس، لم تعبئا بمشقة السفر في سبيل رؤية والدهما.
فوجئ نبيه بك بقاسمة وطفلتيها يقفن أمام باب شقته، وبقدر ارتباكه في بداية الأمر، إلا أنه سعد بهن واستقبلهن استقبالا حاراً، إلا أنه لم يعرف كيف جئن وهل جئن بمفردهن أم أنهن التقين سليم في الإسكندرية؟ أسئلة عدة دارت في رأسه غير أنه قرّر أن يسألها بحذر لعلّ في الأمر شيئاً يجهله:
= ع السلامة ع السلامة… وين سليم راح… ليش ما إجا معكن؟
* خالو… أنا اللي جاية أسألك وين سليم… وكيف هو؟
= سليم… آه آه سليم موجود… أنا بذاتي وشخصي بجيبهولك لهون… بس ارتاحوا وبيدبرها الله.
= خالو… إذا كان فيه شي لا سمح الله أنا قوية بقدر أتحمل…
* لاسمح الله يا خالو… مافي شي… بس ارتاحوا من السفر وبإذن الله من بكير بقلب المحروسة عاليها واطيها وبجيبلك سليم لهون.
نظرت ماري إلى أمها وهي في دهشة من كلام خال قاسمة:
- أمي… ما إنك قلتي إنو البابا بمصر… ليش خالو بيقول إنه راح المحروسة هادى؟
(ضاحكاً)
* له… له يا خالو… المحروسة هادي هي مصر… وهون بيقولوا عليها المحروسة منشان محروسة من الله… والحين أعطي بوسة كبيرة لخالو يا أليس.
- أنا اسمي ماري سليم حبيب… وما بعطيك البوسة إلا لما بتجيب البابا.
لم يشأ نبيه أن يخبر قاسمة بسفر سليم، كي لا تقرر العودة إلى بيروت، وارتأى أن يخبرها بعد أيام على أمل أن يسرع سليم في العودة إلى مصر بمجرد علمه بسفره زوجته وطفلتيه إليها.
شعر سليم بانكسار كبير عند وصوله إلى بيروت، فضلاً عن أن قلبه لم يتحمّل مشقة السفر، وزاد وجع قلبه ما أن علم بسفر زوجته وطفلتيه بحثاً عنه في مصر، واكتمل الوجع عندما التقى الأهل والأصدقاء وراح يسمع منهم ما حدث لزوجته وطفلتيه خلال غيابه عنهن، لم يرد أن يظهر أمام الجميع بمظهر المنكسر، فتظاهر بالنصر في مصر وأنه كوّن ثروة وجاء ليعود بهن.
كتم سليم ألمه في صدره، غير أن قلبه لم يتحمّل كل هذه الآلام، فتوقف ليرحل سليم في وقت تنتظر فيه قاسمة وأليس وماري في بيت نبيه بك العثور عليه… قبل أن يصل تلغراف إلى بيت نبيه بك:
«نبيه بك… البقية في حياتكم انتقل سليم حبيب نصر إلى الأمجاد السماوية».
البقية في الحلقة المقبلة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 23, August 2011 :: الساعه 10:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
مع مطلع العام الجديد 1921، عاد «جوق كشكش بك البربري» إلى القاهرة، بعدما قدّم مسرحية «اسم الله عليه» على مسرح «الهمبرة» في منطقة «باب توما» في الشام، واستأجر مسرح «زيزينيا» في الإسكندرية، وقدمت الفرقة عليه عروضاً مميزة لمسرحية «اسم الله عليه»، وبات «جوق كشكش بك البربري» حديث الإسكندرية، ما شجع المتعهدين وأصحاب المسارح على تقديم عروض مغرية للفرقة للعمل لديهم.
إلى جانب مسرح «زيزينيا» قدمت فرقة «جوق كشكش بك البربري» عروضاً لمسرحيتين على مسرحي «كونكورديا» و{الأنفوشي» في الإسكندرية، في الوقت نفسه، أي بمعدل ثلاث حفلات يومية: صباحية وماتينه وسواريه، ولم يكن فوزي وماري يلتقيان إلا على خشبة المسرح يومياً، بسبب انشغالهما في ثلاث روايات مختلفة وبروفاتها، فكانا يجريان بروفة قبل تقديم كل رواية، فتقدّم الفرقة رواية صباحية على مسرح الأنفوشي، ويبدأ العرض من الحادية عشرة صباحاً حتى الثانية عشرة والنصف ظهراً، بعدها تأخذ الفرقة وقتاً للراحة والغداء وتعاود البروفات من الثالثة حتى الخامسة على مسرح «كونكورديا» ليبدأ العرض من السادسة حتى السابعة والنصف، وحتى التاسعة والنصف تكون بروفة الرواية التي ستقدمها الفرقة على مسرح «زيزينيا» وما أن ينتهي العرض حتى تبدأ بروفة المسرحية التي ستقدمها الفرقة في صباح اليوم التالي على مسرح «الأنفوشي».
طعم السعادة
ذاقت ماري من السعادة ما لم تذقه في حياتها وغرفت منها ما شاءت، ليس بسبب الحبّ الذي تعيشه مع فوزي منيب فحسب بل لأنها كانت تعمل كثيراً ولأن أيام الفقر والحرمان ولّت إلى غير رجعة، لدرجة أنها لم تكتفِ بشراء من الذهب ما يزين يديها، بل غطت ذراعيها من كثرة تلاصق الأساور الذهبية إلى جوار بعضها، من الرسغ إلى المرفق.
إلى جانب ذلك زادت شهرتها وأحبها الجمهور وبات يسأل عنها بالاسم، فظنت أنه لا يوجد على الأرض من يوازيها سعادة، وكان فوزي منيب مثالا للزوج المحب الغيور على زوجته.
أرادت ماري تعويض والدتها قاسمة أيام الشقاء والتعب والحرمان فطلبت منها أن توقف العمل في الحياكة وترافقها إلى الإسكندرية، لا سيما أنها أصبحت تعيش بمفردها منذ تزوجت أليس، غير أن قاسمة لم تكن على وفاق مع فوزي منيب على رغم مباركتها زواجه من ماري، ولم تنسَ أنه تزوجها رغماً عنها، لذا كانت تمارس معه دور «الحماه النكدية»، وتنتقد أي أمر يقوم به، حتى لو كان الغرض منه إرضاءها، وتتعمد بداع ومن دون داع ذكر اسم فهمي عبد السلام، زوج أليس بكل الخير، وتعداد محاسنه وأدبه وحسن أخلاقه ومحاولاته لإرضائها بأي ثمن حتى لو كان على حساب سعادته الشخصية، ولا تنسى، من حين إلى آخر، أن تذكّر بأن ثمة فرقاً بين المحامي والمشخصاتي.
المدهش في الأمر أن ماري لم تغضب من تصرفات والدتها على رغم حبها الشديد لفوزي، بل كانت ترى في تصرفاتها مشاهد ومواقف كوميدية، تصلح للتقديم على خشبة المسرح، وقادرة على تفجير ضحكات الجمهور.
دور الحماة
لم ينقذ فوزي منيب من براثن حماته سوى تلغراف من فهمي عبد السلام يخبر قاسمة بأن زوجته أليس على وشك وضع مولودها الأول، وبقدر ما كان التلغراف طوق نجاة لفوزي لأنه سيرحمه ولو لأشهر عدة من حماته، إلا أنه كان سبباً في جرعة جديدة من «النكد الحموي» فما أن علمت قاسمة أن أليس على وشك وضع مولودها الأول، حتى راحت تطعن فوزي منيب بالكلمات:
* الله بيديم النعمة على فهمي وأليس… ما مرأت السنة إلا وكان الله رازقهن بمولود.
= يا حماتي قولي إن شاء الله… دي لسه ما ولدتش.
* بإذن الله بتولد وبيجي المولود ذكر.
= دكر ولا نتايه… كله بتاع ربنا.
* إيه كله نعمة من الله.. لكن وين النعمة منكن… تلات سنين مزوجين ولا شفنا شي… ليش ما بتعرض نفسك على حكيم.
= وأعرض نفسي على حكيم ليه يا حماتي… أنت شيفاني عيان.
* إيه معلوم… مرضان… ولا شو بيمنعكن للحين من الخلفة؟
= يا حماتي… يا حياتي… يا ملاكي أنت أنا بس…
* شو حماتك وشو ملاكك… شو هالحكي.
= الحكي ده بتاع ربنا وحده… إحنا معندناش مشكلة لا أنا ولا ماري… لكن لسه ربنا ما أردش… كل الحكاية إن الشغل أخدنا وانشغلنا… ادعيلنا بس إنت من قلبك وربنا يسهل.
* إيه بندعي… الله يوفق… لأجل نصفق.
أم للمرة الأولى
سافرت قاسمة إلى القاهرة لتستقبل مولود أليس الأول الذي جاء ذكراً، كما تمنت، في وقت استمر فيه فوزي وماري وفرقتهما، من نجاح إلى آخر، حتى فاجأت ماري فوزي بطلب إعفائها من العمل في المسرحيات الثلاث يومياً، والاكتفاء بالعمل في عرض واحد فحسب وهو العرض الصباحي. دهش من هذا الطلب غير الطبيعي الذي لم يرَ له سبباً، وظن أن في الأمر شيئاً ما، أو أنه صدر منه ما أغضبها، غير أن دهشته تبدّلت بفرحة غامرة عندما أخبرته السبب:
* بس عاوز أعرف ليه القرار المفاجئ ده… إحنا ما صدقنا إن الفرقة بقى لها اسم كبير دلوقت والحمد لله… تقومي إنت ترفضي الشغل… وكمان تختاري الحفلة الصباحية بتاعة الشباب والطلبة وتسيبي السواريه اللي فيها الجمهور الحقيقي.
= أيوه ما هو أصل أنا…
* انت إيه يا ماري… إيه اللي حصل خلاك تتغيري كده.. اسمك جنب اسمي على المسرح… وقده… وكمان فلوسك ماليش دعوة بيها بتاخدي أجرك زيك زيي… وما بتدفعيش في البيت…
= بس بس يا فوزي… إيه الكلام ده؟ إنت دماغك راح لفين؟
* ماهو أنا بصراحة مش لاقي سبب للي إنت بتقوليه ده.
= لأ فيه سبب… وسبب مهم كمان.
* سبب إيه ده اللي يخليك تسيبي الفرقة والنجاح اللي حققناه.
= ما نفسكش تبقى أب؟!
* إيه؟! أب… تقصدي تقولي إنك حامل.
تهزّ ماري رأسها بالإيجاب ولا تنطق خجلا، غير أن فوزي طار من الفرح ولم يصدق نفسه أنه سيصبح أباً… أكثر ما أسعده أن ادعاءات قاسمة لم تكن صحيحة، ولا بد من أن تأتي لتسمع هذا الخبر الذي يريد أن تعرفه الإسكندرية كلها، بل «المحروسة» بأسرها.
لم يدم غياب ماري منيب عن المسرح طويلا بعد الإنجاب، فاستأجرت مربية لرعاية مولودها الأول الذي أطلق فوزي عليه اسم فؤاد تيمناً بملك مصر فؤاد الأول، فكانت ماري لا تترك فؤاد حتى في وجود المربية في البيت، وتصطحبه والمربية إلى المسرح يوميا ليكون تحت رعايتها وأمام عينيها، وجعلت المربية تقف بفؤاد في الكواليس، لتلاحظه في تحركاتها. وفي إحدى المرات بكى فؤاد ووصل صوته إلى الجمهور الذي ظن أن إحدى المتفرجات أحضرت وليدها معها إلى المسرح، وراح الناس يتلفتون يميناً ويساراً بحثاً عن مصدر الصوت، حتى فوجئ الجمهور بماري منيب تقول:
* ياضنايا يا حبيبي… الواد مفلوق من العياط… عن إذنكم أطلّ عليه بس… وراجعه.
ضج الجمهور بالضحك، وظن أن ما قالته ماري ضمن أحداث الرواية، وعلى رغم ضيق فوزي منيب بما حدث، إلا أنه استحسن ذلك لضحك الجمهور وجعل هذا الموقف ثابتاً كل ليلة، فاحتجت ماري على هذا الأمر، لأنه كان مطلوباً أن تقف المربية كل ليلة في الكواليس و{تقرص» فؤاد ليبكي، وتنفذ ماري المشهد.
نجاح فوق العادة
كان لظهور فؤاد في حياة ماري وفوزي تأثير خاص عليهما، فقد زاد ارتباطهما ببعضهما البعض وحرصهما على المستقبل لتربية طفلهما وتوفير حياة كريمة له.
استمرت فرقة فوزي وماري في نجاح كبير حتى نهاية 1924، عندما بدأ الكساد يعمّ الفرق المسرحية في مصر وليس في الإسكندرية وحدها، لدرجة أن نجيب الريحاني سافر بفرقته إلى البرازيل، لتمرّ هذه المرحلة.
بعد سفر الريحاني لم يتوقف بديع خيري عن الكتابة، فوجد فوزي، غريم الريحاني الأول، الفرصة سانحة لينهل من النبع الذي نهل منه الريحاني، فكتب له بديع مسرحية «الغول». وفي العام نفسه 1924، سرحت منيرة المهدية فرقتها وأعادت تشكيلها من جديد، وكتب لها بديع خيري أوبريت «الغندورة» التي عرضت في بداية 1925، ثم أعادت منيرة عرضها مرة أخرى باسم «قوت القلوب»، وعندما نجحت الأوبريت ولاقت استحسان النقاد كتب لها بديع خيري أوبريت «قمر الزمان» إلا أنها لم تحقق النجاح، مع ذلك لم يوقف تعاونه مع منيرة المهدية فكتب لها أوبريت «حورية هانم» ثم «الحيلة».
كان فوزي منيب يتابع الحركة المسرحية عن كثب، فانتهز فرصة غياب الريحاني خارج البلاد، واستأذن بديع خيري في إعادة رواياته التي كتبها للريحاني ليقدمها على مسرح «زيزينيا» في الإسكندرية. لم يمانع بديع، غير أن طبيعة فوزي كانت أقرب إلى طبيعة علي الكسار وليس الريحاني، لذا لم يتقبّل الجمهور هذه الأعمال وخفّ الإقبال على مسرحه أيضاً، فتمرد بعض الممثلين عليه، ووقفت ماري إلى جواره وساندته بقوة، لكن حالة التمرد كانت أكبر من أن تصمد أمامها الفرقة، فاضطر فوزي في نهاية 1925 إلى حل «جوق كشكش بك البربري» وتسريح بقية أعضائه، والعودة مع ماري إلى القاهرة، واستقرا في شقتهما في روض الفرج إلى جوار أليس ووالدتهما قاسمة.
البربري العصري
كان أمين صدقي شرع في تكوين فرقة مسرحية جديدة باسمه في شارع روض الفرج، ووجد أنه يمكنه منافسة علي الكسار الذي انتقل بفرقته إلى شارع عماد الدين، فقرر تقديم «النسخة التقليد» من البربري لجمهور روض الفرج، واتفق مع فوزي منيب ليعمل في فرقته بأجر كبير مقابل تجسيد دور «البربري» على طريقة علي الكسار، فأبدع فوزي منيب في تقديم الشخصية وتحديداً في مسرحية «ناظر المحطة» التي عرضها «جوق أمين صدقي» في مسرح «دار التمثيل العربي» في شارع عماد الدين بالقرب من مسرح علي الكسار، وقد تعمد أمين صدقي ذلك لخلاف كان وقع بينه وبين الكسّار.
لم تكن ماري تشارك فوزي العمل لدى فرقة أمين صدقي، إذ كانت تنتظر مولودهما الثاني، وأراد فوزي أن يطلق عليه اسم محمد، فيما أرادت ماري أن تطلق عليه اسم بديع، وانتهى اشتباك الزوجين بعدما اقترح عليهما موظف مكتب الصحة إطلاق اسم محمد بديع عليه فرحبا به.
بعد شهر بدأ أمين صدقي وفرقته موسم الصيف في «كازينو مونت كارلو» في روض الفرج بشكل موقت، إلى أن ينتهي من تجهيز تياترو «سميراميس» الذي استأجره في شارع عماد الدين، بعد النجاحات المتتالية التي حققها له فوزي منيب.
كانت مسرحية الافتتاح لفرقة فوزي منيب «اسم الله عليه» التي سبق أن قدمتها في الشام، من تأليف أمين صدقي أيضاً. وكانت بطلة الفرقة ماري منيب عادت بعد ولادة ابنها الثاني محمد بديع، وانتظمت في البروفات استعداداً لتقديم عمل كبير يليق بعودتها إلى الفرقة، فاختار فوزي الممثلين الذين سيشاركون في المسرحية، بعد تفويض من أمين صدقي له ليضمن نجاحاً كبيراً، فاستعان بممثل متميّز من فرقة جورج أبيض، وهو الفنان فؤاد شفيق، الذي كان شقيقه الأصغر قد سبقه إلى التمثيل متخفياً باسم حسين رياض حتى لا تعرف الأسرة أنه يعمل في التشخيص، وبعد رضوخها للأمر الواقع ظل حسين محتفظاً باسمه الفني وشقيقه يعمل باسم فؤاد شفيق.
اختار فوزي أيضاً الفنان محمد كمال المصري، أحد نجوم الكوميديا من مسرح الريحاني، الذي كان بديع خيري ونجيب الريحاني اختارا له اسماً فنيا ظهر به في إحدى روايات مسرح الريحاني وهو «شرفنطح» فأصبح ملاصقاً له وكان يثير الكوميديا بمجرد ذكر اسمه. كذلك شارك في البطولة: دوللي أنطوان، حسين المليجي المونولوجست الجديد الذي بدأ اسمه يلمع في مسارح روض الفرج.
ثنائي في الصحافة
عندما انتهى تجهيز مسرح «سميراميس»، بعد الحريق الذي شب فيه، انتقل جوق أمين صدقي إليه، وقدموا أول ليلة عرض بافتتاح ضخم في الثامن من يوليو 1926، بعد إعلانات جابت شوارع القاهرة.
استمر عمل الفرقة على مسرح «سميراميس» بنجاح كبير، لدرجة أنها وصلت، للمرة الأولى، الموسم الصيفي بالموسم الشتوي، ولاقت مسرحية «سفير توكر» التي قدمتها الفرقة نجاحاً ولفت دورا فوزي وماري منيب في المسرحية أنظار الصحافة الفنية للمرة الأولى فأثنت على أداء الثنائي «فوزي وماري منيب»، هكذا كان يكتب اسماهما، وكتب ناقد «مجلة الممثل» في عددها الصادر في 25 نوفمبر 1926: «مولد نجمين كبيرين في المسرح الكوميدي… فوزي وماري منيب».
* فوزي… شفت اللي مكتوب عنك وعني في مجلة الممثل.
ـ أيوه شفت… بس الجدع الرسام اللي رسمنا مبوظ شكلنا خالص… بقى أنا كده… وانت كمان شفتي عاملة إزاي؟!
* بس الكلام اللي كاتبينه حلو قوي… فتح نفسي للشغل… خلاني أحس أن فيه ناس بتقدر اللي أحنا بنعمله.
ـ الفضل لك.
* أبداً… انت علمتني حاجات كتير… وده نجاحك.
ـ ده تواضع بقى ولا إيه… الناس بتسأل قبل ما يدخلوا، ماري منيب موجودة النهاردة ولا لأ؟ إنت فنانة موهوبة وأنا واثق أنك هيكون لك مستقبل كبير.
* عمر ما هيكون لي مستقبل بعيد عنك يا أبو فؤاد.
بقدر ما أكسبهما الكلام، الذي كتب عنهما في الصحافة الفنية، ثقة بنفسيهما وتحديداً ماري، بقدر ما أشعل الغيرة حولهما واشتداد المنافسة بينهما وبين الفرق الأخرى.
استمر فوزي منيب في أداء أدوار البربري في فرقة أمين صدقي، وتشاركه ماري في كل هذه العروض بنجاح كبير، وقدما معاً: «مملكة العجائب»، «بنت الشهبندر»، «مراتى في الجهادية»، «قنصل الوز»، «ليلة في العمر»، «الكونت زقزوق»، «عصافير الجنة»، «خالتي عندكم».
في نهاية 1927 تصدّع مسرح سميراميس وأصبح آيلا للسقوط، ولم يجد أمين صدقي مسرحاً بديلا، فاضطر إلى تفكيك الفرقة وتفرق أفرادها.
اتجه أمين صدقي إلى مجاله الأول، أي الكتابة المسرحية، وأغرق الفرق المسرحية بكمّ هائل من المسرحيات، حتى اتفقت معه في مايو 1928 شركة «بيرة الإبراهيمية» في الإسكندرية على تكوين فرقة مسرحية جديدة، فأسسها من مجموعة مختارة من الفنانين والفنانات، من بينهم: محمد بهجت، عبد اللطيف جمجوم، فؤاد شفيق، دوللى أنطوان وغيرهم، إلا أن قائمة الفرقة الجديدة خلت من اسمي فوزى وماري منيب، لأن فوزي أعاد تكوين فرقته وراح يجمع أعضاءها من بين الذين تركوا أمين صدقي، بالإضافة إلى هواة تعرّف إليهم في مسارح «روض الفرج» عندما كان يمثل في كازينو «مونت كارلو» ضمن أعضاء فرقة أمين صدقي.
اتخذ فوزي منيب مسرح كازينو «ليلاس» في روض الفرج مكاناً لعرض مسرحيات فرقته الجديدة، وقد استمرّ فيه فوزي وماري أكثر من ثلاثة أعوام، شهدا خلالها أمجاداً لفرقتهما بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ مسارح روض الفرج الصيفية.
كان فوزي وماري يقدمان أعمالهما إلى رواد مصيف روض الفرج الذي كان يمتدّ من ساحل روض الفرج حتى منطقة «المبيضة»، وكانت الجاليتان الأرمنية واليونانية في القاهرة تتخذان من هذه المنطقة مصيفاً للترفيه عن النفس بين ماء النيل وخضرة الساحل، فضلا عن كون المكان يمثل استراحة مهمة لكبار التجار الذين ينقلون بضائعهم من شمال مصر وجنوبها إلى القاهرة عبر النيل، ما جعل غالبية الملاهي صيفية «مكشوفة السقف»، فضلا عن الطابع الخاص الذي تقدّم به عروض هذه المسارح، وهي مسرحيات مقتبسة من الكلاسيكيات القديمة وتقدّم بأسلوب ضاحك ساخر، لتكون روض الفرج النسخة الشعبية من مسارح عماد الدين، حيث فرق: «رمسيس»، «الريحاني»، «الكسار» وغيرهم.
صبري صاحب شركة يعيش مع زوجته سامية في سعادة ، تحضر والدتها من الإسكندرية ، لا تستريح للاستقرار الذي تعيش فيه ابنتها ، تطلب منها إثارة عاطفة زوجها . يبدأ صبري يشك في سلوك سامية ، فتترك له المنزل وتطالبه بالطلاق ، يتفق مع صديقة كمال أن يعلن موته كذبًا ، يحضر خميس الحانوتي لاتخاذ إجراءات الدفن ، ولعدم خبرته تتولد بعض المواقف الكوميدية لأن صبري لم يمت حقيقة ، يختبئ صبري في الدولاب ، يستبدل الدولاب بآخر ، كمال يتهم خميس بأنه أضاع الجثة ، وتبدأ رحلة خميس في البحث عن الدولاب
بطولة
اسماعيل ياسين
ماري منيب
آمال فريد
يوسف فخرالدين
خيرية أحمد
كمال حسين
إلهام زكي
حسن أتلة
الدكتور شديد
الخواجة بيجو
ماري منيب… بنت شبرا تدخل عالم المشخصاتية مصادفة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 17, August 2011 :: الساعه 10:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
عاشت قاسمة وابنتاها أليس وماري، أياماً سعيدة في بيت خالها نبيه بك، عوضن فيها عن الحرمان الذي قاسينه خلال العامين اللذين انقطع فيهما زوجها عنهن، ووفر لهن نبيه بك سبل الراحة واصطحبهن في رحلات يومية لزيارة معالم القاهرة، في محاولة منه للتخفيف من غياب الأب الذي بات مؤكداً أنه سيمتد إلى الأبد.
كان الخال يبتسم ويضحك معهنّ وقلبه يعتصر من الألم، لا يعرف كيف يخبر ابنة شقيقته بوفاة زوجها، ومع كل يوم يمرّ يحاول أن يجد إجابات جديدة لأسئلة قاسمة وأليس، والأهم أن يجد إجابات مقنعة عن أسئلة ماري كل ليلة والتي لا تنتهي… حتى تنام:
* وين البابا… ليش ما إجا… ما أخبرته أن ماري ناطراه هون؟ إذا ما بده يجي أنا بروح لعندو.
مرّ ما يقرب من الشهر ولم يعثر نبيه بك على إجابات مقنعة لأسئلة قاسمة وطفلتيها، حتى ضاقت السيدة فادية، زوجة نبيه بك، بهذا الوضع، وطلبت منه أن يخبر قاسمة بوفاة زوجها لكي تنتهي تلك التمثيلية التي لم تعد تحتملها.
أرسل نبيه بك أليس وماري للعب مع فتيات في مثل عمرهما في حديقة فيللا مجاورة ليخبر قاسمة بوفاة زوجها.
لم تصدق قاسمة الخبر، كذّبت خالها، انهارت قواها، لم تحتمل الصدمة، سقطت مغشياً عليها. لم يجد نبيه بك مخرجاً من هذا المأزق أمام أليس وماري سوى أن يخبرهما بأن والدتهما مريضة ونصحها الطبيب بألا تغادر الفراش قبل أسبوع، ليكون لديها وقت لتقبّل الصدمة والتعايش معها والتفكير في المستقبل، وفي الوقت نفسه كان ذلك كافياً لانشغال أليس وماري مع صديقاتهما والكفّ عن السؤال عن والديهما.
لم يعد وجه قاسمة يعرف الابتسام أو الفرح، بعدما ظنت أن الدنيا ستبتسم لها أخيراً بمجيئها إلى مصر ليلتئم شمل الأسرة مجدداً مع سليم، غير أن الأقدار كان لها رأي آخر، وزاد من حزنها تجاهل فادية هانم، التي كانت تنتمي إلى طبقة أثرياء لبنان وتعشق الحفلات والسهرات ولا ترى سوى نفسها، فقد انتهى الترحاب بقاسمة وطفلتيها وباتت تشعر أنها أصبحت عبئاً على خالها وزوجته، تحديداً زوجته التي لم تعد تهتمّ بها وبابنتيها، وما إذا أكلن أو شربن، وهل ثمة ما يضايقهنّ؟ هذا كلّه غير مهم، الأهم عندها نفسها وضيوفها من الأصدقاء والمقرّبين وحفلاتها التي لم تكن تنقطع حتى بعد إعلان خبر وفاة سليم.
اللجوء إلى شبرا
كان لا بد من أن تجلس قاسمة مع خالها لتدبّر أمرها، لتجد إجابات عن أسئلة عدة تلحّ عليها في داخلها: ماذا بعد موت سليم؟ ماذا ستفعل في مستقبلها ومستقبل الطفلتين، هل ستبقى في مصر؟ وإذا بقيت ماذا ستفعل وكيف ستعيش ومن أين سيكون مصدر دخل الأسرة؟ هل تعود إلى لبنان؟ لكن ماذا ستقول للأهل هناك؟ وهل ستستمر أسرتها في الإنفاق عليها وعلى طفلتيها، وبدلاً من أن ترد دين أسرتها وما أنفقته عليهنّ خلال العامين الأخيرين، يستمرّ إنفاقها عليهنّ إلى الأبد؟
غير أن السؤال الأهم: أين ذهبت أموال سليم؟ وهل ترك أموالاً بالفعل أم فقد كل ما كان يملك؟ فهي تعرف أنه لم يترك شيئاً في بيروت، كما أنه لم يرسل لهن أموالاً منذ ما يقرب من العامين، فمن المؤكد أن لديه بعض المال، لكن هل تركه هنا أم أخذه معه في رحلته الأخيرة إلى بيروت؟
أسئلة كثيرة دارت في رأس قاسمة، غير أن خالها أجابها عن السؤال الأخير قبل أن تسأله وهو الأهم:
* قاسمة… فيه شي بدي أحكي معك فيه بخصوص …
= إيه خالو بعرف… يومين تلاتة وبدبر حالي أنا والولاد و…
صرخ فيها:
* ما بتحكي ولا كلمة زيادة في هالحكي… اللي بدي أقولك إياه… إن سليم الله يرحمه ويقدس روحه ترك شي مبلغ هيك في…
قبل لحظات شعرت قاسمة كمن يغرق في بحر بلا نهاية، وفجأة ألقى أحدهم إليها طوق نجاة… فلم تنتظر أن يكمل خالها كلامه وبادرته:
= أديش ترك… وتركهم وين… إحكي خالو؟
* شوي شوي خالو… بحكي… ياستي سليم أخبرني قبل ما يسافر ع بيروت أنه أودع في البتراخانة شي خمسميت جنيه تقريباً.
= بس… أقصد وين ها البتراخانة؟
* إيه بس هو خبرني هيك… والبتراخانة هون قريب منا… بالعباسية.
= منيح منيح كتير… الحمد لك يا الله.
* بكير بنروح أنا وياكي للبتراخانة ونشوف كيف بدنا نسحب المبلغ من شان تدبروا حالكن قبل السفر.
صمتت قاسمة.. ونظر إليها خالها محاولاً اكتشاف ما تفكّر فيه… غير أن صمتها لم يطل، لأنها كانت فكرت ودبرت واتخذت القرار وفاجأته:
= خالو أنا ما بدي سافر ع بيروت… بدي أنطر هون أنا والولاد… والله بيدبرها من عنده.
* كيف يا خالو… بتتركي بلدك وبتعيشوا هون بمصر؟
= ما بقي لنا حدا ببيروت.
* لا… لا يا خالو… لك الأهل والعيلة والحبايب.
= سامحني يا خالو… ما بقدر أعيش لحظة واحدة ببيروت من غير سليم.
* معك الحق والعذر يا بنتي…
كانت فادية تجلس على مقربة من سليم وقاسمة وتسمع الحوار الدائر بينهما ولم تتدخّل، بل بدا عليها أنها مشغولة بقراءة إحدى المجلات، لكن ما أن سمعت تعليق نبيه الأخير على قرار قاسمة حتى بادرته بنظرة فهم نبيه معناها، فاستدرك كلامه:
* لكن كيف بدكن تعيشوا هنا… أقصد أن مصر غير بيروت، مصر واسعة وما شاء الله كبيرة كتير… بيتوه فيها أهلها، ولا تواخذيني حبيبتي إنت ع العين والراس… لكن…
= بعرف خالو من غير ما تحكي… وكتر خير الله أن سليم ترك مصاري… مندبر بها حالنا والله ما بينسانا.
اتفقت قاسمة مع البتراخانة ألا تسترد المبلغ الذي تركه سليم كاملاً، بل على أقساط شهرية، باعتباره وديعة لديهم يمكن أن تحقق ريعاً شهرياً بنظام المصارف، ومنه تُصرف ستة جنيهات شهرياً لها، وبهذا المبلغ البسيط يمكن أن يدبرن حالهن، حتى تكشف الأيام ما تخبئه لهن من جديد، وكان القسط الأول في يدها قبل أن تغادر البتراخانة.
عزمت قاسمة على ألا تعود إلى بيت خالها، بعد اليوم، وأن تستقلّ بنفسها وحياتها وطفلتيها بعيداً عنه، أو بالأحرى بعيداً عن زوجته فادية هانم وعالمها وحفلاتها وسهراتها، وأصرت على أن تستأجر سكناً خاصاً بها، غير أن خالها أكد لها أن استئجار شقة في منطقة مصر الجديدة لن يقلّ عن جنيهين شهرياً، ما يعني أن ثلث ما ستتقاضاه من البتراخانه شهرياً سيذهب إلى إيجار الشقة، غير أنها فاجأته بأنها تحبّذ أن يكون السكن بعيداً عن مصر الجديدة وعالمها الخاص الذي له ناسه وعاداته وتقاليده التي لن تقوى عليها.
الصدفة وحدها قادت نبيه بك إلى أن يلتقي أحد الأصدقاء في البتراخانة، وما أن اطلع على سبب وجوده وابنة شقيقته وعرف قصّتها وبحثها عن سكن بسيط، حتى بادره بأن لدى أحد معارفه شقة خالية للإيجار ويمكن أن يتدخل ليجعل إيجارها الشهري لا يزيد على الخمسين قرشاً. طارت قاسمة من الفرح، وأصرت على الانتقال إليها اليوم… وليس غداً.
استأجرت قاسمة الشقة الجديدة في شارع «بركات» أسفل كوبري شبرا، في أحد أهم أحياء القاهرة الشعبية وأعرقها، وكانت المساعدة الأولى وربما الأخيرة التي قدّمها لها خالها نبيه بك، أن فرش الشقة بأثاث قديم مستعمل على نفقته الخاصة، إذ أصرت قاسمة على أن تصطحب طفلتيها معها ويقضين أول ليلة لهنّ في الشقة، حتى لو كانت خالية من الأثاث.
قرّرت قاسمة قطع علاقتها بخالها إلا من السؤال وألا تلجأ إليه مهما حدث ومهما قست عليها وعلى طفلتيها الأيام، ليس كرهاً فيه أو عدم اعتراف بفضله، ولكن كي لا تكون سبباً في مشاكل بينه وبين زوجته فادية هانم.
الشبراوية
لم تمرّ سوى أيام قليلة حتى أصبحت قاسمة وأليس وماري جزءاً من حي شبرا وأهله، فهو أحد الأحياء التي لها طابع خاص ويتميّز أهله بدفء غير عادي، لا ينتظرون أن تعلن عن شكواك حتى يمدوا لك يد العون، ليس بينهم غريب، يطبقون مبدأ «من عاش بيننا… صار منا»، لذا سرعان ما اعتبر أهل شارع «بركات» قاسمة وأليس وماري مسؤوليتهم، خصوصاً أنهن يفتقرن إلى رجل يحميهنّ، فصار كل رجل في الشارع عماً أو خالاً لأليس وماري وأخاً لقاسمة، وأصبحت كل امرأة أختاً لها وبالتبعية هي خالة لأليس وماري.
مرت الأيام الأولى على قاسمة بطيئة ثقيلة، تجترّ أحزانها، خصوصاً مع تجدد سؤال أليس وماري عن والدهما، لا سيما ماري التي كانت متعلّقة به على رغم أنها لم تعش معه إلا أن إحساسها به كان قوياً، ولم تجد أمّهما أمامها سوى التمهيد لهما، كالعادة في مثل هذه الظروف مع الأطفال في مثل عمرهما، بأن والدهما سافر سفراً طويلاً ربما سيتأخر فيه، لكنه لن ينساهما وسيرسل لهما رسائل من حين إلى آخر، وربما أرسل مع صديق له هدايا لهما، إذا نفذا كلام والدتهما ولم يغضباها.
مع مرور الأيام، اكتشفت قاسمة أن الجنيهات الستة لا تكفي لإعانتها وطفلتيها على أعباء المعيشة، خصوصاً مع وصول أليس وماري إلى سن لا بد من أن تلتحقا فيها بالمدرسة، فكان عليها أن تبحث عن مورد آخر للرزق يدرّ عليها دخلاً حتى لو لم يكن ثابتاً، ولم يكن أمامها سوى أن تستغلّ مهاراتها القديمة التي تجيدها في فنّ شغل الإبرة وغزل الصوف والأركيت، فاشترت خيوطاً وبعض الأدوات، وراحت تغزل مفارش وملابس صوفية وتعرضها على الجيران الذين رحبوا بها واشتروها وطلبوا المزيد منها، كذلك اشترت أخشاباً وصنعت أقفاصاً للعصافير والحمام وباعتها للجيران وجيران الجيران، فكان هذا كله يدرّ عليها قروشاً إضافية إلى جانب جنيهات البتراخانة لتعينهن على العيش، فوفّرت خمسين قرشاً شهرياً بعيداً عن احتياجاتها، لتدفعها قسطا شهرياً ثابتاً لشراء ماكينة حياكة بناء على نصيحة إحدى جاراتها لتحيك ملابس العرائس ومن يرغبن من نساء الحي.
مدرسة «سيدة الرسل»
أصرّت قاسمة على أن تلتحق أليس وماري بمدرسة «سيدة الرسل» للراهبات في شبرا التي تُعنى بالتعليم الفرنسي، وإن كان هذا الأمر لم يلقَ هوى عند ماري تحديداً، لأن في نفسها هوى آخر أتقنته بسرعة، وهو اللهجة المصرية كما ينطقها أهل حي شبرا:
* يا سلام يا ماري انت بقيتي بتتكلمي مصري زي المصاروة تمام.
= ما انت كمان بتتكلمي مصري كويس… انت مش فاكرة لما كنا بنقعد نتكلم في الشارع ولا في المدرسة.. كانوا الولاد بيضحكوا علينا إزاي؟
* أيوه فاكرة… بس دلوقت خلاص بقينا زينا زيهم… وبنتكلم كمان أحسن منهم.
= يا سلام لو الفرنساوي اللي بناخده في المدرسة يبقى زي المصري كده سهل.. كنا نبقى من الأوائل.. أنا مش عارفه إحنا بناخد الفرنساوي ده ليه أصلا… هو فيه حد في شارع بركات هنتكلم معاه فرنساوي… أنا زهقت من «الغرامير».
* لا وكله كوم و»الكاتيشيزم» كوم تاني…
= أنا عارفة بس ماما دخلتنا هذه المدرسة ليه؟
* مش عجباكي المدرسة.. طب أنا بكرة ها قول «للمسور» شوفي بقى هتعمل معاكي إيه.
= لا أرجوكي أليس.. بعدين تقوللي اكتبي «أنا غلطانة» ألف مرة وأفضل أكتب لحد ما أموت.
على رغم أن قاسمة لم تكن قد بلغت عامها الثلاثين بعد، إلا أنها بدت أكبر من عمرها، سواء بسبب الحزن على فقدان زوجها والوحدة التي تعانيها، أو بسبب تكاثر أعباء الحياة يوماً بعد يوم، فالفتاتان تكبران وتزداد أعباؤهما وطلباتهما فضلاً عن مصاريف المدرسة التي لم تعد قادرة على الوفاء بها، وتراكم إيجار الشقة عليها ثلاثة وأربعة أشهر، وإن كان الجيران المقرّبون لم يتركوهنّ ويتواصلون معهن في المناسبات كافة، لدرجة أنهن كن ضيفات شبه دائمات على موائد غالبية الجيران طيلة شهر رمضان، بعدما عرفوا أنهن مسيحيات، بل إن «فوانيس رمضان» كانت تأتي لأليس وماري على غرار أطفال الحي. مع ذلك كان أمام قاسمة أن تبذل مزيداً من الجهد في العمل وتحديداً في «الحياكة» لمحاولة كسب «زبائن» جدد عن طريق المعارف والجيران، حتى ذاع صيتها ومهارتها، إلى درجة أن زوجة أحد كبار تجار القماش والملابس ويدعى سمعان صيدناوي طلبت منها تفصيل فستان لها:
* شوفي بقى ياست قاسمة… أنا جايلك على الصيت… وكمان لما شفت شغلك… أنت لو عندك كام ماكينة وكام بنت بيشتغلوا معاكي… هتنافسي جوزي سمعان صيدناوي بذات نفسه.
= يا هانم إحنا وين وسمعان بك وين… شو بيوصلنا إله… الله بيزيده.
* قصدي أقولك إن الفستان ده لو عجبني… مش بس أنا هبقى زبونتك… لا ده كمان هجبلك زباين كتير… وكلهم من ولاد الذوات.
= الله بيخللي إياكي يا هانم… بإذن الله بيعجبك.
* ودول يا ستي عشرين قرش تحت الحساب… وأول ما يخلص الفستان هبعتلك الباقي مع جبران أفندي جوز أختي وياخد الفستان… أصل المشوار من الحلمية لحد شبرا بعيد عليّ… قولي بقى ابعته إمتى؟
= بإذن الله بتفوتي يومين وبيكون جاهز في اليوم التالت بالمسا.
فستان الهنا
شعرت قاسمة بأنها دخلت في تحدٍّ مع نفسها، لأن هذا الفستان قد يفتح عليها أبواب الخير، ليس لأن ثمن حياكته،80 قرشاً، يمكن أن يساهم في تدبير جزء كبير من مصاريف مدرسة أليس وماري فحسب، بل لأنه سيكون سبباً في جلب مزيد من الزبائن على شاكلة زوجة سمعان صيدناوي، لذا كان لا بد من أن توصل الليل بالنهار لإنجاز الفستان ولينافس، كما قالت صاحبته، أفضل ما في محلات سمعان صيدناوي، فانكبت على الماكينة لإنجاز هذه المهمة الصعبة لدرجة لفتت انتباه الطفلتين:
* ماما صعبانه عليا قوي يا أليس.
= وأنا كمان يا ماري… مش بتقوم من على الماكينة لا ليل ولا نهار… هو ده فستان عروسة؟
* لا ده فستان الست اللي كانت هنا أول أمبارح مرات واحد اسمه صيدناوي… يعني إيه صيدناوي يا أليس.
= أنا عارفه!! إحنا في ماما اللي عينيها هتوجعها من نور «اللمبة الغاز» ولا في صيدناوي واسمه.
في الموعد المحدّد، حضر جبران أفندي زوج شقيقة زوجة سمعان صيدناوي، وكانت قاسمة قاربت على الانتهاء منه وعليه أن ينتظر قليلا، وقبل أن ينتهي من احتساء فنجان القهوة الذي أعدته أليس سيكون الفستان جاهزاً:
* انت اللي عملتي القهوة دي يا أمورة؟
= أيوه يا عمو… وحشة؟
* وحشة!! دي أجمل قهوة شربتها في حياتي… واسمك إيه بقى؟
= اسمي أليس.
- وأنا اسمي ماري… ماري سليم حبيب نصر وفي الفصل التاني في مدرسة «سيدة الرسل».
* عال عال… عاشت الأسامي.
- وإنت اسمك إيه؟
= ماري… عيب كده.
* لا بالعكس دي جريئة وشاطرة… أنا يا ستي اسمي جبران ناعوم… وبشتغل مشخصاتي في جوق «أبو الكشاكش».
ضحكت ماري وأليس وهما تنظران إلى بعضهما البعض، لأنهما لم تفهما كلمة واحدة مما قاله جبران.
* يا سلام… أنا عارف إنو ماركة مسجلة… مجرد ذكر اسم أبو الكشاكش لوحده يضحك طوب الأرض.
- لا ياعمو إحنا بنضحك لأننا مش عارفين يعني إيه مشخصاتي ولا جوق ولا أبو الكشاكش… يعني إيه كل ده؟
* آاااه… طب شوفوا بقى… مشخصاتي يعني ممثل… بنجيب الروايات المكتوبة زي الحواديت كده وبنحكيها للناس بطريقتنا، واللي بيحكوا الحكاية دي اسمهم «جوق» أو فرقة… أما أبو الكشاكش ده بقى حدوته… ده كشكش بك اللي بيشخصه الأستاذ نجيب الريحاني صاحب الفرقة والممثل الأول فيها، ولما تشوفوه وهو بيشخص على المرسح تقعوا على الأرض من الضحك.
- يا سلام… دي حاجة جميلة خالص… أنا نفسي أشوف أبو الكشاكش ده
= ماري… عيب كده ها أقول لماما.
* لا ولاعيب ولا حاجة… بسيطة أنا يا ستي أجيلك يوم الجمعة اللي جاية أخدكم أفرجكم أنتوا وماما على رواية من روايات أبو الكشاكش.
بالفعل أنجزت قاسمة الفستان على أفضل ما يكون، فسلّمته إياه وتسلّمت منه ثمانين قرشاً بقية الحساب.
مملكة الضحك (5): ماري منيب… الخجل يصنع نجوميتها في أول مواجهة مع الجمهور
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 19, August 2011 :: الساعه 10:02 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
مثلما كان «عماد الدين» في وسط القاهرة شارعاً للفن، لما كان فيه من مسارح وملاهٍ، كان كذلك حيّ «روض الفرج»، أقرب الأحياء الى حي شبرا»، إذ إنه ملاصق له ويضج بالمسارح والمراقص والملاهي الليلية، فكان مقصداً للترفيه وعشاق فن التمثيل والغناء والرقص. إضافة إلى ذلك، كان «ساحل روض الفرج» مقصداً للمصطافين من الفقراء والطبقة الوسطى، في حين كانت منطقة «الزمالك» منتجعاً ومصيفاً لأولاد الطبقة الراقية والأرستقراطية، ممن لا وقت لديهم لمغادرة القاهرة بسبب ارتباطهم بأعمال خلال الصيف، وفي الوقت ذاته كان يتجه كثر في هذا الفصل إلى الإسكندرية ورأس البر.
ومثلما اختار «أبو الكشاكش» نجيب الريحاني شارع «عماد الدين» ومنطقة «وسط البلد» ليكون فيها مسرحه، اختار «بربري مصر الوحيد» علي الكسار شارع «ساحل الغلال» في روض الفرج مكاناً لمسرحه. ففي منتصف شارع «المبيضة» في روض الفرج، يقع شارع «ساحل الغلال» عمودياً عليه والذي ينتهي بدوره أمام نهر النيل، وفي هذا الموقع الحيوي كانت توجد لافتة كبيرة مكتوب عليها «جوق بربري مصر الوحيد».
كان علي الكسار يقدّم على هذا المسرح روايات مكوّنة من فصلين، يفصل بينهما فاصل غنائي راقص يعتمد على راقصة يصاحبها مطرب، يقدّمان فاصلاً ترفيهياً لرواد المسرح، وهذا ما كان يفعله نجيب الريحاني وغالبية الفرق المسرحية الهزلية أو الكوميدية آنذاك لضمان أكبر عدد من المتفرّجين، في إطار الحرص على إرضاء الأذواق كافة.
في شهر سبتمبر من عام 1914، عُرض الموسم الأخير لرواية «القضية نمرة 14» التي كان يقدّمها علي الكسار، والتي كانت تتناول بشكل كوميدي ساخر انعكاس الحرب العالمية التي نشبت قبل شهرين، في يوليو من العام نفسه، على الشعوب الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة، والتي غالباً ما تستخدمها القوى العظمى كوقود في مثل هذه الحروب.
ظنّت ماري وأليس أنهما ستؤديان البطولة أمام الفنان علي الكسار، فراحت أليس تمني نفسها بدور «ست الحسن والجمال»، وأكدت ماري أن الكسار حتماً سيختارها لدور الأميرة، وربما هذا هو ما دار في خلد أمّهما أيضاً، حتى فوجئن بما قاله جبران:
* بطولة كده مرة واحدة؟… ده إيه ده… وبعدين الرواية لا فيها ست الحسن والجمال ولا دور أميرة.
= وشو بيشخصوا يا جبران أفندي.
* يا ستي الرواية فيها ولاد المفروض أنهم شحاتين.
= شحاتين!! يا حسرتي… ولاد سليم حبيب شحاتين!!
* يا ستي هو ده التشخيص… أمال اسمه تشخيص ليه… النهاردة شحاتين بكره دور أميرة بعده دور بنت بلد… وأهو كل يوم بشكل.
- الله… دي حاجة حلوة قوي.
* أمال… يلا بقى أجهزوا علشان نلحق معاد المسرح ونوصل قبل الأستاذ علي الكسار ما يوصل… لأنه بيروح بدري قوي.
ظنّت ماري أنه مثلما وقفت هي وشقيقتها أليس بين يدَي «أبو الكشاكش» لاختبارهما وتفحّص هيئتيهما، حتماً سيحدث الأمر نفسه مع الكسار، غير أنهما ما إن أوصلهما جبران ومعهما والدتهما السيدة قاسمة إلى باب دخول المشخصاتية وسلّمهما الى مدير خشبة المسرح فنجري أفندي، حتى فوجئتا به يأخذهما من والدتهما ويسوقهما إلى أسفل خشبة المسرح حيث غرف تبديل الملابس، غير أن ماري لم تكن لتفوّت هذا الموقف، وراحت تسأل فنجري أفندي بينما هو يسجّل اسميهما في دفتر الكومبارس لإثبات الحضور:
= اسمك إيه يا حلوة إنت وهيّ؟
* أنا ماري ودي أختي أليس.
= الثلاثي… إسمكم الثلاثي.
* ماري سليم حبيب وأليس سليم حبيب بس كنت عاوزة…
= بس إيه… عاوزة إيه؟
* كنت عاوز أسأل يعني… هو الأستاذ علي مش هيقولنا الأول إحنا هنشتغل ولا لأ.
= خلاص الأستاذ فنجري وافق… فاهمين؟ أنا هنا اللي بقول مين يشتغل ومين ميشتغلش… وإنتو كده اشتغلتوا خلاص… يلا هتدخلوا الأوضة دي هتغيروا هدومكم وتلبسوا هدوم الشحاتين.
* نلبس هدوم شحاتين ليه؟
= الرواية كده… هتكوني إنت وهيّ مع الشحاتين في الرواية ومش عايز غلبه وكتر كلام… يلا غيروا هدومكم قوام.
* طيّب هو أحنا مش هنقابل الأستاذ علي الكسار علشان يشوفنا؟
= عاوزة تقابلي الأستاذ علي الكسار حته واحدة كده… يلا يا سنيورة منك لها يلا… واحمدوا ربنا إنكم هتشوفوه شخصياً على خشبة المسرح.
القضية نمرة 14
لم تكن أليس أو ماري تفهمان معنى التمثيل أو حتى ترغبان فيه، غير أنه بالنسبة إليهما وقت لطيف ستلعبان خلاله وتضحكان، كما فهمتا من جبران، والأهم من ذلك هو باب للرزق، وما ستتقاضيانه فيه من راتب، سيفرج عنهما الضيق الذي يعيشان فيه وأمّهما.
صعدت ماري وأليس مع بقية الكومبارس إلى خشبة المسرح، وبدأ مدير الخشبة يشرح لهم ماذا يفعلون وأين يقفون وكيف يجلسون، وما أن انتهى وغادر، حتى راحت الفتاتان تختلسان نظرة إلى جمهور الصالة من خلف «خرم» صغير في ستارة المسرح البالية، جمهور غفير، رجال يرتدون البدلات الفاخرة، و{الجلاليب» البلدي، ونساء ترتدين فساتين فاخرة بألوان وأشكال مختلفة، وبعضهن يضعن «فورير» فوق أكتافهنّ، خوفاً من «لسعة برد المساء» لقربهنّ من نهر النيل، أو ربما إمعاناً في التباهي والتفاخر.
مرّت أعين ماري وأليس على نوعيات الجمهور وهما تطيران فرحاً وسعادة، وراحتا تمنّيان نفسيهما بمزايا العالم الجديد وما يمكن أن يحقّق لهما من ثراء وسعادة. وظلتا تتفحصان جمهور الحضور حتى استقرتا عند موضع جلوس أمهما ما زاد على طمأنتهما.
كانت قاسمة تجلس في مكان قريب من خشبة المسرح، وما أن سمعت دقات المسرح الثلاث حتى راح قلبها يطرق بسرعة، كأنها هي التي ستخوض بعد لحظات امتحاناً مصيرياً يحدّد مستقبلها وحياتها.
فُتح الستار، في الخلفية منظر بانورامي لبيوت قديمة في أحد الأحياء الشعبية، وفي مقدّمة المسرح على اليمين واليسار مجموعة من الفتيان والفتيات في عمر أليس وماري وأكبر قليلاً، يفترشون خشبة المسرح بملابس «شحاذين» نائمين في أوضاع مختلفة. ومع بدء تحرّكهم من وضع الثبات، أعلنت موسيقى أغنية بداية الرواية التي من المفترض أنهم يقومون بأدائها، ثم دخل عدد من الخفراء ونهروهم قائلين:
= فز يا واد انتو وهو…
ممنوع النوم بره وجوه.
فردّ الأولاد بأغنية:
يا أخونا بردانين…
يا أهل الشفقة جعانين
حنوا على المساكين
يا أخونا تعبانين
كانت أحداث الرواية تقضي بأن يظلّ هؤلاء «الشحاذون» في مقدّمة خشبة المسرح طيلة أحداث الفصل الأول بعد أداء الأغنية، وبعدها يعودون للرقاد ثانيةً، ثم ينهضون ويؤدون أغنية أخرى فى نهاية الفصل.
أظهرت أليس براعة في ما طُلب منها، وشاركت المجموعة أداء الأغنية، لكن ماري حين هبّت لتقوم من رقدتها وفتحت عينيها ووجدت نفسها في مواجهة جمهور الصالة وجهاً لوجه، خافت من هذا المنظر الذي سبّب لها رعباً حقيقياً، فأغمضت عينيها بسرعة وعادت إلى رقادها على الأرض، وهنا ضجّت صالة العرض بالضحك، وكلما ضحك الجمهور زاد رعب ماري وخجلها ظناً منها أن الجمهور يضحك ساخراً منها، وليس لها ولما تقوم به من حركات كوميديّة.
مواجهة الجمهور
لم تتوقّع ماري أن تكون مواجهة الجمهور بهذه الصعوبة، غير أنها لم تستسلم، فلا بد من وقوفها ومشاركة أقرانها الغناء، ولن تكون أليس أشجع منها هي وبقية الفتيات الموجودات، فحاولت ثانيةً وفتحت عينيها لتهبّ واقفة، غير أن شجاعتها خانتها هذه المرة أيضاً، فأغمضت عينيها بسرعة وعادت إلى رقدتها، وهنا ضجّت الصالة بالضحك مجدداً.
في تلك الأثناء، كان الفنان علي الكسار يقف في الكواليس يتابع الكورس وهم يؤدون الأغنية قبل دخوله إلى خشبة المسرح، ولاحظ ما تفعله ماري ورد فعل الجمهور على حركتها، وظنّ أنها تتعمّد فعل ذلك لتنتزع ضحكات الجمهور:
- واخد بالك يا فنجري من البنت دي واللي بتعمله وضحك الجمهور عليها.
- أيوه يا أستاذ… واخد بالي.
= البنت دي أول مرة أشوفها هنا.
= أيوه يا أستاذ دي بنت جديدة أول يوم لها النهاردة… وربنا يستر.
- باين عليها بنت ذكية قوي وفاهمه مسرح.
= طبعا يا أستاذ دي اكتشافي… أنا اللي مدربها.
- انت اللي مدربها… أنا معرفش إنو إنت بقيت تشتغل مخرج دلوقت يا أستاذ فنجري يا أبو مخ تخين… ينكد عليك وعلى عمرك.
استمرّت ماري على هذه الحال حتى نهاية الفصل الأول، وبعدما أُسدل الستار رفضت أن تنهض وتفتح عينيها، فاضطرّ العاملون إلى سحبها من يديها فوق خشبة المسرح لإخراجها الى الكواليس فيما هي نائمة رافضة الوقوف، ما فجّر ضحكات جديدة لدى الجمهور ظناً منهم أن كل ما حدث هو جزء من الرواية، وظناً من الكسار بأن الفتاة تستمرّ فى الأداء الكوميدي المتعمّد، حتى أن قاسمة ظنّت الظنّ نفسه، ونسيت كل همومها وراحت تضحك من قلبها لما تفعله ابنتها الصغيرة ماري، التي لم تكن تدري أن لديها هذه المواهب كلّها.
الوحيدة التي كانت تعرف حقيقة الموقف هي ماري نفسها، فكانت ترتعد خوفاً من هذا الموقف الجديد عليها ومواجهة الجمهور، وزاد رعبها وقلقها عندما شاهدها فنجري:
= إنت… إنت يا بنت إنت.
* أنا يا أستاذ؟
= أيوه إنت يا ساهيه… ده انت طلعتي مصيبة… وكنت فاكرك طيبة وساهية.
* أنا عملت حاجة يا أستاذ فنجري.
= كل ده ومعملتيش؟ كنت عاوزة تعملي إيه تاني؟ اتاريكي كنت بتسألي هو الأستاذ علي الكسار مش هيشوفنا… كنت عاوزة تطمني أنه هيشوفك وياخد باله منك وحركاتك… وأهو حصل… بعد الرواية ما تخلص ما تمشيش علشان هتقابلي الأستاذ علي.
مرت دقائق الفصل الثاني من الرواية ثقيلة جداً على ماري، الجميع في كواليس المسرح في حالة بهجة وسعادة، حتى أن أليس اندمجت معهم ولم تلحظ شرود شقيقتها.
اللقاء مع الكسار
ترى ماذا يريد الكسار؟ هل سيعاقبها على خجلها فوق خشبة المسرح وخوفها من مواجهة الجمهور؟ هل سيكون العقاب مادياً بحرمانها من الراتب، أم أدبياً بحرمانها من العمل في الفرقة؟ أم أنه سيسخر منها أمام أفراد الفرقة ويجعلهم يضحكون عليها مثلما ضحك الجمهور ساخراً منها؟
انتهت الرواية واتّجهت قاسمة فرحةً الى الكواليس لتصطحب ابنتيها اللتين أثبتتا براعة فائقة في التمثيل منذ الليلة الأولى.
ركضت ماري وارتمت في أحضان والدتها كأنما تستنجد بها مما سيحدث لها من الكسار، حتى أنها كانت تدفعها ببطء الى باب الخروج كي لا يلاحظ أحدٌ مغادرتهما، وفيما كانت تستقبلها أمها بالأحضان مهنّئة، خرج الكسار من فوق خشبة المسرح وشاهد ماري بجوار والدتها فبادرها:
* تعالي هنا يا بنت إنت.
أبت ماري أن تذهب إليه، فدفعتها والدتها إليه دفعاً:
= يا عيب الشوم… شو هل الحكي يا ماري روحي للأستاذ بده يحكي معك.
* وكمان طلعتم من الشام… عال عال ده أحنا طلعنا قرايب.
هنا تجرأت ماري وسألته:
- قرايب إزاي هو إنت من الشام.
* لا، من مصر وأمي من السودان وإنتو من الشام… يعني كلنا عرب… يبقى قرايب ولا لأ يا ست ماري؟ مش اسمك ماري برضه؟
- ماري سليم حبيب.
* طيب يا ست ماري سليم حبيب أنا مبسوط منك قوي وكمان هاديلك النص «ريال» ده (عشرة قروش) وكل يوم هاديلك زيو… بس بشرط.
- إيه هو؟
* كل يوم تعملي اللي كنت بتعمليه النهاردة على المسرح وتموّتي الناس من الضحك… وتيجي بكره الساعة حداشر الصبح تعملي بروفة مع الفرقة… اتفقنا؟
- اتفقنا.
كل ما خرجت به ماري من اللقاء هو رضى علي الكسار وعدم معاقبتها، بل إنه أعطاها مبلغاً كبيراً وسيكون راتباً يومياً بخلاف راتبها الشهري، وهذا في حدّ ذاته إنجاز ما بعده إنجاز، غير أنها لم تكن تدرك أنه بطلبه هذا يرسم لها خارطة مستقبلها، وأنه يضع اللبنة الأولى في بناء كيانها كممثلة كوميدية، كي يمكّنها من انتزاع ضحكات الجمهور فوق خشبة المسرح من دون عناء أو جهد… فحسب باستخدام البساطة والتلقائية.
في طريق العودة إلى البيت، أصرّت ماري على دعوة أليس وأمّهما على عشاء فاخر على نفقتها الخاصة، وأن يكون في الهواء الطلق على كورنيش النيل، فلديها ثروة تقدّر بـ «نصف ريال»، أول أجر تحصل عليه من عملها، فكان العشاء آنذاك الوجبة الأشهر على كورنيش النيل، وبين المسارح والملاهي من بائع «السميط والجبنة والبيض».
الحلم بالمستقبل
لم تنم ماري ليلتها، وبعد الاحتفال مع شقيقتها وأمها، بما حقّقته ـ من دون أن تقصد ـ من نجاح، راحت تحلم بالمزيد منه في يقظتها وهي ممدّدة في سريرها، ثم استكملته في منامها.
كانت ماري تحضر البروفات الصباحية بمفردها من دون أليس، حيث كانت تتدرّب على ما تقوم به من حركات كوميدية تؤديها في الرواية، ثم تعود في المساء لتنفّذها في العرض، ويوماً بعد يوم كانت تظهر براعة فائقة في ما تقوم به فأُضيف عدد آخر من الحركات الى دورها، لدرجة أن الجمهور كان يصفّق لها طويلاً أثناء التحيّة النهائية، حتى لاحظ أمين صدقي، الشريك الإداري للفنان علي الكسار في الفرقة، ففكّر في أن يستغلّ هذه الموهبة بشكل أكبر، فعرض على الكسار أن تؤدي ماري رقصة في الاستراحة بين الفصلين، بدلاً من الراقصة «سنية شخلع» التي باتت تفرض شروطها المجحفة على الفرقة.
لاقت الفكرة هوى في نفس الكسار، فطلب فوراً من ماري أن تحضر معها والدتها في البروفة الصباحية، وما إن عرض الفكرة على قاسمة حتى انتفضت قائلة:
* شو هل الحكي أستاذ علي… كيف لابنة سليم حبيب بتشتغل راقصة؟
= يا ستي مش زي ما انت فاهمة… هي مش راقصة بالضبط… لكن هتمثل أنها راقصة.
* ولو… بيكفي أنها بتشتغل مشخصاتية… هيدا اللي كان بينقصنا تشتغل راقصة.
= اهدي بس وأنا هفهمك.
* شو بتفهمني… ترقص وتتعرى.
= لا لا… كله إلا كده… معندناش الكلام ده.
* وحياة الله بيكفي أستاذ بيكفي ما هيك بيصير في ولاد الناس.
= يا ستي ولاد الناس على عينا وراسنا… مين قال بس أننا عاوزين حاجة وحشة لولاد الناس… ده كله تمثيل في تمثيل… وبعدين ما احنا برضو ولاد ناس… أنا بس عاوزك تهدي كده وتسمعيني.
رفضت قاسمة رفضاً قاطعاً أن تعمل ماري راقصة، غير أن الكسار استطاع إقناعها أولاً بقبول الفكرة، ثم بأن الرقص جزءٌ من التشخيص وبأن تظهر ماري في إحدى الروايات بدور راقصة، وهذا لا يعني أنها كذلك بل ممثلة تؤدي دور راقصة، وهذا ما سيحدث بالضبط، وأنها سترقص ببدلة رقص محتشمة، لن تظهر حتى كعب قدميها، وإمعاناً في التأثير عليها قرّر أن يزيد راتبها أربعة جنيهات للرقص خلاف راتبها من التمثيل.
ماري راقصة
اضطرت قاسمة الى الموافقة بعدما أقنعها الكسار، غير أن مشكلةً أخرى واجهته حين فاجأته ماري هذه المرة قائلة:
* بس أنا مش بعرف أرقص.
أمام إصرار أمين صدقي واقتناع الكسار بالفكرة، قرّر الأخير أن يعهد بماري إلى الراقصة الأولى في روض الفرج، ومدرّبة الرقص الشرقي ماري منصور التي كانت تملك آنذاك ملهى على بعد خطوات من مسرح الكسار، والتي أكدت له أنها ستكون جاهزة للرقص خلال ثلاثة أيام فقط، لأن ماري كما رأت ماري منصور «بنت ييجي منها».
بعد ثلاثة أيام، خرجت ماري سليم على جمهور مسرح الكسار لتمارس الرقص الشرقي، بل ورقصت ما يُسمى بـ «رقصة القلل» الشهيرة، وفيها تحمل «قلة من الفخار» فوق رأسها، تتحرّك بها وترقص من دون أن تسقط من فوق رأسها، ما أثار إعجاب الجمهور، خصوصاً فتوات وتجار روض الفرج، لدرجة أن عدداً كبيراً منهم كان يذهب إلى المسرح لحضور فاصل الرقص يومياً، على رغم أنه سبق له مشاهدة المسرحية مراراً، فكان يصفّق لماري بحرارة، ما شكّل مصدر سعادة بالغة لصدقي والكسار. وهكذا أصبحت ماري عضواً مهماً وبارزاً بين أعضاء الفرقة، وسبباً قوياً لإقبال الجمهور على رغم حالة الكساد التي كانت تشهدها البلاد في تلك الفترة بسبب أجواء الحرب التي خيّمت على المنطقة.
البقية في الحلقة المقبلة
ماري منيب… الغيرة تطاردها وتكبدها ثمناً فادحاً للنجاح
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 20, August 2011 :: الساعه 10:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
لجأ علي الكسار وأمين صدقي إلى إدخال الرقص الشرقي إلى مسرحهما، بعدما انتشرت مقاهي الرقص والطرب كبديل عن المسارح في مناطق: روض الفرج، بير حمص، قنطرة الدكة، وميدان الخازندار، وبعدما أُغلقت أغلبية المسارح بفعل سلطة الاحتلال الإنكليزي، بسبب ما كانت تقدّمه من روايات مناهضة له، وأغانٍ وطنيّة تندّد بوجوده في مصر.
وكي لا يهجر الجمهور مسرح علي الكسار وينسحب إلى تلك المراقص والملاهي فيضطر إلى إقفاله، كما حدث في مسارح عدة، قرّر استقدام الرقص الشرقي لجمهوره في المسرح، وبعد أن كان مجرّد فقرة قصيرة بين فصلَي المسرحية التي كان يقدّمها، أصبح الرقص برنامجاً أساسياً في مسرح الكسار وصدقي.
استمرّ وجود ماري سليم أكثر من ثلاث سنوات في فرقة علي الكسار فأثبتت براعة فائقة كممثلة وراقصة، لا سيما بعد أن نضج جسدها وأصبحت شابة يافعة في الخامسة عشرة من عمرها، وبدأت تلفت أنظار كل رواد مسرح الكسار من الجمهور الجديد الذي فرضته أجواء الحرب، من الأغنياء الذين يتاجرون في كل شيء، بداية بالسلاح، وليس انتهاء بالمواد الغذائية والسلع التموينية، في وقت ظلّت شقيقتها أليس كواحدة من أفراد الكومبارس من دون دور أساسي، سواء في الروايات المسرحية، أو الرقص. بالتالي، كان أجر ماري في تزايد مستمر، فيما أجر أليس يزيد زيادات غير ملحوظة.
كانت أليس مقتنعة ببراعة شقيقتها، بل أصبح ذلك مصدر تباهٍ وتفاخر لها وسط أعضاء الفرقة، خصوصاً في ظلّ الاهتمام الواضح والملحوظ من صاحبَي الفرقة وتحديداً الكسار الذي كان يرى في ماري فنانة شاملة، فهي ممثّلة كوميدية بارعة، وفي الوقت نفسه ترقص وتغني وتقدّم استعراضاً، وهذه المقوّمات كلّها جعلته وصدقي يوليانها اهتماماً خاصاً، لأنها باتت أحد أهم مصادر دخل الفرقة.
الغيرة القاتلة
هذا الاهتمام بماري، خصوصاً من الكسار، أثار غيرة وأحقاد كثيرات ممن يعملن في الفرقة، ولم تكن ماري تهتمّ بذلك على الإطلاق، غير أن الأهم أنهن استطعن أن ينقلن هذه الغيرة إلى صدر زكية إبراهيم بطلة الفرقة الأولى التي كانت تشارك الكسار بطولة كل روايات الفرقة، غير أنها كانت ممتلئة القوام ولم تكن تصلح للرقص.
بدأت زكية تنتبه إلى اهتمام الكسار بماري، فلفت نظره إلى ذلك مراراً، حتى ضاق صدرها بها:
* هي جوق علي الكسار مبقاش فيها غير ماري سليم ولا إيه؟
= إيه الكلام ده مش صحيح..؟ ماري زيها زي أي بنت في الفرقة؟
* لا مش باين ياسي علي..؟ واضح كده إن بقى لها معزة خاصة؟
= انت بتغيري منها؟ أهو كده؟ يا ولد… والله برافو عليها البنت ماري عرفت تشعلل الحب وتخليك تغيري.
* هي مين دي؟ أنا أغير من حتة بنت كومبارس لا راحت ولا جت؟ أنا بتكلم في مصلحة الشغل يا سي علي.
= لا… لو على مصلحة الشغل… إن جيتي للجد بقى هي شايفه شغلها كويس قوي… وكمان بتزوّد الإيراد.
* إيراد إيه يا أبو إيراد… الإيراد بيزيد علشان الجمهور اللي بيجي علشان زكية إبراهيم.
= طيب إن كان كده سلام عليكم بقى.
* هو إيه أصله ده… على فين كده… مش بكلمك؟
= إذا كان الجمهور بييجي علشانك انت والست ماري… أروح أنا بقى.
* انت فهمت إيه… أنا مش قصدي.
= أمال قصدك إيه؟ انت شوية وهي شوية وأنا مليش لازمة؟
* لا؟.. انت عارف كويس أنا بتكلم على إيه. انت عاوز تعمل راسها براسي… وأنا اللي بحبك وبخاف عليك.
= أيوه كده قوليها… يا ولد.
* لا أوعى كده مبقيتش أحبك… خلي الست ماري تنفعك.
= ماري مين… ينكد عليه وعلى عمره… مفيش غيرك يا نجمة روض الفرج الأولى.
* وعماد الدين كمان وحياتك.
= طبعاً طبعاً… وماري دي بنت غلبانه بتاكل عيش.
* تاكل عيش في حته تانية يا عنيه.
= مش فاهم… تقصدي إيه؟
* أقصد إن يا أنا يا الست ماري دي في الفرقة.
تسبّبت غيرة زكية إبراهيم بطرد ماري سليم من الفرقة بعد أن أمضت فيها ثلاث سنوات بنجاح متصاعد ومستمر، فاضطرت هي وشقيقتها أليس الى البحث عن عمل في مكان آخر.
المقاومة بالغناء
لم يستمر بحث ماري سليم طويلاً، فما إن علمت ماري منصور بتركها فرقة الكسار حتى أرسلت في طلبها لتعمل في الملهى الخاص بها في روض الفرج، غير أن العمل في ملهى ماري منصور سيكون مقصوراً على الرقص دون تمثيل، بما يعني أن أليس لن يكون لها مكان في الملهى، فهي لا تستطيع الرقص أو الغناء، ولكنها اكتفت بمصاحبة شقيقتها كل ليلة فربما تعثر لها على عمل.
في بداية العام 1917، اشتدّت مقاومة المصريين للاحتلال، وزاد التفافهم حول الزعيم سعد زغلول، لدرجة أن كثيراً من المسارح والملاهي الليلية تحوّلت إلى ساحات للنضال، بالكلمة والأغنية، وكان لا بد لملهى ماري منصور أن يجاري هذه الأجواء كي لا ينصرف عنه الجمهور. استطاعت ماري منصور أن تدرّب ماري سليم على إحدى الأغنيات الشهيرة آنذاك التي كانت تغنّيها بديعة مصابني في الملهى الخاص بها في عماد الدين، والتي انتشرت بشكل كبير وسريع لدرجة أن سلطات الاحتلال كانت تحارب وجودها في أي مكان وتمنعها، فبدأت ماري تغنّيها على جمهور روض الفرج:
ياست مصر صباح الخير
يسعد صباحك ياعنيه
فين العداله يا مون شير
وبس فين الحريه
أما الزمن ده له أحكام
أحكام لكن عرفيه
واللي يشوف ثغره بسام
يحسب أموره مرضيه
وبس مين يرضى يا رجال
حره وتصبح مأسوره
وبعد الدهب تلبس أغلال
وتعيش أسيره ومقهوره
خدام في بلدي…
وده حال
يبكي أهل المعموره
ياست مصر صباح الخير
يسعد صباحك ياعنيه
نجحت ماري سليم في الأغنية نجاحاً غير عادي، فكان يقبل عليها جمهور غفير كل ليلة، لدرجة أن يوم إجازتها من الملهى يغيب الجمهور معهاً، ما أوغر صدر ماري منصور عليها، على رغم أنها كانت سبب في تحقيق إيرادات كبيرة للملهى الخاص بها، فاستغنت عنها غيرةً من نجاحها.
عادت ماري سليم وشقيقتها أليس ثانيةً الى الجلوس في بيتهما إلى جوار والدتهما، التي لم تنقطع يوماً عن عملها في «الحياكة».
«أم أحمد»
لم تكن لأعضاء الفرق الفنّية والممثلين تسلية في أوقات الفراغ سوى النميمة في أحوال الوسط الفني والفرق، فكان خبر ترك أحدهم أو إحداهن العمل في فرقة ينتشر بسرعة النار في الهشيم، وقد أصبح اسم ماري سليم الآن من الأسماء التي يمكن تداولها و«النم» عليه في الوسط الفني، فانتشر خبر تركها ملهى ماري منصور بسرعة حتى وصل إلى جبران ناعوم، الذي كان قد ارتبط إنسانيًا بهذه الأسرة.
لم يهدأ لجبران ناعوم بال حتى استطاع في أقل من أسبوع أن يجد عملاً جديداً لماري، وذهب إليها يسابق الريح ليخبرها بهذا الخبر السعيد:
= البسي هدومك وتعالي معايا حالا.
* خير يا أستاذ جبران.
= خير إن شاء الله… شغل يا ماري… شغل وفرصه كويسه قوي.
* أخيرا هشتغل مع أبو الكشاكش… أكيد وافق بعد ما بقيت ممثلة بيقولوا إني كويسة.
= طبعا كويسة ونص… بس يا ستي… أبو الكشاكش لسه عامل رواية جديدة وكاملة… وانت مينفعش ترجعي تشتغلي في الكورس تاني.
* أمال هشتغل فين؟
= انت طبعا عارفه الأستاذ فوزي الجزايرلي وفرقته؟
* آه ومين ميعرفوش؟
= وطبعا عارفه أن بنته إحسان بطلة الفرقة»
* عارفه… ووحياتك ما في واحدة تقدر تقرب من الفرقة وهي موجودة.
= عال قوي…
* عال إزاي يا أستاذ جبران… وانت لسه قايل إني منفعش اشتغل تاني في الكورس.
= كورس إيه انت هتكوني بطلة الفرقة.
* وإحسان… دي كانت تعملني زي الكبيبة الشامي.
= ماهوعلشان كده انا جيت لك.
* علشان تعملني «كبيبة».
= لا ياستي هم دلوقت بيعملوا رواية جديدة وعاوزين كذا ممثلة جديدة… وأنا كلمت الأستاذ فوزي الجزايرلي عليك ووافق… يلا معندناش وقت الأستاذ مستني.
عملت ماري مع فرقة فوزي الجزايرلي أكثر من 28 ليلة عرض بنجاح غير عادي، وأظهرت براعة في الأداء قرّبتها من إحسان الجزايرلي، فلم يكن نجاح ماري يسبّب لها أيّ مشكلة، لأنها بطلة الفرقة ونجاحها يلفت الأنظار أكثر من أي ممثلة أخرى فيها.
واصلت ماري عملها مع فرقة الجزايرلي، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان ولم تتوقّعه، ففي إحدى ليالي عرض الفرقة سقطت الجزائرلي من فوق خشبة المسرح، ولأنها كانت ممتلئة القوام فارعة الطول، كان السقوط مدوياً، حتى أن ساقها كُسرت فتوقّف عمل الفرقة ثلاثة أيام، إلى أن طلب فوزي الجزايرلي ماري في مكتبه في المسرح:
= طبعا انت عارفه إن إحسان وقعت على المسرح وانكسرت؟
* آه يا روح قلبي… ربنا يشفيها ويقومها بالسلامة ترجع تنور فرقتها.
= إن شاء الله… إن شاء الله… بس مفيش حد يرضى أن الناس تبطل أكل وبيوت الناس تتقفل لحد ما إحسان تقوم بالسلامة.
* آدي الله وآدي حكمته يا أستاذ.
= أيوه أيوه عارف… بس الفرقة لازم تشتغل… والرواية ناجحة ولازم تستمر… وبرسوم المجبراتي قال إن رجلها تقعد في الجبس تلات شهور… وطبعا الفرقة مش هتقفل في عز الموسم…
* والعمل يا أستاذ؟
= أيوه قولتلي العمل…. أنا اخترتك يا ماري تعملي دور «أم أحمد» لحد ما إحسان تقوم بالسلامة.
فور سماعها هذا الكلام، قفزت ماري من فوق الكرسي حتى كادت تطال سقف الحجرة.
* أنت بتقول إيه يا استاذ فوزي؟ أنا أشتغل مكان إحسان؟.. إزاي ميصحش دي كانت تزعل والزعل مش كويس دلوقت على صحتها؟
= لا ياستي يصح.؟. وبعدين ده مش رأيي؟.. ده رأي إحسان؟.. إحسان بنفسها هي اللي رشحتك تعملي دورها لحد ما تفك الجبيرة؟
* أيوه بس انت شايف إني أنفع أعمل دور…
= شوية حاجات بسيطة وبالتدريب تنفعي… وكمان انت تشبهي إحسان… وعودك قريب من عودها… يعني مفيش مشكلة.
وهكذا، حلّت ماري مكان إحسان الجزايرلي في رواية «بحبح أفندي» ونجحت في الدور بشكل أذهل فوزي الجزايرلي نفسه، فساهمت في زيادة ملحوظة لإيراد المسرحية، لدرجة جعلت إحسان تستعجل في فك الجبس لتعود الى دورها بعد أن شعرت بالخطر من ماري، وبأنها قد تسحب البساط من تحت قدميها، وهذا ما تأكّد لها فعلاً عندما طلب منها والدها أن ترتاح أسبوعاً آخر كي تتأكّد من الشفاء التام، وألا تشغل بالها لأن ماري سليم ناجحة في الدور ولا توجد أي مشكلة. وإذا كان هذا رأي والدها وصاحب الفرقة، فكيف هو رأي الجمهور؟
ماري… فتاة الأحلام
هكذا، فكّرت إحسان في النجاح الذي حقّقته ماري، فقرّرت ضرب كلام والدها عرض الحائط، ووضع حدّ لهذا النجاح الذي حقّقته ماري بغيابها، ومن دون علم والدها اتفقت مع الخطاط على تغيير الملصق في المسرح:
«الليلة تعود إليكم إحسان الجزايرلى في دور «أم أحمد» بعد عودتها من خارج القطر المصري}.
بهذه الجملة الصغيرة، وضعت إحسان الجزايرلي حداً لنجاح ماري سليم في فرقة «فوزي الجزايرلي»، التي قرّرت الاستغناء عنها نهائياً وليس إقصائها عن دور «أم أحمد» فحسب، إلا أنه إذا كانت إحسان نجحت في الحدّ من نجاح ماري في فرقة والدها، فلن تستطيع أن تضع حداً لنجاحاتها المتزايدة في أماكن أخرى.
عادت ماري إلى فرقة علي الكسار وأمين صدقي بعد أن غادرتها زكية إبراهيم، إثر خلاف كبير مع الكسار بسبب غيرتها المتزايدة، لكنها عادت مضطرة كي لا تجلس في بيتها، وإن كانت لم تنسَ استغناء الكسار عنها بسبب زكية إبراهيم.
في منتصف العام 1917، استطاع اللبناني أمين عطاالله أن يكوّن فرقة مسرحية جديدة وراح يختار لها أفضل الممثلين والممثلات، فوقع اختياره على ماري سليم لتكون بطلة الفرقة، كذلك اختار شاباً وسيماً يعمل في فرقة الريحاني يُدعى بشارة واكيم، ليكون بطلا الى جانب ماري.
وجدت ماري الفرصة متاحة أمامها لترك فرقة علي الكسار هذه المرة بنفسها فتردّ بذلك على طردها من الفرقة في المرة الأولى، وقد فشلت كل محاولات الكسار وصدقي في إثنائها عن قرارها، بعدها انتقلت فوراً مع فرقة أمين عطا الله إلى الإسكندرية.
قدّمت ماري سليم وبشارة واكيم موسماً مسرحياً ناجحاً في الإسكندرية، لدرجة أن نجاحهما أصبح حديث كل الفرق المسرحية.
آنذاك، وقع بشارة واكيم في حب ماري سليم، غير أنها لم تكن تشعر بهذا الحب، بل فسّرته على أنه اهتمام خاص بها لأنها فنانة ناجحة، ولم يكن في بالها أنها أصبحت شابة يافعة في مقدورها أن تلفت نظر الآخرين الى الحب والزواج، فيما حاول بشارة أن يفعل كل ما في استطاعته للفت نظرها إليه كحبيب، وليس كممثل أو صديق.
في الإسكندرية، التقى بشارة واكيم بصديقه محمد بيومي، وعدد آخر من الأصدقاء الذين استطاعوا إقناعهما بضرورة عمل فرقة مسرحية خاصة بهما، وبأن لديهما مقوّمات النجاح.
لم يدم تفكير بشارة في الأمر طويلاً، ووجدها فرصة للتقرّب أكثر من حبيبة القلب ماري، فشرع في تكوين فرقة كانت بطلتها الأولى ماري التي وافقت بلا تردّد بعدما أقنعتها والدتها وشقيقتها بذلك، كما استطاع بشارة إقناع أكثر من نصف أعضاء فرقة «أمين عطا الله» بالانتقال إلى فرقته الجديدة، بعد زيادة واضحة في رواتبهم، فبدأت فرقة «بشارة واكيم ومحمد بيومي» بتقديم أول عروضها في الموسم الصيفي نفسه في الإسكندرية، معلنةً عن البطلة الجديدة والوحيدة في الفرقة ماري سليم.
لم يرضَ أمين عطا الله بما فعله بشارة وماري وبقية من انتقلوا معهم من أعضاء الفرقة، فقرّر أن يضربهم بقوّة ويلقّنهم درساً لن ينسوه، فنزل إلى القاهرة وجمع عدداً من الممثلين يعوّض بهم من تركوه، غير أنه حرص على انتقاء أعضاء مميزين حتى لو كلّفه ذلك ضعف ما كان يدفعه لمن استغنوا عنه، وفي أقل من أسبوع عاد إلى الإسكندرية ومعه الممثلون الجدد، فبدأ البروفات وأعلن عن افتتاح جديد ومميز لفرقة أمين عطا الله وبممثلين لم تشهدهم مدينة الإسكندرية سابقاً يتقدّمهم الممثل والمونولوجيست الشاب فوزي منيب.
لم يمر أسبوع إلا وكانت فرقة ناجي عطا الله قد بدأت بسحب البساط من تحت فرقة بشارة واكيم، فأصبحت حديث الإسكندرية كلهّا، وراح الجميع يتحدّثون عن ذلك الشاب الأسمر الذي أحضره أمين عطا الله من القاهرة، والذي يجعل رواد المسرح لا يكفّون عن الضحك طوال أحداث المسرحية:
* سمعت يا بشارة عن النجاح اللي عاملاه فرقة أمين؟
= شوفي يا ماري… الكلام ده ما يدخلش العقل… كل دي دعاية فارغة… علشان أمين يخلينا نغير ونندم أننا تركنا فرقته.
* لكن بيقولوا إن الممثل اللي جابه مكانك في الفرقة عامل شغل كويس قوي وبيموت الناس من الضحك؟
= مين ده اللي ممكن ينافس بشارة واكيم؟
* طب أنا عندي فكرة.
= إيه يا أم الأفكار النيرة؟
* إيه رأيك لو نروح نحضر بكره عرض الفرقة بتاع أمين ونشوف بنفسنا النجاح اللي بيقولوا عليه ده… وأهو بكره إجازة الفرقة عندنا ونروح نشوف؟
= وإيه هيفيدنا… نزود إيرادهم أكتر؟
* لا طبعا… أحنا نروح علشان نعرف إيه اللي بيقدموه زيادة ومش عندنا ونقدمه لجمهورنا؟
= ربنا يخللي الدماغ دي اللي زي البرلنت؟
اصطحبت ماري شقيقتها أليس كي لا تكون بمفردها مع بشارة واكيم لمشاهدة عرض مسرحية فرقة «أمين عطا الله»… جلست أليس بين ماري وبشارة في مكان قريب من خشبة المسرح، دقّت دقات المسرح الثلاث، فُتح الستار، بدأ العرض، وما إن أطلّ فوزي منيب على الجمهور حتى ضجّت الصالة بالتصفيق… بدأ فوزي بتقديم مونولوجاته، حتى جاء المونولوج الشهير الذي تفاعل معه جمهور الصالة وردّده معه، وكانت بدايته عبارة عن كلمة واحدة من حرفين يردّدهما على طريقة دقات القلب:
تم… تم تم… تم
مع هذه الحروف البسيطة التي تشبه في نطقها دقات القلب، لم تدرِ ماري ماذا حدث لها؟ بدأ قلبها يدقّ بعنف لهذا الشاب الأسمر فوزي منيب… لم تعرف لماذا؟ فقد خطفها من كل من حولها… شعرت بأنها وقعت في الحب للمرة الأولى.
البقية في الحلقة المقبلة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 21, August 2011 :: الساعه 10:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
شعرت ماري بأن أمراً غريباً تسرّب إلى داخلها، وأن سهماً خرج من عين ذلك الشاب الأسمر فوزي منيب ليصيب قلبها مباشرة، خرجت من المسرح بجسمها مع أليس وبشارة واكيم، غير أن روحها تركتها هناك.
طلب بشارة أن يقطعوا المسافة من المسرح إلى اللوكاندة التي ينزلون فيها مشياً على الأقدام لتكون ثمة فرصة أكبر يتحدث فيها مع ماري، المدهش أنها وافقت ليس تحقيقاً لرغبة بشارة، لكن لتسرح بخيالها مع هذا الأسمر.
بدأ بشارة يتحدّث عن نفسه كفنان صاحب رؤية وفكر ومؤسس فرقة، في حين اكتفت ماري بهز رأسها من دون أن تنطق بكلمة واحدة، بل كانت أليس تردّ عليه وتجاريه في الكلام، يتحدث بينما تسترجع ماري حركات فوزي منيب وسكناته وقفشاته، لدرجة أنها كانت تضحك أحياناً من كلام بشارة في موضع لا يستأهل الضحك، وتصمت عندما يستدعي الموقف الضحك، ما لفت انتباه الأخير، فاستدار ووقف في مواجهتها قائلا:
* أنا حاسس إنك مش معانا خالص… عمال أتكلم من بدري وإنت شوية تضحكي وشوية تكشري… هو كلامي مش عاجبك ولا إيه.
= إيه… هه… آه… لا أبداً إزاي.
* لا… ده انت مش هنا خالص… رحتي فين؟
= بس تعرف يا بشارة… أمين عطا الله عرف يجيب فرقة كويسة من مصر… وخصوصا الولد الأسمر ده… إنت قولت اسمه إيه؟
* اسمه يا ستي فوزي منيب… جدع غلبان على قدّه… بس برضو ميقدرش ينافس أبو البشاير.
= مين أبو البشاير.
* محسوبك… هو مش نجيب الريحاني اسمه أبو الكشاكش.. أنا بقى إسمي أبو البشاير.
= طبعاً طبعاً… بس إنت باين عليك تعرفه كويس.
* أيوه… ماهو إحنا اشتغلنا سوا في فرقة عبد الرحمن رشدي من سنه تقريباً في عماد الدين.
= يااه… معقولة.
* طبعا وكنت أنا بطل الفرقة… أصل صاحبك عامل فيها إبن ناس وبينكسف من خياله… هو فيه ممثل ينكسف كده؟
= تقصد مين؟
* أقصد الجدع ده اللي اسمه فوزي منيب… فاهم أنو علشان واخد البكالوريا ياما هنا ياما هناك… طب ما أنا أهوه واخد دبلوم مدرسة الحقانية… ولو كنت عاوز كان زماني «أبوكاتو» قد الدنيا… غيرش بس حبي للتمثيل…
= صحيح هو معاه البكالوريا؟
* أقولك دبلوم الحقانية تقوليلي بكالوريا.
= إيه… لا طبعاً… وهو يروح فين في أبو البشاير.
* أبو البشاير… يا دهوتي يا دهوتي… طالعة من بقك زي الغريبة.
لاحظت أليس اهتمام بشارة واكيم الزائد بماري ولم تعلّق، غير أنها نقلت هذا الإحساس إلى والدتها، التي رأت فيه رجلا مناسباً يصلح لأن يكون زوجاً لابنتها الصغرى ماري، غير أنها تمنت لو أنه يترك موضوع «التشخيص» هذا ويعمل بشهادته في المحاماة ليكون «أبوكاتو» كما قال.
لم تنم ماري، بل راحت تستدعي صورة فوزي منيب أمام عينيها وتفكر في كل ما قاله بشارة واكيم عنه، وفي المواصفات التي ربما حلمت بها في فارس أحلامها، حتى ضبطت نفسها ودموعها تسيل على خديها، فتساءلت:
لماذا البكاء؟ هل هي دموع الفرح للعثور على فتى الأحلام؟ أم دموع الخوف من ألا يكون لها نصيب فيه؟ أم دموع الحيرة لأنها لا تعرف كيف يمكنها أن تنقل إليه هذه المشاعر والأحاسيس؟ أو ربما هو كل ذلك؟
الوقوع في الحب
مع انتشار التظاهرات التي تندد بجلاء المحتلّ البريطاني عن مصر في طول البلاد وعرضها، كان لا بد من فرض الأحكام العرفية، التي فرضت الإغلاق الليلي للمسارح ودور الملاهي، ما جعل فرقة بشارة واكيم تقيم عرضها «ماتينه» بحيث ينتهي في الثامنة والنصف مساء، وهو نفس توقيت انتهاء عرض «فرقة أمين عطا الله» التي يعمل فيها فوزي منيب، غير أن نجاح «فرقة أمين عطا الله» دفعها إلى أن تقيم حفلة نهارية للفرقة، وطبقت الأمر نفسه الفرق والملاهي آنذاك سواء في القاهرة أو الإسكندرية، فسعدت ماري ووجدت فيها فرصة مناسبة لتحضر يومياً الحفلة النهارية لـ «فرقة أمين عطا الله» وترى فارس الأحلام فوزي منيب.
كانت ماري تشاهد فوزي نهاراً وتسهر تفكر فيه ليلا، حتى لاحظت أليس سهرها ودموعها كل ليلة:
* إيه ده… إنت لسه صاحيه يا ماري… وإيه الدموع اللي في عنيكي دي؟
= أبداً… أنا بس بتقلب… يمكن عنيا أتطرفت وأنا بتقلب.
قالت ذلك وراحت عيناها تفيضان بالدمع:
* لا… مش ممكن الحكاية مش أن عينيك أتطرفت… أكيد فيه حاجة.
= هيكون فيه إيه بس يا أليس… صدقيني مفيش حاجة.
* إخص عليك… هتخبي على أختك… هو احنا لينا غير بعض أنا وانت وماما؟
= لا بلاش ماما.
* أيوه كده… يبقى أنا ظني في محله… ليه بقى يا مرمر بلاش ماما… أوعي تكوني لا سمح الله تعبانه ولا حاجة ومخبيه عليا ومش عاوزه ماما تعرف؟
= أبدا أنا كويسه وزي الحصان أهه.
* طيب فيك إيه ما تتكلمي بقى تعبتيني وياكي.
صمتت ماري قليلا ثم انفجرت بالبكاء والكلام:
= باحبه يا أليس باحبه.
* بتحبيه… هو مين ده اللي بتحبيه؟
= فوزي… فوزي منيب.
* مين فوزي منيب ده… آه افتكرت… تقصدي الشاب الأسمر ده اللي بيقول «تم تم» في «جوقة أمين عطا الله».
= هو بعينه يا أليس… هو… باحبه من يوم ما شفته دخل قلبي مخرجش.
* الله الله… بتحبي يا ماري.
= أيوه باحبه… باحبه.
* طيب طيب… بس وطي صوتك بعدين ماما تسمع تبقى مصيبة.
= مصيبة ليه… هو أنا عملت جريمة أنا بحب.
* ويا ترى هو كمان بيحبك؟
= مش عارفه.
* يعني إيه مش عارفه… هو انتو متكلمتوش.
= اتكلمنا كلمتين كده ع الماشي… هنيته على مونولوجاته ونجاحه وهو شكرني… و… بس.. لأنه كان خجلان طول الوقت وحاطط وشه في الأرض.
* يبقى خلاص.
= خلاص إيه؟
* هو كمان واقع لشوشته في حبك.
= يعني انت شايفه إني أعمل إيه.
* شايفه إنك تنسيه طبعاً.
= أنساه… إزاي؟!
* زي الناس… لازم تعرفي إن أنا وانت وماما زي العساكر.. حياتنا شغل وكفاح وبس.. معندناش وقت للحب والكلام الفارغ ده.
= كلام فارغ!! مقدرش يا أليس مقدرش.
* أنا عارفه حبيتي فيه إيه ده.
= وده ماله يا أليس… شاب متعلم ومعاه البكالوريا… ومن عيله… وكمان أبوه بيه رسمي… موظف قد الدنيا في الحكومة.
* بيه ولا باشا… على العموم أنا نصحتك وخلاص… وانت حرة.
كان فوزي منيب يلاحظ نظرات ماري وحضورها اليومي العرض المسرحي والتصفيق له بحرارة مبالغ فيها، سواء في الدخول أو تحية الجمهور، وكان يبادلها النظرات بخجل، حتى قرر مفاتحة أمين عطا الله في انضمام ماري سليم إلى فرقته، فوجد منه ترحيباً وطلب منه مفاتحتها في الأمر باعتبار أنها رغبته هو وليست رغبة أمين عطا الله، وشعر فوزي بأهمية خاصة يوليها أمين عطا الله لماري كونها ممثلة جيدة، ووجدها فرصة ليردّ الصفعة لبشارة واكيم الذي خطفها منه.
فوجئت ماري بفوزي منيب يقف خلفها في «البنوار» المخصص الذي تجلس فيه يومياً، لم تصدق نفسها، فقد حضر فوزي بنفسه إليها، وخصّها بالحديث وحدها:
* آنسة ماري…
بمشاعر مختلطة بين الفرح والارتباك والتردد:
= مين.. أنا.. إيه.. آه.. أنا ماري.. أهلا أستاذ فوزي.
* أهلا بك… منورة جوقة أمين عطا الله.
= الجوقة منورة باللي فيها.
* متهيألي إن فنانة زيك مكانها مش هنا بين المتفرجين إنت مكانك هناك على خشبة المسرح.
= أيوه… بس أنا… أنا هنا ضيفة بتفرج.
* متقوليش كده… المسرح والجوقة واللي بيشتغلوا فيها كلهم تحت أمرك… اتفضلي معايا.
لم يمرّ ذلك اليوم حتى كانت ماري اتفقت بالفعل مع أمين عطا الله على العودة إلى الفرقة، وبضعف الأجر الذي كانت تتقاضاه في فرقة «بشارة ومحمد بيومي»، غير أن ذلك لم يكن يهمها، بل كانت مستعدة لتقاضي نصف أجر أو حتى من دون أجر، والعمل مرة أخرى في «فرقة أمين عطا الله»، ليس حباً به، أو كرهاً في فرقة «بشارة ومحمد بيومي»، بل لتكون إلى جوار فارس الأحلام.
صدمة بشارة
كانت صدمة قاسية على بشارة واكيم عندما علم بما تنوي ماري فعله، لم يدر في رأسه أنها تفعل ذلك لأنها تريد أن تكون في «فرقة أمين عطا الله» إلى جوار فارس الأحلام، ولكن أول ما خطر بباله هو تأخر راتبها، مثل بقية أعضاء الفرقة بسبب ضعف الإيراد اليومي لعدم الإقبال الجماهيري على فرقته، وهو ما كان يلاحظه شريكه في الفرقة محمد بيومي أيضاً، بعد تعرض الفرق لخسائر، لذا كان قرار ماري «القشة التي قصمت ظهر البعير»، فكان محمد بيومي يفكر جدياً في فضّ الفرقة والسفر إلى ألمانيا لدراسة «السينما توغراف»، ذلك الفن الذي لم يغادر ذهنه منذ شاهد عام 1907 تصوير فيلم تسجيلي صامت قصير عن زيارة الخديوي عباس حلمي الثاني إلى المرسي أبو العباس في الإسكندرية، ثم تجدد الأمل في داخله عندما شاهد في أوائل 1918، فيلمين تسجيليين صامتين في «السينما توغراف» أنتجتهما الشركة التي أسسها محمد كريم، ابن مدينته الإسكندرية، لصناعة الأفلام وعرضها، هما: «الأزهار الميتة» و{شرف البدوي» وعرضا في الإسكندرية، فقرر بعدها محمد بيومي السفر إلى ألمانيا لدراسة هذا الفن الجديد المختلف عن المسرح، لذا فضّ الشركة مع بشارة واكيم وحلّ الفرقة وسرّح أعضاءها، واضطر بشارة إلى موافقته خصوصاً بعد مغادرة ماري، بطلة الفرقة، إلى «فرقة أمين عطا الله».
لم يستمرّ بشارة واكيم في الإسكندرية وعاد على الفور إلى القاهرة، وجاء إليه من يطلبه للعمل في «فرقة جورج أبيض»، وكان ذلك بالنسبة إليه فتحاً مبيناً، بل فرصة أتت في وقتها، لتكون عوناً له عندما يتقدم لخطبة حبيبة القلب ماري سليم عند عودتها إلى القاهرة.
كان انضمام ماري إلى «فرقة أمين عطا الله» نجاحاً فوق نجاح، وشكلت «دويتو» متميزاً مع فوزي منيب، لدرجة أن المسرح كان يضع كل ليلة لافتة «كامل العدد» وهو مالم تشهده مسارح الإسكندرية منذ سنوات، بخاصة في ذلك الموسم الذي يخشاه أصحاب الفرقة ويضطرون للإغلاق خلاله، وهو موسم شهر رمضان الكريم.
قضت ماري شهر رمضان بالكامل وأيام عيد الفطر في الإسكندرية في نجاح مستمرّ، وزاد من مذاق هذا النجاح، علاقة الحبّ الجميلة التي بدأت تنمو في «الكواليس» بين ماري سليم وفوزي منيب، حتى اتفقا أن يكللا هذا الحب بإعلان خطبتهما بمجرد عودتهما إلى القاهرة فور انتهاء موسم الفرقة في الإسكندرية.
عادت ماري إلى القاهرة برفقة والدتها وشقيقتها أليس، فهن لم يكنَّ يفترقن أبداً، وتمنت ماري لو لم تنته عروض الفرقة وتعود إلى القاهرة، لأنها لم تعد ترى حبيب القلب فوزي إلا يوماً أو يومين كل أسبوع، بعدما كانا يلتقيان كل يوم وليلة.
بمجرد أن علم بشارة واكيم بعودة ماري وأسرتها إلى القاهرة حتى قصد والدتها لمفاتحتها في أمر الزواج منها، فقد أصبح ممثلا أساسياً في أكبر فرقة في القاهرة، «فرقة جورج أبيض»، واصطحب معه صديقه في الفرقة الممثل حسين رياض، استقبلتهما قاسمة وماري وأليس، ثم طلب بشارة أن يتحدث وصديقه حسين رياض مع قاسمة بمفردها، فاستأذنت أليس وماري لتحضير القهوة، غير أن ماري شعرت بالقلق من طلب بشارة الانفراد بوالدتها بينما طمأنتها أليس بأنه ربما أتى لها بعمل جديد في «فرقة جورج أبيض»، ويبدو صديقه هذا الذي يوقره مدير الفرقة أو ما شابه، وما أن انصرفت ماري وأليس حتى فاتح بشارة قاسمة في أمر الزواج من ماري:
* قولتي إيه ياست قاسمة… أنا زي ما بيقولوا كتاب مفتوح قدامك مخلتش حاجة عني إلا وقلتها.
= الله بيوفقك… كلام منيح ومرتّب… بس في شي بدي أسألك إياه.
* اسألي ما بدك… (ضاحكا) قصدي زي ما انت عاوزة.
= إذا انت متل ما بتحكي معك دبلوم في الحقانية… ليش ما بتشغل أبوكاتو.. بيكو….
هنا تدخّل صديقه حسين رياض مقاطعاً:
- وماله بس الممثل يا ست قاسمة… انت هتعملي زي بقيت الناس اللي بيعيبوا على الممثل والتمثيل… الممثل ده إنسان محترم وبيؤدي دوره في المجتمع… زيه زي الأبوكاتو.
= ما بقصد… لكن الأبوكاتو بيكون له أجر ثابت وحياة مستقرة.
- وبشارة عنده أجر ثابت من أكبر فرقة في مصر… وإن شاء الله يكون مستقراً فيها.
= الله بيهيئ خير.
وهنا قفز بشارة من فوق الكرسي:
* يعني اعتبر دي موافقة.
= بيصير خير إن شاء الله.
كانت أليس تسترقّ السمع قبل أن تدخل إليهم بالقهوة، قدمتها وعادت مسرعة لتبشر ماري، التي كادت أن يغشى عليها من الخبر الصادم… فماذا تفعل في قلبها وحبها لفوزي؟ وطالبت برجاء واستعطاف من شقيقتها أن تتدخل وتفعل شيئاً.
إلى بيروت
على رغم مباركة أليس خطوبة ماري لبشارة لتبتعد عن ذلك الفتى الأسمر فوزي منيب، إلا أنها رقّت لتوسلاتها، واستأذنت الضيفين في الانفراد بأمها وأخبرتها بأمر حبّ ماري لفوزي منيب، فأخرست الصدمة لسانها، وعادت في ارتباك واضطراب لتطلب من بشارة مهلة لمشاورة ماري وترتيب الأمر، وإن كانت لا تمانع. على رغم خوف بشارة وقلقه إلا أنه كانت تكفيه، في ذلك الوقت، الموافقة المبدئية.
إذا كانت ماري اكتفت بيوم أو اثنين تشاهد فيهما فوزي منيب كل أسبوع، إلا أنها أمام مواجهة أمها وتعنيفها لها على هذا الحب «المحرم» من وجهة نظرها، ارتضت ألا ترى فوزي على الإطلاق والابتعاد نهائياً عن هذا الفتى الأسمر.
كتمت ماري لوعة الحبّ في صدرها خوفاً من والدتها، غير أن هذه الآلام لم تستمرّ طويلا، إذ حضر إليها أمين عطا الله ومعه طوق النجاة:
* طبعا بتعرفي ياست قاسمة النجاح اللي حققته «جوقة أمين عطا الله» بإسكندرية.
= الله بيزيدك إنت بتستحقّ أكتر من هيك.
* هادا من ذوقك وآدميتك.. بس بدي تعرفي إني رجعت بالأمس من بيروت.
= ع السلامة… ع السلامة… وكيف الأهل والأحباب.
* والله بخير نحمد الله… لكن المهم أني اتفقت في بيروت ع حفلات لمدة تلات أشهر
= الله بيزيد ويبارك.
* إن شاء الله… ومن شان هيك أنا بريد الآنسة ماري تكون مع الفرقة.
= ببيروت؟! لا الله يخللي إياك بلاه ها الموضوع.
* يا ستي بعطيها متل ما كانت تاخد في الإسكندرية وأكتر تلات مرات… هادا غير الإقامة والأكل والشرب و…
= ولو أستاذ أمين… ولو.
* وليش لأ… هادي فرصة إلها… وإلنا جميعاً.
هنا تدخلت ماري وأليس وألحتا على أمهما بالموافقة كونها فرصة لمشاهدة الأهل والأقارب الذين انقطعن عنهم منذ ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، عندما كانت ماري في الرابعة وأليس في السادسة.
وأمام إلحاح ماري وأليس وإصرار أمين عطا الله، فكرت قاسمة في أنها فرصة لتبتعد ماري عن الفتى فوزي منيب، وأن غياب ماري في بيروت أكثر من ثلاثة أشهر يمكن أن ينسيها إياه، فوافقت قاسمة على السفر، غير أنها موافقة مشروطة وضعت أمين عطا الله في مأزق:
= ما عندي مانع… لكن بشرط.
* يا ستي اشرطي متل ما بدك… وإذا من ناحية الأجر هنيك بيدبرها الله وممكن…
= لا… شرطي أنه ما يسافر مع الفرقة ها الولد الأسمر اللي شو اسمه فوزي منيب.
وأسقط في يد أمين عطا الله، فهو بطل الفرقة، وكان مدبراً أن يكون «الدويتو» نفسه بينه وبين ماري، واتفق مع المتعهد في بيروت بالفعل على أسماء الفرقة ومن سيحضرهم من القاهرة. حاول أمين أن يقنع قاسمة بذلك إلا أنها رفضت رفضاً قاطعاً إلا بتنفيذ هذا الشرط.
لم يوافق أمين على طلب قاسمة، غير أنه لم يغلق الباب، فطلب منها منحه فرصة لتدبير أمره، وإذا ما كان بإمكانه العثور على ممثل آخر يحل محله أم لا؟ على أن يرد عليها خلال يومين على الأكثر.
البقية في الحلقة المقبلة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 23, August 2011 :: الساعه 10:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
مع مطلع العام الجديد 1921، عاد «جوق كشكش بك البربري» إلى القاهرة، بعدما قدّم مسرحية «اسم الله عليه» على مسرح «الهمبرة» في منطقة «باب توما» في الشام، واستأجر مسرح «زيزينيا» في الإسكندرية، وقدمت الفرقة عليه عروضاً مميزة لمسرحية «اسم الله عليه»، وبات «جوق كشكش بك البربري» حديث الإسكندرية، ما شجع المتعهدين وأصحاب المسارح على تقديم عروض مغرية للفرقة للعمل لديهم.
إلى جانب مسرح «زيزينيا» قدمت فرقة «جوق كشكش بك البربري» عروضاً لمسرحيتين على مسرحي «كونكورديا» و{الأنفوشي» في الإسكندرية، في الوقت نفسه، أي بمعدل ثلاث حفلات يومية: صباحية وماتينه وسواريه، ولم يكن فوزي وماري يلتقيان إلا على خشبة المسرح يومياً، بسبب انشغالهما في ثلاث روايات مختلفة وبروفاتها، فكانا يجريان بروفة قبل تقديم كل رواية، فتقدّم الفرقة رواية صباحية على مسرح الأنفوشي، ويبدأ العرض من الحادية عشرة صباحاً حتى الثانية عشرة والنصف ظهراً، بعدها تأخذ الفرقة وقتاً للراحة والغداء وتعاود البروفات من الثالثة حتى الخامسة على مسرح «كونكورديا» ليبدأ العرض من السادسة حتى السابعة والنصف، وحتى التاسعة والنصف تكون بروفة الرواية التي ستقدمها الفرقة على مسرح «زيزينيا» وما أن ينتهي العرض حتى تبدأ بروفة المسرحية التي ستقدمها الفرقة في صباح اليوم التالي على مسرح «الأنفوشي».
طعم السعادة
ذاقت ماري من السعادة ما لم تذقه في حياتها وغرفت منها ما شاءت، ليس بسبب الحبّ الذي تعيشه مع فوزي منيب فحسب بل لأنها كانت تعمل كثيراً ولأن أيام الفقر والحرمان ولّت إلى غير رجعة، لدرجة أنها لم تكتفِ بشراء من الذهب ما يزين يديها، بل غطت ذراعيها من كثرة تلاصق الأساور الذهبية إلى جوار بعضها، من الرسغ إلى المرفق.
إلى جانب ذلك زادت شهرتها وأحبها الجمهور وبات يسأل عنها بالاسم، فظنت أنه لا يوجد على الأرض من يوازيها سعادة، وكان فوزي منيب مثالا للزوج المحب الغيور على زوجته.
أرادت ماري تعويض والدتها قاسمة أيام الشقاء والتعب والحرمان فطلبت منها أن توقف العمل في الحياكة وترافقها إلى الإسكندرية، لا سيما أنها أصبحت تعيش بمفردها منذ تزوجت أليس، غير أن قاسمة لم تكن على وفاق مع فوزي منيب على رغم مباركتها زواجه من ماري، ولم تنسَ أنه تزوجها رغماً عنها، لذا كانت تمارس معه دور «الحماه النكدية»، وتنتقد أي أمر يقوم به، حتى لو كان الغرض منه إرضاءها، وتتعمد بداع ومن دون داع ذكر اسم فهمي عبد السلام، زوج أليس بكل الخير، وتعداد محاسنه وأدبه وحسن أخلاقه ومحاولاته لإرضائها بأي ثمن حتى لو كان على حساب سعادته الشخصية، ولا تنسى، من حين إلى آخر، أن تذكّر بأن ثمة فرقاً بين المحامي والمشخصاتي.
المدهش في الأمر أن ماري لم تغضب من تصرفات والدتها على رغم حبها الشديد لفوزي، بل كانت ترى في تصرفاتها مشاهد ومواقف كوميدية، تصلح للتقديم على خشبة المسرح، وقادرة على تفجير ضحكات الجمهور.
دور الحماة
لم ينقذ فوزي منيب من براثن حماته سوى تلغراف من فهمي عبد السلام يخبر قاسمة بأن زوجته أليس على وشك وضع مولودها الأول، وبقدر ما كان التلغراف طوق نجاة لفوزي لأنه سيرحمه ولو لأشهر عدة من حماته، إلا أنه كان سبباً في جرعة جديدة من «النكد الحموي» فما أن علمت قاسمة أن أليس على وشك وضع مولودها الأول، حتى راحت تطعن فوزي منيب بالكلمات:
* الله بيديم النعمة على فهمي وأليس… ما مرأت السنة إلا وكان الله رازقهن بمولود.
= يا حماتي قولي إن شاء الله… دي لسه ما ولدتش.
* بإذن الله بتولد وبيجي المولود ذكر.
= دكر ولا نتايه… كله بتاع ربنا.
* إيه كله نعمة من الله.. لكن وين النعمة منكن… تلات سنين مزوجين ولا شفنا شي… ليش ما بتعرض نفسك على حكيم.
= وأعرض نفسي على حكيم ليه يا حماتي… أنت شيفاني عيان.
* إيه معلوم… مرضان… ولا شو بيمنعكن للحين من الخلفة؟
= يا حماتي… يا حياتي… يا ملاكي أنت أنا بس…
* شو حماتك وشو ملاكك… شو هالحكي.
= الحكي ده بتاع ربنا وحده… إحنا معندناش مشكلة لا أنا ولا ماري… لكن لسه ربنا ما أردش… كل الحكاية إن الشغل أخدنا وانشغلنا… ادعيلنا بس إنت من قلبك وربنا يسهل.
* إيه بندعي… الله يوفق… لأجل نصفق.
أم للمرة الأولى
سافرت قاسمة إلى القاهرة لتستقبل مولود أليس الأول الذي جاء ذكراً، كما تمنت، في وقت استمر فيه فوزي وماري وفرقتهما، من نجاح إلى آخر، حتى فاجأت ماري فوزي بطلب إعفائها من العمل في المسرحيات الثلاث يومياً، والاكتفاء بالعمل في عرض واحد فحسب وهو العرض الصباحي. دهش من هذا الطلب غير الطبيعي الذي لم يرَ له سبباً، وظن أن في الأمر شيئاً ما، أو أنه صدر منه ما أغضبها، غير أن دهشته تبدّلت بفرحة غامرة عندما أخبرته السبب:
* بس عاوز أعرف ليه القرار المفاجئ ده… إحنا ما صدقنا إن الفرقة بقى لها اسم كبير دلوقت والحمد لله… تقومي إنت ترفضي الشغل… وكمان تختاري الحفلة الصباحية بتاعة الشباب والطلبة وتسيبي السواريه اللي فيها الجمهور الحقيقي.
= أيوه ما هو أصل أنا…
* انت إيه يا ماري… إيه اللي حصل خلاك تتغيري كده.. اسمك جنب اسمي على المسرح… وقده… وكمان فلوسك ماليش دعوة بيها بتاخدي أجرك زيك زيي… وما بتدفعيش في البيت…
= بس بس يا فوزي… إيه الكلام ده؟ إنت دماغك راح لفين؟
* ماهو أنا بصراحة مش لاقي سبب للي إنت بتقوليه ده.
= لأ فيه سبب… وسبب مهم كمان.
* سبب إيه ده اللي يخليك تسيبي الفرقة والنجاح اللي حققناه.
= ما نفسكش تبقى أب؟!
* إيه؟! أب… تقصدي تقولي إنك حامل.
تهزّ ماري رأسها بالإيجاب ولا تنطق خجلا، غير أن فوزي طار من الفرح ولم يصدق نفسه أنه سيصبح أباً… أكثر ما أسعده أن ادعاءات قاسمة لم تكن صحيحة، ولا بد من أن تأتي لتسمع هذا الخبر الذي يريد أن تعرفه الإسكندرية كلها، بل «المحروسة» بأسرها.
لم يدم غياب ماري منيب عن المسرح طويلا بعد الإنجاب، فاستأجرت مربية لرعاية مولودها الأول الذي أطلق فوزي عليه اسم فؤاد تيمناً بملك مصر فؤاد الأول، فكانت ماري لا تترك فؤاد حتى في وجود المربية في البيت، وتصطحبه والمربية إلى المسرح يوميا ليكون تحت رعايتها وأمام عينيها، وجعلت المربية تقف بفؤاد في الكواليس، لتلاحظه في تحركاتها. وفي إحدى المرات بكى فؤاد ووصل صوته إلى الجمهور الذي ظن أن إحدى المتفرجات أحضرت وليدها معها إلى المسرح، وراح الناس يتلفتون يميناً ويساراً بحثاً عن مصدر الصوت، حتى فوجئ الجمهور بماري منيب تقول:
* ياضنايا يا حبيبي… الواد مفلوق من العياط… عن إذنكم أطلّ عليه بس… وراجعه.
ضج الجمهور بالضحك، وظن أن ما قالته ماري ضمن أحداث الرواية، وعلى رغم ضيق فوزي منيب بما حدث، إلا أنه استحسن ذلك لضحك الجمهور وجعل هذا الموقف ثابتاً كل ليلة، فاحتجت ماري على هذا الأمر، لأنه كان مطلوباً أن تقف المربية كل ليلة في الكواليس و{تقرص» فؤاد ليبكي، وتنفذ ماري المشهد.
نجاح فوق العادة
كان لظهور فؤاد في حياة ماري وفوزي تأثير خاص عليهما، فقد زاد ارتباطهما ببعضهما البعض وحرصهما على المستقبل لتربية طفلهما وتوفير حياة كريمة له.
استمرت فرقة فوزي وماري في نجاح كبير حتى نهاية 1924، عندما بدأ الكساد يعمّ الفرق المسرحية في مصر وليس في الإسكندرية وحدها، لدرجة أن نجيب الريحاني سافر بفرقته إلى البرازيل، لتمرّ هذه المرحلة.
بعد سفر الريحاني لم يتوقف بديع خيري عن الكتابة، فوجد فوزي، غريم الريحاني الأول، الفرصة سانحة لينهل من النبع الذي نهل منه الريحاني، فكتب له بديع مسرحية «الغول». وفي العام نفسه 1924، سرحت منيرة المهدية فرقتها وأعادت تشكيلها من جديد، وكتب لها بديع خيري أوبريت «الغندورة» التي عرضت في بداية 1925، ثم أعادت منيرة عرضها مرة أخرى باسم «قوت القلوب»، وعندما نجحت الأوبريت ولاقت استحسان النقاد كتب لها بديع خيري أوبريت «قمر الزمان» إلا أنها لم تحقق النجاح، مع ذلك لم يوقف تعاونه مع منيرة المهدية فكتب لها أوبريت «حورية هانم» ثم «الحيلة».
كان فوزي منيب يتابع الحركة المسرحية عن كثب، فانتهز فرصة غياب الريحاني خارج البلاد، واستأذن بديع خيري في إعادة رواياته التي كتبها للريحاني ليقدمها على مسرح «زيزينيا» في الإسكندرية. لم يمانع بديع، غير أن طبيعة فوزي كانت أقرب إلى طبيعة علي الكسار وليس الريحاني، لذا لم يتقبّل الجمهور هذه الأعمال وخفّ الإقبال على مسرحه أيضاً، فتمرد بعض الممثلين عليه، ووقفت ماري إلى جواره وساندته بقوة، لكن حالة التمرد كانت أكبر من أن تصمد أمامها الفرقة، فاضطر فوزي في نهاية 1925 إلى حل «جوق كشكش بك البربري» وتسريح بقية أعضائه، والعودة مع ماري إلى القاهرة، واستقرا في شقتهما في روض الفرج إلى جوار أليس ووالدتهما قاسمة.
البربري العصري
كان أمين صدقي شرع في تكوين فرقة مسرحية جديدة باسمه في شارع روض الفرج، ووجد أنه يمكنه منافسة علي الكسار الذي انتقل بفرقته إلى شارع عماد الدين، فقرر تقديم «النسخة التقليد» من البربري لجمهور روض الفرج، واتفق مع فوزي منيب ليعمل في فرقته بأجر كبير مقابل تجسيد دور «البربري» على طريقة علي الكسار، فأبدع فوزي منيب في تقديم الشخصية وتحديداً في مسرحية «ناظر المحطة» التي عرضها «جوق أمين صدقي» في مسرح «دار التمثيل العربي» في شارع عماد الدين بالقرب من مسرح علي الكسار، وقد تعمد أمين صدقي ذلك لخلاف كان وقع بينه وبين الكسّار.
لم تكن ماري تشارك فوزي العمل لدى فرقة أمين صدقي، إذ كانت تنتظر مولودهما الثاني، وأراد فوزي أن يطلق عليه اسم محمد، فيما أرادت ماري أن تطلق عليه اسم بديع، وانتهى اشتباك الزوجين بعدما اقترح عليهما موظف مكتب الصحة إطلاق اسم محمد بديع عليه فرحبا به.
بعد شهر بدأ أمين صدقي وفرقته موسم الصيف في «كازينو مونت كارلو» في روض الفرج بشكل موقت، إلى أن ينتهي من تجهيز تياترو «سميراميس» الذي استأجره في شارع عماد الدين، بعد النجاحات المتتالية التي حققها له فوزي منيب.
كانت مسرحية الافتتاح لفرقة فوزي منيب «اسم الله عليه» التي سبق أن قدمتها في الشام، من تأليف أمين صدقي أيضاً. وكانت بطلة الفرقة ماري منيب عادت بعد ولادة ابنها الثاني محمد بديع، وانتظمت في البروفات استعداداً لتقديم عمل كبير يليق بعودتها إلى الفرقة، فاختار فوزي الممثلين الذين سيشاركون في المسرحية، بعد تفويض من أمين صدقي له ليضمن نجاحاً كبيراً، فاستعان بممثل متميّز من فرقة جورج أبيض، وهو الفنان فؤاد شفيق، الذي كان شقيقه الأصغر قد سبقه إلى التمثيل متخفياً باسم حسين رياض حتى لا تعرف الأسرة أنه يعمل في التشخيص، وبعد رضوخها للأمر الواقع ظل حسين محتفظاً باسمه الفني وشقيقه يعمل باسم فؤاد شفيق.
اختار فوزي أيضاً الفنان محمد كمال المصري، أحد نجوم الكوميديا من مسرح الريحاني، الذي كان بديع خيري ونجيب الريحاني اختارا له اسماً فنيا ظهر به في إحدى روايات مسرح الريحاني وهو «شرفنطح» فأصبح ملاصقاً له وكان يثير الكوميديا بمجرد ذكر اسمه. كذلك شارك في البطولة: دوللي أنطوان، حسين المليجي المونولوجست الجديد الذي بدأ اسمه يلمع في مسارح روض الفرج.
ثنائي في الصحافة
عندما انتهى تجهيز مسرح «سميراميس»، بعد الحريق الذي شب فيه، انتقل جوق أمين صدقي إليه، وقدموا أول ليلة عرض بافتتاح ضخم في الثامن من يوليو 1926، بعد إعلانات جابت شوارع القاهرة.
استمر عمل الفرقة على مسرح «سميراميس» بنجاح كبير، لدرجة أنها وصلت، للمرة الأولى، الموسم الصيفي بالموسم الشتوي، ولاقت مسرحية «سفير توكر» التي قدمتها الفرقة نجاحاً ولفت دورا فوزي وماري منيب في المسرحية أنظار الصحافة الفنية للمرة الأولى فأثنت على أداء الثنائي «فوزي وماري منيب»، هكذا كان يكتب اسماهما، وكتب ناقد «مجلة الممثل» في عددها الصادر في 25 نوفمبر 1926: «مولد نجمين كبيرين في المسرح الكوميدي… فوزي وماري منيب».
* فوزي… شفت اللي مكتوب عنك وعني في مجلة الممثل.
ـ أيوه شفت… بس الجدع الرسام اللي رسمنا مبوظ شكلنا خالص… بقى أنا كده… وانت كمان شفتي عاملة إزاي؟!
* بس الكلام اللي كاتبينه حلو قوي… فتح نفسي للشغل… خلاني أحس أن فيه ناس بتقدر اللي أحنا بنعمله.
ـ الفضل لك.
* أبداً… انت علمتني حاجات كتير… وده نجاحك.
ـ ده تواضع بقى ولا إيه… الناس بتسأل قبل ما يدخلوا، ماري منيب موجودة النهاردة ولا لأ؟ إنت فنانة موهوبة وأنا واثق أنك هيكون لك مستقبل كبير.
* عمر ما هيكون لي مستقبل بعيد عنك يا أبو فؤاد.
بقدر ما أكسبهما الكلام، الذي كتب عنهما في الصحافة الفنية، ثقة بنفسيهما وتحديداً ماري، بقدر ما أشعل الغيرة حولهما واشتداد المنافسة بينهما وبين الفرق الأخرى.
استمر فوزي منيب في أداء أدوار البربري في فرقة أمين صدقي، وتشاركه ماري في كل هذه العروض بنجاح كبير، وقدما معاً: «مملكة العجائب»، «بنت الشهبندر»، «مراتى في الجهادية»، «قنصل الوز»، «ليلة في العمر»، «الكونت زقزوق»، «عصافير الجنة»، «خالتي عندكم».
في نهاية 1927 تصدّع مسرح سميراميس وأصبح آيلا للسقوط، ولم يجد أمين صدقي مسرحاً بديلا، فاضطر إلى تفكيك الفرقة وتفرق أفرادها.
اتجه أمين صدقي إلى مجاله الأول، أي الكتابة المسرحية، وأغرق الفرق المسرحية بكمّ هائل من المسرحيات، حتى اتفقت معه في مايو 1928 شركة «بيرة الإبراهيمية» في الإسكندرية على تكوين فرقة مسرحية جديدة، فأسسها من مجموعة مختارة من الفنانين والفنانات، من بينهم: محمد بهجت، عبد اللطيف جمجوم، فؤاد شفيق، دوللى أنطوان وغيرهم، إلا أن قائمة الفرقة الجديدة خلت من اسمي فوزى وماري منيب، لأن فوزي أعاد تكوين فرقته وراح يجمع أعضاءها من بين الذين تركوا أمين صدقي، بالإضافة إلى هواة تعرّف إليهم في مسارح «روض الفرج» عندما كان يمثل في كازينو «مونت كارلو» ضمن أعضاء فرقة أمين صدقي.
اتخذ فوزي منيب مسرح كازينو «ليلاس» في روض الفرج مكاناً لعرض مسرحيات فرقته الجديدة، وقد استمرّ فيه فوزي وماري أكثر من ثلاثة أعوام، شهدا خلالها أمجاداً لفرقتهما بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ مسارح روض الفرج الصيفية.
كان فوزي وماري يقدمان أعمالهما إلى رواد مصيف روض الفرج الذي كان يمتدّ من ساحل روض الفرج حتى منطقة «المبيضة»، وكانت الجاليتان الأرمنية واليونانية في القاهرة تتخذان من هذه المنطقة مصيفاً للترفيه عن النفس بين ماء النيل وخضرة الساحل، فضلا عن كون المكان يمثل استراحة مهمة لكبار التجار الذين ينقلون بضائعهم من شمال مصر وجنوبها إلى القاهرة عبر النيل، ما جعل غالبية الملاهي صيفية «مكشوفة السقف»، فضلا عن الطابع الخاص الذي تقدّم به عروض هذه المسارح، وهي مسرحيات مقتبسة من الكلاسيكيات القديمة وتقدّم بأسلوب ضاحك ساخر، لتكون روض الفرج النسخة الشعبية من مسارح عماد الدين، حيث فرق: «رمسيس»، «الريحاني»، «الكسار» وغيرهم.
مملكة الضحك (10): ماري وفوزي… طلاق فنّي وعاطفي بعد 13 عاماً من النجاح والسعادة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 24, August 2011 :: الساعه 10:02 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
كان الموسم الفني في مسارح روض الفرج يبدأ في شهر أبريل وينتهي في شهر سبتمبر من كل عام، غير أن فرقة فوزي وماري منيب الوحيدة التي استمر عملها طوال العام، فأنهت فرق: فوزي الجزايرلي، ويوسف عز الدين، وعبد اللطيف جمجوم، وبشارة واكيم، وعبد العزيز خليل، وزكي سعد، وحسن فايق وغيرها من الفرق عملها في سبتمبر، بينما استمرت عروض فوزي وماري منيب.
ظلّ فوزي وماري يعملان في مسرح «ليلاس» بروض الفرج، حتى 1929، العام الذي شهد موسمه الصيفي شهرة ما بعدها شهرة سواء للفرقة أو لهما تحديداً، كذلك شهد كماً كبيراً من العروض لم يسبق له مثيل في مسارح روض الفرج، بل وربما في حياة فوزي وماري منيب. ففي هذا العام، أبدعا في عروضهما المسرحية، كذلك أبدع فوزي في الكتابة المسرحية، وتحديداً في الاقتباس وتحريف المسرحيات، خصوصاً مسرحيات أمين صدقي، التي كان يحفظها عن ظهر قلب لطول عمله في فرقته.
مع بداية الموسم الصيفي، في شهر أبريل من عام 1929 عرضت فرقة فوزي وماري منيب مسرحيات عدة الى درجة أنها كانت تغيّر المسرحية أسبوعياً مثل السينما، فعرضت: «سر الليل»، «السر في السبت»، «كنز القبطان» التي حوّلها فوزي إلى «جزيرة المتوحشين» ثم قدّم مسرحية من تأليفه بعنوان «عريس الغفلة» أدت فيها ماري دور الفتاة التي ترفضه زوجاً لها، بعدها قدّم مسرحيتَي «عثمان حيخش دنيا»، و{اللي فيهم» لأمين صدقي التي أدخل فوزي بعض التغييرات إليها وأطلق عليها اسم «الكرسي الكهربائي».
في يونيو 1929، عرضت الفرقة مسرحيات جديدة أخرى مقتبسة وقام فوزي بإعداد جديد لها، من بينها: «الأميرة قمر الزمان» التي سبق وعرضتها فرقة منيرة المهدية في عام 1925 باسم «قمرالزمان»، «مملكة العجائب» لأمين صدقي التي عرضتها الفرقة باسم «بلاد السند والهند»، واختتمت الفرقة هذا الشهر بمسرحية «لوكاندة الحظ» من اقتباس فوزي منيب أيضاً.
خلال ذلك الشهر أجرى فوزي تغييراً على أحداث مسرحية «مملكة الباباظ» لأمين صدقي وعرضتها فرقته باسم «دولة الحظ»، وبالأسلوب نفسه تعامل مع مسرحية «عصفور في القفص» لمحمد تيمور، وعرضتها الفرقة باسم «القرش الأبيض»، ثم أنهت الشهر بمسرحية «كوهين وكيلي»، فشهدت الفرقة نجاحاً لم يكن له مثيل آنذاك:
* أنا مش مصدق نفسي… حاسس أن الدنيا فاتحة لي دراعتها.
= طعم النجاح حلو قوي… واحنا الحمد لله… امسك الخشب، المسرح كل يوم كومبليه.
* أيوه… وده اللي مخوفني.
= مخوفك!! ليه كفا الله الشر.
* الدنيا علمتني إن مفيش حاجة بتدوم… يعني لو فيه فشل… اعرفي إن أكيد هييجي بعده نجاح.. ولو فيه نجاح مستمر… لازم يقف والدنيا تعطلك شويه… وأنا بقى خايف… لأ… قولي مرعوب من اليوم ده.
= متقولش كده… إن شاء الله هتفضل من نجاح لنجاح… وعمرك ما هتنضام يا فوزي يا ابن… صحيح… هي أمك اسمها إيه… تتصور أنا لحد دلوقت معرفش اسم أمك!!
انفجر الإثنان من الضحك بعدما لاحظا أن فؤاد وبديع يقفان خلفهما يسمعان كل ما يقولانه.
في نهاية الموسم، أي في شهر أغسطس وأوائل سبتمبر 1929 عرضت الفرقة مسرحيات قليلة، تتناسب مع نهاية الموسم وهي: «وراه ليتجوز» و{أما لبخة» و{بريه من حماتي»، وكلّها من تأليف فوزي منيب واقتباسه، ما جعله يقرّر السفر إلى الشام في نهاية الموسم الصيفي. وهناك، أقامت الفرقة عروضاً متميّزة عدة أكدت بها أن
الـ 1929، هو عام فوزي وماري منيب، فقد تحدّثت عن عروضهما معظم الصحف السورية وأشادت بهذين الفنانين الرائعين.
بداية الأفول
مع مطلع العقد الثالث من القرن العشرين، وبمجرد عودة الفرقة إلى القاهرة، بدأ اسم فوزي منيب يخفت تدريجاً في الأوساط المسرحية، وتحديداً في مسارح روض الفرج، وحدث ما كان يخشاه، إذ بدأ الإقبال الجماهيري يقلّ، وقد استشعر فوزي هذا الخطر لأسباب عدة، ربما أولها وأهمّها أنه لم يعد لديه الجديد ليقدّمه، فقد كان يسير على نهج علي الكسار، وفي الوقت الذي انتبه فيه الريحاني إلى هذه النقطة الهامة راح يجدّد من نفسه ويتمرّد على شخصية كشكش بك، واستمر الكسار على الأسلوب نفسه في تقديم شخصية «عثمان عبد الباسط بربري مصر الوحيد» ومن خلفه كان فوزي منيب، على رغم الإضافات التي كان يزيدها على شخصية البربري ليجعل منه «بربرياً عصرياً».
* صدقت كلامي… أهو جه اليوم اللي كنت خايف منه… وطول عمري عامل حسابه… تتصوري أن إيراد الفرقة ما بيزدش عن اتنين تلاتة جنيه في اليوم.. بعد ما كنا بنعمل تلاتين وأربعين جنيه؟!
= إي والله صدقت… دي حاجة تمخول المخ… مع أن نفس الرواية قدمناها قبل كده وكسرت الدنيا… تبقى المشكلة فين بس؟
* المشكلة مش في الرواية ولا في الفرقة… المشكلة في أحوال البلد والدنيا اللي ولعت مرة واحدة والأسعار اللي بقت نار…
= بس اللي هيجنني إن مرسح نجيب الريحاني كل يوم كومبليه…
* دي أرزاق بتاعة ربنا يا ماري.
= ونعم بالله… بس الحكاية مش برضه لها أصل… أنا سامعه إن الريحاني غير جلده خالص زي ما بيقولوا… بيعمل روايات جديدة وشخصيات جديدة.
* انت بتصدقي الكلام اللي بيكتبوه الجرنالجية اللي بيعزمهم الريحاني كل يوم والتاني…
= إذا كان ع العزايم بسيطة… ما نعزمهم احنا كمان… بس انا متأكدة أن الريحاني غير نفسه وبقى بيقدم للناس اللي هي عاوزاه… وقال على رأي المثل: الجمهور عاوز كده.
* جمهور إيه اللي عاوز كده؟ اسكتي انت لسه صغيرة وبدري عليكي علشان تفهمي السوق وإيه اللي الجمهور عاوزه وإيه اللي مش عاوزه.
هذا الرد العصبي من فوزي منيب لماري أحدث شرخاً بينهما، خصوصاً بعد اتهامه لها بأنها لا تزال ممثلة صغيرة، على رغم هذه النجاحات كلّها حتى باتت عمود الفرقة الفقري، غير قادرة على فهم ما حولها من شؤون الإنتاج المسرحي وأمور إدارة الفرق، والجديد الذي يمكن أن يستعين به الممثل ليغيّر من نفسه وفق متطلبات كل مرحلة. ومع أن ما قالته ماري منيب هو عين الصواب، عن أهمية تغيير الفنان جلده الفني في مرحلة ما عندما يستشعر أهمية ذلك، إلا أنه لم يكن السبب الوحيد في تدهور أحوال الفرقة وانصراف الجمهور عنها، بل كان ثمة سبب آخر مهمّ وهو الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم عموماً، ومصر خصوصاً، ما أثّر على الاقتصاد بصورة كبيرة، فلم يعد الجمهور يتهافت على المسرح كما كان سابقاً، الأمر الذي انعكس على الفرق المسرحية الكبرى والصغرى على حد سواء، باستثناء عدد قليل من الفرق، ربما تصدّرتها فرقة نجيب الريحاني الذي تصرّف بذكاء الذكاء فطوّر من نفسه والكوميديا التي كان يقدّمها، فقد حاول أن يعكس أحوال البلد الاقتصادية من خلال مسرحه، فقدّم الموظّف المطحون والرجل البسيط الفقير الذي تعانده الأقدار، والعاطل الذي يبحث عن فرصة للعمل والحياة، والفقير الذي تهبط عليه ثروة من السماء، فيدغدغ مشاعر الفقراء.
هذا بخلاف الفرق الأخرى، مثل فرقة رمسيس، التي كانت تقدّم التراجيديات وتعتمد على المآسي، فقرّر يوسف وهبي السفر بالفرقة إلى البرازيل أملاً في إنهاء أزمتها المالية، إلا أنها نالت فشلاً ذريعاً. أما فرقة «أولاد عكاشة» فقد تفكّكت وتفرّقت وسط مشاحنات أولاد عكاشة في ما بينهم في المحاكم، كذلك الحال بالنسبة الى فرقة منيرة المهدية التي انحلت بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، وسوء الأحوال الصحية للسلطانة منيرة بعد ظهور مطربة جديدة تُدعى الآنسة أم كلثوم، قدّمت الطرب الأصيل وفي الوقت نفسه كان مواكباً للمرحلة، فسحبت البساط ليس من تحت أقدام منيرة المهدية فحسب، بل من تحت غالبية المطربات، أما «فرقة مصر» بقيادة عمر وصفي فسافرت إلى الأقطار العربية أملاً في إحراز بعض النجاح.
أزمة مسرحيّة
أمام هذا الكساد المسرحي، اضطر كثر من أصحاب المسارح والفرق المسرحية إلى مجاراة السوق، وتحويل مسارحهم إلى دور لعرض «السينماتوغراف» التي تعرض الأفلام السينمائية، الصامتة، وسرعان ما تحوّلت إلى ناطقة بعد إدخال هذه التكنولوجيا الجديدة إلى الفيلم المصري، ما زاد على أزمات المسرح أزمةً جديدة. فتحوّل مسرح إسكندر فرح بشارع عبد العزيز بمنطقة العتبة، إلى سينما أوليمبيا، ومسرح كازينو دي باري أصبح سينما ريتس، ومسرح برنتانيا أصبح سينما كايرو، كذلك أُزيل مسرحا الكورسال وسميراميس، وأعيد بناؤهما على أنهما دارا عرض سينمائي باسم «بيجال» و{ليدو{.
لم يكن فوزي منيب، بعيداً عن هذه الأزمة، التي طاولت فرقته بشكل كبير، فبعدما كانت تنتهي من نجاحاتها في مصر خلال الموسم الصيفي، تسافر إلى الشام لتقديم موسم شتوي، تعثّرت ولم تستطع الفرقة السفر، غير أن الأزمة جعلت فوزي يستبدل السفر الى الأقطار العربية بالذهاب الى الإسكندرية.
انتقلت الفرقة في نهاية يناير 1930 إلى الإسكندرية لتقدّم بعض عروضها خلال شهر رمضان ذلك العام، فاستطاعت الصمود والبقاء، حتى جاء موسم الصيف المرتقب للعودة إلى مسرح «ليلاس» بروض الفرج. غير أن الأزمة كانت مسيطرة على مصيف روض الفرج بشكل واضح، إلا أن الفرقة استطاعت أن تجمع من وجودها في الإسكندرية مصاريف رحلتها إلى الشام، فسافر فوزي وماري بفرقتهما وعرضا بعض مسرحيات أمين صدقي، وإن كانت الأزمة الاقتصادية العالمية قد سبقتهم إلى هناك ووقفت حائلاً أمام نجاحهم المُعتاد في كل عام.
الطلاق
بعد العودة مع مطلع عام 1931، بدأ العدّ التنازلي لفرقة فوزي منيب، فبعدما كان يُغيّر ويُحرّف المسرحيات المعروضة في مسارح شارع عماد الدين، وأمام الأزمة الاقتصادية وقف أمامه أصحاب هذه المسرحيات. ووصل الأمر إلى حد الاتفاق المكتوب ودفع الأموال مقابل التصريح بتمثيلها، حتى أن فوزي منيب وقّع مع نجيب الريحاني في مارس 1931، اتفاقاً ينص على تصريح الثاني للأول بتمثيل مسرحياته مقابل تسعة جنيهات شهرياً، وقد تم تسجيل هذا الاتفاق بمحكمة مصر المختلطة.
بدأت فرقة فوزي وماري منيب تقديم الروايات المقتبسة من الريحاني، على مسرح «ليلاس» بروض الفرج، وعندما رأى فوزي أن حالة الكساد لا تزال مستمرة، قرر الاستعانة بمطربة يمكن أن تحدث حالة من الانتعاش في الفرقة، لتقديم فاصل غنائي بين فصلَي المسرحية، واستطاع العثور على مطربة تدعى نرجس شوقي، من أصول شامية تغنّي بأكثر من لهجة عربية: المصرية والشامية والعراقية، وقد لاقت اللهجة الأخيرة استحساناً كبيراً لدى الجمهور كونه لم يسمع بها سابقاً، فغنّت على لحن الهجع «مومني كل الصوج من هلي والله»، و{سلم عليه»، و{هاي خدود لولاله» و{منو يدري» وأغنيات كثيرة غيرها، ولعلّ أكثر أغنية نالت شهرة واسعة تلك التي يقول مطلعها: «شو أدعي عليك ياللي حركت قلبي… ياحلو قوللي شو بدلك قوللي».
لم تحرّك كلمات الأغنية قلب نرجس شوقي، بقدر ما حرّكت مشاعر فوزي منيب وقلبه، فوقع في حبها وتعلق بها، وبادلته نرجس مشاعره، فبات واضحاً أمام كل أعضاء الفرقة الحب الذي وُلد في كواليس مسرح «ليلاس» بين فوزي ونرجس، حتى كانت ماري منيب آخر من يعلم، وقد صدمت صدمة فاجعة، فوزي منيب الذي تحدّت به إرادة والدتها ورأي شقيقتها وتزوّجته رغما عنهما، ها هو الآن يخونها ويرتبط عاطفياً بمطربة مغمورة، بل ويمنحها فرصة أكبر منها، لتكون بطلة الفرقة الأولى:
* هي حصلت يا فوزي؟
= هي إيه دي اللي حصلت… مش فاهم تقصدي إيه؟
* انت فاهم كويس… فاهم إني أقصد الست اللي جبتها من الشارع علشان مش بس تديها مكاني في الفرقة… لا دي المصيبة أنك أديتها مكاني في قلبك.
= قلب إيه وفرقة إيه… أنا مش فاهم انت تقصدي إيه وبتتكلمي عن إيه؟
* انت فاهم كويس أنا بتكلم عن مين.. أقصد الست نرجس شوقي… والهيام والغرام اللي داير بينكم… والمغفلة اللي هي أنا نايمة على وداني… وأقول يا بت متصدقيش كلام الناس… ده فوزي بيحاول يوقف الفرقة على رجليها من تاني… وينشل الفرقة من الغرق… أتاري الأستاذ فوزي هو اللي غرقان لشوشته في الغرام من بطلة الفرقة الجديدة اللي جت علشان تاخد مكاني في كل حاجة.
= خلاص… خلصتي… أنا معنديش رد على الكلام الفارغ ده… انت باين عليكي أعصابك تعبانه.
* أيوه… اتجننت.
= انا مقلتش كده… انت أعصابك تعبانة وانا كمان… علشان كده بقول ناخد إجازة من بعض شوية… أنا هسافر مع الفرقة الأسبوع الجاي للشام… ودي تكون فرصة نريح فيها أعصابنا شوية.
* آه قول كده بقى… إنت موضب كل حاجة هتسافر أنت والست المغنواتية بتاعتك ع الشام ويمكن تعملوا شهر عسل هناك والمغفلة اللي هي أنا تتحرق هنا… مفيش سفر يا إما رجلي قبل رجلك.
= انا متعودتش أخد أوامر من حد… هسافر يعني هسافر.
* يبقى تطلقني قبل ما تسافر.
= إيه؟ إنت بتقوللي إيه؟ أطلقك… إزاي؟
هكذا، في عام 1931 انفصل فوزي منيب عن زوجته وبطلة فرقته الأولى ماري منيب، بعد زواج دام 13 عاماً، بعدها حاول بعض المقربين وعدد من أفراد الفرقة الصلح بينهما، إلا أن فوزي كان تزوّج من نرجس شوقي فعلاً. علم بأمر طلاق فوزي وماري أحد فتوات الإسكندرية، وقد كان معجباً بهما وبفنهما معاً، فحضر خصيصاً إلى القاهرة لإعادة الحياة بينهما. رضخت ماري لضغوط هذا الرجل، غير أنها اشترطت أن يطلّق فوزي نرجس ويفصلها من الفرقة أولاً قبل العودة إليه، فتردّد فوزي أمام طلب ماري، وطلب مهلة لتدبّر أمره، ولم تمر سوى أيام قليلة حتى كان فوزي قد سافر مع نرجس وبقية أعضاء الفرقة إلى لبنان.
السينما العالمية
استطاعت ماري تجاوز هذه الصدمة، وما إن شاع خبر الطلاق في الوسط الفني، وانفصال ماري كممثلة عن فرقة فوزي منيب، حتى تهافتت عليها الفرق الأخرى، فطلبها يوسف وهبي للعمل معه في فرقة «رمسيس»، فتردّدت، غير أن والدتها قاسمة أقنعتها بضرورة نسيان الماضي ونسيان هذا الرجل الذي كان قلبها يحدّثها منذ رأته أنه لن يكون الزوج المخلص الذي يمكن التضحية من أجله.
وجدت ماري في عرض يوسف وهبي نوعاً من إعادة الثقة في نفسها كفنانة، بعد أن فقدتها بما فعله فوزي منيب معها، وتفضيله نرجس شوقي عليها في المسرح، وفي حياته، فوافقت على العمل في فرقة «رمسيس»، وكانت أول مسرحية لها معها بعنوان «بنات الريف»، غير أنها اضطرت الى ترك الفرقة بعد مرور شهر واحد، إذ لم تجد نفسها في ما كان يقدّمه مسرح «رمسيس» من روايات تراجيدية تبعث على الحزن والبكاء، وهذا ما كان ضد طبيعتها وطبيعة أدوارها على خشبة المسرح منذ بدايتها في مسرح علي الكسار، وانتهاء بفرقة فوزي منيب.
ما إن تركت ماري فرقة «رمسيس» حتى راحت تتنقّل بين الفرق المسرحية، فظلّت بعض الوقت في فرقة «يوسف عز الدين»، ثم التحقت بالعمل في فرقة «عزيز عيد وفاطمة رشدي»، غير أنها وجدتها أيضاً أقرب إلى روايات فرقة «رمسيس» التراجيدية، فتركتها وسافرت إلى الإسكندرية مع والدتها قاسمة وطفليها فؤاد وبديع طلباً للراحة والاستجمام.
هناك، كانت تتردّد من حين الى آخر على مكاتب متعهّدي الفنانين والفرق المسرحية، حتى قادتها الصدفة إلى فرصة لم تخطر على بالها، ففيما كانت تدخل من باب أحد هؤلاء المتعهّدين الذين تتردّد عليهم أحياناً حتى فاجأها:
* بنت حلال… كنت لسه بفكّر فيكي.
= خير يا سي مرتضى ياوش الخير؟
* إيه رأيك يا ست ماري تشتغلي في السينما توغراف.
* السينماتوغراف حته واحده؟!
= أيوه الأفلام اللي بيمثلوها ممثلين كده زيك وزي غيرك… وبيصورهم بماكينة كبيرة تيجي قد الأوضة دي كلها… وبعدين ييجوا يعرضوها على الناس على شاشة بيضا كبيرة.
* يا خويا إنت التاني… ما أنا عارفة كل ده… أنا قصدي هتعملوا الفيلم فين… هنا عندك، ولا في المسرح.
= عندي إيه وفي المسرح إيه… ده مش فيلم مصري… انت مش شايفه الخواجة اللي قاعد ده… هتسافري معاه بلده أطاليا انت ومجموعة كبيرة من الفنانين هياخدهم من هنا تشتغلوا هناك.
* حلوة الحكاية دي… جت في وقتها أطاليا دي؟
هذه المرة كانت ماري هي التي تصرّ على السفر لتقديم فنّ جديد، غير أن والدتها عارضت بشدّة سفرها وإقدامها على هذه الخطوة، لكن ماري وجدتها فرصة قد تساعدها على نسيان فوزي منيب الذي كان حبّه لا يزال يشتعل في قلبها.
سافرت ماري إلى إيطاليا وشاركت في دوبلاج فيلم إيطالي الى العربية، غير أنها عندما عادت فهمت السرّ وراء إصرار والدتها الغريب على عدم سفرها، فقد رجعت لتكتشف أنها فارقت الحياة.
البقية في الحلقة المقبلة
مملكة الضحك (13): ماري منيب… قمّة النجاح تنتهي بالدخول في دوامة الأحزان
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 27, August 2011 :: الساعه 10:02 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
شعرت ماري منيب بأن السماء تعوّضها عما فات من حياتها، على المستويين الإنساني والفني، فلم ترَ سعادة في حياتها كالتي تعيشها هذه الأيام مع زوجها فهمي عبد السلام، وأولادها الأربعة، كذلك أصبح اسمها كفنانة يناطح أسماء كبار الفنانين، في المسرح والسينما، بل والإذاعة التي أرادت أن تنهل من معين هذه الممثلة المتمكّنة الذي لا ينضب، فراحت تستعين بها في تقديم أعمال درامية إذاعية، بل وفواصل كوميدية تتحدّث فيها مباشرة إلى الجمهور، فضلاً عن أفلام كثيرة قدّمتها خلال عامَي 1943 و 1944، حتى إن أجرها أصبح يوازي أجر أبطال أفلامها، وهذا ما لم يتوافر لنجوم الصف الثاني من كبار الفنانين.
كان 1945 عام ماري منيب السينمائي، إذ قدّمت فيه سبعة أفلام مثّلت تقريباً ربع إجمالي ما قدّمته السينما المصرية في ذلك العام، فشاركت في أفلام: «ليلة حظ، تاكسي حنطور، رجاء، ليلة الجمعة، الجنس اللطيف، ليلى بنت الفقراء، وأول الشهر»، ولاقت جميعها نجاحاً كبيراً، وكانت ماري منيب إضافة حقيقية الى هذه الأفلام، فمهما كان اسم البطل أو البطلة يحمل من نجومية، لم يكن مشاهد واحد لينسى دور ماري فيها.
على رغم حرصها الشديد على احترام النص المكتوب في سيناريوهات الأفلام، أو حتى الروايات المسرحية، إلا أن ماري كان لا بد من أن تضع بصمتها على كل دور تقدّمه، بأن تصبغ كل شخصية تجسّدها بـ «لزمة» طريفة من مخزونها الإنساني، سواء من خلال جملة حوارية أو حكمة تأتي على لسانها من أجواء الشخصية وموضوع العمل، أو حتى مثل شعبي، وإذا لم يكن ذلك متاحاً تلجأ إلى توظيف قطع أكسسوارات الشخصية سواء في الملابس أو الحلي، بحيث تقوم بما يمكن أن يطلق عليه البعض «سرقة الكاميرا»، غير أنها لم تكن تتعمّد هذه الأمور مع زملائها، بل تأتي بشكل تلقائي، فتقدّمها بطريقة لا يمكن أن تتكرّر من فيلم الى آخر، فقد كانت تحرص ـ على رغم طريقة كلامها الواحدة والثابتة ـ على ألا تكرّر الشخصية نفسها في كل عمل يُسند إليها.
هذا النجاح غير العادي أثار انتباه «أبو الكشاكش»، فقرّر تتويج نجاح ماري السينمائي بجعل
الـ 1945 عامها المسرحي أيضاً، إذ عرض عليها أن تقاسمه للمرة الأولى، بطولة مسرحيّته الجديدة التي سيقدّمها للموسم الصيفي آنذاك، وهكذا كان.
«إلا خمسة»
عندما شارك نجيب الريحاني بديع خيري كتابة مسرحية «إلا خمسة»، كانت ماري منيب تقفز إلى ذهنه، فكان يضحك حتى يتوقّف عن الكتابة:
* أول مرة أشوفك بتضحك يا نجيب وإنت بتكتب… قد كده الراوية كوميدية؟
-طبعا تجنّن… وإنت تكتب حاجة وحشة يا بديع؟
* لا مش القصد… بش شايفك منفعل قوي في الكتابة وبتضحك؟
-أصل البنت ماري دي عاملة دور ما حصلش؟
* (مندهشا)… ماري مين… مفيش بنت في الرواية اسمها ماري؟
-لا يا أخي… أنا أقصد «الحيزبون التركية» أخت الباشا… مش عارف ليه كل ما أكتب جملة حوار أشوف ماري منيب هي اللي بتنطقها، خصوصا الجملة اللي بتقعد تكررها لسليمان لما بيروح يشتغل عندهم سواق وتسأله كل شوية: «إنتي جاية تشتغلي إيه».
* أفهم من كده إنك اخترت ماري للدور ده خلاص؟
-أنا ما اخترتش… الشخصية هي اللي اختارت صاحبتها… شايفها قدامي بتتنطط ع الورق.
* بس ماري مش صغيرة على الشخصية دي؟
-وأنا مالي… ما الشخصية هي اللي اختارت… وبعدين ماري دي بنت عفاريت.. تعمل أي حاجة في الدنيا.
* أنا ملاحظ يا نجيب إنك في السنين الأخيرة مهتم شوية بماري.
-شوف يا بديع… مفيش كاتب ولا مخرج ولا صاحب فرقة ممكن يهتم بفنان بمزاجة كده من الباب للطاق… إلا إذا أجبره الفنان ده على الاهتمام بيه… بالظبط زي المدرس في الفصل مش ممكن يهتم بتلميذ بعينه إلا إذا كان التلميذ ده نبيه وأجبر الأستاذ على كده.
* فينك يا ماري تيجي تسمعي الكلام اللي عمرك ما سمعتيه ولا هتسمعيه من أبو الكشاكش؟
-لا بجد… ماري موهوبة جدا… وهيبقالها شأن كبير.
* أكبر من كده… دي بقت نجمة يا سيدي وخايفين منعرفش نكلمها بعد كده.
لم يتردّد الريحاني لحظة في أن يسند دور السيدة التركية العجوز المتصابية الى ماري منيب، فهو يراها الآن أصبحت أكثر خبرة وحضوراً على خشبة المسرح وما من أحد غيرها أنسب لهذا الدور.
رسم خيري والريحاني شخصية الهانم العجوز بدقّة أذهلت ماري نفسها، لدرجة أنها بمجرد ظهورها من شباك صغير على خشبة المسرح حتى كان الجمهور يضجّ بالضحك، فصدق حدس نجيب الريحاني، إذ كانت إلى جانبه سبباً في نجاح المسرحية التي استمرّت وللمرة الأولى في المسرح المصري ثلاثة أشهر كاملة، من دون تغيير وهذا يعدّ حدثاً مسرحياّ غير مسبوق في ذلك الوقت، حيث كانت كل الفرق المسرحية، كبيرة أو صغيرة، تتراوح مدة عرضها للرواية الواحدة مهما بلغ نجاحها، بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع.
في عام 1945، كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت بظلالها الثقيلة على العالم عموماً، وعلى المجتمع المصري خصوصاً، فانعكس ذلك على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ زادت الأسعار بشكل مبالغ فيه، وبالتالي قلّ إقبال الناس على المسرح، خصوصاً بسبب الغارات وأجواء الحرب التي فُرضت على مصر رغماً عنها، ذلك لمشاركة الإنكليز فيها كضلع أساسي، وتواتر المعلومات التي تفيد بوصول هتلر إلى منطقة العلمين في الساحل الشمالي الغربي لمصر، وأنه سيفعل باليهود المصريين مثلما فعل بيهود ألمانيا وأوروبا.
ذكاء الريحاني
ربما أهم ما كان يميّز الريحاني وجعله يستمرّ حتى في ظل هذه الأجواء، ذكاؤه الشديد وسرعة بديهته وتفاعله مع الأحداث، وتطوير نفسه وفنّه بشكل دائم، فقدّم للمسرح عملاً أكّد من خلاله أن وحدة المصريين لا يفرّقها دين، وأنه على أرض مصر لا فرق بين يهودي أو مسيحي أو مسلم، طالما كانوا كلّهم مصريين. كان هذا العمل المسرحي بعنوان «حسن ومرقص وكوهين»، الذي يدور حول ثلاثة مصريين تجمعهم شراكة في تجارة واحدة، ويتعاملون على اعتبار أنهم شخص واحد.
فكّر الريحاني في تقديم الرواية نفسها للسينما، للأسباب نفسها، لكنه أرجأ الفكرة إلى وقت لاحق، على اعتبار أنها لا تزال تُعرض في المسرح، فقرّر الاستعانة بإحدى الروايات السابقة في مسرحه وتقديمها للسينما ليكون مواكباً للأحداث.
كان الريحاني يشعر بأن عمره قصير، لذا كان يريد أن يعطي كل دقيقة من حياته لفّنه، وعلى رغم حزنه على تراثه المسرحي الذي لم يخلد، وجد بديلاً مهماً في السينما ليسجّل جزءاً من هذا التاريخ، فهو وإن كان لم يحب السينما كما عشق المسرح، إلا أنه لجأ إليها من حين الى آخر ليخلّد بعضاً من تراثه، فقرّر وبديع خيري أن يعيدا كتابة أشهر المسرحيات التي نجحت معهما وتقديمها للسينما.
* فاكره «لعبة الست» يا ماري؟
-إلا فاكره… وهي دي رواية تتنسي… يا سلام يا سي نجيب… ده أنا من كتر حبي فيها حافظاها مشهد مشهد.
* إيه رأيك نعملها تاني؟
-ياريت.. دي كانت تكسر الدنيا ويمكن كمان تبقى أحسن من «إلا خمسة»… بس هتعملها بقى لموسم الصيف ولا العيد؟
* لا صيف ولا شتا… إحنا هنعملها للسينما.
-والله فكرة برضه… تسلم أفكارك يا أبو الكشاكش.
* أيوه… أفكار أبو الكشاكش اللى هتروح بلاش.
-يوه… كفى الله الشر… ليه بتقول كده؟
* أبداً… أهو كلام ما تخديش في بالك… عارفة يا ماري… أنا نفسي أعيد كل الروايات اللي عملناها في المسرح ونقدمها للسينما… رغم تقل دم السينما وشغلها المقرف… لكنها سحر بنت الإيه… ما هو لازم الناس اللي هييجو بعدنا يشوفوا إحنا عملنا إيه بعد ما نموت… أمال هيحكموا علينا بالسمع بس.
-ربنا يديلك طولة العمر يا سي نجيب وتملا الدنيا كلها شغل وفن.
* أي والله إحنا محتاجين الدعوتين دول… المهم خلينا في الشغل… شوفي بقى، أنا عاوز قرف الحماوات اللي في الدنيا دي كلها تحطّيه في شخصية «سنية جنح».
أدى الريحاني دور «حسن وابور الجاز» وأسند الى ماري منيب دور «سنية جنح» في فيلم «لعبة الست» الذي قدّمه في عام 1946، وشاركته البطولة الراقصة تحية كاريوكا في دور «لعبة» ابنة سنية جنح، وعبد الفتاح القصري بدور والدها «إبراهيم نفخو»، ومعهما عزيز عثمان ممثلاً ومطرباً في دور «محمود بلاليكا»، وبشارة واكيم في دور «الخطيب الشامي»، ثم اختار سليمان بك نجيب ليؤدي دور اليهودي المصري طيّب القلب الذي يقرّر الهرب إلى جنوب أفريقيا خوفاً من وصول الألمان إلى العلمين، فيضطر الى بيع محلّه لمستخدمه المسلم «حسن».
ظلّت أصداء نجاح هذا الفيلم تطارد ماري منيب فترة طويلة، في الشارع وفوق خشبة المسرح، وكان الجمهور يناديها في أي مكان باسم «سنية جنح»، وعلى رغم استمرارها في المسرح مع الريحاني، إلا أنها كان تشتاق دائماً الى العمل معه في السينما، لأنها تعرف قيمة أن تقدّم ولو فيلماً واحداً في السنة، بشرط أن يكون مع الريحاني، إلا أن الأخير لم يكن ليقبل كلّ ما يُعرض عليه، فيحاول قدر الإمكان التنوّع في ما يختار خوفاً من الهاجس الذي سيطر عليه دائماً: ماذا ستقول عنا الأجيال القادمة؟
رحيل الذكريات
كانت ماري منيب تستشعر أن الريحاني يستعدّ لعمل سينمائي ضخم، سيكون الفيصل في حياته وحياة مَن سيعملون معه فيه، فقرّرت أن تنتظر هذا الفيلم، ووجدت نفسها ترفض عشرات الأعمال التي تُعرض عليها بسبب هذا الفيلم المجهول، غير أن انتظارها طال فقرّرت أن تقبل ما يُعرض عليها في السينما لحين عثور الريحاني على ضالته، فقدّمت في أبريل 1947 مع المخرج محمد عبد الجواد فيلم «المتشردة» وشاركها البطولة المطرب عبد العزيز محمود وحكمت فهمي وحسن البارودي. وفي العام نفسه، قدّمت: «بياعة اليانصيب، النفخة الكدابة، البريمو، حمامة السلام، وبنت المعلم»، وفي العام التالي قدّمت فيلم «ابن الفلاح» من تأليف بديع خيري وإخراج عبد الفتاح حسن، وبطولة المطرب محمد الكحلاوي والممثل اللبناني محمود نصر، وشرفنطح، ونبوية مصطفى.
كعادتها، وقّعت ماري عقود أكثر من فيلم ارتبطت بها في عام 1948، بدأتها بـ «ابن الفلاح»، ولولا هذه العقود والارتباطات لاعتذرت عن بقية الأفلام المعروضة عليها، فقد شهد منتصف ذلك العام رحيل الحبيب الأول والزوج الأول في حياتها، والبطل الأول أمامها، ووالد ابنيها… رحل فوزي منيب فجأة بعدما تراجعت أسهمه كفنان، وتوارى خلف طابور طويل من النجوم والممثلين بدأوا بعده وتقدّموه كثيراً.
بكت ماري فوزي كثيراً، فلا يزال قلبها ـ على رغم كل ما حدث ـ يحمل الكثير من الذكريات الجميلة واللحظات السعيدة التي باتت رغماً عنها جزءاً من تاريخها، فلم يكن فوزي مجرد رجل عابر في حياتها، بل تعلّمت منه الكثير، إنسانياً وفنياً، وترك مكاناً كبيراً في حياتها، شاءت أم أبت، ترك لها فؤاد وبديع فوزي منيب، اللذين أصبحا رجلين مسؤولين بعد أن تزوّجا فور زواج ابنَي خالتهما، فقررا إقامة سرداق كبير لوالدهما، غير أن عزاءهما كان وجود أب آخر لهما هو زوج أمّهما فهمي عبد السلام، الذي قدّر هذا الوفاء والإخلاص من ماري لرجل يدرك تماماً أن له عظيم الأثر في حياتها بدليل أنها لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم.
اضطرت ماري الى التغلّب على أحزانها لتفي بارتباطاتها الفنية، فقدّمت فيلمَي «المليونيرة الصغيرة»، و»فوق السحاب». ثم أنهت العام 1948 بفيلم «المجنونة» أمام ليلى مراد ومحمد فوزي والسيد بدير، ومن تأليف حلمي رفلة وإخراجه.
في ليلة عرض «المجنونة» في 31 يناير 1949، عرفت ماري من ليلى مراد أن زوجها أنور وجدي يستعدّ لتصوير عمل ضخم يحضّر له منذ فترة بعنوان «غزل البنات»، وأن وجدي سيشحذ له كبار النجوم والممثلين، على رأسهم نجيب الريحاني ويوسف بك وهبي والمطرب والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وسليمان بك نجيب وعبد الوارث عسر، ومعهم فردوس محمد التي ستقدّم دور مربية ليلى.
شعرت ماري بالغيرة، فقد كانت تنتظر هذا الفيلم وإذا بالريحاني يعطي دورها لفردوس محمد. ارتأت أنه لا بد من أن تتحدّث معه في هذا الأمر، فربما كان لها دور ولم يخبرها بعد، وحتى لو لم يكن لها دور فهو قادر على أن يخلق لها دوراً:
* ما كنش العشم يا أستاذ نجيب… بقى مستنية كل ده على أمل إني اشتغل معاك في الفيلم وبعدين ألاقي الدور يروح لفردوس محمد… هي فردوس أغلى منيّ عندك؟!
-بس بس… فيه إيه… فيلم إيه وفردوس محمد مين… أنا مش فاهم حاجة إنت بتتكلمي عن إيه بالظبط؟
* عن غزل البنات اللي هتعملوا مع أنور وليلى.
-أيوه أيوه فهمت… وانت إيه اللي مزعلك كده.
* كنت عاوزه أشتغل معاك في الفيلم… وأديك شفت نجاح سي عمر ولعبة الست وأبو حلموس، و…
-أيوه فاهم… بس اللي إنت مش فاهماه إن الفيلم مش بتاعي… ده ياستي أنور وجدي شايل الليلة كلها على بعضها… إنتاج وتأليف وإخراج وتمثيل، واد جن مصور عاوز يعمل كل حاجة في الدنيا… وإنت عارفه إننا مستغناش عنك واتمنى تبقي معايا في كل شغل أعمله… لكن نعمل إيه ما باليد حيلة.
* بس أنا كنت عاوزة أشتغل معاك في الفيلم ده بالذات حتى لو أعدي من قدام الكاميرا.
-يا ستي الله يجبر بخاطرك… بس اشمعنى الفيلم ده بالذات… ما الأفلام كتير.
* معرفش… وكمان ليلى قالتلي أنه هيبقى معاكم يوسف بيه وهبي وسي محمد بيه عبد الوهاب وسليمان بيه نجيب، و…
-أيوه أيوه… الفيلم كله بهوات… مفيش فيه أفندي غيري.
بس تعرفي حاسس إن الواد أنور لاممنا كلنا في الفيلم زي ما يكون بيكرمنا… أو بيدينا مكافأة نهاية الخدمة… بيقول دول خلاص بقى رايحين… لكن اللي زيك لسه جاي وبيبدأ.
* أيوه يا خويا… كُل بعقلي حلاوة زي عوايدك.
لم تعرف ماري منيب سرّ هذا الإصرار العجيب منها على مشاركة الريحاني فيلم «غزل البنات» تحديداً، فهي لم تفعل ذلك معه سابقاً، فهل لأنها تعوّدت على العمل معه وتريد مشاركته كل أعماله؟ أو لأن الفيلم مهمّ وضخم توافرت له كل إمكانات النجاح؟ أو لأنه ستشارك فيه صفوة النجوم الموجودين على الساحة آنذاك؟
دوامة الأحزان
لم تعرف ماري الإجابة عن هذا السؤال إلا يوم عرض «غزل البنات»، فقد حضر عرضه الأول كلّ من شارك فيه إلا نجيب الريحاني الذي كان قد رحل عن هذه الدنيا.
كانت صدمة قاسية ومروّعة لماري، فلم تصدّق أن الريحاني قد مات… فبعد أشهر قليلة من رحيل فوزي منيب، الرجل الأول في حياتها، غيّب الموت الريحاني الذي جعلها تشعر بنفسها وفنّها وبقيمة ما تقدّمه، الرجل الذي علمها الكثير من دون أن تطلب ذلك، رسم لها ملامحها الفنية ووضع الأطر الخارجية لكل الشخصيات التي قدّمتها معه، وبقيت معها تلازمها حتى عندما كانت تضطرها الظروف الى التحليق خارج فضائه.
رحل الريحاني قبل أن يكمل تصوير الفيلم فاضطر أنور وجدي الى إجراء تعديلات في السيناريو.
انقطعت ماري عن المسرح والسينما وعن كل ما له علاقة بالفن، وانطوت على أحزانها تجترّ ذكرياتها، وفشلت كل محاولات المقربين لإخراجها من هذه العزلة الاختيارية، لدرجة أنهم أخفوا عنها خبراً آخر سيزيد آلامها وأحزانها، غير أنها قرأته في عيونهم، فقد أبى عام 1949 أن يرحل قبل أن يأخذ معه رفيقاً آخر في الدرب، وهو الفنان بشارة واكيم، ليكتمل عام الحزن لدى ماري، ففي أقلّ من عامين غيّب الموت ثلاثة من حياتها، كان لهم عظيم الأثر عليها كإنسانة وكفنانة.
كاد الحزن أن يقتل ماري بعدما حاصرها من كل جانب… وتحوّلت المرأة التي تملأ الدنيا بهجة وضحكاً وتفاؤلاً، حتى في أحلك الظروف، إلى كتلة من الأحزان مستسلمة تماماً… غير أنها مؤمنة بقضاء الله وراضية بضربات القدر.
البقية في الحلقة المقبلة
مملكة الضحك (14): ماري منيب… عادل خيري يعيد الروح إلى ماري ومسرح الريحاني
كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 28, August 2011 :: الساعه 10:02 pm | تصغير الخط | تكبير الخط
ترك رحيل فوزي منيب وبشارة واكيم ونجيب الريحاني، حزناً عميقاً في قلب ماري منيب، بل أعاد إليها ذكرى رحيل والديها وشقيقتها، ما عمّق من أثر الحزن بداخلها وجعلها تشعر بالوحدة مجدداً في هذا العالم، رغم وجود زوجها المحامي فهمي عبدالسلام الى جانبها، وانضمام أفراد جدد الى العائلة، هم زوج ابنة شقيقتها كوثر، وزوجتا ولديها فؤاد وبديع، وزوجة ظافر ابن شقيقتها، والأهم منهم جميعاً الأحفاد، فقد أصبحت ماري جدة للمرة الأولى وهي لم تكمل عامها الخمسين بعد.
كان وجود هؤلاء جميعاً في حياتها عابراً ولحظياً، وكلّ منهم انشغل بحياته الجديدة وعمله، وحرّمت ماري على أيّ منهم أن يمتهن مهنة الفن، فهي لا تريد لهم أن يقاسوا ما قاسته أو يعانوا ما عانته، فأكمل كلّ من أولادها الأربعة، دون تفريق بين ولديها وابنَي شقيقتها، تعليمه وعمل في مهنة بعيدة تماماً عن الفن، غير أنها لم تكن تستطيع العيش من دون المقربين والمحبين، تشعر بهم ويشعرون بها، ولشدة حبها لكل من حولها من زملائها سواء من يعملون معها في المسرح، أو حتى في السينما، أو في فرق أخرى، الذين كانت تُسعد بصحبتهم، تمنّت لو أن لديها بيتاً يتّسع لهم جميعاً ليعيشوا معها ولا يفارقونها لحظة واحدة، ولأن هذا شبه مستحيل فقد لجأت إلى حيلة وجدت فيها سلوى وتسلية، وهي العيش وسط الطيور والحيوانات، لتجد من تمنحه حبها وحنانها من دون مقابل…
قرّرت ماري منيب أن تطلق على الطيور والحيوانات الأليفة التي تقتنيها أسماء من تحبّهم من الأصدقاء والمقربين، فهناك ببغاء كبير فصيح اللسان يتحدّث طوال الوقت، أطلقت عليه اسم «كشكش»، و{ديك» بلدي منفوش الريش يمشي مزهواً بنفسه وبألوان ريشه الزاهية أطلقت عليه اسم يوسف بيه وهبي، وديك رومي طويل الرقبة فارع الطول عريض المنكبين أطلقت عليه اسم سراج منير، وبطة سمينة ممتلئة غير أنها رشيقة تمشي فرحة بنفسها أطلقت عليها اسم «ميمي شكيب» زوجة سراج منير، وذكر حمام أبيض الريش أطلقت عليه اسم «بوش بوش» أو بشارة واكيم، وديك «شركسي» من دون ريش حول رقبته قليل الحجم ضعيف، لكنه لا يهدأ لحظة، أطلقت عليه اسم «شرفنطح».. وإوزة بلدي معتدّة بنفسها أطلقت عليها اسم فاطمة وأحياناً كانت تدلّلها «طماطم»، أي فاطمة رشدي.
هذا بخلاف القط الذي لم يكن يفارقها حتى في السرير أثناء نومها والذي أطلقت عليه اسم سعد، وأنثى الكلب الخاصة بحراستها والتي أطلقت عليها اسم «لايكا».
لم تكتف ماري بإطلاق هذه الأسماء على طيورها وحيواناتها، بل كانت تجلس بينها غالبية وقتها وتتابع حركاتها ومعاركها معاً، وتفضفض معها ما يضيق به صدرها، وتحكي لها مشاكلها، غير أنها كانت تعاتب من يعتدي على الآخر:
* بس يا سي كشكش بيه… وزي ما إنت شايف كده… من يوم ما سبتنا مبقاش فيه حاجة لها طعم… كل حاجة بقت شبه بعضها… حتى الأيام بقت شبه بعض… النهارده ما يفرقش عن إمبارح وبكره أكيد هيبقى شبه النهارده… إيه… فين أيامك يا سي نجيب؟
ثم فجأة تنتبه الى الديك الرومي وتنهره:
* بس… بس… شايفة يا ميمي سراج بيعمل إيه في يوسف… اختشِ يا سراج عيب ده برضه يوسف بيه… ما تقوله حاجة يا أبو الكشاكش.
يطير ذكر الحمام الأبيض ليقف فوق كتفها، فترحّب به وتأخذه في حنان:
* تعالى يا بشارة ماتخافش… إنت خايف من شرفنطح… ما تخافش هو كده غلباوي ع الفاضي.
عودة الريحاني
هؤلاء الذين جمعتهم ماري في بيتها في شكل طيور وحيوانات تعشقها، التفّوا حولها بشخصياتهم الحقيقية وذهبوا واحداً تلو الآخر، أفراداً وجماعات إلى بيتها يطالبونها بالعودة الى المسرح والى فنها، غير أن أكثر من أثّر فيها وكان لكلامه عليها فعل السحر هو الكاتب والمخرج بديع خيري:
* إنت عارفه… أنا مش بكلّمك علشان ترجعي تشتغلي معايا… إنت فنانة كبيرة… وأي فرقة تتمنى تشتغل معاها ماري منيب.
- ده بس من ذوقك يا سي بديع.
* دي حقيقة مش مجاملة يا ماري. وإذا كان نجيب الريحاني مات… فرقته مش لازم تموت.
- عليه رحمة الله بس آدي الله وآدي حكمته هنعمل إيه. اللي كان بيشغل الفرقة وعمودها الأساسي مش موجود.
* إنتو موجودين… إنت وميمي شكيب وعباس فارس وسراج منير، وعدلي كاسب، وكمان هيبقى معاكم الشباب الجديد نجوى سالم ومحمد شوقي وسعاد حسين وأديب الطرابلسي والباقي كله لازم فرقة الريحاني تقف من تاني على رجليها وتقدم للناس فنها اللي عمره ما هيموت.
- أيوه بس إنت سيد العارفين… كله دول الجسم… ومفيش جسم من غير راس… فين بطل الفرقة؟ فين اللي ممكن يقف مكان الريحاني؟
صمت بديع خيري قليلاً ثم أطرق برأسه ونظر إلى ماري نظرة حائرة، قائلاً:
* طبعا هو مفيش اللي يسد مكان الريحاني… لكن كل أعضاء الفرقة اختاروا واحد أنا شايفه كويس… بس مشفق عليه من التجربة، لأن التجربة صعبة جدا… مش عليه هو تحديدا على أي حد يقف مكان الريحاني.
- هو مين بسلامته؟
عادل بديع خيري… ابني.
صمتت ماري وحوّلت عينيها بعيداً عن عيني بديع… غاب صمتها قليلاً ما زاد قلق بديع خيري وتوتّره، وظنّ بأنها ترسل إليه رسالة واضحة. لم يشأ أن يضغط عليها أكثر من ذلك، بل فضّل أن ينصرف من دون أن يسمع تعليقاً منها، وما إن هّم بالوقوف حتى نظرت ماري إليه وقالت:
- مش هنعمل مسرحيات جديدة… عادل أحسن واحد ممكن يقوم بأدوار الريحاني في مسرحياته.. ولو عاوز أنا أبصم بالعشرة على كده… قول للفرقة تجهز… يلا على بركة الله.
لم يكن عادل، نجل الكاتب والمخرج بديع خيري، قد تخطّى عامه العشرين إلا بأشهر قليلة، وبقي على تخرّجه في كلية الحقوق عام فقط، لكنّه لم يكن يفكّر بالعمل في المحاماة، بل أراد فحسب الحصول على ليسانس الحقوق لتكون معه شهادة عليا، في حين أنه وُلد وعاش وتربى في كواليس فرقة الريحاني، بل إنه شارك من خلال فريق تمثيل الجامعة في كثير من المسرحيات، وكانت غالبيتها مسرحيات الريحاني التي شارك والده في تأليفها مع الريحاني.
على رغم قصر قامة عادل خيري وضعف بنيته، إلا أنه كان يتمتّع بذكاء حاد وسرعة بديهة، يحمل مقوّمات القيادة، حاضر الذهن على خشبة المسرح، يحفظ كل أدوار المسرحية وليس دوره فحسب.
قرّر عادل خيري أن يبدأ موسم فرقة الريحاني الجديدة بمسرحية قدّمها الريحاني على خشبة المسرح في صيف العام 1930، أي قبل أن يولد عادل بأشهر عدة، كي لا يكون في ذاكرته شيء من أداء الريحاني في هذه المسرحية، ومن ناحية أخرى يكون قد مّر عليها 20 عاماً تقريباً ونسيها الجمهور، فلا يعقد مقارنة بينه وبين الريحاني في أول عمل له مع الفرقة.
قدّم عادل خيري أول مسرحية لفرقة الريحاني بعنوان «أحب حماتي» أمام ماري منيب وحسن فايق وسعاد حسين ونجوى سالم، وأخرجها والده بديع خيري، وأدّت فيها ماري دورها المعروف: «الحماة النكدية».
نجحت المسرحية نجاحاً لم يصدّقه بديع خيري، لدرجة أن الفرقة قررت تقديمها مرّتين في اليوم الواحد، ماتينيه وسواريه، نظراً الى الإقبال الجماهيري عليها، ما شجّع عادل خيري على إعادة تقديم مسرحيات الريحاني قريبة العهد: فكانت على التوالي: «الشايب لما يدلع، كان غيرك أشطر، لو كنت حليوة، ياما كان في نفسي، قسمتي، واستنى بختك»، ونجحت كلّها نجاحاً كبيراً أعاد اسم فرقة الريحاني مجدداً إلى الصدارة .
حماة فنيّة فحسب
لم تنكر ماري منيب أن هذا الشاب صغير السن حديث العهد بالانضمام الى فرقة الريحاني، أضاف إليها نجاحاً فوق نجاحها، بعدما أصبحت القاسم المشترك في هذه المسرحيات كافة، وتقاسمت معه البطولة. حتى أصبح اسمها الأشهر بين كل الفرق المسرحية، وليس فرقة الريحاني فحسب، كذلك الحال في السينما، حتى أنه لم تعد تُذكر أدوار الحماة القاسية النكدية، أو الأم الحريصة على أولادها لدرجة الاختناق، إلا ويُذكر اسم ماري منيب معها، بدرجة أثارت دهشة الجميع، خصوصاً المقرّبين الذين يعرفون ماري عن قرب، وشخصيتها، وكمية الحنان والحب اللذين تتمتع بهما. فزوجتا فؤاد وبديع، ولدَي ماري، تريانها أماً حنوناً، لم تتعمّد يوماً أن تنغّص عليهما حياتهما، ولم تتدخّل في شؤون حياة ولديها، بالأمر أو حتى الرجاء، ولم تزر بيتَيهما إلا في الأعياد والمناسبات السعيدة، وحين كان يزورها أولادها وزوجاتهم والأحفاد، يجدون كل ترحاب وحب، ما جعل زوجة فؤاد تسألها عن سرّ ذلك التناقض بين الشاشة وخشبة المسرح وبين الواقع الذي يعيشونه:
* صحيح يا ماما… إزاي بيحصل ده؟
- الله… كلمة ماما طالعة من بقك زي السكر.
* لا بجد… إيه السر في كده؟
- أبداً يا بنتي لا سر ولا حاجة… المسألة كلّها أكل عيش… ماهو التمثيل زيه زي أي شغل… تعملي شغلك كويس ربنا يديلك ويحبب الناس فيكي.
* أيوه بس اللي يشوفك في السينما أو على خشبة المسرح يقول إن الست دي محدش يقدر يعيش معاها… وده غير الحقيقة خالص… جبتي الكلام ده منين؟
- من الدنيا والحياة… الدنيا بتعلم الناس كتير… وطول من البني آدم مننا عايش ياما بيشوف ويتعلم… اسأليني أنا… أنا.
* يعني إنت شفتي قدامك حاجات زي كده.
- ياما شوفت وجربت… وبعدين الباقي بيجي بالخبرة وتوفيق ربنا… طب أنا هقولك على حاجة… عارفة أنا في الأول في بداية شغلي بالمسرح… كنت أروح أتفرج على مسرحيات يوسف بيه وهبي… تصدقي إني كنت بخاف منه وخصوصاً في رواية «راسبوتين» كنت بخاف أبصّ في عنيه… وفي مرة صحّيت أختي أليس الله يرحمها معايا طول الليل خايفه لراسبوتين يجيلي في الحلم.. وفضلت كده لحد ما تعرفت على يوسف بيه وبقينا أصحاب… ما قوليكيش على خفة الدم والحنية والحب لكل اللي حواليه… بقولك إيه… ما تاخدي تكسري الجوزة دي بسنانك علشان أنا سناني واجعاني.
إن كانت أدوار الحماة النكدية قد شاعت عن ماري منيب، وكانت سبباً في رفع اسمها عالياً في المسرح الذي انحصرت غالبية مشاركاتها فيه، فإن السينما كانت أكثر رحابة وأكثر تنوعاً أمامها، إلا أن اسمها في كل الحالات أصبح «ماركة مسجلة» في خفة الدم والكوميديا، لدرجة أن المخرجين الجدد كانوا يعتمدون عليها في السينما لضمان نجاح أعمالهم، وهذا ما شجّع أحد هؤلاء أن يطلب ماري للعمل في فيلمه الأول، وإن كانت له شروط أراد أن ينبّه إليها ماري لما عرفه عنها بعدم الالتزام حرفياً بالحوار المكتوب:
* شوفي يا ست ماري… أنا طبعا عارف اسمك وتاريخك وعارف أنا بشتغل مع مين علشان كده أنا اخترتك تعملي البطولة مع الأستاذ حسين رياض، وهيكون معاكم فاتن حمامة وكمال الشناوي.
- أنا قريت السيناريو… وعجبني بس ربك والحق أنا قلبي انقبض في الأول.. بس لما جيت للنهاية عجبني قوي… وكمان اسم الفيلم حلو «بابا أمين»… يلا ربنا يوفقك يا بني.
* مرسي قوي… بس معلش اسمحيلي أنا لي طلب صغير عند حضرتك.
- اتفضل تحت أمرك.
* أنا طبعا يشرفني أشتغل مع حضرتك… بس لو سمحتي أنا كنت عاوز حضرتك تلتزمي بالحوار المكتوب في السيناريو.
- إنت قولتلي اسمك إيه…
* ما سبق وقولت لحضرتك… اسمي يوسف شاهين.
- أيوه صحيح افتكرت… شوف يا يوسف بيه.. أنا بعرف أقرأ وأكتب وبتكلم فرنساوي بلبل كمان… بس أنا بحب أسمع الحوار من مساعد المخرج وبعدين أعمل المشهد بطريقتي… وأنا مش هغير الطريقة دي علشان أي حد… لكن علشان خاطرك أنا هعمل المشهد ولو إنت شايف إنه مش هو اللي إنت عاوزه ممكن أعيد حتى عشر مرات لحد ما تاخد اللى إنت عاوزه.
في عام 1950، قامت ماري ببطولة أول فيلم للمخرج يوسف شاهين، ولاقى نجاحاً كبيراً، وفي العام نفسه قدًمت أيضاً عدداً آخر من الأفلام، وإذا كان شاهين قد نجح في إبعادها عن دورها المحبّب لها وللجمهور، فإن بقية المخرجين أعادوها بسرعة إليه، فقدّمت، خلال عام 1951 أفلام: «مشغول بغيري، ليلة الحنة، آدم وحواء، شبك حبيبي، وخد الجميل»، وختمت العام بفيلم ظلّ لأسابيع عدة حديث الصحافة ويُكتب عما فعلته ماري منيب بهذه النوعية من الأدوار، وكان بعنوان «حماتي قنبلة ذرية» كتبه أبو السعود الإبياري وأخرجه حلمي رفلة، وقامت ماري ببطولته أمام إسماعيل ياسين وتحية كاريوكا، والمطربة الشابة شادية، وعبد الفتاح القصري.
روح جديدة
في موسم عام 1952 الصيفي، كانت سعادة ماري لا توصف، ليس فحسب لأنه لم تكن ثمة دار عرض وإلا ويُعرض فيها أحد أفلامها، بداية من «صورة الزفاف، بنت الشاطئ، مسمار جحا، حضرة المحترم» وصولاً إلى «الأسطى حسن» الذي شاركت فيه فريد شوقي في أول بطولة مطلقة له مع زوجته هدى سلطان، وغيره الكثير، بل أيضاً لأن مصر تخلّصت أخيراُ من عهود الظلام، وعصر القهر والظلم، بقيام ثورة 23 يوليو بقيادة «البكباشي» جمال عبد الناصر، ومعه الضباط الأحرار يتقدّمهم اللواء محمد نجيب.
شعرت ماري آنذاك، ككل المصريين، بأن ثمة روحاً جديدة تولد في مصر، روحاً مختلفة يملؤها التفاؤل بمستقبل مزدهر، وغدٍ أفضل، وكان هذا الإحساس مسيطراً على الجميع، في المجالات كافة، إضافة إلى أن الثورة أولت اهتماماً خاصاً بكل أنواع الفنون، السينما والمسرح والإذاعة، التمثيل والموسيقى والغناء، والأدب والشعر.
لم تشعر ماري ببقية سنوات الخمسينيات التي مرت سريعاً، وقدّمت خلالها أفلاماً سينمائية كثيرة رسّخت أقدامها، ليس باعتبارها إحدى أهم نجمات تلك الفترة فحسب، بل لأنها أحد رواد فن التمثيل في المسرح والسينما، فلم يخلُ عام من سنوات تلك الحقبة من أربعة أو خمسة أفلام لماري منيب، شاركت خلالها غالبية نجوم ونجمات جيلها والأجيال التالية لها، ذلك في أفلام: «بيت الطاعة، ابن للإيجار، بنت الهوى، الحموات الفاتنات، المرأة كل شيء، حميدو، عفريتة إسماعيل ياسين، المحتال، علشان عيونك، الحياة حلوة، اوعى تفكر، كدبة أبريل، مملكة النساء، كابتن مصر، تار بايت، عرائس في المزاد، الكيلو 99، سامحني، هذا هو الحب، أحلام البنات، حماتي ملاك»، وختمت تلك المرحلة بأحد أهم أفلامها «أم رتيبة» الذي اضطرت في نهايته الى أن تجسّد للمرة الأولى دور رجل في السينما، وقد شارك في هذه الأفلام عدد كبير من النجوم والنجمات من بينهم: أنور وجدي، كمال الشناوي، عماد حمدي، فريد شوقي، فاتن حمامة، هند رستم، شادية، ليلى مراد، مريم فخر الدين، وغيرهم.
لم تكن السينما أقلّ أهمية من المسرح لدى ماري منيب، فقد كانت تحاول بشكل كبير التوفيق بين عملها في السينما وعملها اليومي على خشبة المسرح، وإن كانت السينما أخذتها إلى حدّ ما من المسرح، إلا أنها رفضت رفضاً قاطعاً العمل في التلفزيون، وقد وافقت مرة واحدة على الظهور من خلال شاشته، والتي كانت سبباً في مقاطعة ماري التلفزيون في ما بعد، بعدما اضطرت الى الجلوس ساعات عدة في انتظار ضبط الكاميرات وأجهزة الإضاءة والصوت.
لم تتخلّ ماري يوماً عن عملها في المسرح، وكانت حريصة على التواجد فيه قبل موعد رفع الستار يومياً، كعادتها منذ ما يزيد على 30 عاماً، ما كان سبباً في نجاح «ربيرتوار» مسرحيات الفرقة التي أدى بطولتها نجيب الريحاني، من خلال عادل خيري، مثل «30 يوم في السجن، حسن ومرقص وكوهين»، حتى قرّر عادل إعادة تقديم المسرحية الأهم والأشهر، «إلا خمسة»، بعد مرور ما يقرب من 18 عاماً على تقديمها مع نجيب الريحاني. وعلى رغم حبّ ماري للمسرحية وللمسرح عموماً، ولعادل خيري خصوصاً إلا أنها رفضت رفضاً قاطعاً أن تعيد تقديم هذه المسرحية تحديداً، فدُهش عادل من هذا الرفض، وأصرّ على معرفة أسبابه.. حتى ولو لم تقدّمها ماري معه بعد ذلك.
البقية في الحلقة المقبلة