فقهاء التنوير: عمر بن الخطاب.. «العقل» أساس الملك .. سار على هدى الرسول القائل: استفتِ قلبك.. وكان دائم إعمال العقل سريع إبداء الرأى فأيده الله من فوق سبع سماوات
السبت، 21 يوليو 2012 - 15:53
عمر بن الخطاب
بقلم وائل السمرى
أنشأ الدواوين ولم يجد حرجاً فى استعارة النظم السياسية والإدارية من الدول «الوثنية» التى اقتبس أنظمتها وتداول عملاتها.
أبطل حد السرقة فى عام المجاعة وأبطل سهم المؤلفة قلوبهم إلى يومنا هذا ومنع توزيع الأراضى الزراعية فى الأمصار المفتوحة على جنده مجتهدا مع آيات القرآن وسنة الرسول.
أشار على أبى بكر بجمع القرآن بعد استشهاد مئات الحفظة فى حرب الردة وألح عليه فى ذلك رغم تخوف الصديق حتى استجاب له.
لا شك فى أن رسول الله صلى الله على وسلم هو الفقيه الأول والمعلم الأكبر وحامل شعلة الفقه فى الدين والدنيا والأولى والآخرة، لكننا نعتبر أن أول فقهاء الدولة الإسلامية هو الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، وذلك لأنه لا يوجد حد فاصل بين ما كان يقوله النبى صلى الله على وسلم «وحيا» وما كان يقوله «رأيا» ويكفى رسول الله أنه وضع الأساس الفقهى الربانى حينما أرسل معاذا بن جبل إلى اليمن وسأله: «بم تقضى يا معاذ؟» فأجاب: بكتاب الله، فقال الرسول: «فإن لم تجد فى كتاب الله»، قال أقضى بسنة رسوله، قال الرسول: «فإن لم تجد فى سنة رسوله»، قال معاذ: أجتهد رأيى، ولا آلو، فتهلل وجه الرسول وقال: «الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله» وهو القائل صلوات ربى وسلامه عليه: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِى النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِى الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ.
ويبدو أن هذا النبراس الذى وضعه الرسول الكريم هو ما اعتمد عليه عمر بن الخطاب الذى يعده المؤرخون مؤسس الدولة الإسلامية المدنية، الذى حول الدولة من الوضع القبائلى إلى الوضع المؤسسى، والحقيقة التى يجب أن نشير إليها وأن نضعها فى الحسبان ونحن نتناول دور الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى بناء الفقه الإسلامى هو أنه رضى الله عنه اعتبر العقل وحيا دائما، وسار يفعل ما يمليه عليه قلبه حتى فى حياة الرسول، وحفظ لنا تاريخ الإسلام عدة وقائع خالف فيها عمر «رضى الله عنه» رأى رسول الله، فأيد الله عمر من فوق سبع سماوات، فقد تمنى أن يتخذ المسلمون من مقام إبراهيم مصلى فنزلت الآية الكريمة «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» كما قال للنبى صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر» فنزلت الآية «يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما»، وخالف رأى النبى فى أمر أسرى غزوة بدر فنزلت الآية «ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض» كما استعجل تحريم الخمر لما رآه من عاقبة أفعالها بعقول الناس، فكان يدعو الله ويقول: اللهم بين لنا فى الخمر بياناً شافيا، فكانت تنزل آيات تحريمها متدرجة مراعية أحوال المسلمين فى ذلك الوقت، كما استبشع أن يصلى رسول الله على المنافقين فنزلت الآية الكريمة «ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون» كما أن الله بشره بعد صلح الحديبية بدخول مكة حينما ثار وهاج رافضا للصلح فطمأنه رب العزة بالقول: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا» ولهذا قال رسول الله فى بيان فضل عمر: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»
هذا حال عمر بن الخطاب وقت أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم على رؤوس الصحابة يأمرهم فيأتمرون، وينهاهم فينتهون، غيورا مدافعا عن دين الله، يريد الله صدقه وحماسه، ويؤيده مرة، ويطمئنه مرة، فصدق عمر قلبه وعقله، واعتمد عليهما دائما حتى بعد وفاة الرسول، ولعل حادثة جمع القرآن كانت الأولى التى يصر فيها عمر على رأى بعد وفاة الرسول، فقد انتهت حروب الردة بمعركة اليمامة، التى قتل فيها الكثير من الصحَّابة وخاصة من حاملى القرآن، إذ بلغ عدد من ماتوا أكثر من خمسمائة، وقد فزعَ عمر بن الخطاب عندما سمعَ بهذه الأرقام، وخشىَ أن يُقتَل المزيد منهم فى المعارك والحروب، فذهب إلى الخليفة الأول أبوبكر الصديق، قائلا: إنّى أرى أن تأمر بجمع القرآن، غير أن أبا بكر تخوَّف من الأمر وقال: «كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله»، فردّ عمر قائلاً: «أرى والله أنه خير» وألح على أبى بكر حتى قبل، وبهذا الاجتهاد حفظ عمر القرآن الكريم من الضياع وفعل أمرا هو الخير ذاته، رغم أن هذا لم يحدث فى عهد الرسول.
واستمرت اجتهادات عمر وآراؤه الصادمة للمجتمع بعد وفاة أبى بكر الصديق، حتى قيل إنه كان يبطل الحدود ويعطل الآيات ويطبق ما يراه صحيحا من وجهة نظره، لكن المتأمل لاجتهادات عمر الكثيرة يجد أنه حافظ فى مجملها على مقاصد الشريعة وغاياتها، وأنه لم يخالف المفهوم العام للآيات الكريمة وإنما استجاب لمؤثرات العصر ومتغيراته ولم يجعل القرآن الكريم أو السنة المطهرة حجابا على عقله وإنما قنديلا يضىء له الطريق، والدليل على ذلك واقعة الاختلاف على تقسيم الأراضى التى فتحها المسلمون عنوة، والتى أبى عمر أن يقسمها على جنده مثلما تأمر الآية الكريمة «واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسة وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان» والتى تأمر بأن توزع أراضى المغنم على جنود المسلمين الذين تحملوا الصعاب فى فتحها، وهو الشىء الذى فعله الرسول ذاته حينما فتح «خيبر» فقسم أراضيها على المسلمين آنذاك، لكن عمر لم يعترف بهذا التقسيم ورأى توزيعها على الفلاّحين أهل البلاد مع أخذ ضريبة منهم، مخالفا بذلك رأى العديد من الصحابة الذين تمسكوا بتنفيذ النص كما هو، لكن عمر أيضاً تمسك برأيه وترك الأراضى لأصحابها من السكان المحليين للبلاد ولم يعطها لجنده ولا ولاته، وبهذا السلوك العقلانى الحميد حافظ عمر على الأراضى الخصبة فى يد من يقدرون على زراعتها، وابتعد بجنوده عن حياة الاستقرار والنعومة، وطمأن أهالى البلاد المفتوحة على أقواتهم وأراضيهم، وحفظ الأرض لمن سيأتى بعد ذلك من المسلمين.
الحالة الثانية التى شهدت اصطداما حادا بين رأى «ابن الخطاب» ونص قرآنى هى إبطاله تنفيذ حد السرقة وهو قطع اليد فى عام المجاعة، وذلك نظرا لانتشار الفقر وعدم قدرته على إحداث حالة الكفاف المنشودة، وبذلك سن سنة جديدة للإسلام وهى عدم تطبيق الحدود العقابية قبل سد الحاجة، أما الاجتهاد الآخر الذى قام به عمر رضى الله عنه فهو إبطال سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، خلافا للآية الكريمة، «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» والمؤلفة قلوبهم هم الذين دخلوا الإسلام حديثا ولم يستقر الإيمان فى قلوبهم فأراد الله جعل وعلا أن يستميل قلوبهم بأن يدمجهم فى المجتمع الإسلامى مانحا إياهم ميزة الحصول على سهم من أموال الزكاة ليؤلف بين قلوبهم والإسلام، وكان رسول الله يجزل لهم العطاء كما سار أبو بكر على هذه الفريضة، أما عمر فقد انتبه سريعا إلى متغيرات العصر، بعد أن اشتد عود الإسلام وقوى بذاته فقال مقولته الشهيرة «لقد أعزّ الله الإسلام، فلم تعد هناك حاجة لتأليف القلوب» وأبطل منح المؤلفة قلوبهم هذا السهم حتى يومنا هذا، فكان اجتهادا كبيرا فى وقت لم يكن يجرؤ أحد على مثل هذا الاجتهاد إلا عمر.
أما اجتهاد عمر الأكبر الذى كان له فضل كبير على بناء الدولة الإسلامية فهو نقل الدولة من النظام القبلى إلى النظام المؤسسى، وكان هذا الاجتهاد ضرورة ملحة وضعها ظرف اتساع الرقعة الإسلامية أمام عمر فوجد أنه لابد للدولة من تأسيس جديد على غرار الامبراطوريات الكبرى، فقسم الممالك الإسلامية إلى خمس مناطق كبيرة، وقسم المناطق إلى قطاعات واختار لكل إقليم واليا يوصيه بجمل وخطابات فى شأن الحكم بما يشبه الدستور الحاكم، وله مُفوَّضون رسميُّون يسافِرُون إلى الأمصار، ويراجعون أعمال الوُلاة، ولما اتسعت الأعمال وكثرت المغانم والأموال استعار من نظام الحكم الفارسى فكرة إنشاء الدواوين لما رأى فيه فائدة للحاكم والمحكوم، ولم يقل إن هذا النظام مقتبس من دولة وثنية فلا يجوز تطبيقه، بل أعرض عما يمكن أن يثار متخذا من مصلحة المسلمين هدفا أسمى، وانتقى من بين النظام الفارسى والنظام البيزنطى ما رآه مناسبا للوضع الامبراطورى الجديد، وأبقى على الكثير من الأنظمة الإدارية التى ثبت لهم صلاحيتها لتلك البلاد، كما أبقى على استعمال العملات البيزنطية والفارسية وكانت تتميز بنقوشها الوثنية التى تصور آلهتهم ومعابدهم وملوكهم، غير ملتفت إلى ما يمكن أن يقال من أن هذه الرسوم وثنية أو أن تداولها كفر، وأنشأ السجن والبريد وقنن عادة التأريخ بعام الهجرة، وغير ذلك من أمور مستحدثة، رأى عمر أن فيها صلاحا للخلق وتمجيدا للخالق، فلم يتورع عن فعلها متبعا هدى الرسول القائل: استفت قلبك ولو أفتوك.
فقهاء التنوير: الإمام على بن أبى طالب.. مدينة العلم وراية العدل .. اعتبر العقل أصل الدين وعماد الدنيا وهو القائل: رأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عمادا
الأحد، 22 يوليو 2012 - 15:48
الإمام على بن أبى طالب
بقلم وائل السمرى
- كان يراعى مصلحة المسلمين ويسن من الأحكام ما يراه مناسبا لعصره فضاعف حد شرب الخمر وجعله ثمانين جلدة لانتشاره فى البلاد المفتوحة حديثا رغم أن الرسول كان يقيمه «أربعين»
- ضرب أعظم المثل فى المواطنة ومراعاة حقوق الأقليات حينما تخاصم مع «يهودى» محترما حكم القضاء الذى أنصف اليهودى وظلمه فكان سببا فى إسلام خصمه
لم يجتمع أقصى متطرفى الشيعة مع أقصى متطرفى السنة على حب امرئ مثلما اجتمعوا على حب الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، لو كانت الأسبقية فى الإسلام سببا للحب فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت الشجاعة فى الدفاع عن رسول الله ورسالته سببا للحب، فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كان الصبر على الشدائد والرضا بقضاء الله سببا للحب فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت الشهامة والإمامة والعدالة سببا فى الحب، فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت سنة رسول الله وتقديرها وإعلاؤها سببا فى الحب، فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت القرابة لرسول الله سببا فى الحب فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كان القرب والنسب لرسول الله سببا فى الحب، فقد حازه الإمام واستحقه.
وللأسف أيضًا لن تجد صحابيا تعرض للظلم التاريخى ولطمس الآثار مثلما تجد عليًا، وذلك لأن الأمويين ومن بعدهم العباسيون كانوا يخشون من نشر أفكار الإمام وآرائه فيزيد تعاطف الناس مع شيعته الذين تعرضوا للكثير من العنت والتنكيل، وكان من مفردات حرب الخلفاء على أنصار الإمام على طمس آراء الصحابى الجليل الكبير، ومحاولة محو آثاره، حتى أن بعض المؤرخين رجحوا أن سبب تغيير الإمام الشافعى لبعض آرائه الفقهية، حينما أتى إلى مصر هو اطلاعه على آراء الإمام التى أخفاها الخلفاء عن أهل العراق والحجاز، وكان الإمام أحمد بن حنبل يتعمد امتداح الإمام على أمام خصومه نكاية فيهم وتحديا لهم.
أما منهج الإمام على فى الفقه ومرجعيته فيه بعد القرآن والسنة فنستدل عليه من بعض ما قاله، وأشهر مقولاته فى هذا الشأن هو «لكل فضيلة رأس ولكل أدب ينبوع، ورأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل، الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عمادا» ومن هذه المقولة نتأكد من أن الإمام على كرم الله وجهه كان يعد العقل نبراسه وهاديه ومقومه ومدعمه، بل كان يعده أصل الدين وعماد الدنيا، بالإضافة إلى كونه رأس الفضيلة وينبوع الأدب، أما منهجه فى السياسة والحكم فكان عدل القرآن ورحمة القرآن، ويعتبر الإمام أن العلم هو المكون الأول لشخصية الحاكم أو الإمام، فيقول «من ينصب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه»، وبتلك المقولة يتضح بعض من شروط الإمام عند الإمام ألا وهو الصدق مع النفس والشعب، وعلى من يريد أن يكون حاكما أن يربى نفسى قبل أن يربى غيره، وأن يكون صادقا قبل أن يطلب من غيره الصدق، وأن يكون محافظا على عهوده قبل أن يطلب من الناس الحفاظ على عهدهم وبيعتهم، وأن يلتزم بالعدل مع نفسه وآله وعصبته قبل أن يدعى لنفسه ما ليس فيه.
فى هذا الشأن، حفظت لنا كتب السيرة والتاريخ موقفا، لعل الإمام أراد من خلاله أن يعلمنا قيما يعرف أننا سنفتقدها فى يوم من الأيام ونعود إليها من جديد فنكتشف ما بنا من تبدل واختلاف ونفاق، فهذا هو أمير المؤمنين وإمامهم، المبشر بالجنة وزوج ابنة رسول الله يتنازع على درع مع يهودى، ويذهبان للقاضى ليحكم بينهما فيسأله القاضى يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فقال: نعم الحسن ابنى يشهد أن الدرع درعى، فقال القاضى: شهادة الابن لا تجوز، فقال الإمام: سبحان الله.. رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ فقال القاضى: يا أمير المؤمنين ذلك فى الآخرة، أمّا فى الدنيا فلا تجوز شهادة الابن لأبيه.. فقال على: صدقت.. الدرع لليهودى، فقال اليهودى: أمير المؤمنين قدمنى إلى قاضيه، وقاضيه يقضى عليه؟! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك ليلاً. فأهداه أمير المؤمنين الدرع».
موقف واحد يحمل لنا عشرات المعانى والقيم التى ننادى بها هذه الأيام ونفتقدها، فأى قضاء على التمييز أكثر من أن أحد المبشرين بالجنة وأمير المؤمنين يقف أمام القاضى فى خصومة مع «يهودى» فيحكم القاضى لليهودى؟ وأى معنى للمواطنة أشمل وأجمل من هذا التمثيل الصادق؟ وأى فصل للدين عن السياسة أكثر من نزع كل معانى القدسية والتبجيل عن الحسن حفيد رسول الله وأحد سادة شهداء الجنة واعتبار فقط «ابن» يشهد لأبيه وإبطال هذه الشهادة وقول القاضى إن الحسن أمامه مجرد «ابن» يشهد لأبيه، وأى احترام للقضاء أكثر من أن يمتثل أمير المؤمنين وقاضى قضاتهم لحكم القاضى دون أن يطالب بحصانة أو يحتمى بنسب؟
ولأن الإمام كان يعرف أن اللغة العربية هى مفتاح أسرار القرآن والسنة، فقد وضع أساس علم النحو وبه حافظ على القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة من اللبس وتبدل المعانى، وقد تواتر أن أبا الأسود الدؤلى واضع علم النحو ومنظّره الأول شكا للإمام على من «شيوع اللحن» أى خطأ الناس فى إعراب الكلمات، فقال له الإمام اكتب ما أملى عليك ثم أملاه أصول علم النحو ووضع له تعريفا للاسم وللفعل والحرف وأسماء الإشارة، ثم قال يا أبا الأسود انح هذا النحو، فعرف هذا العلم بهذا الاسم من يومها، كما كان شاعرا مجيدا وكان يكتب الشعر فى حياة الرسول.
ومن دلائل أهمية فلسفة إعمال العقل التى تبناها الإمام على هو حفاظه على أرواح المسلمين من الإزهاق بالباطل، وحفظت لنا كتب السيرة والتفسير إشارات ومواقف ظهر منها مدى تفقه الإمام على فى الدين ومدى وقوفه على أسرار اللغة والآيات، وكأنه يعلمنا درسا غاليا يقول فيه إن العقل هو السبيل والهادى، ولولا إعمال الإمام على لعقله واجتهاده فى سبيل اكتشاف حكمة القرآن الكريم لسفكت دماء المسلمين بغير حق، ففى واقعة شهيرة حفظتها كتب الفقه أن رجلا أتى الخليفة ويقال إنه عثمان بن عفان وفى روايات أخرى عمر بن الخطاب قائلا إن امرأته حملت بعد ستة أشهر فقط من زواجهما فأمر الخليفة أن تأتيه المرأة ليقيم عليها الحد، فدخل عليه على بن أبى طالب رضى الله عنه فقال إن الله تبارك وتعالى يقول فى كتابه «وحمله وفصاله ثلاثون شهراً» وقال «وفصاله فى عامين» وأن الله قال «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» وبناء على استقرائه لآيات الله فى شمولتيها وعدم اقتطاعها من سياقيها أكد للخليفة أنه يجوز أن تلد المرأة بعد ستة أشهر فقط لأن الله أكد أن الفصال أى الإرضاع فى حولين كاملين وأن الحمل والفصال مدتهما ثلاثين شهرا وبطرح الحولين «24 شهرا» من الثلاثين شهرا يتبقى لنا ستة أشهر هى مدة الحمل، وبهذا الحكم المستبصر تم تبرئة المرأة والحفاظ على دمها وسمعتها.
مثال آخر على فطنة الإمام وإلمامه بعلوم الدنيا ما دار من حوادث بين الخليفة عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب الذى كان يعده عمر مستشاره الأول وقاضيه العالم، فقد أمر عمر بإقامة الحد على امرأة زنت فمنعه الإمام قائلا إن هذه المرأة «مبتلاة» أى مجنونة، وذكره بحديث الرسول القائل «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل» وتأكيدا على أهمية أن نراعى مصلحة العباد فى تطبيق الحدود وأن نتعامل مع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بمرونة وسلاسة وإن اقتضى الحال عدم الالتزام بها حرفيا إن تنازعت ومصلحة المسلمين ضاعف الإمام على عقوبة شرب الخمر وجعلها ثمانين ضربة وكان الرسول عليه الصلاة والسلام حددها بأربعين، لكن الإمام وجد أن شرب الخمر استشرى فى البلاد خاصة الأمصار المفتوحة حديثا فخشى أن تتوغل هذه الرذيلة فضاعف الحد ملتزما بروح الإسلام الذى يأمر بالعدل ويحافظ على المجتمع ومتبعا حكمة الرسول من تنفيذ الحد وليس حرفيته.
وكأقصى ما يلتزم به الفرد من حقوق الإنسان منع على بن أبى طالب عمر بن الخطاب من إقامة الحد على امرأة زنت وحملت سفاحا، فقال له أنه لا سلطان لك على ما فى بطنها، ثم قال له لعلك انتهرتها أو أخفتها فقال له قد كان ذلك فقال الإمام: أو ما سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حد على معترف بعد بلاء» فأخلى عمر سبيلها، امرأة أخرى أتت عمر بن الخطاب وادعت أن رجلا كانت تهواه اغتصبها وأتت بثوبها قائلة إن عليه أثر منىّ الشاب فسأل عمر النساء فقلن له: إن ببدنها وثوبها أثر المنى، فهم بعقوبة الشاب، فاستغاث الشاب مقسما على أنه لم يمسس المرأة، فاستشار عمر بالإمام فنظر على إلى ما على الثوب، وطلب ماء ساخنا وصبه على الثوب فجمد ذلك الذى كانت تدعى المرأة أنه منى وظهر أنه بياض بيض ثم أخذه واشتمه وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر المرأة فاعترفت، وأعان الإمام الفاروق فى الكثير من المواقف المستحدثة وساعده فى إقامة الدولة الجديدة، ومثال ذلك ما ورد تفصيله فى حلقة الأمس عن مسألة تقسيم أرض العراق بين الفاتحين ورغبة بعض الصحابة فى ذلك ومخالفة عمر لرأيهم برغم أنهم احتجوا عليه بالقرآن والسنة، فاستشار الفاروق الإمام فى ذلك فكان رأيه موافقًا لرأى الخليفة فأخذ برأيه، هذا هو على بن أبى طالب الذى ولد فى الكعبة ومات فى المسجد المبشر بالجنة، والذى تدلنا حياته ومنهجه على مدى تقديسه للعقل ومراعاته للعدل.
الإمام زيد بن على زين العابدين.. قاهر الفتن وموحد الأمم.. حارب متطرفى الشيعة وكان يذهب إلى من يدعون ألوهية الإمام على ويجادلهم أمام أنصارهم ليكشف كذبهم وهاجم العلماء الذين ينافقون الحاكم
الإثنين، 23 يوليو 2012 - 13:27
رسوم أحمد خلف
بقلم وائل السمرى - رسوم : أحمد خلف
رجل قال لصاحبه فى يوم من الأيام: أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحدا ينالها؟ فرد صاحبه: لا، فقال: «والله لوددت أن يدى ملتصقة بها فأقع إلى الأرض فأنقطع قطعة قطعة وأن الله يجمع بين أمة محمد».. هذا الرجل هو الإمام زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين، وكما ظهر جليا فى الاقتباس السابق فإنه عاش حياته مدافعا عن وحدة المسلمين متمنيا أن الموت فى سبيل هذا الغرض بأن يصعد إلى أعالى السماء وينزل على الأرض فيتقطع جسده قطعة قطعة فى مقابل أن يجمع الله بين أمة سيد الخلق، وأن يسود المسلمين الود والوئام والخير والسلام، وما أحوجنا اليوم لدعوة كهذى من رجل كهذا، متفقه فى الدين، عالم بالدنيا، صادق القلب، صافى النفس، تصدق أقواله أفعاله، وتصدق أفعاله أقواله، يعيش من أجل مبدأ، ويفنى فى سبيله رافع الرأس.
يقول الإمام زيد وكأنه يحدثنا واضعا معيارا للحكم على الناس واختبار مدى صدقهم: «من جاءك عنى بأمر أنكره قَلبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّى، ولم تفقهه عَنِّى، ولم تره فى كتاب الله عز وجل جائزاً، فأنا منه برىء، وإن رأيت ذلك فى كتاب الله عز وجل جائزاً، وللحق مُمَاثِلاً، وعهدت مثله ونظيره منى، ورأيته أشبه بما عهدته عنى، فاقبله فإن الحق من أهله ابتدأ وإلى أهله يرجع» وللحق فقد كان الإمام يضرب فى كل يوم مثلا للصدق مع النفس والله والناس، وبرغم اشتغاله بالسياسة وانشغاله بها لكنه لم يتلوث بقذارتها ولم يخالف رأيا قاله بدعوى أن السياسة تتطلب التلون، وهذا ما جعل الإمام أبو حنيفة يقول عنه «ما رأيت فى زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين».
وبرغم أن الإمام زيد بن على زين العابدين يعد من أئمة الشيعة وأعلامها، لكن قلما تجد فقيها شيعيا يجمع عليه فضله ومحبته واحترامه كل أهل السنة مثلما تجد الإمام زيد، فقد كان قريبا من قلوب كل المؤمنين، يؤمن بأن الحق أحق أن يتبع، ولا يخوض مع الخائضين الذين يشعلون النيران بين أبناء الدين الواحد والشريعة الواحدة والعقيدة الواحدة، بل من الممكن أن نقول إنه من القلائل الذين أدركوا خطورة تفرق المسلمين وسعى جاهدا لتقريب عباد الله من الله، مندفعا بلا تردد لمحاربة التعصب والتخلف والجهل، وتنقية علوم الدين مما فعله الطغيان والكتمان بها، من استشراء الآراء الدخيلة على دين الله، مثل الادعاء بأن الإمام على كرم الله وجهه نبى أو إله، أو أن نبى الله محمد عليه الصلاة والسلام عاد مثلما عاد نبى الله عيسى ابن مريم، أو أن الإمام على لم يمت ولكنه رفع إلى الله!!
حارب الإمام زيد بن على زين العابدين كل هذه الأفكار المتطرفة وكان يذهب إلى معتنقيها ويجادلهم ويحاججهم أمام أنصارهم، دافعا عن آل البيت هذه الشبهات المغرضة، ومصلحا بين أطياف المسلمين ليجمعهم تحت لواء الحق الذى لا يعطى عصمة لمخلوق، وأننا اليوم إذ نعرض لحياة هذا الإمام وآرائه نقف مثلما وقف رضى الله عنه أمام حاملى ألوية التعصب المذهبى الذى وصفه الإمام محمد أبو زهرة فى مطلع كتابه الرائد فى شرح وتعريف المذهب الزيدى بأنه يشبه تعصب الجاهلية، فمن يطالع فقه هذا الإمام وآراءه ومواقفه سيتأكد أن هذا الدين دين واحد، لا فرق عند طلاب الحق بين شيعى وسنى، فكل يبغى وجه الله.
وللإمام زيد العديد من الآراء التى لو تمسك المسلمون بها آن ذاك لوفرنا على أنفسنا مئات السنين من التناحر المذهبى، وخطونا بأوطاننا خطوات بعد خطوات فى طريق التقدم والنهضة والعدل، فمع تأكيد الإمام على أفضلية الإمام على ومنزلته التى لا ينازعه فيها منازع لم ير أن تولى الصحابيين الجليلين أبوبكر وعمر مخالفة لشرع الله أو ظلم لابن أبى طالب، معللا ذلك بأن مصلحة المسلمين آنذاك كان تتطلب إمامة أبوبكر ومن بعده عمر لإقرار الدولة الإسلامية ولاتفاق الناس عليهما، حتى إن بعض المغرضين كانوا يستفزونه ليهاجم الصحابيين الجليلين، لكنه كان يأبى، ويذكر أن قوما أتوا إليه ليبايعوه فأرادوا أن يستميلوه إليهم فى هجاء أبى بكر وعمر فسألوه عن رأيه فيهما فقال: «ما سمعت أحداً من آبائى تبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلاّ خيراً» ولم يثنه عن رأيه هذا تفرق هؤلاء المتعصبين عنه، بل إنه يروى عنه أنه كان يقول: كان أبوبكر رضى الله عنه إمام الشاكرين ثم يتلو قول الله «وسيجزى الله الشاكرين» ثم يقول البراءة من أبى بكر هى البراءة من على.
ولعله من المفارقات الصارخة أن يتشابه رأى أحد أهم وأكبر أئمة الشيعة مع رأى الإمام أحمد ابن حنبل فى مسألة أحقية الإمام على بالخلافة، بل إن الإمام ابن حنبل كان يرى أن الخلافة الشرعية هى للإمام على، وأن الأمويين اغتصبوا الملك منه وعلى هذا كان يرى أن حكم الأمويين كان حكما غير شرعى، وهذا ما نادى به الإمام زيد الذى وضع شروطا عادلة ومتطورة إذا ما قسناها بمفاهيم عصرها للإمامة، فكان يرى أن الخليفة لا يكون خليفة لرسول الله وأميرا للمؤمنين وإماما للأمة إلا إذا توفرت له شروط ثلاثة، الأول: الشورى، أى ألا ينفرد بالرأى ويستبد فى الحكم، والثانى هو: المبايعة، أى أن يختاره الناس بإرادة حرة غير مكرهين ولا خائفين أو تحت الإغراء، فهذا كله يعطل حرية الإرادة التى لا تصح البيعة أو الاختيار إلا بها، والثالث هو العدل: فيقيم الخليفة المجتمع على قواعد الشرع، ويحقق المساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات والفرص، ولا يحكم بهواه، بل يكون معيار المفاضلة بين الأفراد هو ما يقدمون من عمل حسن، كما أنه نفى مبدأ توريث الحكم الذى عانى منه المسلمون قرونا عديدة، وكان يرى أن من حق المسلمين أن يختاروا حاكمهم دون اعتبار الوراثة أساسا.
هذه الآراء العاقلة الموزونة المتسامحة المتصالحة الجامعة لقلوب الناس أشعلت حقد الخليفة الأموى الذى كان يذكى التعصب ضد آل البيت ويأمر الناس بسبهم على المنابر وفى المجالس، كما أزعج الخليفة الأموى آراء الإمام زيد الفقهية، ودعوته الدائمة إلى إعمال العقل وتفضيل مصلحة المسلمين، وساءه أن فقهاء عصره وقراءه وحفظة كتاب الله والمحدثين قد تجمعوا حول الإمام زيد ليشكلوا نواة ثورية مثقفة راسخة، تجهز للانقلاب على الظلم والانتصار للفقراء والمحرومين.
ويذكر الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى فى كتابه الرائع «الأئمة التسعة» والذى أدعو وزير التربية والتعليم أن يقرره على طلابنا أن الخليفة هشام بن عبدالملك شعر بأن هذا الرجل يهز عرشه ويكاد يدكه دكا» خاصة أن شروط الإمامة التى وضعها الإمام زيد لم تكن لتنطبق عليه، فحكمه كحكم أسلافه لا يقوم على الشورى بأصولها الشرعية، والبيعة لم تصح شرعا لأحد منهم لأنها ليست نتيجة إرادة حرة بل هى بيعة إكراه تحت ضغط القهر أو الإغراء، ثم إنه لا يجرى العدالة كما فرضتها الشريعة!
ويذكر الشرقاوى أن الخليفة الأموى أمر واليه فى العراق أن ينكل بالإمام زيد، فاستدعى الوالى الإمام وأراد أن ينال من هيبته فسلط عليه أحد الأراذل ليسبه ويسب آباءه، مدعيا أنه أفضل منه فانتفض من بين القوم عبدالله بن واقد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بكل حمية جده الأكبر عمر بن الخطاب وانقض على من يسب الإمام قائلا: «كذبت والله.. لهو خير منك نفسا وأبا وأما» وأخذ حفيد عمر بن الخطاب كفا من حصى فضرب به الأرض وهو يقول للوالى: «والله ما لنا على هذا صبر».
لعلنا نعرف الآن لماذا تختفى آراء مثل هذا الإمام الجليل ولا يظهر لنا من آراء أئمة آل البيت إلا كل ما ينفر، فلم تزل تلك العادة القميئة قائمة، ألا وهى عادة أن يشعل الملوك والسلاطين نار الفرقة بين أبناء الدين الواحد والحلم الواحد ليتدرعوا بدرع التعصب ويصوروا أنفسهم وكأنهم حامون حمى الإسلام وشريعته، وليس من مصلحة حكامنا الآن أن يظهر إلى النور فكر رجل رشيد وفقيه مثل الإمام زيد أو من على شاكلته، فهو لم يكتف بإعلان الحرب بالسيف على الحكام الظالمين، ولكنه سعى جاهدا أن يظهر زيف ما يتكئون عليه من أسس واهية، ففى الوقت الذى كان الخلفاء يحاربون إعمال العقل وإرساء مبدأ العمل لصالح الشعب كان الإمام زيد يحث الناس على الاجتهاد فى أمور الدين والدنيا فاتحا باب الاجتهاد على مصراعيه، وفى الوقت الذى كان الحكام يدعون أنهم قضاء الله وقدره كان الإمام زيد يقول للناس أنهم أحرار فيما يسلكون ويتحملون نتيجة أفعالهم من غير أن ينقص ذلك الإيمان بالقضاء والقدر، فقد روى عن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه أنه سأل سارقا لماذا تسرق؟ فرد عليه قائلا: قضاء الله وقدره فقطع عمر يده جزاء لسرقته، وجلده جزاء على ادعائه أن معصيته قضاء وقدر.
ولأن الإمام كان يعرف أن فساد هذه الأمة يبدأ من فساد علمائها فخاطبهم قائلا: إنما تصلح الأمور على أيدى العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر الله ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين» كما كان يعيب عليهم السكوت عن الحق وتمجيد الحكام والتمتع بالتدنى إلى بلاطهم قائلا: مكنتم الظلمة من الظلم، وزينتم لهم الجور، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقاربة، فهذا حالكم، فيا علماء السوء، محوتم كتاب الله محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً».
ولعل أروع ما نختم به هذه التذكرة بإمام الإنصاف زيد بن على زين العابدين هو أن نردد معه دعاءه المحبب: اللَهُـمَّ إنى أسألك سُلُوّاً عن الدنيا، وبغضاً لها ولأهلها، فإنَّ خَـيْـرَها زَهِيْدٌ، وشرَّها عتيدٌ، وجَمْعَها يَنْفَدُ، وصَفْوَها يَرْنَقُ، وجديدَها يَخْلَقُ، وخيرَها يَنْكَدُ، وما فات منها حَسْرَةٌ، وما أُصِيْبَ منها فِتْنَةٌ، إلا من نالته منك عِصْمَةٌ، أسألك اللَهُـمَّ العِصْمَةَ منها، ولا تجعلنا ممن رضى بها، واطمأن إليها، فإِنها مَنْ أمنها خانَتْهُ، ومن اطمأن إليها فَجَعَتْهُ، فلم يُقِمْ فى الذى كان فيه منها، ولم يَظْعَنْ به عنها.
الإمام جعفر الصادق.. معلم الأئمة..اشتهر عنه حب صحابة رسول الله أجمعين وكان يقول «من لا يعرف فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السنة»
الإثنين، 23 يوليو 2012 - 13:30
رسوم : أحمد خلف
بقلم وائل السمرى - رسوم : أحمد خلف
هاجم فقهاء السلاطين وكان يقول للناس «إذا رأيتم العالم يحب الأغنياء فهو صاحب دنيا.. وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص».
حارب الأغنياء مفتيا بأنه لا يجوز ادخار أكثر من قوت عام إذا كان فى الأمة صاحب حاجة كما حارب انتشار الدعوة إلى الزهد لأنها تزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى.
بالغ البعض فى تقديره فرفعوه إلى مراتب النبوة، وبالغ البعض الآخر فى التهوين من شأنه فلم يذكروا عن فضله إلا كلمات قليلات أتبعوها بذكر تطرف بعض المنتسبين زورا إليه وشططه وكأنهم يعايرونه بتطرف المتمسحين به، لكنه وبلا مبالغة فى التقدير أو التهوين معلم الأئمة ومخضع الجبابرة ونصير العقل الأول، وحامل شعلة الفقه النبوى، وموحد المسلمين على الكلمة السواء.
هو الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين ابن الإمام الحسين بن الإمام على بن أبى طالب عليهم جميعا رضوان الله، الذى أجمع على محبته وتقديره الراسخون فى العلم سواء كان من أصحاب المذهب السنى أو المذهب الشيعى، ولا تكاد ترى إماما عالما إلا ويجل «الصادق» ويعطيه حقه من التبجيل والتوقير، ذلك لأنه كان عابرا للانحيازات الضيقة ومتساميا فوق صغائر الدنيا، ومترفعا عن طلب المال والسلطة والجاه، فتعب خصومه وانهزم أعداؤه ونكل بكارهيه دون أن تتلوث يده الشريفة بما يسوؤها.
ورث إمامنا الإمام الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر وعمه الإمام زيد بن على زين العابدين وأجداده العظام الكرام حب الناس وحب التقريب بينهم ونبذ الفرقة وكان يتوارث حكمة أبيه القائلة: «إياكم والخصومة فى الدين فإنها تحدث الشك وتورث النفاق» فكان لا يخاصم أحدا أبدا، متمثلا قول رب العزة: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَـــكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ» فكان لا يعبس فى وجه سائل، ولا يضيق بجدل قط، وكأن العالم كله من عياله.
اشتهر عنه حب صحابة رسول الله أجمعين، وكان مثله مثل أجداده العظام الكرام يبجلون أبا بكر وعمر وعثمان، وحفظ كلام أبيه «محمد الباقر» عن ظهر قلب، وقد كان يقول رضوان الله عليه: من لا يعرف فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السنة» ويروى عنه أنه قال لصاحبه جابر الجعفى: «يا جابر، بلغنى أن قوما من العراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، ويزعمون أنى أمرتهم بذلك، فأبلغهم أنى إلى الله برىء منهم، والذى نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتنى شفاعة محمد إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليها، إن أعداء الله عنهما لغافلون».
أيقن إمامنا من أن للحق وجها واحدا، وللباطل أوجها لا حصر لها، فخشى من أن يضيع وجه الحق متشتتا فى محاربة أوجه الباطل، ولزم داره لا يطلب حكماً ولا يسعى لإمارة، واهبا نفسه للعلم والفقه والإبحار فى ملكوت الله متأملا مسبحا مستكشفا، أريقت دماء أهل البيت الطاهرة أمام عينيه، فما زادت إلا إصرارا على كشف الزيف، ورأى أن طلب العلم هو الجهاد الأكبر، فصار مرشدا روحيا للأمة تهابه الملوك، وتهواه القلوب، صانعا من لسانه سيفا يحارب به من يبدل دين الله ويتاجر به ويستخدمه لأغراضه التسلطية الجشعة البشعة.
ولأنه صار منزها عن الغرض، ظل الإمام يحارب فقهاء السوء وعلماء السلطة متخذا من عمه الإمام زيد وأبيه الإمام محمد الباقر قدوة ومثلا، وكان يقول للناس: «إذا رأيتم الفقهاء يركبون للسلاطين فاتهموهم» وكان يردد قول أبيه: «إذا رأيتم القارئ (أى العالم) يحب الأغنياء فهو صاحب دنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص» ولهذا صار يفتى بما لا يحب السلطان ولا يهوى، ناشرا فتاوى الإمام على وراويا الأحاديث النبوية التى سمعها آباؤه منه وأخفاها السلاطين طمعا فى الدنيا والسلطة وإرباكا للناس وإبعادا لهم عن حقوقهم المشروعة، فأفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر أكثر من قوت عام إذا كان فى الأمة صاحب حاجة إلى طعام أو مسكن أو كساء أو دواء، أو ركوبة، كما أفتى بأن السارق إذا اضطر إلى السرقة لأنه لا يعمل فولى الأمر هو المسؤول وهو الآثم فإذا سرق السارق اضطرارا لأنه لا يحصل على الأجر الذى يكفيه هو وعياله فإن ولى الأمر وولى العمل أولى بقطع اليد من السارق!!
وبالطبع لم تعجب هذه الفتاوى سلاطين بنى أمية ولا بنى العباس، فتربصوا به وأرادوا أن يفرقوا الناس من حوله لكنهم لم يستطيعوا، ليقين الناس بنبل غرض الإمام وصدقه وتمثيله الصادق لروح الشريعة الإسلامية وسماحتها، وقد رأى الإمام أن السلاطين يشجعون الناس على الزهد فى الدنيا والكف عن طلب محاسنها وطيباتها، وأيقن من أن تلك الدعوة الخبيثة تحمل فى ظاهرها صلاح النفس لكنها تحمل فى باطنها الفساد فى الأرض، فلكل دولة موارد وخيرات، وإن لم ينتفع بها فقراؤها زاد بها غنى أغنيائها، كما رأى الإمام أن هذه الدعوة تصرف الناس عن المطالبة بحقوقهم كما تصرفهم عن محاسبة أولى الأمر، فحارب الإمام هذا التوجه، وأخذ يتلو على الناس من أحاديث الرسول ما توارث حفظه من آبائه وأجداده، وقال لهم أن إغناء الأبناء وإعانة النفس خير عند الله من اصطناع الزهد وترك الأبناء فى الحاجة، ذاكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس تمرات أو خمسة دنانير أو دراهم يملكها وهو يريد أن ينفقها فأفضلها ما أنفقه على والديه، ثم على نفسه وعياله، ثم على قرابته من الفقراء، ثم على جيرانه الفقراء، ثم فى سبيل الله، وحكى لهم إن رسول الله قال فى واحد من الأنصار أعتق ستة من الرقيق عند موته وكان لا يملك غيرهم وله أولاد صغار ظنا منه أنه يتقرب إليه الله بعتقهم: لو أعلمتمونى أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين».
ولأن الدعوة إلى الزهد اجتذبت العديد من الصالحين انتهز الإمام فرصة لقائه بأحد الصالحين الداعين إلى الزهد وهو أبوسفيان الثورى فحاوره حول دعوته وأظهر له أن التمتع بالطيبات لا يتنافى مع الإيمان تصديقا لقول رب العزة «أحل لكم الطيبات» وكان «الثورى» قد قابله يوما وهو فى ثياب حسنة فأنكر عليه ذلك قائلا: هذا ليس من لباسك، فالتفت إليه الإمام الصادق متخذا لهجة المعلم قائلا: اسمع منى ما أقول لك فإنه خير لك آجلا أو عاجلا، إن أنت مت على السنة والحق ولم تمت على البدعة. أخبرك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى زمن مجدب مقفر فأما وقد أقبلت الدنيا فأحق بها أبرارها لا فجارها، ومؤمنوها لا منافقوها.
أعتقد أنه بعد إيرادنا لهذه الأمثلة لا يحتاج الواحد إلى التأكيد على أن الإمام الصادق كان متحررا من التقليد فاتحا باب الاجتهاد على مصراعيه مؤمنا بقدرة العقل على دحض دعاوى الملتصقين بقشرة الدين، وكان رضوان الله عليه يعتمد على منهاج العقل بشقيه اعتمادا كبيرا، فكان يعمل عقله «مجردا» فيما لم يرد فيه تنزيل بتعريف ما هو حسن وما هو قبيح مفترضا أن الله خلق الإنسان عارفا الحسن والقبيح فما هو قبيح تجنبه وما هو حسن اتبعه معتبرا إياه جزءا من الشرع، كما كان يعمل عقله بالتخريج على ما جاء فى الكتاب والسنة مدخلا فى ذلك بعض الأقيسة التى تثبت علتها واستقامت طريقتها.
ولأن الإمام يعرف أن الله أودع أسراره فى كتاب الله كما أودعها فى ملكوت الله، كان كثيرا ما يبحر فى علوم الدنيا متقلبا بين دراسة الفلسفة التى يظهر آثارها فى محاججته للمتشككين فى العقيدة والكيمياء والحساب، وليس أدل على براعته فى تلك العلوم الدقيقة من تتلمذ جابر بن حيان مؤسس علم الجبر وأبوالكيمياء على يديه، وكان أبوجابر من أنصار آل البيت الذين استشهدوا دفاعا عنهم فتعهده الإمام محمد الباقر بالرعاية التى ورثها عنه الإمام الصادق الذى أخذ بيده وأنفق عليه وحثه على دراسة علوم الدنيا وزوده بمعمل وأمره بكتابة أبحاثه لينتفع بها الناس، وكان يستعين بمعارفه العلمية على فهم الأمور الفقهية، كما كان يستعين بخبرته الكبيرة فى العلم على الإبحار فى علوم الفقه.
ولأن الإمام عاش فى عصر يموج بالتيارات الفكرية والفلسفية كان واجبا عليه تحملا منه لمسؤوليته التاريخية أن يدلى بدلوه فى تفنيد آراء المشككين والمتشككين فى العقيدة والخلق والألوهية، وحفظت لنا كتب السيرة والتاريخ التى سجلت سيرة الإمام ومحاوراته مع هؤلاء المتشككين ما يؤكد أنه رضوان الله عليه كان يؤمن بحرية الرأى والعقيدة، فها هو يذهب إلى العراق لأنه سمع أن بها بعض الملحدين الذين يشككون فى الدين ليناقشهم ويجادلهم بالتى هى أحسن، لم يهدر دمهم ولم يأمر بقطع رؤوسهم ولم يرمهم بالكفر وهو جالس فى بيته، بل ذهب إليهم بنفسه متعرفا إليهم ومقدما نفسه له، فقد سمع أن هناك طبيبا هنديا ملحدا لكنه بارع فى الطب والصيدلة، فالتقى به وأخذ عنه علمه وحاوره مثبتا له وجود الله، وقد كان فى عصره رجل ملحد اسمه أبوشاكر الديصانى، ادعى أن الآية التى تقول «وهو الذى فى السماء إله وفى الأرض إله» تدل على أن الله ليس واحدا وجاء رجل إلى الإمام الصادق ليعرض عليه هذا الأمر فقال له: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل له ما اسمك فى الكوفة؟ فإنه سيقول لك فلان، فقل له ما اسمك بالبصرة؟ فسيقول لك فلان، فقل له كذلك ربنا فى السماء إله وفى الأرض إله وفى البحار إله وفى القفار إله وفى كل مكان إله، وبهذه الطريقة السمحة المسالمة فى النقاش والجدل، أسهم الإمام فى تحجيم موجة الإلحاد تلك، وأهدى بكلماته السمحة العاقلة قوما كثراً.
هكذا عاش الإمام سالما مسالما متحابا فى الله، ولا يألو جهدا فى التقريب بين المسلمين والدفاع عن روحه السمحة وحث الناس على التمتع بالدنيا والآخرة، مدركا أنه إن كانت للإسلام عظمة فإنها لن تكون إلا لأنه يستوعب بعباءته السماوية كل المخالفين، يقف أمام
من يستخدم الدين لتمكين نفسه فى الحياة الدنيا، يحاجج الملحدين بالتى هى أحسن دون أن يتعرض لحياتهم بشر، يسمع أن هناك قوما يضطهدون المسيحيين فيسارع بالذهاب إليهم دفاعا عن أهل الكتاب مؤكدا أنه لا إكراه فى الدين، وإن الاضطهاد سبيل من سبل الإكراه، يعطف على الفقراء والمساكين، ويسامح من يسيئون إليهم، مرددا قول رسول الله «ما زاد عبد بالعفو إلا عزا» لكنه كان شديدا على السلاطين غير هياب لهم، يحاول الملوك أن يهزوا صورته بأن يأتوا له بأشهر الفقهاء فى عصره ليحاججه ويحرجه فينبهر هذا الفقيه به ويلزمه مثلما حدث مع أبى حنيفة النعمان الذى حاول أن يرهق الإمام بأسئلته الشائكة فأرهقه بإجاباته الشافية، فما كان من النعمان إلا أن يلزمه لزوم التلميذ سنتين كاملتين، ليقول بعدها «لولا السنتان لهلك النعمان».
موقف أخير أعرضه قبل أن تنتهى تلك اللمحة عن بحر الإنسانية الرحب الإمام جعفر الصادق، ولعل فى هذا الموقف ما يبرز لنا قوة الإمام وشجاعته وسرعة بديهته فقد حدث ذات يوم أن استدعاه الخليفة المنصور بعد أن لفق له تهمة أراد أن يشينه بها بعدما خشى من تجمع الناس حوله، وبعد أن فند الإمام اتهاماته وأحرج خصمه الذى وافته المنية بعد تأكيد كذبه، حطت على وجه الخليفة العباسى «المنصور» ذبابة وكان كلما أبعدها جاءته، فالتفت إلى الإمام سائلاً: لماذا خلق الله الذباب؟ فأجابه بكل صدق وقوة وشجاعة وحكمة: ليذل بها الجبابرة.
الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان.. محرر المرأة وفقيه الحرية والاستقلال.. كان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة وأفتى بأن من حقها تولى القضاء وتزويج نفسها بنفسها دون ولى
الثلاثاء، 24 يوليو 2012 - 10:28
الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان
بقلم وائل السمرى - رسوم : أحمد خلف
جملة واحدة قالها الإمام الشافعى عن الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان تظهر لنا مكانة هذا الرجل وعلو قدره بين أقرانه ومعاصريه وأكبر فقهاء عصره، قال الإمام الشافعى عنه «الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة» فهو المعلم واضع أسس التفقه فى الدين، وهو النبيه الذكى سريع البديهة الذى ضرب بأخلاقه وسلوكياته وتجاربه أعظم المثل لما يجب أن يكون عليه من يتحدث فى شؤون الفقه، وهو التلميذ النجيب لبيت النبوة، تلميذ الإمام جعفر الصادق، وجليس الإمام محمد الباقر، وهو المدقق الرائد والباحث النابه، والعالم بفضل أولى الفضل.
أجمع معظم فقهاء عصره على عبقريته وإخلاصه لكنه مع ذلك لم يسلم من تربص المتربصين وتنطع المتنطعين، فاتهموه بالكفر وقال أحدهم طعنا فيه وفى تلاميذه بأنهم «خارجون على ولى الأمر ومرتدون عن الإسلام، وأنه إن يقال إن بالحى خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا من أصحاب أبى حنيفة» كل ذلك كيدا له وغيرة منه ومن مكانته، ذلك لأنه ما كان يسلم عقله لسلطان، ولا يسلم قلبه لجاه أو مال، كما أنه لم يكن يدعى لنفسه الكمال، ولا يعتقد أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، وكان يردد دائما: «قولنا هذا رأى، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا» ويبين أبوحنيفة منهجه فى الفقه والبحث فيقول «إنى آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبى والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب، فلى أن أجتهد كما اجتهدوا» وحينما احتج الناس عليه بقول التابعين قال لهم: التابعى رجل وأنا رجل.
وكأساتذته العظام الذين كانوا دائما ما يحسنون إلى من يسيئون إليهم ويقارعون الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان مؤمنين بحرية الفكر والعقيدة محتكمين إلى الحوار الهادئ العقلانى الذى لا يظهر فيه عنف لفظى أو مادى، كان أبوحنيفة يقارع خصومه الفكريين دون أن يضيق بهم أو يسلط عليهم سطوة لسانه أو فتاواه، وكانت ثقته فى نفسه وعلمه ورجاحة عقله هى خير معين له فى التغلب على الخصوم، ويُروَى أن جماعة من الخوارج اقتحمت عليه مجلسه وسط أنصاره، وكان الخوارج يتبعون العنف منهجا، لا يتورعون عن قتل من يخالفهم ومن يقول بأن الإمام على كان على صواب حينما قبل التحكيم، وكان الإمام من هؤلاء الذين يؤيدون الإمام على، فخيّره شيخ الخوارج بين ما أسماه «التوبة» وهو الرجوع عن تأييد على من وجهة نظره، وبين أن يقتل، فسأله الإمام أن يناظره فرضى، وقبل المناظرة، سأله أبو أبوحنيفة: ماذا لو اختلفنا فى المناظرة؟ فقال له الرجل: نحكّم رجلا بيننا، فضحك أبوحنيفة وقال للرجل: ها أنت تجيز التحكيم لعلى برضاك أن تحكّم رجلا إن اختلفت معى.
ويروى عنه أيضا أنه كان واسع الأفق مع العصاة المذنبين، وكان له جار سكير، يدمن الخمر، يظل يشرب طوال الليل حتى يسكر، وإذا ما سكر غنّى بصوته الجهير وأنشد الشعر، وكان هذا الصوت يفسد على أبى حنيفة ليله وعبادته وتأمله وتفقهه، لكنه برغم ذلك لم يفكر فى تعنيفه ولا استعداء القوم عليه، وكأنه كان ينظر إليه باعتباره مبتلى، وذات ليلة كان الإمام كعادته يقيم الليل لكنه لاحظ أن صوت الفتى لم يظهر، ولما طلع الصبح عليه سأل عنه فعرف أن الوالى سجنه، فذهب إلى الوالى وأخرج الفتى من محبسه، وفى الطريق داعبه قائلا: يا فتى ماذا كنت تغنى فى جوف الليل؟ فقال له الفتى كنت أقول «أضاعونى وأى فتى أضاعوا.. ليوم كريهة وسداد ثغر»، فسأله: وهل أضعناك؟ فقال: «لا والله بل حفظتنى حفظك الله ورعاك» ومنذ ذلك اليوم لزم الفتى أبا حنيفة وصار من حاضرى درسه ومجلسه حتى أصبح فقيها عالما من المشهود لهم بالفلاح والصلاح.
وبرغم سماحة الإمام وميله الدائم لدفع التناحر ونبذ الفرقة، كانت هناك فرقة من الفقهاء دائمة الكيد له والتربص به، وكحال أيامنا هذه كانت هناك فرقة من الفقهاء المناصرين لسلاطين الدولة الأموية بكل ظلمها وظلاميتها، وهم من يصح أن يطلق عليهم لفظ «المتحولون» الذين ما أن أيقنوا من هلاك الأمويين وزوال ملكهم حتى تحولوا إلى مناصرة سلاطين الدولة العباسية، ومن هؤلاء حفظ لنا التاريخ اسم القاضى ابن أبى ليلى والقاضى شبرمة، وهم من لزموا سلاطين بنى عباس وأصبحوا أعضاء فى مجلسهم الاستشارى بعد أن كانوا أولياء لبنى أمية ومعاونيهم، بل قد زينوا لبنى العباس البطش بمعارضيهم والفتك بهم وأعانوهم على ذلك بتخريجات فقهية مريضة، وقبول أحاديث موضوعة، مزينين للناس حب الزهد وترك السياسة ليتمتع الحاكم وحده بالطيبات تاركا الناس فى ظلمات الفقر والمرض، لكن الإمام الفارس لم يكن ليترك هؤلاء ليعبثوا بعقول الناس ويفسدوا الراعى والرعية، فكان يفند آراءهم ويبطل فتاواهم أمام الناس.
وحدث أن حكم القاضى «ابن أبى ليلى» بجلد امرأة مجنونة وهى واقفة لأنها سبت رجلا قائلة: «يا ابن الزانين» فأقام عليها حدين فى بيت الله حدا لقذف الأب وحدا لقذف الأم، وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ ابن أبى ليلى، فقد جلدها واقفة والنساء تضرب قعودا، وأقام الحد فى المسجد والحدود لا تقام فى المساجد، وضرب لأم الرجل حدا ولأبيه حدا وهذا لا يجوز، ولو أن رجلا قذف جماعة فهل عليه الحد بعدد هذه الجماعة؟ وعليه فإن الجمع بين الحدود لا يجوز، كما أن أبوى الرجل لم يحضرا فيدعيا، وخلاف هذا كله فالمرأة مجنونة والمجنونة ليس عليها حد، ولما بلغ الأمر «ابن أبى ليلى» ذهب إلى السلطان واشتكى أبا حنيفة، وقال له إن الإمام أهانه وإهانة القاضى إهانة للخليفة ذاته لأنه من عينه، فأصدر الخليفة أمرا بألا يعلق الإمام على أحكام القضاء، مانعا إياه من الفتوى، فامتثل الإمام لحكم الخليفة لكنه انتهز احتياج الخليفة إليه وطلبه منه الفتوى فامتنع عن إجابته إلا أن يأذن له فى أن يفتى للناس جميعا فأذن له.
كان هذا عهد الإمام بالخليفة العباسى، فمن ناحية لا يمكنه منه، ومن ناحية أخرى لا يريحه بالتمهيد له، وحدث أن تشاجر الخليفة مع امرأته لأنه كان يريد أن يتزوج عليها، فقال لها من ترتضيه ليحكم بيننا، فلم ترتض إلا الإمام، ولما حضر أبوحنيفة، قال له الخليفة: أوليس من حقى أن أتزوج عليها كما أباح لى الشرع؟ فقال له الإمام: إنما أحل الله هذا الأمر لأهل العدل، حيث قال «وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» فينبغى علينا أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه، فسكت الخليفة وارتضى حكم الإمام، ولما ذهب إلى داره وجد زوجة الخليفة قد أرسلت إليه خادما وجارية حسناء وأموالا وحمارا وثيابا فاخرة نادرة، فشكرها وأرسل لها السلام ورد إليها هديتها قائلا: إنما ناضلت عن دينى وقمت بذلك المقام لوجه الله.
عاش أبو حنيفة هكذا دائما يراعى الله فى آرائه، ويستغنى بأموال تجارته عن عطايا الملوك وهداياهم، وهذا ما جعله إماما لاستقلال الرأى، ولأن أباحنيفة كان تاجرا، فقد كان على دراية كبيرة بدقائق التجارة ومنازعاتها، وقد انعكس ذلك على فقهه الذى تميز بالتيسير دائما على أهل التجارة والصناعة والمال من دون أن يخالف شريعة ولا أن يتعارض مع نص، ولهذا تراه مثلا يبيح أن يتزكى الرجل بترك ديونه المستحقة على الفقراء، كما أنه كان يؤمن بحرية الإنسان فى أمواله وأفعاله وتجارته، ولهذا فقد حرم الحجر على السفيه إذا ما تجاوز سن الخامسة والعشرين، كما أنه حرم الحجر على المدين وفاء لدينه لانتفاء شرط الرضا من المدين، كما أجاز ألا يقرأ الناس من خلف الإمام تخفيفا عليهم، وكان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة مفتيا بأن من حقها تولى القضاء مستشهدا بواقعة تولية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الحسبة لامرأة، وقال: إن من حق المرأة أن تزوج نفسها بنفسها دون ولى لأن السيدة عائشة راوية حديث «لا زواج إلا بولى» زوجت ابنة أخيها فى غيابه، وغلّب دائما اليقين على الشك بأن أجاز لمن توضأ وشك فى أنه فعل ما ينقض الوضوء، السير إلى الصلاة لأن الشك لا يرتقى إلى اليقين، كما حرم تكفير المسلمين وأثّمه حتى لو ارتكب المسلم المعاصى، ولم يكن بذلك يفتح باب الذنب، وإنما كان يفضل أن يظل باب المغفرة مرحّبا بالتوابين.
غير أن كل تلك الفتاوى الصادمة للمجتمع وقتها لم تكن هى التى جلبت عليه خصومة العلماء ولا السلاطين، فما كان لأحد أن يثبت أمام مناظرة أبى حنيفة، ولهذا اكتفى خصومه بالشتم والسب والكيد، موغلين صدر الخلفاء مدعين تشييع الإمام لما رأوه من تبجيله لأئمة آل البيت وهى التهمة التى لم ينفها الإمام ولم يتبرأ منها بل على العكس أحبها وأكدها قولا وفعلا، فقد ناصر ثورة الإمام زيد بن على زين العابدين ضد الخليفة الأموى هشام بن عبدالملك بالقول والجهد والعمل والمال، وكان يود لو حارب فى صفه وما منعه إلا أنه كان مستأمنا على ودائع الناس ولم يجد من يترك عنده أماناته، وزيادة على هذا ناصر أبوحنيفة ثورة الطالبى «محمد النفس الزكية» ضد العباسيين، وبكى مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور فى إخماد الثورة، ولما مات عبدالله بن الحسن شيخ أبى حنيفة ووالد محمد النفس الزكية فى السجن تحت آثار التعذيب بكاه أبو حنيفة فى حلقته معلنا أن واحدا من أفضل أهل الزمان قد استشهد فى سجنه.
واستمر أبوحنيفة الذى لقبه الفقهاء فيما بعد بـ«الإمام الأعظم» على حاله هذه، لا يمالئ حاكما ولا ينافق سلطانا، متحديا الخليفة المنصور بفتاواه التى زادت من غيظ خصومه، فأفتى ببطلان شهادة وزير الخليفة الأول، وقال إن الوزير يقول للخليفة أنا عبدك، فإن صحت مقولته فلا شهادة لعبد، وإن كذبت فلا شهادة لكاذب، وحدث أن طلب الخليفة منه فتوى بشأن أهل الموصل الذين كانوا قد تعهدوا للخليفة بعدم الخروج عليه، قائلين له إن خرجنا عليك فحلال عليك دمنا وأرواحنا وأموالنا، ولما نقض الموصليون عهدهم أفتى فقهاء السلطان له باستباحة دمهم، لكن أباحنيفة عارضه قائلا: دمهم حرام عليك وإباحتهم أرواحهم وأموالهم غير جائزة لأنهم أباحوا ما لا يملكون، وسأله: لو أن امرأة أباحت لك نفسها دون عقد أتحل لك؟ فقال له الخليفة: لا، فقال: هو نفس الأمر، فكف عن أهل الموصل ووجه جيوشك لحماية الثغور بدلا من أن تضرب بها صدور المسلمين.
ولما رأى الخليفة عناد أبى حنيفة وصلابته أراد أن يستميله بالمال والمناصب فعرض عليه القضاء فرفض، ولما وجده متمسكا برأيه حبسه وظل يضربه بالسياط ويعذبه وهو شيخ فى السبعين ليقبل المنصب والمال لكنه تمسك برأيه وظل على موقفه حتى مات، ويقال إن الخليفة دس له السم فى السجن، ويقال إنه أفرج عنه قبيل موته لتدهور حالته، فمات بعدها مباشرة من أثر التعذيب، وبرغم قوة أبى حنيفة وجلده وثباته أمام السلاطين والملوك والكيادين لكن الأثر قد حفظ لنا ما يؤكد رقة قلبه ورهافة حسه وطيبة منبته، ففى ليلة من ليالى السجن فى إحدى مرات حبسه، وبعد فترة تعذيب أخمدت روحه وأرهقت جسده، وبعد ما ناولته الزبانية صنوف العذاب، جلس أبوحنيفة فى محبسه صامدا، ثم سرعان ما انخرط فى البكاء منهارا، فقال له جاره فى السجن: ما الذى يبكيك فقال له الإمام: والله ما أوجعتنى السياط وإنما تذكرت أمى فآلمتنى دموعها على.
الإمام مالك.. فقيه المدينة وراعى مصلحة المسلمين..رغم علمه الغزير كان يكثر من الرد على أسئلة الناس قائلا: لا أدرى.. وكان يقول مستنكرا: إنى بشر أخطئ وأرجع وتكتبون كل ما أقوله!
الأربعاء، 25 يوليو 2012 - 10:05
الإمام مالك
بقلم وائل السمرى - رسوم : أحمد خلف
* أفتى بعدم جواز صيام «الستة البيض» ورفض الحديث الداعى لصيامها.. وأقر بحق الزوجة فى الطلاق إذا لم ينفق عليها زوجها
* عذبه والى المدينة فى أيام الخليفة المنصور لأنه لم يكتم حديثا للرسول [ «ليس على مستكره طلاق» الذى يحل فيه الرسول للواحد التحلل من يمينه
ما إن يذكر الإمام مالك حتى نتذكر تلك المقولة الشهيرة: «لا يفتى ومالك فى المدينة»، ويشير هذا القول المأثور على تمتع الإمام مالك بن أنس المحدث والفقيه بمكانة عالية جعلته إمام مدينة رسول الله ومفتيها الأول وفقيها العالم ومحدثها المدقق الدقيق الثقة، مكانة مالك فى المدينة جعلته مضرب الأمثال، فصارت غاية كل من يتقن وظيفته ويجود صنعته وينال الشهيرة والصيت بسبب امتلاكه لزمام تخصصه أن يكون كـ«مالك فى المدينة».
لم تكن شهرة الإمام وكثرة تابعيه ونمو مذهبه وانتشار مذهبه من فراغ، فهو الذى عاش حياته ينفق جل عمره فى التوسع فى العلم واستزادته، لم تمنعه حاجة ولا يحول الفقر بينه وبين تحصيل العلم، فظل يجاهد فى سبيل التحصيل والدراسة متقلبا بين حلقات الدرس فى مسجد رسول الله ومتتلمذا على أكبر فقهاء عصره الإمام ربيعة الرأى، حتى أصبح أحد أكبر مجددى الفقه الإسلامى وأحد واضعى أعمدته.
تستفيض كتب التراث والسيرة والتاريخ والتراجم فى وصف الإمام مالك معددة صفاته الشخصية والجسمانية، وتجمع على أنه رضى الله عنه كان مهيبا، على سمته وقار، وفى نبرات صوته ثقة وجلال، يحب طيبات الحياة ولا يرضى إلا بأن يكون فى كامل زينته حتى وقت فقره، متبعا فى ذلك عادة الإمامين «جعفر الصادق» و«أبوحنيفة النعمان» وكان يقول لتلامذته: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإننى أحب أن أجلس لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام وأنا بكامل زينتى»، وبرغم علمه الكثيف ورأيه السديد وشهرته التى عمت الآفاق كان رحمه الله يتردد كثيرا فى الفتوى، وكان يكثر من الرد على فتاوى الناس قائلا: لا أدرى، حتى اشتهرت عنه تلك الكلمة التى كان يعلمها لتلاميذه قائلا لهم إن لم تستطيعوا الفتوى فقولوا لا أدرى: وروى عنه إنه قال ذات يوم مستنكرا ومتعجبا تدوين فتاواه: إنى بشر أخطئ وأرجع، وتكتبون كل ما أقوله!! ونهى تلميذا له عن كتابة فتواه قائلا: لا تكتبها فإنى لا أدرى أثبت عليها أم لا.
وروى عنه أنه كان يقول عقب كل فتوى يفتى بها، هذا ما أظنه، مرددا قوله تعالى: «إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين».
وكان برغم عدم ممالأته للملوك والأمراء كثير التردد عليهم، غير متخاذل ولا هياب، وكان إن دخل على والٍ أو أمير ولم يجد مجلسا ينادى عليه: أو أين يجلس شيخك، يا أمير المؤمنين؟ فيجيبه الخليفة: إلى جانبى يا أبا عبدالله، فيتخطى الناس حتى يصل إلى الخليفة، وحينما عاب تلاميذه عليه تردده على الملوك قال: يرحمكم الله، وأين التكلم بالحق، إن لم يكن عندهم؟ كما أنه كان ينهى عن مدح الأمراء والملوك والولاة، وذات مرة سمع ثناء من الناس فى مجلس الحاكم فالتفت إليه قائلا: إياك أن يغرك هذا وأمثاله بثنائهم عليك، فإن من أثنى عليك وقال فيك من الخير ما ليس فيك، أوشك أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك»، وكان كثيرا ما يردد حديث رسول الله: احثوا التراب فى وجوه المداحين، وعلى هذا كان الإمام كثيرا ما يغلظ القول للخلفاء والحكام، وحينما رأى أحدهم فى موسم الحج وقد ركب موكبا فخما وأحاطه الخدم وبدت عليه ظواهر الإسراف قال له: كان عمر بن الخطاب على فضله ينفخ النار تحت القدر حتى يخرج الدخان من لحيته وقد رضى الناس منك بدون ذلك، وقال لآخر: تفقد أمور الرعية فإنك مسؤول عنها فإن عمر بن الخطاب قال والذى نفسى بيده لو هلك جمل بشاطئ الفرات لظننت أن الله يسألنى عليه يوم القيامة، وكتب لخليفة آخر قائلا: احذر يوما لا ينجيك فيه إلا عملك وليكن لك أسوة بمن قد مضى من سلفك وعليك بتقوى الله.
ويحفظ التاريخ للإمام مالك كونه صاحب أول مؤلف فى الحديث والأثر والتفقه فى الدين، وهذا المؤلف هو «الموطأ» وفيه جمع الإمام أحاديث الرسول وبيانها وكان سبب وضعه أن يكون بمثابة الدستور أو القانون الذى يحكم به القضاة فى كل البلاد الإسلامية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن صاحب فكرة هذا الكتاب هو الخليفة العباسى أبوجعفر المنصور فيروى أنه قال للإمام ذات يوم: اجعل العلم يا أبا عبدالله علما واحدا، فقال له مالك إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى البلاد فأفتى كل فى مصره «أى فى بلده» بما رأى، وإن لأهل مكة قولا ولأهل المدينة قولا ولأهل العراق قولا قد تعدوا فيه طوركم، فقال فأما أهل العراق فلست أقبل منهم صرفا ولا عدلا، وإنما العلم على أهل المدينة، فضع للناس العلم فقال له مالك إن أهل العراق لا يرضون علمنا فقال أبوجعفر يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط».
ويبدو أن الخليفة أبوجعفر المنصور كان قد ضاق من الإمام أبوحنيفة النعمان وعناده معه ورفضه أن يتولى القضاء فى عصره، كما بينا فى الحلقة الماضية، وهذا ما دفعه إلى اللجوء إلى الإمام مالك ليكتب «الموطأ» وليولى القضاء من يتبع مذهب مالك، لكن لم يكتب للمنصور أن يرى هذا العمل الكبير، فقد مكث الإمام مالك يكتب فيه ويدقق ويراجع ويحذف ويضيف أكثر من إحدى عشرة سنة «من سنة 148 هـ وحتى 159 هـ»، ويبدو أيضا أنه لم يكن يريد أن يخرجه وهذا ما وضح تهربه من الخليفة حينما طلب منه كتابته، ويدل هذا التلكؤ الذى اتبعه مالك فى إجابة الخليفة على بعد نظره، ذلك لأنه يعلم تمام العلم أنه هو ذاته ربما قد يخالف رأيا قال به أو فتوى أفتى بها، وهو ذات الشخص القابع فى ذات البلد والمتشبع بثقافته وحده، فما حال من يبعد عنه بآلاف الأميال وينهل من معين ربما لم يكن مالك ليسمع به؟!
وبرغم ما يظهر من الاقتباس السابق من محبة متبادلة وود قائم بين الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور والإمام مالك، لكن هذا لم يمنع أن يتعرض الإمام لمحنة قاسية فى عهد ذلك الخليفة، كان سبب هذه المحنة رواية الإمام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على مستكره طلاق» الذى يحل فيه رسول الله للواحد أن يتحلل من يمينه أو طلاقه لامرأته إذا ما تم إكراهه عليه وإجباره على تنفيذه، وقد روى مالك هذا الحديث وقت خروج الطالبى محمد النفس الزكية على الخليفة العباسى فرأى البعض أن هذا الحديث يحلهم من بيعة المنصور لأنه أخدها منهم مكرهين، فما كان من والى المدينة إلا أن يأمر الإمام مالك بالكف عن روايته، فلم يستجب الإمام وظل يرويه للناس، ليس دعما لـ«النفس الزكية» ولا كرها لبنى العباس، ولكن لأنه حديث رسول الله الذى لا يجب كتمان أحاديثه، فما كان من الوالى إلا أن يعتقل الإمام ليذيقه مر العذاب لعناده، ونال الإمام فى هذه المحنة الكثير من العنت والتنكيل والتعذيب، حتى أخرجه المنصور واعتذر له، ولعلنا نتأكد من هذه الواقعة الواردة بكل كتب أئمة السنة الثقات من أن الخلفاء العباسيين قد اتبعوا نفسه منهج الأمويين فى محاولة إخفاء بعض الأحاديث النبوية التى لا تأتى على هواهم، وإن كان الإمام مالك صاحب المكانة الرفيعة الذى لم يكن يهوى التحدث فى أمور السياسية ولا خلافاتها قد تعرض لكل هذا العنت والتعذيب والضرب بالسياط وخلع الأكتاف جراء رفضه لكتمان حديث، فما بالنا بمن هم دونه؟
ولقد اجتهد الإمام مالك بكل وسعه فى تحقيق ما عرف بعد ذلك باسم مقاصد الشريعة، ألا وهى حفظ الدين والعقل والمال والنفس والنسل، مستعينا على ذلك بالنصوص القرآنية والحديث الشريف متحصنا بمعرفة واسعة باللغة وأسرارها ومسترشدا بروح الإسلام السمحة الرحبة، ومتدبرا آيات القرآن ومعجزاته وأسباب نزوله وناسخه ومنسوخه، كما كان حريصا فى رواية الحديث وعلى الرغم من كثرة الأحاديث التى حفظها، لكنه لم يكن يحدث بكل ما يسمع، وقيل له ذات يوم إن أحد الفقهاء يحدث بما ليس عندك فرد قائلا: لو حدثت بكل ما عندى لكأنى إذن لأحمق، ثم أضاف: لقد خرجت منى أحاديث لوددت لو أنى ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها.
الأصل التالى عند مالك بعد كتاب الله وسنة رسوله التى كان يستعين بها بحسب ما أوردنا هو إجماع الصحابة، فكان ينظر إلى آثار صحابة رسول الله ويرى ما طرأ عليها من مستجدات لم تحدث فى عهد الرسول ثم يرى كيف كانوا يتصرفون، فلو أجمعوا على فعل صار عند الإمام كالسنة، وإن لم يجد فكان ينظر فيما هو معمول به فى المدينة من أعراف وعادات وتصرفات لأنها من وجهة نظره كانت مستوحاة من أخلاق الرسول وتصرفاته التى كان يتبعه فيها جيرانه بالمدينة، وإن لم يجد فى كل هذا ما يشفى صدره ويطمئنه للفتوى قاس ما استجد من أمور على ما استحدث منها، فإن تعارضت نتيجة قياسه مع مصلحة المسلمين أوجب الأخذ بالمصلحة، لأن الشرع كما علم الإمام وأيقن لم يأت إلى لتحقيق مصالح المسلمين ونمائهم.
وفى الحقيقة، فإن الفقه المالكى قد أعطى لمصلحة المسلمين كلمة عليا، فكان يرى أن الله تعالى لم ينزل التنزيل ولم يبعث الرسل إلا لمصلحة الناس الشخصية والعامة، وكان كثيرا ما يفتى بموجب هذه القاعدة التى كان لإعمال العقل فيها الدور الأكبر، بشرط أن يحدث اتفاق بين الناس على أهمية هذه «المصلحة» وأن تكون مقبولة عند ذوى العقول السليمة، أن يرتفع بها الحرج لقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، وعلى هذا أفتى بجواز إمامة «المفضول» الذى يفضله الناس على الأفضل درأ للخلافات والفتن، متفقا فى ذلك مع رأى الإمام زيد بن على زين العابدين، كما أفتى فى حال خلو بيت مال المسلمين من المال وكانت الدولة فى حاجة للأموال أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم إلى أن يظهر مال فى بيت المال، مراعيا عدم إيغار صدر الأغنياء فى ذات الوقت، كما أفتى بأنه إذا استشرى فى الأرض أو فى ناحية منها «الحرام» وانسدت الطرق على المكاسب الطيبة فلهم أن ينالوا - كارهين - من بعض هذه المكاسب، وذلك دفعا للضرر وسدا للحاجة، مجيزا بذلك أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الدم وغير ذلك من الخبائث إن لم يكن منها بد.
كما أفتى مالك بناء على هذا التوجه بحق الزوجة فى الطلاق إذا لم ينفق عليها زوجها درءا للمفاسد، أو إن ظهر به عيب جسدى أو أخلاقى لم يكن ظاهرا وقت العقد، وأفتى أن «ديون الله أو الدولة» كالزكاة أو الضرائب لا تؤخذ من تركة المتوفى إلا إذا اعترف بها المورث قبل وفاته، حتى إذا ثبتت هذه الديون بأى طريق آخر من الإثبات، ذلك لأن ديون العباد مقدمة على ديون الله، لأن العباد والأفراد يضارون أكثر من الدولة، أما عن ديون الله كالزكاة فالله غفور رحيم، كما أفتى مالك بعدم جواز صيام «الستة البيض» ورفض الحديث المحرض على صيامها لأن فى ذلك إطالة لشهر رمضان وهو ما لا يجوز، كما أفتى بضرورة وضع ضوابط لحق الرجال فى الطلاق والزواج وتعدد الزوجات بحيث لا تضار الزوجة ولا الأولاد ولا تتأثر الأسرة التى تعد أساسا للمجتمع، كما أوجب الأخذ بالعادات إذا لم يوجد نص قطعى الدلالة قطعى الثبوت، مؤكدا أنه من الجائز اقتراف المحظورات إذا كان فيها دفع لمضرة أكبر، وانعكس هذا التوجه فى الفقه المالكى الذى يراعى المصلحة العامة والخاصة والذى يعلى من قيمة العقل ويعطى أهمية كبيرة للاجتهاد على بقاء المذهب وانتشاره، فصار مذهب مالك من أكبر وأهم المذاهب فى العالم الإسلامى، وعليه قامت ممالك، ومن أجله شنت حروب.
الإمام المصرى الليث بن سعد.. راوى أحاديث الجمال والمحبة.. اشتكى للخليفة من أحد ولاة مصر الذين أمروا بهدم بعض الكنائس فعزله الخليفة عن الولاية وأمر بإعادة بناء الكنائس القديمة وإضافة كنائس جديدة
الخميس، 26 يوليو 2012 - 09:21
صورة أرشيفية
كتب وائل السمرى
وضع خارطة إصلاح مصر فى مقولته الشهيرة لهارون الرشيد قائلا: صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميره، ومن رأس العين يأتى الكدر فإذا صفا رأس العين صفت السواقى
إن كان للإسلام فضل على العالمين فلأنه حطم الأصنام وأزال الأوهام ودمر أحجار تعثر الإنسانية وفتح الطريق أمام العلم والثقافة والإبداع والتأمل والاعتبار والتذكر والاحتشاد والجهاد، وعبر أربعة عشر قرنا من الزمان منح الإسلام للبشرية دروسا بليغة فى التحرر من الجمود والثورة على الأوضاع الراهنة والانعتاق من أسر الكهنة واستبدادهم، ولأننا على أبواب بناء دولة جديدة، وقد أهل علينا شهر النور والقرآن، فلا أجمل من أن نلتمس الطريق مستنيرين بآفاق رحبة فتحها أمامنا فقهاء التنوير الذين حرروا العقل من وهم التعلق بالكهنة، ووضعوا من الإسلام آلية للتطور والتقدم والنمو، وهنا عبر 30 حلقة نحاول أن نكتشف أسس التطور التى وضعها أعمدة الفكر الإسلامى بقديمه وجديدة، علنا نجد الهدى.
للمصريين أن يحزنوا غير ملومين إذا ما طالعوا قول الإمام الشافعى عن الإمام المصرى الليث بن سعد، نصير الفقراء، وظهير الضعفاء، عزيز النفس، صافى الوجدان، فقد كان الشافعى يقول: "الليث أفقه من مالك إلا أن قومه أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به".
نعم لقد أضعنا هذا الإمام الفقيه المحدث الكريم، واسع العلم شديد الهمة، سخى القلب والروح واليد، وللأسف مازلنا نضيع هذا الفقيه العالم المصلح الحالم، تاركين أثره ومدرسته الفقهية الرفيعة لتغوص فى النسيان وتذبل عبر الأزمان، فبرغم شهرة الإمام الليث بن سعد الكبيرة لكن تلامذته لم يحفظوا أثره، حتى أن الإمام الشافعى الذى حاول أن يجمع من تراثه وآثاره قدر ما يستطيع عانى كثيرا فى سبيل هذا الغرض، ويستمر التجاهل المرير الذى ضيع جهد الإمام كما يستمر الجهل بقيمته حتى عصرنا الحاضر ليعانى الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى وهو يجمع ما ورد عنه ليضمنه فى كتابه الممتع "الأئمة التسعة" من نفس المأساة التى عانى منها الإمام الشافعى، حتى أنه حينما ذهب إلى مسجد الإمام بالقاهرة وجد جامعه وقد ضربه الإهمال وتسللت إليه الماعز "فأكل ما بالمكتبة من كتب ومخطوطات وكنوز علمية ثمينة"!!.
ويبدو أن قدر هذا الإمام الكبير والعالم الجليل والفقيه المجيد الإهمال، فقد عانيت أثناء إعدادى لهذه اللمحة عن الإمام وفقهه وتاريخه معاناة مشابهة لما عاناه الشرقاوى، ولم أجد عنه ما يشفى غليل الباحث وما يجعل الواحد يقف على فقه هذا الرجل وطبيعته، ولم أجد كتبا متخصصة موثوقا فيها للتعريف بهذا الإمام غير كتاب الإمام عبدالحليم محمود "الليث بن سعد إمام أهل مصر"، بالإضافة إلى الفصل الذى كتبه "الشرقاوى" عنه، وأثناء قراءتى لكتاب الإمام عبدالحليم محمود وجدت أنه كثيرا ما يرجع إلى بحث آخر للإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبدالرازق، لكنى لم أعثر على أى أثر لهذا البحث، أما آخر الكتب التى لم يسعفنى الحظ بالاطلاع عليها فهو كتاب بعنوان "الليث بن سعد" محمد رواس قلعة جى صاحب الموسوعة الفقهية الكبيرة وللأسف لم أجد هذا الكتاب فى مكتبات مصر، فقلت إننا نتفنن فى تضييع هذا الإمام الجليل، كما قال الإمام الشافعى.
وفى الحقيقة، لا يعرف الواحد كيف يندثر أثر رجل كهذا كانت له من المكانة ما جعلته مقصدا للعامة والخاصة والصفوة والملوك والفقراء والمساكين، وكيف لا يحتشد تلاميذ الإمام الليث وراءه ليدونوا كل ما يكتب مثلما فعل تلامذة أبى حنيفة ومالك والشافعى، والغريب أنه ما إن تأتى سيرة هذا الرجل إلا وأحيط بهالة من تفخيم وإجلال وإعجاب، فترى مثلا صاحب كتاب تاريخ بغداد الخطيب البغدادى يقول عنه نقلا عن أبى الوليد عبدالملك بن يحيى بن بكير: سمعت أبى يقول ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه النفس صحيح البدن عربى اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الشعر والحديث حسن الذاكرة، ومازال يذكر خصالا جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرا لم أر مثلها، وكثير من المؤرخين الذى ذكروا الليث يرددون عنه عبارة واحدة وكأنها متوارثة عنه، وهى "كان سريا من الرجال، نبيلا سخيا له ضيافة"، ويستفيضون فى شرح محاسنه ومآثره، وقد لاحظ دارسو فقه الإمام إنه كثيرا ما كان يهتم بالأحاديث التى تهذب الروح وتحرض على تأمل جمال الحياة والتفكر فيها، ويرى عنه أن أول حديث رواه هو "إن الله جميل يحب الجمال" ويقول الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبدالرازق إن "الذى نهض به الليث من توجيه الحركة الفقهية فى عصره إلى الناحية الخلقية الروحية، كان من حقه أن يجعل الليث معدودا فى أئمة الصوفية الذين نهضوا بالتصوف نهضته الأولى، ونهضة التصوف الأولى كانت أخلاقية"، ويتفق عبدالرازق فى هذا الاعتقاد مع الأصبهانى صاحب "حلة الأولياء" الذى عد الليث من أهل التصوف الأول قائلا إنه: كان يعلم الأحكام مليا ويبذل الأموال سخيا.
وهكذا ما إن يذكر الليث حتى يذكر معه كرمه وعطاياه للكبير والصغير، فقد كان أبوه واسع الغنى، يملك فى قرية قلقشندة بالقليوبية حيث مولد الإمام ضيعة خصبة، تنتج خير الثمرات من زرع وفاكهة، ونشأ فى هذه الأجواء يحب الحياة ويقبل عليها، غير مسرف فيها ولا ممسك، وكان مثله الأئمة العظام "جعفر الصادق وأبوحنيفة" يحب التطيب والتنعم بحلو المأكل والملبس، وذات يوم لامه الإمام مالك لتمتعه بأطيب الطعام، وتزينه بأبهى الثياب، وخروجه للنزهة فى الحدائق والأسواق، فكتب مالك إليه معاتبا: "بلغنى أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق "أى الثياب الراقية الفاخرة" وتمشى فى الأسواق". فكتب إليه الليث: "قال الله تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ". ويبدو أن مالك قد اقتنع بوجهة نظر الليث فسار على نهجه حينما طابت له الدنيا، فنال من زينتها ما جعل أتباعه يستفسرون عنها فيقول لهم "إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده".
أقبل الإمام الليث على العلم والتفكر وتحصيل الدرس منذ صباه الباكر، مرتادا الجامع الكبير الذى سمى باسم "جامع عمرو بن العاص" ليتلقى العلم على يد أئمته وعلمائه الذين كان يتدارسون كتاب الله وأحاديث الرسول فى هذا المسجد، وبذهنه المتقد وإرادته القوية وانفتاحه على الثقافات العربية والمصرية القديمة والجديدة صار لافتا لنظر كل من لاقوه، وكان رضى الله عنه واسع الثقافة محبا للعلم بكل صنوفه وأشكاله فكان يتقن اللغتين العربية وهى لغة الإسلام والقرآن والحديث، بالإضافة إلى اللغة القبطية التى لم تكن قد اختفت بعد من الشارع المصرى، كما كان يتقن اليونانية واللاتينية، وهو الشىء الذى جعل عقله بالتأكيد ينفتح على الثقافات الأخرى لينهل من علومها ويصقل تجاربه فى الحياة والفكر والثقافة.
وقد أدرك الليث منذ وقت مبكر طبيعة الإسلام السمحة الرحبة المتعالية، فسعى جاهدا إلى اكتشاف أسرار القرآن والحديث بالتعمق فى دراسة اللغة العربية وقواعدها، وهو ما أثنى عليه الفقهاء فيما بعد، مدركا أن النصوص القرآنية والنبوية ليست حروفا ترص رصا، لكنها آيات الله المناسبة فى الألفاظ لتخلق معانى تخاطب القلب وتهذب الروح، ولهذا حاول الليث أن يستقى اللغة من منبعها وهو الشعر العربى السابق على الإسلام واللاحق له، وترك هذا التوجه فى نفسه ميلا للفنون وحبا للشعر وتهذيبا فى النفس، ويروى أنه ذات مرة كان يتبع عادته الأثيرة ممارسا هوايته المفضلة وهى التغنى بأبيات الغزل ولما سمعه أحد شيوخ قال له "هذا مباح ولكن لا تفعله فسيكون لك فى الفقه شأن"، ويبدو أن علم الليث وذكاءه المتقد جعل الجميع ينظرون إليه بإعجاب و"تعلموا الحلم قبل أن تتعلموا العلم" كانت تلك المقولة هى الأثيرة عند الإمام المصرى الكبير، وقد قالها يوما وهو شاب يافع حينما كان حاول أن يمزج بين القول بالحديث والقول بالرأى فنهره شيوخه واحتدوا عليه، فقالها لهم ثم لازمته طوال حياته وكان كلما احتد خلاف ذكرها لمخالفيه، ولقد علم أحد مشايخه أن الناس يستفتونه، فيفتى، ويرضون عن فتياه فناداه وشجعه على الإفتاء، ولما وجد منه ترددا لعلمه أن أصله ليس عربيا وإنما ممن يقال إنهم من الموالى قال الشيخ للفتى الصغير: إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط.
فى مكة يلتقى الإمام الليث بن سعد بعلماء الحجاز ويعجب بشكل خاص بالشيخ الزهرى وربيعة الرأى شيخ الإمام مالك الذى كان وقتها طالبا صغيرا فقيرا فى العشرين من عمره، فيتعرف إليه الليث ويساعده على المعيشة بأن يتحين الفرص لإمداده بالأموال، وفى الحقيقة فقد نمت علاقة خاصة بين الإمامين، ظهرت منذ بدايات العلاقة ويبدو أنهما كانا على يقين من أن شأنهما سيعلو ومن أن اسميهما سيرتفعان، ولما رأى الليث ضيق حال مالك أخذ يمده بالمال ويعرض عليه المساعدات، وهو الشىء الذى استمر حتى بعد أن فتح الله على مالك وأصبح من الميسورين، وكان كثيرا ما يراسله محدثا إياه بلهجة الأستاذ ليعارض فتواه مبينا أوجه قصورها بأدب جم وعلم سديد.
ويبدو أن ذكاء الليث وسرعة تحصيله جعلتاه يمتلئ بالعلم فى وقت قصير وحالت دون تلمذته على أيدى علماء الحجاز والعراق لعجزهم عن إضافة أى شىء جديد لمالك، حتى أن أحد الشيوخ ناظره وهو فى العشرين فقال له الشيخ إن علمك علم رجل فى الستين، وبرغم علمه الكثير الكثيف لم ينل الليث حظه من التقدير فى زمن الدولة الأموية، فقد منعه ولاتها من الفتيا فى المسجد الكبير لأن أصله ليس عربيا، ولأنه من الموالى أى من أبناء البلاد المفتوحة فكان يقول مستاء: ما ذنبى إن كانت الموالى تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون".
وبرغم ثراء الليث واتساع ثروته لكنه لم تستحق عليه زكاة قط ذلك لأنه كان لا يحتفظ بأموال لأكثر من عام، فكان يتخلص من المال وكأنه يبعد عن ثوبه عقربا، ويذكر أن امرأة طلبت منه امرأة رطلا من عسل لتعالج ابنها، فى وقت شح فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل "والمرط نحو مائة وعشرين رطلا" فقال كاتبه: "سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟" فقال الليث: "سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا"، وكانت له ضيعة بالفرما "قرب بورسعيد" يأتيه خراجها، فلا يدخله داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين وقد جعل المال فى صرر يوزعها جميعا صرة بعد صرة، وكان لا يتصدق بأقل من خمسين دينارا.. ذلك أنه كان يحسن استثمار أرضه، الواسعة الخصبة حتى لقد كانت تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام، فقد كان يحب الناس ويحب الحياة معتبرا أنه لا فائدة من أن تكون سعيدا وسط تعساء، ومن أجل ذلك نادى الليث بأنه ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية والحكام وولاة الأمور مسؤولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف، وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفى كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التى تحملهم، والعلم الذى ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم، ولعل هذه الفتوى جاءت من اقترابه من الفقراء ومعاشرتهم وشعوره بمعاناتهم اليومية، فكانت الفتوى هنا انتصار للعدالة الاجتماعية بفهوم العصر الحالى.
وبعد عناء مرير وصل الإمام الليث إلى كرسى الفتوى فى المسجد الكبير، وكانت وقتها شهرته ذائعة بين الناس حتى أنه روى أن ربيعة الرأى أستاذ الإمام مالك لم يكن يخشى من مناظرة أحد قط إلا الإمام الليث، وهذا ما جعل الخليفة أبو جعفر المنصور يحاول أن يقربه منه عارضا عليه ولاية مصر التى رفضها متعللا بأنه لا يصلح، وهو ما دعا الخليفة إلى التنبيه على كل وال يرسله إلى مصر وكل قاض بأن يراعوا الليث وأن يستشيروه فى الأمور الجسيمة، رادا كل مكيدة تكاد ضده إلى صانعها.
وعلى هذا كان الإمام وبرغم بعده عن السياسة وأمور الحكم كان بمثابة ضمير مصر الفقهى والدينى، ولذلك كان يخشاه الولاة، لأنه كان عليهم بمثابة الرقيب إذا ما قبلوا هدية كتب للخليفة أنه لا يتقون الله فى الرعية، وحدث أن عاتب أحد المعزولين الليث بن سعد فقال: "نصحتك فلم تنتصح، ومصلحة الرعية أولى وما صبرى على ظلم الرعية؟"، ولأن الوالى المعزول لم يكن يملك إلا راتبه، فأجرى عليه الليث راتبه من ماله الخاص، وبرغم محاولة الولاة والخلفاء التقرب منه الإمام لكنه لم يكن ليخفض من قيمته أمام حاكم فكان لا يذهب لوال أبدا، حتى إذا استدعاه أحد الولاء قال له: "ائتنى أنت فإن مجيئك إلى زين لك ومجيئى إليك شين على".
بالمحبة عاش الإمام يشيع بين الناس العلم والفضيلة وحب الصحابة الأكرمين، وقد ساء الإمام أن رأى بعض أهل مصر لا يبجلون الخليفة الراشد والصحابى الجليل عثمان بن عفان فصار ينهى الناس عن ذلك ولما هدم أحد ولاة مصر بعض الكنائس كتب الإمام إلى الخليفة بالأمر فعزل الوالى لأنه بحسب وصف الليث كان مبتدعا مخالفا لروح الإسلام ولما تولى الوالى الجديد أمره بأن يعيد بناء الكنائس المهدمة وأن يبنى كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون فى مصر، موضحا للوالى أن أكثر الكنائس التى كانت قائمة بمصر إنما بناها الصحابة، ممن قادوا جيش الفتح الإسلامى. معتبرا إجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو فى قوة السنة، فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول. كما احتج الإمام الليث على من هدم الكنائس بقوله تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا".
ما أحوجنا الآن إلى من هم يسيرون على خطا الإمام الليث الذى ضيعناه كما قال الشافعى، ولكنه برغم كل هذا الإهمال الذى أهملناه له لم يضيعنا، فهذه هى خارطة إصلاح مصر يصفها الإمام لهارون الرشيد صالحة لكل زمان مكان، فحينما سأله الرشيد قائلا: يا ليث ما صلاح بلدكم؟ قال الإمام: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتى الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقى.
فقهاء التنوير.. الإمام الشافعى.. شهيد الرأى ومؤسس الأصول.. يقول ياقوت الحموى إنه نال الشهادة حينما تربص به أتباع الإمام مالك لأنه ناظر أحد زملائهم وهزمه وضربوه فمات من جراء الضرب
الجمعة، 27 يوليو 2012 - 08:54
الأمام الشافعى
بقلم وائل السمرى _ نقلاً عن العدد اليومى
يبرر خلافه مع الإمام مالك بقول أرسطو: "أفلاطون صديقى والحق صديق فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة"
آمن الشاب الصغير "محمد بن إدريس بن العباس بن شافع" الذى سيعرف فيما بعد باسم "الإمام الشافعى" بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن "الحكمة ضالة المؤمن.. حيث وجدها فهو أحق بها"، فوهب حياته للبحث عن تلك الضالة مجاهداً مجتهداً، ولما اطمأن قلبه إلى ما حصّله من حكمة أراد أن يعم النفع على الناس فكتبت كتبه المشهورة، لكنه وبرغم أنه كان أفقه أهل الأرض فى زمنه يقول فى وصفها "لقد ألفت الكتب ولم آل فيها، ولابد أن يوجد فيها خطأ لأن الله تعالى يقول "لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً".
تلك هى صفة العالم، عدم ادعاء الكمال وقبول احتمال وجود خطأ فى آرائه بل الجزم بوجود الخطأ قائلاً: "ولابد أن يوجد فيها خطأ" فاتحا بذلك السلوك بابا من أبواب الاجتهاد فيما ما تم تحصيله من علم وما تم تخريجه من أحاديث وأحكام، ومتبعا سنة الصحابة الكرام الذين كانوا يجتهدون برأيهم وإذا ما وجدوا الأصوب نحوا نحوه، حيث يقول الإمام فى هذا الشأن: "كان رأيى ورأى عمر فى أمهات الأولاد -أى الجارية التى تنجب ولدا لسيدها- ألا يبعن وأنا الآن أرى بيعهن"، وكان ابن عباس يقول لا ربا إلا فى النسيئة، ثم رجع أثبت ربا الفضل، وأوصى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أحد قضاته قائلاً: "لا يمنعنك قضاء قضية بالأمس فراجعت فيه عقلك وهديت لرشدك من أن ترجع إلى الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل" وهم فى ذلك متبعون غير مبتدعين فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حينما سأل عن قذف الرجل لامرأته توقف عن إبداء الحكم حتى نزلت آية اللعان "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم" وقد روى عنه إنه قال "المؤمن وقاف والمنافق وثاب".
وعى الإمام الشافعى كل هذا، فكان من أحرص الناس على الوصول إلى الحقيقة غير متهيب من مخالفة رأيه إذا ما اختلفت الأسس التى بناه عليها، سواء كانت هذه الأسس أحاديث نبوية لم يكن على علم بها أو مستجدات حياتية لم يكن يعلم عنها شيئا، ولهذا يؤثر عنه أن عدل بعض فقهه وغيّر ما كان بكتبه بعد أن جاء إلى مصر ورأى ما لم يره وعلم ما لم يكن يعلمه، ومن أهم ما جعل الإمام يغير بعض آرائه هو تتبعه أثر الإمام المصرى "الليث بن سعد" واطلاعه على آثار مصر وحضارتها واندماجه فى المجتمع المصرى وجلوسه بين يدى الصالحين فى هذا العصر وأشهرهم السيدة نفسية رضوان الله عليها، فمن الثابت أن الإمام الشافعى قال "الليث أفقه من مالك لولا أن قومه أضاعوه"، وأنه فور قدومه إلى مصر صار يتتبع أثره ويقف بين يدى تلاميذه ليتعرف على ما فاته من تتلمذ على يد الليث، لكن القول بأن الإمام الشافعى تأثر بفقه الإمام الليث أغضب متعصبى المذهب الشافعى، مدعين أن الإمام لم يتأثر بالليث ومتحججين بندرة ما أخذه الشافعى عن الليث فى كتبه، ولهم العذر فى ذلك إذا ما نظرنا إلى ضيق أفقهم وضآلة تفكيرهم، فهم لا يعترفون بالعلم إلا نقلا، ولا يدركون أن نتيجة البحث ليست هى الإنجاز فى حد ذاته، لكن طريقة الوصول إلى هذه النتيجة هى الإنجاز كله، والمقصود أن الإمام الشافعى قد تأثر بالإمام مالك باتباع نفس آلياته فى التحقيق والحكم والوصول إلى الفتوى، أى أنه نقل عنه طريقة تفكيره التى ثبت أنه تعلمها بمقولته "الليث أفقه من مالك" وإلا فكيف عرف أن الليث أفقه من مالك؟
ويبدو أن حب الشافعى لعالم مصر الأول واحترامه له وتتبعه أثره أسهم فى أن يتعلق المصريون به وأن تصبح حلقته فى مسجد عمرو بن العاص هى الحلقة الأكبر، وفى الحقيقة لقد استحق الإمام هذه المكانة عن جدارة، وهو الذى عاش يجوب البلاد من أجل نيل العلم مضحيا فى سبيل ذلك بصحته ووقته وماله، وكان نتيجة هذا أن فتح الله عليه بمبادئ مذهب جديد خلد اسمه فى قائمة الأئمة وحفظ بحروف من نور مكانته فى قائمة النورانيين، وقد وجد الإمام الشافعى أن الفقهاء فى عصره فريقان، الأول يأخذ بالأحاديث وعلى رأسه الإمام مالك والثانى يأخذ بالرأى المستنبط من الأحاديث بالقياس وعلى رأسه الإمام أبوحنيفة، فعمد الإمام الشافعى التقريب بين هذين الفريقين فلا الرأى رأى عن هوى، ولا من المعقول أن يخالف الكتاب والسنة رأى لا يبتغى إلا مرضاة الله، وللتدليل على حاجة الفكر الإسلامى إلى ما يزاوج بين الرأى والحديث يورد الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى فى كتابة "الأئمة التسعة" نماذج لأبرز المواقف التى أوجبت الاحتكام إلى الرأى المستنبط من الفطرة السليمة والغرض النزيه والمتفق مع مقاصد الشريعة والحديث الشريف فيقول: سأل أحد أهل الرأى واحدا من أهل الحديث فى أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما الزواج؟ فقال صاحب الحديث: زواجهما حرام، فسأله صاحب الرأى: بأى نص حكمت؟ فقال صاحب الحديث: بالحديث القائل: كل صبيين اجتمعا على ثدى واحد حرم أحدهما على الآخر، فقال صاحب الرأى ضاحكا: قال الرسول: اجتمعا على ثدى واحد لا على ضرع واحد، إنما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمى، فلو أنك أعملت العقل والرأى ما أخطأت. وما سويت بين المرأة والنعجة!
مثال آخر يورده الشرقاوى فى الشأن قائلاً: امرأة قدمت مع زوجها من إحدى البلاد إلى الكوفة، فتعلق بها رجل كوفى وتعلقت به، واعيا أنهما زوجان، وعجز زوجها عن إثبات زواجه لها، فعرضت القضية على أحد أئمة أهل الحديث فحكم بأن المرأة للكوفى، ولما عرضت على الإمام أبى حنيفة شك فى ادعاء الزوجة والكوفى، فأخذ جماعة من الناس ومعهم بعض أهل الحديث وذهبوا إلى المنطقة التى يقيم فيها زوج المرأة فنبحت كلابهم وهمت أن تهاجمهم كما تفعل مع الغرباء، ثم عاد أبوحنيفة وأخذ الزوجة ومعها شهود من أهل الحديث وأمر الزوجة أن تدخل وحدها إلى منازل المنطقة، فلما اقتربت بصبص الكلاب حولها كما تفعل بأصحابها فقال أبوحنيفة: ظهر الحق فانقادت المرأة للحق واعترفت أنها كذبت، وعادت إلى زوجها وسخر أهل الرأى من أهل الحديث فى هذه القضية.
ولأن الإمام الشافعى كان يبحث دائما عن الحق مزج بين مميزات الفريقين وأنتج مذهباً جديداً بوعى جديد مضيفا إلى علمه علوما اكتسبها فى مصر، متمردا على أستاذه القديم "الإمام مالك" ومصدرا كتابه الشهير "خلاف مالك" الذى فند فيه بعض آراء "الأستاذ" ليكفف من هالة القداسة التى ضربها أتباعه عليه، ومتبعا فى ذلك سنة الإمام "الليث بن سعد" الذى كان يرسل لـ"مالك" الرسائل الطوال إذا ما أفتى بما يراه "الليث" خاطئا، ولم يكن بمستغرب بعد مكوث الشافعى فى مصر أن يحاجج لائميه الذين عاتبوه لإصداره "خلاف مالك" مستشهدا بمأثورات الثقافة اليونانية قائلاً: "إن أرسطو تعلم الحكمة من أفلاطون ثم خالفه قائلا إن أفلاطون صديقى والحق صديق فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة".
وفى الحقيقة فإن النهل من المنابع الثقافية المتعددة حتى وإن بدا ذلك غير مستساغ عند البعض كان ميزة تمتع بها الشافعى، فروى عنه أنه كان يتغنى بشعر شعراء قبيلة "هذيل" فى الحب والغزل مع أحد أصدقائه ثم قال له "لا تعلم بهذا أحدا من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا"، وذلك لأن الإمام الشافعى كان قد مكث فى قبيلة هذيل ليتعلم الشعر والأدب واللغة عشر سنوات حفظ فيها أغلب قصائدهم، حتى قال عنه شيخ اللغويين "الأصمعى": "صححت أشعار الهذليين على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس" فقد أيقن الإمام الشافعى أن اللغة هى مفتاح فهم القرآن والحديث، وما كانت كلمة لتمر أمامه دون أن يعرف معناها، معجبا بقول العباس "والله ما علمت معنى كلمة فاطر السموات والأرض حتى رأيت أعرابية تقول عن ابنها أنا فطرته" وهو ذات الموقف الذى وقع مع الإمام الشافعى حيث توقف الإمام وهو ينظر تفسير القرآن أمام الآية "وقد خاب من دساها" فخرج إلى خارج مكة ليعرف معناها فلم يتمكن، وسأل عنها فى "هذيل" فلم يعرفوا للكلمة معنى، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته إلى أحد الفقهاء فقال له: دساها من لغة السودان ومعناها "أغواها".
وبرغم أن الإمام الشافعى كان تلميذا نجيبا للإمام مالك وبين يديه جلس تسع سنوات ولم يفارقه إلا حينما مات لكنه كان دائم السعى لينهل من علوم أصحاب المذاهب الأخرى، فاحتال على عدم إدراكه للإمام أبى حنيفة بأن تتلمذ على يد تلميذ الإمام محمد بن الحسن كما اكتسب بعضا من العلوم الدنيوية كالكيمياء والطب والفيزياء الفلك والتنجيم وتعلم الفراسة.
ولأنه رحمه الله كان كأستاذه الإمام مالك لا يستطيع كتمان الحق كان يستكثر أن يهاجم أحد فقه الإمام أبى حنيفة، وكان الهجوم على الإمام عادة من عادات أهل الحديث فى المدينة ولهذا كان يردعهم بالقول "كلنا فى الفقه عيال على أبى حنيفة" ولما مات الإمام مالك سافر الشافعى إلى اليمن متقلدا منصبا فى القضاء، ويقال إنه تعرف هناك على يحيى بن حسان تلميذ الليث بن سعد المصرى وصاحبه، فأخذ عنه كل ما انتهى إليه من فقه الليث، لكنه وجد حاكم نجران يظلم الناس، فقاوم الحاكم ووقف فى المسجد يحض الناس على مقاومته، فوشى حاكم نجران بالشافعى عند الخليفة هارون الرشيد متهما إياه بالتشيع، وكاد الرشيد أن يقتله لولا بلاغته فى الدفاع عن نفسه وتوسط محمد بن الحسن تلميذ أبى حنيفة الذى كان قد قابله فى مكة له، وقد أصبح قاضى بغداد، وبدلا من أن يقطع الرشيد رقبته أعطاه خمسين ألف دينار لما وجد فيه من نباهة وعلم وفقه وفصاحة.
تركت تلك المحنة التى مر بها الإمام وتعرضه للسجن والترحيل والوقوف بين يدى الخليفة مهددا بالموت أثرا كبيرا، فعاهد نفسه على عدم الانغماس فى السياسة وحينما استدعاه الخليفة المأمون عارضا عليه أن يوليه منصب قاضى القضاة رفض الشافعى المنصب، وشيئا فشيئا تفرق عنه أحبابه الذين استجابوا لنداء القدر، وفى هذه الأثناء تلقى دعوة من والى مصر للإقامة ببلد النيل، وقبل أن يرحل اتجه إلى قبر الإمام أبوحنيفة النعمان وصلى ركعتين، وانظر كيف كان هؤلاء الأئمة العظام يحترمون بعضهم البعض حتى وهم أموات، فقد روى أن الإمام الشافعى وهو يزور قبر أبوحنيفة ويصلى ركعتين عدل من حركات الصلاة متبعا قواعد أبى حنيفة، ولما سأله أصحابه عن علة تغيير حركات الصلاة قال: أدبا مع الإمام أبى حنيفة أن أخالفه فى حضرته.
وحينما عقد العزم على السفر إلى مصر أنشد الشافعى شعرا يقول فيه:
لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر.. ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدرى أم الفوز والغنى.. أساق إليها أم أساق إلى القبر
وفى خمس سنوات على أقصى تقدير هى مدة إقامة الإمام الشافعى فى مصر، لكنها كانت سنوات عامرة، فيها راجع فقهه وطوره، وفيها عرف ما لم يعرف، وفيها أصدر كل كتبه بعد تنقيحها، وفيها أصدر كتابه الشهير "أهل البغى" القائم على تفسير قوله تعالى: "فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله" منتصرا فيه للإمام على بن أبى طالب ومعتبرا معاوية بن أبى سفيان باغيا وقتاله جهاداً فى سبيل الله، وهو ما جعل أصحاب الإمام أحمد بن حنبل يتهمونه بالتشيع فقال لهم الإمام أحمد: "سبحان الله وهل ابتلى أحد بقتال أهل البغى قبل أمير المؤمنين على بن أبى طالب" ويبدو أن الإمام كان فى قلبه ميل لكتابة هذا الكتاب منذ أن كان باليمن لكنه لم يجرؤ على كتابته إلا فى مصر حينما صفت نفسه وتمكن، وفى مصر أيضا راجع كتاب "الرسالة" ونقد الإمامين "أبوحنيفة ومالك" تمهيدا لإعلانه مذهبه الجديد.
فى الخمس سنوات التى عاشها الإمام فى مصر أنجز ما لم ينجزه فى حياته كلها، وأسس الإمام قواعد أصول الفقه وهى الكتاب والسنة المجمع عليها التى لا اختلاف فيها، والإجماع ثم القياس، وتحامل على نفسه مقصرا فى حق صحته، فقد ابتلاه الله بمرض البواسير ونصحه الأطباء بالتقليل من جلوسه للدرس وإلا فستكون فى جلساته أسباب موته، لكنه لم يكترث، بحياته وصحته فى مقابل تأسيس مذهبه وتنقيح علمه، فمات معانيا مع هذا المرض، لكن ياقوت الحموى فى كتابه معجم البلدان ذكر سببا آخر لموت الإمام الشافعى يضعه فى خانة شهداء الرأى بلا جدال، فيقول إنه كان هناك شاب من أتباع الإمام مالك اسمه فتيان "فيه حدة وطيش" وساء هذا الفتيان تأليف الإمام الشافعى كتابه الشهير "خلاف مالك" وكان يناظر الإمام وملؤه حقد وتعصب، وفى إحدى المناظرات أحرج الشافعى "فتيان" على الملأ، فازدادت حدة "فتيان" وتهوره، فشتم الإمام الشافعى شتما قبيحا، فلم يرد عليه الإمام، لكن أحد الحضور سرد للوالى تلك الواقعة، فأمر الوالى أن يضرب فتيان بالسياط يحمل على جمل وينادى به المنادى هذا جزاء من سب آل رسول الله، وقد كان الشافعى يلتقى فى نسبه مع الرسول الكريم، وهذا ما أثار استياء أصحاب فتيان فتربصوا بالإمام بعد صلاة العشاء، وضربوه ضربا مبرحا ومات على أثر هذا الضرب، وعلى فراش الموت أنشد الشافعى شعرا
قائلاً:
فلما قسـى قلبـى وضاقت مذاهبى.. جعلت رجائى نحو عفوك سلما
تعـاظمـنى ذنبـى فلـما قـرنته.. بعفوك ربى كان عفوك أعظما.
فقهاء التنوير.. الإمام الهادى.. رسول العدالة الاجتماعية.. أوجب على بيت مال المسلمين شراء العبيد الذين يسلمون وعتقهم واهتم بجمع الزكاة وإنفاقها على مستحقيها وإنفاق ربع ما يجمع من كل بلدة على أهلها
الأحد، 29 يوليو 2012 - 09:26
الأمام الهادى
كتب وائل السمرى _ نقلاً عن العدد اليومى
أعطى نصارى نجران حقوقهم كاملة وجدد معهم عهد رسول الله وأمنهم على أموالهم وأبنائهم وكنائسهم وترك لهم حق حرية الاعتقاد "غَيْر مُبْتَلَيْنَ بِظُلْمٍ وَلا ظَالِمِينَ".. وحكم اليمن فطبق ما عرفه من فقه مما أعاد إلى الواقع الإسلامى أجواء الخلافة الراشدة وساد العدل والاستقرار
يعتبره الكثير من الفقهاء قطبا للفقه الإسلامى فى القرن الثالث الهجرى، ذلك القرن الذى تلى عصر ازدهار الفقه الأول وبزوغ نجم رواد علم الفقه العظام ومؤسسى أصوله، وفى الحقيقة فإن الإمام الهادى لم يكن تحت منظار الباحثين ولم يكن له الكثير من الآثار التى يعكف علماء السنة على دراستها، لكن مع هذا نرى الإمام الراحل محمد أبوزهرة، وهو أحد أكبر وأعلم علماء الفقه فى العصر الحديث، يعده من رواد الفقه ومؤسسيه برغم أنه كان مجتهدا زيديا يتبع المذهب الزيدى الذى أسسه الإمام زيد بن على زين العابدين عليهم رضوان الله أجمعين، وتجدر الإشارة هنا إلى أننا سنعتمد على ما أورده الإمام "أبوزهرة" فى شأنه، ذلك لأنه أحد أكبر وأفقه علماء السنة، وعلى يديه تتلمذ الكثير من علماء عصرنا والعصر السابق علينا، لكنه دعا بوعى لافت وتأصيل جدير بالاتباع إلى الاستفادة من تراث المسلمين كله سواء كان سنيا أو شيعيا، ولهذا تتبع أثر الإمام الهادى واستخرج إحدى رسائله من دار الكتب واطلع عليها وشرحها وأبرز ما فيها من وجوه الفقه المتفردة، على أمل أن نفرد لأبى زهرة حلقة خاصة نستعرض فيها منهجه وتأصيلاته الفقهية واستنارته واستبساله فى الدفاع عن كلمة العلم وكرامة العالم.
كما ذكرنا فإن أبوزهرة يعد الإمام الهادى أحد أقطاب الفقه فى القرن الثالث، ويقول إن آراءه واجتهاداته واجتماعها بآراء جده القاسم الرسى وآراء الناصر الأطروش كانت محور الدراسة فى القرن الرابع الهجرى، ولهذا أفرد لها دراسة موجزة تشرح أبواب فقهه وأهم اجتهاداته، ملقيا الضوء على الكيفية التى تطور بها المذهب الزيدى الذى يتبعه أهل اليمن الشقيق.
والإمام الهادى هو الهادى إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسى، ولد بالمدنية سنة 245 هجرية، وعكف على دراسة الفقه من كل نواحيه وفى كل مصادره وقام هاديا مرشدا يدعو إلى الله سبحانه وتعالى وإلى صراطه المستقيم، وقد كان يتمتع بشهرة إقليمية كبيرة، حيث كانت الناس تأتى إليه من كل بقاع العالم الإسلامى لتستفتيه فيفتيهم، متبنيا منهج الدفاع عن القرآن والسنة فى عصر كثرت فيه الأقاويل وحادت فيه البوصلات، ومجتهدا فيما لم يرد فيه نص، وكان فى ذلك مقتديا بالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فيقول الإمام شارحا منهج الرسول فى الاجتهاد: إن رسول الله لم يكن ليخترع أمرا دون علم الله سبحانه وتعالى، كما حكى القرآن عنه صلى الله عليه وسلم إذ قال: "إن أتبع إلا ما يوحى إلى"، وقال تعالى: "ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء".
والسبب فى اهتمام الإمام الهادى بتأويل اجتهاد الرسول وإبراز كيفيته وحجيته هو أن جماعة من المسلمين الذين أرادوا أن يكيفوا الإسلام على هواهم الشخصى ادعوا أن من حقهم أن يجتهدوا منفصلين عن أقوال الرسول متحججين فى ذلك بأن الرسول كان يجتهد فيعاتبه الله على اجتهاده أو يصححه له، ولذلك كان يقول إن اجتهادات الرسول فى مكانة التنزيل، ذلك لأن الله كان مطلعا على كل ما يقوله الرسول إن كان واجبا أقره وإن كان مخالفا للناموس صححه وعدله، وهو بذلك لا ينفى أن النبى كان يجتهد، لكنه يؤكد أن اجتهاداته كانت بعلم الله، ضاربا فى ذلك مثلا بموقف الرسول فى غزوة بدر الذى عاتبه الله فى شأنه منزلا آياته البينات التى تجزم بأنه ما كان لنبى أن يتخذ أسرى.
ولأن الإمام كان دائم السعى لنشر دين الله والعمل على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة، ولأنه كان معنيا بتطبيق العدل الذى أمر به الإسلام ومراعاته سافر إلى اليمن فى قرب نهاية القرن الثالث، وهناك وجد الأرض خصبة لآرائه، فعمل على التوسع فى مذهبه وجذب أنصار جدد لمنهجه، وعن هذا التوجه يقول الشيخ أبوزهرة: "فبذر فيها البذر الطيب النقى من الآراء الفقهية العميقة ومن العقيدة الدينية القويمة الخالصة من كل وهم وزيغ، وقد وجد له أتباعا بهذه الحركة المباركة فى أرض اليمن، وقد خرج معه فى هذه الرحلة على بن العباس بن أدهم الحسنى، وكان من أعلم رجال آل البيت الشريف بعلم آل البيت، وهو الذى يروى إجماعات آل البيت وفى إجماعات آل البيت والأحكام التى لا يصح لأحد من فقهاء المذهب الزيدى مخالفتها، وهى تعتبر من أهم مصادر الفقه الزيدى".
فى اليمن بايع الناس الإمام الهادى إماما، ولعل هذه المبايعة هى التى جعلت الناس يفتتنون بالمذهب الزيدى إذ تحقق فى إمامة الهادى وجها المذهب التنظيرى والتطبيقى، فكانت خطبة الهادى عقب البيعة دستورا عادلا راشدا سار عليه وما خالفه، وهذا ما عظم من محبة الناس له، وانظر معى كيف افتتح إمامته بالقول: أيها الناس إنى أشترط لكم أربعا على نفسى، الحكم بكتاب الله وسنة نبيه، والأثرة لكم على نفسى فيما جُعل بينى وبينكم، أوثركم فلا أتفضل عليكم، وأقدمكم عند العطاء قبلى، وأتقدم عليكم عند لقاء عدوى وعدوكم، وأشترط لنفسى عليكم اثنين، النصيحة لله سبحانه وتعالى فى السر والعلانية، والطاعة لأمرى على كل حالاتكم ما أطعت الله، فإن خالفت فلا طاعة لى عليكم، وإن ملت وعدلت عن كتاب الله وسنة نبيه فلا حجة لى عليكم، فهذه هى سبيلى أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى.
وبهذا الدستور الذى وضعه الإمام الهادى لنفسه يتأكد لنا أنه لم يكن يدعو لنفسه طلبا للسلطة، ولكنه كان مدفوعا بتطبيق العدل وضرب المثال القويم فى الحكم والإمارة، فهو يحدد ما يقصده وما ينتويه، وهو إقامة الحكم الإسلامى العادل الرحيم الشفاف الذى يلزم الحكام بأضعاف ما يلزم الشعب، بالإضافة إلى جمع شمل المسلمين على ما ينبغى التوحد من أجله وهى مبادئ الدين الإسلامى الرحبة السمحة، وقد كان يسعى جاهدا كالإمام زيد إلى توحيد المسلمين تحت نبراس واحد، فكان يقول: لوددت أن الله أصلح هذه الأمة وأنى جعت يوما وشبعت يوما"، ولتثبيت التربة لزرع أفكاره ومبادئه فقد حارب أهل الافتراءات والكذب فى ربوع اليمن حتى استقر له الأمر.
ولأن الإمام الهادى كان يعرف أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل فقد ضرب مثالا تطبيقيا فريدا فى إقامة دولة الإسلام الحق التى تكاد تكون مرادفا لكلمة العدل، فعكف على إغناء الفقراء عن السؤال وحارب المبتدعين والمتنطعين الذين يدعون على الإسلام ما ليس فيه، وعمل على طمأنة الناس على أقواتهم وأرزاقهم بحمايتهم من التهديدات الخارجية والاضطرابات الداخلية، وفوق كل ذلك عمل على نشر العدالة الاجتماعية ونظم بيت المال وجمع الزكاة ووزعها على مستحقيها وأوجب صرف ربع ما يجمع بين أهل القرية التى يجمع منها الزكاة، ونظم بيت المال بصرامة متناهية حتى ساد العدل ربوع اليمن وانتقلت أخبار عدله إلى الأمصار المجاورة، ويقول الإمام أبوزهرة فى هذا: "وقد سار الهادى فى حكم البلاد اليمنية على سنة العدل مما جعل الأهليين يرون فيه مظهرا لحكم الإسلام مصدرا لعهد الخلفاء الراشدين الأولين، وإن رسائله وخطبه وعهوده تجعل القارئ يحس بأنه يعود بالإسلام إلى إلى عهده الأول عهد أبى بكر وعمر وعلى الذى يعتبرون الحاكم منفذ أحكام الله تعالى، بحيث يحس بها الصغير والكبير والأمير والخفير، ولهذا الاطمئان إلى الحاكم العادل سار جند اليمن وراءه طائعين لا كارهين، فأخضع نجران إلى ولايته وأعطى نصارى نجران ما كان أعطاهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فجدد لهم عهدهم فأثبت لهم الذمة والعهد، وللتذكرة فإن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه قد أعطى نصارى نجران ما يمكن أن نطلق عليه "حقوق المواطنة" الكاملة حيث عهد إليهم بعهد مكتوب قال فيه: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِلأسْقُف أَبِى الْحَارِثِ، وَأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ، وَكَهَنَتِهِمْ، وَرُهْبَانِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ، لا يُغَيَّرُ أُسقفٌ مِنْ أسقفَتِهِ، وَلا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلا سُلْطَانهُمْ، وَلا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا مَا أَصْلَحُوا وَنَصَحُوا عَلَيْهِمْ غَيْر مُبْتَلَيْنَ بِظُلْمٍ وَلا ظَالِمِينَ".
وفى الحقيقة لم تكن شهرة الإمام الهادى واقفة عند كونه حاكما صالحا، لكنها تعدت هذا الحيز إلى الشهرة بالعلم والفقه، فقد كان الحكم عاملا مساعدا له ليطبق ما عرفه من فقه وليس العكس كما يحدث الآن، فنراه يوجب على بيت المال شراء العبيد الذين يسلمون وهم مملوكون لغير المسلمين، وفى ذلك تطبيق لمبدأ من مبادئ الزكاة وهو إعتاق الرقاب، كما حارب القرامطة بالسيف والقلم، أى عسكريا وفكريا، وأصيب أكثر من مرة فى معارك الجهاد ضد الضالين المضللين، وبعد رحلة طويلة فى العلم والحكم ترك الهادى كتبا فى الفقه والحديث منها كتاب الأحكام سلك فيه مسلك الإمام مالك فى الموطأ يذكر الأحاديث والآثار ويذكر تخريجه لها واجتهاده حولها، ويربط أكثر المسائل بالأدلة التى تقوم عليها، وقد دون إسنادات الإمام زيد فى كتابه الشهير "المجموع".
ويحدد أبوزهرة سبب خروج أئمة آل البيت ومنهم يزيد والهادى والناصر الأطروش بأنهم ما كانوا يبتغون حكما ولا رياسة، ولكنهم رأوا البدعة تحيا والباطل يسود فخرجوا لإقامة دولة الحق وخفض دولة الباطل، لكن أبوزهرة أيضا كان منتبها لما قد يتهمه به بعض الأصاغر فقال هاجيا للتعصب المذهبى البغيض إننا "ورثنا فى هذا العصر التفرق المذهبى حتى أخذ بعضنا يكفر الآخر من غير حجة ولا بينة، وصارت للآراء والأفكار عصبية تشبه عصبية الجاهلية، فابن الشيعى شيعى وابن السنى سنى، يتوارث المذهب كما يتوارث الجسم واللون من الأب إلى ابنه، وأصبحت كل طائفة كأنها جنس قائم بذاته، ومن يغير مذهب أبيه الشيعى يكون كمن يغير دينه ويرتد بعد الإيمان، وأهل كل مذهب يحسب أن مذهبه تراث لهم فقط وليس تراثا للإسلام كله، وإن اعتبره تراثا للإسلام فإنه يتبع ذلك بأن مذهبه هو الإسلام، وإن ما عاداه انحراف لا يؤخذ به وضلال لا يلتفت إليه، وبهذا النفاق السياسى والمذهبى ضاعت القوى وأذلنا أعداؤنا".
وائل السمرى يكتب: فقهاء التنوير.. ابن حزم الأندلسى.. إمام الحب والحرية..لم يعترف إلا بالكتاب والسنة ونهى عن تقليد أى إنسان حتى لو كان صحابيا وأحل الموسيقى واعتبرها من نعم الله على عباده
الإثنين، 30 يوليو 2012 - 09:27
ابن حزم الأندلسى
بقلم وائل السمرى _ نقلاً عن العدد اليومى
◄قال: لا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع المزينون لأهل الشر شرهم
◄أعطى العبيد والجوارى كافة الحقوق وأباح للعبد الزواج من أربعة وألزم الدولة بمساعدته فى التحرر من الرق وساوى بين الرجل والمرأة
شاعر يرى العالم بقلبه ووجدانه، حالم بعالم حر يتساوى فيه الفقير والغنى والعبد والسيد، فقيه فى دينه صلب فى محاوراته بما أعجز عنه خصومه وأعيا مناوئية، صابر على الابتلاء صامد فى وجه الظلمة الظلماء، محبا للحياة بألوانها وتناغمها وتراحمها، مؤمن بقدرة الإنسان وحريته فى أدق تفاصيل الحياة وأحرجها، هو ذلك الفقيه الذى أذل الملوك وما أذلوه، وأخضع أعوان الظلمة وما أخضعوه، هو ابن حزم الأندلسى أكبر وأهم أعلام المذهب الظاهرى الذى فرق به بين الحق والباطل، وأثرى به الفقه الإسلامى مضيفا للفكر الإسلامى بعدا جديدا جديرا بالاحتفاء والاحترام.
نشأة ابن حزم «384هـ: 456هـ» فى عصر الدويلات الإسلامية بالأندلس جعلت فى قلبه ميلا دائما للتوحد حول المفاهيم النقية للدين الإسلامى بروحه الرحبة وحرصه على إنسانية الإنسان وتفردها، ولأنه نشأ فى دولة الحضارة والعلم والفلسفة والجمال كان لذلك أكبر الآثار فى رؤيته للحياة والفقه، فكان يرى أن الإسلام دين الحياة لا يتعامل مع الإنسان باعتباره كما مهملا، لكن باعتباره سيدا للعالم، حرا فى اختياراته، واعيا فى إدراكاته، مسؤولا عن قراراته، وبالطبع لم يكن هذا التوجه ليعجب الأمراء والملوك الذين كانوا يشبهون إلى حد بعيد ملوك ورؤساء أيامنا هذه، فقد كانوا يتنمرون على الكتاب والمفكرين ويتصاغرون أمام أعداء الأمة المتآمرين عليها والمتربصين بها، حتى قال الشاعر فيهم: مما يزهدنـى فى أرض أندلس ألقاب معتضـد فيها ومعتمـد/ ألقاب مملكة فى غير موضعها كالقط يحكى انتفاخا صولة الأسد.
كانت هذه هى الأجواء التى نشأ فيها ابن حزم، وقد اختبرته الحياة بتجاربها القاسية فانعكس ذلك على سلوكياته، فللتجارب القاسية فعلان، الأول إذا ما صادفت نفسا ضعيفة قهرتها وحولتها إلى دمية فى يد الزمان، وإن قابلت نفسا قوية راسخة صقلتها وثقلتها وحولتها إلى ظاهرة يتحاكى بها القاصى والدانى، وكان الإمام ابن حزم من النوعية الثانية، التى ما زادها تقلب الأحوال وانقلاب الممالك وضياعه بعد وفاة أبيه الذى كان وزيرا إلا رسوخا وقوة، فاعتمد على عقله وطور من ملكاته وقدراته ومعلوماته، وزاد فى تحصيله للعلم حتى أصبح محيطا بأغلب علوم عصره، فدرس بجانب العلوم الدينية واللغوية علوما دنيوية كثيرة أفادته فى معرفة خصائص الطبيعة ودخائل النفس الإنسانية، فدرس الفلسفة واطلع على كتب الأدب والشعر المترجمة، كما درس الخطابة والفلك والفراسة، بالإضافة إلى الرياضيات وما اشتق منها من كيمياء وفيزياء، كما نهل من منابع الحضارة العربية بكل ما أوتى من قوة، فدرس الشعر ووقف على صفحات التاريخ ووعى الحكمة من أيام العرب وحروبها.
وتلقى الإمام ابن حزم أول ما تلقى من علوم الدين الفقه المالكى، فى وقت ساد فيه فقه مالك فى أغلب ربوع الأندلس، لكنه سرعان ما تمرد عليه مجاهرا بخلافه مع شيخه فى أحد المسائل الفقيه، ولأن عوده لم يكن قد اشتد بعد، هزمه الشيخ فى أول مناظرة فقهيه له، لكن على ما يبدو أن هذه هى المناظرة الأولى والأخيرة التى يهزم فيها الإمام ويبهت أمام مناظره، ولم يكن ابن حزم ليفوت هزيمته دون أن يردها، فاستعد جيدا لشيخه وناظره ثانية فظهر عليه أمام أقرانه، لكن ما لا شك فيه هو أن الإمام لم يضع نفسه بهذا الموقف من باب الاستعراض على شيخه أو تطاوله عليه، لكنه كان دائم البحث عن أسباب انحدار عصره موقنا أن فساد الكل ينعكس على فساد الجزء، وفساد الجزء ناتج بالضرورة من فساد الكل.
ولأن روحه الطلوق لم تكن لتقنع بتعاليم مذهب واحد مهما كان عظيما، فقد تقلب بين مذاهب السنة ودرس المذهب الشافعى وأعجب فيه بتمسك الشافعى بنصوص السنة وأحكام القرآن الكريم، وفى وجهة نظرى فقد أعجب الشيخ بقدرة الإمام الشافعى على استخلاصه لنفسه مذهبا يضاهى مذهب أساتذته «أبى حنيفه ومالك» ولكنه بعد أن تقلب بين المذاهب وعرفها وخبرها اختط لنفسه منهجا آخر، مخالفا كل ما درسه من فقه ومفيدا من خبراته المتراكمة، فاختار طوعا أن ينتهج منهج الإمام داوود الأصفهانى صاحب المذهب الظاهرى، ولما عاتبه أحد أصدقائه لهجرانه المذهب المالكى وهجومه عليه قال له إن المسيح عليه السلام حينما سئل من هو المخلص فقال: «المخلص من إذا عمل خيرا لا يهمه أن يحمده الناس».
ولأن اختيارات الإنسان واقتباساته هى شخصيته الحقيقة فقد دلنا الاقتباس السابق الذى ساقه الإمام ابن حزم على لسان نبى الله عسى ابن مريم على أن الإمام منذ بداية رحلته مع المذهب الظاهرى لم يكن يهتم إذا مدحه أحد أم لا، وطبيعى أن من لا يكترث بمدح الناس لا يأبه بانتقاداتهم، وهذا دليل آخر على قوة شخصية الإمام ومتانتها، وصلابة عزيمته وتحصنها، فوقف الإمام وحيدا، لا يستوحش الطريق لقلة سالكيه، معلنا أخذه بالمنهج الظاهرى الذى لا يعترف بالقياس ولا التعليل ولا التقليد ولا إبداء الرأى، مسقطا عن الكهنة أقنعتهم ورافضا احتكارهم التحدث باسم الدين وأجاز لكل فاهم للعربية أن يتكلم فى الدين بظاهر القرآن والسنة، مخالفا فى فقهه المذاهب الأربعة «المالكى والحنفى والشافعى والحنبلى» قائلا إن هؤلاء الأئمة قد عنوا بالاستنباط من الكتاب والسنة بينما هو يأخذ أحكامه من الكتاب والسنة مباشرة، وفى حين أخذ كل الأئمة بقول الصحابة وأحكامهم امتنع ابن حزم عن تقليدهم فى آرائهم، حتى لو كان صحابيا، وكان لا يصرح لأحد أن يقلد أحدا حتى لو كان صحابيا.
ولم يكن الإمام ابن حزم مبتدعا فيما قاله، وإنما كان يتبع قول رب العزة «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون» ومن قوله تعالى «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا» وحينما قال له البعض إن الله يأمرنا بأن نأخذ العلم عن أهل الذكر قال لهم إن الله عرف الذكر فى القرآن الكريم وهو القرآن الكريم نفسه وهو السنة النبوية المشرفة وذلك حينما قال: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم» وإمعانا فى كسر هيمنة أتباع المذاهب المتفرقة خاصة المذهب المالكى والذين أصبحوا كهنة جددا يتبركون بعباءة أئمتهم ويستسقون بها أوجب الإمام ابن حزم الاجتهاد حتى على الرجل العامى، قائلا فإن قالوا لك لا نقدر على الاجتهاد كذبوا فما يعجز أحد عن أن يسأل عن حكم الله ورسوله فى أى مسألة يفتيه فيها العالم، وبهذا أوجب على أى سائل أن يتحرى عن الأسس التى أفتى بها مفتيه.
وعلى هذا فقد أسقط ابن حزم الإفتاء بالرأى والقياس والاستحسان ما عدا «الكتاب والحديث» قائلا: إن من أفتى بالرأى فقد أفتى بغير علم ولا علم إلا القرآن والحديث» مستدلا على رجاحة رأيه بالآية التى تقول: «ما فرطنا فى الكتاب من شىء» وقوله تعالى: «فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» ويبرهن الإمام لرأيه أيضا بالاستدلال على ما أقر به جميع الأئمة من كراهة للفتوى وهو ما ثبت عنهم جميعا باختلاف طفيف فى طرائق التعبير يكفى مثلا أن نتذكر قول الإمام مالك «والله لوددت أنى ضربت بكل مسألة أفتيت فيها برأيى بسوط وسوط.. وليتنى لم أفت بالرأى».
وعلى هذا النحو أنتج الإمام كتبا غاية فى الأهمية فى تاريخ الفقه الإسلامية متبعا المنهج الظاهرى، منها كتاب الإحكام فى أصول الأحكام، وكتاب إبطال القياس والرأى والاستحسان والتقليد والتعليل، وكتاب «مسائل أصول الفقه» وكتاب «الإجماع ومسائله على أبواب الفقه» وكتاب «كشف الالتباس ما بين الظاهرية وأصحاب القياس» وكتاب المحلى بالآثار فى شرح المجلى باختصار» وهو من أهم كتبه وأشملها، ويبدو أن الأمام كان مجبرا على هذا الاتجاه لما رآه بعينه من تلاعب الفقهاء بالنصوص الإسلامية وإهمالهم لها، فى سبيل إعلاء رأيهم الذى كان فى الغالب ينفذ رغبات الحكام وأهوائهم، فقد شهد هذا العصر انتهاكا لحرمة القضاء بشكل مريب، وانتشرت ظاهرة تأجير منصب «القاضى» بما يسمى «الضمان» والضمان هو أن يدفع القاضى مبلغا ماليا مقدما كل سنة أو كل شهر للوالى ليضمن ألا يعزله، صار ذلك أمرا مألوفا كما صاروا يضمنون الشرطة والحسبة وكان هذا بداية ما قال عنه أحد المؤرخين «خراب الفقه بل الإسلام، ففساد الدين الطمع، وصلاحه الورع».
والناظر إلى هذا التوجه فى الفقه الإسلامى ربما يتوهم أنه كان توجها ضيقا وذلك لعدم اعترافه بأى شىء سوى النص، لكن فى الحقيقة فقد كان ابن حزم من أكثر الفقهاء اعتدالا وإدراكا لمتغيرات العصر وانفتاحا على فهم النصوص الإسلامية، فهو يرى مثلا أن الموسيقى ليست محرمة على الإطلاق، بل يرى أن الاستماع إلى الموسيقى مباح مثل التَّنَزُّه فى البساتين ولبس الثياب الملونة، أما الأحاديث التى وردت فى النهى عنها فيقول ابن حزم إنها ليست صحيحة فى مجملها وإن أغلب الأحاديث التى حرمت الموسيقى إما موضوعة أو منقطعة واحتج على مخالفيه بحديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن جاريتين كانتا تغنيان فدخل أبو بكر فنهرهما وقال: أبمزمور الشيطان فى بيت رسول الله فقال الرسول: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد». ومن المعلوم أن العيد لا يحل الحرام. وقد رد بعضهم الاستدلال بهذا الحديث بأن هذا غناء بلا آلات. وهذا خطأ لقوله: أبمزمور الشيطان؟ إذن هى مزامير. ولو قبلنا أن المقصود هنا هو الدف لتوجب أن تحمل النصوص التى يحتج بها المحرمون على نفس المحمل، وهكذا أخذ يفند الأحاديث واحدا تلو الآخر، حتى إنه رد الحديث الذى رواه البخارى معلقا فى صحيحه وقال إنه معلق وغير مسند. والمعروف أن المعلق نوع من الضعيف.
بالسنة النبوية المشرفة الصحيحة، وبكتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنشأ ابن حزم توجهه الذى أعلى فيه من قيمة الإنسان وقدس فيه كونه خليفة الله على الأرض معتبرا حرية الإنسان وتحرير إرادته أسمى آيات الإسلام، فكان يؤمن أشد الإيمان بمبدأ حرية الإنسان ومسؤوليته على أفعاله، متحديا بذلك مدعى الجبرية، ومحتجا عليهم كعادته بكتاب الله وسنته، ومؤكدا أن الإنسان صحيح الجوارح يتحكم فى أفعاله وحركاته بينما الجبرية تعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يتحكم فى أفعاله وهو ما تكذبه الطبيعة.
وانعكست نظرية الحرية تلك التى ساقها متحديا مدعى الجبرية على فقه الإمام وأحكامه التى استخرجها من القرآن، ويعد موقفه من مسألة العبودية سابقا لعصره بمئات السنين، فقد دعا إلى عتق العبيد والجوارى بكل الطرق الممكنة فاتحا باب العتق وموجها الدولة إلى لعب دور كبير فى هذا الشأن، وكان يؤكد أن العبيد لا يختلفون عن الأحرار فى شىء ولهم ذات الحقوق، بل قال فى أكثر من موضع إن من العبيد أتقياء وصالحين، وأفضل كثيرا من الأحرار، ولفتح باب التحرر من الرق أفتى بأنه إذا رغب عبد فى تحرير نفسه فعلى مالكه أن يساعده على ذلك ويحرم عليه أن يمنعه من التحرر، مستشهدا بالآية الكريمة التى تقول: «والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم مال الله الذى آتاكم» والأكثر من ذلك أنه أقر بحق العبيد فى الزواج من أربعة نساء، كما أجاز لهم أيضا أن يمتلكوا جوارى يتسرون بهن، قائلا إن الله حينما قال «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع» لم يخصص عبدا من حر فى ذلك، وكذلك الأمر فى شأن حق العبد فى امتلاك جارية، وبهذا فتح ابن حزم الباب لعتق العبيد من الرق بشتى السبل كما أنه ساوى بينهم وبين الأحرار فى الواجبات، غير أنه احتفظ لهم بمزية أن يعاقبوا نصف العقوبة إن أخطأوا وذلك لأن النص القرآنى أقر بذلك صراحة.
هكذا يجلو ابن حزم وجه الحقيقة الإيمانية الكبيرة ألا وهى أن «الإسلام دين الحرية» فقد عمد بكل السبل إلى تخليص البشرية من العبودية وصدر للعالم صورة الإسلام المضىء المبهر، ومن يطلب الحرية للغير فمن المؤكد أنه يطلب الحرية لنفسه، ولهذا نرى ابن حزم يتيح لنفسه حق الاختلاف مع أستاذه «أبا داوود الأصفهانى» فى كثير من المسائل مبررا ذلك بالقول «أبوسليمان داوود شيخ من شيوخى إن أصاب الحق فنحن أتباع للحق، وإن أخطأ اعتذرنا له واتبعنا الحق حيث فهمناه» وبناء على هذا التوجه أفتى ابن حزم بأن للمرأة كامل حقوق الرجل ولها أن تعمل مثلما يعمل الرجل فى كل المناصب من الحسبة إلى القضاء، عدا تولى إمامة المسلمين، لكن ما عدا ذلك فهو حق لها وعلى المجتمع أن يعينها على ذلك، كما أفتى بوجوب تقديس حرية الإنسان حتى وهو على فراش الموت، مقرا حقه فى أن يهب من يشاء من ثروته أو يوصى لمن يشاء بها أو يتزوج أو يطلق، وبالتوازى مع هذا التوجه المتحرر أفتى الإمام بأنه يحرم على أصحاب الآبار أى المستحوذين عليها أن يمنعوا الناس عنها ولهم فقط أن يأخذوا منها ما يسد حاجاتهم، كما أفتى بتحريم تأجير الأرض الزراعية وقال إن النظام الأمثل لاستغلالها هو المزارعة أو المشاركة، وهو ما جعل البعض يقولون إنه فى هذا التوجه «ينزع منزع الاشتراكية»
وبالطبع فقد انعكس هذا التوجه الحر على مواقف الإمام السياسية، فقد جاهر بنبذ الظلم والهجوم على ملوك الطوائف قائلا: إن كل مدبر «أى والى» مدينة أو حصن فى شىء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها خراب، محارب لله تعالى ورسوله وساع فى الأرض بفساد، يشنون الغارات على أموال المسلمين، ويبيحون لجندهم قطع الطريق، يضربون المكوس والجزية على رقاب المسلمين».. وقال ابن حزم فى رسالته: لا تغالطوا أنفسكم ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع المزيفون لأهل الشر شرهم الناصرون لهم على فسقهم.
وكنتيجة طبيعية لكل هذا الوعى المتفتح، وكل هذه الشجاعة الخارقة فى نقد الذات ونقد الآخر، استعدت آراء ابن حزم عليه الكثير من فقهاء السلطان فأخذوا يكيدون له حتى نالوا منه بأكبر عقوبة من الممكن أن تنزل على فقيه أو مفكر، لكن الإمام القوى الذى لم يقدر على أن يقف أمام شجاعة عقله أحد استهزأ بهذا الفعل أيما استهزاء، فسخر من مناصبيه العداء منشدا من شعره أبياتا حفظها التاريخ بكل فخر مثلما حفظ فقهه فقال الإمام:
إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذى/تضمنه القرطاس بل هو فى صدرى
يسير معى حيث استقلت ركائبى/وينزل إذ أثوى ويدفن فى قبرى
وائل السمرى يكتب: أئمة التنوير.. أقضى القضاة الإمام أبوالحسن الماوردى.. فصل بين الشريعة والسياسة قائلا: الأدب أدبان.. أدب شريعة وأدب سياسة فأدب الشريعة ما أدّى الفرض وأدب السياسة ما عمّر الأرض
الثلاثاء، 31 يوليو 2012 - 09:00
الإمام أبوالحسن الماوردى
◄أكد أن الحكم يعتمد على العقل والعدل قائلا: والعدل صورة العقل وبه عمرت الأرض وقامت الممالك وانقطع العباد
◄أفتى بأحقية تمليك الأرض لمن يزرعها دون إذن الحاكم وأقر حق الدولة فى تأميم بعض الممتلكات تحت مبدأ المنفعة العامة
حكيم، يعرف مقدار الكلام ومعناه، أديب، تجد المأثورات الأدبية والأبيات الشعرية منسابة على لسانه وقلمه وكأنها جزء منه وهو جزء منها، بليغ، يوجز فى جملة ما يقوله الآخرون فى كتاب، عالم وحافظ ومحدث وفقيه، حمل لواء فقه المذهب الشافعى فكان من أفضل نجبائه، سمى بأقضى القضاة لعظيم مكانته وقوة شخصيته وفاعلية تأثيره على المجتمع، يعرف الملوك ويعرفونه، لكنه لا يسمح لنفسه بالذوبان فى معية ملك، ولا يسمح لأحد أن يتلاعب بمكانته العلمية والدينية، يعرف قيمة العقل ويقدسه، ويعده أس الفضيلة وينبوع الأدب، ويردد القول بأن الله تعالى جعله «للدين أصلا وللدنيا عمادا» ويستشهد على ذلك بأن التكليف لا يكون إلا لكامل العقل، وبه دبر الدنيا وأدارها وجمع بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم، يحفظ من الأحاديث ما يؤكد أن العقل هو أساس الآدمية وزينتها «ما اكتسب المرء مثل عقل يهدى صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى فلكل شىء دعامه ودعامة عمل المرء عقله»، كما يردد قول العلى القدير: «لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير» ويقول: العقل خير المواهب والجهل شر المصائب.
هو أبوالحسن على بن محمد بن حبيب البصرى الماوردى المولود فى البصرة عام 364 هجرية والمتوفى فى العام 450 هـ، صاحب تفسير الماوردى، وكتاب «أدب الدنيا والدين»، و«الأحكام السلطانية»، وصاحب كتاب الحاوى الكبير فى فقه الشافعية الذى يعد من أهم وأكبر مراجع هذا المذهب الكبير، والأهم من كل هذا هو منشئ علم السياسة الإسلامية وصاحب التحليلات والتنظيرات المدنية التى تكاد تقترب فى حداثتها ومرونتها وقابليتها للتنفيذ من التيارات السياسية المعاصرة، وتستفيض كتب السيرة والتاريخ والتراجم فى ذكر محاسن هذا الرجل، حتى إن «ابن كثير» يقول عنه فى البداية والنهاية: «اشتهر بالحلم والوقار والأدب والتعفف عن سؤال الغير فلم ير أصحابه ذراعه يوما من الدهر من شدة تحرزه وأدبه».
هذا هو الماوردى الذى يعده الفقهاء فقيها مجتهدا، ويعده أهل الحديث محدثا ثقة، ويعده أهل السياسة منظرهم الأول وحامل راية الريادة، وفى الحقيقية فقد بدأ الجنوح إلى الكتابات السياسية فى القرنين الرابع والخامس الهجرى وتأليف الكتب ذات الصبغة الاجتماعية التى تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ظاهرة تستحق الدراسة، فقد كتب عشرات الفقهاء والمؤرخين كلاما يحمل توجها حقيقيا نحو إصلاح المجتمع سياسيا، فترى توجها على هذه الشاكلة عند العامرى والجوينى وابن قتيبة الدنيورى، والفارابى، والغزالى، وابن طباطبا، وغيرهم الكثير، وأعتقد أن سبب انتشار هذا التوجه هو بداية ظهور الانشقاقات الكبرى فى الدولة الإسلامية، فمن ناحية أسهم هذا فى تخفيف قبضة الحكام على الكتاب والفقهاء والمثقفين، ومن ناحية أخرى بدت الحاجة ماسة لمثل هذه المؤلفات لاستشعار الفقهاء الخطر من تبديد الأمة الإسلامية، فسعوا جاهدين إلى إعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتأصيلها.
ويبدو لى أن هناك سببا لكل هذا النشاط السياسى الفقهى، وهو أن علماء الأمة ومفكريها قد أيقنوا من أنهم وقعوا فى فخاخ الحكام الذين كانوا يستثمرون الاختلافات المذهبية ليوطدوا دعائم حكمهم ليجد كل حاكم ما يبرر وجوده شرعيا باعتباره حامى حمى المذهب، فقد رأينا فى عصر الأئمة الكبار «أبوحنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل» كيف كانوا يحترمون بعضهم البعض، وكيف كانوا يتتلمذون على يد بعضهم البعض، لكن هذا ما لم يدم، وسرعان ما تحول الخلاف المذهبى إلى أداة لإشعال الفتن ورمى الاتهامات التى طالت العديد من الفقهاء والأئمة، فاتهم أبوحنيفة والشافعى بالتشيع، وكما اتهم مالك وابن حزم بأنهم «ناصبيين» الذين يناصبون الإمام على العداء، كما طالت الماوردى نفسه فقيل عنه إنه «معتزلى» لأنه يعمل العقل وهى التهمة التى نفاها عنه الخطيب البغدادى صاحب «التاريخ الكبير» وأحد تلامذته، وهو ما وجده الحكام فرصة طيبة لإلهاء الناس عن أمور السياسية بتناحرات أشبه بتناحر فرق الكرة فى أيامنا هذه، ومثلما قادت كرة القدم إلى حروب وصراعات، قاد التعصب المذهبى أيضا لمثل هذه الفتن والاضطرابات، فما لبث المجتمع الإسلامى أن يتخلص من بعض آثار الفتة الكبرى، حتى وقع فى فتنة المذاهب، وبدلا من أن تصبح المذاهب الفقيه سبلا لفهم الدين والتفقه فيه صارت لعبة فى أيدى من يريد أن يتسلط على البلاد ويأمر فى العباد، وهو ما التفت إليه علماء الأمة وفقهاؤها فوجهوا دفة الاجتهاد ناحية تنظيم الحكم وتوجيه الحاكم لعل الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالإيمان.
ويدلنا «عصر الماوردى» على ما وصل إليه المجتمع الإسلامى من تناحر وتصارع وفتن، فالخليفة العباسى الذى كان مصدر قوة الدولة ومحل فخارها أصبح لعبة فى يد الأتراك مرة وفى يد الفرس والديالمة مرة أخرى، كما شهد هذا العصر العديد من الحوادث المريرة التى أدت إلى تفسخ المجتمع وتشتته، فسارت الأحوال من سيئ إلى أسوأ، فاضطربت أحوال الجند، وزاد نفوذ الأتراك، وزادت الفتن والشائعات والمؤامرات سواء من الداخل أو من الخارج، وزادت المواجهات بين السنة والشيعة، ووقعت الفتن بين الحنابلة والأشاعرة، وأخرى بين المسيحيين والهاشميين، وفى أوائل عصر الماوردى وقعت فتنة القرامطة ومذبحتهم الكبرى فى الكوفة، وفى أواخر أيام الماوردى شهد اشتداد نفوذ الدعوة الباطنية على يد الحسن بن صباح، وشهد أيضا وقوع الفتن بين الديالمة والأتراك، والأتراك والهاشميين، كما كثرت الحروب بين أمراء الدولة البويهية التى كانت تتحكم فى الخليفة العباسى.
شهد الماوردى كيف أدت الفتنة بين الشيعة والسنة إلى حرق الأسواق وسفك الدماء فى الشوارع وتعليق الجثث على القناطر، كما شهد نشر الحنابلة الرعب فى قلوب الناس حتى كان الأشاعرة يتأخرون عن صلاة الجمعة خوفا من الحنابلة، كما شهد كيف تنفجر الفتن الدينية بين المسلمين والمسيحيين للدرجة التى جعلت مسيحى يضرب مسلم فيقتله، فتثور ثائرة المسلمين ويتهجمون على بيوت المسحيين وكنائسهم ليحرقونها رافعين المصاحف فى الأسواق، هذه الحوادث وغيرها جعلت عقل الماوردى الفقهى يلتهب، ليسهر الأيام والليالى واضعا كتبه السياسية.
رأى الماوردى كيف يستولى السلاطين والخلفاء على الحكم مدعين حرصهم على إقامة الشريعة ونصرة الفقراء ثم لا شريعة تقام ولا فقير ينتصر، ورأى كيف قصور الأمراء عامرة، وبيوت الفقراء مقفرة، فاستعان بالله على كتابة دستور الدولة الإسلامية التى يراها ويريد تحقيقها، وفى الحقيقة لم يكن ليتسنى للماوردى أن يمضى فى هذا المشروع الكبير إلا لأنه كان مجتهدا يعلى من شأن العقل ويراعى أحكام الظروف والأحوال، فيروى عنه أن أحد المتشددين قال له يوما: أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع، فقال له وهو بالثقة ملآن: بل أجتهد ولا أقلد. فقد كان على يقين من أن فطرة الإنسان هى الإسلام لذلك يحرض الناس على اتباع فطرتهم قائلا إن الفطرة تستحسن الفضائل وتستقبح الرذائل، مؤكدا أن الله «جَعَلَ إلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِنْبَاطَ مَا نَبَّهَ عَلَى مَعَانِى القرآن، وَأَشَارَ إلَى أُصُولِهِ بِالاجْتِهَادِ فِيهِ» وهذا سبب من الأسباب التى ترفع المجتهد على من دونه تحقيقا لقوله تعالى «يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ».
ولم يكن للماوردى أن يأتى بمثل ما أتى من كتابات واجتهادات إلا لأنه كان قاضيا مستقلا، يعرف متى يجلس مع الحكام ومتى يبتعد عنهم، ومتى يصلح بين الأمراء ومتى يقف لهم بالمرصاد، فتدل قراءة سيرة حياة الإمام الماوردى على أنه كان «رجل دولة» بالمعنى الحديث للكلمة، إذا ما تناحر الأمراء يوسطونه فيما بينهم، وإذا عصيت الجند هدأ من فورتهم.
لكنه مع ذلك كان شديد الاعتناء بنفسه شديد الاعتزاز بعلمه، وينسب له إنه قال:
وفى الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم دون القبور قبور
وإن امرأ لم يحيى بالعلم صدره فليس له حتى النشور نشور
ويروى للتدليل على اعتزازه بعلمه ودفاعه عنه أن الملك جلال الدولة بن بويه سأل الخليفة أن يزيد فى ألقابه بلق «شاهنشاه» أى ملك الملوك، فرضى الخليفة ودعا له الشيوخ على المنابر بهذا اللقب، وهو ما أثار استياء بعض الفقهاء وعلى رأسهم الماوردى، ذلك لأنه لا يجوز لأحد أن يتلقب بهذا اللقب إلا الله، وهو ما أثار ثورة الناس بالتبعية، ولوأد غضب الناس سارع «جلال الدولة» إلى الفقهاء ليستصدر منهم فتوى تجيز له التلقب بهذا اللقب، فطاوعه عدد من الفقهاء مثل الصيمرى الحنفى وأبوالطيب الطبرى، وشيخ الفقهاء الحنابلة التميمى، لكن الماوردى أبى أن يرضى، وتشدد فى ذلك برغم أن كان بينه و«جلال الدولة» احترام ومودة.
«الأدب أدبان، أدب شريعة وأدب سياسة، فأدب الشريعة ما أدّى الفرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل الذى به سلامة السلطان وعمارة البلدان، لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرّب الأرض فقد ظلم غيره».. هكذا يطلق الماوردى صيحته العالية فى كتابه أدب الدنيا والدين واضعا بتلك الجملة أول بوادر منهج فصل الدين عن السياسة، وقد كان الجميع قبله يمزجون بينهما مزجا تاما، لكنه فى ذات الوقت لم يتجاهل تاريخه العربى ولا هويته الإسلامية، فيؤكد أن العدل هو الحامى الأول للدولة والحاكم على حد سواء، فى إطار من المرجعية الدينية التى تنظم العلاقة بين العبد وربه ومجتمعه وترسى منظومة القيم العليا التى تحافظ على المجتمع وسلامته، ليرمى بذلك أول بذرة فيما عرف بعد ذلك بمقاصد الشريعة، ملقيا بتأثيره على العديد من المؤرخين والمفكرين والفقهاء مثل ابن خلدون والغزالى والعز بن عبد السلام والشاطبى.
ويضع الماوردى أسس صلاح المجتمع فى «أدب الدنيا والدين» قائلا: اعلم أن ما به تصلح به الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة ستة أشياء: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح» وهذه الأشياء الستة هى الشروط الواجبة لإصلاح الدنيا، لا يجوز تحقيق واحد فيها دون آخر وإلا انقلبت المعادلة، فالسلطان القاهر دون دين وعدل يصبح مستبدا، ودين دون عدل لا يستقيم، وعدل دون دين لا يتحقق، وكل هذا دون أمن لا ينفع، وبدون خصب ونماء وتطور لا تقوم المجتمعات، ويدخل الماوردى فى غمار الجدل القائم حول المرجعية التى يحكم بها الحاكم أو الإمام، فيقول إن هناك طائفة ترى أن الحكم بالشرع دون العقل، وأخرى تقول بالعقل دون الشرع، فحاول أن يمزج بين الطرحين فيقول إن الشرع فوض الحكم فى هذا الأمر آمرا العباد بأن تطيع «ولى الأمر» الذى يأخذ بمقتضى العقل «فى التناصف والتواصل ويتدبر بعقله لا بعقل غيره»، لكنه مع ذلك لا يترك الحبل على غاربه لولى الأمر بل يحدد له شروطا يقيم بها حكمه، أولها العدالة، وثانيها العلم، وثالها سلامة الحواس، ورابعها سلامة الأعضاء، وخامسها حسن الرأى، وسادسها االشجاعة وسابعها أن يكون قريشيا وهو الشرط الذى تجاوزه الزمن وقتله الفقهاء بحثا واستدلوا على عدم وجوبه بحديث الصحابى الجليل عمر بن الخطاب الذى كان يريد فيه أن يولى سالم مولى حذيفة الحكم، ويعود الماوردى إلى شرط العدل فى الإمام معليا من شأن العقل مرة أخرى قائلا: ومن معانى العدل القيام بالواحب والتسوية والمعرفة وهو الحكم بالحق بحيث لا يميل إلى أحد الجهتين، والعدل صورة العقل الذى وضعه الله عز وجل فى أحب خلقه إليه، وبالعدل عمرت الأرض وقامت الممالك وانقطع العباد، ليس هذا فقط بل يأمر الماوردى الحكام بأن يأمروا بالشورى، وهى التى يصل بها الحاكم إلى قوانين التنظيم العادل الذى يجمع الأمة ولا يفرقها، والكفيلة بأن تقضى على عدو الإنسانية الأول وهو الاستبداد.
وكما يقر الماوردى بسلطة السلطان وأحقيته بطاعة الناس بعد أن يتوافقوا على اختياره وإقامة البيعة له يقر أيضا بأحقية الناس فى عزل السلطان إذا تغير حاله بعد اعتلائه سدة الحكم فيقول: وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم ووجبت له عليهم حقان الطاعة والنصر لما لم يتغير حالة... والذى يتغير به فيخرج به عن الإمامة شيئان: الجرح فى عدالته، والنقص فى بدنه.
قد سبق الماوردى بهذه النظرية أعلام الفكر الديمقراطى الأوروبى، مثل جون لوك وجان جاك روسو إذ يقر بحق الناس فى اختيار حاكمهم وحقهم فى عزله أيضا، وسبق المجتمع الأوروبى أيضا ومفكرى القانون الدولى فى وضعه لآداب الحرب، ونهيه عن قتل الأسرى ومنع التخريب وعدم قتل الشيوخ والرهبان والنساء والأطفال والمدنيين من العمال والفلاحين.
أما فى الإطار المجتمعى فقد حرص الماوردى على إفشاء قيم الإخاء والمساواة، حتى قال عنه بعض الباحثين إن كان ناحية الاشتراكية، فكان كثيرا ما يستشهد بحديث رسول حينما قال: «الا أُنْبِئُكُمْ بِشِرَارِ النَّاسِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَمَنَعَ رِفْدَهُ وَجَلَدَ عَبْدَهُ ثُمَّ قَالَ: ألا أُنْبِئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَه»، وهو بذلك يحض الناس على المشاركة فى الطعام وما سواه كما يحضهم على التراحم وعدم منع الخيرات، ومن ضمن منظومة الفضائل الإسلامية التى تقترب من الروح الاشتراكية التى زكاها الماوردى فضيلة عدم أكل الأموال بالباطل، والوفاء بالعهود للعمال وحث الناس على العمل، كما أقر بأحقية تمليك الأرض لمن يزرعها دون إذن من أمير ولا إمام، مفتيا بأن محيى الأرض «أى زارعها ومعمرها» أحق بها من محتكرها، كما أقر الماوردى مبدأ المنفعة العامة، مفتيا بأن من حق الحاكم أن يمنع إحياء أرض لتبقى مرعى، كما أقر حق الدولة تأميم بعض الممتلكات تحت مبدأ المنفعة العامة دون ظلم أو تجن، قائلا إن الشريعة تبيح للحكام أن يأخذوا من الأغنياء «فضول أموالهم»، أى الزائد عن حاجتهم، ورده عليهم فى عوام مصالحهم من تحصين دمائهم وتثمير أموالهم وإيمان سبلهم ودفع معرة أعدائهم وقمع ذعارهم، كما أوجب الإمام الماوردى على الإمام أو الحاكم أن يساعد الفقراء والمحتاجين وأن يتكفل بهم ليتمتعوا بالعيش الكريم، كما أوجب عليه تزويج غير القادرين، ودفع ديون الفقراء من بيت المال، ويقول الماوردى فى كتابه «نصيحة الملوك»: فليعلم الملك أن كل فقير فى الإسلام، وغارم، وابن سبيل، وأسير، وغاز فى سبيل الله، ومسكين، خصماؤه عند من لا يظلم مثقال ذرة، وما هو بظلام للعبيد.
وائل السمرى يكتب: فقهاء التنوير..حجة الإسلام.. أبوحامد الغزالى..المنقذ من الضلال.. قدّس العقل وجعله مساوياً للقرآن فى الإعجاز وقال إنه «أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة وحامل الأمانة» وجعل منه قاضياً
الأربعاء، 1 أغسطس 2012 - 10:20
أبوحامد الغزالى
بقلم وائل السمرى _ نقلاً عن العدد اليومى
◄قال إن من يحفظ الأحاديث النبوية ويرددها إنما هو «وعاء للعلم وليس عالماً».. وقال إن المتعصبين لمذهب أو شخص واحد أقرب إلى الكفر والتناقض
◄أفتى بتفضيل إطعام المساكين وإغاثة الضعفاء والمرضى وتسديد ديون المعدمين على الحج المتكرر وقال إن إدخال السرور على قلب المسلم أفضل من مائة حجة
يحبه المتصوفة ويضعونه فى مراتب الصديقين، ويبجله الفقهاء واضعين إياه فى المراتب الرفيعة، ويدرسه المتفلسفون ليستخلصوا من حكمه ومجادلاته فلسفة إسلامية خالصة، ويعشقه الناس لما رأوا فيه من حب لدين الله، وتفان فى سبيله، وشجاعة فى الذود عنه. هو واحد من أؤلئك الذين زخرت كتب التراث بأوصافهم وخلعت عليهم من الألقاب ما يجعل الواحد مجبرا على الالتفات إليه، فهو حجة الإسلام وهو زين الدين، وهو ناصر الدين، وهو محيى علوم الدين، وهو المجدد والفقيه والصوفى والعالم والفيلسوف والقاضى والناصح. يقول عنه العلامة الطرطوشى إنه اجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلم، ويشهد له الإمام ابن الجوزى بأنه وضع الكتب الحسان فى الأصول والفروع التى انفرد بحسن وضعها وترتيبها وتحقيق الكلام فيها، أما الإمام الذهبى فيقول إنه «أعجوبة الزمان، وزين الدين، أبوحامد صاحب التصانيف والذكاء المفرط»، أما الحافظ ابن كثير فيعتبره من أذكياء العالم فى كل ما تكلم فيه، وهو الفقيه الشافعى الكبير الذى يقول عنه الإمام العلامة السبكى إنه حجة الإسلام وجامع أشتات العلوم والمبرز فى المنقول منها والمفهوم، كما أنه ولى من أولياء الله الصالحين وأحد الصديقين، وقال عنه العارف بالله المتصوف الكبير أبوالعباس المرسى: أشهد له بالصديقية الكبرى، أما ابن النجار فيقول فيه إنه «إمام الفقهاء على الإطلاق، وربانى الأمة بالاتفاقو ومجتهد زمانه وعين وقته وأوانه».
أبوحامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزّالى الطوسى النيسابورى، الفقيه الصوفى الشافعى الأشعرى، الملقب بحجة الإسلام وزين الدين «450 هـ - 505 هـ» الذى اتفقت الأمة على أنه مجدد القرن الخامس بلا منازع، ولد فى خرسان ونشأ فى بيت فقير لأب يصنع الغزل، ويكد من أجل لقمة العيش، وأدى به الفقر والحاجة إلى إيداع ابنه الذى سيصير فيما بعد «حجة الإسلام» فى مدرسة تتكفل بتعليم الفقراء واليتامى وإطعامهم، لكن ها هو الفقير يغنى بالعمل، وها هو المحتاج يسد حاجة الأمة، فقد بدت عليه علامات النبوغ وسمات العبقرية وهو مازال شابا حتى قال له إمام الحرمين الإمام العلامة أبوالمعالى الجوينى حينما أعجب به: قتلتنى وأنا حى؟ هلا صبرت حتى أموت؟
ويمثل الإمام الغزالى ظاهرة نادرة فى الثقافة العربية، فنادرا ما ترى رجلا يجمع الجميع من مختلف المشارب والحقول والتخصصات على علمه وفضله وإخلاصه واجتهاده مثلما أجمع العلماء على أبوحامد الغزالى، حتى قال عنه شيخ الأزهر مصطفى المراغى إنه جملة رجال فى رجل واحد، كما يذكره أبوالأعلى المودودى ضمن الأعلام المعدودين الذين كان لهم دور بارز فى إحياء الدين وتجديده، وقال عنه الإمام محمد أبوزهرة إنه فى أصول الفقه فيلسوف بين الفقهاء، وفى فروعه محقق يتبع الدليل ولا يتبع الأشخاص. ولا يتوقف الإعجاب بشخصية الغزالى وعلمه عند رجال الدين والفقه فحسب، وإنما يتعداهم أيضا إلى رجال الأدب والفكر والفلسفة، فيقول عنه الأديب الفذ عباس محمود العقاد: «هو الفيلسوف الذى اكتملت له كل أدوات الفلسفة من القدرة على التجرد والقدرة على التجريد»، ويقول عنه عالم النفس أحمد فؤاد الإهوانى: «إنه مؤسس علم النفس الإسلامى»، كما يصفه الدكتور زكى نجيب محمود، رائد الفكر الفلسفى المصرى، بأنه «العملاق العظيم» ملخصا حياته بعد فترات الشك ووقوع اليقين بأنه وصل إلى القاعدة الأجمل «أنا أريد إذن أنا إنسان».
كل هذا التقدير وكل هذا الاحتفاء قديما وحديثا حازه «حجة الإسلام» وأكثر، ولعلنا الآن أحوج ما نكون للنظر فى حال شخصية كهذه، شخصية جمعت الجميع تحت لوائها، يدين له بالفضل المتفلسف متبع الفلاسفة والمتسلف متبع السلف على حد سواء، فهو الذى وصل إلى أصل العلوم وحكمتها، وهو الذى أبحر يبحث عن الحق فوجده حقا ورزقه الله اتباعه، بدأ من الشك فى الوجود والموجودات، ووصل إلى أعلى مراتب اليقين بالله وملائكته ورسله، ونحمد الله أن هذا العالم المعلم الخبير الحازم لم يولد فى عصر كعصرنا هذا، إذ ليس ببعيد أن يغتاله أحد المتطرفين إن لاقاه فى فترة شكه، فيحرم البشرية من هذا العلم الكبير والفضل الواسع.
إن أردت أن تعرف أبوحامد الغزالى حقا فانظر إلى جملته هذه حتى تدخل إلى عالمه، وتستوعب فكره، وتقتضى بنور إخلاصه فى السعى وراء الحكمة التى أتاها له الله وهو «يؤتى الحكمة من يشاء» إذ يقول الإمام حجة الإسلام
«لا أغادر باطنيا- يتبع المذهب الباطنى- إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا- يتبع المذهب الظاهرى- إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد فى الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته»، ويدلنا الاقتباس السابق على أن الإمام ما كان ليطرد أحدا من رحمته، ولم يكن يتعامل مع المختلفين عقائديا ودينيا ومذهبيا باعتبارهم «ملعونين»، ولكنه كان ينظر إليهم نظرة العالم المستوعب المستفسر السائل المجرب، يريد أن يعرف، والمعرفة هى أول طرق اليقين، كان ينظر إلى أفكارهم ولا ينظر إلى شخوصهم، ذلك لأن الفكر هو الباقى، والشخص هو الزائل، إن أحب فكرة هضمها وتقمصها واستوعبها واعتقد فيها، وإن استقبح فكرة جادلها وفندها بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو فى تقبله للآخر ومحاورته له يثبت ما قاله عنه الإمام «المراغى» من أنه عدة رجال فى رجل واحد، فقد أخذ من كل فكرة أحسنها، ووقف على سر تشتت الناس فجعله سرا لتجميعهم، وقديما قالوا إن «الليث عدة خراف مهضومة»، وإن أردنا تطبيق هذه المقولة على إمامنا فسنجد أن «الخراف» هى الأفكار التى استوعبها ودرسها وسمعها من أهلها، والنتيجة الطبيعية أن يصبح أبوحامد هو «الليث الموعود».
السؤال الملح هنا هو: ما الذى أوصل «حجة الإسلام» إلى اعتلاء هذه المكانة، وبلوغ هذه المنزلة التى جعلت الجميع يشيد به على اختلاف ألوانهم؟، والإجابة التى تجدها عند الإمام واضحة لا زيغ فيها هى «العقل».. نعم العقل هو معلم أمام المعلمين، وهو السراج الذى اهتدى بنوره، وهو الرسول الأبدى الذى أودعه الله فى كل واحد منا ليهديه إلى سواء السبيل، إذ لم يقدس الإمام الغزالى فى كل كتبه إلا الله والرسول والعقل، بل أنه يعليه على ما عاداه حتى أنه يعتبره القاضى، ويعتبر الشرع هو الشاهد فيقول: «أما بعد فقد تناطق قاضى العقل وهو الحاكم الذى لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور ومحل تجارة لا سكن وعمارة»، بل إنه يرفع العقل إلى درجة لم يسبقه فيها سابق، حيث يقول: العقل هو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة وحامل الأمانة!
ويبرز الإمام دور العقل فى الإيمان بالله ورسله وآياته وقرآنه مازجا بين دور العقل ودور النقل، ومؤكدا أنه لا يستقيم أحدها دون الآخر، بل إنه يضع العقل فى مقابلة القرآن، ويشير لهما بأنهما «أصلين» كما لو كان يساوى بينهما فى إعجاز الله فى خلقهما، واعتماد البشرية عليهما، فيقول: «لا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن العقل، فالداعى إلى محض التقليد مع عزل العقل جاهل، والمكتفى بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعا بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية» ولا يكل الإمام ولا يمل من تكرار العبارات التى تدل على تقديسه للعقل البشرى، وجعله مساويا للتشريع، فيقول إن الشرع كنور الله والعقل كالعين التى تنظر هذا النور، ولا فائدة للنور من دون البصر، ولا فائدة من البصر من دون النور.
ويمضى الإمام ليفند حجج من يدعون أن الدين لا يقبل إعمالا للعقل فيقول: «وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن، وهو ظن صادر عن عمى فى عين البصيرة نعوذ بالله منه»، بل يتمادى الإمام فى الهجوم على هؤلاء ويعتبر من يدعو إلى تعطيل العقل فكأنما يدعو إلى الكفر، مؤكدا أن العقل هو سبيل الإيمان وغلقه هو سبيل الانسلال من الدين، فيقول: «بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض، فيعجز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض فى الدين فيتحير به، فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين».
ولا يحارب الإمام شيئا مثل محاربته تعطيل العقل، إلا آفة التقليد التى أصابت المجتمع الإسلامى، فتاه الناس بين المذاهب والتفريعات والتفصيلات التى أغرقت الحياة الاجتماعية بالمنازعات البالية، مستنكرا أن يقلد مسلم رجلا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشيرا إلى أن الصحابة لو قلدوا فيكون تقليدهم بما أدركوه من معرفة وسماع لرسول الله، وبهذا يصبح تقليد الصحابة هو تقليد لرسول الله، ولا يكتفى الإمام باستنكار تقليد أحد إلا الرسول، بل يأمر من يقلد رسول الله بألا يقلده دون علم واستبصار، فيقول: وينبغى على المقلد لرسول الله «أن يكون حريصا على فهم أسراره» موجبا على المؤمنين أن يبحثوا «عن أسرار الأعمال والأقوال لا منطوقها فحسب، مؤكدا أن من يحفظ الأحاديث النبوية ويرددها إنما هو «وعاء» وليس عالما، لأنه «لا يسمى عالما إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار»، ولا يتورع الإمام من إظهار ضيقه وملله من «المقلدين» ويعتبرهم «قاصرين»، مطالبا إياهم بالسكوت قائلا: «وشرط المقلد أن يسكت، ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج»، أى تبادل الحجج والمناقشة، ويرصد الإمام ظاهرة أن المقلدين هم أكثر الناس تعصبا وتجمدا، ويكتب هذا بلغة تكاد تتطابق على بعض المنتسبين للإسلام الآن، فيقول: «المقلد يقلد مذهبا سمعه وجمد عليه، وثبت فى نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة»، مؤكدا أن المقلدين يحرمون أنفسهم من الاستمتاع بنور برق المعرفة، ساجنين أنفسهم فى ضيق مذهبهم، متخيلين أن المعرفة «من غرور الشيطان»، فيبتعدون عنها بفعل شيطان جديد يطلق عليه اسم «شيطان التقليد» لشيخ واحد أو مذهب واحد يتعصب له ولا يسمع إلاه، مؤكدا أن هذه الحال هى إلى الكفر والتناقض أقرب منها إلى الإيمان والتناغم.
ولنا أن نعرف مدى ضيق الإمام بالمقلدين المتعصبين إذا لاحظنا آخر كلمة فى الفقرة السابقة، إذ يقرر الإمام أن هؤلاء المتعصبين «أقرب إلى الكفر» وهذا الوصف هو أقصى ما يستطيع الإمام أن يرمى به إنسانا، وهو الذى عاش يحارب فكر التكفير بكل قوة وحجة، يحرم أن يتم تكفير أحد يقول لا إله إلا الله، وكانت قد انتشرت فى عهده ثقافة التكفير وكل طائفة تكفر الأخرى بلا أدنى امتعاض، فأطلق الإمام صرخته قائلا: «إنه لا تكفير لكل من يشهد بأنه لا إله إلا الله»، مؤكدا أن «الخطأ فى ترك ألف كافر فى الحياة أهون من الخطأ فى سفك محجمة من دم مسلم»، ولا يتحسر الإمام على شىء قدر تحسره على انتشار ثقافة التكفير بشكل سرطانى فى المجتمع المسلم، فيقول: «الحنبلى يكفر الأشعرى زاعما أنه كذب الرسول فى إثبات الفوق لله تعالى، والأشعرى يكفره زاعما أنه مشبه، والأشعرى يكفر المعتزلى زاعما أنه كذب الرسول فى جواز رؤية الله تعالى، والمعتزلى يكفر الأشعرى زاعما أن إثبات الصفات تكذيب للرسول فى التوحيد»!
ولم يحارب الإمام المقلدين للسلف بغير علم فقط، بل ألّف المؤلفات فى الهجوم على الفلاسفة والباطنية وكل من يخلط الإسلام بغيره من العلوم الدنيوية، وفى ظل سجالات طويلة ومعارك شهيرة لعل أشهرها ما وقع بينه وبين ابن رشد، حينما أصدر الإمام «تهافت الفلاسفة» فأصدر ابن رشد «تهافت التهافت»، لكن برغم تلك الحرب الفكرية الشهيرة لم يعترض على الفلسفة من حيث هى مبحث مستقل بذاته من مباحث التأمل والتفكير والعلوم، ولكنه غضبته الكبرى كانت ضد من يحاول أن يخلط الفلسفة بالدين وهما من منبعين مختلفين لا يجوز لأحدهما أن يمتزج بالآخر، لكن على الرغم من هذه الحرب فإن الإمام الغزالى نفسه أصبح فيلسوفا كما قال عنه أحد المستشرقين، ذلك أنه بدفاعه عن الإسلام ضد المدخلات الفلسفية بمنطق الفلاسفة بنى فلسفته الخاصة التى ميزته عن أقرانه.
ومن ضمن الفئات التى حمل عليها الإمام حجة الإسلام، العلماء والأمراء، وذلك لأنه لاحظ تفشى ظاهرة علماء السلطان الذين يستعين بهم السلاطين والملوك على الفساد والإفساد، قائلا: «أما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، ولو صدقوا وقصدوا الحق لأفلحوا»، ويصل إلى الحد الأقصى فى الهجوم على العلماء، محملا إياهم مسؤولية انهيار المجتمعات، قائلا إن فساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء،
وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والرؤساء؟!، وتصديقا لهذا المنطق السوى الذى يرفع من شأن العالم على ما سواه حفظ التاريخ الكثير من المواقف المشرفة للإمام الغزالى فى وجه أمراء عصره، منها موقفه مع السلطان سنجر السلجوقى الذى قال له: أسفا.. إن رقاب المسلمين كادت تنقض بالمصائب والضرائب، ورقاب خيلك كادت تنقض بالأطواق الذهبية.
وبرغم صوفية الإمام وانشغاله بتجديد الفكر الإسلامى وتنقيته من الشوائب، فإنه كان كما يقول فقهاء عصره «إمام الفقهاء»، لكن منهج الإمام فى فقهه ابتعد عن المعنى المتداول عن الفقه من حيث هو إسراف فى التفصيلات، وتقييد بالجزئيات، وبرغم أن للإمام كتبا فقهية سارت على النحو النمطى، لكن يجمع الكثير من العلماء والمتخصصين على أن شذرات فقهه المنسابة فى كتبه خاصة «إحياء علوم الدين» أصدق فى تعبيرها عن فقه الإمام، فهو مثلا فى فقه العبادات يرى أن الوضوء قبل أن يكون تطهيرا للخارج فهو تطهير للداخل، وفى فقه المعاملات يدل الناس على الطريق القويم، والمنهج العام الذى إذا ساروا فيه ربحت تجارتهم بأن يحسنوا النية ويحدوا أنفسهم عن الطمع، محذرا إياهم من أن يستغنوا بسوق الدنيا عن سوق الآخرة.
ويضع الإمام فى كتبه ما يمكن أن نطلق عليه اسم «فقه الأولويات» فنجده يقر بأنه إن استحالت الواجبات كلها فيجب على المسلم أن يرتبها حسب الحاجة إليها، فنجده مثلا يقول: تقدم الفرائض على النوافل، وتقدم فروض الأعيان على فروض الكفاية، ويقدم فرض الكفاية الذى لا قائم به على ما قام به غيره، ويقدم الأهم من فرض الأعيان على ما دونه، وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت. ويتخذ من حديث رسول الله عن تفضيل الأم على الأب فى الصلة، فيقول: «ينبغى على الإنسان أن يبدأ فى الصلة بالأقرب، فإن استويا فبالأحوج، فإن استويا فبالأبقى»، ولا يتورع الإمام الذى رأى الفقراء يموتون جوعا ومرضا فى الإفتاء بتفضيل التصدق على الفقراء بأموال الحج إن أدى الإنسان الفرض، قائلا إن الأفضل لمن يحج وينفق ألفى درهم أن يسد دين مدين، أو يكفى فقيرا عن التشرد، أو يغنى عائلا عن السؤال، أو يفرح من يربى اليتيم، قائلا إن إدخال السرور على قلب مسلم أو إغاثة لهفان أو كشف الضر عن إنسان وإعانة الضعيف أفضل عند الله من مائة حجة بعد حجة الإسلام. كما حارب الإمام الأغنياء البخلاء الذين «يمسكون الأموال بحكم البخل» ثم يشتغلون بالعبادات البدنية كالصيام والقيام وختم القرآن، قائلا إنهم «مغرورون مخدعون»، كما أمر الإمام بترك نافلة الحج والعمرة إذا غالى أمير مكة فى فرض الضرائب على الحجيج، أو زاد فى رسوم الحج والعمرة، قائلا إن الحج هنا يصبح إعانة لهم على الظلم والانقياد لهم، ويجعل المسلمين فى موقف الذل وكأنهم يبذلون جزية.
ولننظر بعد ما عرفناه من علم الإمام وفضله على الإسلام والمسلمين إلى مقولته الخالدة التى تعكس إيمانه القوى، وتواضعه الجم، لنقف على أهم مميزات هذا الرجل الذى أصبح علامة مضيئة فى تاريخ الإنسانية، ومع ذلك يقول إنه مازال محتاجا إلى الاتعاظ قبل أن يعظ الناس، فقد قيل له: لماذا لا تكثر من الوعظ؟، فقال: أما الوعظ فلست أرى نفسى أهلا له، لأن الوعظ «زكاة» نصابه «الاتعاظ»، ولا يخرج الزكاة من لم يبلغ النصاب.
وائل السمرى يكتب: العز بن عبدالسلام.. سلطان العلماء ومؤدب الملوك..كان يبتعد عن التقليد وينهر من يطالبونه بالالتزام بمذهب واحد قائلا: إن الله لم يأمرنا بأن نقلد الصحابة فكيف نقلد الأئمة أصحاب المذاهب؟
الخميس، 2 أغسطس 2012 - 22:43
العز بن عبدالسلام سلطان العلماء ومؤدب الملوك
إن كان للإسلام فضل على العالمين فلأنه حطم الأصنام وأزال الأوهام ودمر أحجار تعثر الإنسانية وفتح الطريق أمام العلم والثقافة والإبداع والتأمل والاعتبار والتذكر والاحتشاد والجهاد، وعبر أربعة عشر قرنا من الزمان منح الإسلام للبشرية دروسا بليغة فى التحرر من الجمود والثورة على الأوضاع الراهنة والانعتاق من أسر الكهنة واستبدادهم، ولأننا على أبواب بناء دولة جديدة، وقد أهل علينا شهر النور والقرآن، فلا أجمل من أن نلتمس الطريق مستنيرين بآفاق رحبة فتحها أمامنا فقهاء التنوير الذين حرروا العقل من وهم التعلق بالكهنة، ووضعوا من الإسلام آلية للتطور والتقدم والنمو، وهنا عبر 30 حلقة نحاول أن نكتشف أسس التطور التى وضعها أعمدة الفكر الإسلامى بقديمه وجديدة، علنا نجد الهدى.
صلبا فى الدين كان، رحيما بالفقراء كان، قويا على العظماء كان، اجتمع عنده التفقه فى الدين والحفاظ على الكتاب والسنة مع الاجتهاد وإعمال العقل، فكانت حياته لوجه الله خالصة، لا تعرف التعصب لمذهب، ولا الانحياز لفئة، ولا الطمع فى مال، ولا السعى لجاه أو سلطان، فجزاه الله بما عمل وأصبح من ألقابه سلطان العلماء وإمام الأولياء وعز الدين وقاضى القضاة ومؤدب الملوك.
وقف أمامه أحد تلاميذه منبهرا بعد أن نهر الملك أمام الرعية فى يوم العيد ليأمره بالكف عن الفواحش ومحاربة المفسدين فى بلاد المسلمين، فقال له تلميذه: ألم تتهيب من الملك يا شيخنا؟ فقال له العارف بالله والسابح فى ملكوته والعالم بقوته وعونه وسنده: والله يا بنى لقد استحضرت فى نفسى هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامى كالقطة.
قال عنه الإمام الذهبى: «بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، وقال عنه ابن دقيق العيد: «كان ابن عبدالسلام سلطان العلماء»، وقال عنه ابن الحاجب: «ابن عبدالسلام أفقه من الغزالى»، وقال عنه ابن السبكى إنه: «شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها»، أما العامة من محبيه وطلابه وتلامذته فقد رفعوه إلى مراتب الأولياء، تناقلوا عنه الحكايات، وادعو أن له كرامات، فما كان منه إلا النهى عن التحدث فى مثل هذه الأشياء، قائلا إن الكرامة والعزة والمعجزات لله تعالى، وليس لله شريك.
هو عز الدين بن عبدالسلام المعروف باسم العز بن عبدالسلام، أحد أكبر شخصيات الإسلام عبر عصوره، شاهد المحنة وشهيدها، المحارب بقلبه وقلمه وعقله ولسانه ويده، تاجر مع الله منذ أن عرف الله، فربحت تجارته وما هو من الخاسرين، هو ذلك العبد الربانى الذى اصطفاه ربه ليحمى حمى المسلمين ويطهر بلادهم من الضعف والوهن والخوف والحزن، هو ذلك الطفل الصغير الذى تعلم من الحياة أن الحياة زائلة، فخلد اسمه فى القلوب والعقول والتاريخ، هو صاحب السيرة العطرة واليد العليا والاسم الطاهر والأثر الشامخ، هو الصغير اليتيم الذى لم يجد ما يسد رمقه ويستر عريه ويأوى جسده إلا مسجد دمشق الكبير «المسجد الأموى» فعمل به صغيرا يحرس الأحذية ويشعل المسارج ويكنس الإيوانات، فحرسه الله من كل شر، وأضاء قلبه بنور الإيمان، وطهره من الرجس تطهيرا.
ولأن الله قد أراد به خيرا يسر له أن يتفقه فى الدين ويتبحر فى الفقه ويتعمق فى السير إلى نور الله، فكان كلما أبحر واستغرق نجا وتعمق، قد يظن البعض أن المصادفة وحدها هى التى وضعته فى هذا الطريق، لكن الحق أن الله هيأ له العلم ووضعه فى طريق علماء أجلاء أوفياء، فأخذوا بيده، وأعانوه على حاجته، وأدبوه وأفهموه وعلموه، فكانوا نعم المعلم، وكان نعم المريد.
جذبته آيات الذكر الحكيم، بينما هو فى المسجد يعمل ليلا، فاتبع الصوت فإذا به يصل إلى حلقة شيخ الشيوخ العالم ابن عساكر، فاختلس الجلوس والسماع لآيات الله وأحاديث رسوله، ولما لاحظ الشيخ الكبير وجود هذا الصبى، طرده من الحلقة لما وجده من حداثة سن الصبى ورثاثة ملابسه، فإذا بالصبى الصغير يهرع إلى باب المسجد ويظل ملتصقا به باكيا لحرمانه من سماع ما تشتهيه نفسه وتتوق إليه روحه، فإذا بالشيخ يخرج ويجد الفتى على ما هو عليه، فيرق قلبه ويلين، يسأل الفتى أتحب العلم؟ ويجيب قلب الفتى: وهل أحب غير العلم؟ يعرف الشيخ الخبير بالناس والعالم بسمات العلماء أن الطفل الواقف أمامه صادق، فيسأله عن أحواله ولما أجاب الفتى ووجده الشيخ على ما هو عليه من فقر واحتياج يقرر أن يتكفله بالرعاية.
ينشأ الفتى فى كنف هذا الشيخ الكبير فيتعلم ويحسن التعليم، يكلفه بدراسة كتاب فى شهر فيأتى إليه بعد ثلاثة أيام وقد حفظه وفهمه واستخلص ما به من فائدة، يأمره بحفظ سورة فيزيد سورة أو اثنتين أو ثلاثة، يحب الفتى العلم ويجد نفسه فى التعلق به والتفكر فى تجلياته، يحدوه نور إلهى نحو الطريق، فلا يتورع عن السير يسمع أن ما من طالب يطلب العلم حتى تحف به الملائكة فيستأنس بهم متحصنا بالله من وحشته ووحدته، يسمع عن الصوفية الحقة وأحوالها فيقتبس قبسا من نورها يجلس إلى شيوخها ومريديها، يسمع عن عالم بالعراق يحفظ الحديث ويعقد حلقات الدرس، فيشد الرحال إلى بلاد الرافدين ويعود إلى شيخه القديم «ابن عساكر» بعد أن تعلم وفهم ما لم يكن بوسعه أن يتعلمه، فيفرح به شيخه ويعتمده مدرسا فى حلقة الجامع الأموى الكبير.
ها هو الصبى يجلس ومن حوله الطلاب يسألونه فيجيب، وبرغم كونه شافعى المذهب، أشعرى العقيدة، لكنه لم يكن يتقيد بمذهبه، فكان يفتى بما يراه صالحا للناس وأنسب، وأقوى حجة وأكثر قربا لروح الشريعة، ولكنه كان أكثر ما يكون متشددا على الملوك الجبابرة والعلماء المنافقين، وكان لحزمه وصرامته سبب وجيه، فالعدو على الأبواب مازال، وصلاح الدين الأيوبى ذلك الرمز الذى كان يجمع شتات البيت الأيوبى ويوحد تحت رايته حكم مصر والشام قد مات، وتنازع إخوته وأبناؤه على الحكم، فصارت الأمصار الإسلامية إلى التشتت بعد الوحدة، وكل أمير على إمارته يستميل العلماء والفقهاء بكل ما يستطيع، أما العز فلم يكن من هذا الصنف من البشر، وقد استغنى عن الخلق بالخالق، واستكفى بالكافى عمن سواه، ولكنه لم يكن يكتفى بدور الساكت عن الحق، وما كان له أن يقنع بأن يكون «شيطانا أخرس» فكان دائم اللوم على علماء السلطان مجاراتهم للسلطان، فأفتى الشيخ بأن السكوت عن المنكر منكر، وأن علماء المسلمين أولى الناس بأن ينهوا الخلفاء والحكام عن المنكر، وأن تخليهم عن نصح الحاكم ورده عن الظلم مخالفة لله ورسوله، وأن سكوتهم عن الحق طمعا يعظم من إثمهم ويقبح ذنبهم، بل زاد فى الهجوم عليهم حينا استفتاه أحد الطلاب: هل لهؤلاء العلماء طاعة علينا؟ فقال العز: لا طاعة لهم عليكم كالما لا يطيعون الله ورسوله، وهو بذلك يجرد العلماء الذين يداهنون السلطان ويعينونه على الفقراء من سطوتهم وملكوتهم، وهو ما أثار استياء الفقهاء منه وزاد من حنقهم عليه.
كل هذا والشيخ ماض فى سبيله، يفتى الناس متحرجا من مسؤولية الفتوى، ويرفض هدايا الحكام ولا يقبل عليهم، وينأى بنفسه عن مظاهر البذخ، مفضلا تجارته مع الله التى جربها وأيقن من تحقق ربحها الواسع، يفضل أن يعيش فقيرا على أن يرى فقيرا يقرصه الجوع وينهش فى لحمه البرد، ويفضل فى الإفتاء أن يراجع نفسه مرة بعد مرة، وأن يعود إلى الحق متى وجده، حتى أنه يروى عنه إنه ذات مرة أفتى لرجل فى مسألة، ولما رجع إلى منزله اكتشف خطأه، فراح يبحث عن الرجل الذى أفتى له، وجعل تلامذته يطوفون فى الشوارع والأسواق ينادون على من أفتى له الشيخ قائلين: من صدرت له فتيا بالأمس العز بن عبدالسلام فلا يعمل بها فهى خطأ، وليعد إلى الشيخ ليفتيه بالرأى الصحيح، فزادت هذه الميزة من شعبية الشيخ ومحبته فى قلوب الناس، فصار شيخا شهيرا فى دمشق كلها، يحصل على راتب كبير من الجامع الأموى نظير تدريسه به، لكن بيته هزيل وصغير من كثرة ما يتبرع به لـ«أهل الله» يرفض إلحاح زوجته عليه فى توسعة دارهم وهى التى كانت تريد بيتا يحيطه بستان، وحتى حينما جمعت زوجته مصاغها وألقت به إليه ليشترى لها البيت الذى تريد رجع إليها خاوى الوفاض من البيت والمصاغ، ليخبرها أنه تبرع بالأموال للفقراء ليشترى لها قصرا فى الجنة!!
فى مقابل زيادة محبة الشيخ فى قلوب العامة زاد حقد علماء السلطان من أتباع المذهب الحنبلى عليه، فهو بالإضافة إلى لومهم الدائم ومهاجمته الصريحة لهم كان يتهمهم بالحمق والجمود وفساد الرأى والإساءة إلى الإمام العالم أحمد بن حنبل، وهذا ما جعلهم يشتعلون غيظا ويحاولون مرة بعد مرة أن يوقعوا بين الإمام العز بن عبدالسلام والسلطان الأشرف الأيوبى لأنه كان حنبليا مثلهم ويأتمر بأمرهم، لكنه لم يستجب لهم فى البداية لعلمه بمكانته الإمام ومدى تفقهه، لكنهم لم ييأسوا، فدسوا إليه فتوى يعرفون رأيه فيها لعلمهم بأنه يتبع المذهب الأشعرى فى العقيدة، وهو ذلك المذهب السنى الذى حارب به الأشعرى المعتزلة وحاججهم به، ولما وصلت الفتوى إلى الإمام عرف أنها مكيدة، لكن شرفه العلمى أبى عليه أن يتخوف من أن يفتى فى مسألة يعرف جوابها، وأبت عليه كرامته كتمان ما يعتقد فيه خوفا من المكائد، فكتب الإمام بخط يده ردا وبخ فيه سائل السؤال وقال ما يعتقده بكل صراحة وشجاعة وتحقيق، وهو ما اعتبره الحنابلة انتصارا لهم وزفوا الفتوى إلى الملك مستغلين جهله بأمور العقيدة ومتسلحين بسلطان مذهبهم عليه، فثار الملك على العز بن عبدالسلام واتهمه بالكفر، وأقسم لينزلن به عقابا كبيرا، وهو ما أغضب فقهاء المالكية والشافعية وحاولوا أن يصلحوا بين الشيخ والملك، لكن الملك أبى فتضامن الفقهاء الحقيقيون مع الإمام ووقعوا على نص الفتوى التى سببت الأزمة وقالوا إنهم يعتقدون نفس ما يعتقده الإمام، فخفف الملك من عقوبة الشيخ واكتفى بعزله عن الإفتاء والدرس، فامتثل الشيخ للحكم ومكث فى بيته ثم عاد إلى الفتوى بعد أن وصل الملك الكامل أخو الملك الأشرف إلى الشام ونهر أخاه على موقفه من الإمام وقد كان يعرف قدره ويبجله، وإمعانا فى اعتراف الملك بخطئه عين الإمام فى منصب الإمام الأكبر للجامع الأموى، فسار يحكم بين الناس بالعدل، وأمر السلطان برفع الضرائب عن الصناع والتجار والفقراء وأن يجعلها على الأغنياء فقط، أى أنه أمر بما نطلق عليه هذه الأيام «الضريبة التصاعدية» فاستجاب له السلطان صاغرا.
وما أن مات الملك الأشرف وتولى مكانه الصالح إسماعيل حليف الصليبيين حتى اضطهد الإمام العز بن عبدالسلام بكل ما أوتى من قوة وبطش، واستمال إليه علماء الحنابلة الذين كانوا يحيطون بسابقه «الأشرف» لما علم منهم حبهم للهدايا والمنح واستعدادهم لعمل كل ما يرضى السلطان، ففرض الضرائب الباهظة على الفقراء والصناع مرة أخرى، وأحاط به تجار العبيد والنخاسون وأصحاب المواخير، وأحيا كل المفاسد التى أمر الله بها أن تموت، والأنكى من كل ذلك تحالف مع الصليبيين ضد إخوانه من أبناء الدولة الأيوبية، بل سمح للصليبيين أن يشتروا السيوف التى يحاربون بها المسلمين من دمشق وكانت من أفضل أنواع السيوف، فتصدى الإمام لانحرافات الملك وسار يمشى فى الشوارع يقول للناس إن من يبيع للصليبيين سيفا فقد خان العهد مع الله والرسول ولا ذمة ولا عهد له ودمه مهدر وماله مباح، بل خطب فى الناس مطالبا بخلع الملك الذى منح الصليبيين أرضه وتحالف معهم ضد إخوانه فى الدم والدين، وامتنع الأئمة على المساجد من الدعاء للملك بعد فتوى الإمام وهو ما يعنى أنهم لا يعترفون بالصالح إسماعيل ملكا، فما كان من الملك إلا أن أمر بسجنه واستعان على الشيخ بفتاوى من فقهاء الحنابلة تقول إن الخروج على الحاكم «حرام» والملك أدرى بما فى صالح المسلمين، غير متورعين عن اتهام الإمام بأبشع التهم قائلين إن الإمام ما كان ليحارب الملك إلا لغرض فى نفسه.
بعد فترة أمر الملك بالإفراج عن الشيخ على أن يلزم بيته ولا يخرج منه إلا لصلاة الجمعة، فما كان منه إلا أن يطلب الإذن بالخروج من دمشق والسفر إلى القاهرة، فأجابه الملك بعد مناورة، على أن يخرج فجرا دون أن يخبر أحدا خشية أن يثير الناس مشهد خروج الشيخ فينقلبون عليه، وبالفعل خرج الإمام، لكن فى طريقه إلى القاهرة لاقى أشد المهانات من الأمراء التابعين للصالح إسماعيل، وضايقوه وآذوه وحبسوه حتى أن الرحلة التى لم تكن لتتعدى شهرا استغرقت عاما، ولما وصل الإمام إلى القاهرة وكان المصريون قد سمعوا به وأحبوه خرجوا لاستقباله لابسين ملابس العيد فرحين بالإمام الجديد الذى جدد الله به شباب الإسلام وأعاده إلى سيرته الأولى، حيث الحب والعدل والرحمة والعطف والإخاء.
كان الملك الصالح نجم الدين أيوب ضمن من استقبلوا الإمام على باب القاهرة، وأخذه من يده وأدخله بيته الجديد قائلا له إن هذا البيت ليس من ماله ولا من بيت المال، بل من أهالى القاهرة الذين فرحوا به فتبرعوا بأموالهم ليشتروا له هذا البيت، وحينما دخلت زوجة الإمام إلى البيت الجديد فرحت فرحا شديدا لأن به بستانا كما كانت تحلم علاوة على ذلك يطل على النيل، وإكبارا للشيخ وتعظيما لقدره عينه الملك الصالح نجم الدين أيوب قاضيا للقضاة، وهو ما جعل أيام الإمام الهنية فى القاهرة تقل، حيث اصطدم الإمام بالملك فى مواجهة شهدها أهل مصر كافة، وكانت هذه المواجهة حينما وجد الإمام أمراء المماليك يبيعون ويشترون ويتزوجون من الحرائر وهم مازالوا عبيدا، فمنعهم من إبرام العقود وأفتى بعدم صحة زواجهم من الحرائر، وهو ما أثار استياء الأمراء والملك على حد سواء، لكن الإمام الذى لا يخشى فى الحق لومة لائم لم يرجع عن فتواه حتى باع الأمراء فى السوق واشتراهم الملك ثم أعتقهم وأخذ العز أموال بيعهم وصرفها على الفقراء والضعفاء والمساكين والطلاب.
واستمر الإمام فى فتاواه التى لا تهاب ولا تخشى، وحينما حكم على أمير مملوكى ولم تنفذ الشرطة حكمه تقدم بنفسه ونفذ الحكم ثم استقال من القضاء لاعتراضه على عدم تنفيذ حكمه، فارتاح الملك من فتاواه التى كدرت عليه حياته وقلبت عليه أمراءه، واستغل الإمام هذه الفترة فى وضع الكتب التى كان يحلم بكتابتها، واستخرج من خلال عمله فى الإفتاء والقضاء أحكاما كثيرة ووصل إلى نظريته الخاصة فى الاجتهاد، معتمدا على العقل بعد النقل فجدد شباب الفقه الإسلامى حتى قال عنه إمام المذهب المالكى فى دمشق وقتها: لم نعرف منذ الأئمة الأربعة من هو أفقه من الغزالى إلا العز بن عبدالسلام.
«الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح» تلك هى القاعدة التى وصل إليها الإمام بعد تبصره واجتهاده، فما فيه المصلحة فيه الخير كله، وما فيه اجتناب المفسدة فيه الخير كله، والحالان هما قصد الشريعة الأساسى، وفى ذلك يقول الإمام: ومن أراد أن يعرف المصالح من المفاسد فليعرضها على العقل.
وفى ذلك يقول أيضا: إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام، والذى وضع الشرع هو الذى وضع الطب، والاثنان موضوعان لجلب المصالح ودرء المفاسد وتأسيسا على وجهة النظر هذه استنبط الكثير من الأحكام، فنهى عن المشقة فى العبادات، قائلا إن الله جل وعلا لم يكن ليشق على عباده، تماما كما لا يقصد الطبيب أن يعذب المرضى بالدواء المر، وفى تفضيله للمصالح فقد أمر باتباعه الأحسن مستدلا على ذلك بقول الله تعالى «يستمعون القول فيتبعون أحسنه»، قائلا إن إنقاذ الغرقى مقدم على الصلاة والصيام، كما أفتى بأنه لا ولاية للأئمة البغاة الذين يغلب عليهم الفجور، ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء، كما أفتى بجواز التيمم للنساء إذا ما كان الماء يؤثر على جمال وجههن ويصيبه بتغير لونه كما يحدث فى الشتاء، كما أفتى بجواز العيش فى البلاد التى يعم فيها الحرام، لأن ترك المؤمنين لهذه البلاد يمكن الفجار منها، وأفتى بضرورة ووجوب الثورة عند وقوع اغتصاب سلطة أو مال أو عرض قائلا إن ثورة المغصوبين على الغاصب واجبة، كما اعتبر الإمام المتصوفة الحقيقيين الذين لا يسقطون العبادات ولا يؤمنون بالخرافات «أهل الحقيقة» وكان على صلة مودة كبيرة بالحسن الشاذلى وإبراهيم الدسوقى، بل كان يقول لتلاميذه «اسمعوا كلمتهم فهو قريب العهد من ينبوع الحقيقة»، وكان فى كل فتاواه بعيدا عن التقليد وقريبا من روح الشريعة، لا يأخذ من كل مذهب أحسنه وينهر من يطالبونه بالالتزام بمذهب واحد ويقول لهم إن الله لم يأمرنا بأن نقلد الصحابة فكيف نقلد الأئمة أصحاب المذاهب.
لكن حدث ما جعل الشيخ الإمام المجاهد يترك عمله واجتهاداته ويخرج للناس مسرعا، فقد وصلت الأنباء إلى البلاد بأن الصليبيين يهاجمون دمياط فخرج الشيخ إلى هذه البلدة ليحث الناس على الجهاد وملأ الدنيا دعوة للجهاد فى سبيل الله فانتصر المصريون على الصليبيين، وكان له أكبر الأثر فى المعركة، ولما حاول التتار أن يغزوا مصر انتفض الشيخ مرة أخرى وحث الناس على الجهاد وحينما أراد الأمير قطز أن يفرض ضرائب جديدة على الناس منعه من ذلك وقال له خذ الأموال التى تريدها من أمرائك وأغنياء البلاد واترك الفقراء لفقرهم فاستجاب الملك، وأخذ يحفز الناس على الجهاد حتى انتصر المصريون على التتار، وبعدها أصاب الشيخ الوهن والكبر وعلم أن ميعاد لقائه بربه قريب، فقال لأبنائه ساعدونى لأذهب إلى الدرس، وكان قد انقطع عنه منذ مدة، فساعدوه وجلس على جلسته يفسر القرآن ليلاقى ربه وهو يفسر الآية التى تقول «الله نور السموات والأرض».
وائل السمرى يكتب: الإمام الشاطبى.. مؤسس علم المقاصد
الجمعة، 3 أغسطس 2012 - 09:11
الإمام الشاطبى
بقلم وائل السمرى _ نقلاً عن العدد اليومى
◄إن كان للإسلام فضل على العالمين فلأنه حطم الأصنام وأزال الأوهام ودمر أحجار تعثر الإنسانية وفتح الطريق أمام العلم والثقافة والإبداع والتأمل والاعتبار والتذكر والاحتشاد والجهاد، وعبر أربعة عشر قرنا من الزمان منح الإسلام للبشرية دروسا بليغة فى التحرر من الجمود والثورة على الأوضاع الراهنة والانعتاق من أسر الكهنة واستبدادهم، ولأننا على أبواب بناء دولة جديدة، وقد أهل علينا شهر النور والقرآن، فلا أجمل من أن نلتمس الطريق مستنيرين بآفاق رحبة فتحها أمامنا فقهاء التنوير الذين حرروا العقل من وهم التعلق بالكهنة، ووضعوا من الإسلام آلية للتطور والتقدم والنمو، وهنا عبر 30 حلقة نحاول أن نكتشف أسس التطور التى وضعها أعمدة الفكر الإسلامى بقديمه وجديدة، علنا نجد الهدى.
◄قال إن غرض الشريعة هو الحفاظ على المقاصد الخمسة وهى الدين والنفس والنسل والعقل والمال.. وأكد أن الحفاظ عليها هو تطبيق للشريعة.
◄حارب البدع المنتشرة فى الأندلس وجدد شباب الإسلام فى القرن الخامس وأصبح مرجعاً لكل الفقهاء المجددين فى العصر الحديث.. تتلمذ على كتابات العز بن عبدالسلام والإمام الغزالى والإمام مالك.
لا يكاد اسمه يغيب عن حلقات الدرس وكتابات المشايخ الأساتذة الكبار منذ مطلع القرن الماضى، فقد وجد الجميع ضالتهم فى هذا الرجل الذى وضع نظرية «مقاصد الشريعة»، فنال الاستحسان، وأصبح محل الاستشهاد، وتناول الفقهاء سيرته بكل احترام وإكبار، فبعد ثمانية قرون من ظهور الإسلام، وبعد عشرات الأئمة وعشرات المذاهب، وآلاف الكتب وآلاف الرسالات وملايين الخطب والمراسلات وملايين الأسئلة والفتاوى، كان لابد من ظهور عالم كبير، يجمع كل هذا فى إطار جامع ليخرج لنا بنظرية حاكمة للشريعة الإسلامية وفلسفتها وحكمتها، وكان هذا العالم هو الإمام الشاطبى.
هو إبراهيم بن موسى بن محمد أبوإسحاق اللخمى الغرناطى، الشهير بالشاطبى، وكنيته التى عرف بها أبوإسحاق، المولود بغرناطة الأندلس، تلك الجنة المفقودة التى أخرجت لها عشرات العلماء الأجلاء، وعشرات الفلاسفة العظام، وعشرات المتصوفة الأقطاب، وآلاف الكتب المهمة التى أسهمت فى تشكيل وعى الثقافة العربية، وطورته وجعلت منه أحد أهم روافد الثقافة الإنسانية. وقد عرف عن الإمام الشاطبى أنه لم يكن يخرج من غرناطة التى ولد وتربى وتعلم بها، وقد كان غيره يسافر إلى الأقطار المختلفة لاستجلاب العلم وتحصيل الدروس، أما الشاطبى فلم يكن ليسافر والعلم حاضر عنده، والعلماء متحلقون حوله، يقطف من ثمار معرفتهم وخبرته دون تعب أو شقاء.
تاريخ ميلاد شيخنا الكريم غير معروف على وجه التحديد، لكن كتب التاريخ حفظت لنا وفاته جيدا، وذلك لأن وفاته كانت حدثا كبيرا، فقد اهتزت الأوساط العلمية بفاجعة رحيل الإمام العالم يوم الثلاثاء من شهر شعبان سنة 790 هجريا، بعد عمر حافل بالإنجاز، عامر بالإبداع، فقد تتلمذ على يد الإمام الشاطبى الكثير من العلماء الأجلاء المشهود لهم بالفضل فى العلم، والذين نهلوا من معين الشيخ وعلى يده تربوا وتتلمذوا وعرفوا، وهو الإمام الذى درس الفقه من أصفى منابعه، وتفقه فى اللغة العربية وفنونها، فوقف على أسرارها وجمالياتها وقواعدها من نحو وصرف، كما درس تفسير القرآن ووعى حكمته، كما درس علوم الحديث والقواعد الفقهية، فتكونت له حصيلة معرفية ضخمة مكنته من أن يبدع نظريته التى أدهشت المعاصرين قبل القدماء، وكان طبيعيا أنه حينما تعرض كتب التراجم والسيرة لشخصية هذا الرجل تصفه بالقول: هو الإمام العلامة، المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد الأصولى المفسر الفقيه، المحدث اللغوى، النظارة المدقق البارع، صاحب القدم الراسخ والإمامة العظمى فى سائر فنون العلم الشرعى، والإمام المحقق العلامة الصالح.
«إنى- ولله الحمد- لم أزل منذ فتق للفهم عقلى، ووجه شطر العلم طلبى، أنظر فى عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، بل خضت فى لجاجه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت فى ميدانه إقدام الجرىء، إلى أن منّ علىّ الرب الكريم، الرؤوف الرحيم، فشرح لى من معان الشريعة ما لم يكن فى حسابى».. هذا ما يقوله الإمام أبوإسحق الشاطبى بنفسه عن نفسه، والذى يقر بأن نظريته فى الشريعة لم تكن فى حسبانه، وإنما من فتح الله عليه، وهذا ما أقره الفقهاء قديما وحديثا، فقد اعتبروا «نظرية المقاصد» من أهم نظريات الفقه الإسلامى بعد نظرية الإمام الشافعى فى تأسيس أصول الفقه، ولذلك اعتبره البعض مجدد المائة الثامنة، وباعث النهضة فى علم الفقه، لكن كما هى العادة لم يسلم الإمام الشاطبى، وهو السنى الأصولى المتخذ من أقوال السلف نبراسا، من إلصاق العديد من الاتهامات به، فقال عنه البعض إنه يدعى أن الدعاء لا ينفع، لأنه لم يكن يلتزم بالدعاء الجماعى فى الصلاة، وقال آخرون إنه تشيع لأنه لم يكن يذكر الخلفاء الراشدين فى الخطب، وهو الأمر الذى جعله ينشد شعرا قال فيه: «بُليتُ يا قومِ والبلوى منوعةُ.. بمن أُداريه حتى كاد يُردينى/دفع المضرة لا جلبُ لمصلحةٍ فحسبىَ الله فى عقلى وفى دينى».
«اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة الإسلامية وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، هى: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضرورى.. هذه هى النظرية الجامعة التى استخلصها الإمام بعد ثمانية قرون من الاجتهاد الفقهى فى الشريعة الإسلامية، بكلياتها وفروعها، قائلاً إن هذه الكليات الخمس أو المقاصد الخمسة من الأمور التى لا يرقى إليها الشك، فليبحر الفقهاء مهما أبحروا، وليتكلم فى أمور الشريعة من يتكلم، لكن الثابت على طول الدهر أن هدف الشريعة الأسمى ومقصدها الأنبل هو الحفاظ على هذه الكليات الخمس، وأى اجتهاد فقهى يخالف مبدأ الحفاظ على هذه الكليات باطل، كما أن أى اجتهاد فقهى يحافظ على هذه الكليات فهو قائم بإذن الله.
وبرغم أن الإمام الشاطبى لم يخترع هذه النظرية، ولم يأت بها من عدم، لكن وضعها والتأصيل لها كفل لها أن يقترن اسمه باسمها، فما أن يذكر الشاطبى حتى يذكر علم المقاصد، وما أن يذكر علم المقاصد حتى نترحم على الإمام الشاطبى، لكن الإمام لم يكتف بإطلاق أحكامه هكذا دون تدليل، فقد حرص على توثيق هذه الكليات من الكتاب والسنة، مؤكدا أن الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أكدا أهمية تلك المقاصد منذ بداية البعثة فى مكة، مروراً بالهجرة إلى المدينة، ثم خطبة الوداع التى شهدت اكتمال الدين فى مكة أيضا، فقد حفل القرآن الكريم بذكر هذه المقاصد والأمر بالحفاظ عليها، فحفظ الدين لا يحتاج إلى دليل من الكتاب لإثباته لأنه معلوم بالضرورة، أما حفظ النفس فقد أمرنا الله به فى قوله «وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ»، وقوله: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»، وحفظ النفس يتطلب أيضا حفظ العقل بتحريم المسكرات، وحفظ النسل ثابت لا محالة بتحريم الزنى وتفحيشه، والأمر باجتنابه، وإقامة الحد على مرتكبه، كذلك حفظ المال بتحريم أكل الأموال بالباطل، والنص على تحريم السرقة، والعمل على مراعاة حقوق المسلمين المالية.
ولتعظيم مكانة هذه الكليات الخمس فى الشريعة فقد حرص المولى عز وجل على تذليل الصعاب أمام مهمة الحفاظ عليها، فأتاح الرخص بعد الرخص، لكى يرفع عن الناس الحرج، ويضمن أن تدوم «مقاصد الشريعة» وألا تتبدل مهما تبدلت الأزمان والأحوال، فقد حفظ الله إقامة الصلاة بإتاحة الرخص فى الطهارة والوضوء، وتيسيرها على الناس بالتيمم فى حالة عدم وجود ماء طاهر، وأباح صلاة القصر، ورفع القضاء فى حالة الإغماء، وأتاح الصلاة قاعداً وعلى جنب، كما أتاح الإفطار فى رمضان فى السفر والمرض، كما حفظ النفس بتحليل ما تم تحريمه فى حالة الاضطرار، كتحليل أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب المحرمات فى حالة العطش الشديد، كما أحل الزواج بدون تسمية الصداق تيسيرا، لحفظ النسل، كما أباح الطلاق والخلع، وفى المال حلل الاقتراض الحسن، والتمتع بالطيبات من الحلال، وتبشيع الإسراف والتبذير، وبالنسبة للعقل فقد رفع الحرج عن المكره والمضطر إذا انتباه مرض أو عطش أو جوع.
وقبل أن نخوض فى جزئيات نظرية المقاصد، لابد هنا أن نؤكد أن الإمام الشاطبى لم يخترع تلك النظرية، إنما وجدها فى كتب الفقه وفتاوى الأئمة ملقاة على دون تأطير ولا جامع ولا تدليل شاف فجمعها وأطرها ودلل عليها، وهذا ما انتبه إليه الشاطبى نفسه الذى كان كثيرا ما يشير إلى مجهود سابقيه فى كتابيه «الموافقات» و«الاعتصام»، وسابقوه هؤلاء هم الإمام الجوينى إمام الحرم المكى، والإمام الغزالى، والإمام العز بن عبدالسلام، وهم من سبقوه فى هذا التقسيم حينما حصروا المصالح الضرورية فى خمس، هى الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وقد أمرنا الله أن نتبع الإحسان، ونعمل الصالح فى جميع آيات الذكر الحكيم، واستفاض الإمام العز بن عبدالسلام فى التأكيد على هذه النظرية وجعلها مثل أصول التشريع، حيث قال إن العلماء قد أجمعوا على اختلاف تخصصاتهم ومذاهبهم وعصورهم على كون الشريعة قد تضمنت الحفاظ على ما أسماه «أمهات المصالح» أو «المصالح المحفوظة»، مؤكدين أن كل ما يحافظ على هذه المصالح فهو مصلحة، وكل ما يضيع هذه المصالح فهو مفسدة ودفعها مصلحة، بل انتقل الإمام بتلك الفكرة من حيز النظرية إلى حيز التطبيق، حيث رجع إليها فى الكثير من الفتاوى التى أفتى بها والتى أشرنا إليها فى الحلقة السابقة، فكان بهذا مجددا فى دين الله، محافظا على شريعته وعباده، وفى الحقيقة فإن وجود نظرية «المقاصد الخمسة» سابق أيضا على هؤلاء الأئمة العظام، ويراها البعض تطويرا لفكرة «المصالح المرسلة» التى أصلها الإمام مالك ففتح بها باب الاجتهاد على آخره، بل إن المتأمل فى تاريخ الفقه الإسلامى يجد أن الصحابة الكرام قد اتبعوا هذه النظرية، ولنتأمل آراء الفاروق عمر بن الخطاب وقراراته التى كان يضع نصب عينيه هذه المقاصد وهو يتخذها، فقد حفظ النفس والمجتمع بإبطال حد الردة فى عام المجاعة، وحفظ الدين والفتوحات حينما قرر عدم تقسيم الأراضى الزراعية على الجنود الفاتحين والصحابة، وحفظ مال المسلمين حينما أبطل سهم المؤلفة قلوبهم. والناظر إلى فتاوى عمر وقراراته يتأكد من أنه كان يعلى مصلحة المسلمين، ويضعها فوق كل اعتبار، ما فى هذه الإجراءات والقرارات سوى الحفاظ على مقاصد الشريعة الخمسة.
وسيرا على نهج الإمام العز بن عبدالسلام سار الإمام الشاطبى ليطبق تلك النظرية، كتطبيق فقهى عملى، فقد عمل بها وهو يعالج موضوع انتشار البدع فى غرناطة، التى حاربها وهاجمها وفند حججها، فقد قسم المعاصى إلى ثلاثة أنواع، قائلا: منها صغائر ومنها كبائر، فالكبائر هى تلك التى تهدر قيمة الحفاظ على المقاصد الخمسة أو «الضروريات»، أما الصغائر فهى التى لا تتطرق إلى تلك الضروريات، وهى تقع فى مرتبة أقل بالتأكيد، وفى كل كتابات الإمام الشاطبى تجد هذه الجملة وكأنها من المسلمات الأبدية، فيقول الإمام: هناك مسلمة شرعية، وهى أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد فى العاجل والآجل، ويقول بعبارة أخرى أكثر جزما «المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة أو لهما معا»، وهو دائما ما يؤكد أن المصالح هى ما تؤدى إلى الحياة لا إلى هدمها، فيقول: «المصالح المجتلبة والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس فى جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية»، وهنا يفرق الإمام بين «المصلحة» و«الأهواء» ذاكراً قول الله تعالى: «وَلَوِ تَّبَعَ لْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ»، لكن الإمام الشاطبى يضع تعريفا لمفهوم المصلحة يكاد يهدم تلك النظرية من أساسها، فهو يقول إن المصالح تعرف من المفاسد بالنقل وليس بالعقل، وإن الشىء الحسن حسن لأنه مذكور فى الأثر، والشىء القبيح قبيح لأنه مذكور أيضاً فى الأثر، وهو ما يقتل الاجتهاد ويجعل نظريته حشوا زائدا إن لم تتطور وتكون مواكبة للعصر ومستحدثاته التى لم ترد فى كتاب ولا سنة، وهو بذلك لا يغالط نظريته فقط وإنما يغالط أيضاً مشايخه الذين استقى منهم تلك النظرية، فها هو الإمام العز بن عبدالسلام يقر بأن «معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان محمود حسن»، ويضيف: واتفق الحكماء على ذلك وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأموال والأعراض، وإن اختلف فى ذلك، فالغالب أن ذلك راجع لاختلاف فى التساوى والرجحان. كما قال الإمام العز بن عبدالسلام إن المصالح والمفاسد الدنيوية تعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، وأن من أراد أن يعرف المناسبات فى المصالح والمفاسد راجحها من مرجوها فليعرض ذلك على عقله.
وتدل الروايات والآيات والأحايث على أن العقل وحده كفيل بمعرفة الحسن من القبيح، فقد روى عن قتادة المفسر التابعى أنه قال: «ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به فى الآية الكريمة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح- أى ذم- فيه وإنما نعى عن سفاسف الأخلاق ومذامها»، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فكيف لأهل الجاهلية أن يعرفوا أسباب بعثة الرسول إلا إذا كانوا يعرفون بعقلهم مكارم الأخلاق من خبائثها، وتدلنا أيضا شهرة النبى صلى الله عليه وسلم فى مكة قبل البعثة بأنه الصادق الأمين على أن القيم العظيمة كالصدق والأمانة كانت معروفة متبعة ومستحسنة قبل البعثة، وهى جزء مما فطر الله البشر عليه، وقد قالت أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد للرسول حينما خشى على نفسه من الوحى: «كلا، أبشر، فوالله ما يخزيك الله أبداً، فوالله إنك تصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضعيف وتعين على النوائب»، ولعله من غير المفهوم أن ينكر الإمام الشاطبى معرفة الحسن من القبيح قبل نزول التشريع وقد وصف الله الخمر والميسر بأنهما «رجس»، ووصف الزنى بأنه «فاحشة»، ووصف المحيض بأنه «أذى».
ولقد كتب الإمام ابن القيم الجوزية فى كتابه «مفاتيح السعادة» أن قول الله تعالى: «ويحل لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ» تصريح واضح بأن الحلال كان طيبا قبل أن يحلله الله، والخبيث كان خبيثا قبل أن يحرمه الله، وأن الله كسا بحله طيباً على الطيب، وكسا الخبيث بتحريمه خبثا على خبثه، ويدل قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، على أن الفواحش فواحش بنفسها لا تستحسنها العقول فتم تحريمها لفحشها، ويفصل الإمام ابن الجوزية قوله بالشرح مسترسلاً: إن غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفضيله.
غير أن الإمام الشاطبى، وهو الذى اعترض على الإمام العز بن عبدالسلام فى احتكامه إلى العقل فى معرفة المصالح والمفاسد، تناقض مع نفسه حينما أقر ما أقره «العز» محتكما إلى عقله، فقد أقر الباحثون والفقهاء أن الشاطبى تتلمذ على كتابات «العز» خاصة فيما يتعلق بالمصالح والمفاسد، والنهى عن المشقة، فيقر بأن الإسلام لم يأت للتكدير على الناس، بل للتخفيف عنهم ومراعاة لمصالحهم وراحتهم، فنهى عن مشقة الاغتسال فى البرد، والقيام لصلاة الفجر، ومشقة الصوم والحج، وهنا تجدر الإشارة إلى أن نظرية الإمام الشاطبى لم تكن لتأخذ شهرتها، ولم تكن لتوجد أصلاً لولا اعتماده على المذهب المالكى الذى يعد مذهب المصلحة والاستحسان، وهو المذهب الحازم فى درء المفاسد، والبحث عن علة التكليفات فى المعاملات وأسبابها، ليتحقق بالسبب ما لا يتحقق بالنص، ولولا أن الإمام الشاطبى وجد تراثا زاخراً بالعلم والاجتهاد منذ أيام الصحابة، مرورا بالأئمة الأربعة الكبار، والإمام الجوينى، والغزالى، والعز بن عبدالسلام، لما وضع هذه النظرية الكبيرة التى ستصبح فيما بعد نبراسا للمصلحين والمجددين ليطورا فيها، ويضيفوا عليها، ويكسبوها
12-08-2012, 12:34 AM justice
عضو
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,973
وائل السمرى يكتب: أئمة التنوير.. شيخ الأزهر الإمام حسن العطار.. مفجر حلم النهضة.. قال: «من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار»
السبت، 4 أغسطس 2012 - 08:50
الإمام حسن العطار
يقولون إن أشد ساعات الليل إظلاما هى تلك التى تسبق الفجر مباشرة، ويبدو أن هذه النظرية الطبيعية الكونية التى تبرز العلاقة بين الظلام والضوء تتطابق مع ما تعيشه المجتمعات فى دوراتها بين الإظلام والتنوير، ففى عمق ظلمة الصراع بين الفرس والروم، ولدت البعثة المحمدية، وفى أشد مراحل الدولة الأموية قهرا جاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ورأينا فى الحلقات السابقة أنه فى ظلمات الشك والتخبط جاء الإمام الغزالى، وفى عصر الأزمة وتهديد الهوية العربية الإسلامية هل علينا الإمام العز بن عبدالسلام، وفى ظلمات الباطنية والتخبط جاء إلينا الإمام الشاطبى، وها نحن اليوم نعرض لسيرة ومسيرة أحد أكبر علماء الأزهر وأول باعث لنهضة العلم فى مصر، وهو الإمام حسن العطار شيخ الأزهر ومجدد الدولة وصاحب المؤلفات والشروح الكثيرة التى أحدثت حراكا ثقافيا وفقهيا كبيرا فى عصره، وهو الشاعر الرقيق والشيخ الواثق، والمكافح الذى لم يعبأ بجهل يحيط به ولا تخلف يعانى منه المجتمع، فحمل شعلة التنوير بفكره وقلمه وإمامته، فكان بحق غارس نهضة مصر والأزهر، وإمام أهل العلم والعمل.
أطلق الإمام حسن العطار صرخته حينما رأى من تقدم الفرنسيين ما رأى فى الحملة الفرنسية: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها»، فظلت هذه الصرخة تتردد حتى تغيرت البلاد وأدخل من العلم ما ليس فيها، فتسيدت مصر ما حولها من بلاد وأصبحت أهم وأكبر أقاليم العالم الإسلامى بعدما شربها الإهمال وأنهكتها السرقة وعمها الجهل أثناء فترة الحكم العثمانى لمصر، فصارت روحه تتوق إلى كل جديد، وصار قلبه يهفو إلى العلم أينما كان، فقد كان رحمه الله يقول: من سَمَتْ هِمته به إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثير من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة فى رياض الفهوم».. أشادت باستنارته وعلمه وأدبه دائرة المعارف الإسلامية فجاء فيها أنه: كان العطار رجلاً مستنيراً، اشتهر بعلمه، وكان أيضاً شاعراً ناثراً، وقال عنه محب الدين الخطيب فى كتابه عن «الأزهر»: وكان العطار متضلعاً فى العلوم الرياضية فضلاً على العلوم الشرعية والعربية، وقال عنه المؤرخ عبدالرحمن الرافعى: وكان الشيخ حسن العطار من علماء مصر الأعلام، وامتاز بالتضلع فى الأدب وفنونه، والتقدم فى العلوم العصرية، وكان هذا نادراً بين علماء الأزهر، كما قال عنه رفاعة الطهطاوى: كان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية، وقال عنه على مبارك: «إنه اشتغل بضرائب الفنون والتقاط فوائدها»، والشيخ الجليل عبدالمتعال الصعيدى الذى قائلاً: «موقف الشيخ العطار من العلوم الرياضية بشكلها الجديد يدل على ما كان يمتاز به من مرونة عقلية ودينية، وعلى أنه كان فى هذا أحسن حالاً من أهل الأزهر الذين حاربوا العلم بعده باسم الدين»، أما المؤرخ الأشهر لعصره عبدالرحمن الجبرتى فقال فيه: «صاحبنا العلامة، وصديقنا الفهامة، المنفرد الآن بالعلوم الحكمية، والمشار إليه فى العلوم الأدبية، وصاحب الإنشاء البديع والنظم الذى هو كزهر الربيع، الشيخ حسن العطار».
ولد الإمام العطار فى العام 1766 أى قبل مجىء الحملة الفرنسية على مصر بنحو ثلاثين عاماً، ووقتها كانت مصر تئن تحت الحكم الخليفة العثمانى ووكلائها من المماليك الذين كانوا كثيراً ما يتصارعون فتصاب الأسواق بالخراب والزراعات بالبوار وتمتلئ البيوت بالنواح والحرائق، وتركزت السلطة والثروة فى يد قلة قليلة من المماليك والأجانب فعاش الشعب فى ضنك مرير، ضاعفه كثرة استيراد البضائع الأجنبية التى أضرت بأصحاب الحرف وأفقرتهم، كما انهارت الزراعة والتجارة الزراعية بسبب احتكار الأغنياء للبائع والمأكولات التى ظلوا يتلاعبون بسعرها فأدى هذا إلى انهيار السوق، كما أدت ظهور طبقة التجار الأجانب المقربين من المماليك إلى الإسراع بوتيرة الدهور المستمر للسوق المصرية فعم الفقر والغلاء والقهر والبلاء، ولعل هذا الذى رآه الإمام العطار من انحدار الثقافة والصناعة والعلوم هو ما جعل ثورته لا تهدأ من أجل تحديث مصر وإدخال العلوم وإدخالها عصر العلم والتحديث، ليعيد إلى الأذهان اهتمام الأئمة الكبار بالعلوم الكونية والطبيعية مثلما كان الحال مع الإمام جعفر الصادق الذى كان أستاذاً لجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء والجبر فى العالم.
ومثلما كان الحال مترديا فى العلوم الدنيوية كان كذلك الحال فى العلوم الدينية، وهذا ما رصده عالم إنجليزى فى تقريره لحكومته فى بداية عصر محمد على باشا حيث يقول: إن التعليم الذى يقوم به أساتذة الشريعة فى المعاهد الدينية لتنشئة علماء الدين المسلمين قليل الجدوى، بل إنه ليهبط إلى مستوى يبلغ فيه من التفاهة الحد الأقصى، فحظ دراسة الآيات القرآنية التى تحض على الفضائل وتدعو إلى الأخلاق الحسنة قليل جدا إذا ما قارناه بحظ المسائل الشكلية فى الإسلام من الدراسة مثل معرفة مقدار التلوث فى الماء الذى يفسد الوضوء!!» وكان الإمام العطار على وعى كبير بتلك المشكلة فقال فى شرحه لكتاب «جمع الجوامع فى أصول الفقه» إن من تأمل فى علمائنا السابقين يجد أنهم كانوا مع رسوخ أقدامهم فى العلوم الشرعية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، والكتب التى ألفت فيها حتى كتاب المخالفين لهم فى العقائد والفروع، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر فى كتب غير أهل الإسلام من التوراة وغيرها من الكتب السماوية واليهودية والنصرانية، ثم هم مع ذلك ما أخلوا فى تثقيف ألسنتهم برقائق الأشعار، ثم يدين الإمام العطار الحال الذى وصلت إليه العلوم الشرعية فى زمنه قائلاً: «ومن نظر ذلك وفيما وصل إليه الحال فى الزمن الذى وقعنا إليه علم أننا (كعلماء) منهم بمنزلة عامة أهل زمانهم» أى أنه يدين الحالة العلمية فى زمنه ويدين جهل العلماء وكسلهم فى التحقيق والتفقه حتى أنه يساوى بين علماء عصره وعامة الناس فى العصور السابقة، ويشرح الإمام العطار أسباب هذا الوضع قائلاً إنهم كعلماء: قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا، نكرر ما قالوا فى كتبهم طوال العمر فإذا مر علينا سؤال من علم الكلام لم نجده فيها قلنا إنه لا أصل له، وإن مرت نكتة أدبية قلنا هذا علوم أهل الباطل.
وبينما كانت الحالة السياسية والثقافية فى المجتمع المصرى فى الحضيض كانت كذلك الحالة الاجتماعية، فقد انتشرت الخرافات والخزعبلات وانقاد المجتمع للظلمات والأوهام، ويروى الجبرتى حادثة مضحكة تدل على ما وصل إليه المجتمع من تخلف وجهل، بطلها هو الشيخ عبداللطيف كبير خدام مشهد السيدة نفسية، الذى وجد أن أهل مصر فى الجهل يرتعون فاستغل جهلهم وطيبتهم، وجلب معزة من السوق وادعى أن السيدة نفسية كلمته من قبرها وأوصته بها، وقال للناس إن هذه المعزة لا تأكل إلا اللوز والفستق، ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر، فجاء إليه الناس بقناطير المكسرات وجرار ماء الورد، وتبارت النساء فى عمل القلائد للمعزة وزينوها بأطواق الذهب وحملوا إليها النذور، ولما علم الوالى عبدالرحمن كتخدا بهذه القصة، أحضر المعزة فى غفلة من عبداللطيف ثم ذبحها وشواها ودعا الشيخ عبدالشيخ اللطيف إلى الغداء وصار يأكله من لحم المعزة والشيخ يأكل مبدياً إعجابه بلحمها الطيب، ثم أخبره الوالى بعد فراغه من طعامه بأنها عنزته ووبخه على دجله وشعوذته وأمر بأن يوضع فراء العنزة على رأسه ويسار به فى شوارع القاهرة، لتعايره الناس.
وجد الشيخ العطار مصر على هذه الحال، ووجد اللغة العربية تنحدر انحدارا لا مثيل له، بينما هو طفل صغير يأبى أبوه أن يعلمه، فاعتمد على نفسه وحفظ القرآن الكريم كاملا، ولما وجده أبوه متعلقا بالعلم سمح له بالدراسة، فإذا به ينتهى من المنهج الابتدائى بسرعة فائقة، ويرفض أن يدخل سوق العمل عازما على إكمال دراسته بالأزهر الشريف، وفى الأزهر أحب اللغة العربية حبا جما ودرس فقه اللغة وأجاده وجذبه علم أصول الدين فقرأ فيه باستفاضة، أهلته للتخصص فى هذا العلم وتأليف الكتب المهمة فيه، وبينما هو شاب يافع فى العشرين من عمره يؤلف كتابا فى علم النحو، وبعدها بسنوات ألف كتابا آخر فى علم البلاغة اتضحت فيه رغبة العارمة فى التجديد والثورة على القديم، كما تمتع أيضا بجرأة فى التناول فبدلاً من أن يحشو كتابه بمقدمة تقليدية يبرز فيها أهمية علم البلاغة دينياً وفقهياً ابتدأه بكتابة أبيات شعر تلخص ما فى الكتاب وتعرض ما فيه من أبواب، كما عرض لتاريخ علم البلاغة وأصوله وتطوره، وفى سنة 1794 وضع حاشية على كتاب أستاذه خالد الأزهرى، نقد فيها كتبا كان شيخه قد استفاض فى شرح محاسنها.
ويبدو أن حب الشيخ للتمرد على الأوضاع المتردية هو ما جعله يميل دائما للأسفار، وبرغم أنه كان محبرا فى أسفاره الأولى لكنه اندماجه فى المجتمعات التى سافر إليها واستفادته منها تؤكد أنه كان دائما يبحث عن الجديد ويحدوه فضوله العلمى إلى مزيد من الاستيعاب، فقد ترك الشيخ قاهرته التى أحبها فى أول الأمر بعد قدوم الحملة الفرنسية، وهرب مع من هربوا إلى الصعيد، حيث يسيطر مراد بك القائد المملوكى الذى قاوم الاحتلال الفرنسى، وكانت هذه المحنة مؤثرة بشكل كبير على نفسية وشخصية الإمام، فقد رأى فيها الموت أكثر من مرة سواء فى رحلته إلى أسيوط أو فى إقامته فيها أو فى رجوعه منها، فتعرض إلى ويلات المطاردة فى السفر، كما رأى الطاعون يحصد أرواح الناس عندما ضرب الطاعون الصعيد فوصف ذلك إلى صاحبه عبدالرحمن الجبرتى فى رسالة بليغة وضعها شيخ المؤرخين فى كتابه، ويبدو أن هذه الرسالة هى التى جعلت صاحبه يلح عليه فى القدوم إلى القاهرة، وهى الرحلة التى قاسى فيها أيضاً من تهديد العربان والبدو المستمر للمسافرين.
بعد أن أتى الشيخ إلى القاهرة وجد جنود الحملة وعلماءها منتشرين فى كل مكان، فهجاهم فى البداية وذمهم وكتب شعرا فى احتقارهم قال فيه:
إن الفرنسيس قد ضاعت دراهمهم فى مصرنا بين حمار وخمار
وعن قريب لهم فى الشام مهلكة يضيع فيها لهم آجال وأعمار
كما هجا فعلهم حينما هدموا بعض القصور والبيوت بمدافعهم فى قصائد طويلة وصف فيها ما كان بتلك القصور من مظاهر الحسن والجمال، لكن الشيخ الذى يحب أن يتعرف على كل ما هو جديد قادته غريزة المعرفة للاطلاع على منجزات الحضارة الفرنسية التى حملها علماء الحملة، فتقرب منهم، وتعرف على علومهم وصادق أحدهم، وأثنى على دراستهم للفلسفة والعلوم، وهو فى ذلك يفرق بين مدفع الفرنسى وعلمه، وبحسب وصف الباحث الأمريكى بيتر جران كان يزدريهم ويصفهم بـ«الفرنسيس الكفرة» ولسبب غير معلوم يقرر الشيخ الهرب من الفرنسيين مغادراً إلى تركيا ثم إلى دمشق وفلسطين وهى الرحلات التى أثرت فى تكوينه بشكل كبير، حيث اكتشف أن الصراعات الفكرية من الممكن أن تهدم المجتمعات كما أيقن من أن للتعصب المذهبى والفكرى آثار مدمرة تفوق آثار الاحتلال، لكنه فى رحلاته هذه استفاد بقدر كبير من العلوم التى أتيحت له هنا كما استفاد منه الشوام والأتراك فقال مترجم سيرته عبدالرازق البيطار عن استقبال الدمشقيين له: «فتلقاه أهلها بما لاق وعقدوا على تفوقه وتفرده بالفضائل كلمة الاتفاق»، وهناك تعرف على منجز الثقافات المختلفة وأهمها المنطق والفلسفة كما قرأ كثيراً عن تراث الهند وحراكها الفكرى وقارنه بالركود الشائع فى مصر، ودرس فى تركيا علوم الطب وهناك ألف كتابا عن التشريح انتقد فيه العالم المسلم الكبير ابن سينا، وقد كان ولوعا بدراسته هذه العلوم مؤكداً أنها تزيد الإنسان يقينا وإيمانا بالله وقدرته وقال متحسرا على بلده وافتقارها لهذا العلم «إن هذه المجالات لا يطرقها إلى عدد قليل من الناس فينقذون البشرية من الجهل والتخلف»، ولذلك دافع عن إدخال علم الطب إلى مصر وحينما حدث يوماً أن حاول أحد الطلاب أن يفتك بالطبيب كلوت بك وهو يمارس تشريح جثة فى مشرحة مدرسة الطب بأبى زعبل، وقف الإمام «حسن العطار» وقد كان وقتها شيخا للأزهر فى امتحان مدرسة الطب وقال إن الدين الحنيف لا يتنافى مع العلم ولا يعارضه وأشاد بتعليم الطب وفائدته فى تقدم الإنسانية.
يعود الإمام إلى مصر سنة 1815 فيجد أن الأحوال قد تغيرت وملك زمامها الوالى محمد على الذى أخذ على عاتقه نهضة مصر وتقدمها، وهو الحلم القديم للشيخ العالم، فتقرب العطار منه وصار من مستشاريه، حتى أنه تولى رئاسة تحرير جريدة الوقائع المصرية الناطقة باسم الدولة، وفى ذات الوقت عاد إلى التدريس بالأزهر، وكانت حلقته تغص بالطلاب، كما كان العلماء يتركون دروسهم ويتكاثرون على حلقته ليستمعوا إلى دروسه فى علم أصول الدين واللغة، ولذلك قال عنه المؤرخ على مبارك إن «أكابر المشايخ كانوا إذا جلس للدرس تركوا حلقاتهم وقاموا إلى درسه».
وبرغم علم الإمام الكبير وتبحره فى تخصصاته اللغوية والدينية، لكنه لم يكن يكف عن مطالعة الكتب الأجنبية، وأخذ ينهل من الكتب المترجمة من التركية والفرنسية واليونانية، حتى قيل عنه «إن كلفة بالمعرفة والتعلم هو الذى جعله فذا بين أقرانه تلميذا وأستاذا، ولعل شغف الشيخ الكبير بالعلم هو الذى جعل محمد على يؤثره على من سواه، وهو ما رحب به الشيخ الذى رأى فى محمد على خير معين على تحقيق حلمه بتحديث مصر، فنال الشيخ ما يحلم به من إنشاء مدارس العلوم والطب والهندسة فى مصر كما كان مستشارا للوالى فى ترشيح من يراهم جديرين بالسفر فى البعثات، وإليه يعود الفضل فى ترشيح تلميذه رفاعة الطهطاوى للسفر إلى فرنسا وهى البعثة التى كان لها أكبر الأثر فى تاريخ مصر وتطوير علوم الأزهر، ويبدو أن الشيخ كان دائم الاختلاف مع علماء الأزهر التقليديين، وبرغم أنه لم يصلنا شىء من هذه الخلافات لكن هناك قصيدة شاعر شاب ليؤيده ويذكر محاسنه وأفضاله عقب معركته مع بعض الشيوخ، فقال الشاعر فى قصيدته:
هو فى سماء العلم بدر كامل ما أن يصاب تمامه بسرار
هو فى المعارف صاحب الحال الذى يمتاز عند تنكر الأخبار
هو فى الزمان السعد والعز الذى تعتز مصر به على الأمصار
وقال آخر
ورأى الأقاحى عطر ثغرك فانتشى متعجبا يثنى على العطار
يزهو على الأعصار عجبا عصره وتتيه مصر به على الأمصار
وبرغم أن الشيخ كان يرى بعينه تحقق حلمه فى أن تكون بمصر مدارس للعلوم والفنون والطب والهندسة، وبدأ يرى ما كان يحلم به من تقدم وازدهار لكنه لم ينس الأزهر ذلك البيت الكبير الذى يعرف أنه بداية صلاح مصر ونهوضها، ولذلك عمل بقوة ليحدثه ويطور مناهجه مخففا من حدة التشدد الفكرى والتعصب المقيت، ويروى عنه أن أحدهم لامه وهو شيخ الأزهر فى حبه لسماع الأغانى وكتابة الشعر الغزلى فقال له:
«من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار»، كما عمل على أن يعيد للعلم سيرته الأولى بأن يحصن العالم بالأدب والعلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية لما فى ذلك من فائدة عظيمة، لكنه حرص على ألا يصطدم بشكل مباشر مع شيوخ الأزهر المنغلقين، فأوعز إلى تلميذه محمد عياد طنطاوى بأن يعطى دروسا فى الشرح والتعليق على كتب الشعر والأدب، وبفضل هذا التوجيه استطاع الإصلاح فى الأزهر أن يسجل أول حركة فى الدراسات الأدبية والشعرية فى صحن الجامع العريق، كما أنه ينسب إليه الفضل فى تعرف الأزهريين على كتب الأدب المختلفة مثل كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، وبرغم دور الإمام حسن العطار الكبير وتفقه الواسع لم ينل حظه حتى الآن من اهتمام الباحثين حيث تكتظ مكتبة دار الكتب بمؤلفات الشيخ التى تصل إلى ما يقرب التسعين مؤلفا، ما بين علوم الفقه وأصول الدين والنحو والبلاغة والفلسفة والطب، والهندسة، وما بين شروح ومقالات وأشعار، وظلت هذه المخطوطات القيمة والتى شكلت وعى عصر نهضة مصر الحقيقى مجهولة لا يراها دارس ولا قارئ.
مرونة وأصالة، مستدركين ما فات الإمام الرائد الذى يكفيه وضع النظرية التى يتغنى بها الجميع الآن.
وائل السمرى يكتب: أئمة التنوير.. شيخ الأزهر الإمام حسن العطار.. مفجر حلم النهضة.. قال: «من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار»
السبت، 4 أغسطس 2012 - 08:50
الإمام حسن العطار
يقولون إن أشد ساعات الليل إظلاما هى تلك التى تسبق الفجر مباشرة، ويبدو أن هذه النظرية الطبيعية الكونية التى تبرز العلاقة بين الظلام والضوء تتطابق مع ما تعيشه المجتمعات فى دوراتها بين الإظلام والتنوير، ففى عمق ظلمة الصراع بين الفرس والروم، ولدت البعثة المحمدية، وفى أشد مراحل الدولة الأموية قهرا جاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ورأينا فى الحلقات السابقة أنه فى ظلمات الشك والتخبط جاء الإمام الغزالى، وفى عصر الأزمة وتهديد الهوية العربية الإسلامية هل علينا الإمام العز بن عبدالسلام، وفى ظلمات الباطنية والتخبط جاء إلينا الإمام الشاطبى، وها نحن اليوم نعرض لسيرة ومسيرة أحد أكبر علماء الأزهر وأول باعث لنهضة العلم فى مصر، وهو الإمام حسن العطار شيخ الأزهر ومجدد الدولة وصاحب المؤلفات والشروح الكثيرة التى أحدثت حراكا ثقافيا وفقهيا كبيرا فى عصره، وهو الشاعر الرقيق والشيخ الواثق، والمكافح الذى لم يعبأ بجهل يحيط به ولا تخلف يعانى منه المجتمع، فحمل شعلة التنوير بفكره وقلمه وإمامته، فكان بحق غارس نهضة مصر والأزهر، وإمام أهل العلم والعمل.
أطلق الإمام حسن العطار صرخته حينما رأى من تقدم الفرنسيين ما رأى فى الحملة الفرنسية: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها»، فظلت هذه الصرخة تتردد حتى تغيرت البلاد وأدخل من العلم ما ليس فيها، فتسيدت مصر ما حولها من بلاد وأصبحت أهم وأكبر أقاليم العالم الإسلامى بعدما شربها الإهمال وأنهكتها السرقة وعمها الجهل أثناء فترة الحكم العثمانى لمصر، فصارت روحه تتوق إلى كل جديد، وصار قلبه يهفو إلى العلم أينما كان، فقد كان رحمه الله يقول: من سَمَتْ هِمته به إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثير من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة فى رياض الفهوم».. أشادت باستنارته وعلمه وأدبه دائرة المعارف الإسلامية فجاء فيها أنه: كان العطار رجلاً مستنيراً، اشتهر بعلمه، وكان أيضاً شاعراً ناثراً، وقال عنه محب الدين الخطيب فى كتابه عن «الأزهر»: وكان العطار متضلعاً فى العلوم الرياضية فضلاً على العلوم الشرعية والعربية، وقال عنه المؤرخ عبدالرحمن الرافعى: وكان الشيخ حسن العطار من علماء مصر الأعلام، وامتاز بالتضلع فى الأدب وفنونه، والتقدم فى العلوم العصرية، وكان هذا نادراً بين علماء الأزهر، كما قال عنه رفاعة الطهطاوى: كان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية، وقال عنه على مبارك: «إنه اشتغل بضرائب الفنون والتقاط فوائدها»، والشيخ الجليل عبدالمتعال الصعيدى الذى قائلاً: «موقف الشيخ العطار من العلوم الرياضية بشكلها الجديد يدل على ما كان يمتاز به من مرونة عقلية ودينية، وعلى أنه كان فى هذا أحسن حالاً من أهل الأزهر الذين حاربوا العلم بعده باسم الدين»، أما المؤرخ الأشهر لعصره عبدالرحمن الجبرتى فقال فيه: «صاحبنا العلامة، وصديقنا الفهامة، المنفرد الآن بالعلوم الحكمية، والمشار إليه فى العلوم الأدبية، وصاحب الإنشاء البديع والنظم الذى هو كزهر الربيع، الشيخ حسن العطار».
ولد الإمام العطار فى العام 1766 أى قبل مجىء الحملة الفرنسية على مصر بنحو ثلاثين عاماً، ووقتها كانت مصر تئن تحت الحكم الخليفة العثمانى ووكلائها من المماليك الذين كانوا كثيراً ما يتصارعون فتصاب الأسواق بالخراب والزراعات بالبوار وتمتلئ البيوت بالنواح والحرائق، وتركزت السلطة والثروة فى يد قلة قليلة من المماليك والأجانب فعاش الشعب فى ضنك مرير، ضاعفه كثرة استيراد البضائع الأجنبية التى أضرت بأصحاب الحرف وأفقرتهم، كما انهارت الزراعة والتجارة الزراعية بسبب احتكار الأغنياء للبائع والمأكولات التى ظلوا يتلاعبون بسعرها فأدى هذا إلى انهيار السوق، كما أدت ظهور طبقة التجار الأجانب المقربين من المماليك إلى الإسراع بوتيرة الدهور المستمر للسوق المصرية فعم الفقر والغلاء والقهر والبلاء، ولعل هذا الذى رآه الإمام العطار من انحدار الثقافة والصناعة والعلوم هو ما جعل ثورته لا تهدأ من أجل تحديث مصر وإدخال العلوم وإدخالها عصر العلم والتحديث، ليعيد إلى الأذهان اهتمام الأئمة الكبار بالعلوم الكونية والطبيعية مثلما كان الحال مع الإمام جعفر الصادق الذى كان أستاذاً لجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء والجبر فى العالم.
ومثلما كان الحال مترديا فى العلوم الدنيوية كان كذلك الحال فى العلوم الدينية، وهذا ما رصده عالم إنجليزى فى تقريره لحكومته فى بداية عصر محمد على باشا حيث يقول: إن التعليم الذى يقوم به أساتذة الشريعة فى المعاهد الدينية لتنشئة علماء الدين المسلمين قليل الجدوى، بل إنه ليهبط إلى مستوى يبلغ فيه من التفاهة الحد الأقصى، فحظ دراسة الآيات القرآنية التى تحض على الفضائل وتدعو إلى الأخلاق الحسنة قليل جدا إذا ما قارناه بحظ المسائل الشكلية فى الإسلام من الدراسة مثل معرفة مقدار التلوث فى الماء الذى يفسد الوضوء!!» وكان الإمام العطار على وعى كبير بتلك المشكلة فقال فى شرحه لكتاب «جمع الجوامع فى أصول الفقه» إن من تأمل فى علمائنا السابقين يجد أنهم كانوا مع رسوخ أقدامهم فى العلوم الشرعية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، والكتب التى ألفت فيها حتى كتاب المخالفين لهم فى العقائد والفروع، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر فى كتب غير أهل الإسلام من التوراة وغيرها من الكتب السماوية واليهودية والنصرانية، ثم هم مع ذلك ما أخلوا فى تثقيف ألسنتهم برقائق الأشعار، ثم يدين الإمام العطار الحال الذى وصلت إليه العلوم الشرعية فى زمنه قائلاً: «ومن نظر ذلك وفيما وصل إليه الحال فى الزمن الذى وقعنا إليه علم أننا (كعلماء) منهم بمنزلة عامة أهل زمانهم» أى أنه يدين الحالة العلمية فى زمنه ويدين جهل العلماء وكسلهم فى التحقيق والتفقه حتى أنه يساوى بين علماء عصره وعامة الناس فى العصور السابقة، ويشرح الإمام العطار أسباب هذا الوضع قائلاً إنهم كعلماء: قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا، نكرر ما قالوا فى كتبهم طوال العمر فإذا مر علينا سؤال من علم الكلام لم نجده فيها قلنا إنه لا أصل له، وإن مرت نكتة أدبية قلنا هذا علوم أهل الباطل.
وبينما كانت الحالة السياسية والثقافية فى المجتمع المصرى فى الحضيض كانت كذلك الحالة الاجتماعية، فقد انتشرت الخرافات والخزعبلات وانقاد المجتمع للظلمات والأوهام، ويروى الجبرتى حادثة مضحكة تدل على ما وصل إليه المجتمع من تخلف وجهل، بطلها هو الشيخ عبداللطيف كبير خدام مشهد السيدة نفسية، الذى وجد أن أهل مصر فى الجهل يرتعون فاستغل جهلهم وطيبتهم، وجلب معزة من السوق وادعى أن السيدة نفسية كلمته من قبرها وأوصته بها، وقال للناس إن هذه المعزة لا تأكل إلا اللوز والفستق، ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر، فجاء إليه الناس بقناطير المكسرات وجرار ماء الورد، وتبارت النساء فى عمل القلائد للمعزة وزينوها بأطواق الذهب وحملوا إليها النذور، ولما علم الوالى عبدالرحمن كتخدا بهذه القصة، أحضر المعزة فى غفلة من عبداللطيف ثم ذبحها وشواها ودعا الشيخ عبدالشيخ اللطيف إلى الغداء وصار يأكله من لحم المعزة والشيخ يأكل مبدياً إعجابه بلحمها الطيب، ثم أخبره الوالى بعد فراغه من طعامه بأنها عنزته ووبخه على دجله وشعوذته وأمر بأن يوضع فراء العنزة على رأسه ويسار به فى شوارع القاهرة، لتعايره الناس.
وجد الشيخ العطار مصر على هذه الحال، ووجد اللغة العربية تنحدر انحدارا لا مثيل له، بينما هو طفل صغير يأبى أبوه أن يعلمه، فاعتمد على نفسه وحفظ القرآن الكريم كاملا، ولما وجده أبوه متعلقا بالعلم سمح له بالدراسة، فإذا به ينتهى من المنهج الابتدائى بسرعة فائقة، ويرفض أن يدخل سوق العمل عازما على إكمال دراسته بالأزهر الشريف، وفى الأزهر أحب اللغة العربية حبا جما ودرس فقه اللغة وأجاده وجذبه علم أصول الدين فقرأ فيه باستفاضة، أهلته للتخصص فى هذا العلم وتأليف الكتب المهمة فيه، وبينما هو شاب يافع فى العشرين من عمره يؤلف كتابا فى علم النحو، وبعدها بسنوات ألف كتابا آخر فى علم البلاغة اتضحت فيه رغبة العارمة فى التجديد والثورة على القديم، كما تمتع أيضا بجرأة فى التناول فبدلاً من أن يحشو كتابه بمقدمة تقليدية يبرز فيها أهمية علم البلاغة دينياً وفقهياً ابتدأه بكتابة أبيات شعر تلخص ما فى الكتاب وتعرض ما فيه من أبواب، كما عرض لتاريخ علم البلاغة وأصوله وتطوره، وفى سنة 1794 وضع حاشية على كتاب أستاذه خالد الأزهرى، نقد فيها كتبا كان شيخه قد استفاض فى شرح محاسنها.
ويبدو أن حب الشيخ للتمرد على الأوضاع المتردية هو ما جعله يميل دائما للأسفار، وبرغم أنه كان محبرا فى أسفاره الأولى لكنه اندماجه فى المجتمعات التى سافر إليها واستفادته منها تؤكد أنه كان دائما يبحث عن الجديد ويحدوه فضوله العلمى إلى مزيد من الاستيعاب، فقد ترك الشيخ قاهرته التى أحبها فى أول الأمر بعد قدوم الحملة الفرنسية، وهرب مع من هربوا إلى الصعيد، حيث يسيطر مراد بك القائد المملوكى الذى قاوم الاحتلال الفرنسى، وكانت هذه المحنة مؤثرة بشكل كبير على نفسية وشخصية الإمام، فقد رأى فيها الموت أكثر من مرة سواء فى رحلته إلى أسيوط أو فى إقامته فيها أو فى رجوعه منها، فتعرض إلى ويلات المطاردة فى السفر، كما رأى الطاعون يحصد أرواح الناس عندما ضرب الطاعون الصعيد فوصف ذلك إلى صاحبه عبدالرحمن الجبرتى فى رسالة بليغة وضعها شيخ المؤرخين فى كتابه، ويبدو أن هذه الرسالة هى التى جعلت صاحبه يلح عليه فى القدوم إلى القاهرة، وهى الرحلة التى قاسى فيها أيضاً من تهديد العربان والبدو المستمر للمسافرين.
بعد أن أتى الشيخ إلى القاهرة وجد جنود الحملة وعلماءها منتشرين فى كل مكان، فهجاهم فى البداية وذمهم وكتب شعرا فى احتقارهم قال فيه:
إن الفرنسيس قد ضاعت دراهمهم فى مصرنا بين حمار وخمار
وعن قريب لهم فى الشام مهلكة يضيع فيها لهم آجال وأعمار
كما هجا فعلهم حينما هدموا بعض القصور والبيوت بمدافعهم فى قصائد طويلة وصف فيها ما كان بتلك القصور من مظاهر الحسن والجمال، لكن الشيخ الذى يحب أن يتعرف على كل ما هو جديد قادته غريزة المعرفة للاطلاع على منجزات الحضارة الفرنسية التى حملها علماء الحملة، فتقرب منهم، وتعرف على علومهم وصادق أحدهم، وأثنى على دراستهم للفلسفة والعلوم، وهو فى ذلك يفرق بين مدفع الفرنسى وعلمه، وبحسب وصف الباحث الأمريكى بيتر جران كان يزدريهم ويصفهم بـ«الفرنسيس الكفرة» ولسبب غير معلوم يقرر الشيخ الهرب من الفرنسيين مغادراً إلى تركيا ثم إلى دمشق وفلسطين وهى الرحلات التى أثرت فى تكوينه بشكل كبير، حيث اكتشف أن الصراعات الفكرية من الممكن أن تهدم المجتمعات كما أيقن من أن للتعصب المذهبى والفكرى آثار مدمرة تفوق آثار الاحتلال، لكنه فى رحلاته هذه استفاد بقدر كبير من العلوم التى أتيحت له هنا كما استفاد منه الشوام والأتراك فقال مترجم سيرته عبدالرازق البيطار عن استقبال الدمشقيين له: «فتلقاه أهلها بما لاق وعقدوا على تفوقه وتفرده بالفضائل كلمة الاتفاق»، وهناك تعرف على منجز الثقافات المختلفة وأهمها المنطق والفلسفة كما قرأ كثيراً عن تراث الهند وحراكها الفكرى وقارنه بالركود الشائع فى مصر، ودرس فى تركيا علوم الطب وهناك ألف كتابا عن التشريح انتقد فيه العالم المسلم الكبير ابن سينا، وقد كان ولوعا بدراسته هذه العلوم مؤكداً أنها تزيد الإنسان يقينا وإيمانا بالله وقدرته وقال متحسرا على بلده وافتقارها لهذا العلم «إن هذه المجالات لا يطرقها إلى عدد قليل من الناس فينقذون البشرية من الجهل والتخلف»، ولذلك دافع عن إدخال علم الطب إلى مصر وحينما حدث يوماً أن حاول أحد الطلاب أن يفتك بالطبيب كلوت بك وهو يمارس تشريح جثة فى مشرحة مدرسة الطب بأبى زعبل، وقف الإمام «حسن العطار» وقد كان وقتها شيخا للأزهر فى امتحان مدرسة الطب وقال إن الدين الحنيف لا يتنافى مع العلم ولا يعارضه وأشاد بتعليم الطب وفائدته فى تقدم الإنسانية.
يعود الإمام إلى مصر سنة 1815 فيجد أن الأحوال قد تغيرت وملك زمامها الوالى محمد على الذى أخذ على عاتقه نهضة مصر وتقدمها، وهو الحلم القديم للشيخ العالم، فتقرب العطار منه وصار من مستشاريه، حتى أنه تولى رئاسة تحرير جريدة الوقائع المصرية الناطقة باسم الدولة، وفى ذات الوقت عاد إلى التدريس بالأزهر، وكانت حلقته تغص بالطلاب، كما كان العلماء يتركون دروسهم ويتكاثرون على حلقته ليستمعوا إلى دروسه فى علم أصول الدين واللغة، ولذلك قال عنه المؤرخ على مبارك إن «أكابر المشايخ كانوا إذا جلس للدرس تركوا حلقاتهم وقاموا إلى درسه».
وبرغم علم الإمام الكبير وتبحره فى تخصصاته اللغوية والدينية، لكنه لم يكن يكف عن مطالعة الكتب الأجنبية، وأخذ ينهل من الكتب المترجمة من التركية والفرنسية واليونانية، حتى قيل عنه «إن كلفة بالمعرفة والتعلم هو الذى جعله فذا بين أقرانه تلميذا وأستاذا، ولعل شغف الشيخ الكبير بالعلم هو الذى جعل محمد على يؤثره على من سواه، وهو ما رحب به الشيخ الذى رأى فى محمد على خير معين على تحقيق حلمه بتحديث مصر، فنال الشيخ ما يحلم به من إنشاء مدارس العلوم والطب والهندسة فى مصر كما كان مستشارا للوالى فى ترشيح من يراهم جديرين بالسفر فى البعثات، وإليه يعود الفضل فى ترشيح تلميذه رفاعة الطهطاوى للسفر إلى فرنسا وهى البعثة التى كان لها أكبر الأثر فى تاريخ مصر وتطوير علوم الأزهر، ويبدو أن الشيخ كان دائم الاختلاف مع علماء الأزهر التقليديين، وبرغم أنه لم يصلنا شىء من هذه الخلافات لكن هناك قصيدة شاعر شاب ليؤيده ويذكر محاسنه وأفضاله عقب معركته مع بعض الشيوخ، فقال الشاعر فى قصيدته:
هو فى سماء العلم بدر كامل ما أن يصاب تمامه بسرار
هو فى المعارف صاحب الحال الذى يمتاز عند تنكر الأخبار
هو فى الزمان السعد والعز الذى تعتز مصر به على الأمصار
وقال آخر
ورأى الأقاحى عطر ثغرك فانتشى متعجبا يثنى على العطار
يزهو على الأعصار عجبا عصره وتتيه مصر به على الأمصار
وبرغم أن الشيخ كان يرى بعينه تحقق حلمه فى أن تكون بمصر مدارس للعلوم والفنون والطب والهندسة، وبدأ يرى ما كان يحلم به من تقدم وازدهار لكنه لم ينس الأزهر ذلك البيت الكبير الذى يعرف أنه بداية صلاح مصر ونهوضها، ولذلك عمل بقوة ليحدثه ويطور مناهجه مخففا من حدة التشدد الفكرى والتعصب المقيت، ويروى عنه أن أحدهم لامه وهو شيخ الأزهر فى حبه لسماع الأغانى وكتابة الشعر الغزلى فقال له:
«من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار»، كما عمل على أن يعيد للعلم سيرته الأولى بأن يحصن العالم بالأدب والعلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية لما فى ذلك من فائدة عظيمة، لكنه حرص على ألا يصطدم بشكل مباشر مع شيوخ الأزهر المنغلقين، فأوعز إلى تلميذه محمد عياد طنطاوى بأن يعطى دروسا فى الشرح والتعليق على كتب الشعر والأدب، وبفضل هذا التوجيه استطاع الإصلاح فى الأزهر أن يسجل أول حركة فى الدراسات الأدبية والشعرية فى صحن الجامع العريق، كما أنه ينسب إليه الفضل فى تعرف الأزهريين على كتب الأدب المختلفة مثل كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، وبرغم دور الإمام حسن العطار الكبير وتفقه الواسع لم ينل حظه حتى الآن من اهتمام الباحثين حيث تكتظ مكتبة دار الكتب بمؤلفات الشيخ التى تصل إلى ما يقرب التسعين مؤلفا، ما بين علوم الفقه وأصول الدين والنحو والبلاغة والفلسفة والطب، والهندسة، وما بين شروح ومقالات وأشعار، وظلت هذه المخطوطات القيمة والتى شكلت وعى عصر نهضة مصر الحقيقى مجهولة لا يراها دارس ولا قارئ.
وائل السمرى يكتب: رفاعة الطهطاوى.. أبوالمصريين..نقل إلى مصر الدستور الفرنسى مقتديا بعمر بن الخطاب حينما نقل نظام الدواوين الفارسى إلى الإسلام وتبنى مشروعا لإحياء التراث الإسلامى
الأحد، 5 أغسطس 2012 - 09:05
رفاعة الطهطاوى
بقلم وائل السمرى
قال الوالى العثمانى للشيخ الشبرواى شيخ الأزهر: المسموع عندنا أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت فى غاية الشوق إلى المجىء إليها، فلما جئتها وجدت أن السماع عنها خير من رؤيتها، فيحاول الشيخ أن يغير وجهة نظره قائلا: هى ما سمعتها تماما وهى معدن العلوم والمعارف، لكن هذه الإجابة لم تقنع الوالى فقال له مستنكرا: لكن أين هى؟ وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن العلوم والمعارف فلم أجد عندكم غير بعض الفقه وبعض الوسائل ونبذتم المقاصد؟ فقال له الشيخ: نحن فى الأزهر لا نهتم بهذه العلوم ولا الرياضيات إلا بقدر ما يمكننا من الحكم فى المواريث؟ فأحرجه الوالى قائلاً: لكن العلوم والرياضيات لازمة للعلم الشرعى، وإلا فكيف ستحدد مطالع الشهور ومواقيت الصلاة واستقبال القبلة؟ ولما شعر الشيخ بالإحراج أراد أن يتهرب من السؤال فقال: نعم نعم.. إن معرفة ذلك من فروض الكفاية التى إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين، وهذه العلوم تحتاج إلى أدوات وصناعات وأهل الأزهر معظمهم فقراء فيندر فيهم القابلية لذلك، ولدينا من يكفينا فى هذا الشأن وهو الشيخ حسن الجبرتى، وهو عالم بهذه الأشياء ويكفينا عن الاحتياج، فطلب الوالى أن يرى هذا الشيخ «الوحيد» الذى يعرف العلوم والرياضيات، ولما قابله أعجب به وصاحبه، وبعد ذلك كان الشيخ الشبراوى كلما رأى «حسن الجبرتى» والد المؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتى قال له: سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فلولا وجودك لكنا جميعاً عنده حميراً.
هذا الحوار هو ما ينقله الكاتب الإسلامى الكبير محمد عمارة فى كتابه عن رفاعه الطهطاوى الذى جاء بعنوان «رفاعة الطهطاوى رائد التنوير فى العصر الحديث» ليدلل على ما وصل إليه حال البلاد قبل ميلاد العالم الأجمل فى تاريخ الشرق رفاعة رافع الطهطاوى، إذ يقر شيخ الأزهر وهو أعلم أهل مصر وقتها والجالس على رأس نخبة مثقفيها أنه لولا وجود شخص واحد لكان الجميع حميراً، بل لا يتورع عن القول إن الجبرتى الأب «سترنا» من الفضيحة وكأننا كنا بجهلنا عرايا، ولم نجد ما يسترنا إلا رجل واحد من أصول إرتيرية، ليكفينا مرار الفضيحة.
وفى الحقيقة فإنه قلما يجد الواحد مفكراً إسلامياً كبيراً ينصف باعث النهضة المصرى «رفاعة الطهطاوى» بقلبه وبحثه مثلما فعل الدكتور محمد عمارة وهو المفكر الإسلامى الكبير الذى لم يضع عصابة التخلف على عينيه ولم يردد ما يردده من يحجرون على الإسلام ويعتبرون تعلم اللغات الأجنبية مفسدة، فحقق المفكر الكبير أعمال الأب الروحى للثقافة المصرية وعكف سنين على دراسة ترجماته ومؤلفاته وإنجازاته، مؤكداً أن أمير الشعراء الشاعر الكبير أحمد شوقى حينما نعت الطهطاوى بأنه «لأبناء البلاد أبا» لم يكن يرسم صورة خيالية، وإنما كان يقرر أمراً واقعا، فرفاعة ابن صعيد مصر والمتحصن بحبها والمتصدر لنهضتها كان نعم الأب لحضارة أيقظت الشرق كله من ثباته العميق وضخت فيه روح الوطنية والعروبة والإسلام فسارت مصر فى مصاف الدول الأولى فى العالم متحدية كل المعوقات التى تقف أمامها فى وقت كان فيه جيراننا يعبدون الأشجار والأحجار.
كانت المهمة تنتظر من يقوم بها، وكان الحلم الذى حلمه الشيخ «حسن العطار» متهيئا للتحقيق، ولم يكن ينقص مصر سوى أن يعلن أحد أبنائها عن استعداده للقيام بهذه المهمة، وكان لها رفاعة الذى بحث واستقصى وعلم وخبر، وحفظ القرآن ودرس الأحاديث واللغة والفقه فى أزهرنا الشريف لتتحصن هويته من العاصفات، وليسافر إلى فرنسا التى كانت تبتعد عنا بتقدمها آلاف الأميال، فنهل رفاعة من علومها ووقف على أسباب تقدمها ومتعجلا أخذ ينقل منجزاتها الحضارية والأدبية تماما كما فعل جيش المترجمين فى الدولة العباسية التى نقلت علوم الحضارات الأخرى بدءا، فأصبحت فى سنوات معدودات أكبر إمبراطورية فى العالم، والمستنيرون من الإسلاميين الذين درسوا الدين وتعلموا العلم ووقفوا على أسباب تقدم الدولة الإسلامية الأولى يعرفون ذلك جيداً، فها هو الدكتور محمد عمارة يقول فى مقدمة كتابه عن رفاعة الطهطاوى إن «اليونان أخذوا عن المصريين القدماء، والعرب أخذوا عن اليونان والفرس والهنود وأوروبا بكل أجناسها وأقوامها أخذت عن العرب، إذن من المفيد بل من الضرورى أن ندخل نحن الميدان من جديد بعد أن تخدرنا بالخرافة قرونا ولابد أن نأخذ عن أوروبا ونصل هذا الزاد الحضارى بالمشرق من صفحات حضارتنا القديمة».
يشاء القدر أن يكون الفقير هو باعث النهضة فى ربوع مصر والعالم العربى والإسلامى، وهو الذى وصفه «عمارة» بأنه ناضل نضال أصحاب الرسالات من أجل أن تصل الثقافة والحداثة إلى مصر فتعمر مطابعها بفضل ما كتبه وترجمه هو وتلامذته وتتقدم جيوشها بفضل عمله بها ونقلها للعلوم العسكرية أثناء زيارته لباريس، وبرغم أن منجز «الطهطاوى» فى الجانب الفقهى والدينى يسير، لكن هذا لا يمنعه من أن يكون من أكبر فقهاء التنوير فى العالم الغربى، بل إن شئت قل أكبرهم، ذلك لأنه طلب العلم وهى الفريضة الإسلامية الكبرى ونقله فصار من أفاضلنا، وهو الذى جاهد بعلمه فحافظ على هويتنا وبلدنا، وهو الذى كون بضخه الدماء الجديدة فى أوصالنا شخصيتنا الحديثة التى وقفت أمام المحتلين بالمرصاد، وإن كان من الثابت أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل فقد آمن رفاعة بوطنه ودينه وهويته، وعمل بكل ما أوتى من قوة على تدعيمهم، فكان مؤمناً خالصاً يحفظ كتاب الله ويجتهد فيما لا يجد فيه نصا، ويبنى حضارة جديدة متبعا سنة الأولين الذى كانوا يعملون بحديث رسول الله «الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أولى بها».
فى مدينة طهطا سنة 1801 بأقاصى صعيد مصر ولد هذا الرجل يعانى من الفقر بعد أن جرد محمد على آباءه مما كانوا يتحصلون عليه من حصيلة الأراضى الزراعية باعتباره أحد الأشراف من آل بيت النبوة، فقد كان نسب والده يتصل إلى رسول الله مارا بالإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وكان لنشأة رفاعة فى هذه الأجواء وعمل أخواله بالقضاء الشرعى أكبر الأثر فى تكوينه الشخصى والأدبى والإسلامى، فقد حفظ صغيراً ما يدرسه طلاب الأزهر كما حفظ القرآن الكريم كاملاً وصار عالماً بالنحو والفقه، وهو ما أهله للالتحاق بالأزهر الشريف وهو ابن ستة عشر عاما، وهنا درس أحاديث البخارى ودرس جامع الجوامع فى الأصول ومشارق الأنوار.
كما درس الحديث والحكم لابن عطاء الله السكندرى، ودرس تفسير الجلالين، ودرس مغنى اللبيب، وشرح ابن عقيل وغيرها من معارف الفقه والحديث والعلوم الشرعية على يد أكبر علماء الأزهر وشيوخه، وكان للشيخ «حسن العطار» أعظم الأثر فى حياة رفاعة، حيث كانت تلمذته على يديه مستمرة منذ يومه الأول فى الأزهر، وحتى سفره مبعوثا لباريس، وكان يشركه معه فى قراءة معارفه التى كان يداوم الحديث عنها ويطالعها فى ما لا يتوفر عند غيره من علماء الأزهر، وهنا يجدر القول بأن بذور حلم النهضة التى حلم بها العطار قد ألقاها فى حقلين فأثمرا وطناً حديثاً متحضراً، أما الحقل الأول فهو محمد على باشا الذى أنشأ ما كان يحلم به العطار من مدارس للطب والهندسة والرياضيات، والحقل الثانى هو رفاعة رافع الطهطاوى الذى عنى بالحياة الأدبية، ونقل علوم الغرب إلى مصر، فكانت البداية الحقيقية لنهضتها من كابوس التخلف.
يتخرج الفقر من الأزهر، وهو بعد مازال فقيرا لا يجد ما يعينه على حلمه، فيعمل مدرسا بالأجرة فى بيوت المماليك يعلمهم اللغة والدين، وهو يعمل بالأساس مدرسا بالجامع الأزهر، ثم واعظا بالجيش مستمراً فى عمله هذا حتى العام 1826، حتى يرشحه شيخه الذى آمن بعبقريته وتفرده للسفر واعظا مع بعثة مصر إلى باريس لتعلم العلوم الغربية ونقلها إلى مصر، ومن الواضح أن رفاعة لم يكن منسجماً فى الحياة الفرنسية، وكان منكبا فقط على دراسة اللغة كتابة وقراءة دون إتقان للنطق، وهو ما ذكره تلميذه صالح مجدى عنه، بما يعنى أنه كان يعرف مهمته جيداً، فليس من مهامه أن ينغمس فى الحياة الباريسية، وليس من مهامه أن يتقن النطق بهذه اللغة، فمهمته الأولى أن ينقل علومهم، ويرد بضاعتنا إلينا.
ومنذ اليوم الأول بدأ رفاعة فى تعلم اللغة، برغم أنه لم يكن مبعوثا للتعليم، وإنما لإمامة المبعوثين، لكن روحه الوثابة انتهزت هذه الفرصة بكل ما أوتى من قوة، حتى أنه كان يوفر من مصروفه القليل ما يتعلم به الفرنسية بدروس إضافية ينفق عليها من ماله الخاص، حتى تم إيفاده مبعوثا رسميا بعد ذلك، ليبدأ فى الترجمة فور ما تمكن من اللغة، وما أن يفرغ من كتاب حتى يرسله إلى مصر متعجلا نهضتها، وغير صابر على انتهاء البعثة، حتى يبدأ فى تحقيق المنجز، فقد عرف هذا الشاب اليافع أنه منذور للنهضة، وأن على عاتقه مهمة ثقيلة، وهو جدير بها، فعكف على دراسة القوانين، وترجم كتاب «روح الشرائع» لمونتيسيكو، و«العقد الاجتماعى» لجان جاك روسو، ليعود رفاعة بعد خمس سنوات من العمل والكد وقد سبقته إنجازاته وذاع صيت ترجماته.
كانت أولى الوظائف التى تولاها رفاعة بعد عودته من باريس هى وظيفة مترجم بمدرسة الطب، وقد كان يشغل هذه الوظيفة قبله مترجمون من بلاد مختلفة، ثم عمل مترجما للعلوم الهندسية والعسكرية، وفى هذه الأثناء كان رفاعة يخطط لتحقيق حلمه بإقامة مدرسة الألسن، حتى افتتحها سنة 1839 وقال فى خطبة افتتاحها ما يخبرنا بما لا يترك للشك مساحة بغرضه النبيل وحسه الوطنى العالى، فقال: ولا يخفى أن أصل تصدينا لإنشاء هذه المدرسة هو تقليل التعرب عن الوطن، وحب إيصال النفع إلى الوطن الذى هو من الإيمان، واستمرت هذه المدرسة فى القيام بدورها التنويرى على أكمل وجه حتى عصر عباس الأول، بعد أن قام برسم سياساتها ووضع مناهجها التى كفلت لطلابها أن يكونوا على مستوى عال من الإتقان، ولم ينس وهو الأزهرى المسلم أن ينشئ بهذه المدرسة قسما للفقه لكى يتعلم من يترجمون دينهم وألا ينسوا هويتهم، كما أنشأ قسا للغة العربية لتكون معرفتها معينا على الترجمة الصحيحة، وتدعيما للهوية العربية الإسلامية، وأثناء إدارته لهذه المدرسة أنشأ أول صحيفة عربية مصرية باسم «أخبار الديار المصرية»، كما أشرف على جريدة «الوقائع المصرية» الناطقة بلسان حال الحكومة المصرية.
لم يستمر حلم النهضة بشكله الوردى لرفاعة على طول الخط، فما أن مات إبراهيم بن محمد على حتى تولى عباس الأمر، فأعاد رفاعة نشر كتابه «تخليص الأبريز» الذى يصف فيه الثورة الفرنسية، ويترجم أفكارها الداعية إلى التمرد على الطغاة، والثورة فى وجه الظلاميين، والذى ترجم فيه دستور فرنسا متعاطفا مع ثورة الفرنسيين، وهو على ما يبدو ما أثار استياء الخديو عباس، فأمر بنفيه إلى السودان، وانتقم من رفاعة فى شخص مدرسة الألسن التى جعلها جامعة، فألغى قسم الفقه، وفصل عددا كبيرا من طلابها، ثم نقل مقرها، ثم ألغاها كلية، ووزع طلابها المتبقين على المدرسة التجهيزية، ثم ألغى المدرسة التجهيزية أيضا، وهو ما يؤكد أنه كان ينتقم من رفاعة واستنارته عن طريق محو آثاره وتشتيت طلابه، لكن رفاعة لم يستسلم لأحزان المنفى، واستمر فى ترجمته للكتب والروايات، فترجم رواية مغامرة تلماك، وقدم للأدب العربى أول عمل فنى يستوحى الأساطير اليونانية، وعانى رفاعة كثيراً فى منفاه، لكنه صبر واحتسب حتى تولى سعيد باشا الحكم خلفا لعباس، ففك قيود المنفيين إلى السودان، وأرجع رفاعة إلى سابق عهده، ثم ولاه وكالة المدرسة الحربية، مع رئيسها سليمان باشا الفرنساوى، لكن رفاعة لم يهدأ وهو الحالم بالتعليم والترجمة، حتى نجح فى إنشاء مدرسة جديدة بالقلعة.
فى أى لحظة من اللحظات لم ينس هذا الأزهرى المعمم هويته الإسلامية، فبعد أن سد حاجة مصر من ترجمة العلوم والآداب التى هجرها سابقوه تبنى مشروعا لإحياء الفكر العربى الإسلامى على نفقه الخديو سعيد، فأمر بطبع جملة كتب قيمة من أعمدة كتب الفقه والتفاسير والأدب، واستمر هذا المكافح المجاهد فى عمله إلى ما يقرب من أربعين عاماً حتى أصدر من الكتب والتراجم ما يقرب من ألفى كتاب، فى حين أن تركيا وهى التى كانت عاصمة الخلافة لم تصدر فى قرن كامل سوى أربعين كتابا، ليبدد بهذا العلم الوافر وهذا الحراك الثقافى اللافت خرافات عاشت فى المجتمع المصرى وتوغلت، حتى أنه كان يستاء كثيراً من أن بعض العامة يعتقدون أن أسلافنا الذين بنوا الآثار الشاهقة كانوا أطول منا وأضخم، معللاً ذلك بالقول إنهم كانو يعانون من «قصور الأذهان عن مقدار ما يحتاج إليه ذلك من علم الهندسة»، وهو ما لم يعد له مكان بعد ثورة الطهطاوى التنويرية العلمية التى وصلت ما انقطع من حضارة الإسلام والمسلمين.
ولم تكن ثورة رفاعة مقصورة على العلم والتعليم فقط، وإنما تعدت ذلك لتتحول إلى ثورة اجتماعية كبيرة، فيعتبر رفاعة أول داعية لتعليم المرأة فى مصر، بل فى الشرق كله، وبذل رفاعة جهودا مضنية من أجل تعليم البنات، لتصبح البنت المصرية كسابقتها من فضليات المسلمات اللاتى كن يعلّمن الرجال والأئمة، ولا أدل على ذلك من أن الإمام الشافعى كان يتلقى العلم على يد السيدة نفسية، ويحضر جلساتها العامرة بالفقه والحديث، وفى الحقيقة لم يكن حرمان البنات من التعليم بوازع دينى، وإنما كان بدافع اجتماعى يحتقر المرأة التى كرمها الإسلام، واتهم من يدعون تحريم تعليم البنات بأن عقليته جاهلية، وذلك لأن بعض الصحابيات كن متعلمات كما هو ثابت فى الأثر، وفى الحقيقة فإن احترام رفاعة للمرأة تعدى فكرة تعليمها، فقد نبذ تعدد الزوجات ودعا إلى تقييده، وقيد نفسه بتعهد مكتوب إلى زوجته يقر لها فيه بعدم أحقيته الزواج من أخرى، أو اقتناء ملكة يمين، وإلا كانت «طالقا بالثلاثة».
وهكذا سار رفاعة مجدداً رافعاً قيم الإسلام السمحة، متبعاً ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «الفقه التطبيقى»، فنعم لم يترك رفاعة كتباً كثيرة فى الفقه، ولكن أخلاقه وأعماله كانت دستوراً فقهيا نابعا من إزهرى، وعى قيم دينه، وعمل على إعلائها، ولا نبالغ إذا قلنا إن الدور التنويرى الذى قام به رفاعة يكاد يوازى الدور التنويرى الذى وقع أثناء الخلافة العباسية التى احتفت بالترجمة، وخصصت لها أفرادا وجماعات ودعمتها، فكان لها أكبر الأثر فى أن تكون تلك الدولة من أعظم الدول الإسلامية تأثيراً ونفعاً وتحضراً، وفى ترجمة رفاعة للدساتير الفرنسية والعثمانية وضبط هذه القوانين والدساتير بالمصطلحات الإسلامية لتتوافق مع هويتنا وتتناسب مع أخلاقنا تشابه كبير مع ما قام به الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، حينما نظم الدولة الإسلامية وفق ما عرفه من تنظيم الدواوين الفارسية، فقد كانت دماء العروبة والإسلام تجددت قديما بالفتوحات، وما إن انحصرت الفتوحات حتى نقصت هذه البلاد وانكمش الحلم بالتجديد والتطوير، فها هى الأندلس تنسلخ من الحواضر العربية الإسلامية، وها هى تركيا تتغرب عن لغة الإسلام، وها هى بلاد شرق آسيا تعود تدريجيا إلى لغاتها، وها هى الفتوحات العربية تختفى من الخرائط ويبدأ زمان الاحتلال، فما السبيل إذن لتجدد الحضارات، وضخ دماء جديدة فى أوصال الشعوب والبلدان؟.. وحده رفاعة أيقن أنه لابد لهذه الأمة من أن تجدد شبابها باستقدام معارف الأمم الأخرى بالترجمة والأسفار بعد أن حرمها التخلف والجمود والانكماش من أن تنتفع بما يتسرب إليها من حضارات الأمم الأخرى عن طريق تطعيم ديار الإسلام بعلوم الحضارات الأخرى، وقد رأينا كيف ازدهرت علوم الفقه والحديث واللغة على أيدى مسلمين أعاجم وأندلسيين ومغاربة ومصريين. وبهذا الدور الذى لعبه رفاعة ضمنت الحضارة الإسلامية أن تتجدد كل يوم بمعارف جديدة، ولمعرفة كم هو مؤثر ذلك الدور الذى لعبه رفاعة علينا أن نقارن بين وضع مصر والعرب قبل رفاعة وبعده، ثم ما علينا بعد ذلك إلا أن نتخيل ما هو الحال إذا ما هل علينا الاحتلال الإنجليزى بجموده وجبروته ونحن خاوون منسحقون لا هوية تجمعنا ولا فقه ولا علم، ألم يكن من الممكن أن تذوب هويتنا العربية الإسلامية فى هوية هذا المحتل، وأن تتغير لغتنا مثلما تغيرت لغة الشعوب الأخرى، وأن ننسحق أمامه ونصبح تابعين له كما انسحقت شعوب أفريقيا وبعض شعوب المغرب العربى أمام محتليها؟
وائل السمرى يكتب: جمال الدين الأفغانى.. أعلم العلماء وأفقه المتقين.. آمن بالعقل وقدرته وبأن الحرية أساس إسلامى وحارب التعصب المذهبى والطائفى والدينى وأطلق على مروجى التعصب لقب «تجار الدين»
الإثنين، 6 أغسطس 2012 - 10:03
جمال الدين الأفغانى
بقلم وائل السمرى
هو مثل الشعلة التى أينما حلت أنارت ما حولها، يحلم بالعدالة المطلقة والسلام الحقيقى والعلم الخالص النافع، يرق قلبه للجائعين الضعفاء المساكين المرضى، لا يرى فى العالم شرا بقدر ما يراه فى ظلم الإنسان لبنى جنسه، مفكر من جبابرة الفكر الإنسانى، وفقيه وعالم وباحث صادق، عاش حياته ليتعلم ويعرف فأضاءت معرفته تاريخ الإنسانية، يقدس رابطة الدين بين المسلمين فى أقاصى البلاد وأدانيها، يحترم الأعراف والتقاليد والقوميات الخاصة، يؤمن بحرية الإنسان وقدرته على التحليق إلى آفاق الخيال، ولا يرى فرقا بين الخيال والواقع إلا بمقدار الإرادة الإنسانية وقدرتها على الصمود والتطور، إن ضعفت الإرادة بعد الفرق بين المتخيل والواقع، وإن قويت الإرادة اقترب الخيال من الواقع، هو أيضا المناضل الصامد الذى لا يلين أمام مدافع العدو سواء الحربية أو الفكرية، جندى شجاع لا يخاف من نار ولا يتهيب من الحوار، هو الرحالة الذى عرف الشعوب ووعى ثقافاتهم فصار جامعة دول متسامحة لا ترى فضلاً لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، هو ذلك الأفغانى الذى أتى من بلاد سحر الشرق، فطاب له فى مصر المقام فأحبها وقدسها وعمل من أجل تطويرها وتنميتها فكرياً وروحياً وأدبياً ونهضوياً فصار أحد أكبر أعلامها وأهم رموزها وصائغ نهضتها وصانع خطتها التى شكلت هوية مصر الحديثة، فكتب له الله من التلاميذ المخلصين من خلد ذكره ونفع الخلق بفكره.
عنه يقول العلامة المحقق أحمد حسن الباقورى: «لا ريب أن الله تعالى مسخر لجمال الدين الأفغانى ولكل ذى مذهب صالح صادق من يكون لسان صدق فى الدفاع والإقناع فإذا جمال الدين ملء الأسماع ومشتهى الأبصار ثم إنه بعد أن ضمه القبر أعلى قدرا وأرفع ذكرا وأجل جلالا وأعظم هيبة مما كان بين تلاميذه ومريديه والإمام جمال الدين من أؤلئك الزعماء الفادرين بالفضل بين الناس تزيدهم الأيام فى موتهم وفى تقادمهم جدة وحاجة المجتمع إليه لا يشتد هتافها به ولا تمنيها له من حيث هو أعلم العلماء ولا أفقه المتقين وإن كان هو أعلم العلماء وأفقه المتقين ولكن لأنه كان رجلا منطلق الفكر بين طبيعة الحياة وحقيقة الدين وهو مع ذلك يحب أن يجمع بقدر ما يكره أن يفرق ويحب أن يتسامح بقدر ما يكره أن يتعصب وكلما حاولت أن أتخيل وجه رسول الله وجدت أول الطريق إلى هذا الخيال الجميل فى وجه السيد جمال الدين فى إشارة منه إلى نسبة الشريف.
عاصر جمال الدين الأفغانى (1839 – 1897م). وهو المولود بعاصمة افغانستان «كابول» تطور مصر وتقدمها الفكرى على يد الإمام حسن العطار وتلميذه رفاعه الطهطاوى، فرأى فيها ملكات وخصائص لم تكن متوفرة فى غيرها، وبعد أن كان ينوى أن يمر سريعا على القاهرة طاب له المقام فيها وتجسد حلمه بها فهدأت روحه التى كانت لا تطيق الركود ولا تصبر على القعود حالما بأن يجمع العالم الإسلامى على كلمة واحدة يكون فيها المسلم أخا المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، يشاركه حلمه وأمله وطعامه ورحمته، فيعم السلام الروحى على الجميع وتنعم بلاد الإسلام بثرواتها المتدفقة بدلاً من أن ينعم بها محتل غاصب أو حاكم غاشم أو جاهل مستبد مبدد.
يرتقى نسب الإمام جمال الدين الأفغانى إلى بيت النبوة الشريف، فهو حفيد الإمام على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، ويبدو أنه قد ورث من آل بيت رسولنا الكريم شجاعة الرأى ونبل المقصد وقوة الحجة ومحبة العلم فجمع حوله كل نفس كريمة وكل عقل متوقد وكل قلب لاهث يهفو للاطمئنان ويبحث عن الحقيقة والأمن الروحى والوطنى والعالمى، حالمين بجمع روافد العالم الإسلامى فى مصب واحد لتتضاعف قوته، فى مواجهة الخطر الأوروبى ويصلح من نفسه سياسياً واجتماعياً ويستيقظ من سباته العميق.
رأى الأفغانى بعينه فى بلاد «أفغانستان» ما يفعله التشتت والتفرق بين الإخوة من اضمحلال وفساد وخراب على البلاد، ورأى فى الهند أن الاستعمار يعمل على تفتيت الأمم وإضعاف إيمانها متربصا بكل بلاد العالم، ورأى كيف أن العنصرية أكلت الغرب حتى ظن أنه أفضل من شعوب العالم فأطلق صرخته الإصلاحية المستنيرة ليستنهض المسلمين من غفوتهم، لتترك الأمة الضعف وتجنح إلى الاتحاد وتنبذ الجهل وتتمسك بقيمها الخلقية والروحية التى تدعو إليها الأديان، مؤكداً أن ضعف الدول الإسلامية ليس ناتجا عن عيب فى الدين نفسه وإنما لابتعاد المسلمين عن إتقان العلوم وتنقية الروح من الخمول ونزع الرتابة والتقليد عن أفكارنا الدينية التى تدعى أن الخير كل الخير فى النقل والشر كل الشر فى العقل، داعياً إلى تفجير الإمكانيات العقلية لدى الإنسان المسلم ليعود إلى سيرته الأولى وقت أن كان سيداً للعالم وصانعاً لحضارته وتقدمه.
ولئن كانت دعوة الأفغانى هذه قد لاقت رواجاً كبيراً بمصر ووجدت لها أتباعا ومريدين وتلامذة فهذا لأن من سبقوه من المصريين كانوا قد مهدوا المجتمع لمثل هذه الدعوات، وعلى رأسهم الإمام حسن العطار ورفاعه رافع الطهطاوى، ولذلك أصبحت مصر تربة خصبة لمثل هذه الأفكار التحريرية، ولم يكن الأفغانى يرى أى مانع دون وصول الأمة الإسلامية إلى ما تشتهى من تقدم وسمو إلا مكوث الحكام الظلمة على جسد هذه الأمة، فقد كان يرى أن حكام المسلمين وقتها غير جديرين بمناصبهم، ولا يهتمون إلا بإشباع شهواتهم الحسية، ولذلك أصبحوا فريسة سهلة لكل آكل.
ولعل روح الأفغانى الذى كان جنديا فى ميادين القتال ظلت على عهدها من شجاعة وتوثب وهو فى ميادين الفكر، وأهلته تلك الروح لخوض غمار المناطق الفكرية الوعرة والتصدى لما لا قبل لأحد به، وكذلك فإن معرفته الواسعة بالعلوم والرياضيات وشغفه بالمعرفة حصنه أمام الغزوات الفكرية المتتالية ومرس عقله ليصبح حجة من حجج الإسلام فى الدفاع عن الهوية الإسلامية المتحضرة الحديثة، ولعل شهرة الأفغانى وصيته الذائع هى التى جعلت مصر تستقبله أحسن استقبال حينما أتى إليها زائراً عام 1871 فأقام بها ثمانى سنوات قام فيها بإلقاء المحاضرات، وكون خلالها مجموعة تلاميذ، لعبوا دورا هاما فى مستقبل مصر السياسى. منهم الإمام محمد عبده وسعد زغلول، الذى أصبح فيما بعد بطل مصر الوطنى وزعيم ثورة 1919، ورئيس الوزراء. ومن تلاميذه أيضاً، محمود سامى البارودى، وعبدالسلام المويلحى، وإبراهيم المويلحى، وإبراهيم اللقانى، وعلى مظهر وسليم النقاش وأديب إسحق وأحمد لطفى السيد، فقد جمع الأفغانى كل المخلصين على اختلاف مشاربهم واختلافاتهم، فصاروا نواة لصحوة وطنية كبيرة بعد أن تسلحوا بمقومات هويتهم العربية الإسلامية المصرية، فقد كان الأفغانى يدرس لتلاميذه فى منزله مفهومه للإسلام الصحيح، وإلى جانب دراسة الإسلام كدين وفقه، كان يشرح لتلاميذه أصول الشريعة والتصوف والفلسفة الإسلامية، وهى العلوم التى كانت شبه مجهولة فى مصر آنذاك، وللحق فإن هؤلاء التلاميذ النجباء ما أن شعروا بعلمهم يفيض حتى أنشأوا الجرائد مثل جريدة «مصر» وجريدة التجارة «التجارة» اللتين كان الأفغانى يكتب لهما تشجيعاً لتلامذته فحققت رواجاً كبيراً وقتها، وأخذ أيضاً يدعم روح الثورة على الأوضاع الاستبدادية القائمة ومقاومة روح الخنوع أمام قوات الاحتلال والتى كان يرعاها الخديو توفيق فتم القبض على الأفغانى فى العام 1871م ونفيه إلى الهند بإيعاز من الإنجليز.
وفى الهند منع من الاختلاط بالناس وكان تحت الرقابة المباشرة من الإنجليز، عندما قامت الثورة العرابية، نقلته حكومة الهند إلى كلكتا حتى انتهت الثورة العرابية باحتلال انجلترا لمصر عام 1882م، كما لو كان الإنجليز يعلمون أنه سيكدر عليهم احتلالهم لمصر وسيدعم الثورة ضدهم، ولما استقام له الأمر فى مصر سمح له بالتنقل فى بلاد العالم عدا بلاد الشرق، فسافر إلى لندن عام 1883م. ومنها إلى باريس، ليلتحق به تلميذه محمد عبده من منفاه فى بيروت عام 1884م.
فى باريس أخذ المعلم الكبير جمال الدين يدعم روح اليقظة والتفاؤل عند تلميذه وصفيه محمد عبده الذى كان يعانى من موجات تشاؤمية متزايدة بفعل ما رآه من خذلان فى الثورة العرابية، لكن أستاذه وأباه الروحى خفف عليه مصيبته فى وطنه، واستنهض روحه مرة أخرى ليحررا جريدة «العروة الوثقى» التى تستلهم قول الله تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور.
فى هذه الجريدة أخذ الثنائى «الأفغانى وعبده» يكشفان عن المخططات الاستعمارية المقيتة، ويبثان الأمل فى النفوس، متبنين منهج التمسك بالأصول والقيم النبيلة، والدفاع عن أهل الشرق وإعلامهم بما يدور من حوادث سياسية فى الغرب وكان يرسل جريدته سراً إلى البلاد العربية والإسلامية حتى يستنهضهم ويحثهم على الجهاد والدفاع عن أوطانهم وعقيدتهم، وهو الخطر الذى استشعره المحتلون وأعوانهم سريعاً فضيقوا عليها حتى اختفت.
ومن أوربا إلى إيران سافر الأفغانى ليعمل مستشاراً للشاه ناصر الدين، لكن الأفغانى الذى لم يتعود على مجالسة الملوك والسلاطين اختلف مع الشاه مما جعله ينقلب عليه سريعاً بعد عام واحد، فطرده شر طردة من إيران، وحملوه على الثلج إلى دار الحكومة ثم حملوه وهو مريض على دابة مسلسلاً. وساقوه إلى خانقين» ومنها سافر إلى البصرة يعانى ألم المرض الذى اشتد عليه من هذا الحادث، وكاد يودى به، وهو ما جعل الأفغانى ينقلب على الشاه هو الآخر فأخذ يكتب إلى علماء الدين ليهيجهم على الشاه، واصفاً إياه بأقبح الصفات ويبين ضرره على الأمة ويثير عاطفتهم الدينية ليثوروا عليه ومستغلا ما يظهر من أفعال سيئة من الشاه ليقبح وجهه عند العلماء والعامة، فساهم فى إخراج مجلة شهرية بعنوان «ضياء الخافقين» فضح فيها حكومة الشاه، وسوء إدارته للبلاد وتفشى الرشوة وتعذيب المواطنين.
واستجابة لدعوة السلطان عبدالحميد سافر الأفغانى إلى تركيا بشرط أن يصلح السلطان من سياسته فيها، ولما عرض السلطان عليه منصب شيخ الإسلام، رفض، إلا إذا عدّل النظام من أساسه أولا، إذ كان يرى أن عبدالحميد «ذكى واسع الاطلاع واسع الحيلة، لكنه جبان يفسد عليه جبنه ذكاءه ومعرفته» ولما وعى السلطان بخطورة الإمام الأفغانى عليه وعدم رضاه عنه إلا إذا أصلح البلاد وقام بسلطاته الروحية كخليفة للمسلمين على أكمل وجه فرض عليه الإقامة الجبرية فى القصر، ويقال إنه خاف منه حينما قتل الشاه ناصر الدين على يد أحد تلامذة الأفغانى فأوعز إلى طبيب الأسنان الملكى أن يدس له السم فى حشو أسنانه فمات العالم الجليل سنة 1897.
ومن يتأمل منهج الأفغانى فى بث الوحدة بين البلاد الإسلامية يجد أننا فى أمس الحاجة الآن إلى مثل هذا الرجل فقد قال عنه العلامة الكبير شيخ الأزهر الجليل مصطفى عبدالرازق أنه حوى الشرق كله ومازال تأثيره قائما حتى الآن فى مصر وإيران وتركيا» فالأفغانى الذى كان أول من نادى بالوحدة بين المسلمين وإنشاء جامعة للدول الإسلامية كان شديد الكراهية لروح التعصب والتفريق بين أبناء البلد الواحد، وكان كما قيل عنه أكثر حكماء المسلمين وأئمتهم توسعاً فى معنى المساواة وأكثرهم ميلا للعمل به، وقد كان الدين عنده محفزاً على إكساب البشر رسالة أنه أشرف المخلوقات وأنه ملك هذه الأرض، وكان يجزم بأن «لا يوجد فى الأديان الثلاثة «الإسلام والمسيحية واليهوية» ما يخالف المجموع البشرى بل على العكس تحضه على أن يعمل الخير المطلق مع أخيه وقريبه وتحظر عليه عمل الشر مع أى من كان، بل يفسر الأفغانى ما نراه من احتقان وصراع دينى بأنه من عمل تجار الدين فيقول: «وأما اختلاف أهل الأديان فليس هو من تعاليمها ولا أثر له فى كتبها وإنما من صنع بعض رؤساء أولئك الأديان الذين يتاجرون بالدين ويشترون بآياته ثمنا قليلا» بل يتوقع أن يحاربه أولئك الذين يتخذون دين الله «حانوتا» أو إن شئت قل «مشروعاً» كما يسمونه الآن قائلاً: «علمت أن أى رجل يجسر على مقاومة التفرقة ونبذ الاختلاف وإنارة أفكار الخلق بلزوم الائتلاف رجوعاً إلى أصول الدين الحقة فذلك الرجل يكون عندهم قاطع أرزاق المتاجرين فى الدين وهو فى عرفهم الكافر الجاحد المارق المخردق المهرتق المفرق إلخ إلخ.
وبرغم أن الأفغانى كان يرى أن «الرابطة الملية» هى أقوى الروابط بين المسلمين وأن الوحدة المنشودة لابد أن تكون وحدة إسلامية، لكنه مع ذلك قد آمن بالروابط القومية بشكل كبير، وارتفع برابطة اللغة والنسب والجنس بشكل كبير، فقد هاجم المستشرق أرنست رينان الأستاذ بجامعة السوربون الذى قال إننا نخطئ حينما نقول الحضارة العربية لأن صناعها ليسوا عرباً وأن العرب أبعد الناس عن الحرية الفكرية والفلسفة والإسلام لا يشجع عليها فقال له إن العرب وإن كانوا يعيشون فى الجاهلية قبل الإسلام فهم الذين بعثوا الحياة فى البلاد صاحبة الحضارة التى فتحوها بعد أن كانت حضارتهم فى طريقها إلى الذبول فتقدمت علومهم ونمت مواردهم، وإنه لولا الحرية التى أتاحها الإسلام للمسلمين لما رأينا حركة الترجمة تزدهر وتنمو ولما صارت حضارة العرب من أقوى وأجمل الحضارات، وهو الرد الذى أعيا المستشرق المغالط وأجبره على احترامه.
ومثلما تقلب الأفغانى بين الوحدة الإسلامية إلى الوحدة العربية تقلب أيضاً من الإيمان بالرأسمالية إلى الإيمان بالاشتراكية، مؤكداً فى نهاية حياته أن الاشتراكية هى الأقرب لتعاليم الإسلام لأنها تنتصر للفقراء وتحرص على المساواة، وبعد أن كان يقول إن الاشتراكية: «أفكار المصابين بالماليخوليا» وأنها «تمحو جميع المحاسن وضروب الزينة وفنون الجمال العملى» نجده فى آخر حياته يقول: «إن غاية السلطة هى العدل المطلق» بل نجده يقول إن الأغنياء سلاسل وأغلال فى أعناق المسلمين، وأن «الاشتراكية هى التى ستؤدى حقا مهضوما لأكثرية الشعب العامل» وهو التحول الذى يؤكد أن ذمه للاشتراكية لم يكن إلا اندفاعاً حماسياً نتيجة اختلافه مع الاشتراكية الأوروبية، وما عودته إليها إلى عودة الراجع إلى الحق العالم بأن الفقراء هم صلب الحياة ومرآة الشعوب، كذلك ليقينه أن الاشتراكية هى التى تتوافق مع تعاليم الإسلام الحنيف الذى يأمر بمراعاة الفقير والضعيف.
أما لو أردت أن تعرف السبيل الذى ارتضاه الأفغانى لنفسه والمرشد الذى سار عليه نهجه فإنى سأجيبك بلا تردد «هو العقل» ولتقرأ معى قوله التالى: «إن الإنسان من أكبر أسرار هذا الكون ولسوف يصل بالعلم وبإطلاق سراح العقل إلى تصديق تصوراته فيرى ما كان يراه مستحيلاً وقد سار ممكناً» أى أنه يجعل من العقل سبيلاً لتحقيق المعجزات متحدياً أولئك الذين أغلقوا باب الاجتهاد ورأوا أن من «حفظ المتون فقد حاز الفنون» وأن كل شىء خير فى النقل وكل شىء شر فى العقل».
وقف جمال الدين الأفغانى بحسب تعبير المفكر الإسلامى محمد عمارة «كالإعصار الكاسح والبحر الهادر يمجد العقل فى أفكاره ومناظراته ومناقشاته وفى تفسيراته وتطبيقاته فجعل الحكم للعقل والعلم، وينسب له أنه كان أول من دعا إلى التفريق بين آيات القرآن والحقائق العلمية قائلاً إن «القرآن يجب أن يجل عن مخالفته للعلم الحقيقى خصوصاً فى الكليات فإذا لم نر فى القرآن ما يوافق صريح العلم والكليات اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة ورجعنا إلى التأويل، وبفضل إيمانه بالعقل واستماتته فى الدفاع عن الإسلام قارع المشككين فيه الحجة بالحجة والبرهان بالرهان، ولما ظهرت نظرية دارون للوجود وتشكك العالم الإسلامى بسببها فى معتقداته لم يجد المسلمون غير الأفغانى ليرد على دعاة هذه النظرية الذين نقلوا مفاهيمها بشكل خاطئ، وقال إن هذه النظرية متناقضة فى متنها فالكون كله «منظم» بإحكام وهى تدعى أن سبب خلق الكون «مصادفة» فكيف تنتج الفوضى نظاماً؟ وهو الرأى الذى أسهم فى طمأنة الناس وتهدئتهم، كما أسهم فى نقل مبادئ الدارونية الصحيحة التى لا تنكر خالق النسمة الطيبة أو الروح، فأدى ذلك إلى تسامح الأفغانى مع النظرية التى لا تصطدم بالدين، وآمن بفكرة الانتخاب الطبيعى التى هى أساس الحياة.
وكان طبيعياً أن يجد عالم جسور ومناضل كبير بهذا الشكل اعتراضات كبيرة وكثيرة على أفكاره وآرائه التى زلزلت المجتمع وأرقت مضاجع الطغاة، فصاروا يكفرونه ويحاربونه ويشككون فيه، فكفرته مشيخة الإسلام فى تركيا وكفره شيوخ الخديو توفيق مثل الشيخ عليش وقال إنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوى الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا. لكن الأفغانى الذى كان يعرف أنه مجدد شباب الأمة الإسلامية لم يكن يكترث بهذا اللغو، ويبدو أنه كان يعرف أيضاً أنه سيكون مثار جدل كبير حتى بعد موته، فقد أملى على تلميذه محمد المخزومى كتابه الأخير «الخاطرات» محذراً تلميذه من بطش السلطان وموصياً إياه بإخفائه عن الأعين وقال له فى نهايته: «إذا سلمت من خطر الطاغية وطواغيته فستصادف من أهل الجمود عنتا وتخرصاً وقلبا للحقائق فلا تبال بهم فما خلا الكون منهم ليخلو زمنك منهم وما نجا منهم مخلص لتنجو أنت.
وائل السمرى يكتب: الإمام محمد عبده..مجدد الإسلام وسراج المسلمين..قال: إذا تعارض العقل وظاهر الشرع أخذنا بما دل عليه العقل متفقا مع آراء الإمام الغزالى وأفتى بتحليل الرسم وحارب جهل الناس بالسنة النبوية
الثلاثاء، 7 أغسطس 2012 - 10:16
الإمام محمد عبده
بقلم وائل السمرى
الأمة العاقلة لا تظلم، تلك هى القاعدة والمبدأ، والسبيل والغاية، والمشكلة والحل.. جملة أطقلها الإمام محمد عبده بعد أن أيقن من أن الإصلاح يبدأ أولاً من إصلاح الأمم، فعمل بكل ما أوتى من قوة على الإصلاح، مردداً قوله تعالى: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب» فأناب إلى الله معتمداً على نوره المنثور فى الأكوان والأرواح، محتسباً أجره عند ربه، صانعاً اتجاهاً فكرياً محافظاً ومتجددا، أنار لنا قرنا من الزمان بنور المعرفة الحقة والاستبصار السليم، غير عابئ بأنصار الظلام ومروجى ثقافة الخنوع والاستسلام.
هو الإمام محمد عبده (1849/ 1905) المولود فى محافظة البحيرة بقرية محلة نصر بمركز شبراخيت، هو ذلك المناضل الذى عاش حياته يدافع عن القيم الإسلامية النبيلة منتصراً للشعوب العربية والإسلامية، مدافعاً عن ثوراتها، وقائداً لنهضتها، ومحارباً من أجل إعلاء كلمة دينها وارتفاع قامتها فى دنياها، حيث رافق الإمام جمال الدين الأفغانى فى دعوته إلى توحيد كلمة المسلمين وجاهد معه فى السراء والضراء وحينما أتت الثورة العرابية انضم إليها مدافعاً عنها مكتويا بنارها، وصار من قادتها، ليذوق بعد انتهاء الثورة مرارة النفى وقسوة السجن بعدما تجرع آلام الهزيمة، وأثناء منفاه يدعوه أستاذه جمال الدين الأفغانى إلى السفر إلى باريس ليؤسسا جريدة «العروة الوثقى» التى تبنت منهجاً إصلاحياً ثورياً إسلاميا يدافع عن العقيدة والشريعة ويرد اتهامات المستشرقين، ويحث المسلمين على الجهاد والتوحد والنهوض، وبعد تضييق كبير ووساطة بعض أصدقائه فى القاهرة يعود الإمام إلى وطنه بشرط اشترطه الخديو توفيق عليه وهو ألا يعمل فى السياسة، فقبل الإمام الشرط راضيا غير مستسلم، فقد عزم على استكمال الجهاد بثورة فى الفقه والفكر والتعليم والإصلاح لأنه أيقن من حقيقة أن «الأمة العاقلة لا تظلم».
استمر الإمام فى نهجه الإصلاحى حتى تدرج فى المناصب ووصل إلى منصب مفتى الجمهورية وقد كان أول شاغل لهذا المنصب الرفيع، بعد أن كان قديماً ملحقاً بمشيخة الأزهر، ولأن الإمام كان يعرف أنه إمام أمة فقد تبنى منهجاً إصلاحياً جدد به شباب الإسلام ظهر فى كتبه وفتاواه، فجذب حوله التلامذة من مختلف التخصصات، فأصبح منهم السياسى ومنهم رجل الدين ومنهم الأديب، فتحلق حوله كل من الشيخ محمد مصطفى المراغى والشيخ مصطفى عبدالرازق والشيخ محمد رشيد رضا والشاعر حافظ إبراهيم، والشيخ المجاهد الفلسطينى الشهيد عز الدين القسام وشيخ العروبة محمد محيى الدين عبدالحميد والزعيم الكبير سعد زغلول والمصلح الاجتماعى قاسم أمين والأديب طه حسين وغيرهم كثيرون.
نظر الإمام إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، فأيقن من أن الركود والجمود الضاربين فى جسد الأمة العربية بسبب ابتعاد الناس عن روح الإسلام التى أنارت العالم وأضافت إليه وجددته وطورت معارفه، ولما تأمل الإمام الفرق بين زمنه وزمن الحضارة الإسلامية وجده يكمن فى أن الزمن الحضارة كان يحتضن عشرات الأئمة المجددين، أما زمنه فيس به إلا المقلدون التابعون المزيفون الذين اختصروا الدين فى بعض الشكليات التى لا تنفع وتفيد، ولذلك كان من أوائل الداعين إلى فتح باب الاجتهاد، والذى كان إغلاقه سبباً من أسباب أزمة المجتمع الإسلامى وجمود الفكر، وانصراف الكثير عن الأخذ بأحكام الشريعة، كما دعا إلى قراءة النصوص الدينية فى ضوء المتغيرات الحديثة، واضعاً مصالح الأمة فوق كل اعتبار دون الخروج عن ثوابتها القطعية، متبنياً نظرية مقاصد الشريعة التى تبلورت على يد الإمام الغزالى والعز بن عبدالسلام والإمام الشاطبى، وفى ذلك يقول الإمام محمد عبده: إن الدين أنزل لمصلحة الناس وغيرهم، وأن من أصوله منع الضرر والضرار، كما دعا إلى الاستفادة من الفقه الإسلامى كله وعدم الاقتصار على مذهب واحد، فدرس مذهب الإمام مالك والإمام أبى حنيفة وحينما تولى الإفتاء كان يستفيد من منجزات المذاهب الأربعة بالإضافة إلى المذهب الجعفرى، معتمداً على عقله الذى يعرف المصالح من المفاسد من دون أن يجور على شريعة الله ولا منهجه الذى أضاء العلم وهو فى ذلك يقول: «إن الإسلام يقاضينا إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن لسلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟»، ومعنى هذا أن الإسلام خاطب العقل فى الإنسان وأن سبب دخول الناس إليه هو الاقتناع العقلى وسبب التزام الناس بتعاليمه هو اقتناعهم العقلى فكيف بالإسلام وهو الذى ارتضى أن يكون العقل حاكما أن يلغيه أو يهمشه؟ وهو أيضاً صاحب المقولة الشهيرة: «إذا تعارض العقل وظاهر الشرع أخذنا بما دل عليه العقل»، متفقاً فى ذلك مع الإمام الغزالى الذى قال: «إن لنا معياراً فى التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك»، بما يعنى أنه إذا وجدنا نصاً من نصوص الشرع، لا يتفق معناه الظاهر مع حكم العقل، علمنا أنه لا بد من أن يكون لذلك النص معنى غير معناه الظاهر، ووجب علينا أن نحاول تأويله تأويلا يخرج منه المعنى المقبول عقلاً.
من هنا بدأ الإمام فى إبعاد الشبهات حول الإسلام، وكان السائد وقتها فى أوروبا أن الإسلام لا يعلى من شأن العقل وأن الأمة الإسلامية تعتقد أنها مجبرة على أفعالها، وأن علينا أن نستسلم لما يمليه علينا المحتل لأن الله كتب ذلك، فكانت انتفاضة الإمام الكبيرة من أجل الدفاع عن دين الإسلام واستقلال بلاد الإسلام، مؤكداً أن الحرية مبدأ إسلامى واضح، وهو الأمر الذى «اهتدى إليه سلف الأمّة فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأمم»، وأن الحرية لا تتجزأ.. حارب الإمام حرباً ضروساً من أجل إنصاف المرأة المسلمة التى ظلمتها عصور التخلف وأرجعتها متاعاً يستهلكه الرجل بعد أن أنصفها الإسلام وساوى بينها والرجل واعتمد عليها فى ازدهار حضارته وتقوية مجتمعه.
فيقول الإمام إن الإسلام: أبعد من أن يكون حجر عثرة فى سبيل تطور المرأة، وإنه على العكس من ذلك يميل إلى رد حقوقها»، مؤكداً أن أن المسلمين لم يأخذوا بما جاء به القرآن من أحكام فى شأن المرأة بل أهملوه، وارتدوا فى كثير منها إلى ما كانت عليه المرأة فى «جهالة الجاهلية».
مستشهداً بالقرآن والسنة والتاريخ صرخ الإمام مطالباً بحرية المرأة، قائلاً إن الله خلق الذكر والأنثى «مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» فكيف يفرق بينهما؟ موضحاً أن «كلاًّ منهما بشر تام، له عقل يتفكر فى مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسرُّ به، ويكره ما لا يلائمه، وينفر منه»، ومؤكداً أن احتكار المرأة الذى تتسرب إلى بعض الدعاوى المنتسبة إلى الإسلام ناتج عن الإسرائيليات التى كانت تحتقر المرأة وتعتبرها مخلوقا غير كامل، وفى ذات الوقت يؤكد الإمام أن للرجال على النساء درجة كما هو واضح فى القرآن الكريم، وهذه الدرجة راجعة لأمور «كسبية» أى مكتسبة من الحياة من حيث إن الرجل يسافر ويتاجر ويعرف ما لا تعرفه النساء، وهو الأمر الذى يتغير بتغير العصر، أما الأمر الثانى فهو راجع إلى الفطرة التى فطرنا الله عليها من حيث إن المرأة أضعف جسمانياً من الرجل، ولهذا كفل الله للرجل «القوامة» غير أنه يجتهد مع قول المفسرين بأن الرجل مفضل عن النساء لأن شهادة رجل بشهادة امرأتين، فقال الإمام إن هذا الحكم ينطبق على المعاملات المالية فقط، وذلك لأن المرأة لم تكن وقت نزول القرآن تخرج من بيتها ولا تتاجر ولذلك فإنها معرضة للسهو والنسيان، فهذا الحكم ليس لنقصان فى عقل المرأة أو أهليتها ولكن لعدم خبرتها بهذه الأمور، ومع ذلك فقد اكتفى الإسلام بشهادة امرأة واحدة فى أمور الرضاعة والولادة وعدده المحرم وهذا يدل على أن الخبرة هى الفيصل وليس نقصان الأهلية فى جنس النساء عن جنس الرجال، أما فى الميراث فيستشهد الإمام بقول الله تعالى: «للرِّجَالِ نَصِيبٌ ممَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْربَوُنَ وَاِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْواَِلدَانِ وَالأَقْربُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرََ نَصِيباً مَفْرُوضاً» وهى الآية الى فسرها بأن فيها تقريرا لحق المرأة فى الميراث وأنه ليس للرجل وحده، كما أنصف الإمام المرأة وطالب بتعليمها قائلاً: كيف تسعد فى الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم لا يؤدى ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس، والنصف الآخر قريب من ذلك، مؤكداً أن الإسلام أمرنا بتعليم المرأة حينما أمرنا باتباع أهل العلم وحثه على التعليم واكتساب الخبرات والمشى فى الأرض متأملين حكمة الله فى خلقه، كما كان الإمام واضحاً فى مسألة تعدد الزوجات، مؤكداً أن الإسلام لم يقر تعدد الزوجات كهدف فى ذاته وإنما أقره كهدف اجتماعى وهو الحفاظ على أموال اليتيمات كما اشترط الإسلام فيمن يتزوج بأكثر من واحدة أن يكون عادلاً وفى ذلك طالب بتقييد تعدد الزوجات وضبطه وناشد العلماء إعادة النظر فى هذه المسألة وتحريم تعدد الزوجات إلا فى حالة الضرورة.
سياسياً لم يغب الإمام محمد عبده عن المشهد تماماً فقد كان أول نصير للنظام الديمقراطى البرلمانى ونادى قبل الثورة العرابية بتغيير النظام السياسى وإنشاء جمهورية صغيرة وهو الذى حرر بنفسه برنامج الحزب الوطنى، كما أنه تحدث بوضوح شديد عن مدنية السلطة السياسية فى الإسلام، ويظلمه من يدعى أن الإمام كان يرسخ للاستبداد حينما نادى بحكم المستبد المستنير أو المستبد العادل، لأنه حارب فكر محمد على بكل ما أوتى من قوة وكان يهاجم فترة حكمه كثيراً، مؤكداً أن كان مستبداً ولم يكن عادلاً، وإنما دعوته التى قال فيها إن الشرق لن ينصلح إلا بمستبد عادل إنما هى شىء أشبه بما نسميه بالشرعية الثورية الآن، ذلك لأن الناس بعد فترات الخمول والركود غالباً ما تستسلم لثقافة الخنوع والاستسلام، وإن ترك لها الخيار لاختارت ما تعودت عليه، ولذلك كان يرى أن الحل فى أن يتولى الحكم مستبد عادل يقيم الشرائع ويحقق المساواة ويرجع الحقوق لأصحابها ويعمق الثقافة البرلمانية والديمقراطية ومن ثم يتحول المستبد العادل إلى عادل فقط، وفى ذلك كله يؤكد الإمام أن «الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا مهبط الوحى، ولا يخصه الدين بمزية فى فهم الكتاب والعلم بالأحكام، بل هو وسائر طلاب العلم سواء، وهو مطاع ما دام على الحجة ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد إذا انحرف عن النهج أقاموه عليه، وإذا اعوج قوموه بالنصيحة»، بل إنه يؤكد حق الأمة فى عزل حاكمها متى أيقنت من فساده وجوره قائلاً: «الأمة صاحبة السيطرة على الحاكم وهى التى تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدنى من جميع الوجوه وليس فى الإسلام سلطة دينية إلا سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وجزاء لهذه الرؤية العميقة فى الفهم السليم للإسلام سلط عليه الخديو شيوخه الذين كفروه وهاجموه وشوهوه.
أما عن دور الإمام فى مقاومة الاحتلال الأجنبى لمصر فيلخصه المستشار طارق البشرى فى القول إن جمال الدين الأفغانى وضع اللبنات الأولى فى فكرنا الإسلامى الحديث فى مسألة مقاومة الاستعمار، بينما محمد عبده وضع اللبنات الأولى فكرة «المقاومة للقابلية للاستعمار»، وهذا أمر ربما يكون طبيعيا، الأفغانى كان يجاهد قبل الاحتلال ومن ثم كان لابد من الوقوف بكل قوة أمام المعتدين، بينما الإمام وجد نفسه وبلده مستعمرا بالفعل فحارب تمكين الاستعمار لنفسه فى الأرض وحارب فكرة انسلاخ المسلمين من هويتهم الإسلامية، فدافع عن الإسلام ضد الشبهات التى كانت تحيط به، وأكد أنه دين العلم والمدنية، ولعل هذا ما يبرز بوضوح فى رسالته إلى الكاتب فرح أنطون التى رد فيها عليه بعدما قال إن الإسلام يعيق دولة العلم فقال فى مقالة هى نموذج للحوار الهادف ورد فيها نصا: الفاضل فرح أنطون كان ظالماً للإسلام سواءٌ لجهة قوله بالتناقَض بين الإسلام والعلم، أو لجهة قوله إنّ الإسلام مُعيقٌ للتطوير السياسى. ذلك أنّ العلومَ ازدهرت ازدهاراً عظيماً فى ظلّ الإسلام، وبتشجيعٍ منه، والأحداثُ القليلةُ المتعلقة بملاحقة بعض العلماء ومنهم ابنُ رشد، لا تدُلُّ على موقف إسلامىٍ دينىٍ من العلم، بل كانت لذلك دوافعُ سياسيةٌ فى الغالب. أمّا علاقةُ الدين بالدولة فقد كانت دائماً ذات طابعٍ انسجامى، فالدولةُ دولةُ الإسلام، وليس فى الإسلام كهنوت، ولا قولٌ بالدولة الدينية بخلاف ما كان عليه الأمر فى المسيحية.
«لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالما» تلك هى الكلمة التى قالها جمال الدين الأفغانى حينما سافر من مصر، وللحق كان محمد عبده نعم العالم، ونعم المجدد فقد ترك مجموعة فتاوى دينية كبيرة كان من شأنها أن تصالح بين الإسلام ومستجدات العصر، فحفظت الإسلام من الاصطدام بالعلوم الحديثة، فأباح إيداع الأموال فى صناديق التوفير وأخذ الفائدة عليها، وحلل ذبائح أهل الكتاب، وأجاز ارتداء ملابسهم، وانتهج نهجا يعتمد على العلوم الطبيعية الحديثة فى التفسير، وحارب جهل الناس بالسنة النبوية، مؤكداً أن أسباب هذا الجهل تنحصر فى الفهم المغلوط لمضامين الدين ومعايير الحياة والتقليد الذى تسبب فى انصراف الناس عن توظيف سنن الله لصالحهم والإفادة منها، وأن إحياء الدين يتطلب إحياء لتعاليمه الآمرة بالنظر فى التاريخ الذى يشرح ما عرفه الذين ساروا فى الأرض ورأوا آثار الذين خلوا، ثم دراسة التاريخ وأحوال البشر، والاعتبار بالقصص القرآنى، والنظر فى الكائنات وأحوالها والتعمق فى دراستها، مؤكداً أن «من وسائل الوصول إلى معرفة السنن البحث فى علوم الكائنات وجعل ذلك أصلاً من الأصول التى دارت عليها سورة الأنعام وهو الترغيب فى علوم الكائنات والإرشاد إلى البحث فيها لمعرفة سنن الله وحكمته وآياته الكثيرة فيها الدالة على علمه وحكمته ومشيئته وقدرته وفضله ورحمته».
دعوة محمد عبده للتأمل هنا تجعلنا ننظر إلى موقفه من الصوفية، فقد كان الإمام متصوفا وهو صغير وعلم دقائق هذا الاتجاه، ولذلك فقد رحب بالتصوف الحق الذى لا يرسخ الخزعبلات والطقوس الغربية وارتكاب المحرمات مثلما يحدث فى الموالد، قائلاً إن التصوف هو تهذيب أخلاق العامة وتقويم عاداتهم وترويض نفسوهم بأعمال الدين وجذبها إليه وجعله وجدانا لها»، وهو فى ذلك يفرق بين المقصد الأول للتصوف وما لحق به من شبهات أساءت إليه، فقد كان الإمام يدعم كل ما يهذب الروح وينمى الفكر ويأجج الوجدان بنور الله الممتد فى الأكوان، وهذا هو السبب الذى جعله يرغب الناس فى الفن التشكيلى مؤكدا عدم حرمته لأنه من وجه نظره «ضرب من الشعر الذى يرى ولا يسمع والشعر شرب من الرسم الذى يسمع ولا يرى»، قائلا إن الفائدة محققة من الرسم لا نزاع فيها وإن الإسلام حرمه لسببين، الأول إذا تبرك به الناس والثانى إذا كان الفن لهوا، وهذا ما لا يوجد فى الرسم الجاد الداعى إلى الجمال والتهذيب الروحى والنفسى، كما أن موقف الإمام من الرواية هو نفسه موقفه من الرسم، وليس أدل على ذلك من الخطاب الذى أرسله إلى الروائى الروسى الشهير تولوستولى حينما عاقبته الكنيسة بالحرمان حينما نشر كتابا يعلن فيه عدم اقتناعه بألوهية المسيح، فبعث إليه ببخطاب يستدل منه على أن الإمام كان قارئا متأملاً له، فقال فى هذا الخطاب مواسياً: فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم ولما كانت آراؤك ضياء يهتدى به الضالون كان مثالك فى العمل إماما يقتدى به المسترشدون وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء كان مددا من عنايته للضعفاء والفقراء.
وائل السمرى يكتب: رشيد رضا.. الإمام التوافقى.. تلميذ محمد عبده والأفغانى وصديق سعد زغلول وإمام حسن البنا وأستاذ السلفية المصرية ونصير الشيوعية والرائد الذى استفاد منه الألبانى ودعا له
الأربعاء، 8 أغسطس 2012 - 09:32
رشيد رضا
بقلم وائل السمرى
لا يبالغ الواحد إن قال إن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد شهدت حراكا فكريا متكاملا شبيها لما وقع فى القرن الثانى وبداية القرن الثالث حيث عصر الأئمة الكبار الذين جددوا شباب الإسلام الأول وحافظوا على السنة النبوية وتكاملوا فيها بينهم مختلفين فى الفروع ومتفقين فى الأصول، ومتفرقين فى الطريق متوحدين فى الغاية، فما إن هل القرن الثانى الهجرى حتى بزغت أنوار المجددين الكبار، كالإمام جعفر الصادق خليل الإمام أبوحنيفة الذى كان تابعا للإمام زيد بن على زين العابدين والإمام الليث بن سعد الذى كان صديقا وأخا وندا للإمام مالك الذى تعلم على يديه الإمام الشافعى الذى سلم الشعلة للإمام أحمد بن حنبل فكان بحق عصر الأئمة العظام، ها هو العصر الحديث أيضا يبدأ نفس البداية على يد الإمام حسن العطار الذى علم المعلم رفاعة الطهطاوى الذى عاصر الإمام جمال الدين الأفغانى الذى رافق الإمام محمد عبده الذى علم الإمام رشيد رضا ومصطفى عبدالرازق وغيرهم كثير، لتكتمل دعوة الإسلام ويقف أبناؤه أمام المحتلين وقفة عزيز كبير، مطورين من أدواتهم ومحافظين على هويتهم ومجددين لدماء دينهم الذى روث من تخلف العصور السابقة ما أسهم فى تشويه صورته وتبديل مفاهيمه فكانت الصحوة النهضوية الكبيرة التى طورها أبناؤها لتصبح مصر دولة الإسلام الحضارى بمعناه الأكمل والأجمل الذى لا يقف فى وجه التقدم والتحديث، ولا يذوب فى هويات أخرى غير هويته السامقة.
فى الحلقات السابقة تعرضنا إلى ما قام به المصلحون الأوائل مثل الأفغانى والعطار والطهطاوى وعبده واليوم نواصل التعرض إلى المنجز الفقهى الحضارى الذى تكامل فيه أبناء تلك الحقبة ليشكلوا فيما بينهم نسيجا واحدا قادرا على مواجهة المستجدات الطارئة وأبرزها ما تعرض إليه الوطن من نكسة كبيرة متجسدة فى الاحتلال الإنجليزى الذى أثر على مسار حركة التجديد الإسلامية بشكل كبير فقد رأينا كيف كان الإمام محمد عبده يحلق فى أفق المعرفة ويعلى من شأن العقل والاجتهاد متعمقا فى دراسة الآيات والأحاديث ومتأملا فى أسباب نزولها وعلل أحكامها غير متورع فى اللجوء إلى تأويل النص بشكل عقلى مجرد مؤكدا على أن النص والعقل متكاملان ومتلازمان كما لو كان يقول إن النص عقل ثابت والعقل نص متحرك، لكن ما إن مات الإمام حتى حمل شعلة التنوير تلميذه رشيد رضا الذى وجد أن الأوضاع قد تغيرت وأن الأحوال قد تبدلت، ففى زمنه توغل الاحتلال الإنجليزى بالحياة المصرية، كما شهد انهيار الخلافة الإسلامية وشهد الحرب العالمية وتبدلت موازين القوى، كما شهد العديد من المتغيرات الطارئة التى أحدثها الانحلال، فانعكس هذا كل على وجه نظره وفتاواه التى تشدد فيها إذا ما قارناه بأستاذه محمد عبده، حتى عده البعض الأب الشرعى للحركة السلفية فى مصر وذلك لاعتماده كثيرا على آراء الإمام ابن تيمية الذى أنشأ فقهه فى ظرف يكاد يماثل ظرف «رضا» حينما كان المغول يحتلون جزءا من العالم الإسلامى ويستعدون لالتهام البقية، وما تشدد الإمامان فى فقههما إلا للحفاظ على الدين الذى كان مهددا بالضياع تحت أقدام المحتلين.
على هذا فإنه قلما تجد مصلحا مظلوما مثلما تجد رشيد رضا «1865/ 1935» العراقى الأصل اللبنانى المنشأ المصرى الهوية فقد ظلمته كل التيارات المحافظة والمجددة، كما احتفت به كل التيارات المحافظة أيضا والمجددة، فقد كان فى فقهه وفتاواه ومواقفه صورة أو أخرى من كل فصيل، فمن ناحية هو تلميذ المصلحين المستنيرين أمثال جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده فعن الأفغانى يقول إنه: الكبير بمواهبه الفطرية، الكبير بسعة علمه وحسن نظام فكره، الكبير بمطامحه، الكبير بنفسه العالية القوية المشتعلة حياة وعزما، الكبير بتاريخه» ودائما ما كان يذكر الإمام محمد عبده واصفا إياه بالأستاذ ويشهد له بالورع والمعرفة والإمامة وعنه يقول: «هو أكمل من عرفت من البشر» وفى ذات الوقت أستاذ الشيخ محمد حامد الفقى، مؤسس جمعية أنصار السنة المحمدية، وأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، كما أنه صديق الزعيم الوطنى الكبير سعد زغلول وكان كثيرا ما يشيد به ويعتبره المثال الذى كان يحلم به الإمام محمد عبده وعنه كان يقول: إن روح الأفغانى ومحمد عبده قد تجلت فى أعمال سعد زغلول، وإنه قد أصبح عميد الحزب المدنى للأستاذ الإمام وأقوى أركان هذا الحزب» وكان بمجلته الرائدة «المنار» من أئمة الإصلاح والتجديد والمحافظة فى آن واحد حيث يقول عنه الإمام ناصر الدين الألبانى المحدث الأشهر: «السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله– له فضل كبير على العالم الإسلامى بصورة عامة، وعلى السلفيين منهم بصورة خاصة، ويعود ذلك إلى كونه من الدعاة النادرين الذين نشروا المنهج السلفى فى سائر أنحاء العالم بواسطة مجلته «المنار» وقد جاهد فى سبيل ذلك جهادا يشكر عليه، ويرجى أن يكون أجره مدخرا له عند الله» وقال الإمام محمد الغزالى إن جمال الدين، ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا هم قادة الفكر الواعى الذكى فى القرن الأخير وقال: «إن صاحب «المنار» استوعب مذاهب المفسرين، من تفسير بالأثر إلى تفسير فقهى، إلى تفسير بلاغى» كما أنه وهو المصلح الإسلامى الكبير الذى عاش حياته يجاهد من أجل إحياء الخلافة الإسلامية تراه يدافع عن الشيوعية والثورة البلشفية، ويرد عنها الشبهات التى ألصقها البعض بها حيث يذكر مستنكرا فى جريدة المنار ما قيل عن أن البلشفية ودعاوى تحريمها وتشبيهها بالديانات الوثنية قائلا «إنها عين الاشتراكية، المقصود منها إزالة سلطان أرباب الأموال، الطامعين وأعوانهم من الحكام الناصرين لهم، الذين وضعوا قوانينهم المادية قواعد هضم حقوق العمال فى بلادهم، واستعمار بلاد المستضعفين من غيرهم، وإن معناها الحرفى الأكثرية، فالمراد منها أن يكون الحكم الحقيقى فى كل شعب للأكثرية» وعلى هذا فهو الإمام المصلح تلميذ محمد عبده والأفغانى وصديق الزعيم الوطنى سعد زغلول وإمام الإخوان المسلمين وأستاذ السلفيين ومناصر الشيوعية والرائد الذى استفاد منه الألبانى!
فوق كل هذا فالإمام رشيد رضا شاعر مجيد، خطفه عالم الفقه فخسر الوسط الأدبى شاعرا واكتسب الوسط الفقهى فقيها، ولعل هذا ما يفسر لنا الكثير من مفاتيح شخصية الإمام، ويفسر لنا حماسته وجرأته ودأبه وروحه الوثابة الحالمة بعالم عادل ومسالم يرى فى كل شىء أجمله ويناضل بشرف من أجل الحفاظ على هويته العربية الإسلامية دون أن ينسى أن الإسلام دين إصلاح وسماحة ومحبة وتطور، فقد كان كثيرا ما يطالب أصحابه وتلامذته التيسير على المسلمين وقال تعليقا على حديث رسول الله «ما خير الرسول بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما» «لو سلك المسلمون اليوم هذا المسلك، لأمكنهم جعل التشريع الإسلامى فوق كل تشريع، وكان عليه مدار الأحكام فى جميع البلاد الإسلامية وكان لهم مندوحة عن التأويل والأخذ بالأقوال الشاذة» وكان يضرب المثل بالصحابة وموقفهم من كلام النبى فقد كان بعضهم يأخذ تعاليمه نصا دون استبصار بينما الآخرون يستبصرون فيه، ومثال هذا حديث بنى قريظة، فقد قال رسول الله لأصحابه فى غزوة الأحزاب «لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة» ومقصده الذى يتمثل فى الحث على الإسراع وترك. التثاقل والتباطؤ فى السير، بينما فهم بعض الصحابة أن المراد عدم التأخر عن الوصول إلى بنى قريظة فى ذلك الوقت، فصلوا فى الطريق ولم يتأخروا وبعضهم فهم أن الرسول ينهى عن صلاة العصر إلا هناك فأجلوا الصلاة حتى وصلوا!
ويشرح لنا المثال السابق منهج الإمام رشيد رضا فى الفقه، فهو كان كثيرا ما يأخذ بالمقاصد العامة من الحديث والسنة، معتمدا على فقه المقاصد الذى نظر له الإمام الشاطبى بعد تعديله ليناسب العصر وإضافة ما يضمن له التطور والبقاء مستدركا على الإمام الشاطبى عدم أخذه بالعقل، فقد عمل «رضا» بنصيحة الإمام محمد عبده بأهمية كتاب «الموافقات» وضرورة نشره والاستفادة منه فقال رشيد رضا: «لولا أن هذا الكتاب ألّف فى عصر ضعف العلم والدين فى المسلمين، لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان «الشاطبى» بكتابيه «الاعتصام والموافقات» من أعظم المجددين فى الإسلام، فمثله كمثل الحكيم الاجتماعى عبدالرحمن بن خلدون.
ويبن رشيد رضا المقاصد العامة بقوله: «هى تحرى العدل المطلق العام، والمساواة فى الحقوق والشهادات والأحكام وتقرير المصالح ودرء المفاسد، ومراعاة العرف بشرطه، ودرء الحدود بالشبهات، وكون الضرورات تبيح المحظورات»، وفى ذلك كان يقول: «من نظر بعين البصيرة إلى مقاصد الشريعة، علم أن الدين إنما ينتشر بالدعوة والتبليغ، لا بالإكراه والإلزام» وقال: «من مقاصد الشرع إخراج الأمة من الأمية وتعليمها الكتاب والحكمة، كما هو منصوص فى كتاب الله تعالى» كما قال «للدين ثلاثة مقاصد»: تصحيح العقائد التى بها كمال العقل، وتهذيب الأخلاق التى بها كمال النفس، وحسن الأعمال التى تناط بها المصالح والمنافع، وللتدليل على أهمية نظرية مقاصد الشريعة فى الحياة المعاصر يقول إنه «لا يوجد فى الشريعة شىء متفق عليه بين أئمتها، يعارض حضارة العصر فيما هو من المنافع والمقاصد الجوهرية إلا الربا الصريح» بما يعنى أنه ما دون الربا مرفوع عنا الحرج فيه، منبها على ضرورة تجميع مقاصد الشريعة من القرآن وعمل سفر كبير يجمع مقاصد القرآن كلها، مع بيان حاجة البشر إليها فى أمور معاشهم ومعادهم» مؤكدا أن من أسلوب القرآن مزج مقاصده بعضها ببعض، من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبدية ومدنية وغيرها.
لكن «رضا» الذى يؤخذ عليه التشدد أكثر من أساتذته قال إن هناك العديد من الشروط التى يجب توافرها فى من يتخذون من علم المقاصد منهجا للاجتهاد أهمها فهم الكتاب والسنة، ومعرفة مقاصد الشرع، والوقوف على أحوال الناس وعاداتهم، لأن أحكام الشريعة لاسيما المعاملات منها دائرة على مصالح الناس فى معاشهم ومعادهم أى على قاعدة درء المفاسد وجلب المنافع «وعلى العاقل الرشيد أن يطلب فقه القول دون الظواهر الحرفية، فمن اعتاد الأخذ بما يطفو من هذه الظواهر دون ما رسب فى أعماق الكلام، وما تغلغل فى أنحائه وأحنائه، يبقى جاهلا غبيا طول عمره».
واعتبر رضا أن من مقاصد الدين إزالة الخلاف من بين الناس ولا سيما الخلافات المذهبية، وفى كثير من الأحيان يدعو رشيد رضا إلى الفهم الدقيق للوصول إلى استنباط الأحكام. قال: «إن الأئمة -رضى الله عنهم- لم يستنبطوا الأحكام ليصرفوا الناس إليهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وإنما استنبطوها ليعلموهم كيف يفهمون وكيف يستنبطون، فمن مقاصد الحديث الرفق والتخفيف والتيسير فى الأمور كلها»، قال رشيد رضا: «إن الغلظة فى الأمر، والنهى تزيد المقلد جمودا على التقليد، فلا يصغى سمعه إلى قول فاضل،. ولا قول مفتى».
إن الاجتهاد من ضروريات الحياة، وهو المنوط به تجديد الدين ليلائم كل زمان ومكان، وعلى هذا يقول إن الإمام الغزالى استدرك بعض الأمور على إمامه الشافعى، وبناء على هذا خالف الإمام رشيد رضا موقف الإمام ابن تمية من حديث رسول الله «من آذى ذميا فقد آذانى» فقد كان «ابن تيمية» يقول إن هذا الحديث كذب على رسول الله فلم يروه أحد من أهل العلم، فيقول إنه استغرب هذا كثيرا لأن الحديث مروى بلفظ قريب من هذا اللفظ، وهو ما أخرجه الخطيب البغدادى من حديث ابن مسعود مرفوعا إلى النبى من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمُته يوم القيامة، وقد أورده السيوطى فى الجامع الصغير وأشار إلى حسنه، ولولا ميل شيخ الإسلام إلى التشديد على المخالفين فى أصل الدين أو فى المذاهب المخالفة لِما كان عليه السلف الصالح لما اقتصر على إنكار الحديث باللفظ الذى ذكر وسكت عن اللفظ الآخر المروى بمعناه، على أنه يجوز أن يكون قد نسيه عندما كتب هذه المسألة وهو أقرب من عدم اطلاعه عليه.
وقد حبب الإمام رشيد رضا فى فكرة إعمال العقل مع الأحاديث والآيات المختلفة وعمل على تأويل الأحكام ليصل إلى مقاصد الشارع كما بينا، وفى مخالفته للإمام ابن تيمية وهو بمثابة أستاذ له تبيانا لمنهجه الذى لا يقدس الأشخاص بقدر ما يقدس العلم والعقل، فقد كان رحمه الله يمقت التقليد ويدعو إلى احترام العقل مثلما احترمه خالقه الذى ذكر العقل باسمه وأفعاله فى القرآن الحكيم فيبلغ زهاء خمسين مرة. وذكر كلمة الألباب أى العقول بضع عشرة مرة، وأما كلمة أولى النهى أى العقول فقد جاءت مرة واحدة من آخر سورة طه، مؤكدا أن التقاليد الدينية حجرت على حرية التفكير واستقلال العقل على البشر حتى جاء الإسلام فأبطل بكتابه هذا الحجر، وأعتقهم من الرق وكان رشيد رضا دائما يؤكد أن الإسلام دين العلم والحكمة، ويثبت ذلك بالبراهين من الكتاب والسنة، وقد دعا إلى الاجتهاد ودافع عنه قائلا: «ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأى نص سد باب الاجتهاد؟ وأى إمام قال: لا ينبغى لأحد من المسلمين بعدى أن يجتهد ليتفقه فى الدين؟ أو أن يهتدى بهدى القرآن؟ مؤكدا أن علوم الشريعة والقرآن ومستجدات العصر فى زمنه أوجبت الاحتياج إلى الاجتهاد قائلا إن الأئمة العظام وإن كانوا قد اجتهدوا بما يسر الله له فإن ما حواه القرآن من العلوم والحديث الصحيح من السنن والتوضيح إلا كقطرة من بحر أو ثانية من دهر».
وعى رشيد رضا كلمات الإمام محمد عبده التى يقول فيها «إن الشريعة الإسلامية عادلة، وإن من أصولها الثابتة دفع المفاسد وحفظ المصالح العامة فى كل زمن» فعمل بكل جهده من أجل استبيان هذا العدل الكامن فى الشريعة، مؤكدا أنه تعلم من التاريخ «أن الأمم التى تكون محرومة من الحرية لا يكون لها اجتماع حقيقى ولا سعادة صحيحة» وأن الإسلام يتميز بأنه يقوم على مخاطبة العقل، بخلاف الأديان الأخرى، حيث يرى أن «اليهودية شريعة مبنية على الشدة، والمسيحية يهودية من جهة، وروحانية من جهة، أما الشريعة الإسلامية فهى قائمة على أساس العقل والاستقلال المحققة لمعنى الإنسانية بالجمع بين مصالح الروح والجسد وإن الإسلام هاد ومرشد إلى توسيع دائرة الفكر واستعمال العقل، ومن هنا كان إلحاح الشيخ على العودة إلى القرآن واستبصار آياته بلا جمود لتأسيس النهضة المشتهاة.
وانطلاقا من عمله بمبدأ إعمال العقل رأى الشيخ أن المدنية الغربية من الإسلام لأن الإسلام دين العقل والمدنية تقوم على العقل، وإن كان الغرب قد سبقونا فى التطبيق إليها فهذا لا يعنى أنها خارجة عنا، لذلك فهو يستعيض مثلا عن فكرة «أهل الحل والعقد» بمجالس النواب أو البرلمانات، ويرى أن برلمان تركيا الذى أنشأه كمال أتاتورك قبل إلغاء الخلافة يقترب من فكرة أهل الحل والعقد فى الإسلام، قائلا: قد صار أهل الجمعية الوطنية فى أنقرة أصحاب الحل والعقد بالفعل، مستبعدا فقهاء الإسلام فى مصر من الانضمام إلى هذه الجماعة بسبب «انكماشهم فى زوايا المساجد وابتعادهم عن مجابهة مشاكل العصر».