كظم الغيظ... «الحلقة الغائبة» في المجتمعات العربية والإسلامية
صفة سامية من صفات المتقين الذين امتدحهم الله بها تبين كيفية ضبط النفس ومنعها من التصرف الخطأ
إسلاميات - الخميس، 5 نوفمبر 2015 /
22
ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب
×
شارك:
+ تكبير الخط - تصغير الخط ▱ طباعة
| إعداد عبدالله متولي |
• تجنَّبُ الغضب يحتاج إلى ضبط النفس والقرآن الكريم أعطانا صوراً رائعة تمثلت في أنبياء الله
• التحلي بالصبر وكظم الغيظ بل والدفع بالتي هي أحسن تقوي الروابط الاجتماعية وتؤلف القلوب
• الشرع الحكيم أجاز لنا أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به لكنه بيَّن أن العفو وكظم الغيظ أفضل وأحسن
إن كظم الغيظ صفة من صفات المؤمنين التي امتدحهم الله بها كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) و قال تعالى: ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون )... و النصوص في هذا كثيرة، فعن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه, و حسنه الألباني.
و جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه و سلم- قال (من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة) أخرجه ابن أبي الدنيا في (قضاء الحوائج)عن ابن عمر و حسنه الألباني.
و جاء في الحديث الآخر عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال (ما من جرعة أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله) قال الألباني: أخرجه أحمد بإسنادين عنه، أحدهما صحيح.
و الحديث عن كظم الغيظ و النصوص الواردة فيه.. وما إلى ذلك يطول..لأنه الحلقة الغائبة في المجتمعات العربية الإسلامية الواسعة، بل تكاد منعدمة بين أفراد مجتمعنا اليوم بصفة عامة, أصبحنا من خلالها لا نرى فيهم أي وصفاتٍ نبوية يحملونها من دستور هذه الأمة الإسلامية ألا وهو القرآن الكريم وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم، إلا من رحم الله.
فلقد تعود الناس على إظهار الغضب، لأنه سلاح فتَّاك وبركان خامد وقوة تقهر كيان الإنسان، وتدفعه إلى ارتكاب أفعالٍ ما كان ليأتيها، فسرعان ما يعتريه الندم بعدها (أي الأفعال )على ما فاته من كظم الغيظ، يعود للوم نفسه، وتشتد عليه الحسرة والألم على ما وقع له في ذلك الحادث..
فتجنَّبُ الغضب يحتاج إلى ضبط النفس، والقرآن الكريم أعطانا صوراً رائعة تمثلت في أنبياء الله وكان منهم السلوك النبوي الراشد.
جاء في قوله تعالى عن قصة موسى عليه السلام

ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح )الآية 154 من سورة الأعراف, فبعد سكون الغضب لجره أخيه فيه من قوله تعالى

وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.. )
عاد إلى ضبط نفسه ومقارعتها وإعادتها إلى نصيب الحلم وهو الأناة الحسنة.
وفي هذا السلوك القويم يخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ له «قال: (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب..) رواه أحمد متفق عليه, و قال الله تعالى

وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والاَرضُ أُعِدَّتْ للمتقين* الذين ينفقون في السرَّاء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناسِ والله يحب المحسنين*)الآية 132-133من سورة آل عمران
فمن صفات المتقين في هذه الآية الكريمة والصريحة كظم الغيظ وإظهار الرحمة بالعفو عند المقدرة، وهي معان سامية تبين كيفية ضبط النفس ومنعها من التصرف الخطأ في أعسر المواقف التي يتلقاها الإنسان المسلم في حياته، ينبغي أن يظهر خلالها الشجاعة والحكمة وحسن التعامل مع الأحداث التي تفاجئه في المجتمع.
من الملاحظ في المعاملات الاجتماعية بين الناس أن بعضهم قد يسيئون إلى إخوانهم إساءات مختلفة، في ألسنتهم، في أيديهم، في غير ذلك من جوارحهم، في تصرفاتهم المالية أو غير المالية، وقد تمس الإساءة النفس، أو تمس العرض والشرف، أو تمس المال والمتاع، أو تمس الأهل والعشيرة...إلخ.
ولما كان الأمر بهذه الصورة فإن هذه الإساءة لو تعامل معها المرء للوهلة الأولى مستجيبًا لحظ نفسه وهواه لترتب على ذلك شر عظيم وفساد ذات البين، وانتشار العدوات بين أبناء المجتمع.
وقد وجه الله تعالى عباده المؤمنين لضرورة التحلي بالصبر وكظم الغيظ، بل والدفع بالتي هي أحسن: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34، 35].
فما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم لتقوى الروابط وتتآلف القلوب، ويُبنى ما تهدم من الروابط الاجتماعية، ولننال رضى الله وجنته: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:133، 134].
إن الشرع المطهر قد أجاز لنا أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به، لكنه مع ذلك بيَّن أن العفو وكظم الغيظ أفضل وأحسن: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)[النحل:126].
فضائل كظم الغيظ
إن لكظم الغيظ فضائل عظيمة؛ فبالإضافة إلى ما سبق من الفضائل هناك جملة من الفضائل الأخرى التي نطقت بها هذه الأدلة، منها:
1- عن ابن عمر - رَضي الله عنهما -: أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرًا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه - ولو شاء أن يمضيه أمضاه - ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يتهيأَ لهُ؛ أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام».
2- عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ما من جُرعَةٍ أعظم أجرًا عند الله من جرعةِ غيظ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله».
3- عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بقومٍ يصطرعون؛ فقال: «ما هذا؟» قالوا: فلانٌ ما يُصارع أحدًا إلا صرعه، قال: «أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه وغلبَ شيطانه وغلب شيطان صاحِبِهِ».
4- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا - فأومأ أبو عبد الرحمن بيده إلى الأرض -: «من أنظر معسراً أو وضع عنه؛ وقاه اللّه من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حَزْن بربوة (ثلاثاً)، ألا إن عمل النار سهل بشهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحبُّ إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبدٌ، ما كظمها عبدٌ للّه إلاَّ ملأ اللّه جوفه إيماناً».
5- عن معاذ بن أنس عن أبيه - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفذه دعاه الله عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق حتى يُخيِّره من الحور ما شاء».
الأخلاق النبيلة
وعلى هذه الأخلاق النبيلة تربى السلف رضي الله عنهم:
1- قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: «من اتقى الله لم يشفِ غيظهُ، ومن خاف الله لم يفعل ما يُريدُ، ولولا يومُ القيامة لكان غير ما ترون».
2- عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر ابن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً أو شباناً. فقال عيينة لابن أخيه: يا لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال: سأستأذن لك عليه، فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر. فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل! فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف 199]. وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب اللَّه.
3- جاء غلام لأبي ذر - رضي الله عنه - وقد كسر رجل شاةٍ له فقال له: من كسر رِجل هذه؟ قال: أنا فعلتُهُ عمدًا لأغيظك فتضربني فتأثم. فقال: لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقه.
4- شتم رجلٌ عديَّ بن حاتم وهو ساكتٌ، فلما فرغ من مقالته قال: إن كان بقي عندك شيءٌ فقل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم يرضوا.
5- قال محمد بن كعب رحمه الله تعالى: ثلاثٌ من كُنَّ فيه استكمل الإيمان بالله: إذا رضي لم يُدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يُخرجه غضبُهُ عن الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.
6- قال رجلٌ لوهب بن منبه رحمه الله تعالى: إن فلانًا شتمك. فقال: ما وجد الشيطان بريدا غيرك؟!
7- قال الغزالي رحمه الله تعالى: إن كظم الغيظ يحتاج إليه الإنسانُ إذا هاج غيظُهُ ويحتاجُ فيه إلى مجاهدةٍ شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادًا فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعبٌ، وحينئذ يُوصف بالحلم.
8- وذكر ابن كثير رحمه الله من صفاتِ أصحاب الجنة عند تفسير قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى قوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فقال: إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم.
9- ذكر ابن كثير في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن رجلاً كلمه يومًا حتى أغضبه، فهم به عمر، ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا؟ قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك.
فهيا نعود أنفسنا كظم الغيظ والتحلي بالحلم عسى أن يملأ الله قلوبنا إيمانًا وحكمة، ويزيدنا يوم القيامة رفعة.
فوائد كظم الغيظ
من فوائد كظم الغيظ أن العبد ينال به خيراً عظيماً لأنه يتصف بصفة الصبر، قال عز وجل { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }النحل126.ومن هذه الفوائد:
1-ان عورة من كظم غيظه تستر، جاء عند الطبراني بإسناد حسنه الألباني رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( ومن كف غضبه ستر الله عورته ).
2-ان العبد في ذلك اليوم المخوف الذي يحزن فيه كثير من الناس قد ملأ الله عز وجل قلبه رجاء لما عند الله من النعيم،كما جاء في حديث ابن عمر عند الطبراني المذكور آنفا، قال عليه الصلاة والسلام ( ومن كظم غيظه ولو شاء أن ينفذه لأنفذه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة )..
3-ان الجرعة الواحدة من كظم الغيظ التي يمسكها العبد في قلبه ليس لها حد في الثواب، جاء عند ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما من جرعة أعظم عند الله أجرا من جرعة غيظ كتمها عبد ابتغاء ثواب الله ).
4-ان العبد إذا كظم غيظه قهر شيطانه وقهر شيطان من أغاظه، عند البزار عن أنس رضي الله عنه أنه قال ( مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس يصطرعون ) يعني يصرع بعضهم بعضا ( فقال ما هذا ؟ قال إنهم يصطرعون وهذا فلان لا يصرعه أحد، فقال عليه الصلاة والسلام ألا أدلكم على ما هو أعظم من هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلب وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه ).
5-ان من كظم غيظه يكون محبوباًَ عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يمتلئ قلبه إيمانا، قال صلوات ربي وسلامه عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم

وما من جرعة أحب إليّ من جرعة غيظ كظمها عبد، ما كظمها إلا ابتغاء وجه الله إلا ملأ الله قلبه إيمانا ).
6-ان من كظم غيظه ينال جائزة إذا بعث يوم القيامة، وذلك بأن تعرض عليه الحور العين فيختار منها ما يشاء، عند الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه بعثه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يختار من الحور العين ما شاء ).
العلاج لكظم الغيظ
لكظم الغيظ ثمرات جليلة، فلو قال قائل: كيف العلاج لكظم غيظنا ؟ ما هو السبيل إلى نيل هذه الثمرات ؟
فيقال: العلاج يكمن في أمور:
أولا: ليعلم أن من لم يكظم غيظه، فاته خير عظيم.
ثانيا: أن يتذكر أن كظم الغيظ الذي هو بداية الغضب هو وصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( لما أتاه رجل فقال يا رسول الله أوصني، قال لا تغضب، فكررها مرارا، فقال لا تغضب ).
ثالثا: أن العبد يغير من هيئته الجسمية والبدنية إذا اغتاظ، يعني إن كان قائما فيجلس، إن كان قاعدا فليضطجع، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث أبي ذر رضي الله عنه (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ).
رابعا: أن يتوضأ العبد إذا بدأ معه الغيظ، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند وسنن أبي داود ( إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ).
خامسا: أنه إذا غضب يقول ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) في الصحيحين من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال ( استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن أحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال صلى الله عليه وسلم: والله إني لأعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد، لو قال «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ).
سادسا: أن يتذكر العبد أن هذا هو طريق وسبيل النبي صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نستن به صلوات ربي وسلامه عليه، لأنه استن بمن قبله، ولذلك يعقوب عليه السلام { ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ }يوسف84، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في آخر السورة { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ }يوسف111، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصابه أذىً من أحد تسلى بقصص الأنبياء قبله، في الصحيحين أن ابن مسعود رضي الله عنه قال ( لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين على أشراف العرب ) لكي يؤلفهم ( قال رجل والله هذه قسمة ما عُدِل فيها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ).
سابعا:أن يقتدي المسلم بالسلف رحمهم الله، فإن السلف اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما اقتدى صلوات ربي وسلامه عليه بالأنبياء قبله، فعلينا أن نقتفي أثر هؤلاء، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( من كان تقيا لم يفش غيظه، ولولا القيامة لكان ما ترون )
يقول رضي الله عنه أدع أشياء ليس عجزا، ولكن لأن هناك يوما عظيما شديد العذاب.
أسباب ضبط النفس
كلنا نواجه هذا اللون من الاستفزاز الذي هو اختبار لقدرة الإنسان على الانضباط، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه، وهناك عشرة أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس:
أولاً: الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به.
قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر)[آل عمران: 159].
وفي هذه الآية فائدة عظيمة وهي: أن الناس يجتمعون على الرفق واللين، ولا يجتمعون على الشدة والعنف؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: الآية 159].
وهؤلاء هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار- رضي الله عنهم- والسابقين الأولين؛ فكيف بمن بعدهم؟!
وكيف بمن ليس له مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الناس؛ سواء كان من العلماء أو الدعاة أو ممن لهم رئاسة أو وجاهة؟!
فلا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه لِرَجُلٍ شَتَمَه: «يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ».
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ له الشَّعْبِيُّ: «إنْ كُنْتُ كمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ».
وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه؛ فدعا له وأمر له بجائزة.
فلا بد من تربية النفس على الرضا، والصبر، واللين، والمسامحة؛ هي قضية أساسية، والإنسان يتحلّم حتى يصبح حليمًا. ثانيًا: من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب سعة الصدر وحسن الثقة؛ ما يحمل الإنسان على العفو.
ولهذا قال بعض الحكماء: «أحسنُ المكارمِ؛ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرِ»، فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه؛ غفر له وسامحه،(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى:43].
وقال صلى الله عليه وسلم لقريش:«مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».
وقال يوسف لإخوته بعد ما أصبحوا في ملكه وتحت سلطانه: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:92].
ثالثًا: شرف النفس وعلو الهمة، بحيث يترفع الإنسان عن السباب، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام.
أي: لابد أن تعوِّد نفسك على أنك تسمع الشتيمة؛ فيُسفر وجهك، وتقابلها بابتسامة عريضة، وأن تدرِّب نفسك تدريبًا عمليًّا على كيفية كظم الغيظ. وَإِنَّ الذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي *** وَبَيَن بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَا
فَإِنْ أَكَلُوا لحَمْي وَفَرْتُ لُحُومَهُم *** وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا
وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيم عَلَيهِم *** ولَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا
رابعًا: طلب الثواب عند الله.
إنّ جرعة غيظ تتجرعها في سبيل الله- سبحانه وتعالى- لها ما لها عند الله -عز وجل- من الأجر والرفعة.
فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ»، والكلام سهل وطيب وميسور ولا يكلف شيئًا، وأعتقد أن أي واحد يستطيع أن يقول محاضرة خاصة في هذا الموضوع، لكن يتغير الحال بمجرد الوقوع في كربة تحتاج إلى الصبر وسعة الصدر واللين فتفاجأ بأن بين القول والعمل بعد المشرقين.
خامسًا: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ.
وقد قال بعض الحكماء: «احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِه».
وقال بعض الأدباء: «مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ».
وفي حديث خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، وقد ردوه شر رد.. تقول عائشة – رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ؛ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ! فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» أخرجه البخاري ومسلم.
سادسًا: التدرب على الصبر والسماحة فهي من الإيمان.
إن هذه العضلة التي في صدرك قابلة للتدريب والتمرين، فمرّن عضلات القلب على كثرة التسامح، والتنازل عن الحقوق، وعدم الإمساك بحظ النفس، وجرّب أن تملأ قلبك بالمحبة!
فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعًا فلن تشعر أن قلبك ضاق بهم، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد، وأنه يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة.
سامح كل الذين أخطأوا في حقك، وكل الذين ظلموك، وكل الذين حاربوك، وكل الذين قصروا في حقك، وكل الذين نسوا جميلك، بل وأكثر من ذلك..انهمك في دعاء صادق لله -سبحانه وتعالى- بأن يغفر الله لهم، وأن يصلح شأنهم، وأن يوفقهم..؛ ستجد أنك أنت الرابح الأكبر. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) أخرجه مسلم.
فقلبك الذي ينظر إليه الرب سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات احرص ألا يرى فيه إلا المعاني الشريفة والنوايا الطيبة. اغسل هذا القلب، وتعاهده يوميًّا؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد، والكراهية، والبغضاء، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيودًا تمنعك من الانطلاق والمسير والعمل، ومن أن تتمتع بحياتك.
سابعًا: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم، وهذا لا شك أنه من الحزم.
حُكِيَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً؛ لَسَمِعْت عَشْرًا !
فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا؛ لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً !
إن الجهد الذي تبذله في الرد على من يسبك لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي يعطيها الصمت، فبالصمت حفظت لسانك, ووقتك, وقلبك؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لمريم عليها السلام: «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا»[مريم: من الآية26].
ثامنًا: رعاية المصلحة؛ ولهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن رضي الله عنه بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أخرجه البخاري.
فدل ذلك على أن رعاية المصلحة التي تحمل الإنسان على الحرص على الاجتماع, وتجنب المخالفة هي السيادة.
تاسعًا: حفظ المعروف السابق, والجميل السالف.
ولهذا كان الشافعي - رحمه الله- يقول: إِنَّ الْحُرَّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَ لَفْظَةً.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ ) وأمثلة ذلك كثيرة.
الراي