كامل الشناوي ... شاعر الليل

الغيص

Active Member
طاقم الإدارة
كامل الشناوي ... شاعر الليل (1) .. جئت يا يوم مولدي
كامل الشناوي ... شاعر الليل (1) .. جئت يا يوم مولدي



الخميس 18 يونيو 2015 - الساعة 00:02
قليلون يجمعون ما بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس.
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب.
كان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1434560327_67_1-2.jpg

1434560327_28_5.jpg

1434560327_41_6.jpg

1434560327_54_4-3.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
نعيمة عاكف... التمر حنة (16) ... «بحر الغرام»
كامل الشناوي ... شاعر الليل (15) ... رسائل الحب والحياة
كان اليوم السادس من المحرم من العام الهجري 1326 الموافق ميلادياً العاشر من فبراير من العام 1908، يوم حزن وطني عام في أنحاء مصر المحروسة، ولم تكن «نوسا البحر» أقل حزناً من الحواضر والأرياف.
القرية التي تبدو كشبه جزيرة تحرس النيل، وتقع على الجهة الشرقية للنهر الخالد عند فرع «دمياط»، وتبدو كشريط يقع بين النيل وترعة أم الجلاجل بطول كيلومتر ونصف الكيلو، وتستقر في منتصف المسافة بين حاضرتي «سمنود» و{المنصورة»، ذكرها «المقريزي» في كتابه «بطن الريف» على أنها أقدم من «أجا» حاضرة المركز بمديرية محافظة الدقهلية، وكانت عاصمة الإقليم، وأطلق عليها اسم «النوسا» لأن الناس كانوا يبحثون فيها عن الونس، ويلجأون إليها طلباً للأمن باعتبارها بقعة سكانية مزدهرة في منطقة خالية.
حين جاءها الخبر عبر تلغراف وصل إلى مأمور المركز، اطلع عليه وجهاء المنطقة وأعيانها وقضاة المحكمة الشرعية، تشابهت ملامح الصدمة على الوجوه، الفلاحين والأفندية، حتى الشيخ السيد الشناوي القاضي بالمحكمة الشرعية ببورسعيد الذي كان يمرّ على رفاقه بمحكمة أجا، استمرت الصدمة والحزن والألم تغلب ملامحه، حتى بعد أن مضى وقتاً على سماعه الخبر، ونقله إلى أهالي القرية فور عودته من «أجا».

الصدمة

ربما انتهز فرصة بكاء الفلاحين وأهالي القرية ليبكي معهم، وكيف لا يبكي والزعيم الوطني «مصطفى كامل» تأكد نبأ وفاته، هذا الشاب المُلهم الذي استنفر فيهم من جديد المشاعر الوطنية الكبرى التي انطفأ وهجها لسنوات عقب انكسار «الهبة العرابية» التي خرجت بزعامة «أحمد عرابي» ورفاقه من ضباط الجيش المصري تبحث عن العدل والمساواة واستقلال القرار الوطني، وتنشد الحداثة واللحاق بركب الأمم الناهضة التي تملك مؤسسات حكم نيابي حقيقية وقوية وممثلة للشعب بفلاحيه وأعيانه وأفندياته، وتستطيع محاسبة الحكومة والنظر في الموازنة، لكن هذا الحلم انكسر وانتكس وانتهى بتكريس التدخل الأجنبي البريطاني الفرنسي في الشؤون المصرية بدعوى حماية أموال الدائنين التي خرجت مصر غارقة فيها من حقبة «الخديو إسماعيل»، ليتحول هذا التدخل إلى احتلال كامل مكتمل، صار فيه الجيش البريطاني هو صاحب القوة على الأرض، والسفير البريطاني «المندوب السامي» هو صاحب القرار السياسي والحاكم الفعلي للبلاد.
من قلب هذا الانتكاس الوطني الذي سحب روح الهزيمة على ملامح المصريين، وعاد بأحلامهم الوطنية إلى الخلف، واستمر لسنوات ينال من معنوياتهم نيلاً ثقيلاً مجحفاً، خرج «مصطفى كامل» كضوء واثق في قلب الظلمة، ليحيي في المصريين من جديد مشاعر وطنية كان يظن المحتل أنها وُئدت، ويُلهم من اصطفوا خلف «عرابي» وأجيال جديدة من بعده، ويقود الأمة رغم صغر سنه في معركتها الوطنية ضد الاحتلال.
لكن الرجل الذي أحيا الأمل في النفوس خطفه الموت عن عمر لم يتجاوز أربعة وثلاثين عاماً، فيما نضاله ضد الاحتلال في أوجه، وانتصاراته في فضح جرائم الاحتلال تؤتي أثرها في العواصم الأوروبية قبل شوارع القاهرة.
غاب تاركاً من ورائه صحافة وطنية تُرسخ مكانتها، ومدرسة ملهمة في الخطابة تُغري الشباب على اتباع نهجها، وحزباً سياسياً يتبنى القضية الوطنية، وذكريات مع صدقه الوطني، يتلمس المحتل أوجاعها، ويعرف المصريون قدر ما أوقدت فيهم من حماسة وفخر وكبرياء.

النذر

لذلك ولتفاصيل أكثر كانت مشاعر الحزن الكبير، والحداد الوطني العظيم على رحيل الشاب مفجر الهمة في الأمة المصرية من جديد. ووسط هذه المشاعر، وانشغال الناس بما يمكن أن يناله الزعيم الشاب من تكريم لسيرته، وهو الذي رفض تكريمه حياً غير مرة، كان الشيخ السيد الشناوي مؤمناً بأن تخليد سيرته، وتكريم اسمه هو السبيل لبقاء إلهامه يغذي مشاعر الأمة ويستدعي عزمها وهمتها كلما تراخيا مع سير الأيام.
هو يعرف طريقه الشخصي لتكريم الزعيم الراحل، نذر والنذر أمانة أن يُسمي أول ولد يُرزق به مصطفى كامل، مثله مثل كثير من المصريين أجمعوا دون اتفاق على ضرورة أن يبقى اسم «مصطفى كامل» متداولاً حياً يطارد بحروفه المحتل، ما انعكس على مواليد كثيرة في ذاك العام.
لكن كيف يفي بنذره وزواجه على هذه الحال من الهشاشة التي تجعله يفكر كثيراً في جدوى استمراره، زوجته ابنة خالته، ما يجعل الأمر صعباً عائلياً، وما يجعله أصعب أنها أم ولده الوحيد محمد المعتز بالله الذي اختار اسمه تيمناً باسم الرسول المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
الحياة مع ابنة خالته ليست كابوساً، لكنها أيضاً ليست ما كان يتمنى ويأمل، تزوجها بترشيح من والدته التي انحازت بالقطع إلى ابنة أختها وما زالت منحازة إليها وهي ابنة أفضل عائلات «الزرقا»، إحدى حواضر مديرية الدقهلية، لكن الوفاق غائب، والحق أنه غائب قبل إتمام الزواج، لكن بمكابرة منه، ومحاولة لإرضاء والدته، ووصل خالته، تم الزواج، ونصيب صاحب النصيب يصبح واقعاً.
«هذا خطأي ولا أحد سواي»... هكذا يقول لنفسه، يعرف أنه بهذا الخطأ ظلم ابنة خالته قبل أن يظلم نفسه. لكن الاستمرار في الزواج مع حالة عدم الوفاق يعني أن يصير الظلم مضاعفاً وثمنه في المستقبل أفدح وأفدح.
تكفي سنوات أمضاها مترحلاً من دون زوجته منذ التحاقه بالعمل كقاض في المحكمة الشرعية بـ «أجا»، وهو يقبل قرارات الندب والنقل، من المحكمة الشرعية بـ «سيوة»، إلى نظيرتها في «بورسعيد»، حيث اختار الترحال بديلاً عن مواجهة واقعه، حتى باتت اللحظة الحاسمة مصيرية، وظهر اتفاق بينه وبين ابنة خالته أم «المعتز» على استحالة الاستمرار، واتفاق على تسريح بإحسان وخروج بمعروف «وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ» (النساء: 130).

محكمة الأم

بعكس تفهم الزوجة قليلة الحيلة، كانت الأم أكبر العقبات أمام هذا الانفصال، كيف يخبرها أنه سيترك ابنة شقيقتها وهي بمثابة ابنتها؟
الحزن على ملامح الأم يتجاوز قلقها على نجلها غير المستقر إلى قلق مضاعف على زوجته وعلى حفيدها، وعلى علاقتها بشقيقتها التي أخذت منها ابنتها عروساً بكراً جميلاً، ومطلوب منها الآن أن تعيدها امرأة مطلقة تجر طفلاً، وتعود إلى حضن أمها مصحوبة بألم الطلاق وما يسببه من ضجر في المجتمعات الريفية.
بينما يتمزق قلبها تُذكر نجلها للحظة:
- «أنت قاض.. والمفروض تحكم بالعدل»
هذه أصعب قضية تُعرض عليه منذ اشتغل بالقضاء، والأرجح أنها أصعب قضية قد تُعرض عليه يوماً، ويصبح مطلوباً منه أن يحكم فيها، فأمه هذه المرة وكأنها ممثل ادعاء ضده ومحام عن زوجته في آن، وهو قاض ومدعي ومُدَّعى عليه وجان ومجني عليه، وظالم ومظلوم، وصاحب حق ومحقوق، كله في آن واحد:

- «العدل أحياناً يتقدم فيه وقف الظلم على جلب الحقوق»، قالها لأمه باستعطاف ثم زاد شارحاً:
- « إن كانت مظلومة معي فأنا أريد وقف ظلمي لها، وإن كنت مظلوماً معها، فأنا أريد وقف ظلمها لي، وإن كان كلاناً مظلوماً مع الآخر وهو الأرجح، فلنوقف هذا الظلم حتى لا يزيد ويكبر».

يبدو الشيخ الشناوي مقتنعاً تماماً بما يقول، تراه أمه صادقاً، لكن مشاعرها تغلبها، وهو الذي يتمسك برفض الخوض في تفاصيل الشقاق لا يشير سوى إلى وجود عدم اتفاق، يُقنع أمه أخيراً أن الصبر الذي تطلبه والزمن الذي تراهن عليه كأي أم محبة سلاح ذو حدين، قد يجلب هدوءاً للنفس، واستقراراً للوضع واعتياداً عليه، لكنه سيكون اعتياد مَن رضي بقدر على غير رغبة، ومَن قبل ببناء على غير أساس، وقد تأتي لحظة مشابهة لتلك اللحظة يلوح فيها الانفصال كحل، ويكون مخزون المرارات وتاريخ الحياة أصعب من أن يُحتمل، وأكبر من أن يُحتوى في إطار الخروج بالمعروف والتسريح بالإحسان.

البداية الجديدة

ليست «صديقة» السبب في انفصاله عن «أم المعتز»، يقول لأمه ذلك بيقين كامل، هي شاهدة من البدء على قراره منذ أن كان رغبة تعتمل في الصدر، وتخرج كشكوى مكتومة، لذلك تصدقه أمه وتبارك خطوته الجديدة، كما اضطرت إلى أن تبارك انفصالاً لعل الله يغني بعده ابنة شقيقتها من سعته، ويعوض نجلها خيراً بمن يسكن إليها في هدوء، ويستقر معها في رضا.
كانت مجرد مصادفة حين باشر عمله في «بورسعيد»، قادماً من «سيوة»، والتقى بالميناء الشيخ «محمد عيطة» من أعيان مركز أجا بالدقهلية وعمدة «تلبنت» القريبة من «نوسا البحر» ومالك ربع زمامها من أراض، وزميل دراسة الكتاتيب والأزهر.
في مثل هذا الوقت كان اللقاء بين المعارف القادمين من دلتا الفلاحين في شوارع المدن مثيراً للفرحة ومحفزاً على الاحتفاء، لذلك لم ينج الشيخ الشناوي من إلحاح الشيخ «عيطة» لتناول الغذاء معه.
كان العمدة قد وفد للتو إلى بورسعيد لقضاء بضع حاجات وشراء مستلزمات لزوجته وشقيقتها، ولما علم بحياة العزوبية التي يقضيها القاضي في بورسعيد تمسك أكثر بعزومته، وهو يراهنه إن أكل السمك من يد أهل بيته «زوجته وشقيقتها» لا مثيل له.
لم يحدد الشيخ الشناوي بوضوح أسباب الارتياح الذي غمره في منزل الشيخ «عيطة»، كيف نسى نفسه ومشاكله، وبات وكأنه يحسد رفيقه القديم على حياته التي لم ير منها سوى بعض الحكايات لزوم الدردشة، وطعاماً ربح به الرهان، فكان من أجمل وأطعم ما ذاق من أسماك في حياته.
ربما لأنه عاش الحياة عازباً رغم زواجه، يأكل ما يعده الخادم في «سيوة» من طعام، أو ما تصنعه الدكاكين في بورسعيد للعابرين القادمين والمسافرين عبر السفن الرابضة في الميناء؟ وربما لأنه اشتم من البيت رائحة الونس، وتلمس ذلك في مزاح رفيقه مع أهل بيته المستترين بحجاب:
- «الشاي يا حكومة»
هذه الألفة، وذاك الانسجام هو ما يفتقده، غير الطعام طبعاً باعتباره - إن كنت لا تعرف - من عائلة ذواقة، تقدر الطعام الجيد، والنكهات المبدعة.
مساحة الدردشة التي انفتحت مع العمدة، وامتدت إلى كل شيء، ذكريات زمان وحلقات الدرس، وقصائد الغزل العفيف في بنات الجيران، والخطابات الحماسية في تقليد «مصطفى باشا كامل»، تحدث الشيخ الشناوي مع رفيقه في كل شيء حتى حياته الشخصية بما فيها من عدم ارتياح وعدم انسجام، وانفصال بات واقعاً.
حين علم من الشيخ «عيطة» أن شقيقة زوجته «صديقة» هي التي أعدت وجبة السمك التي أدخلت على نفسه المتعبة لكثير من الارتياح، اختمرت في رأسه فكرة بدا شغوفاً بها، وزاد شغفه لما أخبره مضيفه أن «صديقة» آنسة لم يسبق لها الزواج، وأنها أجمل شقيقاتها.
لم يتطلب الأمر سوى مداولات محدودة مع أمه قبل أن يعود إلى رفيقه عمدة «تلبنت» طالباً وساطته في طلب القرب عند حماه الشيخ «أحمد السعيد»، في نجلته ربة الصون والعفاف الآنسة «صديقة»، ولم تمر أيام إلا وتم إعلان النسب الجديد بين الشيخ السيد الشناوي القاضي بالمحكمة الشرعية، ابن الشيخ أحمد الشناوي عين أعيان «نوسا البحر»، والشيخ أحمد السعيد ناظر وقف جده محمد بك السعيد، ونسيب الشيخ محمد عيطة عمدة «تلبنت».
دخلت «صديقة» دار الشناوي فبدت وكأنها الدواء الناجز لقلق الشيخ القاضي، الذي انفرجت أساريره، وهدأ قلبه، وتبددت حيرته، وأقبل على الحياة سعيداً بهناء الانسجام، وحلاوة الوئام، وهدوء السر، وحُسن العشرة، واكتمال الرزق بعد تسعة أشهر في تمام السابع من ديسمبر من العام 1908الميلادي، بمولود أثار السخرية بوزنه رضيعاً، وكأنه بحسب تعبير أبيه:

- « كان يأكل في بطن أمه كل أكلها»
وبدا إن الله أراد للشيخ الشناوي الوفاء بالنذر، وقد كان طرفه خالياً من دين ما نذر منذ سمى وليده على اسم الغالي فقيد الشباب والأمة والقضية الوطنية قبل أن تهل ذكراه السنوية الأولى بشهرين، فكان أن صار في الحياة نفر جديد يحمل الاسم المحبب، ويزهو باسمه وما يمثله لوالده ولوطنه، وينطقه حين يٌسأل عنه كاملاً:
- «مصطفى كامل السيد أحمد الشناوي»

الزعيم مصطفى كامل

وُلد في الأول من أغسطس 1874 ميلادية، وتوفي في العاشر من فبراير 1908 ميلادية، وفي هذا العمر القصير وضع بصمته على التاريخ المصري الحديث كأول زعيم مدني للحركة الوطنية المصرية، وكان أبوه «علي محمد» أحد ضباط الجيش، وقد رُزِقَ ابنه مصطفى وهو في الستين من عمره.
تلقى تعليمه الابتدائي في ثلاث مدارس، أما التعليم الثانوي فقد التحق بالمدرسة «الخديوية»، الوحيدة آنذاك وفي سنة 1893م ترك مصر ليلتحق بمدرسة الحقوق الفرنسية، ليكمل بقية سنوات دراسته، واستطاع أن يحصل على شهادة الحقوق، وفي عام (1898م) ظهر أول كتاب سياسي له بعنوان «كتاب المسألة الشرقية»، وهو أحد الكتب المهمة في تاريخ السياسة المصرية. في عام 1900م أصدر جريدة «اللواء» اليومية، واهتم بالتعليم ، وجعله مقرونًا بالتربية.
وحين وقعت حادثة «دنشواي» الشهيرة في عام 1906 والتي أعدم فيها الاحتلال البريطاني عدداً من الفلاحين المصريين أمام أعين ذويهم بعد محاكمة صورية برئاسة (بطرس غالي باشا) رئيس الوزراء وقتها، فكانت حادثة بشعة ارتكبها الإنكليز أججت المشاعر الوطنية والإحساس بالظلم في نفوس المصريين، وكان مصطفى كامل يعالج من المرض في باريس فقطع رحلة العلاج، وكتب مجموعة من المقالات في صحف فرنسية وبريطانية تفضح الاحتلال وتشرح ما جرى في «دنشواي»، وخطب بين باريس ولندن وسط المثقفين الأوروبيين الفاعلين، مما سبب الحرج للحكومة البريطانية.

دعا الزعيم «مصطفى باشا كامل» إلى تأسيس جامعة أهلية تقوم على تبرعات أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وقال إن كل قرش يزيد على حاجة المصري ولا ينفقه في سبيل التعليم هو ضائع سدى، والأمة محرومة منه بغير حق». كذلك أعلن مبادرته إلى الاكتتاب بخمسمئة جنيه لمشروع إنشاء هذه الجامعة، وأتمت لجنة الاكتتاب عملها، ونجحت في إنشاء الجامعة الأهلية المصرية، التي تحوَّلت إلى جامعة «فؤاد الأول» بعد ذلك، ثم أصبحت جامعة القاهرة حالياً.
مات متأثراً بإصابته بمرض السل، ومن أشهر أقواله: «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً».. و{لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة».
 
شاعر الليل (2)
عُزلة مع الجسد البدين




الجمعة 19 يونيو 2015 - الساعة 00:01

1434629608_2_iStock_000003136275_Large_1.jpg

1434629608_38_1_1.jpg

1434629608_54_2_1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
قليلون هم الذين يجمعون ما بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، ويحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس. كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفاً أصيلاً فيها، وحكايات لا تزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.


- قولي ما شاء الله... وصلي على النبي.
تحصنت الأم {صديقة} بهذا الرد، مصحوباً بقراءة المعوذتين في سرها، كلما علقت إحدى زائراتها على البدانة الظاهرة لطفلها الرضيع، ثقل وزنه مقارنة بأمثاله في العمر، وتدويرة وجهه وامتلاء صدغيه، وهذا الانتفاخ الطفولي في بطنه، لا يتركان أمام الناظر سوى التعليق على وزنه، بما في ذلك والده الشيخ {سيد} الذي ظلّ يمزح مع زائريه بالقول إن الطفل كامل كان يأكل كل أكل أمه، وما زال مفتوح الشهية، مُقبلا على الرضاعة بنهم الجائع الذي لا يشبع.
هكذا صارت كنيته {المبقلظ} و{المكلبظ} حسب قول كل قائل، يستقبلها والداه بقدر من الارتياح المتخوف من الحسد، باعتبارها علامة على كمال الصحة وحُسن التغذية، وكرم المنزل.
متلازمة البدانة

لم يكن الأمر مقلقاً ولا مزعجاً، حتى والطفل يكبر وينمو ويزيد وزنه، فيجد والده صعوبة في حمله لمداعبته، ويجد جده الشيخ أحمد السعيد انزعاجاً من إجلاسه على {حجره} كسائر أحفاده.
الأمر بالنسبة إلى كامل نفسه بات مختلفاً، تلك الضحكات التي كانت تقابل هيئته، باتت تقع عليه موقع السخرية المؤلمة، هو الآن يبدو مختلفاً عن رفاقه، لا يركض مثلهم، ولا يقوى على اللعب في الجرن الواسع بأداء مكافئ لغيره، بعضهم كان يخافه ويخشاه، فوزنه الزائد وإن جعل حركته أقل من غيره، لكنه جعل قوته أضعاف غيره، والضربة من ذراعه المكتنز أو رأسه الناشف، لا حل أمامها سوى الاستسلام في شجار عابر. لم يكن واضحاً وقتها هل يتجنب الأطفال قُرب كامل أم أن كامل نفسه من يتحاشى الاختلاط بهم؟ مجنباً نفسه عناء سخريتهم منه، ومحاولات جره لشجارات تنتهي عند والده الشيخ سيد بعقاب ناجز.
بدت العزلة مع الجسد البدين وكأنها الخيار الذي يُرضي جميع الأطراف (هو ووالده وأطفال القرية)، هروباً من مشهد يتندر فيه أهل القرية على ضخامة جسده، وعلى مشيته المتثاقلة، ويعيرونه ببدانته إلى حد الاستفزاز الذي يجعله يرد يضرب هذا، أو يقذف ذلك بحجر، أو يوجه سُباباً مُقذعاً لذاك، ما يجعل احتكاكه بالناس مُهدداً لعلاقات الجوار الهادئة مع الجيران ما يدفع والده إلى تقديم اعتذارات وترضيات متكررة وشبه يومية.
هذا الجسد البدين الذي لازمه في ما بعد كل عمره دفعه قسراً إلى العزلة والانطواء، وهذه المرة بمباركة والده الذي وجد في عزلته تقليلاً للخسائر، ولوالدته التي اعتبرت البيت هو المكان الأكثر أمناً على نجلها، وربما كان الوحيد.
دفعته هذه العزلة إلى البحث مبكراً عن معنى السعادة والتعاسة، يعيش مع السماء وكأنه يتابع حركة النجوم ويجتهد للوصول إلى عددها الدقيق، ولا يجد إلى جانب هذا الجسد البدين رفيقاً غير الكتب في مكتبة والده التي بدأ يطلع على ما فيها من حكايات وقصص وأشعار وسير عن الأولين، وتفاسير لمنطق الدنيا والدين.
وبقى يختار الشوارع الخالية من الناس في ذهابه إلى {الكُتاب} وعودته منه، مفضلاً العودة إلى والده بأقل قدر من الخسائر، فيما قدم له والده من الحوافز الكثير ليضمن منه اطلاعاً جيداً وحفظاً وافياً لأجزاء القرآن حتى لفت الأمر {سيدنا} وهو الشيخ المُحفظ في {الكُتاب} فسأله عن سر هذا التجلي في الحفظ، فأفصح الفتى عن مكافآت أبيه حتى قال له الشيخ ضاحكاً:
- ممكن والدك الشيخ الشناوي يعطيني هذا المال وأنا أضمن له بطريقتي حفظك.
ويشير الشيخ إلى {مقرعته} وهي عصا غليظة مزدوجة يضرب بها المهملين والكسالى من طلابه، فيرد كامل بسخرية بدأت تنمو في شخصيته:
- يعني أنا أتضرب وأنت تقبض فلوس يا سيدنا.

استحكام العزلة

لكن طريقه المعتاد إلى {الكُتاب} صار متعة زائلة، حين استحكمت عزلته داخل الدار، ما بين قاعة للدرس ومكتبة والده، وقاعة الطعام، حين أصابته الحمى فأرقدته فيما الفزع على مصيره كان يكاد يفتك بوالديه اللذين زينا المنزل بأشقاء وشقيقات غيره.
كان المرض بقدر الفزع الذي يثيره أضعف من أن يصمد أمام أطباء {المنصورة}، ورُقيا مشايخ {نوسا البحر}، لكنه من جديد زرع في داخله أسئلة آخرى عن الموت، كان يعرف من قصص الذين ماتوا أنهم ناموا في مواعيدهم المعتادة فلم يستيقظوا. ظل معتقداً أن الموت مرتبط بالليل، وأن هؤلاء الذين ينامون ليلاً يُقدمون أنفسهم فرائس للموت في كل ليلة، وهو بنفسه عاش ذلك وجربه. كانت أوجاعه تزيد وحرارته ترتفع فيشعر أن الموت يقترب، يصحو ويصرخ متأوهاً فيجتمع عند سريره الأب والأم والجد والأشقاء، وتتحرك الكمادات على جبينه، وتُتلى الآيات المنجيات على مسامعه، فلا يأتي الصباح إلا وهو في حال أفضل، ما يجعله يظن وقتها أن الموت يخاف النهار، وينصرف كلما تُشرق الشمس، قبل أن يعود إلى مناوشاته ليلاً. ربما من هنا بدأ يلتزم السهر طوال الليل، ولا ينام قبل مطلع الفجر، لعله اعتاد مناورة الموت، وتفويت الفرص عليه منذ ذلك الحين.
ذهب المرض لكن عزلته لم تذهب، وإنما استحكمت وشددت حصارها، وهذه المرة بفعل مخاوف الأسرة التي قررت أن يدرس في البيت، فجلبت له المشايخ الذين اجتهدوا في تحفيظه وتأهيله للالتحاق بالأزهر مثل والده وعمه وسائر رفاق القرية، رغم كل ما كان قائماً من مغريات للدراسة في المدارس الأميرية، لكن الأب الأزهري الذي اعتقد أنه ابن صاحب ظروف خاصة في ما يخص مرضه وبدانته، لا بد من أن ينال بركة الأزهر الشريف لعلها تحفظه فينال بمشيئة الله شفاء تاماً وعافية.

وحيد في منزل الأشقياء

لم يبق أمام كامل سوى الحفظ والدراسة والقراءة والاطلاع، وطبعاً الطعام. عاش طفولته منطوياً شارداً متأملاً وسابحاً مع كتب والده، سبقه أقرانه في الحياة، لكنه سبقهم في الاطلاع، الذي كان يُقبل عليه في البداية مضطراً بفعل الملل، قبل أن يصبح هذا الاضطلاع أسلوباً في حياته يُقبل عليه بنهم كما يُقبل على الطعام، يستمتع بالشعر ومعانيه وخياله الواسع، وتشده القصص والحكايات والسير التاريخية. لكن ذلك كله لم يمنعه من اشتهاء مرح الأطفال وهو يعيش في منزل واحد مع ستة أشقاء تغمرهم الحيوية والانطلاق، يمارسون الرياضة باستمتاع، يركضون ويتصارعون ويتلاكمون ويلعبون الكرة ويحملون الأثقال، وهو عاجز جسدياً عن التريض معهم، تعوقه بدانته حتى لا تترك أمامه سوى ألعاب الجالسين في المحل {الكوتشينة والطاولة} بينما يلعب شقيقه مأمون {رفع الأثقال}، وشقيقه عبد الفتاح {ملاكمة}، وشقيقه عبد الرحيم {كرة قدم}، وشقيقه أحمد {ملاكمة ورفع أثقال}، وهو بلا أي نشاط حركي.
حين راجت الدراجات أقنعه أشقاؤه أنه من الممكن أن يمارس ركوب الدراجات، وهي لا شك رياضة ستفيده جداً وستساعد جسده على النشاط والحيوية وستحاصر وزنه الزائد. والحق أنه اقتنع وأقبل طامحاً في متعة مختلفة، وفوائد صحية ورياضية من ركوب الدراجات، لكن صدمة آخرى كانت في انتظاره عند {العجلاتي}.
لما تحركت كتيبة أنجال الشيخ سيد الشناوي مع أصدقائهم في اتجاه دكان العجلاتي في موكب كبير لمشاهدة تلك اللحظة التاريخية حين يبدأ كامل الشناوي أول دروس تعلم ركوب الدراجات، وهي لحظة حرص كثير من الرفاق على عدم تفويتها، فرح صاحب الدكان وكل هؤلاء الفتيان مقبلون على دراجاته لتأجيرها، ما يعني رزقاً مضاعفاً. وزع عليهم الدراجات بعد أخذ الضمانات والرهونات اللازمة بترك كل مستأجر حذاءه، حتى جاء الدور على كامل الذي فحصه صاحب الدكان بدقة وهو يسلمه الدراجة وعلامات التردد تطغى على ملامح وجهه، بينما عيناه تسرحان في تأمل تضاريس جسد كامل من أسفل إلى أعلى: ساقاه الثقيلتان، وفخذاه المكتنزان بالسمنة، وبطنه ذات {الكرش}، وذراعاه الممتلئتان، ورقبته المختفية تماماً وكأن الرأس جرى وضعه مباشرة على الجسد دون وسيط، حتى نظر في عينيه نظرة فهمها كامل مباشرة ربما لاعتياده عليها، ومد يده ساحباً الدراجة من يد الفتى البدين وهو يقول:
- لا... المقلبظ ده لأ.

حاول أشقاؤه إقناع صاحب الدكان بترك الدراجة لشقيقهم، مع وعد بالحفاظ على الدراجة، ودفع أي تعويض في حالة حدوث أي مشكلة فيها، لكن الرجل تمسك بموقفه:
- لأ يعنى لأ... أنا مش مستغني عن العجلة.

ولم يخضع الرجل حتى وباقي الفتيان يهددونه بترك الدراجات والرجوع في تأجير دراجاته، وهو ما جعل كامل يعاود التفكير في نفسه.
- هل أنا بدين إلى درجة أن يخسر العجلاتي صفقة كبرى مقابل أن يحمي دراجة واحدة مني.
الحقيقة أنه كان يعلم أن إيجار كل الدراجات لا يكفي ثمن دراجة واحدة تفسد، والحقيقة أيضاً أنه لم يكن بديناً إلى هذه الدرجة. لكن سمنته كانت لافتة جداً للنظر بفعل وجوده دائماً وسط فتيان صغار أصحاء ينعمون بالنحافة والرشاقة في آن.

التابعي... اللقاء الأول

قبل ثمانية أعوام من ميلاد كامل الشناوي وُلد محمد التابعي في ذات القرية {نوسا البحر} ونشأ فيها، وكانت صلة قرابة تجمع بين الاثنين عن طريق زوج خالة محمد التابعي الذي كان عم والدة كامل الشناوي وشقيق جده الشيخ أحمد السعيد.
اعتاد محمد التابعي زيارة خالته كل جمعة. وفي إحدى هذه الجُمعات، كان أطفال يلعبون في {الجرن}، ساحة واسعة، المواجه لمنزل خالته، بينهم كامل الشناوي الذي كان يرتدي جلباباً واسعاً وأخفى أحد ذراعيه داخل الجلباب، فتدلى {كمه} الخالي وكأنه مبتور الذراع على نحو يثير الفضول أو الشفقة. وكان الأطفال كالمعتاد يلعبون حوله ويتصايحون ويعيرونه ببدانته ويسخرون من طريقة مشيه المتثاقلة، وهو يحاول جاهداً أن يركض خلفهم ويلحق بمن يستطيع، ومن يمسكه يوقعه على الأرض ويضربه حتى يتأوه طالباً الغوث.
بادر محمد التابعي لإنقاذ طفل مقبوض عليه ويتعرض للضرب، ونادى البدين ذا الذراع المتدلي، فأقبل عليه:
- نعم.
- اسمك أيه؟
- كامل الشناوي... وأنت محمد التابعي؟
- نعم.
- عاوز إيه؟
- ليه بتضرب أصدقاءك يا كامل؟
- كيفي كده.

مرت ثوان من الصمت ربما شعر خلالها كامل الشناوي أن محمد التابعي قد يفهم حقيقة أهدافه وما يدور داخله من مشاعر متباينة فبادره شارحاً:
- أنا بأضربهم علشان بيعاكسوني ويقولولي يا تخين.
- وليه عامل في نفسك كده؟
أشار محمد التابعي إلى ذراع كامل التي يخبأها داخل جلبابه فيندفع الشناوي شارحاً وهو يضحك:
- يمكن يفتكروا ذراعي مقطوعة أو مكسورة فأصعب عليهم ويركزوا مع ذراعي وما ياخدوش بالهم إن أنا تخين.
نمت مهارته في السخرية التي بدأها بالسخرية من نفسه قبل غيره، أدرك بذكائه للحظة أنه يمكن أن يصرف أنظار الناس عن بدانته بحيل آخرى، ولما لم يجد في الأمر جدوى، وجد الحل السحري.
المصالحة هي الحل
أول الحل الذي تفتق به ذهنه رغم صغر سنه، أن يواجه السخرية من بدانته بالمشاركة فيها، أن يسخر بنفسه من نفسه، من تضاريس جسده، ومن رقبته الضائعة إلى حد التلاشي، ومن وزنه الزائد جداً، بهذا الحل يضمن أن يمسك بزمام الأمور، أن يتلقى ضربات السخرية الموجعة، وأن يبادر بها فيتحكم في مسارها.
هذا الحل دفعه إلى عقد مصالحة مبكرة مع جسده، أن يستسلم لهذه البدانة ويتعايش معها، وحين يكتمل هذا التعايش لا يكون للعزلة معنى بعد زوال المخاوف والمواجع من الانخراط بالناس. كان جسده سبباً لبدء شعوره بالتعاسة، والمرض سبباً في خوفه من النوم ليلاً وإدمانه السهر، فيما بقيت السعادة في حياته مرهونة بالطعام، الذي لا يجد فائدة من التصالح مع البدانة سوى إطلاق فمه أكثر وأكثر في الطعام متذوقاً جماله ولذته كخبير يستمتع بما يفعل، ويمارس متعته في أي وقت وليس فقط في وقت الطعام، تجده يأكل وهو يقرأ، وهو يلعب، وهو يتمشى على الزراعية، يعشق المخللات والحلويات على السواء، حتى إنه تم ضبطه أكثر من مرة يختبئ من أشقائه في {السندرة}، مخزن علوي، حين يلعبون وسط خزين الطعام وأواني المخللات، ولا يفضحه سوى صوت قضمه لما تناله يده من داخل هذه الأواني.
كان هذا صنفاً من السعادة جربه وتمسك به، لكن هذه المصالحة التي عقدها مع البدانة فتحت أمامه المجال لتجريب أصناف آخرى من السعادة كلها قائمة على تحاشي العزلة، والبقاء وسط الناس والانخراط فيهم، والبحث الدائم عما يجمع البشر من مشاعر وقودها الحب.

محمد التابعي... أمير الصحافة

وُلد محمد التابعي محمد وهبة (18 مايو 1896 - 24 ديسمبر 1976) في بورسعيد في خليج الجميل ، أثناء قضاء أسرته التي تنتمي إلى مدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، لفصل الصيف بذلك الشاطئ، و هو صحافي مصري، أسس مجلة آخر ساعة ولقب بأمير الصحافة.
التحق التابعى بكلية الحقوق عام ١٩٢١م وأثناء الدراسة ظهرت ميوله الصحافية بقوة وبوضوح ونشرت جريدة {الإجيبشن ميل} مقالاً يهاجم فيه التظاهرات الوطنية للطلبة. كتب طالب الحقوق آنذاك، التابعي، مقالاً باللغة الإنكليزية يرد فيه على ما نشرته الجريدة، ثم أتبعه بمقال آخر يعرض فيه لمواقف الموظفين الإنكليز في الإدارة المصرية.
أسس التابعي مجلة {آخر ساعة} الشهيرة عام 1934 وشارك في تأسيس جريدة {المصري} مع محمود أبو الفتح وكريم ثابت. كذلك كان محمد التابعي هو الصحافي المصري الوحيد الذي رافق العائلة الملكية في رحلتها الطويلة إلى أوروبا عام 1937 وكان شاهداً ومشاركاً لكثير من الأحداث التاريخية آنذاك. اشتهر التابعي بأنه صحافي يتحقق من معلوماته قبل نشرها وكان يحصل على الأخبار من مصادرها مهما كانت، وكان أسلوبه ساخراً عندما يهاجم، لكنه كان رشيقاً مهذباً وأصبح مدرسة خاصة في الكتابة الصحافية. من ضمن أسلوب التابعي الساخر أن أطلق أسماء هزلية على بعض الشخصيات السياسية المعروفة، وكان يكفي أن يشير التابعي في مقال إلى الاسم الهزلي ليتعرف القراء إلى الشخصية المقصودة.
تم تأليف كثير من الكتب عنه وله كتاب «بعض من عرفت» وهو يحكي عن أشهر غراميات التابعي في مصر و أوروبا، فقد كان التابعي دون جوان الصحافة المصرية كما كان أميرها ومؤسسها، وكانت له علاقات مقربة مع مشاهير في كل بلاد العالم.
تتلمذ على يديه عمالقة الصحافة والسياسة والأدب مثل: حسنين هيكل، مصطفى وعلي أمين، كامل الشناوي، إحسان عبد القدوس، أحمد رجب وغيرهم. وقال عنه تلميذه مصطفى أمين: {كانت مقالاته تهز الحكومات وتسقط الوزارات ولا يخاف ولا يتراجع، وكلما سقط على الأرض قام يحمل قلمه ويحارب بنفس القوة ونفس الإصرار}.
 
. شاعر الليل (3)
الخروج من عباءة الأزهر




السبت 20 يونيو 2015 - الساعة 00:01
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس... كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب، الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1434713530_53_iStock_000020918459_XXXLarge1.jpg

1434713530_71_2.jpg

1434713530_84_iStock_000046312380_Large.jpg

1434713530_97_3.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
عقد كامل اتفاق سلام مع المجتمع في {نوسا البحر}، وفي مركز {أجا}، وفي {المنصورة} كذلك، حيث عرف طريق المقاهي التي يتجمع فيها المثقفون الجدد، وهم يبدأون شباباً وفتياناً الخطوات الأولى في طريقهم.
عقدة الجسد البدين لم تعد كما كانت، فسخرية الآخرين وتنكيتهم وتندرهم على هيئته صارت تُضحكه كما تُضحك الآخرين.

إلى القاهرة

لكنه بينما يندمج هنا، كان الوالد الشيخ سيد الشناوي يعود من مصر وهو الاسم الذي يطلقه أهل الريف والصعيد على القاهرة، هناك التقى رئيس المحكمة الشرعية العليا، الذي زفّ لقاضيه خبر أن مشوار ترحاله المستمر بين الأقاليم والمديريات منذ تخرجه في الأزهر، وتعيينه قاضياً بالمحكمة، آن له أن يجد مُستقراً أخيراً في القاهرة، بعد خدمة امتدت من {أجا} بالدقهلية، إلى {سيوة} قُرب الحدود الغربية للقطر المصري، مروراً بـبورسعيد شرقاً على شاطئ القناة، وانتهاء بالإسكندرية شمالاً على شاطئ البحر المتوسط.
هذه المرة النقل مختلف تماماً، ليست القاهرة فحسب، بمركزيتها الطاغية كعاصمة مسيطرة على كل خيوط السياسة والثقافة والمجتمع، وإنما انتقال مصحوب بترقية كبرى، تجعل من الشيخ سيد الشناوي نائباً لرئيس المحكمة الشرعية العليا بـالقاهرة، ويصبح كامل وأشقاؤه أنجال القاضي الكبير، وجهاء {نوسا البحر}، كذلك {السيدة زينب}، حيث استقرت الأسرة المنتقلة حديثاً إلى منزلها الجديد بـ {جنينة ناميش} مطلاً على شارع {السد}.
صار مطلوباً من كامل إذن أن يغادر {نوسا البحر} بعد ائتلاف معها واتفاق، ليبدأ محاولة جديدة للاندماج في مكان جديد، وسط جيران جدد، ووجوه جديدة، ومجتمع جديد، ومشقة جديدة في خلق صحبة جديدة.
لا يعرف لماذا يُصر والده الشيخ سيد هذه المرة على اصطحابهم معه، منذ وعى على الدنيا، وهو يتنقل كقاض بين أفرع المحكمة الشرعية في مدن مختلفة، ولا يضطرهم إلى العيش معه، أو يحفزهم على اللحاق به، كان يذهب ويعود في الإجازات، في حين كانت الأسرة في رعاية الجد الشيخ أحمد السعيد والعمدة محمد عيطة.
لكن الوالد كانت له حكمة، فمن جانب أصبح يعلم أن القاهرة هي آخر مسيرة تنقلاته، وأنه باق فيها حتى يخرج من الخدمة بعد بلوغ سن التقاعد، أو يدنو أجله أيهما أقرب، في التنقلات الماضية كان يعرف أنها محطات مؤقتة، ولم يرد أن يؤثر هذا الارتحال على أسرته، وفضل استقرارهم في مسقط الرأس بـ {نوسا البحر} بين الأهل، لكنه ينقلهم هذه المرة من استقرار إلى استقرار.
ومن جانب آخر، فقد جاءت الترقية في وقتها مع انخراط كامل في دراسته الأزهرية، وحاجته إلى الانتقال للقاهرة لمتابعة دراسته، فهل كان سيتركه يعيش منفرداً أو عند عمه الشيخ مأمون، هذا تدبير الله ورفق مشيئته بعباده.

رفاق البدايات

كان كامل قد بنى لنفسه صحبة في {نوسا البحر} وجوارها، تناسب ما استقاه من ثقافة وقراءات، وما ذهبت إليه نفسه من ميل نحو الشعر والأدب والسير والروايات، في وقت وجد رفاقاً يشاركونه ذات الاهتمامات والتطلعات والقراءات، والرغبة في مزيد من الاطلاع والمعرفة، والتوقع وقتها لمستقبل مشرق لمجموعة الفتيان اللاهثين خلف العلوم والآداب آنذاك، منهم إلى جانب محمد التابعي الفتى النابه وقتها، والذي سيكون أحد رواد الصحافة المصرية الكبار في ما بعد، إبراهيم ناجي الذي صار طبيباً وشاعراً شهيراً، صاحب قصيدة {الأطلال} الشهيرة التي تغنت بها أم كلثوم، وأحد رواد التجديد في الشعر العربي، في ما بعد عبر مشاركته في تأسيس جماعة {أبوللو} الشعرية المجددة، وقد وُلد في حي {شبرا} في القاهرة، وعاش بدايات حياته في المنصورة، وعلي محمود طه الذي سيُعرف مستقبلاً
بـ {شاعر الجندول}، وصار من كبار شعراء المدرسة الرومانسية، وشارك في تأسيس جماعة {أبوللو}، ووُلد وعاش طفولته وشبابه في مدينة المنصورة، وصالح جودت، الذي كان يُقيم أيضاً في المنصورة، حين تفجَّرت موهبته الشعرية والأدبية، شارك في ما بعد في تأسيس {أبوللو}، وأصبح شاعراً وروائياً وصحافياً كبيراً، وتغنت أم كلثوم، والموسيقار محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وآخرون من كبار المطربين بأشعاره، وأخيراً محمد عبد المعطي الهمشري. وكان من {نوسا البحر} تربطه قرابة بكامل الشناوي، كما كان محمد التابعي خاله، وصار شاعراً معروفاً وإن كان أقلهم حظاً، وكان أصغرهم سناً وأقرب إلى كامل باعتباره من القرية نفسها، وشهد كامل على قصة عشقه الأولى حين وقع الهمشري في حب جارته فتحية، وكان يناديها {توحة}، وكتب فيها وفي قريته {نوسا البحر} بواكير شعره فقال:

منك الجمال ومني الحب يا {نوسا}
فعللي القلبَ إن القلب قد يئسَا
ياحبذا نفحة من {توحةٍ} خطرتْ
أطالت النفسُ من أسبابها النَفَسَا
إن تسمعي قرعَ ناقوسٍ بقريتكم
في مطلع الفجر ينعى الليل والغَلَسَا
فإنه قلبيَ المنكودُ يذكركم
فهل سمعتِ بقلبٍ قد غَدَاَ جَرَسَا
الروح إن ظمئتْ يوماً فحاجتها
خمر سماويةٌ فاحت بها قُدُسَا
وأنت يا توح روحانيةٌ خُلقتْ
لكي ترينا عُلاَ الجنات منعكسَا

كانت تلك صحبة لا تُفارق. صحيح أن كامل لم يكن يدري أن صحبته تلك بفتيانها النابهين، سيغيرون الكثير والكثير في مسيرة الشعر العربي والآداب والغناء والصحافة في مصر والعالم العربي، لكنهم كانوا أقرب رفاقه، وأكثر من يرتاح معهم ويذوب في الأحلام، ويُجرب مواهبه في النظم والخطابة والصياغة، ويجد ما يتعلمه الكثير من شعر وآداب واطلاع على الترجمات المتاحة للآداب الفرنسية والإنكليزية، كانت مقاهي {المنصورة} في ذلك الوقت تعرفهم، وكانت لتلك المقاهي أغلب الوحشة حين رضخ للانتقال إلى {القاهرة}، وبات يتحين كل فرصة للسفر إلى {المنصورة} لمجالسة رفاق البدايات والمشاركة في ندواتهم ومنتدياتهم التي نمت وتنامت، وجعلت من المنصورة مركزاً ثقافياً مهماً.

في جوار السيدة

استقر كامل مع الأسرة في منزل {جنينة ناميش} منفرداً بغرفة خاصة عن كل أشقائه، باعتباره الابن {البكري}، الطالب في حلقات الأزهر التعليمية، حتى يتفرغ لدروسه تلك.
لكن الإقامة في القاهرة، فتحت عيني كامل على المزيد من الاهتمامات، مزيد من المعرفة، تنوع في الصحف والمجلات الأدبية، مسارح ودور سينما، مقاهٍ، كذلك الأزياء المتنوعة، التي جعلته من لحظات الاحتكاك الأولى، يضيق ذرعاً بزي الأزهر، العباءة والجبة والقفطان والعمامة، ولم تكن المسألة في المظهر فحسب، بقدر ما كانت في جوهر ما كان يتعلمه في أروقة الجامع الشريف، ولا يلبي طموحه للمعرفة، استغراقه في كتب التراث الغارقة في الأفكار القديمة، ولا الأشعار النظمية الموغلة في استخدام العبارات الصلبة الجامدة غير السيارة في الاستخدام، والمتطرفة في استخدام المحسنات البديعية على حساب حلاوة المعنى وجمال الوصف، وصدق الإحساس.
بدا شاباً يسعى إلى الانطلاق فيما تكبله مؤسسة عجوز، لم تمتد إليها يد التحديث منذ أنشأها الفاطميون قبل قرون، لذلك ربما نما عنده مبكراً اهتمام بسيرة الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، ربما لأنه كان مثله {أزهري} تمرد على عباءة الأزهر، وعلى نظام التعليم فيه، واتجه للتعليم المدني {الأميري} والتحق بالجامعة الأهلية التي كان مصطفى باشا كامل سعى في تأسيسها، واستكمل دراسته في جامعة {السوربون} الفرنسية في قلب باريس، ومن قبله الإمام محمد عبده الذي كان ابن الأزهر وتمرّد على نظامه التعليمي، وطرائق التدريس فيه التي كانت تعوق الإبداع والتجديد والتحديث، ومن قبلهما شيخ التحديث والنهضة الثقافية والتعليمية في مصر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي كان أزهرياً منفتحاً، غادر الأزهر، وحاول استيعاب ما وصلت إليه الحضارة من علوم وطرائق تفكير، لكنه بنى مشروعه التحديثي خارج الأزهر.
لم يكن يعرف قطعاً وقتها، أن سنوات قليلة ستمضي، وسيلتقي، الدكتور طه حسين وسيعمل معه أيضاً.
لعبت القاهرة في رأسه، بما حرك في داخله الرغبة في الخروج من الأزهر، أيضاً كانت بدانته عاملاً له اعتبار في قرار أخذه بصعوبة بعد ذلك.

مرحباً كامل أفندي

وجوده في حي {السيدة زينب} لم يجعل منه البدين الوحيد، كان هناك غيره وربما أكثر بدانة منه، يخطفون منه اللقب الذي كان يحتكره في {نوسا البحر}، وكان بين جيرانهم شاعر نظمي وخطيب مفوه هو الشيخ محمد الهراوي، وكان موظفاً كبيراً في دار الكتب، وصديقاً شخصياً للشاعر الكبير حافظ إبراهيم الذي كان وأمير الشعراء أحمد شوقي من كبار شعراء ذلك الزمان، وكان للهراوي ابن بدين إلى درجة ملحوظة، حتى إن صحبة {السيدة زينب} كانت تمزح دائماً في ما بينها وتُجري استطلاعات رأي، حول من هو الأكثر بدانة وضخامة بين فتيان الحي؟ وقطعاً كان كامل منافساً قوياً حتى صار الأمر محسوماً بين ابن الشاعر الهراوي وابن الشيخ الشناوي، وصار السؤال من منهما أكثر بدانة وضخامة من الآخر، ولم يحسم هذا التنافس سوى الشاعر الكبير حافظ بك إبراهيم الذي كان أحد ساخري زمانه، فقال لمحمد الهراوي ذات مرة:
- يا محمد.. أنا شفتك النهاردة واقف جنب دار الكتب بحالها.
ضحك الشيخ الهراوي، متفهماً مقصد الشاعر الكبير ورد عليه:
- ده ابني يا حافظ بك.
فما كان من حافظ إبراهيم إلا السخرية بقوله:
- يا سيدي... اختلطت علينا الأحجام.

ومنذ أن راجت هذه المزحة واشتهرت، وابن الهراوي يتربع وحيداً على عرش البدانة في حي {السيدة زينب}، وينال كل السخرية والتندر بما زاد كامل تحرراً من تلك العقدة.
لكن انطلاقه في القاهرة، وارتياده منتدياتها ومسارحها ومقاهيها، كان يواجه دائماً صورته كشيخ أزهري صغير، تلك العباءة والجبة والقفطان والعمة، كان مجرد ظهورها تحيط جسده البدين على مقهى أو في مسرح، يجلب التندر والسخرية، ما الذي يجعل الأزهري يرتاد هذه الأماكن التي لا تليق بردائه وعمته، وسط أذهان لم تكن ترى للأزهري مكاناً سوى حلقات الدرس في صحن الجامع الكبير.
هذا الزي يقيده، كما تقيده الدراسة برمتها، ماذا لو كان أفندياً يلبس {البذلة الإفرنجية} و{الطربوش} كسائر الأفنديات.
- {أي انطلاق يتمتع به هؤلاء؟}، يسأل نفسه متمنياً تحرراً يتوق إليه ولا يناله. حتى إنه تلصص على محل {الخواجة غابي} في وسط القاهرة، يشاهد ما عنده من أحدث تصاميم البذل الإفرنجية وربطات العنق، واجتهد لشراء واحدة، وأدخلها البيت سراً، وارتداها، وصفف شعره ولمع حذاءه، فإذا به يُخيل له أنه عاد رشيقاً تماماً، وأن كل مظاهر بدانته اختفت أو تضاءل ظهورها اللافت في بذلة {الأفندي}، ما جعله أكثر اقتناعاً بأن جزءاً من شكل بدانته راجع إلى ما كان يرتديه من زي أزهري، يُظهر ضخامته، وينعقد لديه العزم على مغادرة هذا الرداء وإلى الأبد، حتى يبدو مواكباً لما يرتديه رفاق صحبته الجدد، ورواد المنتديات والمراكز الثقافية التي يرتادها من شعراء وفنانين وصحافيين.
لكن كيف يغادر الرداء ولا يغادر الدراسة التي تفرضه عليه، كلاهما مرتبط بالآخر، وهو يريد مغادرة الدراسة التي لا يجد فيها نفسه قبل الرداء الذي يترجم على روحه المتطلعة للانطلاق من هذا الحصار.
كيف يمرر ذلك في الأسرة؟
كيف يُقنع والده الأزهري؟ وعمه الأزهري؟
الأمر يحتاج إلى قدر من فرض الأمر الواقع، مع قدر من الجدال، لن يُرضي والده الذي يُقدس {الأزهر الشريف} أن يظل مرغماً على دراسة لا يجد نفسه فيها، خصوصاً أنه هو ذات الأب الذي لم يُلحق شقيقه الأصغر مأمون بالتعليم الأزهري، وفضل أن يدرس في التعليم {الأميري}، وهو فعل جل ما يستطيع في هذه الدراسة، حتى حصل على الابتدائية الأزهرية، وفي الوقت نفسه بنى علاقات جيدة وواسعة مع الوسط الثقافي والفني والصحافي جعل كل من يلتقيه يعترف بمواهبه الواعدة ومستقبله المفتوح على كل الاحتمالات الإيجابية.
لكن هل سيمضي هكذا دون دراسة أو {شهادة كبيرة} كان هذا هو السؤال الذي يشغل بال والده الشيخ سيد الشناوي، لكن كامل أقنعه أنه سيُكمل دراسته في مدرسة الحقوق الفرنسية، وسيبدأ عملاً في الصحافة، وحين اقتنع الوالد بكل هذه المبررات وقبل أن يتحول نجله الأكبر ذو الستة عشر ربيعاً من {الشيخ كامل} إلى {كامل أفندي}، بات الوعد بدخول الحقوق الفرنساوي التزاماً يتطلب دروساً في اللغة الفرنسية التي لا يعرف منها سوى {ميرسي} و{باردون}، ما سيفتح أمامه المجال للسقوط في أول غرام على الطراز الفرنسي وتلك قصة أخرى.

طه حسين .. عميد الأدب العربي

وُلد طه حسين في 14 نوفمبر 1889 في عزبة الكيلو، التي تقع على مسافة كيلومتر من مغاغة بمحافظة المنيا بالصعيد الأوسط، وكان والده حسين علي موظفاً صغيراً، رقيق الحال، في شركة السكر، يعول ثلاثة عشر ولداً، سابعهم طه حسين.
فقد طه حسين بصره في السادسة من عمره نتيجة الفقر والجهل، وحفظ القرآن الكريم في عام 1902 وبدأ رحلته الكبرى عندما غادر القاهرة متجها إلى الأزهر طلباً للعلم، تتلمذ على الإمام محمد عبده الذي علمه التمرد على طرائق الاتباعيين من مشايخ الأزهر، فانتهى به الأمر إلى الطرد من الأزهر.
وفي عام 1908 التحق طه حسين بالجامعة المصرية وتلقى دروساً في الحضارة الإسلامية والحضارة المصرية القديمة ودروس الجغرافيا والتاريخ واللغات السامية والفلك والأدب والفلسفة على أيدى أساتذة مصريين وأجانب، وفي تلك الفترة أعدَّ طه حسين رسالة الدكتوراه الأولى في الآداب التي نوقشت في 15 مايو 1914 عن أديبه الأثير أبي العلاء المعري، ولم تمر أطروحته من غير ضجة وجدل واسع على مستوى قومي.
في عام 1914 التحق بجامعة مونپلييه في فرنسا، وفي عام 1915 أكمل بعثته في باريس وتلقى دروساً في التاريخ ثم في الاجتماع، ثم حصل على دكتوراه في الاجتماع عام 1919، عن ابن خلدون، ثم حصل في العام نفسه على دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية، وكان قد اقترن في 9 أغسطس 1917 بالسيدة سوزان التي كان لها أثر ضخم في حياته.
في عام 1919 عاد طه حسين إلى مصر، وعين أستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني، واستمر كذلك حتى عام 1952، حيث تحوَّلت الجامعة المصرية في ذلك العام إلى جامعة حكومية، وعين طه حسين أستاذاً لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب.
في عام 1942، أصبح مستشاراً لوزير المعارف ثم مديراً لجامعة الإسكندرية حتى أحيل للتقاعد في 1944 واستمر كذلك حتى 1950 عندما عين لأول مرة وزيراً للمعارف.
أثار طه حسين عواصف التجديد حوله، في مؤلفاته المتتابعة ومقالاته المتلاحقة وإبداعاته المتدافعة، طوال مسيرته التنويرية التي لم تفقد توهج جذوتها العقلانية قط، رافعاً شعار {التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن}.
وظل طه حسين على جذريته بعدما انصرف إلى الإنتاج الفكري، وبقي يكتب في عهد الثورة المصرية، إلى أن تٌوفي جمال عبد الناصر، وقامت حرب أكتوبر التي تٌوفي بعد قيامها في الشهر نفسه سنة 1973.
ألَّف ما يزيد على خمسين كتاباً في القصة والأدب والتاريخ وفلسفة التربية وترجم كثيراً من مؤلفاته إلى اللغات الأجنبية منها: {المعذبون في الأرض}، {دعاء الكروان}، {الأيام}، {الوعد الحق}، {الفتنة الكبرى}، {في الشعر الجاهلي} ، {ذكرى أبي العلاء}، {فلسفة ابن خلدون}، {الظاهرة الدينية عند اليونان وتطور الآلهة وأثرها في المدينة} وغيرها.
 
. شاعر الليل (4): أول قصيدة... وأول حُــب



الأحد 21 يونيو 2015 - الساعة 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا بالأمس فقط...
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1434800508_46_iStock_000039945806_Large.jpg

1434800508_27_3.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
وجد كامل الشناوي راحته في ملابس {الأفندية} التي منحته انطلاقاً وحيوية لم يشعر بهما في ملابس الأزهر. لكن رغم خروجه من الأزهر، لم يجد غير التعليم الأزهري يسعفه في حياته الجديدة، حين حصل على أول فرصة عمل كمصحح لغوي ومدقق بروفات في جريدة {كوكب الشرق} لصاحبها أحمد حافظ عوض بك.
كان التعليم الأزهري، الذي أسس بابتدائيته معارفه في اللغة العربية مدخله إلى العمل، وكان الشعر مدخله إلى الصحافة، وكان الخروج من عباءة الأزهر مدخله للحب.
وظهر هذا التشابك منذ وعد والده الشيخ سيد الشناوي بالالتحاق بمدرسة الحقوق الفرنساوي، والاهتمام بهذه الدراسة تمهيداً للسفر إلى باريس والالتحاق بجامعة {السوربون} ككثيرين من مثقفي ذلك الزمان. ولما كانت دراسة الحقوق، تتطلب في البدء اتقان اللغة الفرنسية، كان الحصول على دروس في الفرنسية، هو الخطوة الأولى في هذا الطريق. ومن هنا بدأت القصة {نظرة فابتسامة فموعد فلقاء}...

طريق إلى الحب

في {المعادي}، بدأ دروس اللغة الفرنسية كما بدأ سريعاً عاش مشاعر الحب وترجمتها في قصائد شعر، كان كامل قد بدأ نظم الشعر العمودي، لكنه كان نظماً مدرسياً يقلد فيه ما تعلم وقرأ من شعر وما سمع من شعراء، لكن أياً من قصائده التي نظمها لم تكن تحمل أية تجارب شعورية، ولا تتلمس فيها صدقاً يعبر عن تجربة حقيقية للشاعر بما يمكن أن تحتويه من آلام أو أفراح أو اندهاش. لكن درساً واحداً في بيت هذا المدرس القادم حديثاً من الشام كان يكفي ليدخل عالماً جديداً آخر، أو يستكمل به دخول العالم الجديد.
لم يكن هذا العالم الجديد، فحسب في المصطلحات الفرنسية الرقيقة في نطقها إلى حد الرومانسية، وإنما في حياة أسرة مختلفة تماماً عن مستوى خبراته واحتكاكاته، دخل بيت الشامي القادم من عوالم مختلفة امتزجت فيها الثقافات وانفتحت على ما في العالم من حداثة، وبدأ يفهم معنى مختلفاً للموسيقى أكثر عذوبة، وللحياة أكثر رقة، ويدرك {الإتيكيت} وقواعده، ويرى نفسه وبحق جزءاً من عالم جديد.
كان يتلقى الدرس حين مرَّت من أمامه كالنسيم ثم طلبت المدرس لثوان، تحدثت معه، وقبل أن تنصرف ابتسمت له مرحبة، فإذا بالمدرس يختصر المسافات ويتولى مهمة تعارف سريعة، بين {الشيخ كامل} الأزهري سابقاً الذي يحاول تثبيت نفسه في الملابس {المودرن}، وبين {المودموزيل} الجميلة، ابنة أخت المدرس.
ذهبت وعادت بصينية الشاي والحلويات الشامية، فحركت فيه غريزة عشقه للطعام مزيداً من المتعة بأصناف حلويات لم تجربها معدته التي تُقدر الطعام الجميل، كما حركت طلتها في قلبه انشغالاً غير مألوف، بهذا الكائن الجديد المفرط في الرقة.
ولم تمض دقائق عاد بعدها لاستكمال الدرس، حتى كانت الصدمة الحضارية ثلاثية الأبعاد، حين سمع وقع أناملها على البيانو تعزف بعذوبة ساحرة، لا تكتف بسرقة الأسماع، وإنما تتسلل إلى القلب دون استئذان، فتنال منه نيلاً جميلاً، تجعل موعد درس اللغة الفرنسية في {المعادى}، هو أفضل أوقات العمر، وأجمل طريق يسلكه ممنياً نفسه كل مرة بالمزيد من العذوبة والجمال والقرب. حتى بات الطريق من {السيدة زينب} إلى {المعادى} شاهداً عليه وعلى هيامه الأول بفاتنته الشامية.

طريق إلى الشعر

كان يحكي عنها في مجالس {جنينة ماميش}، فيظهر هيامه المستجد طازجاً بريئاً، وحين يختزل مشاعره في بيت أو بيتين من الشعر، لا يجد معارضة هذه المرة، وهو الذي ظل يواجه مع صحبة {جنينة ماميش} اتهامات بسرقة مبادراته الأولى في نظم الشعر، والزعم بأنه يحفظها من كتب التراث التي كان يدرسها في الأزهر، ويعيد إلقاءها عليهم معتمداً على عدم اطلاعهم أو ضعف ذاكرتهم على السواء. وهو اتهام ظل يلاحقه، حتى تم تحكيم شاعر معروف وقتها كان يقطن {السيدة زينب} اسمه محمد الأسمر، ووجد في نظم كامل ما يوحي بمقدمات شاعر جيد، والأهم أنه شهد على رؤوس الأشهاد من صحبة {جنينة ماميش} أن ما يقوله الشاب من نظم منسوباً له، هو بالفعل يخصه ومن نتاج قريحته وموهبته في النظم، ولم يسبق له أن سمعه أو قرأ عنه منسوباً إلى الآخر من المحدثين أو السابقين.
هكذا جرى اعتماده شاعراً بفعل شهادة {الأسمر}، لكن اعتماده الأهم كان مختلفاً مع ما كان يلقيه على أسماعهم من أبيات حول تجربته في {المعادي}، الربط الذي جرى وسط صحبته بين ما كان يحكيه عن غرامه الجميل الرقيق، وبين ما يسمعونه من شعر ويجدون فيه صدقاً لم يختبروه مع شعراء آخرين، وروحاً جديدة، ووصفاً لمشاعر يرون ملامحها متجسدةً أمامهم على وجهه وهو يلقي عليهم ما يقول.
نما الحب بالتوازي مع نمو الشعر، لم تعد المسألة هياماً من طرف واحد لتلميذ يتحين كل فرصة لـ{ينط} في بيت مدرسه بحثاً عن درس جديد في اللغة الفرنسية، أو احتجاجاً بسؤال عاجل، أو مسألة صعبة غير مفهومة. لكن الأمر تطوَّر من النظرة إلى الابتسامة، إلى مواعيد ولقاءات كثيرة. كان الشاب البدين الذي يسير في شوارع {المعادي} أو يتحرك في مراكب العشاق في النيل، مصطحباً سندريلا من أجمل البنات الذين يمتزج فيهم سحر الشرق ورقته وخجله، مع انطلاق الغرب وحيويته وإقباله على الحياة، مثار حسد كثير من شبان {المعادي} من محترفي الغرام، وخبراء مواعدة بنات العائلات الجميلات إلى حفلات الرقص، ومتنزهات المرح.
لم تفجر فيه الجميلة مشاعر الحب، وتمكنه من عيشها لأول مرة غارقاً في هذا السحر، لكنها أشاعت فيه حب الحياة، قل إنها صالحته على كثير من عوامل اضطراب حياته، صالحته أكثر وأكثر على جسده البدين الضخم، الذي أثبت لنفسه أنه يمكنه منافسة أجساد الشباب الرشيق في الحب وفي خطف قلب جميلة الجميلات، وضعته على أبواب الموضة والانسجام مع ملابسه المدنية الحديثة، بعدما كان أزهرياً سابقاً يجرب نفسه في ملابس الأفندية، وتبدو عليه غريبة دون تطبيع أن احتواء، صارت أحدث خطوط الموضة في البدل والأحذية وربطات العنق والنظارات الشمسية تليق عليه كما تليق بنجوم المجتمع، وبات منسجماً مع حداثته التي صارت وكأنها الأصل في شخصيته، وما سواها ماض بعيد جداً دهسه قطار التطور الذي ينطلق إلى الأمام بلا نظرة واحدة إلى الوراء.
لكنها فجرت في نوعاً مختلفاً من الشعر لم يألفه، يترجم مشاعره ولا يكتفي بإطلاق العنان لخيال لم يعش منه شيئاً ولم يجرب منه إحساساً.
كانت لحظة فارقة في حياته، حين مضى مع فاتنته في قارب صغير يتحرك بهما في نهر النيل، ليكون شاهداً مع المراكبي على حالة عشق فريدة، ويلقي على أسماع المحبوبة قصيدته، فتستمتع هي بما فيها من صدق، ويستمتع هو بحلاوة الاعتراف، وبمتعة مراقبة رد فعل قصيدته على ملامح صاحبة القصيدة، أولى الملهمات وجميلة الجميلات، وأول قصيدة تترجم مفهومه الجديد عن الشعر:
عيناك نامت في جفونهما مفاتنُ
... أيقظت ليلي وأعصابي
أصد عنها بعين غير صادقة
.. وبين جنبي قلب غير كذاب
يا كبريائي... لقد كلفتني خطراً
.. فيه المنايا مُطلات بأنياب
تمرد الليل.. لا أغفو به أبداً
.. حتى أرى الفجر سفوحاً
على بابي.

دروس الحياة

تلقى كامل من المدرس {الخال} دروس اللغة الفرنسية فحسب، لكنه تلقى من {ابنتة أخت} مدرسه، دروساً في الحياة. باتت علاقتهما وكأنها دورة تعليمية تأهيلية، تستهدف وتجيز الشاعر البدين إلى التقدم في وسط الثقافة والمثقفين، ليشق طريقه عبر الصحافة والشعر، ليكون نجم المجتمع الأبرز القادر على مد خيوط حضوره في كل الاتجاهات.
تعلَّّم كيف يلبس بشكل لا ينافسه فيه أحد، وتعلم {الإتيكيت}، كيف يتحدث للناس، وكيف يرحب بامرأة، وكيف يسير معها في الشارع، كيف يراقصها، ويجاملها، ويدير دفة الحديث معها. كيف يقتحم مجتمعات الصفوة، وكيف يفرض حضوره ويعبر عن نفسه، حتى يسرق الأضواء.
والأهم أنه في هذه المدرسة بنى المزيد من المعارف، كان معظم اطلاعه تراثياً، فيما فاتنته الأولى أكثر حداثة واطلاعاً على آخر ما وصلت إليه حركة الفنون والآداب والفلسفة في أوروبا. كانت الحوارات في ما بينهما دروساً غير مباشرة، يغرقان في حوارات ممتدة، من الشعر إلى الموسيقى إلى طبائع الحياة، تحدثه في سياق مناسب عن قصة قرأتها لأديب فرنسي، أو مقطوعة موسيقية سمعتها لموسيقار ألماني، أو حكاية وراء لوحة شهيرة لرسام إيطالي، وحين ينتهي اللقاء، يطير في اليوم التالي إلى دار الكتب، يقرأ بنهم عن كل اسم جاء في سياق الحديث ولو بشكل عابر، ويعود في اللقاء التالي كتلميذ مجتهد، وهو يعلم الكثير عن ما قيل في اللقاء السابق، يحفظ من شعر الشاعر، ويقرأ المزيد من أدب الأديب، ويعرف أكثر عن الموسيقى وتطورها، والحركة الفنية في أوروبا ومدارسها، والفلاسفة وتجلياتهم الفكرية، فتبدو الجميلة الحسناء سعيدة باجتهاده، وفخورة بتطوره، ومستمتعة بصحبته، وسعيدة بقربه.
هذه الصيغة تحديداً هي سبب تعلق فاتنة رشيقة مثلها بشخص مثل كامل، وسبب قدرتها على الرد على كل مستنكر أو مندهش من انحيازها إلى الشاب البدين أزهري الجوهر رغم حداثة الرداء، القادم من {السيدة زينب} ومن قبلها {نوسا البحر} من قلب فلاحي {الدلتا} لينال قرب سيدة الحسن والجمال في حي {المعادي}.
كانت نظرتها إلى ما بينهما أكثر نضجاً ورشداً من نظرته، ومن نظرة من يعرفونهما في {المعادى} أو {السيدة زينب} ومن يشاهدونهما في المنتزهات أو في المراكب الشراعية أو مقاهي القاهرة.
كان يمثل لها حباً من نوع مختلف، لا يلتفت للمظهر الشكلي الذي شغل من حولهما، وإنما يمتد إلى حب روحه وشخصيته، بطيبتها وبساطتها وصراحتها. كانت تحب ذكاءه واجتهاده وطموحه لتغيير نفسه دائماً إلى الأفضل. كان بالنسبة إليها إنساناً يبحث عن حقيقته ويفتش عن طريقه الذي من المفترض أن يسلكه ليجد تلك الحقيقة، كانت تشعر وكأن القدر وضعها في طريقه حتى تساعده في العثور على نفسه الحائرة التائهة، حتى تستقر حيرتها في طريق يسير بهمته واجتهاده وطموحه نحو المستقبل الذي يستحقه.
وهو كان يشعر بذلك تماماً، ويدرك أن وجودها بهذه القدرة على العطاء فرصته لإعادة ضبط بوصلة حياته من جديد. كان في ذلك الوقت تستبد به الحيرة، منذ انقطع عن الأزهر، واتجه لدروس اللغة الفرنسية، وهو لا يدري ما المفترض فعلاً أن يفعل، هل يمضي كما خطط لدراسة الحقوق؟ أم يخوض بما تيسر له من معارف غمار الحياة؟
طريق إلى الصحافة

بالتوازي مع دروس الحياة في المعادي، كان يتردد على الصالونات الثقافية المعروفة، كشاب مشاغب دؤوب، ويجلس على قهوة الفن، ويبحث عن وجوده كشاعر، في وقت كانت الثورة التي هزت أركان دولة الشعر العربي في مصر لم تضرب ضربتها الكبرى بعد في اتجاه تحديث القصيدة، والخروج بها من لغة الماضي وصور الماضي وأساليب النظم المستمدة من الماضي، لذلك كان طريقه لنشر شعره مسدوداً إلى درجة كبيرة مع عدم استحسان القيمين على النشر للمحات الحداثة في شعره، في وقت كانت المقاومة لهذه الحداثة على أشدها، أرسل قصائده إلى أكثر من صحيفة لكن أحداً لم يحاول أن ينشر له، تارة لعدم قدرتهم على تذوق الجديد في شعره، وطوراً لانشغالهم بالنشر للمشاهير وقتها، بينما هو لا يعرفه أحد.
حتى إنه بكل ما بات يُعرف عنه وقتها من ميل نحو السخرية وتدبير المواقف و{المقالب} بسرعة بديهة وذكاء خارقين، لم يرحم المشرف على الصفحة الأدبية في جريدة {الأهرام} حين فشلت محاولاته معه كافة لإقناعه بنشر قصيدة له، وكان الرجل من أولئك الذين يجبون أساليب النظم القديم، واللغة العتيقة، والمعاني التليدة، والوقوف بالأطلال، ما كان يسميه كامل الشناوي وقتها مدرسة {كجلمود صخر حطه السيل من عل}، وكان طبيعياً أن يرفض شعراً حديثاً في رقته، وحداثة ألفاظه ومعانيه، وصدق تجاربه الشعورية بعيداً عن قوالب الوصف المتكررة. ففكر في وسيلة يطرح نفسه بها كشاعر، ويكشف للرجل القائم على صحيفة {الأهرام} سوء تقديره، وتهافت منطقه، ويقدم احتجاجه على هذا النمط من التفكير. قرر أن ينظم قصيدة على النمط الذي يحبه القائم على {الأهرام} يًقال إن مطلعها كان يُشابه:

{ سلاماً صباحاً لا يعم ولا يجري
.. ولا ألماً بها نفسي ولا تدري}

لكنه لم يُوقع القصيدة باسمه، وإنما اختار شاعراً معروفاً بهذا الشكل من النظم، ويناسب شعره هوى وذائقة المشرف على الصفحة الأدبية بجريدة {الأهرام} ووقع باسمه القصيدة، وانتحل شخصية سكرتير الشاعر المعروف وذهب إلى مبنى الصحيفة، وسلم القصيدة لغريمه، مصحوبة بسلامات وتحيات الشاعر المعروف. قابله الصحافي المعروف باحتفاء بالغ، وفي اليوم التالي وجدت القصيدة طريقها إلى النشر على صفحات {الأهرام}، وكانت {فضيحة} صحافية من النوع الثقيل، حين أنكر الشاعر المعروف علاقته بتلك القصيدة، وعلم الوسط الصحافي والأدبي، أن الأمر {مقلب} ساخن، من شاب موهوب مارس احتجاجه بطريقته على سد المنافذ أمام الجيل الجديد لطرح نفسه على الجمهور، وإثبات وجوده بقدر ما يملك من موهبة.
بات معروفاً بـ {مقلبه}، لكن هذا {المقلب} حفَّز من ضحكوا على وقعه، وتندروا على {الأهرام} أن يقرؤوا لهذا الشاب الذي دبر الأمر بنظمه، وأمام هذا الشغف للتعرف إلى هذا الشاعر الشاب سارع الأستاذ إبراهيم المصري المشرف على الصفحة الأدبية بجريدة {البلاغ} التي كان يكتب بها الدكتور ذكي مبارك لنشر قصيدة له، فتحت الباب نحو معرفته في الأوساط الثقافية، وفتحت له المجال أمام العمل في الصحافة، الذي بدأه مصححاً لغوياً ومدققاً للبروفات، كذلك فتحت أمامه الباب مباشرة للتعرف إلى أحمد شوقي بك الذي طلب بنفسه أن يلتقي بهذا الشاب الموهوب بمجرد أن قرأ قصيدته في جريدة {البلاغ}، وكان حدثاً فارقاً، أن يسعى إليه {أمير الشعراء} بنفسه.

زكي مبارك

اشتهر زكي مبارك بلقب {الـدكاترة} لحصولة على أكثر من دكتوراه وكان يطلق عليه أحياناً {القلم الجارح}... والقلب الجريح، فقد كان زكي مبارك يعتبر نفسه أنه ظلُم، ولم يأخذ حقه بين أنداده في ساحة الأدب مثل د. طه حسين وغيره ممن عاصرهم.
ولد زكي عبد السلام مبارك في الخامس من أغسطس عام 1892 بقرية سنتريس بمحافظة المنوفية، وكانت أسرته ميسورة الحال، وقضى أيام طفولته في الكتاب يحفظ القرآن، وفي الحقل يعمل مع الفلاحين، وفي السامر يستمع إلى المغنواتية والمداحين وعشق المواويل، خصوصاً أن والده كان يحبها ويغنيها... ومن هنا ولدت في وجدانه ملكة الشعر.
وفي العاشرة من عمره أدمن القراءة، وفي السابعة عشرة من عمره أتم حفظ القرآن، ثم انتقل إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر في عام 1908، وسكن في غرفة فقيرة جداً في ربع يعقوب بحي الغورية، ليدمن التقشف بعدما أدمنه الفقر، ولم ينقذه من هذه الهوة إلا الشعر الذي كان بالنسبة إليه {سفينة نوح} أو {عصا موسى}، فاشتهر وذاع صيته حتى حصل على لقب {شاعر الأزهر}.
وفي عام 1914، تعرف إلى الشيخ سيد المرصفي الذي اكتشف في زكي مبارك موهبة تسير على درب تلميذه السابق طه حسين، وحصل ذكي على الليسانس في عام 1921، ولكنه لم يكن ليرضى بهذه الشهادة، خصوصاً بعدما وضع تجربة طه حسين نصب عينيه، وقرر أن يتفوق عليها، فبدأ بعد حصوله على الليسانس التسجيل للدكتوراه في موضوع شائك ومليء بالمتفجرات وهو «الأخلاق عند الغزالي»، واستطاع أن يحصل على الدكتوراه في وقت قياسي، حيث حصل عليها في عام 1924.
طالب دائماً بالوحدة العربية، وقد كان لجولاته في العراق وسورية ولبنان وفلسطين أثر كبير في تعميق مفهوم القومية العربية لديه، مما جعل السمة الأساسية لكل معاركه هي الدفاع عن أصالة الأدب العربي، وعراقة الثقافة العربية، وتأصيل الفكر العربي والمناداة بالوحدة العربية.
وكانت آخر كلماته قبل رحيله: {إن كلمة طيبة تضاف إلى كلمة طيبة أشرف وأعظم من كنوز تضاف إلى كنوز}.. وفي اليوم الثالث والعشرين من شهر يناير 1952 سقط زكي مبارك في شارع عماد الدين فشج رأسه شجاً كبيراً، ليموت بعد ساعات قليلة
 
. شاعر الليل (5) ... مع «أمير الشعراء» على خشبة المسرح



الاثنين 22 يونيو 2015 - الساعة 00:01

1434892385_13_iStock_000002619699_Large.jpg

1434892385_28_3.jpg

1434892385_4_1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا أمس...
كامل الشناوي واحد من هؤلاء، صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب، فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.


في غرام المعادي خرج شعره مفصحاً عمَّا في جوانحه من مشاعر، ومواكباً لما يمر به من تجربة فريدة، ليس فقط باعتبارها الأولى في حياته، وإنما باعتبارها اكتشافه الأول والأصدق للجمال، وما أصابه من مرض التعلق به.
بدأ ينشر الشعر. يرسل عدة قصائد، فتُنشر واحدة بعد وقت يفقد معه الأمل في نشرها، وحين يحدث النشر يجد صدى ما لدى بعض من يقرؤون، ويواجه ممن لا يعرفون حياته الشخصية أسئلة عن {المعادي} وحضورها في شعره، يستشعرون من وراء الكلمات صدقاً، ومن داخل الأبيات تجربة حقيقية، وكيف لا يصلهم هذا الإحساس وغيره، وهو من قال:

لامني في غرامك اللائمونا
.. ليس قلبي يُصغي لما يرجفونا
أيها اللائمون قلبي على الحب
رويداً .. فما عسى تبتغونا
اسلواً عن الجمال؟
.. وقلبي عاش للحسن عاشقاً مفتونا
أنا أهوى الجمال في حيثما كان
.. حيياً أو ثائراً أو رزينا
أنا أهوى الجمال في ظلمة الليل
.. يُثير الحنين والشجو فينا
في حديث كالوحي
.. أو لغة الحب تسامى عذوبة ورنينا
في ابتسام ترقرق الحزن فيه
.. أيكم من رأى ابتساماً حزينا
أوقظ الفجر بالشكاة وأرعى
.. أنجم الليل حيرة وظنونا

المكافأة الأولى

وجاءته مكافأة سريعة لم تكن محسوبة مع نشر أولى قصائده في صحيفة {البلاغ}، حيث أمسك الصحيفة وهو يشعر أنه امتلك الكون كله، وأن القطر المصري كله لا شك يتحدث عنه الآن، وقد اشتهر اسمه. والحقيقة أن ذلك كله كان مبالغات رجل سعيد، شعر مرة أنه فعل شيئاً جيداً غير مثير للاستغراب ولا النقد في مجالس الأسرة والصحبة، ويشير إلى وجوده في الحياة يعبث معها بقدر ما تسمح ظروفه، فيما هو يتوعد بالمزيد من المبادرات لفرض هذا الوجود.
توجَّه إلى مقر جريدة {البلاغ} لمقابلة المشرف على الصفحة الأدبية إبراهيم المصري الذي استقبله بحفاوة، وضيَفَه بكوب من الشاي، وهو يخبره أنه لن ولم يبادر بزيارته، لكان هو الآن من يبحث عنه في أوساط المثقفين على مقاهي القاهرة، وأنه بمبادرته تلك وفر عليه عناء هذا البحث، في الوقت الذي لم يرسل مع قصيدته عنواناً.
بالقطع استغرب كامل هذا الاحتفاء، وسأل عن السبب، فعرف أن أمير الشعراء أحمد شوقي بك}كان يجلس في مكانه قبل يوم واحد، يسأل عنه، ويثني على قصيدته التي نشرتها صحيفة {البلاغ}، ويطلب أن يلتقيه ويتعرف إليه.
- {أحمد شوقي بك يطلب معرفتي.. أنا؟!}.
بمزيد من الدهشة لم ينقطع كامل عن ترداد هذه الجملة لنفسه حتى بعد أن غادر مقر صحيفة {البلاغ} متجهاً ميدان {السيدة زينب} حيث تتواجد صحبته.
رغم أن إبراهيم المصري أكد له أكثر من مرة أن الموضوع ليس خيالاً ولا دعابة، ولا {مقلباً} من تلك {المقالب} التي بدأ يُعرف بها، فإنه لم يصدق بسهولة، واعتقد أن إبراهيم المصري يدبرها له بإيهامه بأن {أمير الشعراء} يطلب لقاءه، حتى يذهب إليه فلا يجد أنه يتذكر اسمه حتى. أو قد لا يستطيع الوصول إليه، وقد يُبلغه أحد من الخدم أن {أمير الشعراء} الذي نال رتبة الـ {بك} بموهبته الشعرية، لا يُقابل الشبان الصعاليك السمان من أمثاله.
ولولا أن معرفته بإبراهيم المصري كانت مستجدة ولا تتناسب أن يبدأها بمقلب، لما صدق أن أحمد شوقي بك طلب أن يلتقيه ويتعرف إليه، بعدما أعجبته قصيدة وحيدة نشرتها له الصفحة الأدبية في جريدة {البلاغ}.
في يده الآن ورقة فيها عنوان منزل {أمير الشعراء} بالجيزة، والذي كان وما زال يُعرف بـ{كرمة بن هانئ}، وعنوان مكتبه في شارع {جلال} خلف سينما {كوزمو} بـ{عماد الدين}. لكن هل يذهب فوراً هكذا ليلاقي {أمير الشعراء} دون بروتوكولات، ووحده دون أن يصطحب معه أحداً يخفف عنه هذه الرهبة التي تسيطر عليه، هذا ما فعله فعلاً حيث عاد لـ{السيدة زينب}. وكعادته أن يُكثر من الطعام حين يكون متوتراً أو حزيناً أو سعيداً، ولكل حالة من هذه الحالات نوع الطعام الذي يناسبه. ذهب إلى عربة {إسماعيل} للمأكولات في قلب الميدان، والتي كان يسميها تندراً {نادي الشطة}، ويجتمع بقربها مع صحبة {جنينة ماميش}. تناول أربعة أطباق من {الكبدة} الغارقة في {الشطة}، حتى علم أصدقاؤه من مشهد الطعام بتوتره، وضيقوا عليه ليعرفوا السبب، فعاجلهم بالرد بوصف نفسه بأنه صار {صاحب شأن ما} وأنه لم يعد هذا الشاب البدين الذي يلفت النظر ويثير السخرية، وأن أمير الشعراء أحمد شوقي بك يريد لقاءه.
مثله كان أصدقاؤه، ألجمتهم الدهشة والمفاجأة، وظنوا لوهلة أن صاحبهم يمزح، ويحاول أن يربح المزيد من احترامهم، أو يعزز اعترافهم به كشاعر أخيراً. لكن الأمر تجاوز الاعتراف والتعزيز، وأصبح واقعاً يتطلب منهم التخفيف من روع صاحبهم، والتفكير في مكان وزمان اللقاء.

موعد على مسرح الأزبكية

اقترح الشاعر محمد الأسمر أن يصطحب كامل إلى مسرح {الأزبكية}، حيث كان أحمد شوقي يتردد عليه يومياً لمتابعة بروفات مسرحيته الشعرية {مجنون ليلى} التي كانت زاخرة بنجوم ذلك الوقت ومن بينهم فاطمة رشدي التي لعبت دور {ليلى}، والمسرحي الشهير زكي طُليمات، حيث سيكون الجو ألطف وأهدأ من جلسة المنزل في {كرمة بن هانئ} بين مريدي شوقي بك وجُلسائه، كما يمكن لكامل أن يستفيد من سابق معرفته بالفنان زكي طليمات.
ولكن كيف نشأت المعرفة بين كامل الشناوي وزكي طُليمات؟
هذه قصة يرويها طُليمات نفسه لأمير الشعراء في مسرح {الأزبكية}، بعد أن سمع كامل نصيحة محمد الأسمر وتوجه إلى المسرح، فلما شاهده زكي طُليمات أقبل عليه ببشاشة، واصطحبه من يديه نحو أمير الشعراء وهو يقول له:
- {شوقي بك.. أقدم لك أحد الموهوبين الجدد.. تلميذي كامل الشناوي}.
لمع الاسم فوراً في ذهن {أمير الشعراء}، وإن جاء الشكل البدين مغايراً لما تصوره عن الشاب الذي شغل باله وطلب ملاقاته.
قال له:
- {تخيلت من شعرك أنك شاب نحيل ضعيف نحل الشعر والحب والسهر ومكابدات الأشواق جسده، وجعل نفسه غير مقبلة على الطعام، لكن الوضع أمامي مختلف تماماً}.
قالها وهو يشير إلى بدانته بينما يبتسم كامل ومن معه، ثم ينتبه شوقي بك لقول زكى طُليمات في تعريفه:
- {أنت قلت تلميذك يا أستاذ طُليمات؟}.
- {نعم... هو فنان وزميل له تجربة على خشبة المسرح من الصعب نسيانها}.
الأرجح من نظرات شوقي بك أن إعجابه بكامل يزيد، بما بات يعرفه عنه من مواهب. حتى إنه قال له:
- {كنت أظنك شاعراً موهوباً فقط... وها أنا أكتشف أنك فنان متعدد المواهب}.
أصرَّ شوقي بك أن يعرف قصة كامل مع المسرح والتمثيل، فتولى الاثنان كامل} وطُليمات سرد القصة الطريفة.

حلم التمثيل العابر

قبل أن يخلع كامل العباءة الأزهرية، كان يتردد على المكتبات العامة ودار الكتب حيث كان جاراً لهما. هناك، بدأت علاقته المبكرة بالمسرح، حين بدأ يطلع على مؤلفات عن المسرح ويقرأ نصوصاً مسرحية مترجمة عن الفرنسية والإنكليزية، فانبهر بالمسرح وآدابه وفنونه ونظامه، وبدأ يتردد على المسارح في {الأزبكية} و{روض الفرج} مع صديقيه يوسف حلمي ومحمود المليجي الذي أصبح ممثلاً شهيراً جداً في ما بعد.
شارك كامل مع أصدقاء له في تكوين {جمعية محبي المسرح} وكان هو المؤلف والمخرج، ورغم ولعه بالتمثيل إنفه لم يستطع أن يؤدي أدواراً تمثيلية بنفسه، لاعتبارات عدة، أهمها أنه دارس أزهري معمم ومن أسرة أزهرية تعتبر التمثيل {عيباً} في الوقت الذي كان الممثلون يُسمون {المشخصاتية} وكانت المحاكم لا تأخذ بشهاداتهم، باعتبارهم يجيدون التمثيل الذي كان في عرف المجتمع وقتها مهارة متقدمة في الكذب، تصل إلى تقمص شخصيات ومحاولة إقناع العامة بهذا التقمص، مما قد يخدع القضاة لو استندوا إلى شهادة المشخصاتية، فشهدوا الزور وهم يتقمصون أن معهم الحق فيقتنع القضاة وتضيع العدالة، فضلاً عن طبيعة المهنة وقتها التي كانت تُمارس في المسارح والملاهي الليلية وترتبط بالرقص والخمور، على ما كان يعتقد العامة.
كتب كامل الشناوي في ذلك الوقت مسرحيته الأولى وكوَّن من أجلها فرقة من جمعية محبي المسرح}، وتولى إخراجها بنفسه، وتم عرضها على مسرح {برنتانيا} بشارع {عماد الدين} بوسط القاهرة في عام 1925، ودعا كامل المسرحي الكبير زكي طُليمات لحضور افتتاحها، وكان واحدا من مؤسسي المسرح المسرحي ورواده العظام.
تلمس كامل متعة أن يكون أباً للعمل الفني، وأن يكون مكانه في الكواليس يتولى توجيه الممثلين وضبط حركتهم على الخشبة، وتحديد ما يقولون ومتى وفي أي ظروف. إحساس مختلف بالإبداع، جعله يعتقد لفترة أن المسرح هو حياته وقدره، وأنه يستطيع أن يجعل أبطاله الذين يمسك بكل خيوط أقدارهم على المسرح، يعيشون كما يريد، ويمارسون التجارب التي يتمنى ممارستها، ويعيشون الخبرات التي يتمنى عيشها، ويواجهون الصعوبات التي يصنعها بنفسه ويضعها أمامهم فينتصرون عليها أو يُهزمون حسب ما خطط ودبر وكتب وصنع العمل الفني كله.
لكن الأقدار الأعلى، وضعته في اختبار التمثيل الذي طالما تجنبه، فقد تغيب الممثل الذي يقوم بدور القاضي في المسرحية، ولم يُستدل على مكانه، وكاد العرض أن يفسد تماماً، خصوصاً مع اقتراب ظهور القاضي في الرواية المعروضة.
كان كامل ينظر إلى الجمهور المستمتع في الصالة، وإلى الرائد المسرحي زكي طُليمات يجلس في الصف الأول، ويبدو الإعجاب بالمسرحية ظاهراً على ملامحه، ويتخيل إلى أين سينتهي هذا الإعجاب، إذا جاءت اللحظة التي من المفترض أن يظهر فيها القاضي ولا يظهر ويبدو الخلل الفادح في المسرحية.
لم يجد زملاؤه حلاً سوى إقناعه بأن يقوم بنفسه بدور القاضي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهو الوحيد الذي يحفظ الدور ويعرف أبعاده وخطواته على خشبة المسرح وحضر جميع البروفات باعتباره المؤلف والمخرج.
رفض كامل وقاوم إلحاح زملائه، وتهيب الاستجابة لاقتراحهم لكن اللحظة التي من المفترض أن يدخل فيها القاضي، كلما اقتربت زادت الرهبة والتوتر، واعتقد أن جميل صنعه في كتابة وإخراج هذا العرض المسرحي سينهار ويتهاوى وتتحول إشادات الجمهور وتجاوبه إلى لعنات وشتائم وخسائر مالية. أيضاً إذا أصر الجمهور على استعادة ثمن التذاكر التي اشتراها لمشاهدة عرض ناقص، ينفذه تلاميذ مراهقون يقودهم أزهري بدين فاشل في كل شيء.
رضخ كامل أخيراً ودخل خشبة المسرح كقاض في الوقت المحدد لدخوله، وجلس على منصة القضاء المعدة على المسرح، وبدأ في إظهار الوقار الزائد اللائق بقاض، ولم يضطر إلى تبديل ملابسه لأن الدور كان لقاض شرعي، وهو بالفعل كان أزهرياً معمماً في ذلك الوقت. ومنذ لحظة دخوله إلى خشبة المسرح وحتى نطقه كقاض الحكم في القضية ونزول ستار النهاية، وهو مستحوذ على اهتمام الجمهور ببدانته وأسلوبه في الحديث، ما فجَّر في الصالة الضحك المجلجل، والتصفيق الحاد الذي جاءه خصيصاً من الصالة.
لم تغب الضحكات عن شوقي بك}وهو يستمع إلى قصة المسرح تلك، في ما لم يعلق سوى بإعادة ترديد المعنى ذاته:
- {تخيلتك شاعراً نحل العشق جسده.. وأضناك الهوى، ولكنك ما شاء الله ضخم بحجم فيل... لكنه فيل متعدد المواهب}.
استقبل الجميع ملاحظات شوقي بك بمرح، فيما كان كامل يشعر بانتصار جديد في الحياة، ومكافأة عظمى، فها هو ينال شهادة الموهبة والشاعرية من أمير الشعراء. وها هو يثبت طغيان موهبته وخفة ظله وحضوره الإنساني على بدانته وضخامة جسده وشكله المثير للتندر والسخرية.

عضوية في كرمة بن هانئ

لم ينل شهادة الشاعرية فقط، إنما نال عضوية في {كرمة ابن هانئ} حيث مقر أمير الشعراء الذي يستقبل فيه صحبته، والآن هو واحد من صحبة {أحمد شوقي بك}، لكن {شوقي} وهو يزيد في مكافأته طلب منه أن ينوب عنه في إلقاء شعره في الحفلات، وهو شرف لا شك كما كان يقول له شقيقه مأمون أن يقرأ شعر {أمير الشعراء} في المناسبات العامة وعلى جمهور من علية القوم، وقد ينجح بأسلوبه في فرض حضوره، لكنه لم يعتبر ذلك تكريماً، واعتبر أنه شاعر قد يكون صغيراً، لكنه ليس راوية للشعر، حتى لو كان شعر {أمير الشعراء}، وقبوله بذلك يعني أن يستمر راوية ولا يحقق أحلامه، لكن كيف يهرب من هذا الاختبار دون أن يغضب منه أحمد شوقي بك، هذا هو السؤال.

زكي طليمات

ولد الفنان زكي طليمات في 29 أبريل 1894 بحي عابدين في القاهرة من أب ذي أصول سورية، حيث كان جده من أسرة معروفة بالوجاهة في حمص بسورية قد سافر إلى القاهرة بقصد التجارة، وأقام بها، وأم مصرية من أصول شركسية، تُوفي عام 1982.
حصل على البكالوريا من الخديوية الثانوية، والتحق بمعهد التربية ثم أوفد في بعثة إلى فرنسا لدراسة فن التمثيل في باريس في مسرح الكوميدي فرانسيز والأوديون، وعاد حاملاً دبلوماً في الإلقاء والأداء وشهادة في الإخراج، عمل مراقباً للمسرح المدرسي من 1937 إلى 1952، ثم مديراً للمسرح القومي من 1942 إلى 1952، ثم مؤسساً وعميداً لمعهد التمثيل، وأيضاً عمل مديراً عاماً للمسرح المصري الحديث، ومشرفاً فنياً على فرقة البلدية في تونس من 1954 إلى 1957، ثم مشرفاً فنياً على المسرح العربي في الكويت.
قدم طليمات دور آرثر الشهير في فيلم {صلاح الدين}، وقد عرفه مشاهدو هذا الفيلم بجملته الشهيرة لليلى فوزي {في ليلة أقل جمالاً من ليلتنا هذه ستأتين راكعة إلى خيمتي}.
ويعرفه جمهور السينما أيضاً بشخصية المليونير والد زبيدة ثروت في فيلمها مع عبد الحليم حافظ {يوم من عمري}، وهو حاصل على جائزتي الدولة التشجيعية والتقديرية، ودرجة الدكتوراه الفخرية، وتُوفي عام 1982.
وقد شغل العديد من المناصب المهمة منها:
المدير الفني للمسرح القومي، والعميد المؤسس لمعهد فن التمثيل العربي،
ومدير عام المسرح المصري الحديث، والمشرف الفني العام لفرقة البلدية بتونس، والمشرف الفني العام لفرقة المسرح العربي.
كتب في جرائد ومجلات عديدة مثل: الهلال، المقتطف، الفكر العربي، الرسالة، العربي.
كتب مقدمات فنية لعدة مؤلفات ومسرحيات.
يمتاز إخراجه للمسرحيات بالدراسة العميقة والتناسق بين الملابس

كامل الشناوي ... شاعر الليل (1) .. جئت يا يوم مولدي

كامل الشناوي ... شاعر الليل (2)

كامل الشناوي ... شاعر الليل (3)

كامل الشناوي ... شاعر الليل (4): أول قصيدة... وأول حُــب
 
. شاعر الليل (6) ... عشرة جنيهات مع وقف التنفيذ



الثلاثاء 23 يونيو 2015 - الساعة 00:01

1434973719_46_iStock_000053122556_Large.jpg

1434973719_66_1.jpg

1434973719_78_2.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا أمس.
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.


بقدر فرحة كامل الشناوي بانضمامه إلى صالون أمير الشعراء الأدبي الكبير المعروف بمنتدى {كرمة ابن هانئ}، بقدر توتره من رغبة شوقي بك من أن يُلقي كامل أحدث قصائده في المناسبات العامة والحفلات الشعرية الكبرى. وكان تقليداً متبعاً وقتها، أن يكون لكل شاعر كبير راوٍ لشعره ينوب عنه في إلقاء قصائده في الحفلات الرسمية والمنتديات العامة، وقد كان جمع الشاعر بين موهبة الشعر ومهارة الخطابة والإلقاء على غرار شاعر الثورة العربية محمود سامي البارودي من الاستثناءات. وكان المعروف عن شوقي بك أن شعره أفضل بكثير جداً من مهارته في الخطابة والإلقاء. وكان حافظ إبراهيم أحد هؤلاء الذين يجمعون في ذلك العصر بين موهبة الشعر وبين مهارة الخطابة والإلقاء، ورغم ذلك كان له رواة معتمدون يُلقون قصائده بالنيابة عنه في بعض الحفلات الرسمية.
حاول كامل الهروب من هذا الاختيار، رغم استغراب الكثير من أصدقائه تحفظه على هذه الفرصة الكبرى التي يحسده عليها الجميع.
قال له شقيقه {مأمون} معاتباً:
- {كيف لا ترغب في أن تروي نيابة عن أمير الشعراء؟}.
يرد كامل بعزة نفس وكبرياء بالغين:
- {لأنني شاعر ولست راوياً للشعر}.
يسخر شقيقه الذي يصغره بأربع سنوات من إحساسه المفرط بالندية مع الشعراء الكبار، صحيح أن كامل لا يطرح الأمر بهذا الشكل المفهوم من {الندية}، ويعترف أمام الجميع بأنه ما زال في أول الطريق، شاعراً بازغاً أو على طريق البزوغ، وليس موهبة كاملة التحقق وعظيمة الأثر مثل أحمد شوقي. لكن ذلك كله لم يمنع أصدقاءه وصحبته وشقيقه مأمون من السخرية منه:
- {(خفير الشعراء) لا يريد أن يروي قصائد (أمير الشعراء)}.

هروب من الأزمة

كان السبب في تعلق أحمد شوقي بموهبة كامل في إلقاء الشعر، ما لمسه هو وكل رواد صالونه الأدبي {كرمة ابن هانئ} من براعته في الإلقاء، وقدرته على التعبير بنبرات صوته وملامح وجهه وحركة يديه عن معاني القصيدة وما فيها من صور شعرية، حتى بات شوقي بك يحلو له سماع قصائده بصوت كامل الرنان وإلقائه الواعي للمعنى والموقف والحالة الشعرية، لذلك فتح له صالونه الأدبي على مصراعيه، وصار حضوره ينافس حضور مطرب الملوك والأمراء محمد عبد الوهاب الذي كان أبرز المواهب التي تعهدها أحمد شوقي بالرعاية الكاملة، حتى قيل إن عبد الوهاب ربيب شوقي بك. ومع الوقت صار غناء عبد الوهاب وإلقاء كامل للشعر هما الفقرتان الأهم والأكثر إمتاعاً في فعاليات منتدى {كرمة ابن هانئ}.
حاول كامل في البداية الاعتذار بهدوء ولباقة ودون أن يُغضب الشاعر الكبير، كلما طلب منه أن يمثله في المناسبات العامة، وأن يكرر ما يفعله في الصالون الأدبي في الحفلات العامة على المسارح الكبرى، يتحجج كامل بحجج شخصية. ومرة رشح له صديقه الممثل والمحامي يوسف حلميلقراءة قصائده، وكان يوسف أحد أولئك الذين يحسدون كامل على الفرصة التي لا يرغب في اغتنامها، لكن شوقي بك لم يكن يرغب أن يقوم شخص عُرف عنه أنه ممثل أن يُلقي شعره.
حتى جاءت اللحظة الفارقة، حين تقرر تنظيم احتفال مهيب لتأبين الزعيم الليبي المناضل عمر المختار الذي قاد الشعب الليبي في كفاحه ضد الاستعمار الإيطالي لبلاده، وألقت قوات الاحتلال الإيطالي القبض عليه بعدما أنهكهم بدهائه في المقاومة، وقدرته على تحفيز الشعب الليبي للنهوض لمقاومة الاستعمار، ونفذت فيه القوات الإيطالية حكم الإعدام بعد محاكمة استعمارية صورية، ورثاه أحمد شوقي بقصيدة حماسية مؤثرة جداً يقول في بعضها:
ركَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ
.. يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ
يا وَيحَهُم نَصَبوا مَناراً مِن دَمٍ
.. توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ
يا أَيُّها السَيفُ المُجَرَّدُ بِالفَلا
.. يَكسو السُيوفَ عَلى الزَمانِ مَضاءَ
تِلكَ الصَحاري غِمدُ كُلِّ مُهَنَّدٍ
.. أَبلى فَأَحسَنَ في العَدُوِّ بَلاءَ
خُيِّرتَ فَاِختَرتَ المَبيتَ عَلى الطَوى
.. لَم تَبنِ جاهاً أَو تَلُمَّ ثَراءَ
إِنَّ البُطولَةَ أَن تَموتَ مِن الظَما
.. لَيسَ البُطولَةُ أَن تَعُبَّ الماءَ
في ذِمَّةِ اللَهِ الكَريمِ وَحِفظِهِ
.. جَسَدٌ بِبُرقَةَ وُسِّدَ الصَحراءَ
كَرُفاتِ نَسرٍ أَو بَقِيَّةِ ضَيغَمٍ
.. باتا وَراءَ السافِياتِ هَباءَ
لَبّى قَضاءَ الأَرضِ أَمسِ بِمُهجَةٍ
.. لَم تَخشَ إِلّا لِلسَماءِ قَضاءَ
وافاهُ مَرفوعَ الجَبينِ كَأَنَّهُ
.. سُقراطُ جَرَّ إِلى القُضاةِ رِداءَ
شَيخٌ تَمالَكَ سِنَّهُ لَم يَنفَجِر
.. كَالطِفلِ مِن خَوفِ العِقابِ بُكاءَ
الأُسدُ تَزأَرُ في الحَديدِ وَلَن تَرى
.. في السِجنِ ضِرغاماً بَكى اِستِخذاءَ
وَتَخَيَّروا الحَبلَ المَهينَ مَنِيَّةً
.. لِلَّيثِ يَلفِظُ حَولَهُ الحَوباءَ
شَرَعَت حُقوقَ الناسِ في أَوطانِهِم
.. إِلّا أُباةَ الضَيمِ وَالضُعَفاءَ
يا أَيُّها الشَعبُ القَريبُ أَسامِعٌ
.. فَأَصوغُ في عُمَرَ الشَهيدِ رِثاءَ
أَم أَلجَمَت فاكَ الخُطوبُ وَحَرَّمَت
.. أُذنَيكَ حينَ تُخاطَبُ الإِصغاءَ
ذَهَبَ الزَعيمُ وَأَنتَ باقٍ خالِدٌ
.. فَاِنقُد رِجالَكَ وَاِختَرِ الزُعَماءَ
وَأَرِح شُيوخَكَ مِن تَكاليفِ الوَغى
.. وَاِحمِل عَلى فِتيانِكَ الأَعباءَ

وهذه المرة وأمام أهمية الاحتفال لم يستطع «كامل» الفكاك من طلب «شوقي بك» أن يُلقي قصيدته في حفل تأبين عمر المختار، واضطر أن يقبل وهو قليلة الحيلة، فيما يشعر بخوف أن تختزل موهبته ويختزل اسمه ويقترن برواية شعر «شوقي» لا غير، كان يتحسب للحظة يسمع فيها أحدهم اسمه فيقول:
- «نعم أعرفه، سمعت عنه، إنه شاعر جديد جيد»
لكنه يظن أن ظهوره يُلقي شعر «شوقي» سيختزل صورته عند الناس في هذا الفعل، وسيقول القائل:
- «نعم أعرفه، سمعت عنه، إنه الراوي الذي يقرأ شعر شوقي»
لم يستطع كامل أن يقاوم إصرار شوقي بك هذه المرة، وبدأ يستعد لإلقاء القصيدة، ويحتشد لذلك بالقراءة عن سيرة «عمر المختار» ومتابعة ما كان يُنشر في الصحف حول سيرته وكفاحه وطريقة إعدامه، حتى بات متأثراً جداً بشخصيته، بما يجعل رهان شوقي بك عليه في محله.
لكن النفاذ من الاختبار جاء هذه المرة فجأة ومن حيث لا يحتسب أو يتوقع، ومن دون عناء في البحث عن الأسباب والحجج بعد أن رضخ تماماً لطلب «أمير الشعراء» حيث قررت السلطات فجأة إلغاء الاحتفال قبل بضع ساعات من موعدها.

من الشعر إلى الصحافة

بات كامل شاعراً معروفاً في الأوساط الثقافية، تُقبل الصحف بسهولة على نشر أشعاره وقصائده، ولا يجد ما كان يجد في السابق من تباطوء في النشر، وبدأ شعره يذيع صيته، خصوصاً شعره السياسي الذي كان يعبر به عن مشاعر الأمة ورغبتها في الحرية والاستقلال. تتويجاً لهذا الدور التحق بالحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل وحمل كامل اسمه منذ أن وُلد في عام رحيل الزعيم خالد الذكر نفسه، فكان عضواً فاعلاً وحيوياً ويفيض حماسة ووطنية، كان ذلك في زمن تولى إسماعيل صدقي باشا رئاسة الحكومة، وتبلور موقفه المناهض لدستور 23، ولقضية الجلاء. ولما كان كامل أحد شعراء المعارضة في ذلك الوقت كتب قصيدة حماسية تعبر عن موقف الحزب الوطني من إسماعيل صدقي وحكومته، هجا فيها صدقي وحكومته هجاء موجعاً، وذهب بها إلى جريدة «كوكب الشرق» حيث التقاه صاحبها أحمد حافظ عوض بك بترحاب شديد، وقرأ القصيدة، وهو الوفدي المسؤول عن صحيفة وفدية تتلاقى مع مواقف الحزب الوطني في مسائل الدستور والجلاء ومعارضة الحكومة، وأُعجب بما فيها من هجوم عنيف على صدقي باشا، وأمر بنشرها على الفور.
وبينما يحدث الترحيب والإشادة بالقصيدة، يدور حديث جاد بين الاثنين حين يسأل حافظ عوض بك ضيفه عن أحواله وما يفعل في حياته.
الأرجح أن كامل وقتها كان في مفترق الطرق، ولا يعرف أي اتجاه يسلكه ويُكمل فيه، فهو الأزهري الذي انقطع عن دراسته الأزهرية، والراغب في دراسة الحقوق ويبدو أنه لن يُكمل طريقه فيها، فدروس اللغة الفرنسية تحولت إلى قصة حب كبرى، حتى تلك القصة لا يعرف لها نهاية، وباتت همته لدخول الحقوق «الفرنساوي» والسفر للالتحاق بجامعة «السوربون» الباريسية وقد همد عزمها، وهو الشاعر الذي تنتشر قصائده بين صفحات الصحف، لكن سؤال المستقبل يبقى غامضاً، يشغل أسرته وأصدقاءه، ويبدو أنه شغل حافظ عوض بك أيضاً حين سأله عن «صناعته» وما يفعله في حياته غير الشعر، خصوصاً أنه أوشك من العشرين من عمره وهي سن كبيرة بالنسبة لشاب مثله غادر الدراسة بإرادته، والمفترض أن يكون له عمل واضح يرتزق منه ويبني فيه مستقبلاً، إلى جانب استمراره في الشعر.
قال له حافظ عوض:
- « لماذا لا تفكر في الاشتغال بالصحافة؟».
رد كامل:
- «كلما كتبت قصيدة أرسلها للصحف».

البدروم الصحافي

لكن حافظ عوض حدثه على أن كتابة الشعر ونشره في الصحف ليس عملاً ثابتاً، وإنما هواية يمكن لمن يمارسها أن يفعلها من أي مكان ويرسلها عبر البريد حتى دون أن يتكبد عناء الطريق إلى مقر الجريدة، وكل الشعراء الناجحين في زمانه لهم وظائفهم في المصالح الحكومية والجامعة ودار الكتب والصحف وغير ذلك.
وانطلاقاً من ذلك سأله:
- «لماذا لا تعمل معنا في الجريدة وتبدأ تجربة جديدة مع الصحافة؟».
رد كامل وقد أبهرته الدعوة وأدخلت عليه السعادة:
- «هنا في كوكب الشرق.. هذا شرف كبير».
وعقد حافظ عوض بك صاحب جريدة «كوكب الشرق» اتفاقاً مع كامل أفندي الشناوي الحاصل على الابتدائية الأزهرية، للعمل في الصحيفة، مقابل أجر شهري قيمته عشرة جنيهات فقط لا غير.
كان الأجر معقولاً جداً في هذا الوقت، بل وموضع حسد من أصدقائه وصحبته الذين بدأ في التعامل معهم باعتباره صحافياً «كسيباً» فأصروا على أن يعزمهم ويُكرمهم كما أكرمه الله.
لكن أصدقاءه رتبوا له زيارة مفاجئة لمقر الجريدة لمشاهدة صديقهم الذي بات مهماً والتباهي به وسط الناس، ونفذوا ما أرادوا، فوجدوا كامل» جالساً على مكتب في «بدروم» الجريدة، وأمامه البروفات والأوراق، وهناك شرح لهم أنه يعمل مُصححاً لغوياً ومدققاً للبروفات، وتلك من الاستفادات التي حصل عليها من ابتدائيته الأزهرية التي مكنته من قواعد اللغة العربية ونحوها وصرفها.
ورغم أنه بدأ طريقه الصحافي من «البدروم» وربما من مهنة داخل هيكل الصحافة بعيدة عن المعنى المعروف في الأذهان لمعنى الصحافة والصحافي بما يمثله من إبداع وكشف للحقائق وجلب للأخبار، بالإضافة إلى أن مهنة الكواليس تلك التي تبدو متأخرة في الهيكل الصحافي، وأصحابها لا تُكتب أسماؤهم في الجريدة ولا يعرفهم القراء، فإن أصحابه بما شهدوه من انشغاله، وصب جميع بروفات الصحيفة عنده لتصحيحها. وجدوا الأمر وكأنه تصريف لكبريات الأمور، فزاد انبهارهم به، وإحساسهم بأنه وجد طريقه وربما تفوق عليهم، ولم يعد في عيونهم ذلك الشاب الذي يتأخر عنهم رياضياً ببدانته، ودراسياً باكتفائه بالابتدائية الأزهرية، وإنما ظهر أمامهم شاب ناجح ومهم ومتيسر مادياً أيضاً بعشرة جنيهات شهرياً.
وهو ما جعل أسرته تُسلم أخيراً بأنه اختار طريقه، بعد وقت من الحيرة وعدم الاستقرار، وتكرس حاله الجديد وطريقه الوحيد في الصحافة.
لكنه وهو الذي كان يعمل بهمة في جريدة «كوكب الشرق» في مراجعة البروفات وتدقيقها، وقف أمام الصراف في آخر الشهر، فلم يجد اسمه في كشف الأجور، لا في ورقة المحررين، ولا حتى في ورقة العمال. قال إن الأمر ربما يكون سهواً من صاحب الجريدة، فانتظر للشهر التالي، ولم يجد إلا ذات النتيجة. وقف لا يعرف ماذا يفعل، أصدقاؤه يعتقدون أنه يتقاضى هذا المبلغ شهرياً ويبخل عليهم، وحافظ عوض بك هو من عرض عليه العمل وحدد الأجر، فهل نسي؟ هل تراجع وندم بعد أن اكتشف سوء مستواه في العمل؟ هل يقصد أن يعتذر له بهدوء ويدفعه لمغادرة الجريدة دون إحراج؟ كل تلك الأسئلة لم يجد لها إجابات، وما كان له ليجد أية إجابة سوى بمواجهة حافظ عوض بك، لكنه يتحرج من الحديث معه في مسألة لها علاقة بالمال وهو الرجل الذي فتح له جريدته لينشر أشعاره وبعض المقالات ذات الصبغة الأدبية من دون اعتراض، لكن ما باليد حيلة ليكن السؤال مباشراً لصاحب الجريدة.

أحمد شوقي

ولد أحمد شوقي بحي الحنفي في القاهرة في 16 أكتوبر 1868 لأب کردي وأم من أصول ترکية وشرکسية. كانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديو إسماعيل، وعلى جانب من الغني والثراء، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح، فحفظ قدراً من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغاً واضحاً كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظاً واستظهاراً، فبدأ الشعر يجري على لسانه.
وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة (1303هـ = 1885م)، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثاً، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ محمد البسيوني، ورأى فيه مشروع شاعر كبير.
سافر إلى فرنسا على نفقة الخديو توفيق، وقد حسمت تلك الرحلة الدراسية الأولى منطلقات شوقي الفكرية والإبداعية، وخلالها اشترك مع زملاء البعثة في تكوين (جمعية التقدم المصري)، التي كانت أحد أشكال العمل الوطني ضد الاحتلال الإنكليزي، وربطته حينئذ صداقة حميمة بالزعيم مصطفى كامل، وتفتّح على مشروعات النهضة المصرية.
في عام 1927، بايع شعراء العرب كافة شوقي أميرا للشعر، وبعد تلك الفترة نجد تفرغ شوقي للمسرح الشعري حيث يعد الرائد الأول في هذا المجال عربيا ومن مسرحياته الشعرية، مصرع كليوباترا وقمبيز ومجنون ليلى وعلي بك الكبير.
لشوقي الريادة في النهضة الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية والمسرحية التي مرت بها. أما في مجال الشعر فهذا التجديد واضح في معظم قصائده التي قالها، ومن يراجع ذلك في ديوانه الشوقيات لا يفوته تلمس بروز هذه النهضة، فهذا الديوان الذي يقع في أربعة أجزاء يشتمل على منظوماته الشعرية في القرن الثامن عشر وفي مقدمته سيرة لحياة الشاعر وهذه القصائد التي احتواها الديوان تشتمل على المديح والرثاء والأناشيد والحكايات والوطنية والدين والحكمة والتعليم والسياسة والمسرح والوصف والمدح والاجتماع وأغراض عامة.
 
. شاعر الليل (7) ...زمالة مع طه حسين... ودعم من العقاد



الأربعاء 24 يونيو 2015 - الساعة 00:01
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا أمس.
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لا تزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435060717_9_iStock_000000923880_Medium.jpg

1435060718_05_3.jpg

1435060718_15_4.jpg

1435060718_28_1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
- {أنت ما زلت تحت التمرين؟}.
بهذا التوصيف فسر له {حافظ عوض بك} عدم تقاضيه أي أجر عن الفترة التي أمضاها في صحيفة {كوكب الشرق} حتى الآن، يراجع فيها البروفات بهمة وجدية. صحيح أن حافظ عوض نفسه من اتفق معه على عشرة جنيهات حسده لأجلها أصدقاؤه، فيما بقيت سراباً لم يتحقق أبداً، إلا أنه عاد وفسَّر له الأمر بأنه، أي كامل ارتكن إلى مهنة المراجعة، وكان حافظ عوض يراهن على أنه بدأبه وحماسته يستطيع أن يكون صحافياً متعدد المواهب والمهام، يراجع الصفحات، ويصحح المقالات، ويقوم بأعمال سكرتارية التحرير في تجهيز الجريدة تبويباً وصوراً وعناوين للطبع، إلى جانب جلب الأخبار كأي صحافي. كان هذا طموح حافظ عوض، ولما لم ير من كامل أي مبادرة، اضطر إلى أن يشرح له:
- {الصحافة ليست أشعاراً وكتابات أدبية... الصحافة أن تتصيَّد الأخبار من مصادرها، وتكتب المقالات السياسية التي تحوي عمق التحليل المستند إلى قوة الموقف والمعلومة}.
لكن كامل لا يعرف بعد مصادر يجلب منها الأخبار، فعرض عليه حافظ عوض وقد أثبت كفاءة في المراجعة والتصحيح أن يثبته كمصحح، من دون تمرين وأن يربط له راتباً شهرياً قدره أربعة جنيهات، أقل بستة جنيهات عمَّا يتقاضاه الصحافي.

زمالة مع عميد الأدب

ولما كان كامل في مفترق الطرق، وعليه أن يثبت لأسرته وصحبته أنه أمسك طريق النجاح، ولا بد وقد ترك الدراسة وصال وجال بعيداً عنها أن يكون له دخل وإيراد، ينفق منه على الأقل على جلساته في الكازينوهات، والمقاهي الثقافية، وطعامه خارج المنزل، لذلك قبل الجنيهات الأربعة، واثقاً هذه المرة من انتظامها، ومضى يمارس عمله بهمة، فيما أصدقاؤه ما زال لديهم الاعتقاد بأنه يتقاضى عشرة جنيهات ويبخل عليهم بعزوماته. لكن هذا العمل فتح له باب الاقتراب من عميد الأدب العربي
د. طه حسين، الذي كان يكتب في جريدة {كوكب الشرق}، ثم استحدث صاحب الجريدة منصباً كان اسمه {مدير سياسة الجريدة}، وهو الشخص صاحب المنزلة الرفيعة وظيفياً، الذي يتولى الإشراف على تطبيق السياسة التحريرية، ومراقبة الجودة، والإشراف على خط الجريدة الفكري والسياسي في وقت كانت تموج فيه مصر بالأفكار والرؤى والمدارس السياسية والثقافية. وتولى طه حسين هذا الموقع، وصار بحكم الانتماء الوظيفي إلى ذات المكان زميلاً هو وكامل، أو هكذا كان يقول الأخير لأصدقائه.
لم يكن طه حسين بالنسبة إلى كامل مجرد مثقف كبير، وأديب شهير، ومجدد في الثقافة والفكر والأدب، وسياسي ووزير وأستاذ جامعي مرموق ذي سمعة محلية ودولية فحسب. لكنه كان النموذج والمثل الأعلى. كان شقيق طه حسين الشيخ أحمد حسين زميلاً لوالد كامل وعمه الشيخ مأمون في الأزهر الشريف، ومن هذه الزمالة بدأ التعرف إلى قصة طه حسين وكفاحه من أجل التعلم رغم كف بصره والأهم تمرده على الدراسة في الأزهر، وانفتاحه على التعليم الأهلي، ثم الأوروبي وتحديداً الدراسة في جامعة {السوربون}.
طالما شعر كامل بتشابه بينه وبين طه حسين سواء في طفولة مرتبكة شعر خلالها كل منهما أنه مختلف عن أقرانه وممنوع من اللعب معهم، بسبب بدانة كامل وكف بصر طه، أو بسبب ضجر كليهما من الدراسة في الأزهر بمناهجها وأساليبها الجامدة. لكنه بالقطع كان يعترف أنه لا يملك جلد طه على استكمال الدراسة ولا دأبه لإثبات وجوده، ولا مشروعيه السياسي والفكري اللذين عمل عليهما بجهد نادر. إلا أنها فرصة ليقترب من رجل بهذه المواصفات، ويظفر بجواره، كما ظفر بعضوية منتدى {كرمة ابن هانئ} لصاحبه {أمير الشعراء أحمد شوقي بك}، ليكون مجاوراً لهذه القمم، وكما يقول المثل المصري {من جاور السعيد يسعد}، وهو كان يترجمها بأن {من جاور المبدعين الملهمين لا بد من أن يناله من هذا الإبداع جانب حتى ولو درس صغير، أو إشادة يعرف بها المرء أنه يسير في الطريق الصحيح}.
لكن كيف توطدت علاقته بطه حسين؟
الأمر لا يخلو من مزحة، كان طه حسين يعرف كامل كشاعر وكأحد العاملين في الجريدة، وأحد الكتاب أيضاً حيث كان كامل يكتب مقالات، وأحياناً افتتاحية الجريدة، لكن من دون أن يوقعها باسمه. وكان أسلوبه جميلاً ولافتاً، ببراعته وقوته في آن. لجأ إليه حافظ عوض صاحب الجريدة، ليكتب افتتاحية من دون توقيع ضد وزير المعارف وقتها حلمي عيسى باشا، ينتقد فيها سياساتها التي لم تكن تروق لصاحب الجريدة ولا للوفديين الذين تعبر عنهم. وكانت افتتاحية لاذعة وساخرة، عباراتها قصيرة وملهبة، وباعتبار طه حسين أحد الداخلين في سياسات الجريدة فقد عرف أنه كاتب هذه المقالات التي بلا توقيع، وأُعجب به كاتباً ساخراً من ظرفاء عصره، مثلما كان مُعجباً بشعره. ولما برع في هذا اللون من الكتابة الساخرة القصيرة، شارك إلى جوار عمله في {كوكب الشرق} في كتابة مقالات ساخرة لمجلة {أدب الفكاهة} الأسبوعية التي أصدرها الشيخ عبد الحميد النحاس وخصصها للمحتوى الساخر شعراً ونثراً ورسماً، وكان يتقاضى عن مقالاته {جنيهين} شهرياً، تُضاف إلى الأربعة، ليكون إيراده الشهري ستة جنيهات.
موقف ساخر، وطد الصداقة والارتباط بينه وبين طه حسين، حيث كان سكرتير تحرير الجريدة رجل حزبي، ليس صحافياً لكنه شغل هذا الموقع بصفته الحزبية والسياسية، في وقت كان ذلك هو نظام الصحف المعبرة عن أحزاب أو توجهات حزبية في ذلك الوقت، ربما للتأكد من أن شيئاً لا يُنشر يخالف سياسات الحزب الذي كانت الجريدة تعبر عنه وهو حزب الوفد. وكان الرجل يتدخل في التحرير كما لو كان صحافياً عتيداً، وأحياناً يتدخل في مقالات وأخبار وكأنه خبير صحافي، وذلك كله بقي مقبولاً بسبب طبائع الصحافة في هذا العصر، لكن ما لم يتصوره كامل أن يتدخل في قواعد اللغة العربية أيضاً فيرفع مجروراً ويجر مرفوعاً وينصب المجرور والمرفوع، ويُصر على ذلك، وكأن ما يقوله باعتباره صاحب الصفة الوظيفية الأعلى، أصح مما يقوله {سيبويه} وجميع العلماء الذين ضبطوا قواعد اللغة العربية.
زار القاهرة الملك الأفغاني، وكان طبيعياً أن تركز الصحيفة على أخبار زيارته واستقبال ملك {مصر والسودان} له، وتنقلاتهما معاً، فتكررت في نصوص الأخبار وعناوينها تعريف {صاحبا الجلالة} و{صاحبي الجلالة} حسب سياقهما في الجملة. لكن كامل اكتشف أنها تأتيه مرفوعة دائماً {صاحبا الجلالة} أو مجرورة ومنصوبة دائماً {صاحبي الجلالة} من دون اعتبار لوضع الجملة التي تفرض الرفع أحياناً والجر والنصب أحياناً آخرى، وكلما تدخل كامل وضبط كل واحدة منها حسب موقعها من الإعراب أعادها سكرتير التحرير لوضعها الخاطئ، وظلت البروفات تذهب وتجيء حتى ضجر منه سكرتير التحرير واستدعاه:
- {بتلاعبني أستغماية يا أفندي، كل ما أكتبها صاحبا، تغيرها إلى صاحبي، وكل ما أكتبها صاحبي، تغيرها إلى صاحبا}.
عبثاً حاول كامل أن يشرح لسكرتير التحرير أن الأمر ليس عبثاً منه أو معاندة لكنها قواعد النحو والصرف بلا جدوى. حتى إنه هم ليقول:
- {قواعد النحو بتقول....}.
حتى قاطعه الرجل ممارساً عليه سلطته ونفوذه بجملة، لم تقنع كامل ولم تلجمه السكوت، لكنها فجرت ضحكاً مكتوماً داخله بدا على ملامحه كقسمات دهشة يصاحبها الابتسام الذي يحاول أن ينضبط حتى لا يتحوَّل منفجراً لضحك مجلجل بمجرد أن قال الرجل بتعال كأي رئيس ينهر مرؤوسه في العمل:
- {هُنا أنا اللي بقول!!}.
لم يتمالك كامل نفسه، وربما لم يشعر بها إلا وهو في مكتب الدكتور طه حسين الذي دخله طالباً اللجوء والتحكيم، وحكى لصاحب المكتب الواقعة مصحوبة بتمثيلها وتقليد صوت سكرتير التحرير ونبرة صوته حتى انفجر الرجل الوقور طه حسين ضاحكاً، وهو المعروف بتحفظه وندرة استسلامه للضحك المفرط.
في هذا اليوم، توطدت العلاقة بين كامل والدكتور طه، واعتمده عميد الأدب العربي واحداً من الظرفاء في ذلك الوقت، وقرر نقله من وظيفة المُصحح، إلى وظيفة المحرر، على أن يتبع مباشرة مكتبه.
وصارت بينهما علاقة التلميذ بأستاذه، والصديق بصديقه. حتى إن كامل أصبح متأثراً بوضوح بأسلوب طه حسين في الحديث، حيث كان يعتبره المتفرد على قمة الأدب العربي والأدباء العرب، وكان منبهراً به إلى حد أن قال لأصدقائه إنه رجل غير عادي، {أنيق في عبارته، أنيق في كلامه، أنيق في نطقه، أنيق في اختيار الألفاظ}.
حتى إن طه حسين حين اختلف مع صاحب جريدة {كوكب الشرق} تركها وأخذ معه كامل وأصدر منفرداً من ماله الخاص جريدة {الوادي} ومنح كامل فيها حرية كبرى في الكتابة والإشراف على التحرير، ولم تكن صحيفة {الوادي} تميل الميل كله لحزب {الوفد}. لكنها كانت معادية لحكومة إسماعيل صدقي باشا، وشن من خلالها طه حسين هجوماً حاداً على صدقي فكان خطابها الحماسي سر تميزها، وكانت بصمات كامل فيها واضحة وكتاباته الساخرة اللاذعة. لكن الجريدة استنفدت من جهد طه حسين وماله الكثير ما اضطره إلى إغلاقها بعد أقل من عامين على إصدارها.

انطلاق صحافي

لكن تجربة صحيفة {الوادي} ومن قبلها صحيفة {كوكب الشرق} منحت له اسماً مميزاً في عالم الصحافة أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، بسبب أسلوبه المختلف، وأيضاً شهادات الكبار في حقه، فانفتحت أمامه أبواب {روزاليوسف} المجلة ثم الصحيفة، فصار أحد كُتابها اللامعين، وتوطدت علاقته بالسيدة {روزاليوسف} صاحبة المجلة حين اختارته وزوجها في ذلك الوقت، الصديق القديم زكي طليمات الرائد المسرحي الكبير، لتدريس اللغة العربية لابنتهما آمال طليمات، وبدأ الكتابة بالقطعة في المجلة. وعبر كتاباته وتردده على المكان توطدت صداقته بمصطفى أمين الصحافي الشاب الموهوب وقتها، والذي كان في تلك المرحلة نائب رئيس تحرير مجلة {روزاليوسف} في وقت كانت صاحبة المجلة تقتنص أي موهبة وتدعم الشباب، كما بدأت صداقته بنجلها من زوجها الممثل محمد عبدالقدوس، الشاب الموهوب في الصحافة والأدب إحسان عبد القدوس.
لكن علاقته المنتظمة بـ {روزاليوسف} لم تحدث بسبب كل تلك العلاقات التي بدأ في نسجها، وإنما بسبب عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، وكانت {روزاليوسف} قد صدرت كجريدة يومية وطلبت صاحبتها من الأستاذ العقاد الانضمام ليكون كاتب الجريدة الأول، ووافق لكنه اشترط أن ينضم معه الكاتب والصحافي الشاب كامل الشناوي وأن تجاور كتاباته كتابات الأخير، هكذا من دون سابق معرفة وطيدة غير إعجاب متبادل، وتقدير بالغ من كامل للرجل الذي سُئل يوماً:
- {لماذا لا تحصل على دكتوراه يا أستاذ عباس؟}.
فرد بكبرياء ليس فيها غرور:
- {أُشفق على لجنة المناقشة}.
وكان الرائج وقتها عمن يكون هذا المُقدم على الانتحار الذي من الممكن أن يتجرأ لمناقشة مثقف موسوعي مثله ويقوم بتحكيم رسالة دكتوراه كتبها، وكان الشاهد أن العقاد أكبر من الشهادات الجامعية والأكاديمية، وقد كان أيضاً شخصاً ملهماً لكامل بقصة كفاحه التي استطاع خلالها أن يُعلم نفسه بنفسه، وأن يثبت أن العلم ليس فقط في الشهادات، وهي معادلة كانت تروق لكامل جداً منذ أن كان يفكر في مغادرة الدراسة، ولا يجد مبررات كافية. وأحياناً، كان يكتفي بالاستناد إلى العقاد، والحديث عن سيرته مع التعليم، والدرس القائم على هذه السيرة بأن الإنسان يمكن أن يفعل كل شيء ويتطور ويتعلم من دون شهادات رسمية والتزام بنظام تعليمي جاف ومنهك وقاتل للإبداع والتفكير. صحيح أنه كان يعرف أن في ما يقوله كثير من المبالغات باعتبار العقاد استثناء، وهو بلا شك لا يملك دأبه على التعلم والتطور، لكنه كان لديه الاعتقاد في قدرته على تكرار التجربة، أو على الأقل هي تجربة تمنحه غطاء مناسباً لتبرير انسلاخه من الدراسة كلية، كما منحته تجربة طه حسين الغطاء المناسب للانسلاخ عن الدراسة في الأزهر.

عباس العقاد

ولد العقاد في أسوان في 28 يونيو 1889 لأم من أصول كردية. اقتصرت دراسته على المرحلة الابتدائية، لعدم توافر المدارس الحديثة في محافظة أسوان، حيث ولد ونشأ. كذلك لم تتمكن أسرته بمواردها المحدودة من إرساله إلى القاهرة كما يفعل الأعيان، واعتمد العقاد على ذكائه الحاد وصبره على التعلم والمعرفة حتى أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى أبداً، ليس بالعلوم العربية فقط وإنما العلوم الغربية أيضاً.فقد اتقن اللغة الإنكليزية من مخالطته للسياح المتوافدين على محافظتي الأقصر وأسوان، مما مكنه من القراءة والاطلاع على الثقافات البعيدة، وكما كان إصرار العقاد مصدر نبوغه، فإن هذا الإصرار كان سبباً لشقائه أيضاً، فبعدما جاء إلى القاهرة وعمل بالصحافة وتتلمذ على يد المفكر والشاعر الأستاذ الدكتور محمد حسين محمد، خريج كلية أصول الدين من جامعة القاهرة، أسس بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري {مدرسة الديوان}، وكانت تناصر التجديد في الشعر والخروج به عن القالب التقليدي العتيق. عمل العقاد بمصنع للحرير في مدينة دمياط، وعمل بالسكك الحديد لأنه لم ينل من التعليم حظاً وافراً، حيث حصل على الشهادة الابتدائية فقط. لكنه في الوقت نفسه كان مولعاً بالقراءة في مختلف المجالات، وقد انفق معظم نقوده على شراء الكتب، والتحق بعمل كتابي بمحافظة قنا، ثم نقل إلى محافظة الشرقية.
اشتغل العقاد بوظائف حكومية كثيرة في المديريات ومصلحة التلغراف ومصلحة السكة الحديد وديوان الأوقاف. بعدما ملَّ العقاد العمل الروتيني الحكومي، اتجه إلى العمل في الصحافة، مستعيناً بثقافته وسعة اطلاعه، فاشترك مع محمد فريد وجدي في إصدار صحيفة الدستور. وكان ذلك فرصة كي يتعرف العقاد بسعد زغلول ويؤمن بمبادئه، توقفت الصحيفة عن الصدور بعد فترة.
دخل في معارك حامية مع القصر الملكي، مما أدى إلى ذيوع صيته واُنْتخب عضواً بمجلس النواب، العقاد سجُن بعد ذلك لمدة تسعة أشهر عام 1930 بتهمة العيب في الذات الملكية.
وفي حياة العقاد معارك أدبية جَعَلتْهُ نهمَ القراءة والكتابة، منها: معاركه مع الرافعي وموضوعها فكرة إعجاز القرآن، واللغة بين الإنسان والحيوان، ومع طه حسين حول فلسفة أبي العلاء المعري ورجعته، ومع الشاعر جميل صدقي الزهاوي في قضية الشاعر بين الملكة الفلسفية العلمية والملكة الشعرية، ومع محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس في قضية وحدة القصيدة العضوية ووحدتها الموضوعية
تٌوفي العقاد في 26 شوال 1383 هـ - 12 مارس 1964 ولم يتزوج.
 
.. شاعر الليل (8): فصل من كتاب العاشق



الخميس 25 يونيو 2015 - الساعة 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا أمس.
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435149206_39_iStock_000065255991_Large.jpg

1435149206_07_4-2.jpg

1435149206_22_Unutitled-1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
- {إلى أين يقودني الجمال، هل الناس جميعاً مثلي، يعذبهم إذا رأوه، ويعذبهم إذا احتجب عنهم، إنني أحب الجمال ولو تحوَّل إلى خنجر يسكن ضلوعي، ويجول فيها ويتلوى ويقفز... أحبه في فكرة، في كلمة، لوحة، نظرة، إشارة، شروق، ضباب، حقيقة، خيال، بحر هائج، رياح عنيفة، نسيم ضعيف، نغمة تنساب من حنجرة، آلة موسيقية... أو كعب حذاء}.
لماذا يقول كامل لنفسه كل هذا الكلام، ويعيد فيه ويزيد أمام أصدقائه؟ صحيح أنه يصف بعض جوانب شخصيته، ويكشف بعض مكامن عقله، ويرسم بعض ملامح روحه، لكنه تحديداً في هذا الموقف كان يحاول أن يفسِّر لشقيقه تعلقه بفتاتين في الوقت نفسه، وتعريفه قصة كل منهما بأنها حب. لكن كل منهما لها طبيعتها، وربما تمنحه شيئاً غير الأخرى.

حب واحد لا يكفي

كانت قصة غرامة بفتاة المعادي ما زالت ممتدة، بلا نهاية معروفة، ظلت تتابع تطوره، وهي تعتقد أنها نجحت في أن تقربه من طريقه الذي يستحق، وهو ظلَّ متمسكاً بها تمسك الكسول الراغب في العمل بأداة تحفيزه. ظلَّ يلتقيها، ويتعلَّم منها المزيد عن الحياة وطبائعها وإتيكيت هذه الطبقة من المتعلمين {الفرانكوعرب}. وبقيت رقتها وذوقها الراقي، ومشاعرها المرهفة، وفهمها واطلاعها وثقافتها الرفيعة، ورقتها في عزف الموسيقى، ووداعتها في التعلق به من دون تقييده باهتمام احتكاري زائد كالرفيقات المصريات، وانشغالها به بهدوء بالغ، وفهمها طموحاته المستجدة في الصحافة، وأفكاره الإبداعية، وتجاربه في الشعر والنثر والسخرية، نموذجاً ملهماً لا يجوز التفريط فيه.
لكن يبدو أن هذا النموذج وحده لا يكفي. وظلَّ معتقداً أنه يحتاج في حياته إلى بعض الفوضى، وبعض الانطلاق المتحرر من قيود {الإتيكيت}، وبعض الحوارات العبثية التي لا يحدث فيها التلاقي بين طرفي الحوار إلا نادراً، لم يكن يعرف تحديداً ما يريد، لكن تردده على الكازينوهات، وبالتحديد كازينو {بديعة}، جعله أكثر احتكاكاً بنماذج آخرى من النساء الشابات، وربما يكتشف في نفسه، ما سيظهر عليه بعد ذلك من ولع بالجمال، وتنقل بين زهراته، وانشغال بكل فتاة رقيقة تمر في حياته ولو مروراً عابراً، فيما سيظهر ويُكتشف في ما بعد، من قصص غرامية مع نجمات مجتمع وفنانات أنيقات وفتيات عائلات بملامح أوروبية جميلة.
وفي هذه المرحلة المبكرة من حياته العاطفية، كان لقاؤه فتاة {الكازينو} مثيراً ومختلفاً. حتى إنه يصفه بنفسه ويقول:
- {اهتز كياني وأنا أسمع صوت حذاء عال يمر بجانبي، ووجدتني بغير إرادة أتجه إليه بكلتا عيني، كان يضم قدمين صغيرتين تمهدان لساقين رشيقتين تعرتا بجورب من الحرير يعلوهما قوام يتثنى بخفة في فستان يتحدى برد الشتاء، وقد برز القوام، بصدر جذاب يعلو ويهبط في خفوت كبقايا موجة، أو كضوء شمعة تعرضت لنسمة عابرة، وقد بدا على الصدر عقد من لؤلؤ، فوقه عنق ممشوق، واستسلم العنق لوجه باهر القسمات، اكتسى بحمرة الورد وبياض المرمر، العينان زرقاوان ترفرف عليهما أهداب سوداء، والخدان ينبضان بالحرارة كقبلة الفراق، والأنف دقيق ينسحب على الشفتين في كبرياء، والفم مليء بالرقة، والأذنان الرقيقتان انسدلت عليهما خصلات الشعر الناعم الأصفر، لتغطى الأذنين وتحجب عنهما صيحات الإعجاب}.
{اختارت الفتاة إحدى الموائد وجلست، كانت وحدها... هكذا رأيتها عندما مشت أمامي، وهكذا رأيتها عندما جلست بالقرب مني، وكنت سمعت صوتها، هل تُحدث نفسها؟! ورمقت مائدتها بعيني، فوجدت معها شخصاً، لم أعترف بوجوده... فحيث يكون الجمال لا نستطيع أن نعترف بغير الجمال..}.
في تجاربه السابقة، وربما اللاحقة لم يستخدم كامل جملة {السهم صاب} سوى في وصف قصته مع فتاة {الكازينو}. كانت إحدى بنات صالة {بديعة مصابني} الشهيرة، ثم صارت راقصة وصاحبة ملهى في ما بعد، كانت قصتها تثير استغراب شقيقه وأصدقائه، ببساطة اعتبروا أن الفارق شاسع بين فتاة {المعادي} الرقيقة المثقفة، وبين فتاة {الكازينو} التي لا تستوعب ما يكتبه، ولا تعرف إن كان {بيتهوفن} اسم خواجة من خواجات مصر آنذاك أصحاب محلات الساعات والمجوهرات، أم علامة تجارية لسيارة؟!
لكنه كان يرد عليهم بقوله:
- {أهوى الجمال حيثما كان، حيياً أو ثائراً أو رزيناً}
.
الحب المنسي

وهذا تحديداً كان المعنى في دخوله قصة عشق {صاب سهمها} بحد تعبيره، في الوقت الذي احتفظ بحبه مع فتاة {المعادي}، وكانت قد سبقتها قصة تقليدية عن حب أول، كان لا يحب احتسابه في قصص غرامه التي تعددت، لكنه يتذكره ويقول عنه:
- { لست أذكر على وجه التحديد كيف كانت قصة حبي الأول. كل ما أذكره أنني كنت صبياً لم أدخل بعد مرحلة الشباب. كان حباً ساذجاً لم ينته إلى غير الشوق والنسيان. كانت تربطني بها أواصر قربى. كنا نلتقي في منزلنا أو منزلها كل يوم. أحسست نحوها بشعور غامض. وجدته يدفعني إليها وفي نفس الوقت يبعدني عنها. كنت أتمناها زوجة. ولكني كنت أتهيب أن أهمس لها بكلمة حب واحدة. كان الحديث يدور بيننا قصيراً جاداً. وحركت شيئاً حلواً جميلاً في قلبي. وكانت العيون حولنا كثيرة. وكنت صبياً صغيراً لم يزل يخشى الحب... وافترقنا... ولما كبرنا التقينا مصادفة، حين جمعتنا المفاجأة المدهشة في منزل الأسرة بعد سنين طويلة من عدم اللقاء. كانت قد تزوجت وأنجبت. وفي لحظة هادئة صارحتها بما كان في نفسي نحوها وأنا صبي. ووصفت لها شعوري زمان. وضحكت هي أيضاً من هواجس نفسي. وقالت إنها كانت تبادلني المشاعر والأحاسيس نفسها في ذلك الحين. ولكن الوقت قد فات}.
كان هذا هو نوع الحب {الحيي} الذي غالباً ما كان يحتفظ به في نفسه ويخشى خروجه، إما لتأكده أنه حب من طرف واحد، أو لاستحالة اكتماله لتعلق الحبيبة بآخر، أو للخوف من الإفصاح عنه فيجرح صداقة قائمة أو معرفة وقرباً قد يضيعان بالإفصاح والصد من بعد هذا الإفصاح.
في هذا التوقيت جمع في آن بين نوعين آخرين من الحب، ومن المحبوبات، الحب الرزين الذي تمثله فتاة {المعادي} والحب الثائر الذي تمثله فتاة {الكازينو}، الأولى كما تعرف فتحت أمامه الحياة المدنية الحديثة، يتذكر كيف تعلم الإتيكيت بالممارسة، وكيف خرج معها أول مرة وسارا في الشارع فسبقها بخطوتين كعادة الرجال مع النساء في عائلته، فتعلمه أن خطوة الرجل لا بد من أن تحاذي خطوة المرأة التي يسير معها.وكيف كان يبتعد عندما يصادفان أحد معارفها وكأنه لا يعرفها أو يخجل من ضبطه بصحبتها في الشارع أو مكان عام، فتنادي عليه بثقة وتجري تعارفاً سريعاً بينه وبين الشخص الآخر، وكأنه تقول له أنا لا أخجل من علاقتي بك، وأحبها هكذا في النور. لكنه كان يغرق في الضحك ويغرق من يحكي له حين لاحظ أن الرجال في عائلة فتاة {المعادي} يقبلون أيدي النساء كنوع من التحية، حيث يصافح الرجل المرأة برقة ثم يرفع أصابعها نحو فمه في هدوء وهو ينظر إليها ويطبع قبلة على ظهر كف اليد أو الأصابع، وعندما أراد تقليدهم لأول مرة انحنى هو إلى اليد ولم يمسك بها ويرفعها إليه، وبعد أن قبلها هم برفعها إلى جبهته كما يفعل عادة مع والده ووالدته وعمه، لكنه اكتشف الخطأ الكبير في الإتيكيت في اللحظة الأخيرة.

محاولة زواج أولى وأخيرة

استمرت علاقة كتلك، وإن خفت وهجها مع الأيام، فصارت بالنسبة إليه في حكم مستشار الشؤون الحياتية، خصوصاً أنها كانت راضية بدورها في حياته كمحفزة له على إيجاد طريقه والثبات عليه، وتعتقد أنها تسلمته شاباً تائهاً حائراً، وساعدته أن يجد طريقه وأن يعيد هيكلة حياته التي لم يكن لها معنى واضح قبل وجودها، خاصة بعد أن صارح كل منهما الآخر بأنه لا يرغب في الزواج من شريكه، تحديداً كامل الذي كان لديه موقف ضد الزواج عموماً، وكان يعتقد بحسب وصف صديقه الكاتب الصحافي يوسف الشريف، أن وجوده في الحياة مشكلة لم يصل إلى حل لها ولا يطمع في ذلك، لذلك لا يريد أن يُنجب مشاكل أخرى، وينقل عنه قوله:
- {كثيراً ما سألت نفسي عندما أصبح شبحاً محطماً.. هل أواجه شيخوختي وأنا أتوكأ على عصا؟ أم أتوكأ على زوجة؟ ولم أتردد في الإجابة: العصا}.
لكن ذلك لم يمنعه مرة وحيدة أن يفكر في الزواج، ويمضي نحوه، ولعل هذه المحاولة هي ما كرست لديه هذا المفهوم عن الزواج وجعلته قانعاً بالعصا بدلاً من الزوجة، وبالحب الفوضوي المتقلب بدلاً من الاستقرار العاطفي.
تقدم لخطبة فتاة تمت بصلة قرابة إلى الصحافي الكبير محمد التابعي، تحديداً كانت حفيدة شقيقته، وكانت صغيرة في السادسة عشرة من عمرها، جميلة ورقيقة وخجولة ومنطوية على نفسها، ووافق أهلها على الفور لأن العريس يمت لهم بصلة قرابة، وأصبح صحافياً معروفاً. لكنهم قرروا أولاً أن يستأذنوا التابعي باعتباره كبير العائلة، وكان الصحافي الكبير يصطاف في {إسطنبول} فبعثوا له ببرقية، فرد عليهم ببرقية مماثلة يقطع فيها برفضه وعدم موافقته على هذ الزواج.
مرت سنوات على هذه الواقعة لم يحاول كامل خلالها أن يسأل التابعي عن أسباب رفضه. لكن الفضول كان يستبد به، وفي مرة التقى التابعي في مصيف {رأس البر} وسط نخبة من نجوم المجتمع، فانفرد به وسأله عن أسباب رفضه بعدما تزوجت صاحبة الشأن، وصار سؤاله لا يعني محاولة مراجعة كبير العائلة في قراره، فقال التابعي:
- {أنت يا كامل مولع بالسهر طوال الليل، وتنام النهار كله. فماذا تفعل زوجتك الشابة طوال الليل، وأنت طبعاً لن تصطحبها معك في سهراتك حتى لا تقيد حريتك. كذلك أعرف أنك غيور جداً ومحافظ في ما يخص عائلتك، إذن فستتركها في المنزل وحدها، فهل تظن أن هذه هي الحياة التي تناسب فتاة جميلة وشديدة الأنفة والرقة والحساسية، وماذا تكون نتيجة زواج كهذا؟}.
صمت كامل طويلاً في حين كان يهز رأسه موافقاً على كل جملة يقولها التابعي، وقال له:
- {أصبت... ومعك كل الحق، ولكني كنت أفضل أن تكتب لي رأيك هذا فإذا اقتنعت عدلت عن الزواج وانسحبت قبل أن أتقدم}.
لكن التابعي احتج بأن كامل لم يخبره بنيته مسبقاً، ولو فعل وأبرق إليه وانسحب بعد أن تقدم، لكان الموقف أصعب، ولشعرت الفتاة الرقيقة أنه تراجع عن خطبتها لعيب فيها. وانتهى اللقاء بأن تصافيا، لكن الأمر وإن بدا في الظاهر عادياً أثر في كامل ورسخ موقفه المناهض للزواج، خصوصاً بعد أن تزوجت التي يمكن اعتبارها من نوع الحب {الحيي} وكتب عنها قصيدة يقول فيها:
- {كل ما أذكره أنا انتهينا.. وتولاني الضياع. حين أبصرت الوداع... لا تثر حولي ضجة. فلقد أصبحت زوجة}.

الحب في كازينو بديعة

ظلَّ يبحث عن الحب فلا يجده متناسباً مع ما يرسمه في خياله، لذلك تشبث بالحب {الثائر}، الذي وجده في كازينو {بديعة}. كانت فتاته، وتدعى {زهور}، من فتيات الصالة ثم راقصة في الكازينو، وكانت صديقة للراقصة الشهيرة تحية كاريوكا التي تعرف عليها كامل وصادقها وعرفت عن قصص حبه الكثير، خصوصاً وسط هذا النوع من الفتيات الذي كان يسميه الحب {الثائر} بمعنى تحرره من قيود الاصطناع، وقيود العادات والتقاليد والإتيكيت والبروتوكول. كان يشرح لشقيقه، أن ما جذبه إلى {زهور} هو عكس ما جذبه إلى فتاة {المعادي} هي على النقيض تماماً منها، بيئتها والمناخ الذي تعيش فيه، جمالها العشوائي غير المرتب اللافت والمثير بحاله، حركتها الجريئة في الصالة وانطلاقها، صفرة أصابعها من أثر السجائر، اكتناز قوامها، وقدرته على التثني. ذلك كله جعله يصف تعلقه بها بأنه {سهم صاب} فأقبل على رفقتها بإخلاص وعامين متصلين غارقاً في حب مكتمل، حتى استفاق يوماً على حقيقة محبوبته، التي من المرجح أنه شاهدها تخونه، وتتجاهله بالظهور في الصالة لتمرح مع كل من يدفع أكثر، فتركها بعدما تركت في قلبه جرحاً غائراً، لم يعرف حقيقته إلا تحية كاريوكا. ومرت سنوات وامتلكت {كازينو وصالة} وسألته تحية عنها، وربما نقلت إليه رسالة منها، فكتب فيها قصيدة العيون التي قال فيها:
- {لا وعينيك يا حبيبة روحي
.. لم أعد فيك هائماً فاستريحي
سكنت ثورتي، فصار سواء
.. أن تليني أو تجنحي للجموح
واهتدت حيرتي فسيان عندي
.. أن تبوحي بالحب أو لا تبوحي
وخيالي الذي سما بك يوماً
.. ياله اليوم من خيال كسيح
والحنان الذي غمرتك فيه
.. ضاع مني وخانني في جروحي
لا وعينيك.. ما سلوتك عمري
.. فاستريحي وحاذري أن تريحي}.


تحية كاريوكا


اسمها الحقيقي بدوية محمد علي النيداني من مواليد مدينة الإسماعيلية. بدأت بممارسة الرقص والغناء والتمثيل وهي في سن صغيرة حتى اكتشفتها الراقصة محاسن محمد، ثم تعرفت إلى بديعة مصابني وانضمت إلى فرقتها فاستعانت بها في السينما والمسرح.
بدأت شهرة الفنانة تحية كاريوكا الحقيقية عام 1940 عندما قدمت رقصة الكاريوكا العالمية في أحد عروض سليمان نجيب، وهي الرقصة التي التصقت بها بعد ذلك حتى أنها لازمت اسمها.
عرفت تحية كاريوكا بأنها آخر العظماء في تاريخ الرقص الشرقي، حيث طورت تحية أسلوبها الخاص الذي اعتمد على إعادة إنتاج الهرمونية الشرقية القديمة في الرقص، وهو الأسلوب الذي تأسس عليه مدرسة كاملة في الرقص الشرقي، في مقابلة مدرسة سامية جمال التي لجأت إلى مزج الرقص الشرقي بالرقص الغربي، فيما تطور بعد ذلك إلى حدوث خلط كبير بين أساليب الرقص الشرقي والإستربتيز (رقص تعري).
وفي منتصف الخمسينيات اعتزلت كاريوكا الرقص الشرقي، وتفرغت نهائياً للسينما، حيث شاركت في عدد ضخم من الأفلام السينمائية البارزة التي حملت بصمتها الفريدة منها: لعبة الست، شباب امرأة، خلي بالك من زوزو، وداعا بونابارت، إسكندرية كمان وكمان، قامت فيه بأداء دورها الحقيقي في حركة اعتصام أعضاء اتحاد النقابات الفنية، كما قدمت مع زوجها السابق فايز حلاوة عددا من المسرحيات الشهيرة منها روبابكيا ويحيا الوفد.
لعبت كاريوكا أيضاً دوراً سياسياً بارزاً، حيث ألقي القبض عليها أكثر من مرة بسبب نشاطها السياسي السري، حيث كانت عضواً في أكثر من تنظيم شيوعي أشهرهم تنظيم {حدتو}، وتأثراً بشخصيتها الكاريزمية كتب أكثر من كاتب ومثقف عربي الكثير من الدراسات عن تحية كاريوكا أهمها الدراسة التي كتبها المثقف الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
تزوجت تحية كاريوكا 14 مرة، وبذلك تكون صاحبة الرقم القياسي في عدد الزيجات بين الفنانات.
توفيت تحية 20 سبتمبر عام 1999 عن عمر يناهز
الـ 80 عاماً إثر تعرضها لجلطة رئوية حادة بعد عودتها من رحلة العمرة، وقد تبنت الفنانة الكبيرة بنتا صغيرة عندما كانت في السبعين من عمرها، وكانت دائما تمازح أصدقاءها بقولها إنها {أنجبت وهي في السبعين}، وقد أوصت إحدى صديقاتها المقربات بأن تتولى رعاية البنت الصغيرة بعد وفاتها.
 
. شاعر الليل (9) ... يوميات صحافي على سلّم صاحبة الجلالة



الجمعة 26 يونيو 2015 - الساعة 00:01

1435240330_33_iStock_000000923880_Medium.jpg

1435240330_47_2.jpg

1435240330_63_3.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا أمس.
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.


من العمل مصححاً إلى رئيس تحرير، امتدت رحلة كامل الشناوي في بلاط صاحبة الجلالة، بنجاحات وإخفاقات، وبتنقل بين الصحف السيارة وقتئذ، وبمعايشة واقع الصحافة في الفترة الملكية. وبعد تأسيس الجمهورية واستقرار جمال عبد الناصر في الحكم، ومن المسؤوليات التحريرية داخل الصحف، إلى التفرغ للكتابة، مروراً بالعمل محرراً ميدانياً وبرلمانياً وكاتب مقالات سياسية وساخرة.
وإلى جانب الصحافة والشعر الذي تغنى به كبار المطربين، لمعت موهبته كمحدث لبق، ومحاور بارع، وأحد الظرفاء الساخرين المشهورين في زمانه، وصاحب نكتة لا تقف عند حدود من يقولها له، لكنها تسري حتى تضحك من يعرفهم ومن لا يعرفهم حين تتداولها الألسن في كل مكان.
بدأ بصحيفة {كوكب الشرق} لصاحبها حافظ بك عوض، ثم {الوادي} لصاحبها الدكتور طه حسين، ومنها إلى {روزاليوسف} لصاحبتها السيدة فاطمة اليوسف، أشهر صانعة صحف ومجلات في زمانها، ومنها إلى {الأهرام} العريقة. حتى استقر في {أخبار اليوم} التي أسسها الشقيقان مصطفى وعلي أمين وآلت كغيرها من المؤسسات الصحافية لملكية الدولة بعد قرار تأميم الصحف بعد استقرار جمال عبد الناصر في حكم مصر.
أصبح صحافياً مشهوراً، لا بسبب موهبته في الكتابة فحسب، وإنما بسبب روحه المرحة وذكائه الاجتماعي الذي جعله منذ تلقي الدرس الأول في الصحافة على يد حافظ عوض حين قال له {الصحافة خبر} عضواً في كل {الشلل} الثقافية والفكرية والسياسية في مصر، ومتنقلاً بخفة بين الصالونات والحفلات والمنتديات، مما جعله قريباً بل صديقاً لمعظم صانعي الأخبار، سواء كانوا سياسيين أو مثقفين وأدباء وفنانين وموسيقيين.
كان جليساً لمحمد محمود باشا، زعيم حزب {الأحرار الدستوريين} الذي كان رفيقاً لسعد زغلول في الاعتقال قبل اندلاع ثورة 1919، وأحد أعضاء الوفد المصري المطالب بالاستقلال والجلاء عن الاحتلال البريطاني، وترأس الحكومة أكثر من مرة، واحتفظ في معظمها بحقيبة الداخلية، وكان واحداً من أشهر وزراء الداخلية المصريين بما عُرف عنه من انتهاجه سياسة العصا الحديدية.
كان كامل أيضاً صديقاً مقرباً جداً من حنفي محمود باشا، شقيق رئيس الوزراء. وفي الوقت نفسه كان صديقاً لمكرم عبيد باشا، السكرتير العام لحزب {الوفد}، الخصم اللدود لحزب {الأحرار الدستوريين} وبالطبع لمحمد محمود باشا. وكان على هذا النسق صديقاً لمعظم الخصوم في مجال السياسة، وعلى ذات المنوال كان في الوسط الثقافي جسراً مشتركاً بين المدارس والجبهات الثقافية والأدبية، فكان صديقاً لكل هؤلاء: جبريل تكلا باشا، وأنطون الجميل، وأحمد الصاوي محمد، والدكتور محمود عزمي، وعباس محمود العقاد، والدكتور طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعلي محمود طه، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم ناجي، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومحمد التابعي، ومحمد حسنين هيكل، ومصطفى وعلي أمين.

دروس في المهنة

ومرَّت حياته الصحافية بكثير من الدروس، كان درسها المبكر كما سبق أن {الصحافة خبر}. لكن الدكتور محمود عزمي، رئيس تحرير جريدة {روزاليوسف} اليومية في ذلك الوقت، والذي يُوصف بأنه {أبو الصحافة المعاصرة}، كان ينتقد دائماً إقحامه الأدب ولغته في السرد والنثر في سياق القصص الإخبارية والمقالات السياسية. والحقيقة أن كثرة عدد الأدباء الذين التحقوا بالصحافة للتكسب منها كان يمكن أن يعرقل تطور فنون الصحافة الحديثة في كتابة ومعالجة الأخبار والقصص الإخبارية والتحقيقات الصحافية، والمقالات السياسية، ويحيل جميعها إلى منابر للخطابة ونشر الدراسات والإبداعات الأدبية كما بدأت. حتى إن عزمي في مرة، رفض نشر مقال لكامل عن قضية عودة دستور 1923 التي كانت مطروحة وحينئذ، ووعدت وزارة نسيم باشا أكثر من مرة بإعادته، وتلكأت في ذلك، وكل مرة كانت تُحدد موعداً وتخلفه، لأن كامل افتتح مقاله ببيت قديم من الشعر كان يقول:

{كلما قلت: غداً موعدنا
... ضحكت هند وقالت: بعد غد}.

ولما رفض عزمي نشر المقال، ذهب إليه كامل مستفسراً، فقال له عزمي:
- {وما دخل هند في عودة الدستور؟}.
رد كامل مدافعاً عن أسلوبه في الكتابة:
- {هذا شعر جميل يُقرب المعنى للقراء}.
لكن عزمي كان أكثر حسماً ووضوحاً:
- {الشعر يصلح للغناء والإنشاد، ولكنه لا يصلح لمعالجة الموضوعات السياسية، ومقالك في غاية القوة والوضوح، والاستشهاد بالشعر يضعفه}.
واستمر كامل في معاندته أملاً في إقناع رئيس التحرير:
- {ولكن هذا البيت من الشعر سهل الفهم ويخدم المعنى}.
لكن عزمي استمر ثابتاً على موقفه الرافض لخلط الكتابة السياسية بالشعر:
- {نصيحتي لك ألا تستشهد في المقالات السياسية إلا بأقوال السياسيين الذين تناقشهم، أو تنتقدهم أو توجههم، وألا تعتمد إلا على المنطق والوثائق والإحصاءات}.
كان قصد محمود عزمي، رئيس تحرير {روزاليوسف} اليومية، أن الشعر والأدب يعتمدان على الخيال والبلاغة والاستعارات والمحسنات البديعية، بما قد يختلط مع ما هو مفروض في الصحافة من لغة واضحة ومباشرة في إظهار الحقائق وسرد الوقائع، وذلك قد يخلق تضارباً لدى القارئ فلا يعرف الحقيقة من الخيال، والسرد الذي يشرح الوقائع بالسرد الذي يهيم بخيال شاعر، وينطلق في هذا الخيال متأثراً بسحر اللغة وجمالها.
لكن تكوين الشاعر داخل كامل الشناوي كان أكثر تأثيراً وانتصاراً على الصحافي، لذلك لم يقتنع وحينئذ بحديث محمود عزمي، لكنه رضخ مرغماً لقرار رئيس التحرير، وحذف بيت الشعر من مقاله، وكأنه ينتزع قطعة من لحمه. وكان يعتبر ذلك اعتداء على حقه في التفكير والتعبير، لكنه لم يحاول مرة أخرى أن يمزج بين خيال الأدب وواقعية الأخبار، ولم يفكر في إعادة إنتاج التجربة بالخلط بين الشعر والكتابة السياسية المباشرة. إلا أن المؤكد أنه استوعب هذا الدرس في مسيرته المهنية، وتعلَّم أن يفصل بين فنون الكتابة التي يجيدها، كما تعلم أيضاً أن هذا الخلط المحرم بين فنون الكتابة ليس مقدساً تماماً لكن ثمة موضوعات لا تقبله، وموضوعات تقبله، وضبط ذلك مهارة خاصة امتلكها كامل وبرع فيها بعد ذلك.
استفاد كامل من هذا الدرس استفادة كبرى، وكان مقاله اليومي في جريدة {روزاليوسف} نموذجاً لفن العمود الصحافي، ويمتاز باللغة المباشرة الواضحة، والدخول فوراً في الموضوع من دون إسهاب ووصف ومقدمات، واستخدام العبارات المكثفة بتركيز بالغ و{تلغرافية} مختصرة ولغة قوية وبمعان واضحة تذهب إلى هدفها ويظهر مقصدها دون مواربة أو رمزية، أو لعب بالألفاظ وبديع الكلام، إضافة إلى الدقة في استخدام الفواصل والنقط وعلامات الاستفهام والتعجب وسائر علامات الترقيم، مما جعل كتاباته الصحافية مميزة تماماً وتشق لنفسها اتجاهاً خاصاً ومختلفاً عن الكتابات الأدبية والساخرة سواء كانت شعراً أم نثراً.
وبينما كان يتألق ككاتب في {روزاليوسف}، توطدت أواصر الصداقة بينه وبين أنطون الجميل، رئيس تحرير {الأهرام}، لأن كامل كان مشاركاً ومتفاعلاً في ندوة {الجميل} الأدبية التي كان يعقدها في {الأهرام}، وحدث أن اضطرت السيدة فاطمة اليوسف إلى إيقاف صدور جريدة {روزاليوسف} اليومية التي كان يكتب فيها كامل مقالاته منذ أغلقت {الوادي} واشترط عباس العقاد أن يكتب إلى جواره.
اكتفت فاطمة اليوسف بإصدار {روزاليوسف} المجلة، وكانت أزمة الجريدة ترجع إلى تغيير في سياساتها التحريرية التي كانت مؤيدة لحزب {الوفد} وزعيمه مصطفى النحاس باشا.لكنها بدأت معارضة النحاس وسياساته، وتوجيه انتقادات لاذعة إلى زعيم الأغلبية صاحب الشعبية الكبيرة، فما كان من حزب {الوفد} إلا أن استغل شعبيته الجارفة، وأصدر بياناً هاجم فيه جريدة {روزاليوسف} ونفى علاقته بها وقال لأنصاره إنها لا تعبر عن الحزب وتتجنى عليه، داعياً ضمنياً إلى مقاطعتها. ولم تمض أيام بعد هذا البيان، إلا وبدأت الخسائر المالية تؤثر في الجريدة، وانخفض توزيعها من نحو 80 ألف نسخة يومياً إلى أقل من 8 آلاف نسخة، فتوقفت عن الصدور لعجزها عن دفع تكاليف إصدارها ورواتب محرريها وكُتابها.
وبعدها بدأ مسيرته الجديدة مع صحيفة {الأهرام} حين طلب منه صديقه الجديد أنطون الجميل الالتحاق
بـ {الأهرام}، واستدعاه بمجرد غلق {روزاليوسف}، وخصص له غرفة بجوار مكتبه، ليكتب فيها ويستقبل ضيوفه، ريثما يدبر له عملاً مناسباً في {الأهرام}. حتى جرى تدبير هذا العمل، كانت الغرفة الصغيرة تتحوَّل إلى منتدى يقصده الصحافيون والأدباء للاستمتاع بأحاديثه ورواياته وسخريته ونكاته.
بدأ كامل الشناوي كتابة باب {خواطر حرة} في الأهرام، بالتوازي مع العمل في سكرتارية التحرير، حتى كلَّفه أنطون الجميل بالعمل محرراً برلمانياً مع تشكيل مجلس النواب الجديد في منتصف عام 1937، فصار المندوب البرلماني لجريدة الأهرام.
مكَّنه عمله في البرلمان من مد جسور التعارف مع جميع السياسيين والأحزاب في وقت كان البرلمان يُشكل الحكومة، ويمثل محوراً حقيقياً للحياة السياسية في مصر. وبات يحرر الصفحة البرلمانية في الأهرام، وعميداً للمحررين البرلمانيين، وذاع صيته وصار صديقاً للوزراء وجليساً لرئيس الوزراء محمد محمود باشا، صاحب القبضة الحديدية والستار الحديدية على خططه وقراراته.

بين الصداقة والصحافة

ولما علم جبريل تقلا باشا، صاحب {الأهرام}، بهذه الصداقة التي باتت أمراً معروفاً بين محرره كامل الشناوي ورئيس الوزراء محمد محمود باشا، وأن كامل يسهر كل ليلة في قصر صديقه المهم، استدعاه وهو يتعجب ويضرب كفاً بكف ويصرخ فيه:
- {وماذا تفعل بهذه الصداقة؟ ولماذا لا تحاول أن تحصل على الأخبار أولاً بأول؟}.
لم يكن الأمر مجرد تساؤل من صاحب الجريدة بقدر ما كان تكليفاً بالعمل، وهو كان يعرف أن وجوده في قصر محمد محمود وسط نخبة من صناع الأخبار في البلد، ميزة كبرى، خصوصاً أن الحكام والسياسيين والوزراء في جلساتهم الخاصة وسهراتهم العادية ودردشاتهم التقليدية يحكون أحياناً عن بعض الأسرار. وكان السؤال الصعب الذي يواجه كامل، وقد كسب ثقة هؤلاء ودخل في أوساطهم، ما الذي ينشره، وما الذي لا ينشره؟ حتى تظل هذه العلاقات ممتدة وقوية.
لكنه هذه المرة تعلم الدرس مباشرة، ومن محمد محمود باشا، رئيس الوزراء، حين كان كامل يلبي دعوة عشاء في قصر الباشا، وامتدت الدردشة إلى الإفصاح عن زيارة سرية سيقوم بها الوزير أمين عثمان إلى القدس، حيث سيعقد، وفي سرية تامة، اجتماعاً مع مسؤول بريطاني رفيع، في مفاوضات على مستوى عال بعيداً عن أعين الصحافيين، كذلك بعيداً عن أعين البرلمان، بما يعني أنها مفاوضات تتم بعيداً عن أعين الشعب.
لم يمض سوى الليل، وكان الخبر في صباح اليوم التالي على مكتب جبريل تقلا باشا في جريدة {الأهرام}، فأعاد الباشا صياغة الخبر ثم نشره منسوباً إلى مصادر بريطانية ومراسل {الأهرام} في {القدس}، وأحدث الخبر دوياً بالغاً سياسياً وشعبياً، خصوصاً مع السمعة التي كانت تلاحق الوزير أمين عثمان، الذي كان متهماً بموالاة السلطات الإنكليزية، ويعتقد أن العلاقة بين مصر وبريطانيا علاقة {زواج كاثوليكي} ليس فيه طلاق، وهو الأمر الذي كان مفجراً للغضب بعد نشر الخبر، وتخيل الناس أن رجلاً هذه قناعاته وولاءاته، بالضرورة لن يكون مفاوضاً نداً للإنكليز، وسيضيع القضية الوطنية ويمنح الإنكليز مزيداً من التمكين في مصر.
لكن محمد محمود باشا يعرف بذكائه، أن صديقه كامل الشناوي هو الذي سرب الخبر وليس مراسل القدس، كما نشرت صحيفة {الأهرام}، فلم يعنفه أو يعاتبه، وإنما قرر أن يعطيه درساً لا يُنسى.
في إحدى دردشات المساء في قصر رئيس الوزراء، تحدث محمد محمود باشا أن جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في حكومة الحزب النازي الألماني التي يتزعمها أدولف هتلر، يزور القاهرة سراً هذه الأيام والتقى رئيس الحكومة وعدداً من المسؤولين، وتستضيفه الحكومة في فندق {سميراميس}، وأن المباحثات بين الجانبين تطرقت إلى موضوعات بالغة الخطورة تخص العلاقات بين مصر وألمانيا، ومستقبل الاحتلال البريطاني لمصر.
كالعادة أسرع كامل الشناوي إلى مكتب صاحب {الأهرام} ليبلغه الخبر الخطير جداً، وتحمس جبريل تقلا باشا، لكن لخطورة الخبر، والعداء بين بريطانيا وألمانيا، اتصل بمندوبيه في المطار وبمصادره في البوليس، ومصادر في الحكومة، فلم يجد للخبر أي أثر، فسارع بالاتصال بفندق {سميراميس} فلم يجد أي نزيل ألماني في الفندق، وأكد له مندوب المطار أن الرجل لم يصل إلى مصر جواً، كذلك أكد المسؤولون في الموانئ، ورجال البوليس الذين تربطهم به صلات وثيقة... الجميع قال إن غوبلز لم يأت إلى القاهرة، فلم يجد تقلا باشا حلاً للخلاص من هذه الحيرة سوى الاتصال برئيس الوزراء نفسه، وبمجرد أن سمع محمد محمود باشا السؤال حتى انفجر ضاحكاً وقال:
- {أردت أن يتعلم كامل الشناوي الفارق بين الصداقة والصحافة}.
ولم يكن الدرس فقط في رسالة الباشا رئيس الوزراء التي جعلت قصصاً كثيرة لمشاهير وأخباراً خطيرة تولد أمامه ولا ينشر عنها شيئاً، وإنما درس الحذر الذي ضربه تقلا باشا بجهود التوثق من الخبر الخطير، حتى لو كان الذي جلبه صديق رئيس الوزراء ومن رئيس الوزراء شخصياً، ولا مجال للحذر. بقي من هذه الواقعة في ذهن كامل الشناوي أن الحذر في الصحافة يعني الدقة والتوثيق، ويعني التأكد من الخبر من أكثر من مصدر، وعدم الاكتفاء بمصدر واحد حتى لو كان رئيس الوزراء شخصياً.

الأهرام... وعائلة تقلا

يظل شعار الأهرامات الثلاثة المميز لأكبر الصحف في الشرق الأوسط شاهداً على إنجاز الأخوين سليم وبشارة تقلا، فما إن يمسك قارئ بجريدة {الأهرام} أو يمر من أمام مبناها العملاق بشارع الصحافة حتى يتذكرها على الفور لأنهما أول من أصدر العدد الأول من جريدة {الأهرام} في 5 أغسطس 1876 في المنشية بالإسكندرية، لتعلن أكبر مدرسة صحافية تخرَّج فيها رواد القلم.
كان سليم تقلا شاباً في السادسة والعشرين من عمره عندما استقرت به الحال في الإسكندرية عام 1874 قادماً من بلده لبنان، وتحديداً من {كفر شيما}، تاركاً عمله مدرساً للغة العربية في مدرسة البطريركية، حاملاً بين جنباته حلم إنشاء مطبعة تمهيدًا لإصدار جريدة {الأهرام}، بعدما سمع عن النهضة التي يسعى الخديوِ إسماعيل إلى تحقيقها في وادي النيل آنذاك، ليخطو مع أخيه الذي لحق به أولى خطوات حلمهما المشترك بإنشاء المطبعة التي تخصصت في البداية في طبع المطبوعات الأدبية والتجارية.
وبعد مرور أشهر عدة تقدم سليم بطلب للدولة للسماح له بإصدار جريدة {الأهرام}، التي كان مخططاً لها الابتعاد عن القضايا السياسية، ليصبح الحلم حقيقة بإصدار العدد الأول في 5 أغسطس 1876، عبر جريدة أسبوعية، {كل سبت}، مكونة من أربع صفحات.
واختص سليم تقلا بتحرير المقالات المختلفة وإدارة الجريدة من الناحية الأدبية، تاركاً لأخيه بشارة الترجمة عن الصحف الأجنبية، والاتصال بالقنصليات والوكالات المسؤولة عن جمع الأخبار، فضلاً عن إدارة الجريدة.
لكن لم يمر وقت طويل حتى حنثت {الأهرام} بالوعد الذي قطعته على نفسها، فتحولت إلى نقد الخديو إسماعيل، الذي أصدر قراراً بإيقافها، لتستمر على هذه الحال حتى خلفه الخديو توفيق في الحكم.
وبعد خمس سنوات من صدورها تم تحويلها إلى جريدة يومية، قبل أن يتوفى سليم عام 1892 من دون أن يتجاوز الثالثة والأربعين من عمره.
أما بشارة تقلا فكان الأخ الأصغر لسليم ولد بعده بثلاث سنوات، لكن لم يكن غريباً أن يسير على خطاه، فعمل مثله في التدريس قبل أن يلحق به في القاهرة ليشاركه حلمه، حتى تم تأسيس {الأهرام} وتحويلها إلى جريدة يومية.
سلسلة الحوارات التي أجراها بشارة مع رجال السياسة في أوروبا عام 1884 كانت بداية لتأسيس فن {الحوار الصحافي}، إضافة إلى أنه أكمل بعد رحيل أخيه مسيرته في تطوير {الأهرام}، ونقل مقرها إلى القاهرة في 1899، إلا أن القدر لم يمهله كثيراً فتٌوفي بعدها بعامين فقط، لتكمل زوجته وابنه مسيرة الأخوين.
 
. شاعر الليل (10) ... كامل بك والملك فاروق وقلب كاميليا



السبت 27 يونيو 2015 - الساعة 00:01
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا بالأمس فقط... كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435320269_13_Untitled-1.jpg

1435320269_26_4.jpg

1435320269_39_3.jpg

1435320269_53_1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
لم يكن درس محمد محمود باشا، رئيس الوزراء الذي سعى إلى أن يتعلَّم كامل المسافة بين الصحافة والصداقة، هو الدرس الوحيد الذي تلقاه خلال مسيرته الصحافية وخلال وجوده في {الأهرام} تحديداً، فقد كان رئيس التحرير أنطوان الجميل مُعلماً آخر، بما عُرف عنه من انحيازه إلى نمط أخلاقي في ممارسة المهنة، وتركيزه على الدقة والأمانة، والاعتداد بكرامة الصحافي والجريدة.
فحدث أن عرف كامل من جلساته الخاصة أن عبد العزيز فهمي باشا يعتكف في داره بسبب مرضه، فسأله أنطوان الجميل:
- {هل استأذنته في النشر؟}.
وكان رد كامل:
- {أنا واثق من صحة الخبر}.
لكن أنطوان قال له ما تعلمه بقية رحلته الصحافية:
- {هذا خبر شخصي... لا ينبغي نشره إلا باستئذان صاحبه فقد يتسبب نشر الخبر على الأقل في أن يزوره أصدقاؤه في داره للاطمئنان وهو غير مستعد لاستقبالهم، وربما أزعجته هذه الزيارات وضاعفت آلامه}.
كان هذا الدرس الأهم، وكان مما قاله أنطوان الجميل الكثير مما يستحق أن يبقى درساً لكل الأجيال الصحافية، خصوصاً قوله الجامع المانع:
- {الصحافة تتطلب من الصحافي عقل فيلسوف، وقلب شاعر، وضمير قاض، ولا مانع بعد ذلك أن يكون الصحافي صاحب رأي}.
كان أنطوان الجميل يؤثر الأخلاق على الكفاءة، وعلى عكس محمود عزمي، رئيس تحرير {روزاليوسف} اليومية، كان يحب الأشعار والأمثال والكلمات المأثورة، وكثيراً ما كان يبدأ مقالات بجملة مأثورة، أو حكمة معروفة، أو أسطورة قديمة، أو بضعة أبيات من الشعر العربي أو المترجم عن الفرنسية أو الإنكليزية، لكنه في الوقت نفسه كان يختار الكلمة والمعنى بعناية، وإذا تناول موضوعاً سياسياً يعرض وجهات النظر المختلفة فيه بدقة وأمانة، ويترك القارئ ينحاز إلى ما يشاء من حلول وآراء ووجهات نظر، من دون فرض وصاية عليه. وبحسب كلام كامل الشناوي لم تكن الصحافة عند أنطوان الجميل سبقاً وانفراداً فقط، وإنما دقة وأمانة وحرص على تجنب التهييج والإثارة، وكان يتحرى الأخبار بعدما يتلقاها من الصحافيين، ويتحسب لتداعيات نشره على المصلحة العامة أو خصوصية الأشخاص، ويمتنع عن نشر أي خبر مهما كانت أهميته، إن كان الأذى من ورائه أكبر من النفع، وكان يكره العنف والحدة في النقاش والجدل.

رئيس التحرير

تعلم في مدرسة {الأهرام} القديمة فنون الصحافة، من الكتابة الصحافية، إلى التعامل مع مصادر الأخبار، إلى أخلاقيات العمل الصحافي، وامتلأ أرشيفه في {الأهرام} بالقصص المهمة، ما بين الأخبار والتحقيقات والمقالات والدراسات الأدبية، والأحاديث الصحافية التي برع فيها وذاع صيته، وأجراها مع نجوم المجتمع في شتى المجالات.
وفي عام 1938، تولى مصطفى أمين رئاسة تحرير مجلة {آخر ساعة}، فاختار كامل الشناوي ليكون المحرر السياسي للمجلة إلى جانب عمله في {الأهرام}.
وفي عام 1942، تولى مصطفى أمين أيضاً رئاسة تحرير مجلة {الاثنين} وكتب فيها كامل عموداً شيقاً كل أسبوع بعنوان {سمعتهم يقولون}، زاخر بالقصص الإنسانية عن مشاهير السياسة والأدب والفنون. وفي عام 1944 اختاره مصطفى أمين ليكون رئيساً لتحرير مجلة {آخر ساعة} قبل أن يكمل عامه الرابع والثلاثين، وبعد صدور {أخبار اليوم} كان ألمع كتابها إلى جانب رئاسته لتحرير {آخر ساعة}، وفي عام 1949 تم اختياره رئيساً لتحرير جريدة {المسائية} المقربة التي قفزت في عهده لتصبح الجريدة المسائية الأولى، وتطغى على جريدة {البلاغ} التي كانت تتصدر التوزيع المسائي. ولما كانت كلتا الجريدتين تتبعان حزب {الوفد}، قرر الأخير إغلاق {المسائية} ليحافظ على {البلاغ}، لأن كامل لم يكن وفدياً وكان عضواً في الحزب {الوطني}، رغم تعاطفه في كثير من المواقف مع {الوفد} واعترافه بتأثيره كصاحب الأغلبية، ودلالة على ذلك، فلم يُعرف عن كامل الشناوي أنه كتب شعراً سياسياً مباشراً، ورغم صداقته الوطيدة لمحمد محمود باشا، رئيس الوزراء، إلا أنه كتب قصيدة استثنائية ووحيدة في مديح مصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد والأمة، رغم أن علاقته بالنحاس لم تكن كعلاقته بمحمد محمود ورغم انزعاج رئيس الحكومة القادم من حزب {الأحرار الدستوريين} من تصرف صديقه المقرب، قال كامل الشناوي قولاً منصفاً في حق النحاس:
- {كل ما هنالك أنه يستحق شعري .. إذا كانت الصداقة لرئيس الوزراء، فالشعر يجب أن يكون لزعيم الأغلبية}.
لكنه رغم وصوله إلى منصب رئيس التحرير، ظل تكوينه كصحافي أقل حضوراً وشهرة من موهبته كشاعر معروف ومحدث ساخر من ظرفاء عصره، وكانت مشكلته مع الصحافة محاولاتها إجباره على الالتزام بمواعيد عمل محددة ومواعيد كتابة محددة. وهو كانت مشكلته أنه يحب أن يكتب في الأوقات التي يريد أن يكتب فيها.
حتى إن مصطفى أمين قال عن ذلك:
- {كنت دائم الخلاف مع كامل الشناوي لأنه قليل الإنتاج، فقد كان المقال مساحة العامود، يستغرق منه عدة أيام، رغم أنه محدث وراوية ومبدع وحكاء وسط الناس، وكل ما ينطق به يصلح للكتابة، حتى أني كثيراً ما فكرت في أن أستأجر شخصاً يمشي معه ويسجل ما يقوله لأنشره موقعاً باسم كامل الشناوي}.
ويقول عنه الكاتب يوسف الشريف:
- {كان كامل الشناوي يجمع في شخصه وقلمه وفكره بين جيل رائد للصحافة الحديثة، والجيل الذي دخل عتبات الصحافة صغيراً ولمع وتطور مع تطورها، الأول كان قاعدة البناء، والثاني كان سند البناء، وهو كان عنصر مزج وإدماج وجسر التقاء بين العنصرين، ومركز إشعاع كشاعر لامع بين الشعراء، وصحافياً من أبرز الصحافيين وأكثرهم نفوذاً، وكان أيضاً فناناً بين الأوساط الفنية، ولم يكن الطريق ممهداً أمامه، لكنه تمكن بثقافته وذكائه من أن يستفيد من ممارساته وتجاربه في الصحافة، وأن يتخطى العقبات واحدة تلو الأخرى}.
هذه التجربة العريضة في الصحافة يحكي كامل عن بعض محطاتها ومواقفها ودروسها فيقول بحسب ما نقل عنه يوسف الشريف:
- {في عام 1935 كنت محرراً في روزاليوسف، ولم يكن لي عمل محدد، أحياناً أساهم في تحرير الصفحة الأدبية وصفحة الشباب، وأحياناً أكتب التعليقات الساخرة الخفيفة، وأحياناً أحرر باباً (من أدب القرآن )، وهو باب كنا نستخدمه في معارضة الحزب الذي كانت الجريدة تنتمي إليه، دون أن نقول إننا معارضون، فمثلاً كان رئيس الحزب يدافع عن وجهة نظر وزراء حزبه في إرجاء عودة الدستور، فننشر أقواله ونضعها في إطار نكتب في صدره الآية الكريمة (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)... وكنت في ذلك الحين لا أكتب مقالات تحمل اسمي، كنت أدخر ظهور الاسم لموضوعات جديدة وأحاديث فيها شيء جديد، وفكرت أن أنشر عدة أحاديث مع بعض رجال السياسة اللامعين، واخترت للحديث الأول حافظ رمضان باشا، رئيس الحزب الوطنى، وكان إنساناً ذكياً واسع الثقافة، وفي الوقت نفسه برلمانياً خطيراً.. وذهبت إليه في بيته ووجهت إليه أسئلتي ودونت إجاباته بأمانة ودقة، وحملت الحديث إلى الأستاذ محمود عزمي والفرحة تكاد تقفز على ملامحي. لكن رئيس التحرير قال لي إن ذلك ليس حديثاً صحافياً مع حافظ رمضان لكنه مقال بقلم حافظ رمضان! وأضاف: أريد حديثاً يقوم على الحركة والأخذ والجذب بينك وبين من تحاوره، ووصفاً لتلقيه السؤال، وكيف يبدو وهو يجيب، ثم ألقى الأوراق في درج مكتبه رافضاً نشرها... للحظات شعرت بالفشل، وفكرت أن أترك مهنة الصحافة وألا أجرب حظي مع الأحاديث الصحافية مرة أخرى. لكنني عدت وتأملت ملاحظات رئيس التحرير، وفكرت في ضرورة البدء على هداها، وبالفعل دخلت التجربة مرة أخرى وأجريت أحاديث بطريقة رئيس التحرير، ونجحت للدرجة التي كان الأستاذ محمود عزمي يدرس أحاديثي على طلاب معهد الصحافة آنذاك... وكان الفارق بين أن أتراجع وبين إقدامي على التجربة، هو أنني عرفت لماذا فشلت، ودفعني إحساسي بالفشل إلى إعادة التجربة}.
هذا الدرس تحديداً جعل كامل الشناوي أفضل من يجري الأحاديث الصحافية، وأشهر من يجيد إدارتها وكتابتها، واستمر صيته في هذا المجال ذائعاً حتى بعد الثورة وزوال الملكية، حين كان أول حوار صحافي للزعيم جمال عبد الناصر في الصحافة العربية والعالمية أجراه كامل الشناوي معه في مايو من عام 1956، على نحو ما سنعرض في الحلقات المقبلة.

من محرر برلماني إلى نائب

في عام 1944، شكَّل أحمد ماهر باشا الحكومة، وكانت هذه أول مرة يصبح فيها أحد المنشقين عن حزب {الوفد} رئيساً للوزراء، وكانت مناسبة أقام لها أحمد ماهر باشا حفلاً ساهراً في بيته، أحيته السيدة أم كلثوم، وحضره الملك فاروق، وكان أول تعارف بين الملك الشاب ورئيس التحرير الشاب، وكان الملك سمع عن كامل الشناوي وقرأ له شعراً ونثراً وسمع عن مهاراته في السخرية اللاذعة وقدرته على تقليد الأشخاص، فطلب أن يجلس إليه كامل وكان مدعواً في الحفل نفسه، وأعجب الملك فاروق بحديثه الضاحك الودود إعجاباً كبيراً وصار بينما تعارف ودود.
ولما علم الملك أن ثمة اتجاهاً إلى ترشيح كامل لعضوية مجلس النواب، أمر بأن يكون ترشيحه في دائرة {الزعفران} بمنطقة {كفر الشيخ} التي كانت تابعة وقتها لمديرية {الغربية}، وكانت الدائرة تتبع الأوقاف الخاصة الملكية، بمعنى أن الملك كان يملك فيها الأرض، وكل الناخبين في الدائرة كانوا من مزارعي أرضه أو موظفي دائرته. ما يعني أن الملك فاروق أراد أن ينجح كامل، وهو ما حدث بالفعل حيث نجح نجاحاً ساحقاً، وصار نائباً للشعب وصال وجال في مجلس النواب مدافعاً عن قضايا الحرية والدستور والانتصار للصحافة الحرة.
وحدث أن قرر الملك فاروق الإنعام على بعض الصحافيين الكبار برتبة {البكوية} بعدما صاروا جزءاً من الفئات الأكثر شهرة ونفوذاً في المجتمع بعد سنوات من الاحتقار الاجتماعي لمهنة {الجورنالجى} الذي كان في عهد أجداد فاروق لا تُقبل شهاداتهم أمام المحاكم، ويتذكر الجميع كيف حصل الشيخ السادات أحد كبار مشايخ الأزهر والأشراف على حكم من المحكمة الشرعية بتطليق ابنته من الصحافي الرائد الشيخ علي يوسف باعتباره {جورنالجي}، وثمة انعدام تكافؤ بينه وبين بنت الشيخ السادات.
تغير هذا الأمر في السنوات اللاحقة مع تطور الصحافة والاعتماد عليها في الحصول على المعلومات والأخبار، ودخول المثقفين والأدباء الكبار عالمها، فصار الصحافي شخصاً ذا حيثية اجتماعية كبرى، ومع هذا الصعود الاجتماعي، منح الملك فاروق رتبة {البكوية} لعشرين صحافياً كان من بينهم كامل الشناوي، الذي صار كامل بك، وكان يتندر برتبته تلك، التي لم تنجح في تغيير عاداته في السهر في المقاهي، ويدخل مقهى {الأنجلو} ويصيح في الزبائن بود ساخر:
- {وسع يا أفندي أنت وهو لسعادة البيه}.
ورغم الإنعام عليه بهذه الرتبة فإنه لم يوال القصر أو يدفع ثمن هذا الإنعام من مواقفه وقناعته، ولم يشتريه القصر بـ{البكوية}، والمواقف كثيرة، ولعل أبرزها حين حاول الملك فاروق أن يمرر تشريعات مقيدة لحرية الصحافة في مجلس النواب، فتصدى له الصحافيون في معركة كبرى، كان قلم كامل الشناوي فيها أبرز هذه الأقلام التي دافعت عن حرية الصحافة وتصدت لمحاولات التغول عليها حتى انتصرت حرية الصحافة.
كاميليا.. والحب التائه

إلا أن العلاقة بين كامل والملك فاروق لم تقتصر على الصحافة والسياسة، وإنما امتدت إلى الحب الذي جمع الرجلين في هوى امرأة واحدة.
كانت أشهر قصة حب في حياته مع الفنانة كاميليا الممثلة الشهيرة التي أدت أدواراً كثيرة في السينما ثم ماتت بشكل غامض، وقيل إنها انتحرت، وكانت تُسمى بمارلين مونرو المصرية، وكانت فاتنة ذات جمال صارخ، ومعروف كذلك أنها عشيقة الملك فاروق.
أحبها كامل حباً كبيراً، وكانت أم كلثوم وتوفيق الحكيم وفكري أباظة وعبد الوهاب شهوداً على هذا الحب، وكانت قصته معها على كل لسان، وشعره عنها يفضح هيامه بها، قبل أن يفضحه جمالها اللافت جداً في كل مكان يجلسان فيه.
اصطحبها معه في حفل عيد ميلاد، فداعبته أم كلثوم واتهمته أنه متحيز إلى كاميليا صحافياً ويحابيها باهتمامه، وبادر كامل بالاعتراف بصحة الاهتمام، فطلبت منه أم كلثوم أن يثبت هواه بأن يقول فيها شعراً الآن، ورد عبد الوهاب بأنه مستعد فوراً لتلحين أي شعر يقوله كامل، وبالطبع تعهدت أم كلثوم أن تغنيه، فكتب كامل من وحي اللحظة:

- {لست أقوى على هواك ومالي
.. أمل فيك.. فارفقي بخيالي
إن بعض الجمال يذهل قلبي
.. عن ضلوعي.. فكيف كل الجمال}

ولم تكن كاميليا تفهم العربية جيداً وقتها، فكان توفيق الحكيم يترجم لها الأبيات بالفرنسية التي تجيدها، ولحن عبد الوهاب القصيدة، وغنتها أم كلثوم، وكان أول غناء لها من كلمات كامل.
لكنه والملك فاروق كانت لهما علاقة بكاميليا في ذات الوقت، أو في أوقات متقاربة، وهو ما اكتشفها كامل لاحقاً قبل فراقهما، وظهر في قصيدته الأخيرة التي كتبها فيها، معبراً عن جرح كبريائه وإحساسه بخطر أن يكون منافساً لفاروق في عشق امرأة فاتنة مثلها قد تجعل بينه وبين الملك خصومة لا يحمد عقباها، فكتب يقول:

- {يا كبريائي لقد كلفتني خطرا
.. فيه المنايا مطلات بأنياب
تمرد الليل لا أغفو به أبداً
... حتى أرى الفجر مسفوحاً على بابي}

ولم يمض سوى وقت قصير على هذا الفراق حتى توفيت الفاتنة الصغيرة في ظروف غامضة في عز تألقها وبعد عمر قصير جداً.

كاميليا

إحدى أشهر الفنانات اللاتي نسجت حولها الكثير من الأقاويل، وحول ارتباطها بالملك فاروق الأول، آخر ملوك مصر وهي علاقة لا يزال يحيطها الغموض.
الفنانة كاميليا واسمها الحقيقي ليليان ليفي كوهين فيكتور ولدت في 13 ديسمبر عام 1919م في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة الإسكندرية، وهي ذات أصول أجنبية اختلف حولها الكثيرون، فثمة من يرى أنها ذات أصول إيطالية، فيما يعتقد البعض أنها ذات أصول يهودية.
اتهمها البعض أنها كانت عميلة يهودية ارتبطت بالموساد الإسرائيلي، وقد وضعتها الظروف في طريق الملك فاروق الذي كان معروفاً عنه ولعه بالنساء الجميلات في فترة من الفترات.
مسألة ارتباطها بالموساد فسرها البعض بأنها مؤامرة من الملك فاروق للتخلص منها بعدما ملّ الحياة معها حتى اتهم بأنه دبر حادثة الطائرة التي قتلت فيها والتي سقطت في مدينة الدلنجات بمحافظة البحيرة، لأن سلاح الطيران الملكي لم يكلف بالبحث عن الطائرة المفقودة داخل الأراضي المصرية.
الفنانة كاميليا كانت قد تعرفت إلى المخرج أحمد سالم في صيف 1946 بفندق {وندسور} عندما طلبت منه أن يمكنها من مشاهدة العرض الخاص لفيلمه الجديد {الماضي والمجهول}.
علاقة كاميليا بالملك فاروق بدأت عندما رأها ذات مرة في إحدى الحفلات بكازينو {حليمة بالاس}، وكانت كاميليا تشعر بجمالها وبدأت مطاردات الملك لها حتى توطدت العلاقة بينهما لدرجة أنها علمت بقرار طلاقه من الملكة فريدة قبل إعلانه رسمياً.
ثمة من يرى أن ما حدث جعلها على مقربة من الملك والقصر ومجتمع رجال السياسة والمال معتمدة على جمالها وأنوثتها مما وفر لها الأجواء لتصبح عميلة للموساد وتسرب لهم أخبار الملك والسراي، خصوصاً في فترة حرب فلسطين.
أما عن حادثة الطائرة TWA فقد كانت كاميليا تشعر بآلام في معدتها بشكل متكرر وأرادت السفر إلى سويسرا لتعرض نفسها على الأطباء هناك، وطلبت حجز مكان لها على هذه الطائرة. ولم يكن يتوافر مكان لها ولكن موظف الشركة وعدها بأن يبذل قصارى جهده، خصوصاً بعدما عرف بمرضها.
وفي المساء، اتصل بها وأخبرها عن تنازل أحد الركاب المصريين عن مكانه وتذكرته لأسباب مفاجئة وكان هذا الرجل هو الكاتب الصحافي أنيس منصور. وبالفعل، فرحت كاميليا وعقدت العزم على السفر وكان ذلك في يوم 31 أغسطس عام 1950م حيث سقطت الطائرة تقريباً بعد إقلاعها من مطار القاهرة في مدينة الدلنجات بمحافظة البحيرة ولم يعثر إلا على فردة حذاء الساتان الأخضر بلون فستان كانت ترتديه كاميليا وعمرها لا يتجاوز الواحدة والثلاثين.
قدمت كاميليا الكثير من الأفلام منها «بابا عريس»، «آخر كدبة»، «العقل زينة»، «المليونير»، «الطريق إلى القاهرة»، «صاحبة الملاليم»، «القناع الأحمر».
 
. شاعر الليل (11): حوار مع الزعيم جمال عبد الناصر



الأحد 28 يونيو 2015 - الساعة 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا بالأمس فقط...
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435412616_23_4-2.jpg

1435412615_73_1.jpg

1435412615_9_3.jpg

1435412616_07_Untitled-1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
هل كان كامل الشناوي مؤيداً لثورة يوليو؟

يجيب الكاتب يوسف الشريف عن السؤال بقول {نعم} صريحة، لكنه لا يرجع ذلك إلى قناعته بالضباط الأحرار، أو برنامجهم المعلن، وإنما لأنه في هذه المرحلة كان يؤمن بحتمية التغيير، فكان مع الثورة في السعي إلى التغيير، ومعها في مواجهة الاستعمار والظلم والجهل، ومعها في نزعتها القومية واتجاهها العروبي. وقد سبق له أن خاض معارك كبرى رسخت وضعه ككاتب وطني شريف، ربما كانت أشهرها معارضته الواضحة الجريئة لمعاهدة {صدقي – بيفن} التي عقدها رئيس الوزراء القوي إسماعيل صدقي مع إنكلترا. ورغم أنها كانت تحقق الجلاء نظرياً، فإنها كانت تربط مصر في فلك بريطانيا، وتضمها إلى حلف معها، وتسمح للقوات البريطانية بالتدخل في مصر فوراً حال شعورها بتهديد لمصر أو للمجرى الملاحي في قناة السويس.
وكتب كامل تحت عنوان {ألعنها.. ولا أوقعها} مهاجماً المعاهدة وصدقي، رغم تأييد الجريدة التي يكتب فيها لصدقي، لكن ذلك لم يمنعه من دعوة الشعب إلى رفض هذه المعاهدة.

الثورة...

وعندما قامت ثورة يوليو 1952، كان كامل قد عاد إلى «الأهرام» رئيساً لقسم الأخبار، وبدا للوهلة الأولى أن علاقته بضباط يوليو فاترة، وكان الظاهر منها ما بدا من كراهية يكنها له الصاغ صلاح سالم الذي كان وزيراً للإرشاد في حكومة الثورة الأولى، بسبب اعتبار سالم أن حصوله على البكوية وارتباطه بباشاوات ورؤساء حكومات العهد الملكي تحسباه على النظام القديم.
كان مجلس قيادة الثورة أسس جريدة {الجمهورية}، وتولى كامل الشناوي رئاسة تحريرها بإشراف من الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان من الضباط الأحرار وتربطه علاقات وثيقة بالكتاب والمثقفين. لكن صلاح سالم صار بعد ذلك رئيساً لمجلس الإدارة، وفكر في الإطاحة بـكامل أو اختيار شخص آخر ليكون رئيساً للتحرير، فيحجم يده في الجريدة. عرف كامل بالأمر، ورشح الدكتور طه حسين مسترجعاً العلاقة القديمة منذ أيام جريدة «الوادي».وعندما استقرت الأوضاع، تبددت شكوك وهواجس صلاح سالم وصارت بينهما صداقة. بل إن كامل كتب الشعر الذي يتماشى مع برنامج ثورة يوليو، فغنى به عبد الوهاب قصيدته المهمة: «كنت في صمتك مرغم»، وفيها يقول:

كنت في صمتك مرغم
..كنت في حبك مكره
فتكلم.. وتألم
..وتعلم.. كيف تكره
عرضك الغالي على الظالم هان
..ومشى العار إليه وإليك
أرضك الحرة غطاها الهوان
..وطغى الظلم عليها وعليك
غضبة للعرض، للأرض لنا
..غضبة تبعث فينا مجدنا

واللافت أن القصيدة كانت تقول «أنت في صمتك مرغم»، فاتفق معه عبد الوهاب على تبديل أنت بـ «كنت» لتنسحب على العهد الملكي قبل الثورة. والحقيقة أن كامل الذي تٌوفي قبل عامين من نكسة 67، وجد في مشروع الثورة حتى قبل موته إنجازات عدة تستحق الاحتفاء. صحيح كان لديه غصات من اعتقالات أصدقائه المثقفين، لكن ذلك لم ينف إيمانه بمنجزات الثورة، لذلك أيضاً غنت له أم كلثوم قصيدته الشهيرة «أنا الشعب»، في تمجيد الثورة ومشروعها والاحتفاء بالجلاء وبالسد العالي وبجمال عبدالناصر أيضاً.

الحوار الأول مع القائد

في بدايات عام 1956، كانت الثورة استقرت، وتثبت نفوذ جمال عبدالناصر باختياره رئيساً للجمهورية، بعد حسمه للأمور كافة: حل الأحزاب وحظر «الإخوان»، وعزل اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية، وعقد اتفاقاً للجلاء مع البريطانيين يحقق الاستقلال التام من دون شروط مسبقة أو ربط مصير مصر بالتبعية والوصاية البريطانية.وحتى هذا التاريخ لم يكن عبد الناصر يظهر إعلامياً إلا في الخطابات الرسمية والجماهيرية التي كان يلقيها من وقت إلى آخر، ولم يجر أي حوارات أو لقاءات صحافية يظهر فيها أمام الرأي العام، يجيب عن أسئلة محاور يحاول الولوج لعقله. لكن كامل الشناوي كان هذا المحاور الذي أجرى وهو رئيس تحرير جريدة «الجمهورية» أول حوار صحافي مع الرئيس جمال عبد الناصر، في الثلاثين من مايو عام 1956، أظهر فيه الكثير من أفكار عبد الناصر ونواياه وتصوراته في وقت مبكر، وهذه مقتطفات منه:
- كامل الشناوي: قررتم رفع الرقابة عن الصحف نهائياً وبصورة كاملة، فهل سيتبع ذلك اتخاذ قرار بتخفيض قيود الأحكام العرفية التي فرضت على البلاد أثناء فترة الانتقال؟
* عبد الناصر: الأحكام العرفية استمرار لقرار آخر برلمان في ٢٦ يناير سنة ١٩٥٢ مع فرق أنها كانت تستعمل ضد الوطنيين. أما بعد الثورة فقد استخدمت ضد أعداء الوطن، وسأعلن وجهة النظر في هذا الخصوص في نهاية هذا الأسبوع.
- الشناوي: والمعتقلون؟
* عبد الناصر: قررنا الإفراج عنهم.
- الشناوي: جميعاً؟
* عبد الناصر: جميعاً وبلا استثناء، هل تعرف كم عدد المعتقلين؟
- الشناوي: ليس عندي معلومات أكيدة عن عددهم.
* عبد الناصر: سأذيع خلال أيام قليلة بياناً عمن اعتقلناهم ومن أفرجنا عنهم، وسيفاجأ الرأي العام حين يعلم أن حملات التضليل قد ضربت الرقم الحقيقي للمعتقلين في عشرة أو عشرين. كذلك سيعلم الرأي العام أننا لم نؤذ معتقلاً في رزقه، ولم نهمل شأنه أو شأن أحد ممن يعولهم، وأن الاعتقال كان إجراءً تحفظياً اقتضته سلامة الدولة وحماية مصلحتها العليا، وأن الاعتقال بالنسبة إلى كثير من المعتقلين لم يكن عقوبة بل كان علاجاً ووقاية.
- الشناوي: هل أستطيع أن أعرف عددهم؟
* عبد الناصر: عدد المعتقلين الآن ٥٧١ سيفرج عنهم جميعاً قبل ٢٢‎ يونيو.
- الشناوي: المشتغلون في الصحافة تصل إليهم رسائل من المعتقلين تتضمن شكوى أو طلبات، وقد تلقيت أخيراً كلمة من أحد المعتقلين قال فيها إنه حارب الثورة اعتقاداً منه بأنها عقدت اتفاقاً لتنظيم الجلاء لتنضم إلى المعسكر الغربي، وتجر البلاد إلى الدمار. ولكن الأيام أثبتت أن قائد ثورة مصر هو الذي قاد الثورة على الأحلاف العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وأنه حرر بلاده- حقيقةً لا قولاً- من الفساد، والإقطاع، والملكية، والموت، أي من الأحلاف العسكرية. ويقول هذا المعتقل: «إنني لا أبغي بهذا الكلام أن ألتمس طريقاً للإفراج عني، ولكني أردت أن أعبر عن شعوري».

* عبد الناصر: إن هؤلاء المعتقلين كانوا ضحية التغرير وحملات الافتراء التي شنها علينا خصوم البلاد وأعوان الاستعمار الذين فقدوا آمالهم بقيام الثورة، فأرادوا أن يستردوا هذه الآمال ولو كان فيها قضاء على آمال الأمة، واستغلوا عواطف الشباب وحماستهم في تشويه أعمالنا، وإلقاء ظلال الشك والريبة على تصرفاتنا، وحضوهم على الاندفاع في مؤامرات لو نجحت لدمرت البلاد، وردتها على أعقابها مئات السنين إلى الوراء. ولقد أثبتت الحوادث أننا كنا صادقين، وأننا استطعنا أن نصنع لبلادنا شيئاً.
* إن ما عرفته الثورة من أعمال يحتمل ألا يبقى، ما لم يكن ثمة مجتمع سليم يحمي هذه الأعمال، ويحرص عليها، ويدافع عنها، ولا يقف منها موقف المتفرج، بل يشارك فيها، ويضيف إليها، وهذا ما نحاول اليوم أن نضع خطوطه الرئيسة.
- الشناوي: هنا يمكن أن يقال إن فكرة الاتحاد القومي هي أحد الخطوط الرئيسية للمجتمع الذي تريدونه؟
* عبد الناصر: أنا أومن بأن الاتحاد القومي هو الوسيلة لتكتيل جهود الشعب، والسير به في الطريق المؤدي إلى تحقيق أهداف الثورة، وتجنيبه ويلات الخلافات التي قاسينا منها ما قاسينا بعد اتحاد الشعب في ثورة سنة ١٩١٩، ولقد كانت هذه الخلافات سبباً في نكسة هذه الثورة فحادت عن أهدافها الحقيقية. كان هدفها الأول الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ولكن الخلافات أضاعت هذا الهدف، ومكنت الاحتلال من البقاء، وظلت قواته تحتل أرض البلاد وتتغلغل في شؤونها، وتفرض سلطاتها على كل صغيرة وكبيرة، إلى أن قامت ثورة الشعب في ٢٣ يوليه سنة ١٩٥٢.
اتبع الاستعمار البريطاني سياسته التقليدية: فرق تسد، ولقد فرق فعلاً وساد فعلاً... عمل على انقسام البلاد إلى شيع وأحزاب.كان يضرب حزباً بحزب وشيعة بأخرى حتى ثبَّت نفوذه، واستطاع بعد أن كان يحكم البلاد حكماً مباشراً عن طريق القسر والإكراه، أن يحكمها بواسطة صنائعه من مختلف البيئات والأحزاب، وهؤلاء الصنائع كانوا طبقة معترفاً بها في تعادل ميزان القوى الداخلية، كانوا ينفذون رغبات الاستعمار، بل كانوا يسبقونه إلى التكهن برغباته والتنافس في تنفيذها. كان هدفهم تحقيق مصالح الاستعمار أولاً، وتحقيق مصالحهم الذاتية ثانياً، وكانت مصالحهم ومصالح الاستعمار وثيقة الصلة والارتباط.
ولهذا لم تنجح ثورة سنة ١٩١٩، بل حدث انتكاس لها، وضاعت هدراً دماء المصريين الذين قتلوا في سبيلها برصاص الإنكليز، فأخذت الانقسامات تزيد وتتسع بين قيادات مختلفة، وكلما تزايدت الانقسامات واختلفت القيادة، تمكن الاستعمار من شد أزر صنائعه وأعوانه، فكانوا يكسبون الجولات في المعارك التى يخوضونها- وكل معاركهم على الحكم- وقد دفع ذلك أناساً كثيرين من أصحاب المبادئ إلى الالتجاء إلى الاستعمار، علهم يجدون عنده فرصة، وبذلك سقطت جميع القلاع الوطنية وانهارت عناصر المقاومة تحت وطأة الاستعمار، الاتحاد القومي سيجنبنا هذه الويلات.
- الشناوي: هل الاتحاد القومي حزب؟
* عبد الناصر: الاتحاد القومي جبهة وطنية قومية لتنفيذ أهداف الثورة، وتمنع قيام منظمات شبه شرعية لأعوان الاستعمار، وبذلك لن تتكرر المأساة التي حدثت لثورة سنة ١٩١٩، ونستطيع أن نركز اهتمامنا وأعمالنا في تحقيق الأغراض الكبرى للثورة، وفي مقدمها الاستقلال التام والبناء الاقتصادي السليم، حتى يمكن خلق مجتمع تسوده الرفاهية.
- الشناوي: هل يمكن أن نطلق على مجتمعنا الحالي اسماً أو صفة؟
* عبد الناصر: ماذا تعني؟
- الشناوي: هل يمكن أن نسميه مجتمعاً رأسمالياً أو اشتراكياً أو شيوعياً؟
* عبد الناصر: مجتمعنا كما هو الآن مجتمع رأسمالي تقيده الدولة بالقوانين لخلق حياة طيبة للجميع، وهو لا يزال مجتمعاً استغلاليا. والمجتمع الذي نعمل على خلقه هو المجتمع التعاوني، والفرق كبير بين المجتمعين، ففي المجتمع الاستغلالي إذا أردت أن ترفع دخلك من ٥٠ جنيهاً إلى مائة جنيه لا تلجأ إلى العمل، ولكن تلجأ إلى الحيلة، أما في المجتمع التعاوني فإنك إذا أردت أن ترفع دخلك تلجأ إلى العمل ولا تلجأ إلى الحيلة، تزيد كمية عملك فيرتفع دخلك، هذا المجتمع هو ما أريده لبلادنا.
- الشناوي: هل تتوقعون للحياة النيابية القادمة أن تكون حياة نيابية سليمة كما ينبغي؟
* عبد الناصر: أومن بالحياة النيابية السليمة، فهذا هو الهدف السادس للثورة إقامة حياة ديمقراطية سليمة، والسبب الأساسي في حرصنا على قيام الحياة النيابية، هو ألا يتجه المجتمع إلى السلبية بل يتجه إلى الإيجابية، فلا يعتمد في تسيير أموره على مجلس الثورة، بل يكون الشعب كله مجلس ثورة يشترك بجميع أفراده في الحكم بواسطة ممثليه في مجلس الأمة.
فالسلبية شديدة الخطر على مستقبلنا، فإن البلد لا يتكون من أشخاص بذاتهم، ولا من وقت معين. بل يتكون من تعاقب أجيال وتتابع أشخاص، وقت يمضي ووقت يجيء، شخص يمضي وشخص يجيء. ويجب أن يكون في الأمة من يتولى القيادة ومن يستعد لتولي القيادة، فالحياة النيابية هي التي تتيح الفرصة لإظهار الكفاءات التي تحتاج إليها البلاد في قيادة أمورها. أومن أن في بلدي كفاءات ممتازة ولم تتح لها الظروف أن تظهر وتأخذ مكانها الجدير بها في خدمة البلاد. الحياة النيابية هي التي تسلط الضوء على هذه الكفاءات فتظهر وتستطيع البلاد أن تفيد منها. والدور الرئيس للحياة النيابية هو تكوين طبقة من القادة الأكفاء لتحقيق أهداف ثورة الشعب، والحياة النيابية تتيح الفرصة أيضاً لمعرفة العاملين وغير العاملين، فكما أن مهمة النائب مراقبة الحكومة، فإن مهمة الشعب مراقبة نوابه وتتبع أعمالهم، ليقدر إنتاجهم، ويحكم على مقدار جدارتهم لتحمل الأعباء، فيدفع المحسن إلى الأمام، وينحي المسيء عن حمل الأمانة.
* كانت الحياة النيابية في الماضي قائمة على التخريب والمجاملات، وهي اليوم تقوم على العمل الصالح، والسر في فساد الحياة النيابية في الماضي هو طغيان الإقطاع، وأحب في هذه المناسبة أن أوضح الحكمة في القضاء على الإقطاع، أنها ليست تمليك أكبر عدد من الأفراد، ولكن الحكمة هي تحرير أفراد الشعب من سيطرة الإقطاع، إذ لا يمكن لبلد أن يكون حراً إذا لم يكن الفرد حراً في عمله ورزقه. كان الفرد مستعبداً للإقطاعيين، يفكر بعقولهم، ويتكلم بلسانهم، ويستجيب لرغباتهم، يريد ما يريدون ولو كان شراً، ويرفض ما يرفضون ولو كان خيراً، والويل لمن يخرج عن مشيئة صاحب السيطرة، فهو يعرض رزقه للضياع، ويعرض نفسه للجوع، ولم يكن للأفراد رأي، ولكن كان الرأي رأي الإقطاعيين، فلم يكن عندنا حكم نيابي، ولكن كان عندنا حكم إقطاعي، هو حكم الأقلية المستغلة باسم الأغلبية العاملة.
واليوم لا سيطرة للإقطاع على الفرد، ولا سيطرة للمال ولا لصاحب المال، فالفرد حر والعامل حر، وهو بهذه الحرية يستطيع أن يحكم على الأشياء والأشخاص حكماً سليماً منبعثاً من صميم عقيدته، وهذا ما هدفنا إليه بوضع القوانين الخاصة بتأمين العمال، كان العامل مهدداً في رزقه بسبب الفصل التعسفي إذا هو لم يستجب لرغبات صاحب العمل، والعامل اليوم - بعد تطبيق القانون الخاص بمنع الفصل التعسفي- يستطيع أن يمارس إرادته وحريته وهو آمن على رزقه وعمله، ما دامت تصرفاته في حدود القانون.
*وليس هذا ما صنعناه فقط لضمان قيام الحياة النيابية السليمة، فقد وضعنا من الضمانات لسرية الانتخابات ما يحول بين إفساد الضمائر وشراء الذمم بالرشوة، فلأول مرة ستجرى الانتخابات بسرية كاملة، فلا رقيب على الناخب إلا ضميره حتى لو كان لا يعرف القراءة والكتابة.
وقد وسعنا القاعدة الانتخابية بإنزال سن الناخب إلى ١٨ سنة، ومنح المرأة حق الانتخاب، وجعل الإدلاء بالأصوات إجبارياً، وبذلك تنتهي المحاولات التي كانت تبذل في الماضي لمنع الناخبين من الإدلاء بأصواتهم، وكان مرشحون كثيرون ينتخبون انتخاباً سلبياً، وقد سمعنا عن نواب بلغ عدد من انتخبوهم أقل من ألف، بينما الدائرة الانتخابية تتألف من عشرة آلاف ناخب، إن الضمانات التي وضعناها للانتخابات تكفل لكل فرد أن يتحمل المسؤولية، ويمارسها بحرية ودون رقابة عليه إلا من ربه وضميره.
- الشناوي: كان في ذهني أن أسمع منك كلمة عن الجلاء، هذا الحدث الضخم الذي كان وهماً فصار واقعاً، وكان حلماً فأصبح حقيقة.
* عبد الناصر: إن لي في هذا الموضوع حديثاً طويلاً مع أبناء بلادي.
- الشناوي: هل انتهت بالجلاء مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال؟
* عبد الناصر: انتهت مرحلة، وبدأت مرحلة.
- الشناوي: ثمة كثيرون يسألون، لماذا اندفعنا في طريق العروبة؟ وهل لنا سياسة عربية وأخرى مصرية؟
* عبد الناصر: تغير الزمن الذي كانت السياسة فيه تسير طبقاً لنظريات محددة، أو تسير على نهج معين، والسياسة المصرية اليوم تقوم على الاستراتيجية المصرية، فهي ليست مسألة عاطفية أو جزئية تتعلق بنا وحدنا، ولكنها عملية تتعلق بمصالح الجميع، مصالحنا ومصالح العرب. قوتنا في قوميتنا، إذ يجب أن تتماسك هذه القومية وتترابط في الدفاع عن مصالحها ضد المؤامرات الاستعمارية التي تتربص بنا، وتريد أن تضع يدها على الضعيف فينا، لتلتهمه أولاً، ثم تلتهم الآخرين.
ولقد عارضنا حلف بغداد وحاربناه، لأن المستعمرين أرادوا أن يجعلوه قاعدة يثبون منها على الأردن، ولبنان، وسورية، ومصر والسودان، سياستنا إذن تقتضي ألا نفصل مصر عن المنطقة العربية، ولا أن نفصل ما حدث في إسرائيل عنا، فإن مؤامرة الاستعمار على العرب أعطت فلسطين للصهيونيين ليمحوا جزءاً من القومية العربية، وكلما التهموا جزءاً من الكيان العربي التهموا جزءاً آخر، ونحن في صميم هذا الكيان، فالشعوب العربية كلها منطقة واحدة لا يمكن عزل أرض منها عن الأخرى، ولا يمكن حماية مكان إلا بحماية جميع الأماكن.
ولقد آن الأوان كي تكون هناك استراتيجية واضحة يتفق عليها العرب جميعاً، والاستراتيجية المصرية واضحة، وعلى أساسها تقوم سياستنا الخارجية.وهذا الأساس ليس من قبل العواطف، ولكن مصلحتنا والمصالح الجوهرية المشتركة بيننا وبين العرب.


قصيدة {أنا الشعب}


«على باب مصر، تدق الأكف، ويعلو الضجيج
جبال تدور، رياح تثور، بحار تهيج
وتصغى! وتصغى!
فتسمع بين الضجيج سؤالا وأي سؤال!
وتسمع همهمة كالجواب،
وتسمع همهمةً كالسؤال!
أين؟ ومن؟
وكيف إذن؟
نعم.. كيف أصبح هذا الجلال
بأقصى مداه؟
..حقيقة شعب
غزاه الطغاة، وأي طغاه!
وتمضي المواكب بالقادمين
من كل لون وكل مجال
فمن عصر مينا إلى عصر عمرو
ومن عصر عمرو لعصر جمال
وكل تساءل في لهفة:
أين؟ ومن؟
وكيف إذن؟
..أمعجزة مالها أنبياء؟
..أدورة أرض بغير فضاء؟
***
وجاء الغزاة
. . جميع الغزاة
فأبدوا خشوعًا
واحنوا الجباه
تلمح بين الجموع وجوهًا
يرف عليها حنان الإله
..ففيها المفكر والعبقرى
وفيها التقاة، وفيها الهداه
..فـ (موسى) تشق عصاه الزحام
وذلك (عيسى) عليه السلام
وهذا (محمد) خير الأنام
***
فأين تحقق ما كان وهمًا
ومن ذا الذي يا ترى حققه؟
وكيف تحرر من أسره
سجين الزمان؟ ومن أطلقه؟
لقد شاد بالأمس أهرامه
بأيدٍ مسخرة موثقة
على ظهره بصمات السياط
..وأحشاؤه بالطوي مرهقة!
..وها هو يبني بحريةٍ
دعائم آماله المشرقة
بسد منيع، عجيب البناء
يبث الرخاء ويوحي الثقة
فأرزاق أبنائه حرة
وآراؤهم حرة مطلقه
وليس بهم سيد أو مسود
فكل سواء بلا تفرقه
***
وصاح من الشعب صوت طليق
قوي، أبي، عريق، عميق
يقول: أنا الشعب والمعجزة
أنا الشعب لا شيء قد أعجزه
وكل الذي قاله أنجزه!
***
..فمن أرضي الحرة الصامدة
بنيت حضاراتنا الخالدة
أنا الشعب، شعب ذرى والقمم
زرعت النخيل، صنعت الهرم
رفعت المآذن فوق القباب
بنيت المداخن تعل السحاب
أنا الشعب لا أعرف المستحيلا
ولا أرتضي بالخلود بديلا
بلادي مفتوحة كالسماء
تضم الصديق، وتمحو الدخيلا
أنا الشعب، شعب العلا والنضال
أحب السلام، أخوض القتال
ومني الحقيقة.. مني الخيال!
وعندي الجمال، وعندي جمال

كامل الشناوي


صلاح سالم
يلقب بـ «الشرس» أو{رجل النظارة السوداء». هو صلاح مصطفى سالم الذي يصفه من شاركوه أحداث ثورة 23 يوليو 1952 بأقوى رجل في تنظيم الضباط الأحرار.

ولد صلاح سالم عام 1920 في مدينة {سنكات} شرق السودان، حيث كان والده موظفا هناك، أمضى طفولته هناك، وتعلم في كتاتيب السودان، وهو الأخ الأصغر لجمال سالم عندما عاد إلى القاهرة مع والده تلقى تعليمه الابتدائي، ثم حصل على البكالوريا، وتخرج في الكلية الحربية سنة 1938 وهو في
الـ 18 من عمره.
تخرج سالم في كلية أركان الحرب سنة 1948، وشارك مع قوات الفدائيين التي كان يقودها الشهيد أحمد عبد العزيز، عُرف بأنه كان دائم ارتداء النظاراتين السوداوين، واتصف بالشدة والحزم في أية قضية تخص الثورة.
تعرف إلى جمال عبد الناصر، أثناء حصاره في الفلوجة، وانضم إلى حركة الضباط الأحرار، وكان صلاح سالم عضواً في اللجنة التنفيذية لهذا التنظيم، وعندما قام الضباط الأحرار بحركتهم في يوليو 1952، كان صلاح في العريش، وسيطر على القوات الموجودة هناك، فكان له دور كبير في نجاحها، قام بتوحيد شمال وجنوب السودان.
تولى وزارة الإرشاد القومي (الإعلام ) في الفترة من 18 يونيو 1953 وحتى 7 أكتوبر 1958.
اشتغل في الصحافة حيث تولى الإشراف على صحيفتي {الشعب} و{الجمهورية}، وكان أول مسؤول مصري سافر إلى جنوب السودان عام 1954 لتحقيق المصالحة الوطنية بين الشماليين والجنوبيين قبل انسحاب بريطانيا من مصر عام 1954 ومن السودان عام 1956.
كان أول من تُوفي من أعضاء مجلس قيادة الثورة، حيث تُوفي في سن صغيرة عن عمر 41 عاما في 18 فبراير 1962 بمرض السرطان، وشيع جثمانه في جنازة مهيبة تقدمها جمال عبد الناصر وجميع زملائه وكل الوزراء‏ في ذلك الحين.
 
.. شاعر الليل (12): لا تكذبي... إني رأيتكما معاً



الاثنين 29 يونيو 2015 - الساعة 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس. كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435496156_97_Untitreytuled-1.jpg

1435496156_42_1.jpg

1435496156_58_31.jpg

1435496156_77_2-.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
- {أشتري الحب بالعذاب... أشتريه فمن يبيع... من يبيع؟}.
لم يكن قوله هذا سوى تعبير عن حظه مع الحب. ففي الوقت الذي صار فيه صحافياً كبيراً جلس على كرسي رئيس التحرير أكثر من مرة، وشاعراً شهيراً يتغنى بشعره نجوم الغناء في عصره، وتخلص من عقدة العزلة والانطواء، أقبل يرد الجميل لمجتمع منحه الفرصة على النبوغ المبكر، والتعبير عن هذا النبوغ، وهيأ له من يأخذ بيده ويساعده على المضي قدماً، لذلك لم تكن أهميته التاريخية في كتاباته شعراً ونثراً وصحافة، وإنما كانت أهمية كامل الشناوي في احتضانه المواهب ودفاعه عنها ورعايته لها في المجالات كافة: شعراء وفنانون وموسيقيون وصحافيون. وكان ينفق على هذه المواهب من جيبه حتى لا يضطر أي منهم إلى الغرق في دوامة البحث عن الرزق فينسى موهبته وتنساه. فعل ذلك مع كثير من نجوم عصره، فتبنى عبد الحليم حافظ ونجاة ونور الهدى، وكتب أغاني لأم كلثوم، وعبدالوهاب، ومال على فريد الأطرش في لحظات ضعفه ليساعده على النهوض والصمود في وجه المنافسة الشرسة، وتحدى عمالقة هذا الزمان بكلمته وفنه، واستغل نفوذه لإعادة بيرم التونسي من المنفى، بعد طرده لانتقاده الملك فاروق في أشعاره، ودبر له الفرص ليبيع قصائده لكبار المطربين ويتكسب ويعيش معوضاً سنوات المنفى والحرمان. كان يجد سعادته في ذلك، ويشعر أن قدره هيأه لهذا الدور. لكن رعايته للفنانات، لم تكن تمر كمجرد رعاية، كان يقع في حب كل امرأة يتبناها فنياً، فعل ذلك مع كاميليا، ومع المطربة اللبنانية نور الهدى التي تبناها فنياً وأحبها بهدوء.
كان يتصيَّد الحب، ينتقي المحبوبة بعناية، تكون جميلة فاتنة، أو رقيقة مرهفة، أو ذات حضور ساحر، أو فوضوية عابثة، يحاصرها ويدغدغ عواطفها بكلامه الحلو، يكتب فيها الشعر، ويغدق عليها بالمال، وإذا كانت فنانة يفتح لها الأبواب المغلقة لتستقر كنجمة في عالم الفن. لكن القصص دائماً ما تكون قصيرة، لا تدوم سعادته بها، ولا يطول ارتياحه معها، ظل هكذا في شبابه وكهولته، يحب حتى الثمالة، ينجرف في الهوى والاهتمام كطفل صغير، وتجرحه خيانة عابرة، أو فراق مقصود فيتألم ويبقى أثر الألم في روحه كندبة باقية.
كان يقول عن نفسه حين تقدم به العمر قليلاً:
- {العجوز الطائش كالسهم الطائش لا يصيب الهدف... يا ويلي من طيشي.. إنني أعاني تناقضاً رهيباً في حياتي .. جسدي أرهقه الكبر، ومشاعري لم تتجاوز بعد مرحلة الطفولة، وتفكيري في عنفوان الشباب.. احتشم يا قلبي، فالحب طيش وشباب.. وأنت طيش فقط}.
كان يستعذب الألم في الحب، ويخلق من عذاباته عالمه الخاصة وإبداعه المنبثق من هذه العذابات، لم يتحسر على الشباب كثيراً لأن حاله مع الحب شاباً كحاله فيه كهلاً كحاله كرجل في منتصف العمر يبدو ناضجاً ورزيناً على غير الحقيقة، حتى أنه كان يقول:
- {أحياناً تنتابني حيرة لا أستطيع معها أن أحزن أو أفرح، لأن الأيام التى تنقضي من عمري تزيد من سني، وتجربتي وثقافتي وانفعالي بالجمال، فكيف أحزن على النقص، ولا أفرح بالزيادة؟ إنني دائماً ناقص وزائد}.
كان يكتب في زاويته حواراً مع نفسه، يتكلم معها في كل شيء وأحياناً كان يوجه رسائل لبطلات قصص حبه، في إحداها أدار هذا الحوار :

- { ألا تزال تحب؟
* ربما.
- ألا تعترف أنك لم تظفر من الحب إلا بالعذاب؟
* وما هو الحب؟
- التقاء العاطفة بالعاطفة.
* إن هذا الالتقاء هو عود الثقاب الذي يشعل نار الحب، فإذا اشتعلت النار التهمت الالتقاء، والتهمت أيضاً عود الثقاب.
- قل لي أنت ما هو الحب؟
* الحب أن تتعذب وحدك وألا تفرض العذاب على سواك.
- ومتى تتعذب وحدك ولا تفرض العذاب على سواك؟
* أنا في العذاب أناني .. أستأثر به لنفسي.
ما أسعدها.
ما أشقاها وما أشقاني... فقد يصحو ضميرها ذات يوم فتعاني عذابي، وتتركني وحدي بلا عذاب}.

مرة سأله صديق المشورة بعدما هجرته محبوبته فجأة رغم ما بذله من أجلها، وما أنفقه عليها من مال ووقت واهتمام، وفوجئ بأن كامل الشناوي يجيبه بما يصدمه:
- {هي لم تفعل إلا الصواب، فالغدر شيمة حواء، وإذا لم تكن فعلت ما فعلت فيّ ليست بالمرأة الكاملة الأنوثة، المشبوبة العاطفة، لقد فازت بالحرية، وتركت لك الألم.. يا بختك}.

لذلك كانت الخيبات والخيانات تظهر في شعره الشفهي والمدون، وهو قال الكثير من الشعر والنثر والنكات وحكى الكثير من القصص، لكن المدون منها قليل جداً، لكن الأهم أنه لم يكن يحقد على من تخونه أو تهجره حتى لو أعلنت أنها باتت تكرهه، كان رغم ذلك لا يكف عن مواصلة حبه لها، رغم ما كان يتضمنه شعره من مكابدة وألم.
وجاء ديوانه {لا تكذبي} ليعبر عن هذه الخيبات والخيانات وكأنه صرخة ضد المرأة الخائنة. لكن رغم ذلك بدا أنه يستعذب هذا الألم حتى أنه يتذكر أن مقالاً نقدياً عن الديوان كتبه أحد الشعراء، عنوانه {شاعر يحب الخائنات} ويقترح عليه تغيير العنوان إلى {لا تكذب}، في إشارة إلى عشقه للألم، وإن أفصح بغير ذلك.
بهذا الديوان دخل عالم الشعر الرومانسي من باب الألم وترجمة التجربة شعرياً، وارتبط الديوان وتحديداً أشهر قصيدتين فيه {لست وحدك حبيبها}، و{لا تكذبي}، بأشهر قصة حب في حياته، ما زالت تثير الجدل والغموض حتى الآن، ورغم أن كثيرا من شهود العيان يشيرون لأن بطليها هما المطربة المعروفة نجاة والكاتب والأديب الكبير يوسف إدريس، فإن نجاة نفسها نفت أن تكون بطلة قصيدته، وينفي ذلك أيضاً الكاتب والناقد طارق الشناوي، ابن شقيق كامل.
لكن على أي حال هي قصة تستحق أن تروى، ففي جميع الأحوال محبوبته في هذه الأيام كانت مطربة صاعدة، جميلة ورقيقة، تبناها كامل وشملها برعايته، وأحبها كعادته بإخلاص جم، واهتمام بالغ.
يصف لحظة لقائه الأول بها حين ظهرت في إحدى السهرات الفنية مع شقيقتها النجمة الصاعدة وقتئذ، والتي وجدت رعاية غير عادية من عبد الحليم حافظ، وقبله صديقه {الصعلوك الكبير} عبد الرحمن الخميسي:
- {اتجهت أنظارهم جميعاً إلى عشرين عاماً، ترتدى فستاناً أزرق، وقد تشبث الفستان بقوام رشاقته، حملت العدوى إلى مشاعرنا، ونظراتنا، وإشارات أيدينا، إنه لا يتحرك لكنه ينبض كقلب خائف، يعلوه وجه اطمأنت قسماته، الفم أحمر كالورد، تفتحه كلمة وتغلقه ابتسامة، الخدان ملتهبان كالحريق، أنفها صغير كسنها، شعرها كليل الشتاء أسود وطويل، والعينان في لون الفستان زرقاوان}.
جلست إلى جواره تحديداً، ودار بينهما الحديث، وتعالت الضحكات والابتسامات من حديث مشوق تغمره نكات وحضور لم يفارقا صاحبه أبداً، وغدت الابتسامات غراماً واهتماماً، ووقتاً من الحب المتبادل، ظهرت فيه الحبيبة، وفرضت نفسها كصوت ساحر، بغنائها الآخاذ، فبدت أنضج كصوت وكامرأة. وفي يوم من أيام شتاء 1962، كان يوم عيد ميلادها، فاهتم به اهتماماً خاصاً، أشرف على التفاصيل كلها، واشترى {تورتة} 3 أدوار من {غروبي}، وذهب للاحتفال معها بشقتها بحي {الزمالك} وسط أصدقائهما، فإذا بها لحظة إطفاء الشموع تمسك بيد كاتب {القصة الشهير} ليساعدها في تقطيع التورتة، وكأنهما يقطعان في جسده، ويقصفان بنظراتهما لبعضهما قلبه بسهام حادة ومميتة، ظهرت على ملامحه، وأطفأت بهجته التي دخل بها على الضيوف مازحاً وساخراً وضاحكاً ومستبشراً، فغادر المكان هائماً، واستكمل السهرة مع أصدقاء في إحدى الحانات، ثم انصرف فجأة عائداً إلى الزمالك، وهو يمني نفسه بلقاء خاص مع محبوبته بعد انصراف ضيوفها، ويقنع نفسه أن ما شاهده كان مجرد مجاملات بين صديقين لا أكثر. لكنه تلقى الصدمة حين وجد الضيوف قد انصرفوا فيما استكملت السهرة مع ضيف واحد لم يغادر، فخرج مجروحاً وهائماً على وجهه، ولا يعرف إلى أين يذهب. ذهب إلى منزل مصطفى أمين وحكى له كل شيء، وكتب قصيدته الشهيرة عنده:
- { لا تكذبي ..
إني رأيتكما معا
ودعي البكاء.. فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عين كاذبة فأنكر وادعى ! !
إني رأيتكما ... إني سمعتكما
عيناك في عينيه ... في شفتيه
في كفيه ... في قدميه
ويداك ضارعتان
ترتعشان من لهف عليه!
تتحديان الشوق بالقبلات
تلذعني بسوطٍ من لهيب!
بالهمس ، بالآهات
بالنظرات ، باللفتات
بالصمت الرهيب!
ويشب في قلبي حريق
ويضيع من قدمي الطريق
وتطل من رأسي الظنون
تلومني وتشد أذني!
فلطالما باركت كذبك كله
ولعنت ظني.
ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك ؟
ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفاً عليك ؟
أأقول هانت ؟
أأقول خانت ؟
أأقولها ؟
لو قلتها أشفي غليلي!
يا ويلتي..
لا، لن أقول أنا، فقولي..
لا تخجلي.. لا تفزعي مني.. فلست بثائر!
أنقذتني من زيف أحلامي وغدر مشاعري!
فرأيت أنك كنت لي قيدًا
حرصت العمر ألا أكسره
فكسرته!
ورأيت أنك كنت لي ذنباً
سألت الله ألا يغفره
فغفرته!
كوني.. كما تبغين
لكن لن تكوني!
فأنا صنعتك من هواي
ومن جنوني..
ولقد برئت من الهوى
ومن الجنون!»

جاءت القصيدة وفيها قدر من الترجمة لما شاهده مع خيال الشاعر، في تصور هذا الجدل بينه وبينها، لكنه رغم ذلك كله أمسك الهاتف وطلبها ربما ليعاتبها فتهدأ نفسه، أو ليسمع منها تبريراً أو قراراً ينهي هذه القصة، إلا أن الصدمة أنها لم تتأثر بدموعه، حتى عندما قرأ عليها هذه القصيدة المؤثرة، تعاملت وكأن الأمر لا يعنيها، وكأنها مجرد قصيدة، وطلبت أن تغنيها، وهي القصيدة التي لحنها محمد عبد الوهاب وغناها في ما بعد عبد الحليم حافظ، ثم نجاة الصغيرة في سياق أحداث فيلم الشموع السوداء، كذلك لها تسجيل بصوت عبد الوهاب نفسه، وهو غناها أكثر من مرة.
نشر كامل الشناوي قصيدته وكأنه يشبب بها وينتقم منها، لكن الكشف الأكبر عما جرى كان على يد الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس الذي كتب التفاصيل كلها في قصته «وعاشت بين أصابعه» التي نشرها على حلقات في الأهرام، حتى باتت شخصيتها معروفة، وتتلقى اتصالات استهجان من القراء. فطلبت من إحسان أن يغير في التفاصيل ليبعد أذهان الناس عنها، لأنه يكاد يفصح باسمها، كما لاحقت قضائياً بعد ذلك كل من حاول الربط بينها وبين قصة القصيدة.
لكنه كان يفصح عن بعض التفاصيل في زاويته «ساعات» التي كان يكتبها في «أخبار اليوم»، وظل يوجه إليها الحديث عبر هذه الزاوية بعدما انقطع التواصل بينهما، حين اكتشف كامل أنها ليست حبيبته فقط، ولا حبيبة الكاتب الذي وجدها معه في شقة الزمالك، وإنما كان في السياق شاعر معروف، ومخرج كبير، وإذاعي ومدير إذاعة عربية، فكتب قصيدته الشهيرة التي غناها عبد الحليم حافظ أيضاً «لست وحدك حبيبها».
وكان يقول عنها:
- «إنها تحتل قلبي وتتصرف فيه كما لو كان بيتها، تكنسه وتمسحه، وتعيد ترتيب الأثاث، وتقابل فيه كل الناس، شخص واحد تهرب من لقائه، صاحب البيت».
وحكى المشهد الصدمة مرات آخريات، كان أشهرها حين كتب في زاويته:
- «كان المفروض أن أكون معهم، أشاركهم الاحتفال بعيد ميلادها، فهي صديقة، وهم أصدقائي، ولكنهم نسوا أن يدعوني إلى الاحتفال، وتداركوا نسيانهم فذكروني في سهرتهم، وقدموا إليها الهدايا، وكانت سيرتي أبرز ما في الهدايا، وضعوا أمامهم التورتة، ومزقوها بالسكين.. ثم أكلوا، أكلوا التورتة.. وسيرتي».
ورغم أنها كانت سبباً في غضب عبد الحليم حافظ منه حين لاحظ المطرب الشهير أن كامل يستخدم نفوذه في الوسط الفني ليحتفي بها صحافياً وينتقي أفضل الأشعار لتغنيها، ويجند لها ألحان عبدالوهاب وبليغ حمدي، فإن حليم سعى حثيثاً في الصلح بينهما ليعودا صديقين على الأقل.

قصيدة حبيبها

حبيبها، لست وحدك
حبيبها.. أنا قبلك!
وربما جئت بعدك
وربما كنت مثلك!
فلم أزل ألقاها
وتستبيح خداعي
بلهفة في اللقاء
برجفة في الوداع
بدمعة ليس فيها
كالدمع.. إلا البريق!
برعشة هي نبض
.. نبض بغير عروق!
حبيبها، وروت لي
ما كان منك ومنهم!
فهم كثير... ولكن
لا شيء نعرف عنهم!
وعانقتني، وألقت
برأسها فوق كتفي
تباعدت وتدانت
كأصبعين بكفي!
ويحفر الحب قلبي
بالنار، بالسكين
وهاتف يهتف بي
حذار يا مسكين!
وسرت وحدي شريدًا
محطم الخطوات
تهزني أنفاسي
تخيفني لفتاتي!

كهارب ليس يدري
من أين، أو أين يمضي؟
شك! ضباب! حطام!
بعضي يمزق بعضي!
سألت عقلي فأصغى
وقال: لا، لن تراها
وقال قلبي: أراها!
ولن أحب سواها!
ما أنت يا قلب؟ قل لي:
أأنت لعنة حبي؟!
أأنت نقمة ربي؟!
إلى متى أنت قلبي؟

كامل الشناوي

نجاة الصغيرة


بدأت نجاة الصغيرة حياتها الفنية بترديد بعض أغاني كوكب الشرق أم كلثوم في الحفلات التي شاركت بها، ولكن موهبتها كانت أكبر من ثوب تقليد الكبار، فخرجت في منتصف الخمسينيات عن ذلك الإطار وقامت بغناء أغنياتها الخاصة التي ألفت ولُحنت خصيصًا لها.

هي من مواليد القاهرة، والدها محمد حسني البابا من أكراد سورية، وكان يعمل خطاطاً وقد هاجر إلى مصر في شبابه، وتزوج أم نجاة وهي سيدة مصرية وأختها الفنانة المصرية سعاد حسني. اعتقد كثيرون أنها وأختها سعاد حسني تربطهما صلة قرابة مع الفنان السوري المعروف أنور البابا، إلا أنه لا توجد أية صلة قرابة بينهما، أول من أطلق عليها لقب الصغيرة كان { فكري أباظة} الكاتب الصحافي، وذلك عندما كتب عنها في بداية ظهورها {إنها الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية حتى يشتد عودها، وفي حاجة إلى عناية حتى تكبر وهي محافظة لموهبتها، مبقية على نضارتها}.
عندما بلغت نجاة سن التاسعة عشرة كانت تقوم بتقليد {أم كلثوم}، غير أنها بدأت مرحلة جديدة في مشوارها الفني، عندما قدم لها مأمون الشناوي أغنية {أوصفولي الحب} من تلحين محمود الشريف، ومنذ ذلك الوقت أحاطت {نجاة} نفسها بالمثقفين أمثال كامل الشناوي محمد التابعي، وفكري أباظة، فكونت بذلك هيئة مستشارين من أصدقاء ينصحونها، وينيرون الطريق أمام هذه الموهبة العبقرية، إلى جانب دقتها الشديدة في العمل، وحرصها الشديد الأقرب إلى الوسوسة، ما كان له دور كبير في نجاحها المستمر. ثم التقت بالموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب في لحن {كل دا كان ليه}، لتتوالى بعدها أعمالها الفنية، وغنت للملحنين سيد مكاوي، وحلمي بكر، وبليغ حمدي، وكمال الطويل ومحمد الموجي، وهاني شنودة.
 
. شاعر الليل (13): الحرب على فريد الأطرش



الثلاثاء 30 يونيو 2015 - الساعة 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس.
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435582059_43_Untitled-1.jpg

1435582059_12_3.jpg

1435582059_27_1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
غنى كبار مطربي ذلك العصر أشعار كامل الشناوي، لكنه لم يكتب أبداً أي أغنية خصيصاً من أجل مطرب بعينه، أو من أجل لحن سابق التجهيز، كان يكتب القصيدة التي ينفعل بها وكان يقول إنه شاعر وليس {ترزياً} عليه أن يفصل الشعر على مقاسات المطربين والملحنين، كما يُفصل {الترزي} الأقمشة على أجساد زبائنه.
وكان يهدي قصائده لمن يجد من أصدقائه حماسة لغنائها وتلحينها، أما عندما يكون في حاجة إلى المال، فيطلب أغلى الأسعار التي من الممكن أن يطلبها شاعر في قصيدة.

خلاف مع أم كلثوم

غنى له المشاهير: محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، وغيرهم. أما فريد الأطرش، فأشهر ما غنى له قصيدتي «الربيع» و{عدت يا يوم مولدي». الأولى أعجبت أم كلثوم ورغبت في أن تغنيها في احتفالات عيد الربيع التي كان المطربون يتبارون فيها على تقديم أغانٍ جديدة، لكن أم كلثوم طلبت تغيير بعض الجمل والألفاظ في القصيدة، فشعر كامل أنها تعتدي على مؤلفه وتفرغه من مضمونه، فرفض وخرج غاضباً. وكان أي شاعر وقتها يتمنى أن تغني شعره أم كلثوم، وأقسم أن يمنح القصيدة لأول مطرب يقابله، وكان ذلك هو فريد الأطرش الذي كان يعرفه دون صداقة، التقاه في إحدى المقاهي، مع صديق مشترك، وبمجرد أن سمع القصيدة، حتى قبل أن يغنيها وبشروط كامل من دون أن يضيف إليها أو يحذف منها، وصارت إحدى أهم ما غنى فريد الأطرش، وإحدى أيقونات أعياد الربيع، فلا يأتي عيده، إلا وتسمع فريد يغني:

أدي الربيع عاد من تاني
.. والبدر هلت أنواره
وفين حبيبي اللي رماني
.. من جنة الحب لناره
أيام رضاه يا زماني
.. هاتها وخد عمري
اللي رعيته رماني
.. وفاتني وشغل فكري
كان النسيم غنوه
.. والنيل يغنيها
وميته الحلوة
.. تفضل تعيد فيها
وموجه الهادي كان عوده
.. ولون البدر أوتاره
يناغي الورد وخدوده
.. يناجي الليل وأسراره
وأنغامه بتسكرنا أنا وهو
.. أنا وهو مافيش غيرنا.

لكن العلاقة مع فريد الأطرش مرت بمنعطفات عدة، وتخللتها مواجهة ليست مسلحة، حاول فيها كل طرف أن ينال من اعتبار الطرف الثاني بسبب سوء تفاهم بسيط، وأطلق كامل خلال هذه الحرب كل أسلحته الفتاكة في السخرية والمقالب الساخنة جداً.

عدت يا يوم مولدي

وتعود القصة إلى حيث تلقى صدمته الكبرى في حبيبته المطربة الشهيرة الرقيقة حانية الصوت، بطلة قصيدة «لا تكذبي»، ففي تلك الأثناء التي كان يكابد فيها الألم، اقترب عيد ميلاده، وكان أصدقاؤه يحتفلون به كل عام احتفالاً صاخباً فينهلون من كرم كامل ومن ظرفه وتألقه الساخر، فتكون ليلة من الضحك المجلجل، والسعادة الغامرة، لكن هذه المرة يأتي يوم ميلاده، الذي بدأ يتوجس من مجيئه كلما تقدم في العمر، واقترب من الأجل، في ظروف حزينة، تبدو الأكثر حزناً في حياته، فاختفى يوم عيد ميلاده، بحث عنه الأصدقاء للاحتفال كالعادة من دون جدوى، فأين اختفى؟
لم يتوقع أحد من أصدقائه الذين مسحوا مقاهي القاهرة وحاناتها، واتصلوا بالأماكن التي من المحتمل أن يكون سافر إليها على شاطئ الإسكندرية، أو «رأس البر»، أنه بالفعل خرج من القاهرة. لكنه وجد ملاذه وهدوء نفسه وعزائها فقط في «نوسا البحر» مسقط رأسه، وقريته العزيزة التي شهدت راحة بال الصبا والطفولة، حين كان أقسى ما يعكر صفوه بدانته التي تمنع من اللعب مع الصغار، وسخرية هؤلاء الصغار منه ومن جسده الضخم.
هناك وقف أمام المرآة ليُفاجأ بكهولته تتقدم على ملامحه، وكأنه يرى نفسه لأول مرة، رغم أن شعره حافظ على سواده حتى آخر لحظة في العمر ولم تغزوه إلا بضع شعيرات بيض قليلات، وكانت تلك من هدايا الزمن له كما كان يقول ويعتقد.
لكن ذا المشهد، وسط حالة الحزن النابعة من خيانة هي الأقسى في عمره، لمن أحبها بجنون، ووصفها بقوله إن:
- «شلال الكرز ينهمر من شفتيها، وعبير العنبر وكل المتبّلات الحارّة في الشرق تشرق من جبينها، وسحر الليل في عينيها، والدلال في شعرها المتهدّل على كتفيها».
لكن حالة الخيبة المكتملة لذلك الرجل السائر في طريق الكهولة وقد تجاوز الخمسين فيما لا يزال يتألم من وجع الخيانة وألم الفراق، انتهت أن كتب قصيدته الرائعة «عدت يا يوم مولدي»، وكأنه لاذ أخيراً بقلمه ليخفف عنه وطأة الألم النفسي، كما تخفف بـ{لا تكذبي»، و{لست وحدك حبيبها» من آلام الخيانة، فكتب يقول:

عدت يا يوم مولدي
.. عدت يا أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي
.. وغزا الشيب مفرقي
ليت يا يوم مولدي
.. كنت يوما بلا غد
ليت أنّي من الأزل
.. كنت «روحاً» ولم أزل..
ليت أني من الأزل
.. لم أعش هذه الحياة
عشت فيها ولم أزل
.. جاهلاً أنها حياة
أنا عمر بلا شباب
.. وحياة بلا ربيع
أشتري الحب بالعذاب
.. أشتري فمن يبيع؟

لكن القصيدة التي غناها فريد الأطرش لم تصل إليه هكذا بسهولة، فقد بدأ الأمر من عند محمد عبدالوهاب الذي كان قد أخذ «لا تكذبي» لتلحينها لمصلحة عبد الحليم حافظ، حيث التقى عبد الوهاب بـكامل الذي قرأ عليه قصيدته الأخيرة، فأعجب بها جداً وقرر أن يضع لها لحناً، وهو يعدد ما فيها من إبداع وإحساس وألم وفلسفة وتحفيز على التفكير.

من عبد الوهاب إلى الأطرش

تعلق كامل الشناوي بقصيدته الأخير تعلقاً كبيراً، وأراد أن يسمعها ويطمئن أنها صارت أغنية ووجدت طريقها إلى الأسماع، ربما إحساسه بالتقدم في العمر، وتعرضه لأول وعكة صحية كبرى، جعلته يعيد التفكير في إقباله على الحياة، ويركز على ما سيتركه فيها، بعد أن يغادرها. ويروي الشيخ سيد مكاوي، الموسيقار والملحن الشهير، أنه كان حاضراً في هذه الجلسة وشهد الاتفاق، وكان الشناوي مسروراً وكأنه كتب قصيدة لأول مرة، ولأول مرة يجد من يقوم على تلحينها وغنائها. حتى إنه قال
لعبد الوهاب:
- «ستكون أجمل لحظة في عمري حين أسمعها ملحّنة على يديك».
لكن مرت بضعة أشهر ولم يظهر لحن عبد الوهاب. كان الموسيقار الكبير قد فرغ تماماً من لحن «لا تكذبي»، وبدأ عبد الحليم في تسجيله تمهيداً لطرحه واستخدامه في الحفلات والإذاعة، لكنه تأخر كثيراً في تحقيق أمنية الشناوي بسماع لحن «عدت يا يوم مولدي»، فبدأ ينزعج لكنه لم يحاول الاتصال بـعبد الوهاب. ربما كبرياء منه، أو خوفه من أن يكون الموسيقار الكبير قد تراجع وخفت حماسته، أو بات مقتنعاً بعدم صلاحية القصيدة للغناء، خصوصاً أنه لم يفاتحه في أجرها ولو من باب «عزومة المراكبية»، وهو التعبير الذي يقصده المصريون في وصف من يدعي الكرم وهو في نفسه لا يرغب في أن يغرم مليماً.
لكن كامل نشرها في الصحيفة فقرأها فريد الأطرش وأعجب بها جداً، وسارع بالاتصال به يستأذنه بتلحينها وغنائها، فوافق كامل رغم أن علاقته بـعبد الوهاب كانت أقوى، ولم تكن صداقته بـفريد قد توطدت. لم يعرف فريد أن القصيدة كانت لدى عبد الوهاب، ولم تمض أيام محدودة حتى جمع لقاء في مناسبة اجتماعية الجميع: كامل الشناوي، محمد عبدالوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، سيد مكاوي... وكعادة الفنانين يُسألون دائماً عن جديدهم. فلما قيل لـفريد: {هل من لحن جديد؟»، أمسك العود وبدأ العزف والاسترسال، وغنى مطلع القصيدة البديعة.
بقدر فرحة كامل باللحن الذي أنجزه فريد في أقل من عشرين يوماً، واستمتاع الحاضرين، بقدر دهشة عبدالوهاب، الذي سمع القصيدة التي من المفترض أنها في حوزته. لكن ربما لأنه لم يتعاقد عليها، مرر الأمر ببساطة، خصوصاً أنه كموسيقي لديه ولاء للموسيقى. أعجبه اللحن جداً وأثنى عليه بكلمات احتفائية.
لكن رغم ذلك قيل إن عبد الوهاب طرح «لا تكذبي» في وقت متزامن مع «عدت يا يوم مولدي»، ونجح في التغطية عليها، وكانت الإذاعة التي يملك فيها نفوذاً واسعاً تُذيع «يوم مولدي» بصوت «فريد الأطرش» مرة، وتذيع «لا تكذبي» بصوت عبد الحليم عشر مرات.

حرب التشنيعات الساخرة

لكن على أي حال فقد نجحت القصيدتان نجاحاً كبيراً. صحيح أن نجاح «لا تكذبي» كان أكبر، لكن ذلك بفعل انتشارها كقصيدة، وشيوع القصة من ورائها التي قرأها الناس في الصحف، وكتب عنها كامل نفسه، كما ضمنها إحسان عبد القدوس إحدى روائع قصصه.
لكن قصيدة «عدت يا يوم مولدي»، كانت بداية حرب باردة بين كامل الشناوي وفريد الأطرش، قبل أن تتوطد الصداقة بينهما، وذلك بسبب أن فريد لحن القصيدة وغناها من دون أن يعرض أجرها عليه، أو يفاتحه في أمر الأجر. وكان فريد يظن أن كامل أهداه القصيدة، كما كان يفعل كثيراً مع أصدقائه، وحاول أن يُفهم الموسيقار الكبير أنه لا بد من أن يدفع ثمن القصيدة من دون جدوى، فأرسل إليه جليل البنداري وكان صديقاً مشتركاً ليطلب من الأطرش ثمن القصيدة، وعاد بشيك بمبلغ مئتي جنيه. لكن كامل رفض قبول الشيك، واعتبر المبلغ أقل من قيمته كشاعر ومن قيمة ونجاح قصيدته، واعتبر تصرف فريد ينم عن سوء تقدير لفنه، وطلب ألف جنيه ثمناً للقصيدة، وتحفظ فريد عن الرقم واعتبره مغالياً فيه، فصمت كامل عن المطالبة بشيء حتى ظن فريد أنه خضع.
لكن كامل كان قد أعلن حرب السخرية على الأطرش، وبدأ يطارده بالنكات والإشاعات وتأليف المواقف الساخرة التي تدفع إلى التقليل من اعتباره.
من ضمن ذلك أن كامل لم يترك أحداً لم يحك له بأسلوبه الإقناعي الفريد، أنه كان يجلس مع أستاذ الجيل المفكر الكبير أحمد لطفي السيد، في بهو فندق «سيسيل» بالإسكندرية، حين أقبل عليهما فريد الأطرش، وأراد كامل أن يجري تعارفاً بينهما، فقال لفريد:

- «أقدم لك لطفي السيد أستاذ الجيل».
فبدت على «فريد الأطرش» علامات الدهشة والتعجب وقال لـكامل:
- « ياه.. الراجل العجوز ده، هو اللي جابوه بدل أنيس منصور في مجلة الجيل الجديد».
بالقطع القصة كلها من تأليف كامل، ولم تحدث مطلقاً، والهدف منها كان إظهار فريد الأطرش في أوساط المثقفين وكأنه «جاهل» لا يعرف الفارق بين مفكر كبير يحمل لقب أستاذ الجيل، وبين صحافي شاب وقتها، أنيس منصور، يرأس تحرير مجلة اسمها «الجيل الجديد». لكن القصة سرت بفعل نفوذ كامل وتأثيره وكأنها حقيقة، ما جعل أصدقاء فريد الأطرش ينصحونه بضرورة مصالحة كامل للنجاة من تشنيعاته الساخرة عنه، وبالفعل خضع فريد الأطرش ودفع لكامل ألف جنيه ثمناً لقصيدته «عدت يا يوم مولدي».
لكن بقيت مرارة في حلق فريد الأطرش، الذي حاول الانتقام من كامل، واستغل فيلم «رسالة من امرأة مجهولة» الذي كان يقوم ببطولته، ليقدم من خلاله صورة مشوهة للصحافيين، ملمحاً إلى أنه استقى هذه الصورة من حياة كامل الشناوي. وأغضب الفيلم الصحافيين، واعتبره كامل إهانة للصحافة والصحافي، ومضى يرد لفريد الصاع صاعين، فقال في ندوة عامة إن أحداً من كبار القوم الثقات في لبنان قال له إن فريد الأطرش لا ينتمي من قريب أو بعيد إلى عائلة الأطرش الشهيرة، ولا إلى سلطان جبل الدروز في لبنان، وليس أحد أمراء الدروز كما كان معروفاً، بل ينتمي إلى أسرة متواضعة تدعى «كوسة»، حتى صدقه ناقد معروف وضمَّن هذه المعلومات في سياق مقال كتبه عن الفيلم، ما أغضب فريد جداً، وحين علم أن كامل وراء ذلك، اعتبر أن استمرار الحرب بينهما ليس له داع، فلن يستطيع الصد أمامه ومن الأفضل الاستسلام والتصالح، خصوصاً أن الخلاف على أجر الأغنية لم يكن بسبب مغالاة كامل في الأجر فقد كان ذلك هو الأجر المعتاد الذي يحصل عليه كامل في قصائده، ولم يكن يقبل المساومة في ذلك أبداً.
لكن الحرب بينهما تحولت إلى صداقة كبرى، وغنى فريد الأطرش من أشعار كامل قصيدة الربيع، كما غنى أيضاً قصيدة «لا وعينيك» التي يقول فيها:

لا وعينيك يا حبيبة روحي
.. لم أعد فيك هائماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء
.. أن تليني أو تجنحي للجموح
واهتدت حيرتي فسيان عندي
.. أن تبوحي بالحب أو لا تبوحي
وخيالي الذي سما بك يوماً
.. يا له اليوم من خيال كسيح
والفؤاد الذي سكنت الحنايا منه
.. أودعته مهب الريح
لا وعينيك ما سلوتك عمري
.. فاستريحي وحاذري أن تريحي.

وتوطدت الصداقة القصيرة بينهما والتي انتهت برحيل كامل الشناوي وقال عنه فريد الأطرش بعد رحيله:
- «من سوء حظي أنني لم أعرف كامل الشناوي عن قرب إلا منذ ثلاث سنوات سبقت وفاته. إنني نادم على ما فات قبل ذلك، وخلال هذه الفترة القصيرة التي عرفته فيها، كانت معرفة الأخوة والصداقة، لقد أحببت كامل وأصبح قطعة مني، كان صديقاً وأخاً للجميع، أحب الفن لأنه فنان، وأعطى الفنانين والأدباء من روحه وقلبه الكثير، لقد فقدنا بموت كامل الشناوي الأخ الوفي... والفنان الحساس».

فريد الأطرش


في جبل الدروز في بلدة القريا ولد فريد الأطرش عام 1917، وقد عانى حرمان رؤية والده ومن اضطراره إلى التنقل والسفر منذ طفولته، من سورية إلى القاهرة مع والدته هرباً من الفرنسيين المعتزمين اعتقاله وعائلته انتقاماً لوطنية والدهم فهد الأطرش وعائلة الأطرش في الجبل الذي قاتل ضد الفرنسيين، عاش فريد في القاهرة في حجرتين صغيرتين مع والدته عالية بنت المنذر وشقيقه فؤاد وأسمهان. التحق فريد بإحدى المدارس الفرنسية «الخرنفش» وكانت والدته تعمل في الأديرة، وهذا ما دفعها إلى الغناء في روض الفرج لأن العمل في الأديرة لم يعد يكفي، وافق فريد وفؤاد بشرط مرافقتها حيثما تذهب.

حرصت والدته على بقاء فريد في المدرسة ثم ألحقته بمعهد الموسيقى عزف فريد في المعهد وتم قبوله فأحس وكأنه ولد في تلك اللحظة، إلى جانب المعهد بدأ ببيع القماش وتوزيع الإعلانات من أجل إعالة الأسرة، وبعد عام بدأ بالتفتيش عن نوافذ فنية ينطلق منها حتى التقى بفريد غصن والمطرب إبراهيم حمودة الذي طلب منه الانضمام إلى فرقته للعزف على العود، وتم تنظيم حفلة يعود ريعها إلى الثوار. أطل فريد تلك الليلة على المسرح وغنى أغنية وطنية ونجح في إطلالته الأولى، بعد جملة من النصائح اهتدى إلى بديعة مصابني التي ألحقته مع مجموعة المغنين ونجح أخيراً في إقناعها بأن يغني بمفرده، وبدأ بتسجيل أغانيه المستقلة. سجَّل أغنيته الأولى {يا ريتني طير لأطير حواليك}، كلمات وألحان يحيى اللبابيدي، فأصبح يغني في الإذاعة مرتين في الأسبوع، لكن ما كان يقبضه كان زهيداً جداً.
استعان بفرقة موسيقية وبأشهر العازفين كأحمد الحفناوي ويعقوب طاطيوس وغيرهم وزود الفرقة بآلات غربية، إضافة إلى الآلات الشرقية وسجل الأغنية الأولى وألحقها بثانية {بحب من غير أمل}، وبعد التسجيل خرج خاسراً. لكن تشجيع الجمهور عوض خسارته وعلم أن الميكروفون هو الرابط الوحيد بينه وبين الجمهور، فوطد علاقته بكبار المؤلفين والملحنين منهم كامل الشناوي، وعرف عنه أيضاً حبه للخيل. ذات يوم، وفيما كان في ميدان السباق راهن على حصان وكسب الجائزة وعلم في الوقت عينه بوفاة أخته أسمهان في حادث سيارة فترك موت أخته أثراً عميقاً في قلبه تعرض إلى ذبحة صدرية وبقي سجين غرفته، تسليته الوحيدة كانت التحدث مع الأصدقاء وقراءة المجلات. تُوفي في مستشفى الحايك في بيروت إثر أزمة قلبية، وذلك عام 1974 عن عمر 64 سنة.
 
. شاعر الليل (14): قائد سلاح النكتة والسخرية والمقالب



الأربعاء 01 يوليو 2015 - الساعة 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس. كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435668481_2_Untitle5y7d-1.jpg

1435668480_54_4.jpg

1435668480_72_2.jpg

1435668480_89_3.jpg

1435668481_04_1.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
يوصف كامل الشناوي بأنه آخر ظرفاء العصر. كانت قدرته على السخرية وإطلاق النكات وتدبير المقالب والإفلات من المواقف الصعبة من ملامح شخصيته التي عُرفت عنه، وكانت جرأته في ذلك مضرب الأمثال، وكيف وقد تجرأ مرة وكتب قصيدة بأسلوب شاعر شهير، وسلمها للنشر في صحيفة، مدعياً أنه مندوب الشاعر، فقط ليثبت لنفسه وللمثقفين، أن معايير نشر الشعر تنظر إلى الأسماء قبل أن تنظر إلى مضمون الشعر، وأن هذا النوع من الشعر العمودي الغارق في التوصيفات والتراكيب والصور الشعرية القديمة سهلة التقليد والنظم.
بدأت هذه المهارة معه مبكراً منذ صنع من نفسه صورة كاريكاتورية كطفل {مقطوع الذراع} ليصرف نظر الأطفال في قريته عن السخرية من بدانة جسده.

ذكريات عا ئلية

ومن نوادره في حي {السيدة زينب} أنه كان يعشق السهر، ويعود إلى المنزل في وقت متأخر جداً. وكان والده يتشدد في منع السهر، خصوصاً أثناء ليالي مولد السيدة زينب. لكن كامل كان يتحايل على هذه الأوامر، وحدث أن قضى سهرته حتى مطلع الفجر، وعاد إلى المنزل بحذر، فسمع والده وقع خطاه على السلم، فخرج من غرفته ليجد نجله أمامه على السلم، فما كان من كامل سوى أن استدار باتجاه هبوط السلم وليس صعوده، وبمجرد أن سأله الوالد عن سبب استيقاظه في هذه الساعة، رد:
- {رايح أصلي الفجر في مسجد السيدة}.
فبادر والده بالدعاء له باستمرار الهداية والإيمان.
ومرة سمع الوالد وقع قدميه، وحين فتح باب غرفته وجد كامل يصيح:
- {مين؟}.
ويدعي أمام والده أنه استيقظ لفتح الباب الذي ظن أن أحداً طرقه، وهو في الحقيقة عائد للتو من الخارج.
وكان والده يرفض تماماً هواية التمثيل التي شعر أن كامل مغرم بها، وعنفه عليها بدعوى أنه لا يريد لنجله أن يكون {مشخصاتي}. وكان لوالده صديق معروف كان رئيساً لحزب العمال، ويدعى محجوب ثابت، انقطعت زياراته فجأة واختفى حتى قلق الشيخ سيد الشناوي عليه، فتنكر كامل في هيئة صديق والده، استخدم ملابس مشابهة، وماكياجاً جعل ملامحه قريبة، وقلد صوته وكان بارعاً في تقليد الأصوات، وذهب لزيارة والده على أنه صديقه محجوب، فاحتفى به الوالد احتفاء كبيرا، حتى اكتشف الملعوب، فانهال على كامل ضرباً بالعصا.
في أحد الأيام، أراد شراء مجلة {اللطائف المصورة} ولم يكن معه ثمنها، فقال لشقيقه مأمون الذي لم يكن من متابعيها:
- مجلة {اللطائف} نشرت هذا العدد صور جميع طلاب مدرستكم}.
فسارع مأمون إلى شراء المجلة، ولم يجد أية صور. لكن كامل ظفر بالعدد مجاناً. وحين تخرج أخوه غير الشقيق المعتز بالله الشناوي، وعمل في المحاماة، وعلقت الأسرة لافتة دعائية له تقول {المحامي أمام المحاكم الشرعية}، تسلل كامل وكان صبياً وأزال من اللافتة كلمة {أمام} ووضع بدلاً منها {وراء}، وظلت اللافتة هكذا، وحين لاحظ شقيقه الأمر، اشتكاه لوالده، أدعى كامل بسذاجة أنه ظن أن الجملة تصف موقع البيت، وهم يسكنون وراء المحكمة الشرعية وليس أمامها.
ومرة مرض وأوصى الطبيب ألا يأكل سوى اللبن والتين المجفف، لكن شقيقه عبد الرحيم كان يتسلل يومياً ليأكل من طعامه دون أن يدري، وحاول كامل أن يعرف اللص، فقرر عند اجتماع جميع أشقائه على الغداء، وأمسك فكه متوجعاً وقال:
- {أسناني مازالت تؤلمني، رغم كمادات اللبن والتين}.
بالقطع سأله شقيقه عن هذه الكمادات، فشرح له كامل أنه كل يوم يبلل القطن باللبن والتين، ويضع القطن على أسنانه ثم يعيد القطن إلى الطبق... وهكذا، فما كان من عبدالرحيم أن سمع ذلك، حتى فضح نفسه بإفراغ ما في جوفه.
وكان يلعب الورق في مراهقته مع أصدقائه، ودخل عليهم والده، فنهرهم بعنف:
- {بتلعبوا قمار؟!}.
لكن كامل رد بثبات مستغلاً جهل والده بالمسميات الحديثة لهذا اللعب:
- {أبداً... والله العظيم مش قمار... ده بوكر}.

مقالب النجوم

كان يسهر مع المطرب المعروف عزيز عثمان وزوجته النجمة السينمائية ليلى فوزي، حين جاء النادل يخبر عزيز أن مكالمة هاتفية بانتظاره. اتجه عزيز نحو الهاتف، ووجد من يخبره أن حريقاً شب في منزله، فهرع إلى هناك ليجد عدداً من أقاربه يبكون وينتحبون ويرتدون السواد، بعدما تلقوا اتصالاً يفيد بموت عزيز عثمان في حادث أليم. وفهم المرحوم الحي أن كامل صاحب المقلب، بسبب هجوم سابق لـعزيز عليه.
وكان صديقه الممثل سعيد أبوبكر معروفاً بحرصه على المال، وفي الوقت نفسه حب الطعام، فهاتفه كامل وأخبره أنه يعزمه على عشاء فاخر مع خمسة آخرين من أصدقائه، وأن عليه أن يتصل بالمطعم الشهير، حيث يعرفونه أي {أبو بكر} ويحجز العزومة في الثامنة مساء. جاء الموعد ولم يحضر سوى {أبو بكر}، وعندما مر الوقت فهم المقلب، واضطر إلى دفع الفاتورة، وهاتفه كامل، ليخبره أن ضيوفه مرهقون ولن يحضروا، ثم يضحك وهو يقول له:
- {وزع الأكل على المساكين وأبناء السبيل}.
وكان المخرج محمد سالم قد عاد بعد غيبة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية، وفاته كثير من المتغيرات في مصر، وحاول استعادة نشاطه الفني، وسأل كامل النصيحة، فأشار عليه أنه يمكن أن يجمع فريد الأطرش وشقيقته أسمهان في عمل مشترك، وطلب منه أن يتصل بفريد، ويطرح عليه الفكرة، وحذره مسبقاً من أن فريد قد يرفض، أو يتحجج بسفر أسمهان أو حتى يدعي وفاتها، وأن عليه أن يلح بإصرار، ويعرض عليه أجراً مضاعفاً.ولما نفذ سالم النصيحة تعرض لحرج بالغ من فريد الأطرش حتى اقتنع أنه مقلب من الشناوي، وأسمهان توفيت بالفعل.
وفي تلك الأثناء أقنع كامل المخرج محمد سالم، أن الدكتور لويس عوض واحد من أشهر مفكري عصره، فنان قدير وحاصل على دكتوراه في الدراما، ويجيد تمثيل كل الأدوار، لكنه اعتزل، واكتأب بسبب مضايقات المخرجين والمنتجين الذين لا يقدرونه مادياً وأدبياً، وأن أعظم ما يمكن أن يقدمه كمخرج للفن، هو إقناع لويس عوض بالعودة إلى جمهوره وفنه.
ونفذ سالم النصيحة أيضاً، واتصل بلويس عوض، وعرض عليه المشاركة بالتمثيل في عمل تلفزيوني كبير، فعاجله عوض بالتقريع لاعناً جهله وضحالة ثقافته، وأغلق الهاتف في وجهه.
عاد سالم، وحكى لكامل الشناوي ما جرى، فعنفه بدعوى أنه اتصل في وقت غير مناسب، لأن والدة لويس عوض توفيت للتو، فانتظر سالم أسبوعين ثم عاود الاتصال بلويس عوض مجدداً العرض، ومحاولاً نصحه أن يتغلب على أحزانه ويعود إلى فنه وجمهوره ويبدأ من جديد. لكن لويس أسمعه المزيد من الشتائم، وهدده بإبلاغ البوليس إن استمر في إزعاجه.

{بالطو} حمدي وعشاء أم كلثوم

وكان كامل مستشاراً عاطفياً لبليغ حمدي، الملحن الشهير جداً، والذي كان رفيقاً دائماً في السهرات. وحين بدأت العلاقة العاطفية بين بليغ ووردة الجزائرية، كان يشكو من تشدد شقيق المطربة، وحضوره الدائم في كل لقاءاتهما، ما يمنعه من الانفراد بها أو الإفصاح عما بداخله نحوها. حتى في تلك اللقاءات التي كانت تجمعهما للتدريب على لحن جديد كان الشقيق يفرض نفسه. ونصحه كامل أن يرتدي {بالطو} كلما التقى وردة، وأن يكتب خطاباته الغرامية لها ويضعها في الجيب، وكانت وردة تمد يدها، وتأخذ الخطاب، وتضع في الجيب الآخر خطابها.
وحدث أن كان سهراناً بصحبة محمد عبد الوهاب وعدد آخر من الموسيقيين والمطربين من بينهم عبد الغني السيد، فدخل عليهم مطرب شعبي كان في الأصل أحد أفراد تخت عبد الوهاب، وكان مخموراً، فأخذ يهجو الموسيقار ويسبه، فغرق في الحرج وعجز عن الرد بما عُرف عنه من افتقاره لملكات الهجوم العلني على خصومه. فتصدى كامل للرد عليه، وهذه المرة هجاه بشعر ارتجله من وحي اللحظة، فأغرق الحاضرين جميعاً في ضحك مجلجل، فقال في هذا المطرب المغمور:

ما أصعبه
ما أرهبه
ما أعجبه
ما أغربه
يا ليت إنساناً بمد الكف
كان هذبه
وعلى الرصيف وضبه
وشده واغتصبه
ونال منه مأربه.

وعندما اشترى الكاتب الصحافي يوسف الشريف سيارة صغيرة، قال له كامل:
- {والله ربنا رحمك يا يوسف... بدل ما تزق عربية بليغ... تزق لحسابك}.
وبمناسبة السيارات كانت للمصور الصحافي منير فريد سيارة قديمة كثيرة الأعطال، وجاء من يشتريها في حضور كامل، فقال منير فريد للمشتري إنها لم تعمل سوى أربعة آلاف كيلو متر، فسارع كامل بالتدخل في الحديث قائلاً:
- {هذا صحيح... حتى بالأمارة أنا زقيت منهم ألفين كيلو}.
وكان الشاعر أحمد رامي لا يملك هاتفاً في منزله، وكلما سأله أحد لماذا لا يحصل على واحد، يقول:
- {قدمت طلباً لمصلحة التليفونات منذ عشر سنوات ولم ترد، ويبدو أن المصلحة تفضل عدم إزعاجه بالمكالمات حتى يتفرغ لكتابة الأغاني لأم كلثوم}.
لكن كامل كان عنده تفسير آخر، حيث قال إنه يخشى أن تكلمه أم كلثوم في الهاتف ويرد عليها أمام زوجته، فتظن أن {الست} متيمة بزوجها، وقال في ذلك قولته الساخرة الشهيرة:
- {تاريخ الشعر سيذكر أن شاعرين فقط لم يدخل بيتهما الهاتف... امرؤ القيس وأحمد رامي}.
وخلال خوضه معركة الشعر الجديد مع الجيل الأحدث الذي تحرر تماماً من السجع والتفاعيل، دخل في سجال مع الشاعر الشاب وقتها أحمد عبد المعطي حجازي، وكان يسخر من صلعته، وسماه {أصلع غرناطة}.وكان يجاوره صحافي في جريدة {الجمهورية} يخرج صوته من الأنف فسماه {أخنف نوتردام}. وكان له صديق دائم الخطبة ثم فسخ الخطبة، فسماه {إسماعيل الفسخاني}. وسمى كاتباً يسارياً كان دائم الكتابة عن الفقراء والعدالة رغم ثرائه وامتلاكه الكثير {البارون الاشتراكي}. وقال عن الممثل سعيد أبو بكر:
- {دخلت عليه غرفته بمسرح الأزبكية فضبطته بيحوش}.
وذهب مع صديقه الشاعر عبد الحميد الديب إلى عزاء، وهما بعد لم يخلعا الزي الأزهري، وكان العزاء في قرية بجوار القاهرة، ويحضره عدد كبير من الأزهريين، والجو شديد الحرارة، وكان {الديب} من ظرفاء عصره، فجلس وكامل يتأملان العمائم وهما يضحكان ضحكاً مكتوماً، ثم مال عليه كامل وكأنه يلقنه شيئاً، وفجأة صاح الديب في المعزين، بحديث مزعوم عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)..
ورغم أن غالبية الحضور أزهريون، إلا أنهم سمعوا {الحديث المزعوم} وصلوا على النبي، ثم حلوا عمائمهم، بعدما بدأ كامل بحلها استجابة لدعوة الديب. لكن شيخاً عجوزاً انتبه فجأة بعدما حل عمامته، فصرخ في الناس أن يعيدوا العمائم، وأخبرهم أن الحديث غير صحيح، فغضب المعزون وانهالوا على الديب ضرباً، فيما أظهر كامل أنه لا يعرفه.
وفي ليلة ذات صيف، قرر أن يدعو أم كلثوم وعبد الوهاب ومجموعة من الأصدقاء على العشاء في فندق {مينا هاوس}، وهناك وجد المطعم أغلق أبوابه مبكراً، وصار موقفاً محرجاً أمام ضيوفه، وسخرت منه أم كلثوم، وكانت الوحيدة التي تقدر عليه. لكنه في تلك اللحظات شاهد عمال مطعم شهير يحملون خروفاً محشواً بالمكسرات، ويدخلون به الفندق، تحرى عن الأمر سريعاً، فعرف أن المطرب محمد أمين يقضي شهر العسل في الفندق بعد زواجه من الفنانة الشهيرة مديحة يسري، فسارع كامل إلى إعلان أن العزومة قائمة، معلناً انتصاره على أم كلثوم، وقال لضيوفه إن الفندق طلب الطعام من الخارج، بسبب الإصلاحات في مطعمه.
وصحب كامل ضيوفه إلى الدور العلوي، حيث جناح مديحة يسري وزوجها، وظن الزوجان أن هذه الكوكبة جاءت لتبارك لهما الزواج، فرحبوا بالجميع، وتقاسموا الخروف، وكانت سهرة رائعة غنى فيها عبد الوهاب وأم كلثوم، وكان الزوجان في غاية السعادة.

تقليد الأصوات

وكان كامل يجيد تقليد الأصوات، واستغل موهبته تلك في تدبير بعض المقالب وبعض المصالحات، أشهرها خلاف كبير نشب بين الكاتبين الكبيرين وقتها توفيق دياب وعبدالقادر حمزة، تطور إلى المحاكم وفضح الأسرار الخاصة، فاتصل ذات ليلة بعبدالقادر حمزة مُقلداً صوت توفيق دياب، وأبدى توفيق المزيف الندم والاعتذار عما بدر منه، وبكى حمزة من التأثر، وبكى كامل بطريقة بكاء توفيق، ثم عاود الكرة وتقمص صوت عبد القادر حمزة واتصل بتوفيق دياب مبدياً ذات الندم والاعتذار. وفي صباح اليوم التالي كان الكاتبان يتحادثان ويعلنان انتهاء خلافهما وكل منهما يعتقد أن الآخر من بادر بالاعتذار.
وخلال صيف ما في {رأس البر} وجد جاره القاضي، يضرب خادمته الصغيرة بعنف، فقرر أن ينتقم منها، وكانت لهذا القاضي ميول وفدية، وكان الملك فاروق قد دعا مصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد، لتشكيل الحكومة، فتقمص كامل صوت فؤاد باشا سراج الدين، سكرتير عام الحزب، واتصل بجاره القاضي، وأخبره أن النحاس باشا اختاره ليكون وزيراً للعدل، وعليه أن يمثل في قصر عابدين صباحاً بزي التشريفة ليحلف اليمين أمام الملك.
استأجر القاضي بدلة التشريفة، وأذاع الخبر على كل أهله وأصدقائه ومعارفه، وذهب لقصر عابدين، ووجد النحاس وسراج الدين وباقي الوزراء وسلم عليهم بحرارة وهم يتعجبون من وجوده. وحين جاء موعد الدخول إلى قاعة حلف اليمين حاول الدخول، فناداه النحاس باشا وعنفه بشدة على وجوده، وكاد يضربه بعصاه، والرجل يحاول إفهامهم أنه تم الاتصال به ليكون وزير العدل. لكن الجميع استقبل حديثه بالسخرية والضحك وتم طرده من القصر.
ومرة جاءه رجل ريفي يدعى حسين العجيزي، يطلب منه التدخل باعتباره صحافياً معروفاً ومعه البكوية، لإعفاء نجليه من التجنيد، وحاول كامل إقناعه أن ذلك لم يعد يحدث لا بالوساطة ولا حتى بدفع الرشاوى ولكن دون جدوى، فاضطر إلى أن يخبره أنه سيكلم له حيدر باشا، وزير الحربية.
وبالفعل تحدث كامل إلى الباشا، لكن بصوت هذا الرجل أكثر من مرة، وقال لخادمه إنه يريده في أمر خطير، فأيقظوه، وعندها قال له:
- {أنا حسين العجيزي، وعندي ولدان محبوسان، واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، وأريد جمع شملهما في سجن واحد}.
كان حيدر باشا ضابطاً صارماً، استمع إلى المكالمة وأغلق الخط. لكن كامل طارده في كل مكان بالاتصالات على أنه حسين العجيزي، حتى طلبه مرة على هاتفه المباشر الخاص جداً، وعنفه جداً، وقال له كلاماً قاسياً عن أن الوزراء هم خدام المواطنين، وأنه لا يصلح وزيراً، وأنه سيأتي إلى مكتبه غداً في العاشرة صباحاً، فإما أن ينجز له طلبه، أو لن يسلم من غضبه.
وجاء الرجل يسأل كامل عمَّا فعل، فقال له إنه رتب له موعداً مع حيدر باشا شخصياً غداً في العاشرة صباحاً، فذهب الرجل في اليوم التالي في الموعد المحدد، وبمجرد أن ذكر اسمه، حتى قبض عليه أمن الوزارة وأوسعوه ضرباً بأوامر مباشرة من وزير الحربية.
وحين كان رئيساً لتحرير جريدة {الجمهورية}، لاحظ أن محرراً ما يستسهل الحصول على البيانات الرسمية، ولا يجلب أخباراً مهمة فيها جهد بحثي، فأراد أن يستحثه، فاستدعاه مرة، وقال له:
- {طبعاً أنت تعرف أن الأديب الروسي الكبير تولستوي هو رئيس المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي}.
رد المحرر:
- {طبعاً يا فندم... هو مؤلف الحب والسلام، أنا شاهدت الفيلم}.
اطمأن كامل إلى ضحالة معلومات المحرر، فالرجل مؤلف {الحرب والسلام}، وهو يختلط عليه اسم الرواية، ولم يتوقف بأي شكل من الدهشة أو الإنكار أمام المعلومة المغلوطة حول تولى تولستوي سكرتارية الحزب الشيوعي، وهو الذي تُوفي قبل الثورة البلشفية وتأسيس الاتحاد السوفياتي من الأساس. لكن ذلك دفع كامل إلى المضي في مقلبه، فقال لمحرره إن تولستوي هنا في القاهرة على رأس وفد سوفياتي لإجراء مباحثات خطيرة، وعليه أن يعرف التفاصيل ويجري معه حواراً.
ذهب المحرر إلى وزارة الخارجية ليسأل، فقيل له إنه لم يحضر وفد سوفياتي، فظن أنهم لا يرغبون في التعاون معه، فذهب للرئاسة، وطلب من صلاح الشاهد، كبير الأمناء في القصر الجمهوري، مساعدته في عمل حوار مع تولستوي، وصارت قصته مثار سخرية الجميع في الرئاسة والخارجية وفي أوساط الصحافيين. حتى إن هذا المحرر حضر لقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر، وبمجرد أن تحدث ضحك عبد الناصر وهو يقول له:
- {أنت بتاع تولستوي}.
وضجت القاعة بالضحك.
 
.. شاعر الليل (15) ... رسائل الحب والحياة



الخميس 02 يوليو 2015 - الساعة 00:01
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا بالأمس فقط... كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

1435753524_69_Untitled-1.jpg

1435753524_88_4.jpg

1435753525_05_2.jpg

1435753525_21_dasfdsfds.jpg

كتب الخبر: أحمد الصاوي
T+ | T-
أخبار ذات صلة
نعيمة عاكف... التمر حنة (18)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (2) ... وضاع الحلم يا ولدي
نعيمة عاكف... التمر حنة (17) ... «الصبر طيب»
فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (1) ... «يغسل الهموم بالضحك»
{جرأتي راحت
... ولا أعرف أين
بسمتي ضاعت
... ودمعي بين بين
الهوى خجلان
.... رامي الوجنتين
وحنيني لك
... مكتوف اليدين
أنا لا أشكو
... ففي الشكوى انحناء
وأنا...
نبض عروقي كبرياء}

دخل كامل الشناوي عامه السابع والخمسين كما يدخل الكهل شيخوخته، تكاثرت عليه الأمراض، وساعدها على ذلك بنمط حياته الموغل في الفوضى والسهر والنهم للطعام دون تقدير عواقب، مرة من وعكة كبرى واثنتين، وغادر سريرا في مستشفى ليستقر في سرير من دون جدوى، ليس من العلاج، لكن من سلوكه الذي لم يحتم به جسده الذي كانت الصدمة الكبرى أنه يعاني من {السكر والكبد والالتهاب الرئوي وتسمم الدم}، وكان يقول لأصدقائه:
- {قال لي طبيبي إن نسبة السكر في دمي قد ارتفعت بصورة تدعوني إلى الحيطة والحذر، وأخذت منه قائمة الأدوية، وأحسست وأنا أضعها في جيبي أن رصيدي من الأدوية قد تضخم، وهكذا أصبح لي رصيدان بلغا الضخامة والجسامة أقصى الحدود... رصيدي من الأدوية... ورصيدي من الديون}.
ورغم ذلك كله ظل يسرف في الممنوعات من طعام وسهر ومجهود يصاحب كل هذا، مع عدم قدرته على الالتزام ببرنامج يحتوي الآثار السلبية لبدانته، ويقلل وزنه. وقبل عيد ميلاده الأخير، غافل أصدقاءه الذين كانوا يجهزون للاحتفال، دخل المستشفى، وتحلق الأصدقاء حول سريره، وكان من بينهم محمد عبد الوهاب وزوجته نهلة القدسي التي وعدت كامل بأن تنظم له سهرة بديعة للاحتفال بعيد ميلاده بعد شفائه، وأن تدعو كل أصدقائه، فرد الشاعر الممد على سرير المرض:
- {هذه المرة سيطول الرقاد}

نجاة كامل

اختفت صفحته التي كان يحررها في جريدة {الأخبار}، وحلّ محلها تقرير خبري كبير تحت عنوان:
- {نجا كامل الشناوي من الموت بمعجزة... قال المفتي: كان الأمل واحدا في الألف}.
و}المفتي} هو الدكتور أنور المفتي الطبيب الشهير وقتها، ونقلت القصة أن كامل الشناوي يرقد الآن في حجرة بمستشفى {قصر العيني}، بعدما اجتاز مرحلة الخطورة... إنه لا يعلم حتى الآن كيف فتح عينيه، ليجد نفسه محاطا بالأطباء وأحدث الأجهزة العلمية، ثم يسأل: أين أنا؟ ثم يستنتج أنه في المستشفى، ثم يسأل لماذا جاء إلى {قصر العيني؟} وكيف جاء؟
يجد حوله أصدقاءه من كبار نجوم الغناء والموسيقى والشعر والأدب والصحافة، مصطفى أمين لا يطلب من المحررين خبراً جديداً، لكنه يطلب منهم البحث عن أنبوبة أوكسجين... الدكتور أنور المفتي الذي يعرف حالة الشناوي جيدا هو الذي طلب ذلك، وإحسان عبد القدوس لا يعرف ماذا يفعل، وعبد الحليم حافظ يقف مرتبكاً، ومحمد حسنين هيكل لا يرفع يده عن إدارة قرص التليفون لتوصيله بكل المسؤولين، وبعدها يذهب إلى المستشفى، وعندما يرى الشناوييبكي من شدة التأثر... وهو بين حين وآخر يتحدث وكأنه يسارع بتأكيد معنى لحياته:
- {أنا لا أخشى آخرتي... لأنني أتصورها أكثر جمالاً وفناً وخيراً وحقاً من الدنيا، لقد كنت في شبابي أتهيب لقاء الله، لأنه لم يكن عندي من مؤهلات اللقاء ما يشجعني على أن ألقاه، كان إيماني شعوراً فقط، وقد أصبحت بحمد الله جديراً بأن ألقى ربي في كل لحظة، فأنا أؤمن به بفهم... وأفهمه بإيمان}.


الحب والحياة

وقبل أن يكتمل العام 1965، كان يلقى ربه، تاركاً تجربة عريضة وواسعة كشاعر وصحافي وفنان ومفكر وفيلسوف وإنسان، تراثه وثروته في كلماته ورسائله وأسئلته عن الوجود والحب والحياة.

قال كامل الشناوي:
- لماذا استشعر الكآبة دائماً... لماذا أحس احتراقاً يلهبني ويكويني، كلما فكرت وحدي، وما أكثر ما أفكر وحدي، لقد ظننت أن سر ما أعانيه هو هذا الصراع الطبيعي القائم في كياننا نحن البشر، الصراع بين الجسد والروح. الجسد يحاول أن يقهر الروح، والروح تحاول أن تقهر الجسد، وكل الناس مثلي في هذا الصراع، ولعلي في ذلك أسعد حظاً من غيري، فقد استطعت بحكم السن والمرض ودمامة الشكل، أن أعقد هدنة بين جسدي وروحي، وما أقل الذين استطاعوا ذلك.

- الناس جميعاً يتمنون أن تطول أعمارهم، هذه هي القاعدة، وقد يشذ عنها بعض المفكرين والفلاسفة وهواة الانتحار، ولست والحمد لله واحداً من هؤلاء، ومع ذلك فإني كثيرا ما أتساءل: هل طول العمر نعمة أم عقوبة؟ الموت ليس مشكلة... الحياة هي المشكلة.

- إنني أحب الجمال ولو تحول إلى خنجر يسكن ضلوعي، يجول فيها، ويتلوى ويقفز، أحبه في فكرة، كلمة، لوحة، نظرة، إشارة، شروق، ضباب، حقيقة، خيال، بحر هائج، رياح عنيفة، نسيم ضعيف، نغمة تنساب من حنجرة، آلة موسيقية، أو... كعب حذاء.

- أحياناً تنتابني حيرة لا أستطيع معها أن أحزن أو أفرح... لأن الأيام التي تنقضي من عمري تزيد من سني، وتجربتي، وثقافتي، وانفعالي بالجمال، فكيف أحزن على النقص، ولا أفرح بالزيادة... إنني دائماً زائد وناقص.

- هل ألعنها أو ألعن الزمن؟ كانت تتخاطفها الأعين فصارت تتخاطفها الأيدي، إنها كالدنيا... لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها ناس، ما أكثر الذين شهدتهم وهم يغادرون، وما أكثر المواليد الذين رأيتهم وهم يطرقون بابها.

- افهميني على حقيقتي، إنني لا أجري وراءك، ولكني أجرى وراء دموعي، وأنفاسي، وخلجات نفسي، أريد أن أستردها بعد ما خسرته على مائدة الحب. تماماً كما يفعل المقامر الذي يخسر أمواله، ويبرر خسارته بسوء الحظ، ولا يخطر بباله أن من يلعب معهم لصوص، وأنهم كلما لاعبوه تضاعفت خسارته، العبي مرة ولن أبالي سوء حظي... ولكن لا تسرقيني.

- لماذا تحاولين أن تدمري يأسي منك، بعدما تبدد أملي، إنك لا تريدين لي أن أستريح، لقد أصبح التنكيل بطمأنينتي هواية تمارسينها بخفة وبراعة.
أي خاطر شقي أغراك بأن توقظي تليفوني من غفوته التي استمرت ثلاثة أشهر، لقد أحسست وأنا أستمع إلى صوتك في التليفون، إنك تحرقينني بنبراتك التي تشعل النار في مشاعري كلما سمعتها أو تذكرتها... ولكنك لن تستطيعي أن تحرقي قلبي، فلقد احترق ولم يبق منه إلا الرماد.
دعي تليفوني... إنك لا تديرين أرقاماً، ولكنك تديرين رأسي وتلهبينه... هل تريدين بعدما أحرقت قلبي، أن تحرقي رأسي أيضاً؟
ترفقي يا طفلتي... يا حبيبتي... يا حريقي.
- حبيبتي... اغفري لي هذه الحماقات... اغفري لي حبي ووفائي، واصفحي عن قلبي المسكين، فقد أحب بلا قصد ولا عمد ولا سبق إصرار، وانسي كل التفاهات الكثيرة التي طالما خدشت بها أذنيك معبراً عن ألمي وغيرتي. فما كان لي أن أتألم، ولا أن أغار، وما كان لي أن أدع شعوري بالألم والغيرة يطرق سمعك الرقيق الذي ما تعود غير كلمات الرياء والثناء الخادع.
لا تظني بي السوء، فما كنت سيئاً ولا شريراً... كل ما هنالك إني أردت أن أرفع روحي إلى سمائك فوجدتني في الهاوية، ولست أدري هل أخطأت الطريق إلى السماء فهويت، أم أنك لم تكوني قط في السماء؟

- حبيبتي... إني أكاد أفنى فيك خجلاً وحياء كلما تذكرت كلمات الطهر والبراءة والقداسة التي أتعبتها من طوال ما مرت بشفتي، ولم تستطع الكلمات ولم تستطع شفتاي أن تجعلها تتجاوز فمي إلى أذنيك... لقد كنت أطمع أن أكون في مكان الإعزاز من نفسك، واخجلتاه من هذا الغرور، ولكن يعزيني أنه لم يدم طويلاً، فلقد عرفت في وقت قصير أني لن أكون في هذا المكان، لا لأنه لا يوجد في قلبك، بل لأن قلبك ليس له وجود.

- حبيبتي... ما أكبر حزني، لقد تخيلت أن هذه الابتسامات، وهذا الحنان، وهذه الرقة تخصيني بها وحدي، ولم أدرك أنها صورة معروضة أمام جميع الأنظار، وكتاب منشور للقراء، أنت كالوردة لا تضن بعبيرها على من يزرعها في حديقته، ولا على من يسرقها من حديقة الجيران.
طالما اتهمتك بالدهاء في المعاملة ولباقة التصرف وكياسة السلوك، أبداً لست كذلك... إنما أنت دمية جميلة صنعت هكذا ولا حيلة لها في نفسها، ولا ضير عليك، وإنما الضير على أولئك الذين ظنوك مخلوقاً يحس ويعقل... ولكن كيف لا تكونين دمية؟ وهذا الجمال كله، أيكون من صنع بشر؟ أأنت من صنع إنسان؟
كلا بل خلقك الله كما خلق الشيطان والأفعى... ولقد أحببت من أجلك كل شيطان وأفعى، ولست آسفاً... والحزن الذي سيطر على نفسي، سأعرف كيف أمسحه بدموعي.

- حبيبتي... لقد أحببتك من قلبي، وكرهتني من قلبك. منحتك دمي ووقتي وعقلي، ثم كشفت لك صدري لأتلقى أوسمة رضاك، فرشقت مكان الأوسمة سهاماً مسمومة... لقد فتحت لك ذراعي لتملئي بوفائك ما بينهما من فراغ، فإذا أنت تملئين هذا الفراغ غدراً وحقدا.

- حبيبتي... كيف بكيت من عتابي؟
لأول مرة في حياتي أرى القسوة تبكي. أذهلني أن أرى الروح الكثيفة تستشف الألم وتتأثر.
لعلك مظلومة، ولكن لماذا تلجئين للصمت وراء الدموع؟
لماذا لا تتكلمين؟ فربما قاومت الأقدار التي كتبت لك الغدر، وكتبت لي الوفاء.
أصارحك بأني ضعفت أمام دموعك... ضعفت أنا وبقيت المشكلة قوية كما هي... بل أقوى.
- حبيبتي... أتعجبين حقاً من أنني أعيد سماعة التليفون إلى مكانها بمجرد الاستماع إلى صوتك...
ألا تعرفين السبب؟
إذن فلأصارحك... فما زلت على خطتك الهابطة وأسلوبك الملتوي... إنني أسمع صوتك فيخيل لي أنك تخاطبين شخصاً آخر، لا صدق ولا عاطفة، بل لا صوت، وإنما هي أصداء حديدية في آلة من حديد.

- حبيبتي... التي عذبتني سنين وسنين، إنك تفكرين بعقلك، ولا أدري هل أنت ذكية أم غبية، كل ما أدريه أن عقلك كبير وشرير، فهو يريد أن يجعل من القيم والمعاني طريقاً تدوسينه بقدميك الرشيقتين، وتصلين به إلى غايتك.
وما هي هذه الغاية؟ أن يحبك الناس جميعاً... وأن تكرهيهم جميعاً، صدقيني إنني لا أغار إلا من إنسان تخصينه بحبك... وأنت لا تخصين بالحب إلا ذاتك.... فهل أغار منك؟
صدقيني... لا.

- إن الحب مثل القانون، يحمي البرئ ويتعقب المجرم، وقد كان يحميك فأصبح يتعقبك... تعالي... لا تخافي أن تذكريني بالماضي... إنني عندما أراك لا أغوص في أيام ذهبت، ولكني أتسلق ما بقي لي من أيام.
ليس في حياتي ماض وحاضر ومستقبل، حياتنا فترة واحدة هي الماضي، الأمس مضى واليوم يمضي وغداً سيمضي، تعالي ولا تترددي فلم يبق من عمري ما يسمح بأن تترددي.

- إن قلبي لا يطيق أن يتسكع في ضلوعه بلا عمل، ولذلك فهو حريص على ألا يعتزل الحب، حتى لا يتعرض للبطالة... دائماً في مشاعري همس جديد، لذيذ، غامض، أحاول أن أتبينه، فتحجبه عنى ثرثرة التجارب وفضول الذكريات.

- هي كتمثال من ظلال وأحاسيس، وأضواء تفننت الطبيعة في صنعه، وبعدما دارت حوله، واطمأنت إلى روعته، أزاحت عنه الستار، لتفتن الناس بجماله وبالقدرة التي صنعته. ما لهذا التمثال الرقيق لا يكتفي بالوقوف أمام عيني، إنه يتحرك في مشاعري يهزها، ويثيرها فأهيم به، ولكني لا أستطيع أن أوجه إليه كلمة من كلمات الغزل، إن المؤمنين بالله يحبونه ويحبون جميل صنعه، وقد أصبحت في سن لا تسمح لي بغير الإيمان}.

- تمهلي أيتها الأيام، لا تدفعيني في طريقك بهذه السرعة المجنونة، إنني لا أجري ولا أمشي، ولكني أحفر بخطواتي القبر الذي سيضمني.

- ما أشبه طريق حياتي ببيتي، نصفه مفروش والنصف الآخر خال من الأثاث، أتلفت ورائي فأجد الأيام تغطي طريقي. وأنظر أمامي فأرى الطريق عارياً إلا من يوم أراه ويوم لا أكاد أراه.
يا شقوتي من طريقي... يثير خوفي كلما تقدمت خطوة، ولا أستطيع أن أرجع إلى الوراء فهذا محال.
هل أقف مكاني وأتجمد حتى لا أصل إلى العراء الذي ينتشر كالظلال القاتمة؟ إن الوقوف والتجمد كليهما موت، وأنا لا أخاف الموت لكنني لا أسعى إليه.

- أيها الليل، يا حبيبي... ألم يعد لنا مكان نلتقي فيه إلا غرفة نومي؟ أين الشوارع والملاهي والفنادق؟ أخرجني من بيت كما كنا نفعل أيام الشباب، واسهر معي حتى أرى أصدقاء عمري، السحر والفجر والصباح.
أيها الليل، يا حبيبي... اترك عناء نومي للنهار.

- قفي أيتها الأيام... إنك لا تقطعين طريقاً، ولكن تقطعين عمري، استريحي وأريحيني، فقد ظللنا نجري معاً أكثر من بضعة وخمسين عاماً... ولكن كيف نتوقف عن المشي؟ إن معنى ذلك أن نموت، وأنا أتشبث بحياتي، وهي مهما ترهقني... أحبها، إننا نبكي منها، وإذا هددتنا بالتخلي عنا، بكينا على أنفسنا.
ما أعجب العمر... إنه الشيء الوحيد الذي إذا زاد نقص.
- أصبحت ساعتي مثلي، أصابتها الشيخوخة، فقدت توازنها، تريد أن تسير فنقف، تحولت دقاتها المنتظمة إلى سعال متقطع... كل يوم يبذل الساعاتي معها، ما يبذله الطبيب معي، ولكن الزمن أقوى من الساعاتي... ومن الطبيب.
حاولت التخلص منها، فماذا أصنع بها؟
آه من يوم أرى فيه الناس يحاولون التخلص مني... لأني أصبحت مثل ساعتي.
- إذا كانت الحياة حقيقة، والموت حقيقة، فأين نحن البشر من الحقيقتين؟
هل نحن أحياء ننتظر الموت؟ هل نحن موتى تركنا مرحلة الحياة؟
ولكن... لماذا نسأل عما لا جدوى في أن نجهله أو لا نجهله؟
ليتني أعجز عن استخدام هذه الكلمات {لماذا، كيف، فيم، علام} فإنها شواكيش تطرق رأسي كلما حاولت أن أعرف من أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟

- أفكاري التي تؤرقني تتمنى أن تغفو على وسادة... إننا في حاجة إلى كل الناس، حتى لو كان إنساناً تافهاً أو أحمق، إن الناس هم الأردية التي نلبسها في الحياة، فبينهم رابطة العنق التي تزين الصدر، وبينهم الحذاء الذي يحمي القدمين من الحفاء.

- أمضيت يومي كله وحدي، أردت أن أجرب... هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا ناس، قرأت كتاباً وسمعت أغاني، وموسيقى، ولكني لم أتصل بأحد ولم يتصل بي أحد، خيل إليّ وأنا هكذا وحدي، إني مريض أتولى بنفسي زيارة نفسي، ولم أشأ أن أثقل على المريض بالزيارة الطويلة، فغادرت البيت... واختلطت بالناس.

- إن التجارب علمتني أن المرض مثل العمر، سر غامض، وقد عرفت أناساً كانوا يأكلون بنهم ولم يمرضوا، وأناساً كانوا يأكلون بحذر وظلوا طوال حياتهم مرضى. وأنا لا أحشى الموت فقد واجهت ما هو أصعب منه... الحياة نفسها.

- ما دام الموت يتعقب حياتنا، وما دمنا لا نعرف من نحن... فإن المجانين وحدهم هم الذين يضحكون للحياة.
ويا لها من بلاهة... أن نطمئن على المريض وهو بين يدي الأطباء، ونخاف عليه إذا أصبح بين يدي الله.

- لا أدري... هل أشعر بالانقباض لأني أعزي في ميت أو لأني أشعر بأن المقعد الذي أجلس عليه لأعزي اليوم، سيجلس عليه غيري غداً ليعزي أهلي في موتي.
الموت

ولكن كيف نفكر في الموت وما زلنا أحياء؟ وهل نستطيع أن نفكر فيه بعد ما نصبح موتى؟
إن العقلاء هم الذين لا يفكرون في الموت... وعبثاً أحاول أن أكون واحداً من العقلاء.

- أحب أن يقرأ الجميع كتاباً ألفته... فما بالك بهذا الكتاب الضخم الفخم الذي ألفه الله وسماه الدنيا... هل يسر الله ألا يقرأه أحد بحجة أنه ناسك أو زاهد أو راهب؟ إن من يظنون ذلك يعانون أمية في الإيمان.

- البشر كالأنبياء... والفرق بينهما أن الأنبياء معصومون من الخطأ... أما البشر فمعصومون من الصواب... والدنيا تتسع لمن يغمضون قلوبهم وعيونهم ويغلقون آذانهم وعقولهم... ولكن الآخرة لن تتسع لهؤلاء أبداً، فما جدوى أن يبعث في العالم الآخر، من لم يحسوا ما في العالم الأول من عظمة وجمال.

- أنا ابن هذه الدنيا التي خلقها الله، ولم أغمض عنها عيني لأني أدركت عظمة هذا العمل الفني الإلهي... فإذا اختارني لآخرته، فسأكون جديراً بهذه الآخرة، بعدما دخلت تجربة الدنيا ويا لها من تجربة.

- كل ما كان لم يكن... وأنا لم أعد هنا.
 
عودة
أعلى