فقهاء التنوير......

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
14-08-2012, 12:14 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

وائل السمرى يكتب: شيخ الأزهر الإمام مصطفى عبدالرازق.. فيلسوف الجمال فى رحاب الإسلام.. عمل على إصلاح الأزهر ورد على دعاوى المستشرقين وافتراءاتهم على الإسلام وكان يحب الفن ويحترمه

الجمعة، 10 أغسطس 2012 - 03:11
s8201291650.jpg
شيخ الأزهر الإمام مصطفى عبدالرازق
بقلم وائل السمرى

141.jpg


قال: إن الذين يفكون العقول من أغلالها إنما يمهدون لها السبيل إلى الحق والدين من أسمى حقائق الوجود.

لم يهاجم أحدا سوى أصحاب المذهب الوهابى الذين يهدمون القباب الفنية ويكفرون الناس مشيرا إلى أنهم لا يتبعون دين الإسلام وإنما يتبعون «دين أهل نجد».

عمل على إصلاح الأزهر ورد على دعاوى المستشرقين وافتراءاتهم على الإسلام وكان يحب الفن ويحترمه وكتب عن توفيق الحكيم وأم كلثوم.

وكأنك تقرأ عن شخصية خيالية لا ترى لها أثرا إلا فى الروايات الحالمة بعالم ملؤه الحب والخير والفضيلة والحرية والجمال والحياة، عالم بلا تعصب أعمى يغرق الناس فى التشاحن والتناحر والتجاذب والتنافر، عالم يؤمن بالله مهيمنا على الكون برحمته وحكمته وعدالته وسموه، عالم فيه التعاليم الدينية من أجل إسعاد البشر، والحروب من أجل الدفاع عن كرامة البشر، والفن من أجل زرع السمو فى نفوس البشر، والعقل هاديا لتوافق البشر وتراحمهم، وكأنك تقرأ فى صفحة من ملحمة شعرية عن بطل ظهر فجأة واختفى فجأة لا لشىء إلا لكى يخبرك بأن كل ما تحلم به من الممكن أن يتحقق فى لحظة إذا ما صدق العزم وصحت النية وتنزه القصد من الهوى ليكون الله موجودا فى كل شىء، يحمينا ويرزقنا ويطعمنا ويسقينا.
أدعوك قبل أن تقرأ السطور القادمة عن الإمام «مصطفى عبدالرازق» أن تنسى تفاصيل هذه الأيام، وأن تنسى أولئك الذين يعدون أنفسهم أئمة ومشايخ، وأن تجنب نفسك كدر مقارنتهم بمن تقرأ عنه، لكى لا تظلمه أو تظلم نفسك وتحرمها من التأمل فى هذه الشخصية النادرة.
هو الشيخ مصطفى عبدالرازق «1885م - 1947م» شيخ الجامع الأزهر الشريف، ومجدد للفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث، وصاحب أول تاريخ لها بالعربية، الذى ما أن يمس شيئا من العلم حتى يحوله أيقونة جمالية ترتاح لها القلوب وتأنس لها الأرواح، سيرته المتداولة تقول إنه تولى وزارة الأوقاف، وكان أول أزهرى يتولاها، واختير شيخا للأزهر فى ديسمبر 1945، فتنازل عن لقب الباشوية الذى كان الملك قد أنعم عليه به، مفضلا أن يكون لقبه هو شيخ الأزهر وأن تكون نسبته إلى هذا الجامع الجامعة الذى صار جزءا من تاريخ مصر وحضارتها.

تقول سيرته أيضا إن مولده كان فى أسرة وطنية ثرية فى قرية أبوجرج بمحافظة المنيا، فكان والده من مؤسسى جريدة «الجريدة» التى دعت إلى الحكم الدستورى والإصلاح الاجتماعى والتعليم، وكذلك كان والده من مؤسسى «حزب الأمة»، حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر، حيث التقى بالشيخ الإمام محمد عبده، وهناك حصل على شهادة العالمية سنة «1326هـ = 1908م»، ودرّس القضاء الشرعى فى الأزهر، ثم استقال.

كان أحد تلامذة الإمام محمد عبده وكان يراسله سرا وينشر رسائله دون توقيع الراسل لكى لا يصب الأزهريون جام غضبهم على الطالب اليافع، ومن الإمام تعلم حب الحياة وغرس فى نفسه حب المعرفة والتوق إلى التعلم والترحال والنهل من منابع المعرفة، فسافر إلى فرنسا ودرس فى جامعة «السوربون»، ثم جامعة ليون التى حاضر فيها فى أصول الشريعة الإسلامية، وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة عن «الإمام الشافعى أكبر مشرعى الإسلام» ثم ترجم إلى الفرنسية «رسالة التوحيد» للإمام محمد عبده بالاشتراك مع «برنار ميشيل» وألفا معا كتابا بالفرنسية، لتتضاعف كتبه بعد على مدار حياته فيكتب دراسة صغيرة أدبية عن الشاعر المصرى البهاء زهير الذى عاش فى أيام الدولة الأيوبية، ثم كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» ثم كتاب «فى سيرة الكندى والفارابى» ثم كتاب «الإمام الشافعى»، ثم كتابه الدين والوحى والإسلام، ثم كتابه «فيلسوف العرب والمعلم الثانى» ثم كتابه «محمد عبده سيرته».

فى فرنسا درس علم الاجتماع على يد عالم الاجتماع الأشهر إميل دوركايم، ثم عمل مع الأستاذ «لامبير» فى كلية القانون فى ليون ودرس أصول الفقه فيها، ثم تم استدعاؤه ليعمل مدرسا للأدب العربى واللغة العربية، وبجانب هذا أعد رسالته للدكتوراه، وبعد عودته من فرنسا سنة 1915 عمل سكرتيرا بجامعة الأزهر ثم سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى للأزهر، ليبدأ أول خطاه الإصلاحية فى الجامع الأزهر العتيق الذى كان وقتها يفتقد الكثير من أدوات العلم الحديث، لكن وبسبب مواقفه السياسية المناصرة للحركة الوطنية التى كان يقودها آنذاك سعد زغلول تم إبعاده من الأزهر خوفا من أفكاره السياسية والاجتماعية، وعين مفتشا بالمحاكم الشرعية كإجراء تأديبى، لكنه استثمر هذه الفترة فى الكتابة والبحث والترجمة، والمعرفة، فكان يعقد الندوات فى بيته ويتوافد عليه أهل العلم والثقافة والفقه والفلسفة من كل مكان، وبعد ذلك تم انتدابه إلى جامعة القاهرة ليشغل وظيفة مدرس الفلسفة الإسلامية وليزداد تبحرا فى الأدب واللغة ويزداد اطلاعا على المخطوطات المحفوظة بالجامعة وهو الشىء الذى كان له أكبر الأثر فى كتاباته اللاحقة.

كانت آراء المستشرقين فى هذه الآونة تجلد الحضارة الإسلامية وتدعى أنها حضارة فقيرة أخذت عمارتها من الأمم السابقة كما أخذت فلسفتها من اليونان لتبنى على وجهة النظر هذه نظرية تقول إن العرب لا يفكرون، وإنهم ليسوا أصحاب حضارة ليتم تبرير التوجه الاستعمارى بحجة أنه يرفع من شأن البلاد التى يحتلها المحتلون، وهو ما انتفض الإمام من أجله مدافعا عن حضارته ومنجزها الفكرى والفلسفى قائلا إن الفلسفة الإسلامية ليست تلك التى نجدها عند ابن سينا والفارابى، ولكنها تكمن فى منجز العرب المسلمين فى علم الكلام ومصادر فلسفة التشريع الإسلامى، وبذلك أسس ما عرف بعد ذلك بالفلسفة الإسلامية التى يدرسها العالم حتى الآن تحت هذا التعريف.

أثناء توليه مشيخة الأزهر عمل على إدخال بعض الإصلاحات إليه، فأدخل اللغات الأجنبية، وأرسل البعثات إلى الخارج، أما على المستوى الشخصى فقد كان الإمام محبوبا من معظم من يتعامل معهم، وكان محبا لتلاميذه عطوفا عليهم ينفق عليهم كل ما فى يده من أموال، وذات مرة قال له أحد تلامذته المقربين: لماذا تنفق كل هذه الأموال على الطلاب؟ فقال له مستنكرا: أتريد أن نتركهم على فقرهم واحتياجهم حتى يتركوا العلم؟ وهى كلمة تدل على كرم أخلاق الإمام وسعة صدره ورهافة حسه وإيمانه بدوره كشيخ وأب.

ربما إن كنت متعصبا تكسب طائفتك، لكن حتما إن كنت متسامحا فستكسب العالم كله، تلك هذه القاعدة التى يستنتجها المرء بعد قراءة سريعة فى سيرة الإمام ومسيرته، وهو الذى عاش حياته نابذا للتعصب من كل شكل ولون، داعيا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حالما بالعودة إلى منبع الدين الصافى وبساطته المعجزة فى أيام عهد النبوة حيث الإيمان يملأ القلوب والعدل يملأ الربوع، والنور يتوغل فى الأنحاء، والأمل يحدو الجميع، قبل أن يتفرق المسلمون إلى فرق ومذاهب ويتوهوا فى التفاصيل القاتلة والمسائل العبثية، ولأن مذهبه الإسلامى الإنسانى كان لا يرى فرقا بين العربى والأعجمى إلا بالتقوى كان يستهجن الدعاوى الأوروبية التى تدعى أن الجنس الأوروبى أرقى من بقية الأجناس، ورد على تلك الفكرة مرارا متحصنا بالأبحاث العلمية الحديثة، ذلك لأنه إن كانت الغلبة الآن للأوروبيين فقد كانت قديما للعرب ومن قبله للمصريين والعراقيين والفارسيين بما يعنى أن التفوق أمر نسبى زمنى لا علاقة له بالجنس وسموه.

فى الرد على المستشرقين - وأرجو ألا يستهين أحد بذلك الدور لما له من خطورة التمهيد للاستعمار - بذل الإمام جهدا كبيرا فى تعريف مفهوم الإسلام، فقد كان الأوروبيون يقولون إن الإسلام يعنى الاستسلام والطاعة العمياء، وهى المقدمة التى تنبنى عليها النتيجة التالية: إن كان دينك يدعوك إلى الطاعة والاستسلام فلماذا تقاوم؟ فتبنى الإمام هذه القضية ورد عليه فى بحث مطول أورد فيه رأى سيد أمير على الذى يقول فيه إن الإسلام يعنى تحرى الرشد وتزكية النفس، وذلك يعنى الطاعة الإرادية وليس الانقياد الأعمى، داحضا رأى «إدوارد رسل» بينما قال الإمام إن الإسلام يعنى الاستسلام حقا لكن لله فحسب، أى أنه يعنى «الإيمان» بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء خيره وشره والبعث والحساب، وأن كلمة إسلام مشتقة من كلمة «سلم»، وهى تعنى التخلص من الشوائب والموبقات الظاهرة والباطنة التى «يسلم» المرء منها، كما تعنى الإذعان لله وحده لا شريك له وعدم الإذعان لغيره، وإكمالا لتلك القضية يتطرق الإمام إلى مسألة أخرى ألا وهى الفرق بين كلمة مسلم وكلمة مؤمن، إذ يرى الإمام أنه لا فرق بين اللفظين، فكلاهما يستعمله الله ويقصد بهما نفس الأشخاص الذى يؤدون نفس الأفعال، بل يرى أن الخوض فى هذا الأمر إنما هو من قبيل «تمحلات الفرق» وبناء على ذلك يقرر أن قضية الفرق بين اللفظين ما هى إلا قضية «مصطنعة اصطناعا»، فالدين عند الإمام يخاطب الروح والقلب ويقيم وزنا كبيرا للقلب الذى يأتى كثيرا بمعنى العقل أو الضمير، ويتجلى هذا فى الحديث الأشهر «إنما الأعمال بالنيات» والنية محلها القلب، لذلك فهو يرى أن العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقيام والحج لا ينظر الله إليها بحسب صورتها الظاهرة، وإنما يتنظر إلى القلوب المختبئة وراء العبادات، ومدى صفائها وصدقها وخشوعها، معتبرا أن الإيمان هو شرط صحة الأعمال، والإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل.

يتعرض الإمام إلى مشكلة علاقة الفلسفة بالدين وهى العلاقة التى شغلت أذهان الكثيرين وفيها وقعت مساجلات عديدة أشهرها ما دار بين الإمام أبوحامد الغزالى والفيلسوف ابن رشد، فيقول الإمام الكلمة الفصل فى هذا الشأن مرجحا أن الدين والفلسفة يبتغيان سعادة البشر، غير أن الدين يقوم على التصديق والإيمان ومصدره القلب، بينما الفلسفة تقوم على النظر والفكر ومصدرها العقل، لذلك فهما متفقان فى الغاية مختلفان فى الوسيلة، ولا يجوز أن نخلط بينهما ولا أن نفسر الدين بالفلسفة، وإنما يبغى أن ننظر إلى كليهما باستقلالية عن الآخر، وهو الرأى الذى يتشابه مع رأى الإمام أبى حامد الغزالى، لكن الإمام يرفض فكرة أن تكون الفلسفة خادمة للدين لأن ذلك يضر بالفلسفة والدين على حد سواء، فضرره بالدين يتلخص فى أنه يعكر صفو العقائد المقدسة ويجعلها قابلة للأخذ والرد والمناقشات العقلية المتناقضة، كما أن الفلسفة تكتسب بالأدلة بعيدا عن المشاعر القلبية التى تميز الوصول إلى حقائق الدين التى تملأ قلوب المؤمنين، أما الضرر الواقع على الفلسفة من خلطها بالدين فهو أنه يكسبها قدسية ليست بها، ويحدد نتائجها قبل إجراء مباحثها، وذلك يحد من حرية البحث ويحصنها من النقد، وهو ما لا يجب.

لا يعنى هذا أن الإمام يغفل دور العقل فى الدين، بل على العكس فإنه يعليه ويعتبره «صديق النقل» إذ لا إيمان إلا للعاقلين، ولا حساب ولا عقاب إلا لمن يستفتون عقولهم فتفتيهم، ويرى الإمام أن الإسلام جمع بين الدين والشريعة، قائلا «أما الدين فقد استوفاه الله كله فى كتابه الكريم ولم يكل الناس إلى عقولهم فى شىء منه، وأما الشريعة فقد استوفى أصولها وترك للاجتهاد تفاصيلها» ولع هذا الاقتباس يبرز رأى الشيخ فى مسألة الاجتهاد الذى يرى أنه ضرورة وواجب على كل الأئمة فى كل العصور، رافضا مبدأ غلق باب الاجتهاد مثل أغلب مصلحى عصره وعلمائه، ومؤكدا على تدعيم الإسلام للحرية الفكرية قائلا: قد تنبهت العقول وزالت غشاوة الغفلة عن بصائر الناس، ففهموا أن الدين ليس غلا للقلوب ولا قيدا على الأفكار، لكنه كما كان الإمام محمد عبده يقول قد كفل للإنسان أمرين عظيمين وهما استقلال الإرادة واستقلال الرأى والفكر، وبهما تكتمل إنسانية الإنسان ويستعد أن يبلغ السعادة، ويؤكد الإمام أنه لا خطر على العقل الواعى من الشتت والزيغ، وذلك لأن البشر صنفان مخلص ومغرض، من أخلص لله فسيخلص له فى كل الأحوال حتى لو أعمل عقله، ومن دخل الهوى قلبه فسيميل نحو أغراضه فى كل شىء حتى لو ادعى أنه لا يعمل إلا بالنقل، قائلا كلمته الشهيرة فى هذا الأمر «إن الذين يفكون العقول من أغلالها إنما يمهدون لها السبيل إلى الحق والدين من أسمى حقائق الوجود».

ومن خلال هذا المنهج الربانى النورانى الإصلاحى حارب الإمام الكثير من العادات الاجتماعية الخاطئة التى تأخذ صبغة دينية والدين منها برىء، ومن تلك العادات عادة تقبيل أيادى العلماء كمظهر لاحترامهم، قائلا إن الذين يمدون أيديهم الطويلة إلى الأفواه لينشروا جراثيم المرض يبذرون معها بذور الذلة فى الأنفس الطيبة، موضحا أن الدين ينمى علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وإخوانه من أفراد الإنسانية لذلك فهو وثيق الصلة بالحياة يواكب تطورها ولا ينغلق على نفسه ليظل دائما محافظا على المجتمع وواصلا للعباد بإلاههم الواحد، قائلا «فالدين ملازم للحياة من يضع دستورها ويجد فيه الإنسان الزاد فى حياته والنور الذى يهديه إلى الطرية المستقيم»، بل إنه يجزم بالقول إنه من غير الممكن أن يعرف الواحد أمزجة الشعوب الشرقية الإسلامية إلا من خلال الدين.

وأكثر ما يخاف الإمام على الأمة منه هو ضعف الشعور الدينى وضعف الشعور الوطنى، موضحا أن الدين الصحيح لا يعارض التقدم فى المظاهر الاجتماعية الحديثة من حضارة وعمران، ويذم آراء المتشدين الذى يصورن أن الدين هو الابتعاد عن الحضارة والمدنية، منزها الدين عن أن يكون عائقا أمام تقدم المسلمين، غير غافل أنه يتوجب على المسلمين ألا ينسوا مبادئهم وهويتهم الدينية أمام التقدم العلمى والمدنى والحضارى، داعيا إلى التمسك بأصالة القديم واحترامه وفى ذات الوقت أن ننهل من الجديد وتقدمه.

ويمضى الإمام فى كل كتاباته وتأملاته الإسلامية والفكرية متسامحا ومتصالحا لا يبتغى شيئا سوى نهضة المسلمين ورفعتهم، ولم أره مهاجما أحدا من المختلفين عنه إلا فى حالة واحدة هاجم فيها الشيخ أصحاب النزعة الوهابية المتشددة، بل إنه غالى فى الهجوم عليهم وفق منظوره المتسامح وأطلق على مذهبهم اسم «دين أهل نجد» فى إشارته منه إلى أن الدين الإسلامى لا يتضمن كل هذا التشدد، ومعلنا ضيقه بدعاوى التكفير التى أخذت فى الانتشار بعدما جاء «هذا الدين» فيقول الإمام: «ولقد نبرأ بدين هيئة كبار العلماء الذى يدفع بالكفر كل نزوع إلى العلم والفهم والذوق، فلما جاءنا دين أهل نجد يهدم على من فيها قبابا قد تكون آثارا فنية وتاريخية، يعرف خطرها «أى أهميتها» أهل الفن والتاريخ» قائلا فى النهاية إن الدين برىء من مثل هذه الدعاوة وإنما يشوه الدين أولئك الذين يريدون كيدا وتضليلا وقيدا للعقول والقلوب ثقيلا، ثم شن الإمام حملة على أولئك الذى يضيقون النظر فى الدين ويملأون الدنيا بفهمهم الخاطئ للإسلام وهم فى الحقيقة لا يراعون شيئا قدر مراعاتهم لشهواتهم ورغباتهم فتراهم تحت شعار الدين يكثرون من الزواج والطلاق ويبالغون فى الاحتفاء بالمأكل والمشرب.

على الجانب الآخر حارب الإمام البدع والتخاريف التى انتشرت فى مصر وقتها، فعارض الغلو فى الاعتقاد بكرامات الأولياء، قائلا إن الإسلام لا يقر واسطة بين العبد وربه، كما حارب من يستهينون بالشعائر المقدسة فى رمضان ويظنون أنهم بإطعامهم بضعة مساكين فقد حازوا الشرف كله، ولا ينسى الإمام أن يلوم علماء الأمة الإسلامية الذين تمسكوا بالمظهر وتركوا الجوهر فيستنكر أن يفتى الشيوخ بجواز لبس القبعة من عدمه بينما هم يختلفون فى تحديد كيفية رؤية هلال رمضان!

وضربا للتقاليد البالية والانغلاق المميت يقر الإمام حق الأمم فى أن يكون لها أعياد قومية تنمى الشعور الوطنى لأن حب الوطن من الإيمان، خلافا لمن يدعون أنه لابد من الاقتصار على الأعياد الدينية فقط، كما يقر الإمام أيضا مطالب المرأة بالحرية والعمل قائلا إنه يتوجب علينا أن نأخذ بالتدرج فى هذا الشأن، لأن المرأة حديثة عهد بالتعليم والخروج إلى الحياة العامة كما يرجو أن تعمل المرأة فى الأمور الخيرية التى يتغافل عنها الرجل لتتكامل وظيفة المرأة مع الرجل وتتحقق الفائدة للمجتمع، كما ينتصر الإمام للبسطاء والفلاحين والضعفاء، مؤكدا أن الفلاح المصرى أكثر الناس عناء فى السعى إلى تحصيل العيش وأقلهم متاعا وأضيقهم، كما دعا الإمام إلى الالتزام بدولة القانون، وأن يمارس الحاكم سلطاته بناء على صلاحيات محددة سلفا وليس بناء على صلاحيات مطلقة.

ولعل أكثر مواقف الإمام تحضرا هو موقفه من الفن الجاد المثمر الممتع فقد كان شغوفا بالفن والموسيقى والشعر والمسرح، وكان يقول عنه إنه يفيد الإنسان فى البحث عن قيم الحياة، لأنه إحساس نابض فى الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها، ويؤكد أن الذين يتوهمون أن الدين يعارض الفن يدلون على أنهم يسيئون فهم طبيعة الدين وطبيعة الفن، وهو ما تدل عليه فنون الدول الإسلامية صاحبة الحضارات الكبرى كالدولة العباسية والأموية والفاطمية ودولة الإسلام فى الأندلس، فيقول إن المسلمون الأوائل أدركوا علة تحريم بعض الفنون كالأمر مثلا بعد الرسم أو النحت خشية أن يرتد الناس إلى عبادة الأصنام، فلما زالت العلة وزال الخوف من عبادة الأصنام زال التحريم، وبناء على هذا التوجه المستنير ترى الإمام يجاهر بإعجابه بأغانى أم كلثوم والقصائد الشعرية التى تغنيها فتنمى الذوق وتكسر الغربة بين العامة واللغة العربية الهادفة بل تجده يعتبر صوتها «نعمة من نعم الدنيا»، كما تجده يجتهد فى تحقيق ديوان الشاعر المصرى البهاء زهير لما وجد فيه من خلق قويم ولغة شفافة صادقة، وحب الخير وشرف للنفس وعزة وإباء، بل تجده يكتب عن مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو مازال مغمورا فيكون أول من كتب عن هذه المسرحية التى تلهب الخيال وتستلهم القصص القرآنى ليكون الدين وقصص وتعاليمه شريكا للناس فى حياتهم يندرجون تحت لوائه بحب وارتياح وإيمان وخشوع.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
14-08-2012, 10:14 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

الإمام محمود شلتوت.. لسان الحق ومحامى الإسلام.. أقنع علماء العالم بقدرة الشريعة على التطور فأدرجوها ضمن مصادر التشريع العالمى وكان يعتبر غير المسلمين «إخوة فى الإنسانية»

الجمعة، 10 أغسطس 2012 - 11:47
s8201210114323.jpg
الإمام محمود شلتوت

141.jpg



◄ لم يعترف بحد الردة ولا قتل الأسرى ولا أوصاف الدابة ولا رفع المسيح بجسده إلى السماء ودعا إلى تطهير كتب السيرة من الإسرائيليات
◄ أحل أخذ القروض من البنوك والصلاة على مذهب الشيعة الإمامية الجعفرية وساوى بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات والعقوبات

أقنع علماء العالم بقدرة الشريعة على التطور فأدرجوها ضمن مصادر التشريع العالمى وكان يعتبر غير المسلمين «إخوة فى الإنسانية».. لم يعترف بحد الردة ولا قتل الأسرى ولا أوصاف الدابة ولا رفع المسيح بجسده إلى السماء ودعا إلى تطهير كتب السيرة من الإسرائيليات ..أحل أخذ القروض من البنوك والصلاة على مذهب الشيعة الإمامية الجعفرية وساوى بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات والعقوبات

هل سمعت يوما أحد زعماء تيار الإسلام السياسى الذين يقولون إنهم يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية وهو يرد على خصومه من السياسيين ويقول إن الشريعة الإسلامية معتمدة عالميا كمصدر من مصادر التشريع العالمى منذ العام 1937 وأن العالم أجمع اعترف بصلاحيتها للتطور كما قرر أن تكون اللغة العربية التى هى لغة الشريعة الإسلامية إحدى لغات المؤتمرات التشريعية؟.

إليك قصة هذا الفتح المبين للدين الإسلامى والتشريع الإسلامى، وإليك قصة بطله الذى رفع اسم الإسلام عاليا فصار حقا مصدرا من مصادر التشريع العالمى، لكن قبل أن تقرأ حاول أن تتأمل جيدا كيف أقنع هذا «البطل» العالم بسماحته وتفهمه، وحاول أيضا أن تعرف الفارق الكبير بين «الأصل» الذى حارب واجتهد وفكر فدافع عن الإسلام فى الداخل والخارج فنال احترام العالم فضلا عن استحسانه، وبين «الفرع» الذى يختلف عن الأصل تمام الاختلاف ويكاد يكفره لكنه مع ذلك لا يتورع عن القفز على منجزات «الأصل».

كان هناك مؤتمر عالمى فى مدينة لاهاى بهولندا دعى إليه المشرعون والقانونيون من كل أنحاء العالم، ولما كان الأزهر يتمتع وقتها بمكانة آخذة فى العلو دعى الأزهر كممثل عن العالم الإسلامى إلى هذا المؤتمر، فوفق الله القائمين على الأزهر فى إرسال الباحث العالم محمود شلتوت إلى هذا المؤتمر، وقد كانت مهمته وقتها شاقة مجهدة، فمعظم الحاضرين لا يكادون يعرفون شيئا عن الإسلام، ومن يعرف شيئا عنه يتخذ موقفا سلبيا منه تحت تأثير الدعاوى التى تقول إن الإسلام دين التقليد والانغلاق، فوقف الإمام محمود شلتوت وسط هذه الجموع الكثيفة المتجهمة المتربصة وقدم بحثه التشريعى الذى كان يحمل عنوان «المسؤولية المدنية والجنائية فى الشريعة الإسلامية» قال فيه نصوص الفقهاء فى ما يسمى «الضمان والتعويض» واستشهد بآيات القرآن ونصوص السنة التى تدعم هذا المبدأ وتحدد مسؤوليته، وامتد بها ليشمل مسؤولية الطبيب عن مريضه ومسؤولية من يقصر فى إغاثة الملهوف فى الإسلام، ومسؤولية الحيوان حين يتلف زرعا مملوكا لأحد غير صاحبه ومسؤولية المسلم أمام إتلاف محترزات غيره، وأخذ يشرح المراد بقول الفقهاء حقوق الله وحقوق العباد، كما استفاض فى شرح معنى العقد القهرى الذى تم توقيعه بعد غصب، وامتد البحث إلى المسؤولية الجنائية عن الحدود فى الإسلام موضحا بنصوص الكتاب والسنة وتراجم خبرة الفقهاء أن الشريعة الإسلامية لم يقيد الفقهاء بعد أصولها الكلية بخطة معينة فى البحث بل فوضت لهم الرأى والاعتماد على ما يقدرون من مصالح وحقوق وواجبات فى العصور المختلفة والبلدان المتباينة» ولما بهر الإمام محمود شلتوت أكبر علماء القانون فى العالم بمدى قابلية الشريعة الإسلامية للتطوير وكيف تعامل معها الفقهاء الأوائل بمرونة ويسر محافظين على الكليات وغير غارقين فى التفاصيل أقروا الاعتراف بالشريعة الإسلامية كأحد مصادر التشريع العالمى، واعتبروها إرثا قانونيا عالميا لا تخص المسلمين وحدهم وإنما تخص العالم أجمع باعتبارها شاهدة على تطور التفكير القانونى لدى البشر وقابلة للتجاوب المنضبط مع متغيرات العصر ومتطلباته.

بطل هذه القصة وغيرها كثير من قصص الدفاع عن الإسلام والمسلمين هو الشيخ الإمام معلم المصلحين محمود شلتوت «1893 / 1963 م» الذى يعد أحد أهم شيوخ الأزهر عبر تاريخه وأحد أهم باعثى نهضته، وأحد أكبر مقاومى موجات الاستشراق وأحد أهم قادة الإسلام الروحى التاريخيين الذين لا يقبلون أن يتدخل أحد فيما بين العالم وعلمه أو فيما بين الإمام وسلطاته فقد حفظ له التاريخ مواقفه الحاسمة وسمعته الناصعة ويده البيضاء واعتزازه باستقلالية العالم التى لا يقبل أن ينازعه فيها أحد، فبخلاف مواقفه الوطنية الكبيرة فقد عمل الشيخ منذ أيامه الأولى بالأزهر على تطويره وتحديثه واستقلاله، وما كان يغضب إلا للعلم وما كان يثأر إلا للدين، كما حفظ التاريخ لنا استقالته الشهيرة من مشيخة الأزهر بعدما لاحظ تدخل الدولة فى شؤونه، ففى العالم 1963 قدم فضيلته استقالته من هذا المنصب العالى اعتراضا على قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بإنشاء وزارة لشؤون الأزهر ورأى أن هذه الوزارة تحد من استقلالية هذا الجامع العريق وتحد من سلطاته، فقال فى نص الاستقالة «ليس أمامى إلا أن أضع استقالتى من مشيخة الأزهر بين يديكم بعد أن حيل بينى وبين القيام بأمانتها».

ولد الإمام فى محافظة البحيرة، والتحق بمعهد الإسكندرية الدينى بعد إتمام حفظه للقرآن الكريم، وهو المعهد الذى كان يحوى أكبر الأساتذة وأكثرهم علما وفقها فقد كان الشيخ الكبير محمد شاكر هو شيخ المعهد، وحينما اندلعت ثورة 1919 شارك فيها بكل قوة وناصر قضية المعتقلين السياسيين فيها وكان يقوم بمهمة جمع التبرعات للمعتقلين وأسرهم وزيارة أبنائهم وراء القضبان، وإمدادهم بما يحتاجونه من طعام وملبس ودعم معنوى ومادى، وقد كان بنفس الإمام شوق لاستقلال الوطن كما كان بداخله شوق لإصلاح الأزهر وهى الدعوة التى كانت تنطلق بقوة داخل جنبات هذا الجامع الجامعة، وبدأ بنفسه فلم يتقيد بالفقه الحنفى الذى درسه واتخذه مذهبا فى الدراسة وتعداه إلى ما دونه من مذاهب سواء كانت المذاهب الأربعة أم غيرها من المذهب الزيدى أو المذهب الظاهرى أو المذهب الإمامى، وعكف بصفة خاصة على آراء الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وتقديرا لنباهته اختير لتدريس مادة أصول الدين فى الأزهر الشريف بعد أقل من عشرة أعوام على تخرجه، ولأنه كان دائم المطالبة بالإصلاح فقد أثار ذلك استياء العديد من المشايخ وحتى تم فصله نهائيا على يد الأستاذ الأكبر محمد الأحمدى الظواهرى ثم رجع إليه ثانية مع تولى الإمام المراغى للمشيخة، حينما تولى الإمام شلتوت مشيخة الأزهر سنة 1958 أصدر قانون إصلاح الأزهر سنة 1961م. ودخلت فى عهده العلوم الحديثة إلى الأزهر، وأنشئت عدة كليات فيه وارتفعت مكانة شيخ الأزهر حتى لاقى من الجميع كل الإجلال، وكان يحترمه قادة العالم ويرسلون إليه الرسائل وقد أصدر الإمام العديد من الكتب المهمة فى المكتبة العربية أهمها فقه القرآن والسنة تفسير القرآن الكريم الأجزاء العشرة الأولى». ومقارنة المذاهب، والقرآن والقتال، الإسلام عقيدة وشريعة، من توجيهات الإسلام، والفتاوى.

سيرا على هدى المستبصرين الأوائل كان الإمام، منطلقا من يقينه بقداسة الدين الإسلامى وعظمته وسماحته، حيث لم يعرف عن الإمام أن حقد مرة أو غل، بل كان يعامل خصومه فى الفكر والرأى بأحسن مما يعامل غيرهم، فقد كان خلقه القرآن وصفته الإيمان، بل لا يبالغ الواحد إذا قال إنه لم يكن يضع فى اعتباره أن يكون مثلا للمسلمين والمؤمنين فقط وإنما كانت أخلاقه وكتاباته تدل على أنه كان يضع فى حسبانه أن يكون مثاليا عالميا إنسانيا فليست وظيفة شيخ الأزهر أن يكون قدوة لأهل دينه فحسب وإنما انتصاره الأكبر أن يكون قدوة حتى لمن يختلفون عنه فى الديانة، قادرا على مخاطبة الفطرة الطيبة أينما وجدت، وكان الإيمان فى هذا متسقا مع ذاته متجاوبا مع تعاليم الإسلام الحنيف، فقد كان يرى أن الإنسان بحاجة دائمة إلى الدين لأن الله فطره تتنازعه قوى الخير وقوى الشر، ووظيفة الإسلام أن يهدى الإنسان إلى اتباع قوى الخير بداخله فيكون الإسلام بذلك دين الفطرة حقا.

غير أن الإمام يفرق كثيرا بين أشكال التدين التى يتبعها الناس، فيمدح فى التدين الذى يراعى الله وتعاليمه وهداه، متبعا قول الله تعالى «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء» وفى ذات الوقت يدين الإمام التدين الرمزى الذى يكتفى فيه المسلم بترديد الشهادتين مطلقا لروحه وعقله العنان فى كل شىء وليس له من مرشد إلا الهوى، بل يعتبر الإمام الإلحاد خيرا من هذا التدين الذى قد يغر ضعاف العقول، ويتشارك التدين الصورى الذى ينتهجه البعض الخطر مع التدين الرمزى، وهو ذلك الذى تتبعه طائفة تزعم أن الدين هو حركات الصلاة وتماوت الصيام وهمهمة التسابيح وغيرها من مظاهر خادعة لا تدل على قلب عامر ولا روح خاشعة فقد كان رحمه الله يوقن أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل، فلا يحتاج الواحد أن يلجأ لبعض التصرفات المتشبهة بمسوح الإيمان، كما لا يحتاج إلى إضافة أشياء ليست من الإسلام فى متنه، وهو الشىء الذى يجده الواحد فى كتب التوحيد التى تقول إن من شروط الإيمان بجانب الإيمان بوجود الله وحدانيته والرسل واليوم الآخر مسائل أخرى مثل رؤية الله بالأبصار وزيادة صفات الله على الذات ومرتكب الكبيرة وما يكون آخر الزمان من ظهور المهدى والدجال والدابة والدخان ونزول عيسى، فقد كان الإمام يعتبر كل هذه الأشياء من الأشياء المضافة إلى الإسلام وأنها ليست ثابتة ثبوت اليقين، مؤكدا أن «التاريخ العلمى يدل على أن هذه المسائل جر إليها البحث فى العقائد حين تعددت الفرق وكثرت المذاهب الكلامية فكانت محل اجتهاد بين العلماء كل يرى رأيه فيها يدلى بحجته على ما يرى ملتمسا الوصول إلى ما يلائم العقيدة المتفق عليها فى نظره» مع هذا كان الإمام أبعد الناس عن تكفير مسلم، بل لا أبالغ إذا قلت إنه ما كان يكفر أحدا، فقد كان يقول إن من لا يؤمن بوجود الله أو لم يؤمن بوحدانيته أو لم يؤمن بتفرده بتدبير الكون أو لم يؤمن بالرسل أو الملائكة، أو غير هذا كله من الأمور الإيمانية اليقينية لم يكن فى نظر الإمام «كافرا» وإنما فقط يكون «غير مسلم» ولا تجرى عليه أحكام المسلمين فيما بينهم وبين الله وبينهم وبين بعضهم، ولا يحكم بكفر واحد إلا إذا كان لا يؤمن بتلك العقائد استنكارا وإكبارا، فأما إذا لم تبلغ أحد هذه العقائد أو بلغته بصورة غير صحيحة أو منفرة فلا يكون كافرا ولا يستحق الخلود فى النار، وعلى هذا فإن الشعوب النائية التى لم تصل إليها عقيدة الإسلام أو وصلت إليهم بصورة منفردة بمنجاة من العقاب الأخروى للكافرين ولا يطلق عليهم اسم كافر، أما الشرك الذى جاء فى القرآن أن الله لا يغفره «هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار الذى قال الله فى أصحابه «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا».

ما يحب أن يقال هنا أن الإمام بهذا الرأى قد أثار موجة من الجدل خرج منها دون أن يفقد يقينه ونتيجة بحثه أو تأمله، وفى الحقيقة فقد كان الإمام كثيرا ما يثير الجدل وهذا لأنه لم يكن يحجب عقله بأى شىء ما عدا كتاب الله وهديه، ولم يكن يخشى هجوما ولا اعتراضا، فقد رسخ فى العلم واستقل بذاته عمن سواها وليقل ما يريد فما يبتغى إلا وجه الله، ولهذا سار يقول الرأى بعد الرأى ولا يهمه اعتراض المعترضين ولا جدل المتجادلين، فتراه مثلا يقر بأن السنة النبوية المشرفة تلتحق بها صفة «الظنية» من جهتى الورود والدلالة، فلا يجوز أن نعتمد عليها فى إثبات العقيدة موضحا ذلك بالقول «فقد يكون فى اتصال الحديث برسول الله شبهة فيكون ظنى الورود، وقد يلابس دلالته احتمال فيكون ظنى الدلالة، وقد يجمع فى الأمرين فيكون ظنى الورود والدلالة، ومتى لحقت الظنية الحديث على أى نحو من هذه الثلاثة فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذا كام قطعيا فى دلالته ووروده، بما يعنى أنه لا يمكن أن نقر كفر أحد أو إيمانه إلا بما جاء فى القرآن لأن هذه مسألة خطيرة وغاية فى الحساسية، ويمكن فقط أن نلجأ إلى السنة إذا كانت الأحاديث التى سنعتمد عليها متواترة رواها جميع الرواة وصارت معلومة بالضرورة.

ويؤكد الإمام أن الأئمة الأربعة قد ذهبوا إلى ما ذهب إليه، كما قال الإمام أبوحامد الغزالى أن الأحاديث المنقولة من الآحاد لا تفيد «خبر الواحد لا يفيد العلم، وقال البزودى «خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد» وقال الإسنوى إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن».

ويمضى الإمام فى آرائه العقلية المتأملة فيقول إن الإسلام شهد لغطا كبيرا حول ما يسمى بالإجماع، وكان الفقهاء يرددون هذه الجملة ليوهموا الناس أن هذا الإجماع وقع من الجميع، والصحيح أنه «إجماع طائفى أو مذهبى» وكشف الإمام حيلة هؤلاء قائلا إنهم كانوا يقولون تلك الكلمة ليسجلوا على المخالف لوازم مخالفة المسلمين الشائعة متهمين من يقول بغير ذلك أنه خارج عن الأمة ويقول «وكثيرا ما نراهم يردفون حكاياتهم للإجماع بقولهم «ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج» أو «بمخالفة المعتزلة والجهمية» ونحو ذلك مما يخيفون به العلماء» ويؤكد الإمام أنه بهذا الإرهاب الفكرى وخشية أن يتم اتهام الواحد باتباع هذه المذاهب كان العلماء يمتنعون عن إبداء رأيهم فى كثير من المسائل خوفا على «سمعتهم الدينية، فوقف العلم وحرمت العقول البحث وحيل بين الأمة وما ينفعها» ويورد الإمام مقولة ابن حزم القائلة إنه «يكفى فساد ذلك أننا نجدهم يتركون فى كثير من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع وإن نحوا إلى تسميته إجماعا عنادا منهم وشغبا عند اضطرار الحجة والبراهين إلى ترك اختياراتهم الفاسدة» ومؤكد أن الإجماع لا يكون إلا على ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وما تلقاه الكافة عن الكافة، وعلى هذا يبطل الإمام حد الردة لأن راوى حديثه «واحد» هو ابن عباس رضى الله عنه، مؤكدا أن الله حرم الإكراه فى الدين، وقال للرسول «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»؟.

ويؤكد الإمام على أنه لو احتفظ غير المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون إخوان فى الإنسانية يتعاونون على خيرها العام، ولكل دينه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، «فالإسلام لا يرى أن مجرد المخالفة فى الدين تبيح العداوة والبغضاء، وتمنع المسالمة والتعاون على شؤون الحياة العامة فضلا عن أن تبيح القتال لأجل تلك المخالفة» ويورد الإمام قول الله تعالى مستشهدا «لكم دينكم ولى دين» و«لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» وهو ما يؤكد أنه إذا سالم غير المسلمين المسلمين فبذلك يكونون أهلا للبر والإحسان إليهم، ويدلل الإمام على هذا بما تواتر عن أن أبا طالب عم الرسول كان على شركه إلى أن مات ومع ذلك كان طول حياته سفير صلح بين الرسول وخصومه وكان قوة تحميه من أذاهم.

ولأن الإمام كان يعرف أن الإسلام لا يكون عائقا أبدا للحياة فقد أفتى بالعديد من الفتاوى التى كان من شأنها أن تيسر على الناس وتقرب بين الفرقاء، فأفتى مثلا بجواز التعامل مع المصارف المالية وأخذ القروض منها، مؤكدا أن هذا الأمر لا يدخل فى باب الربا الذى كان يحصل عليه المرابى أضعافا مضاعفة، وأن على العلماء أن يتبعوا قاعدة دفع الضرر فى هذا الشأن، كما أفتى بأنه لا القرآن الكريم ولا السنة المطهرة أخبرونا بأن نبى الله عيسى بن مريم سينزل فى آخر الزمان، وأن كل ما قاله القرآن فى هذا الأمر هو أن الله متوفى عيسى عليه السلام ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا، وأن من أنكر أن عيسى رفع بجسده لا يكون منكرا لما ثبت بالدليل القطعى ولا يخرج عن إسلامه وإيمانه ولا يحكم عليه بالردة، كما أفتى الإمام فى سبيل التقريب بين المسلمين بجواز التعبد على مذهب الشيعة الإمامية، وهى الفتوى التى أنكرها الشيخ يوسف القرضاوى وقال إنه لم يسمعها منه وكان من المقربين إليه ولم ترد فى أى من كتبه، لكن الشيخ المحقق عصام تليمة أثبتها وقال إنها وردت فى حوار لمجلة الرسالة وقامت مجلة الأزهر بنشره، وكذلك أفتى الإمام بأن كل ما يقال عن وصف الدابة التى ستخرج آخر الزمان وتكلم الناس غير صحيح وأوصى بتطهير كتب السيرة من الإسرائيليات، وله أيضا فتوى تاريخيه يعتبر فيها مسألة إعفاء اللحية أو حلقها من العادات التى يجب على الإنسان أن يساير فيها بيئته ليس أكثر

ويقول الإمام فى شأن بناء الدولة أنها تقوم على أسس أربعة، الأول هو الأخوة الدينية التى لا تعترف بالعنصرية، والثانى هو التكافل الاجتماعى الذى هو من متطلبات الأخوة، والثالث هو الشورى التى تكفل الحكم الصالح، والرابع هو العدل الذى يعد أول دعائم السعادة التى يسعى إليها البشر، ولا يحصل البشر على سعادتهم إلا إذا شعروا بالعدل والمساواة، وهنا تكمن عظمة الإسلام الذى وضع أهم المبادئ الإنسانية مبادئ خاصة به، يتوافق عليها الجيمع فيكون بابه مفتوحا للجميع ويكون قريبا للجميع رحيما بالجميع، ويدلل الإمام على رحمة الإسلام بأنه أمرنا بأن نكون رحماء حتى فى الحرب، فلا يجب أن تقوم الحرب تنكيلا أو تخريبا أو استباحة لدم الأطفال والشيوخ والنساء، ولا يبيح الإسلام الحرب إلا بعد إعلان المحارب بمدة كافية، ولا يبيح قتل الأسرى ولا تعذيبهم بل يأمرنا بأن نطعمهم لنكون أبرارا متقين فيقول الله تعالى فى كتابه الكريم «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا» واتفاقا مع منهج الإمام الإسلامى الإنسانى يقول إن للمرأة ذات حقوق الرجل وعليها ما عليه ولها ما له، بل إن الإسلام فتح الباب أمامها فى جميع شؤون الحياة، ودمها مساو لدمه، وبرغم أن العلماء اختلفوا فى أمر دية المرأة لكنه يرى أن القرآن وهو المصدر التشريعى الأول وضعها فى ذات مكانة الرجل ولذلك فهى مساوية له حتى فى العقوبات.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
14-08-2012, 10:15 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

الإمام المراغى.. ضمير مصر ومؤسس الأزهر الحديث..دعا إلى عدم «التمذهب» وهاجم فى ثلاثينيات القرن الماضى مروجى ظاهرة الإعجاز العلمى فى القرآن

السبت، 11 أغسطس 2012 - 08:33
s820121182927.jpg
الإمام المراغى

141.jpg


دعا لفتح باب الاجتهاد ولم يمانع من أن يشتغل عالم الدين بالسياسة بشرط عدم الانتماء إلى حزب أو طائفة بشرط أن يكون عمله بها من أجل الإرشاد إلى الصواب ولرد المخطئ عن خطئه

صرخ فى وجه الملك فاروق حينما أراد منه أن يحرم على طليقته الزواج من غيره قائلا: إن المراغى لا يحرم ما أحله الله

إن كان معروفا أن مؤسس الجامع الأزهر هو القائد جوهر الصقلى فى القرن الرابع الهجرى، فإنه من الواجب أن يعرف العالم كله إن الإمام محمد حسن المراغى هو المؤسس الثانى لهذا الجامع الجامعة لما سنه من قوانين أحدثت طفرة فى حياة الأزهر، ولما بذل من مجهودات خارقة ليتبوأ الأزهر مكانته التى نفتخر بها الآن، وإن كان بعض الناس يلومون الإمام الكبير من باب المحبة على قلة كتبه، فحسبه أنه بسياسته الإصلاحية الواعية ومواقفه الإسلامية الوطنية الكبيرة، ومنهجه العقلى والروحى الملتزم بتعاليم كتاب الله وسنة رسوله الكريم قد أنتج عشرات، بل إن شئت قل مئات من الموسوعات والكتب والبحوث منتشرة فى عقول أبنائه فى مصر والعالم العربى والإسلامى، دون أن ينقص ذلك من أهمية كتبه وأبحاثه القليلة عددا والكبيرة قيمة وتأثيرا.

هو محمد مصطفى محمد عبدالمنعم المراغى، ابن محافظة سوهاج المولود فى ربيع العام 1881م، والذى صار بعد ذلك أحد أهم أعلام مصر والعالم الإسلامى وأحد أهم من شكلوا قوانينها ومسارها التشريعى والفقهى والوطنى، شاء له القدر أن يولد لأب يحب العلم والثقافة والتبحر فى شؤون الدين، فورث ابنه هذا الحلم وعمل على تحقيقه، وحينما ظهرت نجابته فأرسله أبوه إلى الأزهر ليكمل تعليمه فيه، وفى الأزهر كان لقاؤه بالإمام محمد عبده إمام المصلحين وصاحب المدرسة الفقيه الشهيرة التى تعرف باسم «المدرسة العبدية» فرأى فى الأستاذ تمسكا بالدين وحرصا على إحياء علومه وتجديد نهضته، وعرف منه أن الله لم يضع الإسلام حجرا فى طريق النهضة بل أساسا لها، وأيقن من أن الله فى كل شىء صالح وفى كل عمل طيب، فمضى يبحث عن الله فى كل شىء خلقه، وكأنه فى رحلة عشق إلهى متجدد.
قبل أن يموت الإمام محمد عبده بسنة واحدة تقدم الإمام المراغى وهو يبلغ من العمر آنذاك 23 سنة إلى اختبار نيل شهادة العالمية من الأزهر الشريف، وكان وقتها مصابا بالحمى فجاوب قدر ما استطاع وكان الإمام محمد عبده يرى أنه مريض، وبرغم ذلك استطاع أن يجتاز الاختيار بمهارة وتفوق، وكان ترتيبه الأول على أقرانه، وبعد حصوله على «العالمية» اشتغل بالتدريس فى الأزهر الشريف بضعة أشهر حظى فيها بشهرة كبيرة بين أقرانه وتوافد فيها عليه الكثير من الطلبة المعجبين بآرائه والمتبعين لمنهجه، وبعدها اختاره الإمام محمد عبده ليعمل بالقضاء الشرعى فى السودان، ثم عاد إلى مصر بعد أن اختلف مع المسؤولين السودانيين الذين تجاوزوه فى الترقية فقدم لهم استقالته، ليشغل فى مصر منصب مفتش الدروس الدينية بديوان عموم وزارة الأوقاف بجانب عمله بالتدريس فى الأزهر، وما هى إلا أشهر حتى عاد للسودان مرة أخرى ليشغل منصب قاضى القضاة فى السودان أجمع، لكن السودان كان كما مصر تحت الاحتلال الإنجليزى فقد رفض قبول الوظيفة تحت الاحتلال الإنجليزى، وقال لهم إنه لن يذهب إلى السودان إلا إذا وقع خطاب التعيين الباشا خديوى مصر لأنه الحاكم الشرعى للسودان، ولأنه حاكم مسلم وهو ما أثار استياء الإنجليز الذين كانوا ينون قطع كل صلات مصر بالسودان بدليل أن القاضى الذى أتى بعد المراغى جاء بتوقيع الحاكم الإنجليزى.

أسهمت تجربة تولى الإمام المراغى مهمة القضاء فى السودان فى تعميق وعيه بالفقه الإسلامى، وبلورة منهجه الفقهى المتجدد، فها هى قضايا الناس الواقعية بتفاصيلها وجزئياتها وتعقدها تقف وجها لوجه أمام النصوص الفقهية والأحكام المتوارثة، والتى قد اختلفت وتباينت ولم تعد صالحة للتطبيق بعد أن اختلف العصر، وكان لهذه التجربة أكبر الأثر فى منهجه الفقهى بعد ذلك ومحاولاته إكساب الفقه الإسلامى مرونة تمكنه فى الفصل فى نزاعات الناس المعقدة بعدالة الإسلام الراسخة، وهو ما ظهر واضحا فى كتابه «الاجتهاد» الذى دعا فيه إلى الأخذ بما جاء فى جميع المذاهب الإسلامية وجواز الحكم بأكثر من مذهب وعدم الاقتصار على مذهب واحد.

وكان للإمام مواقف كثيرة فى السودان أظهرت سماحته الإسلامية وغيرته على الدين وكرامة العالم ومكانة الأزهر، فلما أرادت حكومة السودان تعديل لائحة المحاكم الشرعية بالسودان، تمسك الشيخ الإمام بأن من سلطته أن يختار للقضاة الآراء الفقهية التى يحكمون بها، ولما رفض المسؤولون فى السودان هذا الأمر، أصر الإمام على رأيه، حتى انتصر على مناوئيه، ويتداول محبو الإمام واقعة حدثت أثناء إقامته بالسودان تفيد أنه كان دائم الاعتزاز بمكانته وشخصيته، ولكنه لم يكن اعتزازا شخصيا بقدر ما كان اعتزازا بالقيمة التى يمثلها، فقد حدث أن الحكومة البريطانية اعتزمت أثناء احتلالها للهند أن تحتفل بتنصيب الملك جورج الخامس إمبراطورا على الهند، فأصدرت الأوامر إلى الأعيان وكبار الموظفين فى السودان أن يسافروا إلى الميناء لاستقبال باخرة الملك، وهى فى طريقها إلى الهند حيث تتوقف لبعض الوقت وكان فى مقدمة المدعوين قاضى قضاة السودان الإمام المراغى، وكان البروتوكول يقضى بألا يصعد إلى الباخرة أحد غير الحاكم الإنجليزى، وأما من عداه فيمكثون بمحاذاة الباخرة ويكفى أن يشرفهم الملك بإطلال عليهم، وعلم الشيخ ذلك الترتيب فأخبر الحاكم الإنجليزى بأنه لن يحضر لاستقبال الملك إلا إذا صعد مثله إلى الباخرة لملاقاته، وإلا فلن يحضر، ولما وجد الحاكم أنه من غير الممكن أن يتخلف قاضى القضاء عن استقبال الملك وافق على رأيه، ولما صعد الإمام إلى الباخرة قابل الملك، وملؤه عزة وشموخ، وحياه بتحية الإسلام ولم ينحن له مثلما وجد الآخرين ينحنون، وهو ما أثار استياء الإنجليز الذين طالبوه بالانحناء للملك، فقال لهم مقولتهم الشهيرة: فى ديننا لا ننحنى لغير الله.

مضى الإمام فى رحلته للسودان محاولا أن يضخ الدماء فى شريان القضاء السودانى وهو عصب الحياة الأول الذى إن صلح صلح حال البلد، فأشرف على القسم الشرعى من كلية «غاردون» وزوده بأساتذة من العلماء المصريين الممتازين من الأزهر ودار العلوم، وهو ما يذكره السودانيون للإمام بكل تقدير، ولما اشتدت الثورة بمصر، التف المصريون بالسودان حول الشيخ الإمام المراغى فقاد جموعهم فى مظاهرة كبيرة، وأخذ يجمع التوقيعات لتأييد زعامة سعد زغلول وأصحابه والإقرار بأنهم وكلاء الأمة، وهنا ثار حُكَّام الإنجليز بالسودان، فاقترح بعضهم سجنه، واقترح بعضهم اعتقاله ونفيه، وهو ما تم تجنبه خوفا من إحداث ثورة أخرى، فأنهى عمل الإمام بالسودان ومنحته حكومة السودان إجازة مفتوحة لم يعد بعدها إلى الخرطوم، ولقد كتب حاكم السودان أيام كان الشيخ الإمام المراغى فيه إلى وزارة الخارجية الإنجليزية قائلاً: إن الشيخ المراغى يُعدُّ من دهاة العالم، وفى خلال ثورة سنة 1919م وكان الشيخ الإمام المراغى بالسودان كتبت صحيفة «التايمز» وهى صحيفة بريطانية مشهورة: أبعدوا هذا الرجل، فإنه أخطر على بلادنا وحياتنا من ويلات الحرب.

فى مصر كان الإمام يتقدم نحو مزيد من العلم والبحث والعمل الجاد الذى أثقل رؤيته وجعله من أئمة عصره المعدودين، فشغل منصب رئيس التفتيش الشرعى بوزارة الحقانية ثم منصب رئيس محكمة مصر الكلية الشرعية ثم فاز بعضوية المحكمة العليا ثم رئاسة المحكمة العليا الشرعية، وكان حصيلة هذه المناصب، هو قيامه بعدة إصلاحات مهمة، حيث أمر بتشكيل لجنة لتنظيم الأحوال الشخصية برئاسته، ووجَّه اللجنة إلى عدم التقيد بمذهب الإمام أبى حنيفة إذا وجد فى غيره ما يُنَاسب المصلحة العامة للمجتمع، وكان القضاة قبل ذلك مقيدين بمذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة، فجعلهم يقتبسون من المذاهب الأخرى ومن آراء المجتهدين بما يناسب الزمان والمكان، وبهذا استطاع أن يقوم بإصلاحات عديدة فى محيط الأسرة الإسلامية، فأصدر فى يوليو سنة 1920م قانون الأحوال الشخصية.

وأثناء عمل الإمام بالقضاء واجه العديد من المحن والاختبارات القاسية فصمد أمامها بشجاعة لا تعرف الخضوع وصمود لا يعرف التهاون، ومنها ما حدث أثناء نظره لقضية، فقد تعرض إلى اعتداء غاشم أثناء نظره لإحدى القضايا فعرض عليه أحد أطراف القضية رشوة ضخمة فى مقابل أن يحكم له، فأعرض الإمام عنه ومضى فى سبيله، ولما كان المجرم يعرف أنه مدان لا محالة حاول أن يمنع الإمام من النظر فى القضية، فاستأجر من يعتدى عليه، فألقى المجرم ماء نار فى وجه الإمام فأصابت منه رقبته وبعض وجهه، وفى تحقيقات القضة أدلى الإمام بأوصاف المجرم ووصفه وصفا دقيقا وهو ما ساعد الشرطة على الإمساك به فاعترف بالواقعة.

بعد أقل من ستة عشر عاما من حصول الإمام على «العالمية» تم تعيينه شيخا للأزهر، وهو مازال فى أربعينيات عمره، وبالتحديد فى عامه السابع والأربعين، فانتوى أن تكون فترة إمامته للجامع الأزهر فترة تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فأعد العدة لتنفيذ حلم الإمام حسن العطار والإمام محمد عبده فى تطوير الأزهر وإصلاحه، فدرس مناهج الأزهر وقوانينه وعمل على تنقيح هذه القوانين، واقترح إنشاء ثلاث كليات عليا تتخصص الأولى فى دراسة العلوم العربية، والثانية فى علوم الشريعة، والثالثة فى أصول الدين، لكنه اصطدم برغبة الملك فى الحفاظ على الأزهر تابعا خانعا ضعيفا، فعرض عليه قانون إصلاح الأزهر فرفضه لأن الواشين كانوا قد أوعزوا إليه بأن المراغى يريد أن يستقل بالأزهر عن القصر، وكان رد الإمام حاسما، فأرسل إلى الملك بقانون إصلاح الأزهر فى ظرف، واستقالته فى ظرف آخر، فرفض الملك القانون وقبل الاستقالة ليخرج الإمام من الأزهر شريفا كما دخل إليه، وما هى إلا أشهر معدودات حتى هاج الجامع الأزهر وعمت فيه الإضرابات والمظاهرات المطالبة بعودة الإمام، فعاد الإمام إلى إمامته مرة أخرى وأرجع معه من تم فصلهم عن الجامع لأنهم من مناصريه وتلامذته، ومنهم الإمام محمود شلتوت.

أجمعت أطياف الشعب المصرى آنذاك على محبة الإمام والثقة فيه، حوله تحلق المثقفون والأميون والعلماء والباحثون والسياسيون، وهذا ما مكنه من أن يشق طريق الإصلاح بكلتا ذراعيه، فأدخل إلى الأزهر كليات متخصصة، ووضع نظام التعليم الأزهرى، وشكل لجانا للفتوى، وأنشأ قسم الوعظ والإرشاد لنشر الثقافة الإسلامية فى الأقاليم الخارجية، كما أنشأ جماعة كبار العلماء، واشترط فى أعضائها أن يكونوا من العلماء الذين أسهموا فى الثقافة الدينية، وأن يُقدِّم رسالة علمية تتسم بالجدَّة والابتكار، وجعل أعضاءها ثلاثين عضوًا، وآثر بعضويتها أولى الكفاءات العلمية والأخلاق السامية حتى أصبحت أكبر هيئة دينية فى العالم الإسلامى، وقد حلَّ محلها الآن مجمع البحوث الإسلامية، ورأى قبيل وفاته أن يُنشئ مراقبة خاصة للبحوث والثقافة الإسلامية تختص بالنشر والترجمة والعلاقات الإسلامية، والبعوث العلمية، والدعاة، فصدر قرار بإنشائها فى يوليو سنة 1945م.

وبرغم كل هذه المهام الجسيمة التى تولاها الإمام لكنه لم يقصر فى حق تخصصه الأول وهو التشريع والفقه، وقد كان أحد أهم مجددى الفقه الإسلامى ووريث مدرسة الإمام محمد عبده فى الإصلاح الدينى، معتمدا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأعمال خلفائه الراشدين مشجعا على الاجتهاد ومهاجما من يعارضه، قائلا إنه لا الله ولا رسوله ولا صحابته ولا التابعين ولا تابعى التابعين ولا أى من الأئمة الكبار أمر بغلق باب الاجتهاد، وهو ما يعنى أن غلق باب الاجتهاد غير متوافق مع الشريعة الإسلامية، كما دعا الإمام إلى عدم الاقتصار على الالتزام بآراء الأئمة الأربعة، وأنه يجوز أن يأخذ المسلم بأى رأى سليم من أى عالم دين أو إمام مخالف لإمام مذهبه طالما الأدلة سليمة، كما دعا الإمام إلى توحيد الفقه الإسلامى وعدم «التمذهب» الذى قد يضر بالحياة الدينية والدنيوية على حد سواء، كما تبنى الإمام منهج الأئمة الكبار أمثال الغزالى والشاطبى والعز بن عبدالسلام فى اتباع المصلحة، غير أنه قال إنه يجوز أن يأخذ المسلم بالقول الضعيف إذا كان فيه مصلحة من مصالح الأمة، كما دعا إلى ضرورة التثبت عند نقل ما يسمى بالإجماع، كما دعا إلى الأخذ بالعرف الخاص، وإن خالف المنصوص عليه فى كتب الفقه، كما كان الإمام يرى أنه لا مانع من أن يشتغل رجل الدين بالسياسة بشرط ألا ينتمى إلى حزب أو طائفة وأن يكون عمله بها من أجل الإرشاد إلى الصواب ولرد المخطئ عن خطئه، فالسياسة من وجهة نظره «كياسة فى الموقف وصراحة فى القول، أما كياسة الموقف فإنها تعنى المواءمة بين المصالح والمفاسد فى الموقف واختيار أرجحها فإذا رجحت المصلحة على المفسدة أو قلت المفسدة بين أمرين وافق عليه وما عارضه».

وتبنى الإمام قضية التقريب بين المسلمين وغير المسلمين، مؤكدا أنه يجب على «رؤوس الأديان» أن يتحدوا فيما توافقوا عليه، مرجعا سبب ابتعاد المثقفين عن الدين بأن رجال الدين لم يكونوا راشدين فى هجومهم عليهم وهو ما تسبب فى جرأة المثقفين على رجال الدين وإضعاف الشعور الدينى العام، داعيا الفقهاء إلى تفهم أسباب اعتراض المثقفين على رجال الدين ومحاولة كسبهم فى صفهم لما يتمتع به المثقف المسلم من قوة فى الحجة ومقدرة على الإقناع بدين الله وأخلاقياته لغير المسلمين، موضحا أن المثقفين المسلمين يتميزون بقوة إحساسهم ودقة إدراكهم واستطاعتهم فهم ما بالأديان من معان روحية سامية يصعب فهمها على العامة، قائلا: إن قبس النور مازال باقيا مادام الله رحيما بعباده.

ولك أن تتعجب من وجهة نظر الإمام المراغى التى ساقها اعتراضا على ما يسمى بالإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، فقد قال رحمه الله: «إنه كلما حدثت فى العالم فكرة طريفة اجتهد البعض أن يلتمسها فى القرآن،‏ وفرحوا إن استطاعوا الاهتداء إلى إشارة بعيدة إليها،‏ يفعلون هذا فى جميع النظريات المرتبطة بالكون وأسراره‏،‏ وقواعد الاجتماع والسياسة،‏ ولكن من حقهم أو يفهموا أن المعارف البشرية غير مستقرة‏، وأنها تتغير ويتجدد بدلا منها معارف أخرى تختلف عنها أو تناقضها‏،‏ وأنه ليس من الحكمة أن نربط هذه المعارف غير القارة أى غير المستقرة بكتاب الله الثابت الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏، ‏ومن الخير أن ندع كتاب الله يقرر لنا أحكام التشريع ويهدم الوثنية من أصولها‏،‏ ويرفع العقل البشرى إلى المستوى اللائق به‏، ويأخذ بيد الإنسان إلى المقام الأسمى اللائق بخلافته فى الأرض‏،‏ ويبين لنا العبرة والعظة بأحوال الماضى،‏ ويغرس فى نفوسنا تلك الأخلاق الفاضلة من الصبر والشجاعة والقناعة والرضا‏، ويفتح أمامنا أبواب العلم والهداية بما أشار إليه من وجوب النظر فيما صنعه الله، خير لنا أن نفعل ذلك وندع العلماء يقررون معارفهم ويستدلون عليها‏، ويحملون نتيجة خطئهم إذا تغيرت معارفهم، وأثبت العلم نقيضها‏،‏ فليس القرآن الكريم كتاب حساب‏ وفلك وطبيعة، وإنما هو كتاب هداية وتنظيم لعلاقة الإنسان بربه،‏ وعلاقة أفراد الناس بعضهم ببعض‏».‏

وللإمام الكبير مواقف كبيرة مثله، تدل على صرامته فى الدفاع عن الدين والشرف والكرامة والعزة، فيقول العالم السورى محمد كرد على فى محاضرة له ألقاها فى دمشق عن الإمام المراغى‏:‏ طلبوا من الإمام المراغى يوما أن يترك رئاسة الأزهر ويحصل على ما شاء من الأفدنة والأموال فأبى،‏ وطلبت منه جماعة سياسية معينة أن ينضم إليها ويكون له ولأولاده وذوى قرباه ما شاء من الكرامة فأبى، وقال فى ذلك‏:‏ إن أولادى وإخوتى فى نظرى أقل من أبيع لهم كرامتى‏،‏ وعن المراغى يقول العالم الجليل الشيخ عبدالجليل عيسى‏، وهو تلميذ الإمام المراغى‏،‏ كان المراغى رجلا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، لا يعرف الدجل، ولا الغش‏، ولا الكذب،‏ ولا مجاملة الأقوياء‏، وكان المراغى مصلحا جريئا فى الإصلاح،‏ وكان قاضيا فذا فى القضاء،‏ وكان مشرعا حكيما فى التشريع،‏ خبيرا بروح الشرع ومراميه‏،‏ وكان أديبا ضليعا فى الأدب‏.‏

موقف آخر ظهرت فيه قوة الإمام وصرامته فى مواجهة من يعتدون على الدين، فقد حدث أن أرسل أحدهم إلى الشيخ عبدالمجيد سالم مفتى الجمهورية سؤالا عن حكم الدين فيمن يشرب الخمر ويذهب إلى الحفلات الماجنة، وعرف الشيخ أن المقصود بالسؤال هو الملك فاروق الذى نشرت الصحف خبرا عن حضوره مثل هذه الحفلات فأجابه سليم بحكم الدين فى هذا الأمر ولم يتخوف من شىء، ونشرت الصحف فتوى سليم وقالت إن المقصود بها هو الملك، فغضب الملك كثيرا من هذه الفتوى واتصل بالإمام المراغى يحثه على تكذيب المفتى فقال للملك وكان على خلاف مع المفتى: لن أخذل رأى المفتى، بل لا تطلب منى أن أعين المخطئ على خطئه ولا أن أخطئ المصيب فى إصابته، ولهذا قال عنه الشيخ عبدالمجيد سليم فى تأبينه: «رحم الله الشيخ المراغى وأحسن إليه لقد كان عظيما حقا، وكانت له صفات كريمة وخلال شريفة هيأته لهذه العظمة وجعلته يحتل فى التاريخ هذه المكانة الجليلة، ولقد كان رحمه الله ذا فطرة سليمة صافية يمدها ذكاء شديد واستعداد طيب لاستقلال فى التفكير والميل إلى الحرية والقصد فى الاعتقاد بما يراه أهل التقليد».

واستمر الإمام فى قول الحق والإصلاح ما بقى له من حياته، ومن فتاواه الجليلة أمره بالحياد حيال حرب إنجلترا وألمانيا، وكانت إنجلترا وقتها تحتل مصر وتريد من الإمام أن يجند لها المصريين لتحقق الانتصار، فقال قولته الشهيرة: «إن مصر لا ناقة لها ولا جمل من هذه الحرب وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأية صلة»، وهو ما أغضب رئيس الوزراء الذى اتصل به يهدده فرد عليه الإمام: «أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟ وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين وأثرت عليك الرأى العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب».

ولعل أبرز هذه المواقف التى تبرز شجاعة الإمام وصرامته ما حدث مع الملك فاروق حينما طَلَّق زوجته الأولى الملكة فريدة، وأراد أن يُحرِّم عليها الزواج بعده، فأرسل إلى الشيخ يطلب منه فتوى تؤيد رغبته فرفض أكثر من مرة، ولما ضاق الملك ذرعًا بإصراره على الرفض ذهب إليه فى المستشفى مُحتدًّا، فقال له الشيخ عبارته الخالدة: أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التَّحريم فلا أملكه، ثم صرخ بأعلى صوته: إنَّ المراغى لا يستطيع أن يُحرِّم ما أحل الله.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
14-08-2012, 10:17 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

الشيخ عبدالمتعال الصعيدى.. الإسلام إنسانياً.. أثبت بالدليل أن الإسلام كفل حرية الفكر والاعتقاد للمسلمين ولغيرهم.. وأثبت أن حد الردة دخيل على الدين.. وأن المرتد يستتاب ولا يقتل

الأحد، 12 أغسطس 2012 - 09:11
smal82012129745.jpg
الشيخ عبدالمتعال الصعيدى
بقلم وائل السمرى

141.jpg


قال إن الحركة الوهابية تدعى أن الإسلام انتشر بالسيف لأنها كانت دعوة دموية.. ولذلك أرادوا أن يجعلوا الإسلام دين عنف

أخذ على ابن حنبل الثورى تحريم زواج المرأة العربية غير العرب.. قائلاً إن هذا الرأى "عنصرية" لا تتناسب مع الدين الخاتم

لعلك تتساءل: ما الذى جعل المسلمين دائما يقفون فى موقف الدفاع عن دينهم مرة بالعقل، ومرة بالنقل، ومرة بالنفى، ومرة بالإنكار، ومرة بالصمت، ومرة بالهجوم، ومرة بالتبرير؟ ولعلك تتساءل: لمصلحة من يظل المسلمون لا يشغلهم شىء فى الحياة سوى الحديث عن الدين وموارده الأصلية وآراء العلماء المختلفة فيه، مشتتين بين المذاهب، ومتفرقين بين الآراء، مهلهلين بين النزاعات، متخلفين عن أسلافهم ومعاصريهم، مدحورين لا متقدمين، متقهقرين لا واثبين؟ ولعلك تتساءل: لمصلحة من أن تم اختصار الإسلام فى عدة أمور شكلية تستهلك طاقاتنا وتبدد أحلامنا، وتيبس عقولنا، وتجعلنا أسرى الكسل والخمول والوقوف والتردد؟ ولعلك تتساءل لماذا اتبعنا ثقافة الاحتياط ولم نتبع ثقافة الأصلح، رغم أن الثانية أولى بالاتباع، وفقاً لما جاء بصريح النص القرآنى والسنة النبوى المشرفة؟ ولعلك تتساءل أيضاً لمصلحة من أن تبقى صورة الإسلام فى الأذهان، وكأنها من الصور الغابرة التى عبرتها الإنسانية، رغم أن الإسلام فى حد ذاته كان من أروع أمثلة عبور الإنسانية للظلام؟ ولعلك تتساءل أيضا لماذا يصر البعض على أن يصور الإسلام باعتباره دين عنف لم ينتشر إلا بالسيف، مدعين أن الآية الكريمة "لا إكراه فى الدين" تم نسخها ولا يصح العمل بها، وفى ذات الوقت يقرون بأن القرآن صالح للتطبيق فى كل زمان ومكان، متمسكين بحديث الرسول "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم" رغم أنه من أحايث الآحاد التى تفيد الظن، ولا تفيد القطع، ورغم أنه يعارض الآية الكريمة تمام المعارضة؟ ولعلك تتساءل إلى متى سنظل هكذا يشغلنا الكلام عن الإسلام دون تطبيق تعاليم الإسلام، وتشغلنا الفروع والجزئيات دون الاهتمام بالأصول والكليات، ويشغلنا الحديث عن الشريعة دون البدء فى السير نحو مقاصد الشريعة؟ ولعلك تتساءل: لمصلحة من كل هذا؟.

كل تلك الأسئلة وأكثر هى ما شغلت الشيخ المجدد الكبير عبدالمتعال الصعيدى الذى نكاد نضيعه مثلما ضيعنا الإمام الليث ابن سعد من قبله، والإمام العز بن عبدالسلام، والإمام حسن العطار، والإمام محمد عبده، والإمام مصطفى عبدالرازق، والإمام محمود شلتوت، وغيرهم كثير من أئمة الفكر الإسلامى الكبير، وأعلامه المجددين، لنعود إلى مرحلة الطفولة الفكرية بعد أن قطعنا أشواطاً شاسعة فى التقدم بالإسلام وفى الإسلام وللإسلام ومن الإسلام؟ فللأسف قد أنتج الإمام عشرات الكتب والأبحاث المهمة، والتى تنهض بالمسلمين من قاع الدنيا إلى قمتها، وتبرئ الدين الإسلامى الحنيف مما يلصقه به المغرضون، لكن ما يطبع الآن من عشرات الكتب التى تتجاوز الستين كتابا هذه لا يتعدى عشر إنتاجه، فقد أنتج الشيخ ما يقرب من خمسين كتابا مطبوعاً، وعشرين كتاباً مخطوطاً أهداها كلها للأزهر الشريف، ولا نكاد نسمع عن تلك الكتب شيئاً، ولتعرف كيف نبدأ فى تضييع هذا الإمام المجدد الكبير، انظر فقط إلى اللغط الواقع حول تاريخ وفاته، فبعض الباحثين يرجعونه إلى العام 1966، بينما يرجح البعض أنه توفى فى عام 19،71 أى أن الفرق بين التاريخين ليس سنة ولا اثنتين، وإنما خمس سنوات كاملة، ولو كان هذا اللغط واقع حول شيخ فى عصر من العصور القديمة لهان الأمر، لكن من المؤسف أن يحدث هذا التخبط حول تاريخ وفاة "الصعيدى" فى عصر العلم والتدوين والبحث الدءوب، ما يدل على أن هناك من بيت النية لطمس أفكار هذا الرجل، وقتل أبحاثه المهمة الجادة التى دافع فيها عن ديننا بكل قوة، أمام طرفى التطرف سواء كان هذا التطرف علمانيا غربيا أو وهابياً إسلامياً.

ومن عمق المأساة.. لا يكاد الواحد يعرف عن الشيخ إلا أقل من القليل، فتذكر بعض كتبه الحديثة، أن اسمه عبدالمتعال عبدالوهاب أحمد عبدالهادى الصعيدى، وأنه من علماء الأزهر الشريف، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية، ولا تغيب تلك الجملة أبداً عن كلمات التعريف به فتقول، إنه: واحد من أصحاب الفكر التجديدى بالأزهر، ومن المنادين بالمنهج الإصلاحى فى التعليم والفكر والتجديد الدينى، ثم تذكر تاريخ ميلاده ومنشأه فتقول إنه ولد فى 7 مارس عام 1894م بكفر النجباء، مركز أجا بمحافظة الدقهلية، والتحق بالجامع الأحمدى بطنطا، وحصل على شهادة العالمية فى عام 1918م، ودرس علم المنطق، وكان الأول على طلاب معهد طنطا فتم تعيينه مدرسًا بالجامع الأحمدى بطنطا، وفى عام 1932م انتقل للتدريس بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف بالقاهرة، كما تذكر من صفاته، أنه كان محبا للقراءة، وصاحب اتجاه أسموه "ثوريا"، لكى يعفو أنفسهم من الاقتناع به، برغم أنه يملك كل مؤهلات الاقتناع، ثم تستفيض ترجمته بشرح دوره فى البحث عن سبل إصلاح الأزهر، كما لو أن الرجل لم يكتب إلا كتابه الشهير "تاريخ الأزهر فى الإصلاح"، ولا يذكرون شيئاً عن مقالاته المتفرقة، ولا يقولون شيئا عن دوره فى الدفاع عن الإسلام ضد موجات الإلحاد التى انتشرت فى عصره، بفعل اكتشاف المسلمين مدى تدهورهم وتحكم رجال الدين فى أمورهم، بالمخالفة لتعاليم الإسلام التى تكفل كل أسباب التقدم والرقى.

إذن فالشيخ المجدد المصلح المتبحر فى دين الإسلام وتاريخه، ينتمى إلى هذه الطائفة من العلماء الذين لم يخشوا فى الله لومة لائم، مصارحين بآرائهم التى ظلموا من أجلها فلم ييأسوا وظلوا على حالهم، يقولون ما يؤمنون به، ويكتبون ما يرونه صالحا، فوسط الاختلافات والتنازعات الدينية الكثيرة، كان من الواجب أن نبحث عن منهج جديد فى دراسة التشريعات الإسلامية ونشأتها، لنفرق كما كان الشيخ يقول بين الإسلام والتراث الإسلامى، فالإسلام هو دين الله الخاتم الذى ارتضى لنا أن يكتمل به إيماننا، وهو دين السماحة والحب والحرية والعقل والتوحيد والرقى، أما الموروث الإسلامى من أحكام فقهية، وتفاسير، ومذاهب، فهو الناتج البشرى عن عملية تأويل الإسلام، بما يناسب العصر الذى تم إنشاء هذا الموروث فيه، وهو ما يعنى أن يتحرر المسلم من التقيد بهذا الموروث طالما لم يخالف كتابا معصوما، ولا سنة صحيحة يقينية متواترة.

العديد من المفارقات المؤلمة يرصدها الصعيدى فى كتابه "المجددون فى الإسلام" متحسراً على ما آل إليه حال المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، فيعلن استياءه من مغالاة البعض فى العبادات وتشددهم فيها، حتى يظن الواحد أن الإسلام دين عبادات فحسب، وهو الأمر الذى وصفه الشيخ بأن فاعليه "ابتدعوا رهبانية فى الإسلام" موضحاً أن الإسلام الحقيقى هو ما يصحبه الإنسان فى حياته كلها، فيرى باستنارته العالم، ويضرب الشيخ مثلاً باستنارة الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى أمور الدين معتبراً عمر بن الخطاب من المجددين، لأنه راعى التغيرات الاجتماعية فى أحكامه معطيا العقل مساحة أكبر فى التعامل مع نصوص القرآن والسنة، ولأن الشيخ كان دائم إعمال العقل، فقد أخذ على الإمام الشافعى قوله "كل قرشى غلب على الخلافة بالسيف، واجتمع عليه الناس، فهو خليفة" وقال: إن من يأخذ حقه بالسيف يكون غاصباً. وإجماع الناس عليه بعد ذلك لايصح أنْ يُسوّغ ما وقع، لأنه يكون ناشئًا عن عجزهم" كما أخذ الشيخ على بعض الأئمة والتابعين آراءهم فى النكاح، حيث قال الإمام سفيان الثورى "إذا نكح المولى العربية يُفسخ النكاح"، ما يعنى أنه يحرم زواج العربية بالمصرى أو التونسى أو الشامى، لأنه فى نظره "مولى" أى ابن بلد من البلاد المفتوحة، وهو ذات الرأى الذى أقره الإمام أحمد بن حنبل، وهو ما اعتبره الشيخ "عنصرية" لا تتناسب مع تعاليم الإسلام، ولا آيات الكتاب، ولا سيما ما جاء فى سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".

فى ذات الكتاب يتحسر الصعيدى على ما وصل إليه المسلمون نتيجة اتباع القشور، وترك المتون، مقارنا بين حال المسلمين وأحوال غيرهم وقائلاً: "وبينما كان المسلمون يصلون فى الانحطاط إلى أسوأ حالاته، كانت أوروبا تطفر من عصر النهضة إلى العصر الحديث، لأنها ثارت على الثقافة القديمة لبناء ثقافة جديدة، وبينما كان الفقهاء المسلمون يتمسكون بالتقليد، كانت أوروبا تخطو نحو التجديد، ذاكراً حكاية دخول المطبعة إلى اسطنبول واعتراض الفقهاء على ذلك ،حتى حملهم السلطان بالإكراه على إصدار فتوى شرعية بجواز استخدام المطبعة، وهو ذات الأمر الذى وقع مع الملك عبدالعزيز آل سعود، حينما جاهد لإدخال التليفون، ولإنشاء محطة للتلغراف ، فقال له رجال الدين "يا طويل العمر لقد غشك من أشار عليك باستعمال التلغراف"، فقال لهم "لم يغشنا أحد. وليس هناك دليل أو سنة"، ولكن الإخوان المسلمين قطعوا الأسلاك الموصلة إلى قصره. لأنّ هذا من وجهة نظرهم منكر يجب إزالته شرعاً. وكذلك كانوا يرون الدراجات. وسموا الدراجة حين رأوها عربة الشيطان، أو حصان إبليس. وقالوا إنها تسير بقوة السحر وعمل الشيطان. وأنكروا الساعة الدقاقة، لأنها من عمل الشيطان. وكسروا أول ساعة وصلت إليهم. ومن رأيهم أنّ أهل الحضر ضالون.

وأنّ غزو المجاورين واجب ألقى عليهم من الله. وأنّ الملك عبدالعزيز يوالى الكفار، لأنه أرسل ولده سعود إلى مصر بلد الشرك. واستخدم السيارات والتلغراف، وأصدروا فتوى بهدم مسجد حمزة. ورضخ الملك لهم، فوافق على هدم المسجد وإلى تعطيل التلغراف. واعترضوا على تدريس الرسم واللغة الأجنبية والجغرافيا، لأنها تُقرر كروية الأرض ودورانها، ويذهب الشيخ فى كتابه إلى أن الحركة الوهابية تدعى أن الإسلام انتشر بالسيف، لأنها كانت دعوة دموية ولم تكن دعوة سلمية، ولذلك أرادوا أن يجعلوا الإسلام دين عنف ليكسبوا دعوتهم شرعية. قائلا إنّ الوهابيين كغيرهم من جمهورالمسلمين فى ذلك الوقت، كانوا يرون أنّ الإسلام لم يقم إلاّ بالسيف، فلتقم دعوتهم بالسيف أيضاً".

ولكن الشيخ مع حرصه على التجديد الدائم للفقه الإسلامى، ودعوته إلى إعمال العقل حتى مع النصوص، فقد هاجم عميد الأدب العربى طه حسين بسبب كتابه "الشعر الجاهلى"، كما هاجم الشيخ على عبدالرازق بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وألف كتابا فى الرد على كتاب اسماعيل أدهم "لماذا أنا ملحد؟" وأطلق عليه اسم "لماذا أنا مسلم؟" وهو كتاب صغير اتبع فيه نظام المحاورة بين شاب مسلم مستنير متسامح وقس يعمل مبشراً، وبنى قصة مفادها أن هذا الشاب قابل هذا القس فى القطار وتجاذبا أطراف الحديث، فأراد القس أن يبشره بالدين المسيحى فجادله الشاب بشكل علمى رصين، حتى اتفقوا على ميعاد ليتناظروا فيه، وتعدد المقابلات ليسأل القس ويجيب الشاب، عارضا من خلال هذا الأسلوب الدرامى البسيط، كل ما يمكن أم يقال طعنا فى الإسلام مع الرد العلمى المتسامح عليه، وجدير بالذكر هنا أن معظم المجددين الإصلاحيين، كانوا أول من تولى مسألة الرد على المستشرقين والمشككين ومقاومة موجة الإلحاد التى انتشرت مع دخول الاحتلال الفرنسى، ثم الإنجليزى إلى مصر، ولعل أكثر ما يميز هذه الردود هو انتهاجها للنهج العلمى فى الحوار، متبعين أصول الجدل المنطقى فكان لدورهم عظيم الأثر فى الحفاظ على الهوية الإسلامية ضد حملات التشويه والهدم.

ولعل أكثر ما أثار الجدل فى كتب الشيخ عبدالمتعال الصعيدى، هما كتابا "الحرية الدينية فى الإسلام" و"حرية الفكر فى الإسلام"، وهما الكتابان اللذان يدفعان عن الإسلام شبهات الجبرية والإجبار والقهر، وأشد ما يميز هذا الكتاب كما جاء فى تقرير مجمع البحوث الإسلامية، أنه اتبع نفس أسلوبه مع الملحدين، فكان يعرض الرأى والرأى الآخر، ثم يوازن بينهما ويخرج بنتيجة يقبلها العقل ويقتنع بها، وكان سبب تأليف هذا الكتاب هو نشر مقال يقول فيه كاتبه أن المرتد عن الإسلام يقتل، فألف "الصعيدى" كتابه لينتهى إلى أن المرتد لا يُقتل، فتصدى لنقده عالم كبير من علماء الأزهر هو الأستاذ عيسى منون، عضو جماعة كبار العلماء وشيخ كليتى الشريعة والأصول بجامعة الأزهر، فأصدر الصعيدى الطبعة الثانية، وفيها كل ما قاله الأستاذ عيسى منون نقدا للكتاب، ثم رد الأستاذ عبدالمتعال الصعيدى على النقد، ليثبت وجهة نظره، وهو الشىء الذى مدحه الدكتور محمد رجب بيومى قائلاً: "إن هذا مما يحمد للأستاذ عبدالمتعال الصعيدى، حيث لم يشأ أن يُغرر على القارئ برأى جديد، دون أن يرجع إلى ما قيل عنه من قبل، كما يعرض صفحات كثيرة كتبها ابن حزم فى كتابه (الإحكام فى أصول الأحكام) وكلها تخالف اجتهاده، ورد عليها، وهو بما نقل عن الأستاذ عيسى منون والإمام ابن حزم، قد كشف الوجهة المخالفة لرأيه كشفا ساطعا، بحيث لا يحتاج قارئ إلى الرجوع إلى مصادر أخرى".

ويقول الشيخ الصعيدى فى هذا الكتاب، إن حرية الاعتقاد أن يكون للإنسان الحق فى اختيار الدين، ولا يكون لغيره الحق فى إكراهه على ما يعتقده بأية وسيلة من وسائل الإكراه، وإنما يكون له حق دعوته إليه بالإقناع بدليل العقل، أو بالترغيب فى ثواب الآخرة، والتخويف من عقابها، ويستشهد الشيخ الصعيدى على الحرية الدينية فى الإسلام بالعديد من الآيات مثل: "من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد"، و"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن"، و"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم"، و"إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين"، و"ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، و"لا إكراه فى الدين"، و" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، مؤكداً أن الحديث الذى يستند إليه بعض القائلين بوجود إقامة حد الردة، وهو "من بدل دينه فاقتلوه" يعد من أحاديث الآحاد التى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، كما أنه يخالف النص التشريعى الأول فى الإسلام وهو القرآن الكريم، ويخالف ما تواتر عليه من عدم قتل المرتدة، وهو ما يعنى أن قتال المرتد لا يصح إلا إذا حارب المسلمين، وبرغم وجهة النظر هذه، فقد دافع الشيخ عن موقف الصحابى الجليل أبو بكر الصديق مما عرف بحرب الردة، وأيد هذه الحرب فى كتابه "القضايا الكبرى فى الإسلام"، لأن من حاربهم الصديق لم يخرجوا من الإسلام، وإنما أبطلوا أصلا مما بنى عليه الدين وهو "الزكاة" فكانت الحرب لمنع الزكاة والاعتداء على الدين ومخافة الفتنة، ولو سكت أبى بكر على هذه الحالة، فلم يكن من المستبعد أن يبطل قوم آخرون الصلاة، وآخرون الصوم، ومن ثم يأخذ كل واحد من الدين ما يرتاح له ويترك ما لا يرتاح له فيضيع الدين.

أما فى كتابه حرية الفكر فى الإسلام، فقد ذهب الشيخ إلى أن الإسلام يعد أول دين يتيح الحرية المطلقة للإنسان، وقد كفل للمسلمين أن يعارضوا الرسول دون أدنى خوف، وبالتالى فإن التضييق على الناس فى باب الحرية الفكرية لا يتفق وصحيح الإسلام، لأن التعسف فى الحرية هو صناعة بشرية خالصة لا علاقة لها بالدين، فالإسلام لم يغلق باب الاجتهاد على الناس، والمجتهد لا إثم عليه فيما اجتهد فيه ولو أخطأ طريق الصواب، ما دام أنه التزم بالمعايير والضوابط فى اجتهاده، قائلاً إن "الإسلام يعتمد فى دعوته على تفكر العقل، لأن فى الكون نظاماً عجيباً يدل على وجود خالق له، فيكون الإيمان به عن اقتناع بوجود هذا النظام العجيب فى الكون، وعن اقتناع بوجوب إسناده إلى خالق عالم مريد قادر على خلقه"، ومؤكداً على أن الإسلام لا يعارض فكرا ولا يضطهد علما قائلاً: "العلم كالتفكر، مطلوب أولا لذاته، فإنه إنما يصح الإيمان بطريقة لأنه هو الذى يوصل إليه عن حرية واختيار، وهما شرط فى صحة الإيمان ولا حرية ولا اختيار إلا إذا اتخذ العلم طريقا مطلقا، وسار الإنسان فيه بنفسه يهتدى بهديه وحده فإذا وصل فيه إلى الإيمان بالله فبتوفيقه له، ولا يصح إكراهه على شىء بلا تدبر أو تفكير، وإلا كنا متناقضين فى جعله مختاراً أولاً ومكرها أخيراً، وكان الذى يليق بدل هذا التناقض إكراهه من أول الأمر" "ولا يعقل أن يدعو الإسلام إلى التفكر والعلم ثم لا يعطى من يدعوه إلى هذه الحرية العلمية، حتى يكون هناك سلطان عليه لغير العقل والعلم، ولا يخشى فى هذا بأس حاكم أو رجل دين، وإنما يجتهد فى العلم فليطلق له السراح ليسير إلى الأمام ولا يرجع إلى الوراء بل وينهض بأمته فى دنياها ودينها". وفى النهاية يؤكد الصعيدى على أن للعقل سلطة على النقل، وأن الإسلام فتح للعلماء باب الاجتهاد فى الدين، فأعطى للعقل سلطانه على دليل النقل، يستنبط منه ما شاء من أحكام الدنيا والآخرة، ويدخل فيه ما يلزم من التأويل ويدخل فيه ما يلزم من التخصيص والتعميم، ويدخل فيه ما يلزم من التقييد والإطلاق ويدخل فيه كل ما يلزم غير ذلك من ضروب الاجتهاد حتى يهيئه للحكم الذى يؤدى إلى ما اتفقا فيه من الغاية، وهو سعادة الناس فى دنياهم وأخراهم، وحتى لا يكون على الناس حرج فى الدين، لأن الدين يسر لا عسر".
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
16-08-2012, 04:34 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

وائل السمرى يكتب: عبدالرحمن الكواكبى.. قاهر الاستبداد وفاضح الاستعباد.. قال إن المستبد محتاجٌ لـ«عصابة» تعينه وتحميه وإنه «يتوج صدره بالنياشين والأوسمة» وأتباعه «سماسرة يغررون بالأمة باسم خدمة الدين»

الإثنين، 13 أغسطس 2012 - 09:06
s82012139117.jpg
عبدالرحمن الكواكبى
وائل السمرى

141.jpg


هو صاحب الصرخة العربية الإسلامية الأصيلة ضد كل مستبد، وهو هادم أفراح الطغاة، ومنغص ملذاتهم فى كل حين، وهو صاحب المقولة الخالدة: المستبدُّون يتولاهم مستبدّ، والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: «كما تكونوا يُولَّى عليكم»، وهو صاحب النداء الشهير: إلى متى هذا الشقاء المديد والنّاس فى نعيمٍ مقيم، وعزٍّ كريم، أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخُّر، وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل! يا قوم أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مُبتلون بداء التقليد والتبعية فى كلِّ فكرٍ وعمل، وبداء الحرص على كلِّ عتيق كأنَّكم خُلِقتم للماضى لا للحاضر، تشكون حاضركم وتسخطون عليه، وعليكم أن تدركوا أنَّ حاضركم نتيجة ماضيكم، ومع ذلك أراكم تقلِّدون أجدادكم فى الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط، ولا تقلِّدونهم فى محامدهم.

هو عبد الرحمن الكواكبى الفقيه المسلم العربى الشامى المصرى صاحب كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذى كتبه مطلع القرن الماضى فخلد اسمه فى تاريخ العرب والإنسانية كأحد أهم المنتفضين ضد الاستبداد ورجاله، وأحد أخصب المسلمين فكرا ورؤية وبلاغة، وأحد أهم المناضلين ضد التخلف والتبعية والتقليد والجهل والزيف والنفاق والجشع والبلاهة والجبن والتواكل والخنوع والاستكانة والركود والجمود والفساد بكل أشكاله وألوانه وطرائقه.

هو فخر الأمة الإسلامية وفقيها السياسى الرائد الذى لو كان فى أمة غيرها لأصبح أحد أشهر علاماتها الحضارية ولتقرر كتابه على طلبة المدارس والجامعات كما فعل الغرب مع منتيسيكو صاحب كتاب «روح الشرائع» وهارولد لاسكى صاحب كتاب «نظرية الدولة»، هو المولود فى حلب والقلق الذى لم تهدأ روحه ولم يستقر إلا فى مصر حينما كانت مصر «مصر» فقد ولد الكواكبى فى سنة 1855م لأسرة عربية، ثم مكث فى أنطاكية ثلاث سنوات بعد وفاة أمه ليعود بعدها إلى حلب، ليتعلم فيها القراءة والكتابة، وليتم قراءة القرآن وحفظه، ثم ينهل من علوم الفقه والدين ويتعلم الفارسية والتركية ويدرس الشريعة والأدب وعلوم الطبيعة والرياضة فى المدرسة الكواكبية، التى كانت تتبع مناهج الأزهر فى الدراسة، وكان يشرف عليها ويدرّس فيها والده.

حياة الكواكبى المليئة بالتجارب أثقلته بتجارب لم يكن ليتحصل عليها لولا شقاؤه فى النضال من أجل الحرية التى قدسها القرآن وعظمتها السنة وشوهها المستبدون، فلم يجف قلمه يوما مدعما للحرية ومعاديا للاستبداد فى كل صوره، يتقلب فى الكتابة من جريدة إلى جريدة، ويضطهده الطغاة فى كل مكان، حتى إنه وهو المدافع الشرس عن الدين الإسلامى وشريعته السمحة يقف ضد الدولة العثمانية وينتقدها حينما أرادت أن تطمس هوية المسيحيين بتغيير أسمائهم بأسماء إسلامية كشرط لقبولهم فى الجيش، ولأنه لم يكن يوما ليستحب العيش فى كنف الفساد تقلب فى الوظائف وهاجر إلى بلدان كثيرة ليحتفظ بمبادئه على حالها حتى حط رحاله فى مصر سنة 1900 وقد كانت قبضة الخليفة العثمانى عليها ضعيفة منذ قيام دولة محمد على، وكانت فى هذا الوقت تنعم بأجواء ثقافية مزدهرة بفضل مجهودات رفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وتلاميذهم، لكن للأسف تصل إليه يد الاستبداد فى مصر ويقتل فيها بعد أن يتم دس السم له فى القهوة، حيث قال لصديقه قبل وفاته بلحظات: «لقد سمونى يا عبدالقادر»، ولم يكن الموت المادى هو التنكيل الوحيد الذى تعرض إليه «الكواكبى» فقد تعرض لقتل آخر أشد قسوة وهو القتل المعنوى فأوعز السلطان عبدالحميد إلى أحد أصدقائه بأن يسرق مسودات كتبه وهو ما حدث بالفعل، فلم يصلنا إلا كتاباه المطبوعان «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» هذا الكتاب الذى وضع اسم الكواكبى عاليا بين أئمة المجددين وعظماء الفكر الإسلامى الإنسانى.

لم ير الكواكبى أحط وأقذر من الاستبداد، فحاربه بكل ما أوتى من قوة، معتبرا إياه أساس كل بلاء وتخلف وظلم وفساد، فأخذ يبحث فى كتابات المسلمين وغيرهم عن أثر الاستبداد فى حياة الشعوب، ووعى ما كتبه الرّازى، والطّوسى، والغزالى، والعلائى، والمعرّى، والمتنبّى، وابن خلدون، وابن بطوطة، فخلص إلى تعريف علم السّياسة بأنّه «إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة» أما تعريف الاستبداد فهو «التّصرُّف فى الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى» قائلا إنه: غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، وأشد درجاته حينما تكون «حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية» واصفا المستبد بأنه «عدوّ الحقّ، عدوّ الحّريّة وقاتلهما، والحق أبوالبشر، والحرّيّة أمّهم» وأنه «يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً».

لكن الكواكبى الذى عرف الشعوب واختلط بثقافاتهم يوقن من أنه لم يكن لمستبد أن يتسيد على الناس إلا إذا وجد البيئة المناسبة له، فيقول منزها ذات الله عن الرضا بالاستبداد «إنَّ الله عادلٌ مطلقٌ لا يظلم أحداً، فلا يُولَّى المستبدّ إلا على المستبدِّين. ولو نظر السّائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد كُلَّ فرد من أُسراء الاستبداد مُستبدّاً فى نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كُلَّهم، حتَّى ربَّه الذى خلقَهُ تابعين لرأيه وأمره»، وبالطبع لا يستشرى هذا الداء فى الشعب إلا إذا علت ثقافة التعصب على ثقافة الحوار، وغلبت العنصرية على الإنسانية، وعلا التحزب والمتذهب على الانصهار فى المبادئ السامية والإيمان بقوة الفضائل الإنسانية المشتركة، لذلك يرى الكواكبى أن جعل الشعوب أقليات متحاربة هى عادة المستبدين، وأن معين المستبد السياسى الأول على زرع هذه الآفة هو المستبد الدينى، فيقول: «الاستبداد السّياسى مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّينى.. أبوهما التَّغلب وأمّهما الرّياسة، وبينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان».

ويمضى الكواكبى منزها الدين عن الاستبداد ومؤكدا أن المستبد هو الذى يتجرأ على ذات الله ويوهم الناس بأنه قضاء الله وقدره أو أنه اختيار الله أو أنه ظل الله على الأرض أو أنه المؤيد بشرع الله فيقول «ما من مستبدٍّ سياسى إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذى علاقة مع الله. متخذا من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله»، قائلا إن الإسلام «نزعَ كلَّ سلطة دينية أو تغلّبيّة تتحكَّم فى النّفوس أو فى الأجسام، ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكلِّ زمان وقوم ومكان، وأوجد مدنيّة فطريّة سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين»، ويؤكد الكواكبى أن هؤلاء الحكام الذين يتخذون الدين ستارا لتمرير سياساتهم ليسوا من الدين فى شىء، وأنهم لا يمثلون الدين بأى حال من الأحوال، فيقول «لا مجال لرمى الإسلامية بتأييد الاستبداد» وأن القرآن الكريم أمرنا باتخاذ الشورى أساسا للحكم «وشاورهم فى الأمر» وأن الشريعة الحقة هى التى تطبق العدل «إن الله يأمر بالعدل» و«وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، والعدل عند الكواكبى يعنى المساواة والاشتراكية، ثم يؤكد الكواكبى أن الإسلام لم يحرم الخروج على الحاكم الظالم، وأنه أقر «عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التى تحصد أمثالهم حصداً»، ويستنكر الكواكبى عدم انتفاض المسلمين على الظلم والتمييز وهدر الحقوق الإنسانية ورضاهم بها وكأنهم لم يسمعوا حديث رسول الله «النّاس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتّقوى» أو الآية التى تقول «إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم» أو الأخرى التى تقول «ولقد كرَّمنا بنىَ آدم»، منتقدا تفسير آيات القرآن بالهوى والميل إلى الحاكم الذى يستعبد المحكومين وإغراق المسلمين بتفاصيل وجزئيات تبتعد عن روح الشرع جاعلة المسلمين فى حرج دائم من غضب الله رغم أنه الله تعالى رفع الحرج عن المسلمين فى اتخاذ ما يرونه صالحا لشؤون دنياهم، وهو ذات المنهج الذى انتهجه أهل الديانات السابقة الذى كانوا يحرفون الكلم عن مواضعة ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ولا يجد الكواكبى حيال ذلك إلا رفع أكف الضراعة إلى الله قائلا: اللهم إنّ المستبدِّين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدِّين الذى أنزلت، فلا حول ولا قوّة إلا بك! مؤكدا أن الداء الأكبر هو «خروج ديننا عن كونه دين الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنَّا جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البِدَع والتشديد، دين الإجهاد».

ما من عدو للمستبد إلا العلم والعلماء أصحاب الرأى والحجة والبرهان الذين لا يخشون فى الحق لومة لائم ولا يتزلفون ولا يتصاغرون، هذا هو ما خلص إليه الكواكبى فى تناوله لمسألة علاقة الاستبداد بالعلم، فيقول «لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط فى ظلامة جهل وتيه وعماء، فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفّاشاً يصطاد هوام العوام فى ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقّف دواجن الحواضر فى غشاء الليل، ولكنّه هو الإنسان يصيد عالِـمَه جاهلُهُ، وأن كلَّ رئيس ومرؤوس يرى كلَّ سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته، فيسعى العلماء فى تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ فى إطفاء نورها.

ويتطرق الكواكبى لظاهرة متكررة فى التاريخ وهى أن حاشية المستبد هى أول من يسارع بالإطاحة به بل ويورد أيضا أسباب ذلك قائلا: «أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم، لأنَّ هؤلاء أشقى خلق الله حياةً، يرتكبون كلَّ جريمةٍ وفظيعة لحساب المستبدِّ الذى يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين، يُجهدون الفكر فى استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرِّح» ويشرح الكواكبى كيف أن الإسلام حارب الاستبداد بالحث الدائم على العلم والتزود من المعرفة والابتعاد عن الخرافات والتضليلات.

ما حيلة المستبد فى تدعيم ملكه الذى يعلم أنه زائل فانٍ؟ هذا ما يجيب عنه الكواكبى فيقول: إن المستبد يحتال على الناس بأن يمجد نفسه وأن يمجد أعوانه وعماله بمنحهم الألقاب والصفات وأنه يتوج صدره بالنياشين والأوسمة ليوهم الناس بعظمته، وأنه «يعلِّق على صدره وساماً مشعراً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان» وفى حين أن المستبد وحاشيته دائما ما يتغنون بقيم الحرية والعدالة والمساواة والفضيلة لكنهم فى الحقيقة «أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة» وأنه يتخد من أعوانه «سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حبّ الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أنَّ كلّ هذه الدواعى الفخيمة العنوان فى الأسماع والأذهان ما هى إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها.

ولم يفت الكواكبى أن يشير إلى بعض أذكياء المستبدين الذين يحاولون أن يتزينوا بزينة العادلين فيجربون بعض العقلاء فى المناصب ويستقون بدعم هؤلاء العقلاء لهم، لكن مصير هؤلاء يكون معلوما محتوما فسرعان ما يبعدهم المستبد وينكل بهم إذا لم يفسدوا، ولذلك يستعين المستبد دائما بأبناء «العريقين فى خدمة الاستبداد الوارثين من آبائهم وأجدادهم الأخلاق المرضية للمستبدّين» ويصف الكواكبى لحظة اعتلاء المستبد للعرش فيقول: إنه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يُرجع النظر فيرى نفسه فى نفس الأمر أعجز من كلِّ عاجز وأنَّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، ثمَّ يلتفت إلى جماهير الرّعية المتفرجين، منهم الطائشون المهللون المسبِّحون بحمده، ومنهم المسحورون المبهوتون كأنهم أموات» ولكن الشىء الوحيد الذى يفسد هذه اللحظة الفارقة هو أن المستبد يعرف أن بالبلد عقلاء حكماء علماء مثقفين يراقبونه ولا يتورعون عن معارضته : «وعندئذٍ يرجع المستبدُّ إلى نفسه قائلاً: الأعوان الأعوان، الحَمَلَة السَّدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجيشٍ من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغير هذا الحزم لا يدوم لى مُلْكٌ كيفما أكون، بل أبقى أسيراً للعدل معرَّضاً للمناقشة منغَّصاً فى نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً جباراً متفرِّداً قهّاراً، ولذلك يقول الكواكبي: المستبدَّ لا يخرج قطّ عن أنّه خائنٌ خائفٌ محتاجٌ لعصابة تعينه وتحميه، فهو ووزراؤه كزمرة لصوص.. فوزير المستبدّ هو وزير المستبدّ، لا وزير الأمّة وكذلك القائد يحمل سيف المستبدّ ليغمده فى الرقاب بأمر المستبدّ لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أنَّ الأمّة لا تقلِّد القيادة لمثله.

ويصف الكواكبى علاقة المال بالحاكم المستبد قائلا: ومن طبائع الاستبداد، أنَّ الأغنياء أعداؤه فكراً وأوتاده عملاً، فهم ربائط المستبدِّ، يذلُّهم فيئنّون، ويستدرّهم فيحنّون، ولهذا يرسخ الذلُّ فى الأمم التى يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبدُّ خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التى ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضاً قلوبهم التى لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءةٍ ونذالة، خوف البغاث من العقاب وقد يبلغ فساد الأخلاق فى الفقراء أن يسرّهم فعلاً رضاء المستبدِّ عنهم بأى وجهٍ كان رضاؤه، ويؤكد الكواكبى أن أنبياء الله قد عملوا على تخليص البشرية من هذه الصفات المذمومة بعدة طرق منها «تقوية حسن الإيمان والاجتهاد فى تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته وحريته فى أفكاره، واختياره فى أعماله، وإطلاق زمام العقول «وبذلك هدموا حصون الاستبداد وسدّوا منابع الفساد» ويبرز الكواكبى دور الطليعة المثقفة التى يحاربها المستبد دوما ويجتهد فى إقصائها ومصادرة آرائها والتنكيل بها وتسليط أعوانه عليهم قائلا: وقد أجمع الحكماء على أنَّ أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد الأمَّة، الذين فيهم نسمة مروءة وشرار حمية، الذين يعرفون ما هى وظيفتهم بإزاء الإنسانية، الملتمسين لإخوانهم العافية، أن يسعوا فى رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها فى النموِّ فتمزِّق غيوم الأوهام التى تمطر المخاوف، شأن الطبيب فى اعتنائه أولاً بقوة جسم المريض.
ويشرح الكواكبى أسباب ثورة العامة على الحاكم ويجملها فى عدة أسباب منها إذا رأوا مشهدا دمويا مؤلما يوقعه المستبدُّ على المظلوم، أو عقب حرب يخرج منها المستبدُّ مغلوباً، أو عقب تظاهر المستبدِّ بإهانة الدّين، أو عقب تضييق شديد عام مقاضاةً لمالٍ كثير أو فى حالة مجاعة أو مصيبة عامّة، أو عقب عمل للمستبدِّ يستفزُّ الغضب الفورى، كتعرُّضه لناموس العرض، أو حرمة الجنائز فى الشرق، وتحقيره القانون أو الشرف الموروث فى الغرب أو عقب ظهور موالاة شديدة من المستبدِّ لمن تعتبره الأمَّة عدوّاً لشرفها.

ولا ينسى الكواكبى أن يضع ما يشبه الدستور المنظم للحقوق والحريات، فى خمسة وعشرين مبحثا تهتم ببناء الدولة وصلاحيات الحكومة وأولويات الحكم وهو الدستور الذى يضاهى فى عدالته وإحكامه أجمل الدساتير وأكملها طالبا من المجتمع بأسره أن يتكاتف من أجل رفع الاستبداد قائلا «الأمَّة التى لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة» ومقترحا أن تتم تلك المقاومة التنوير والإصلاح والتدرج والتثقيف، وناصحا من ينون تغيير المستبد ومقاومته بتهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد، ويختم الكواكبى كتابه الرائد الذى يشعر الواحد وهو يطالعه أنه يقرأه الآن بالقول: هذه قواعد رفع الاستبداد، وهى قواعد تُبعد آمال الأسراء، وتسرُّ المستبدّين؛ لأنَّ ظاهرها يؤمنِّهم على استبدادهم. ولهذا أذكِّر المستبدّين بما أنذرهم الفيارى المشهور؛ حيثُ قال: «لا يفرحنَّ المستبدُّ بعظيم قوَّته ومزيد احتياطه، فكم جبّارٍ عنيدٍ جُنِّد له مظلومٌ صغير»، وإنى أقول: كم من جبّار قهّار أخذه الله أخذ عزيزٍ منتقم.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
17-08-2012, 10:07 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

وائل السمرى يكتب:مصطفى السباعى.. المؤمن الحق.. أسس جماعة الإخوان فى سوريا وألف كتاباً يمتدح الاشتراكية وأكد أن عظمة التشريع الإسلامى أنه "علمانى".. حارب من أجل إرساء قواعد المواطنة

الثلاثاء، 14 أغسطس 2012 - 09:46
1820121494211.jpg
العالم الكبير والمصلح الرائد مصطفى السباعى
وائل السمرى

141.jpg



◄أسس جماعة الإخوان فى سوريا وألف كتاباً يمتدح الاشتراكية وأكد أن عظمة التشريع الإسلامى أنه «علمانى»

◄حارب من أجل إرساء قواعد المواطنة وأسقط حكم الجزية عن المسيحيين وقال إن النبى استضاف أهل الكتاب فى الجامع

◄قال: الإصلاح الحقيقى أن يبدأ بالضرب على المتاجرين بالدين فهم الأعداء الحقيقيون للمصلحين المخلصين

هو سليل تلك المدرسة الكبيرة التى نشأت فى مصر وتفرعت فأثمرت فروعها علما وحكمة ونضالاً وإيماناً، مدرسة جمال الدين الأفغانى التى كانت حلما فى ذهن المصلح الكبير فجعلها الإمام محمد عبده واقعا، فأخرج للعالم الإسلامى عشرات الأئمة المصلحين الذين دافعوا عن دين الله وأجهضوا مسلسل سحق الهوية العربية الإسلامية، وأكسبوا الدين تجدداً وشموخاً ورفعة وبهاء، هو من يصدق فيه قول رسول الله «الإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل» فآمن بالله وعمل على طاعته والتضحية من أجل إعلاء كلمته، وآمن بشعبه العربى وجاهد فى سبيله، وآمن بسماحة الإسلام وتمدنه فعمل على ترسيخ تلك السماحة محاربا كل أشكال التمييز والعنصرية، وآمن بمبادئ الإسلام الاقتصادية التكافلية الاشتراكية فتبنى تلك القضية وحارب من أجلها، وآمن بقدرة المسلم المستنير على النهوض بأمته فعمل أقصى ما يستطيع حتى يتحقق ما يريد، رافعاً سلاح العلم فى وجه الجهل، متمسكا بمبادئ الشريعة السمحة دون التقيد بأفرعها وتفرعاتها المذهبية فوصل إلى مرحلة الصفاء الإسلامى النبيل.

هو العالم الكبير والمصلح الرائد مصطفى السباعى ابن حلب السورية المسلم الديانة العربى النزعة، الإنسانى الهم والحلم، المولود سنة 1915م لأسرة عريقة فى العلم والمعرفة، وهو ما ساعده على بلوغه مرتبة النبوغ سريعا، وبالتزامن مع إنماء وعيه الدينى عمل السباعى على تنشيط دوره السياسى، فانضم للجمعيات السرية التى كانت تكافح ضد الاستعمار، فسجن مرة بعد مرة، وقد اختار أن يناضل بعلمه الوافر وروحه الوثابة وجسده الهزيل، ولذلك سافر إلى مصر ليدرس فى الجامع الأزهر على يد أئمته العظام.

فى مصر التحق السباعى بكلية الشريعة ليدرس الفقه وأصوله، وليشترك أيضاً فى نضاله العربى ضد المحتل الإنجليزى فسجن بعد اشتراكه فى مظاهرة ضخمة ضد الاحتلال البريطانى وبقى فى السجن حتى توسط له الشيخ المراغى فأخرجته السلطات البريطانية من مصر إلى غزة حيث اعتقل هناك أربعة أشهر، ثم رحلته إنجلترا إلى الشام ليمكث هناك فى السجن عامين متلقيا كل صنوف العذاب.

فى مصر أيضاً تعرف على الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين واقترب منه وحينما سافر إلى سوريا عمل على توحيد التجمعات الإسلامية فى كيان واحد فأسس فرع الجماعة فى سوريا وأصبح مراقبها العام، ولعمق تأثير الأجواء المصرية فى وجدانه أسس جريدة باسم «المنار» 1947م مقتبساً الاسم من الشيخ رشيد رضا ولأن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل فقد انضم السباعى إلى كتائب الدفاع عن المسجد الأقصى فى حرب 1948 بكل ما أوتى من قوة، ولما لحقتهم الهزيمة عاد ليكمل نضاله فى بلده، ضد الجهل والتخلف والطائفية والرجعية، حيث نجح فى الانتخابات التشريعية السورية فى العام 1949م واختير ضمن لجنة لوضع الدستور السورى الجديد. وحينما تم إصدار قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين فى سوريا سنة 1952 سافر إلى بيروت ولم يعد إلى دمشق إلا بعدها بسنتين، ليعود إلى ميدان الصحافة مرة أخرى، ويصدر جريدة الشهاب، وسرعان ما عاد إلى مصر مرة أخرى ليشترك فى صد العدوان الثلاثى على مصر، وقد بدت عليه آثار المرض، ليعود إلى سوريا مرة أخرى ويقعد طريح الفراش ثمانى سنوات مصابا بشلل نصفى لتختبره تلك الفترة بأقسى المحن فيخرج منها صافى القلب والذهن ويكتب خلالها كتاب «هكذا علمتنى الحياة» الذى يعتبر قطعة أدبية فريدة مشبعة بالحكمة والرؤية الثاقبة.

إلى فئة المثقفين المناضلين ينتمى العالم «مصطفى السباعى» وهو الذى قضى عمره كله يحمل من الدعوة الإسلامية أجمل ما فيها من فداء وصفاء ومحبة وإيثار، لا تعميه انتماءاته عن مصلحة بلاده، ولا يتورع فى أن يسخر معرفته بالشريعة الإسلامية من أجل الدفاع عن القيم السامية والمبادئ الرفيعة التى ترسخها تلك الشريعة، فكان كلما يذكر كلمة «شريعة» يذكر بجوارها كلمة «مبادئ» حتى لا يلتبس الأمر على أحد فيظن أنه يستبد بالشريعة أو يتاجر بها، وأثناء وجوده بمجلس الأمة السورى كان نعم الفقيه المستنير الذى يدافع عن الشبهات التى حاول الاستعمار أن يلصقها بالدين الإسلامى، من أنه دين التمييز والاضطهاد والطائفية، فوقف فى البرلمان يدافع عن حقوق المواطنة، مخرجاً حكماً شرعياً ليبطل ادعاء من يقولون إن المسلمين سيجبرون المسيحيين على دفع الجزية عقب وضع مادة بالدستور السورى تنص على أن الإسلام دين رئيس الدولة، فقال إن الجزية كانت قبل الإسلام تفرض على من لم يكن من الفاتحين عرقاً أو بلداً أو ديناً، سواء حارب أم لم يحارب، أما فى الإسلام فلا تفرض إلا على المحاربين من أعداء الأمة، أما المواطنون من غير المسلمين من لم يحاربوا الدولة فلا تفرض عليهم الجزية وهو الأمر الذى فعله عمر بن الخطاب مع نصارى تغلب وقال: لو رجعنا إلى آية الجزية فى القرآن لوجدناها تقول: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.. فهى كما ترون تجعل الجزية غاية لقتال أهل الكتاب حين نتغلب عليهم.

وليس كل أهل الكتاب يجب علينا أن نقاتلهم، إنما نقاتل من يقاتلنا ويشهر علينا السلاح، ويعرّض كيان الدولة للخطر، وهذا هو صريح الآية الكريمة: «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين» ملخصاً القول بأن: «الذين يعيشون فى الدولة مع المسلمين من أهل الكتاب، ويشاركونهم فى الإخلاص والولاء لها، ليسوا ممن يجوز قتالهم، فلا تفرض عليهم الجزية التى هى ثمرة القتال بعد النصر، وهذا ما يفهم من آيات الجزية من غير تأول ولا تعسف».

ولم يكن إرساؤه لمبدأ المواطنة هذا غريبا عليه فورد فى كتاب «مصطفى السباعى الداعية المجاهد والفقيه المجدد» أنه كان فى الثالثة والعشرين من عمره، وأصدرت حكومة الكتلة الوطنية أثناء الاستعمار الفرنسى قانون الطوائف، فكتب فى افتتاحية مجلة الفتح وهو فى مصر كلمة هاجم فيها قانون الطوائف قال فيها: ماذا نقول فى بلد دخله أوصياؤه وهو شعب واحد وأمة واحدة فما لبثوا أن جعلوه موزعاً بين عرب مسلمين ومسيحيين ويهود ونصيرية ودروز وإسماعيليين وشيعة وأكراد وتركمان وشركس وداغستان وغجر ثم زادوا عليها الأرمن والآشوريين، وفى انتصاره للجمهورية المدنية قال: إن هذه البلاد أحبت النظام الجمهورى، واعتنقته واعتقدت بصلاحه، وإننا نعلن بكل إيمان وصراحة ووضوح بأننا لا نريد عن النظام الجمهورى بديلاً: إننا نريد لوطننا نظاماً شعبياً ديمقراطياً، يقوم على إرادة الشعب، وتتمثل فيه إرادة الشعب، كما أنه أسهم فى وضع دستور سوريا الذى يقول إن الإسلام دين الدولة والأديان السماوية محترمة ومقدسة، والأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية، المواطنون متساوون فى الحقوق لا يحال بين المواطن وبين الوصول إلى أعلى مناصب الدولة بسبب الدين أو الجنس أو اللغة.

ليس هذا فقط بل إن أحد الباحثين وهو محمد باروت ذكر فى بحثه «العلمانية المؤمنة» أن السباعى كان رائد هذا الاتجاه، حيث إنه قال فى مجلس الأمة السورية إن «التشريع الإسلامى» علمانى وذلك لأنه يقصد تحقيق مصالح الناس شارحاً وجه نظره قائلاً «إن الإسلام فى تشريعه مدنى علمانى يضع القوانين للناس على أساس من مصلحتهم وكرامتهم وسعادتهم، لا فرق بين أديانهم ولغاتهم وعناصرهم» وهى تقريباً الجملة التى تتوافق مع ما قاله الإمام المراغى فى لجنة وضع القوانين حيث قال لأعضاء اللجنة «ضعوا ما ترونه صالحاً للناس وستجدون فى الشريعة ما يؤيد اتجاهكم» وفى ذلك تطبيق عصرى وحديث لمبدأ مقاصد الشريعة التى يهدف الإسلام إلى تحقيقها، ويقول باروت إن السباعى بهذا التوجه أسس ما أسماه «الإسلام الحضارى» وهو المصطلح الذى يستخدمه البعض الآن، وهو الذى يشمل جميع أفراد الأمة مهما كان دينهم.

فى تجديدات «السباعى» واستنارته يعترف بالفضل الأول للمصلح الكبير جمال الدى الأفغانى ومحمد عبده حيث يقول فى مقدمة كتابه «الاشتراكية الإسلامية»: ولقد أسهم كثيرون من أفاضل العلماء والمصلحين منذ عصر المصلح الكبير السيد جمال الدين الأفغانى وتلميذه الإمام محمد عبده رحمها الله حتى وقتنا هذا فى جلاء الحقيقة التى جهلها دعاة المذاهب المستوردة إلى أن استوى التحرر العلمى على قدميه واستطاع أن يرد الباطل ويكشف الزيف ويجلو جمال الحق للأبصار» فهو يتعامل معهما باعتبارهما الأستاذين اللذين مهدا الطريق للعلم، ورسخا دعائم التجديد، ولذلك يختار السباعى وهو واثق من جرأته التجديدية أن يتناول الاشتراكية من منظور إسلامى، فيقول إنه اختار أن يكون عنوان الكتاب «اشتراكية الإسلام» لعلمه بأن «الاشتراكية» ليست «موضه» بل هى نزعة إنسانية تتجلى فى تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أقدم العصور.. تسعى الشعوب إلى تحقيقها لتتخلص من فواجع الظلم الاجتماعى والتفاوت الطبقى الفاحش المزرى بكرامة الإنسان، ويؤكد السباعى أن هدف الدين الإسلامى هو ذاته هدف الاشتراكية غير أن الإسلام سبق النظرية الغربية بمئات السنين فيقول: «هدف الاشتراكية على اختلاف مذاهبها هو منع الفرد من استغلال رأس المال للإثراء على حساب الجماهير وبؤسهم وشقائهم وإشراف الدولة على فعالية الفرد الاقتصادية ومراقبتها له وتحقيق التكافل الاجتماعى بين المواطنين بحيث تمحى مظاهر الفاقة والحرمان وتفاوت الثروات تفاوتا فاحشا يقترن فيه الجوع والفقر والمرض والمهانة بجانب الترف والرفاهية والقسوة والانحلال الخلقى.

ويتهكم السباعى على أحد الذين لاموه على هذا الاتجاه قائلا: «قال له أحدهم إنى لأعجب من تبنيكم للاشتراكية وهى تبيح التأميم، والتأميم ضد الإسلام، فقلت له أنت لا تعرف ما هى الاشتراكية، ولا ما هو الإسلام»، ثم يمضى السباعى ليشرح محاسن الاشتراكية قائلاً: النظام الاشتراكى يحقق لنا كل ما نحتاج إليه من إصلاح لأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولا يضيق ذرعاً بكل تجديد للحياة الحرة الكريمة، مستعرضا فى كتابه موقف الأديان من الفقر، ولما تطرق إلى الدين الإسلامى أكد أنه يكفل كل الحقوق الطبيعية للإنسان، ومنها حق الحياة التى أكد على حفظها، وحق الإنسان فى العلاج وحق الإنسان فى الدفاع عن نفسه، كما قال إن الإسلام يسقط الواجبات الشرعية عند الخطر، وأجاز فعل المحرمات عند الضرورة، وحمى حياة الأطفال والأرقاء والعبيد، كما كفل الحرية الإنسانية والدينية والعلمية والسياسية والمدنية والاجتماعية والأدبية، وأشاد بالعلماء وفضلهم على المنقطعين للعبادة، وعمل على صيانة كرامة الإخاء الإنسانى بين المسلم وغير المسلم، وساوى بينهم فى الحقوق ورسخ العدالة القضائية فى دولته، وكفل للناس حق التملك ولم يتطرق إلى التأميم إلى فى حالات الضرورة القصوى، وكره تضخيم الثروات، ومنح من يحيى أرضا مواتا حق استغلالها وتملكها، كما أكد أن الإسلام حمى الحقوق العمالية، وأنه من الممكن أن نعتبر سلوكيات الرسول صلى الله عليه وسلم سلوكيات اشتراكية، خاصة إذا ما نظرنا إلى حياته وزهده وتصدقه.

ولم يكن هذا الاتجاه الإنسانى المتضامن مع حقوق الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بغريب على فكر «السباعى»، ففى كتابه «من روائع حضارتنا» أثبت أن به ما يحلم به كل صناع الدساتير بالعالم العربى من مبادئ.

النزعة الإنسانية موجودة فى الإسلام، فيقول إن أكبر دليل على نزعة الإسلام الإنسانية هو قول الله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة»، وهو ما يعنى وحدة الجنس البشرى كله أمام الله، فكلهم كأسنان المشط، إذ لا فرق لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، وأكرم الناس عند الله هو أتقى الناس، كما أن القانون الإسلامى لا يفرق بين الناس، وذلك لقول رب العزة: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره من يعمل مثقال ذرة شرا يره»، قائلا إن الله كثيرا ما كان يخاطب المجتمع الإنسانى قائلا: «يا أيها الناس» أو «يا بنى آدم»، وحينما كان يريد أن يخاطب المؤمنين كان يقول: «يا أيها الذين آمنوا»، مؤكدا أن «الوحدة الاجتماعية فى المجتمع كشجرة تهز أغصانها جميعا إذا لمستها الرياح لا فرق بين أعلاها وأدناها».

ويقول السباعى فى ذات الكتاب إن التشريع الإسلامى يسمو فوق كل الفروق الدينية لأن الله يقول: «ولقد كرمنا بنى آدم»، ولم يقل لقد كرمنا المسلمين فقط، كما أن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول: «كلكم لآدم وآدم من تراب ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى»، ويؤكد أن الإسلام لم يضق ذرعاً بالأيان السابقة ولم يتعصب لمذهب، مؤكداً أن الأديان السماوية تستقى من معين واحد، وهذا ما يدلنا عليه قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه»، ولذلك فالأنبياء إخوة «لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون»، وإنه لا إكراه فى الدين، وإن العبادة بالديانات الإلهية محترمة «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا»، كما أمر الله بالالتزام بآداب الحوار إذا ما حدث نقاش بين المسلم وغيره، كما أمرنا بعدم سب المخالفين دينيا، كما تتجلى عظمة الإسلام فى الحرب التى لا يجوز فيه الانتقام ولا إجبار أحد على أن يغير دينه «وحسبهم أن يلتزموا بدين الدولة ليكونوا كالمسلمين فى الحقوق، ويؤكد أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حينما أتاه وفد نصارى الحبشة جلس معهم فى المسجد النبوى وجعلهم يبيتون فيه، وصار يخدمهم بنفسه قائلاً: إنهم كانوا لأصحابى مكرمين»، ويكمل السباعى قائلاً إنه فى عصر الخلفاء الراشدين كانت الرحمة والتعاون مع المختلفين دينا كبيرة، فحينما وجد عمر يهودياً عجوزاً يتسول من أجل دفع الجزية لأمه وأوصله إلى بيته وخصص له راتباً شهرياً، وفى عهد الخلفاء العباسيين كان المجتمع ممتلئ بالديانات والمذاهب المختلفة، فى تجسيد حقيقى لسماحة الإسلام وعدالته.

أما فى كتابه «هكذا علمتنى الحياة» فقد وصل السباعى إلى ينابيع الحكمة وفاض بما تعلمه من مأثورات على مدار حياته الكبيرة عملاً والقصيرة أجلاً، والكتاب عبارة عن جمل متناثرة تشبه الحكم أو الأقوال المأثورة وضع فيها السباعى فلسفته فى الحياة، فيقول محذراً من إساءة فهم الدين: «الذين يسيئون فهم الدين أخطر عليه من الذين ينحرفون عن تعاليمه، أولئك يعصون الله وينفِّرون الناس من الدين وهم يظنون أنهم يتقرَّبون إلى الله، وهؤلاء يتبعون شهواتهم وهم يعلمون أنهم يعصون الله ثم ما يلبثون أن يتوبوا إليه ويستغفروه» ويقول فى تعريف المؤمن: «ليس المؤمن من لا يعصى الله وإنما من إذا عصاه رجع»، وفى إرساء الدول يقول: «العواطف تنشئ الدولة والعقول ترسى دعائمها والأهواء تجعلها ركاماً»، وفى الفرق بين القرآن والإنجيل يقول: حكمة الإنجيل: «من أمسك بطرف ثوبك فاترك له ثوبك كله» أسلم للفرد، وحكمة القرآن: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى» أسلم للجماعة، فالإنجيل «يحتم» تسامح الإنسان فى حقه، وهذا أقرب إلى المثل الأعلى، والقرآن «يرغب» فى ذلك، وهذا أقرب لطبيعة الإنسان.

ويبين إساءة فهم البعض للدين قائلاً: بعض دعاة الدين يذكرون قوله تعالى: «واغلظ عليهم» وهم لا يفهمون معناها، وينسون قوله تعالى: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» وهى واضحة المعنى، ولتبيين ما قد يفعله الجمود فى التعامل مع الشريعة يقول: الذين يطمسون وجه الشريعة المشرق بجمودهم أسوأ أثراً من الذين يطمسونه بجحودهم، وفى بث الأمل يقول: ربَّ صرخة تذهب اليوم هباءً، تكون فى المستقبل القريب عاصفة وبناءً، وفى التحفيز على عدم الاهتمام بالسخرية من المصلحين يقول: لولا جرأة المصلحين واستهزاؤهم بهزء الساخرين لما تخلَّص المجتمع من قيوده وأوزاره، وفى العلاقة بين الحياة والأفكار يقول: الحياة تخلق أفكارنا، وأفكارنا تصنع شكل الحياة التى نريدها، وفى تبشيع إساءة استغلال الدعوة إلى الله يقول: بعض الناس يستغلون الدعوة إلى الله لأمراض فى قلوبهم، ويتظاهرون بالحماس لها والله أعلم بما فى نفوسهم، ليت شعرى! أيعلمون أنهم بذلك يشككون الناس فى إخلاص كل داعية إلى الله؟.. أم أن الشيطان الذى اشترى ضمائرهم جعلهم لا يبالون بنتائج ما يفعلون، وفى رصد المفارقة بين القول والفعل يقول: أكثر الناس خطرا على الأخلاق هم علماء الأخلاق وأكثر الناس خطرا على الدين هم رجال الدين.

ولمن يتفاخرون بأغلبية زائلة يقول: لا يقاس الحق والباطل بقلَّة الأنصار أو كثرتهم، ففى كل عصور التاريخ بلا استثناء كان الباطل أكثر أتباعاً: وإن تطع أكثر من فى الأرض يُضلوك عن سبيل الله، لو كان تألب الناس على الحق دليلاً على بطلانه لكان حقنا فى فلسطين باطلاً، فإسرائيل لا تزال تخدع الرأى العام العالمى بوجهة نظرها، ومع ذلك فنحن لن نتراجع عن حقِّنا بكثرة أنصارها، وقلة أنصارنا، فالجماهير لا عقل لها فيما يوافق شهواتها، فليس إسراعها إلى كل ما يخالف الشرائع، وقوانين الأخلاق دليلاً على صحة اتجاهها، ولا يروعنَّك تهافت الجماهير على الباطل، كتهافت الفراش على النار، فالطبيب الإنسانى هو الذى يؤدى واجبه، مهما كثر المرضى، فإذا استطعت أن تهدى واحداً فحسب فقد أنقصت من عدد الهالكين.

مؤكداً أن «الدين الحق هو الذى يعطيك فلسفة متكاملة للحياة، ونظاماً وافياً بحاجات المجتمع، كالمهندس الماهر يبنى لك بيتاً متين الدعائم، مستوفى المنافع» وأنه «من لم ينبع تفكيره من مبادئ الشريعة ضل، ومن لم يستمد سلوكه من أخلاقها انحرف، ومن لم يقيد عمله بأحكامها ظلم وموصيا الحكام بإسعاد الشعوب قائلاً: «إن على ملوكنا ورؤسائنا ألا يحولوا بيننا وبين الحرية والحياة السعيدة؛ لنشعر بكرامتنا فى أنفسنا قبل أن نطلب كرامتنا فى نفوس أعدائنا، إن خيراً لهم وأكرم لقيادتهم وأعظم لمكانتهم أن يقودوا أمة من الأسود، من أن يجروا وراءهم قطعاناً من الغنم، ولم ينس أن يدلنا على أول الطريق قائلاً: الإصلاح الحقيقى أن يبدأ بالضرب على المتاجرين بالدين وروحانيته وأخلاقه، فهم حجر عثرة فى سبيل كل إصلاح نافع، وهم الأعداء الحقيقيون للمصلحين المخلصين.



mostfaelsebayyy.jpg
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
18-08-2012, 10:37 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

وائل السمرى يكتب: الإمام محمد أبوزهرة.. كتيبة الفقه وعمدة الفقهاء.. أنكر حد الرجم وقال إنه دخيل على الإسلام من اليهودية واستنكر أن يرمى الرسول إنسانا بالحجارة حتى الموت

الأربعاء، 15 أغسطس 2012 - 09:37
s820121593139.jpg
الإمام محمد أبوزهرة

141.jpg


-أنكر حد الرجم وقال إنه دخيل على الإسلام من اليهودية واستنكر أن يرمى الرسول إنسانا بالحجارة حتى الموت

- قال للقذافى فى مؤتمر عام حينما طالب العلماء باعتماد الاشتراكية مذهبا: على رؤساء الدول أن يقفوا عند حدودهم

-اختلف مع ابن تيمية فى إنكاره للمنطق وأبرز تناقضه ووضع الوهابية مع المذاهب الضالة الحديثة مثل البهائية

يقولون إن أفضل طريقة لشرح المقطوعات الموسيقية هى إعادة عزفها مرة أخرى، ولا يجد الواحد إزاء تناول عالم كبير بحجم الشيخ الإمام الفقيه المعلم الحازم الصارم الشجاع الكبير محمد أبوزهرة سوى القول إن أفضل طريقة لتناول منهجه وشرحه سوى أن تقرأ كتبه كلها، وإن أردت لها شرحا فأعد قراءتها مرة أخرى، وإن استعصت عليك فأعد للمرة الثالثة والرابعة والخامسة، فلن يقدر الواحد مهما تبحر أو استقرأ أو أحاط أن يجمل الحديث عن هذا العلم العلامة فى هذا المقام، ولا يبالغ الواحد إذا قال إن قراءة كتب أبوزهرة والإحاطة بها هى المدخل الحقيقى لمن يريد أن يعرف الإسلام وفقهه وتاريخه وعظمته، ويجدر التحسر هنا على ما آل إليه حال الفقه فى العالم الإسلامى إذا ما ذكر أبوزهرة، متسائلا: لماذا لا يجود الله علينا بمثل هذا الرجل الذى إن قرأت له فستتردد إن أطلقت على غيره لقب «عالم».

فى إحاطته بالمذاهب الفقيه حجة ومرجع وعلامة مضيئة فى تاريخ العلم ومذاهبه، وفى منهجه العلمى الرصين الجامع خير مثل لما ينبغى أن يكون عليه العلماء، وفى فهمه لقواعد الفقه وتنظيراتها ما أعجر أقرانه وأثار فى قلوبهم الغبطة والإعجاب فى آن واحد، إن أردت أن تعرف الرسول حق معرفته فاقرأ كتابه «خاتم النبيين» وإن أردت أن تعرف المذاهب الإسلامية وظروف نشأتها تاريخ أصحابها وقواعدها وتجديداتها فاقرأ كتبه الثمانية عن أئمة الفقه «جعفر الصادق وزيد ومالك والشافعى وأبوحنيفة وابن حنبل وابن حزم وابن تيمية» وإن أردت كتاباً واحداً يجمل لك كل هذا فاقرأ كتابه «محاضرات فى تاريخ الفقه الإسلامى» وإن أردت أن تعرف الإسلام مقارنة بالأديان الأخرى ومدى تقديره لآثارنا المصرية العظيمة فاقرأ كتابه «الديانات القديمة» أما إذا أردت أن تعرف معانى القرآن الكريم وتفسير آياته فاقرأ «زهرة التفاسير» وهكذا فى كل كتبه الكثيرة التى تقترب من الثلاثين، والتى على قدر تنوعها وكثرتها تتميز بالإحاطة التامة والمعرفة الواسعة والبحث الدؤوب، وهو الأمر الذى أعيا خصومه وأتعب أقرانه، وبرغم أن له العديد، فقد كان رحمه الله وأثابه بحق كتيبة من الفقه الملتزم الجسور، وعمدة الفقهاء وإمامهم.

ولد الإمام المتوفى فى العام 1974 عن عمر يناهز الستة وسبعين عاماً فى المحلة الكبرى، ونشأ نشأة إسلامية واعية، حيث تعلم القرآن فى أحد الكتاتيب وحفظه، ثم انتقل إلى المسجد الأحمدى بطنطا لاستكمال تعليمه وبعد ثلاث سنوات فى المسجد الأحمدى انتقل إلى مدرسة القضاء الشرعى سنة 1916 حيث درس فيها ثمان سنوات ثم تخرج سنة 1924 وحصل على عالمية القضاء الشرعى ثم اتجه إلى الدراسة فى كلية دار العلوم 1927م فألم بأسرار اللغة العربية ووقف على معانيها وجمالياتها، وتدرج فى الوظائف من مدرس للعربية فى المدارس الثانوية إلى تدريس فن الخطابة فى كلية أصول الدين ثم كلية الحقوق، بعدها بدأ بتدريس الشريعة الإسلامية وتدرج فى كلية الحقوق من رئاسة قسم الشريعة الإسلامية ثم منصب الوكالة حتى أحيل للتقاعد سنة 1958م. واختير عضوا فى مجمع البحوث الإسلامية 1962 بعد صدور قانون الأزهر، وصار الشيخ علما من أعلام الفقه الإسلامى حيث اشتهر بمواقفه الحادة الصارمة وكتاباته الرصينة الواعية، غير مبال بمنصب ولا مال، يضطهده الحكام فلا يأبه، ويعاديه فقهاء السلطة فلا يعتبر، ويمنع من الظهور فى الإذاعة والتليفزيون فلا يزيده هذا إلا شهرة وسمعة، ويذكر الدكتور محمد رجب البيومى أنه أحد الحكام تضايق من شهرة أبوزهرة برغم ما يمارسه ضده من اضطهاد فأتى به ليقول له إنه «إقطاعى» وأن كتبه تدر عليه أموالاً أكثر مما يتقاضيه الوزراء، فقال له الإمام: هى مؤلفات كتبت لله ولم تفرض على أحد، ولم تتول الدولة توزيعها قهراً على المكتبات ودور الثقافة الحكومية، ولما لاحظ هذا الحاكم الذى لم يسمه «البيومى» ولم أستدل عليه أن الشيخ معتد بنفسه واثق من منطقه أنهى الزيارة سريعاً.

ولأن الإمام كان من المستغنين عن عطف الحكام وموائد اللئام، رزقه الله قوة فى الحجة والبرهان وشجاعة فى إبداء الرأى لم تتوافر فى غيره، غير مبال بتبعات رأيه أمام حاكم ولا فقيه مهما علا أو تجبر، ويحكى ويذكر «البيومى» واقعة تبرز مقدار ما كان يتمتع به العالم الأكبر من شجاعة وحزم، وهو أن الإمام كان مدعوا لمؤتمر إسلامى يضم أشهر علماء عصره فى إحدى الدول العربية التى لم يسمها البيومى ولكنى عرفت أنها ليبيا فوقف القذافى رئيس ليبيا السابق ليقول فى افتتاح المؤتمر إن على العلماء أن يثبتوا أن الإسلام لم يعترف بغير الاشتراكية مذهباً، وأن الاشتراكية «الحق الوحيد الذى لا ثانى له» ولما انتهت كلمة القذافى سكت العلماء متحيرين فطلب أبوزهرة الكلمة فقال موجها حديثه للقذافى:
إننا نحن علماء الإسلام الذين يعرفون حكم الله فى قضايا الدولة ومشكلات الناس، وقد جئنا هنا لنصدع بالحق بما نعرف، فعلى رؤساء الدول أن يقفوا عند حدودهم فيدعوا العلم إلى رجاله ليصدعوا بكلمة الحق، وقد تفضلت بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم لا لتعلن رأيا لا يجدونه صوابا مهما هتف به رئيس، فلنتق الله فى شرع الله. ولما انتهى الإمام من كلمته انتظر القذافى أن يرد عليه أحد، فلما أيده أغلب الحاضرين رحل القذافى عن المؤتمر وكانت جلسة افتتاحه هى جلسة ختامه.

على هذا النحو كان الإمام دائما يقول ما يعتقد دون مواربة، وعلى هذا فقد كانت بينه وعلماء المسلمين معاركة فكرية كبيرة، منها مثلا معركته الشهيرة مع الإمام محمود شلتوت بسبب فتواه التى أجازت التعامل مع البنوك، والإمام السورى الكبير مصطفى الزرقا بسبب فتواه التى أباح فيها التأمين على الحياة هو وكثير من علماء المسلمين، ولا يملك الواحد حتى إذا ما رأى قصورا فى رأى الإمام أبوزهرة إلا احترام قامة هذا الرجل وقيمته، فما أنبل أن يجهر كل عالم برأيه بشجاعة وصراحة حتى وإن اختلفوا فيكون الاختلاف اختلافا علميا محكما تتصدر فيه كلمة الحق، ويعلو على الصغائر برهان الحقيقة، ليرى كل مسلم كيف تستخرج الأحكام الشرعية وكيف يسوق كل عالم أدلته دون جبر أو إجبار أو شبه نفاق حاكم أو إرضاء جمهور، وهو الأمر الذى تمتع به الشيخ طوال حياته فلم ينافق حاكماً ولم يسع لإرضاء جمهور حتى إن شكل رأيه صدمة لهم، وهو ما يتحقق فى فتوى الشيخ بإبطال حد الرجم، التى لم يخشى فيها هياج العلماء ولا العوام ومضى ليقول بإبطال حد الرجم وأنه دخيل على الإسلام وأن أساسه يهودى مستدلاً على ذلك بالكتاب والسنة دون أن يخاف ولا يخشى، ويذكر الشيخ يوسف القرضاوى قصة هذه الفتوى التى وافقه كثير مع العلماء فيها فى مذكراته، فقال إن الإمام أبوزهرة فاجأ الجميع فى مؤتمر كبير يجتمع فيه كثير من علماء المسلمين بأن لديه رأيا كتمه منذ عشرين عاما وخاف أن يلقى الله وهو يكتم ما لديه من علم، فيسأله الله عن هذا وبالفعل مات الإمام بعد أن قال فتواه بأشهر، وقد قال: إنى أرى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول فى أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد فى سورة النور، ولى على ذلك أدلة ثلاثة: الأول: أن الله تعالى قال: «فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب» والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب فى الآية هو المذكور فى سورة النور، والثانى: ما رواه البخارى فى جامعه الصحيح عن عبدالله بن أوفى أنه سئل عن الرجم: هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدرى. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التى نسختها. الثالث: أن الحديث الذى اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقى حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان فى صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق. وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور: ويستطرد القرضاوى قائلا أنه ذهب إلى الإمام بعد أن قال كلمته وتبادلا النقاش ثم قال له: يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبدالله الرحمة المهداة يرمى الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهى أليق بقساوة اليهود.

هذا هو العالم المستبصر الذى عاش حياته كلها لا يبتغى إلا وجه الله فى كل ما يكتب أو يلقى من محاضرات، لا يتورع عن إبداء رأيه مهما كان الأمر، وفى إيمان كبير بعقل الإنسان وعظمة الإسلام، فقد كان الإمام يرى أن الشريعة الحقة لا تخاف العقل فى شىء، وكان يقول إن الدين مرجعه الأول إلى «النقل» ولكن الإسلام موافقا فى كل قضاياه للعقل، مستشهدا بقول الأعرابى: ما رأيت محمدا يقول فى أمر «افعل» والعقل يقول لا تفعل وما رأيت محمداً يقول فى أمر لا تفعل والعقل يقول افعل، وعلى هذا الدرب كان الإمام يسير معتقداً أن العقل هو الميزان الذى تنضبط به الأحكام عن طريق التعرف على المرامى والمقاصد من جملة النصوص، فأن يتعرف الواحد على الحكمة فى كل نص شرعى جاء بحكم، ليستخرج الأساس الذى جاء من أجله الحكم ليحكم الفقيه بمقتضاه، ثم ليتعرف الواحد على مقاصد الشريعة جملة من مجموع ما استنبط فيه من الأحكام المختلفة، ثم استنباط ما وراء النصوص فى الأمور التى لا يوجد فيها نص «لأن الحوادث لا تنتهى والنصوص تتناهى» مع الأخذ بالأمر بما تقتضيه مصلحة المسلمين وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام العلماء الراسخين، وهو الحق الذى كفله الرسول للمسلمين، والذى يظهر فى إقرار الرسول للعديد من المواقف التى استدعت الاجتهاد، منها مثلا إقرار علِىّ تيمم الصحابة فى غزوة من الغزوات حينما وجدوا أن الماء بارد وخشوا على أنفسهم من الأذى.

على هذا الأساس مضى الإمام فى آرائه وفتاواه، يعمل عقله الممتلئ بالمعرفة الإسلامية غير متهيب من أن يخالف كبار الأئمة إذا ما رأى أن رأيهم لا يستقيم وروح الإسلام، من دون أن يبخسهم حقهم أو يتجرأ عليهم، فبكل أدب واحترام وتقدير وعرفان خالف الإمام زيد بن على زين العابدين فى رأيه القائل بعدم جواز شراء أهل الذمة للأراضى فى بلاد الإسلام إذا لم تكن تلك الأراضى فى حوزتهم قبل دخول الإسلام، فيشير أبوزهرة فى كتابه عن فقه الإمام زيد إلى اعتراضه على ذلك قائلا بأن الذى دفعه إلى هذا القرار هو حرصه على أن تبقى الأراضى وهى أعظم موارد الثروة فى أيدى المسلمين لتكون قوة حربية واقتصادية، وكان ذلك مناسبا لروح العصر، فى إشارة منه إلى أن اختلاف روح العصر يبطل القرار، ويقول الإمام فى كتابه «المجتمع الإسلامى فى الإسلام» إن الإسلام كفل حرية التملك للجميع، وهى من ضمن الحريات التى راعاها الإسلام ودعمها، ومنها أيضاً حرية العقيدة مؤكداً أن القول بأن الإسلام انتشر بالسيف قول باطل، فلا إكراه فى الدين، «وإنما كانت الحرب لأن الملوك كانوا يمنعون الناس من أن يستمعوا لدعوة تجىء إليهم، وخصوصا إذا كانت الدعوة لا تتلاءم مع ما يفرضونه على الناس من تقديس لأشخاصهم واتباع لهم فى الحق والباطل، بينما الشريعة الجديدة تقول لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» وعلى هذا النحو يقرر أبوزهرة أن الإسلام كفل الحرية الدينية لغير المسلمين، بل إنه يذهب إلى القول بأن حرب الفتوحات كانت من أجل إقرار الحرية الدينية، قائلا بالنص: «إن شئت أن تقول إن حرب الفتوحات كانت من أجل حماية الحرية الدينية ولم تكن لهدم هذه الحرية فقل».

هكذا يبرز الإمام سماحة الإسلام وعظمته فى كفالة الحرية الشخصية والدينية للجميع، قائلا إن المسلمين أطلقوا لفظ «ذميين» على أهل الكتاب لأن لهم عهداً وذمة عند رسول الله، وليس الذميون فقط بل حتى الوثنيين من المجوس، قائلاً فى كتابه: المجتمع الإنسانى فى الإسلام أن الدولة الإسلامية أقرت لهم شريعتهم ولم تعترض عليها، وقرر بعض الفقهاء أنه لا يحق لأحد أن يتعرض للمجوسيين الذين يعيشون فى الدولة الإسلامية حتى إذا ما تزوج ابنته أو أمه طالما شريعتهم تسمح بذلك، بل الأكثر من ذلك أن بعض الفقهاء أجازوا لهم الاختصام أمام القضاء الإسلامى، فأى حرية بعد هذه الحرية؟ وليس أدل على المساواة بين المواطنين فى الدول الإسلامية من موقف الصحابى الجليل عمر بن الخطاب الذى اشتكى له قبطى مصرى من أن ابن عمرو بن العاص ضربه قائلاً: «أتسبق ابن الأكرمين؟» وذلك بعد أن تغلب عليه فى السباق، فما كان من عمر إلا أن استدعى عمرو بن العاص وابنه وأمر الشاب القبطى أن يضرب ابن ابن العاص حتى يشفى غليله، وكان الشاب كلما توقف يقول له عمر زد ابن الأكرمين، حتى إذا ما انتهى الشاب من الضرب نزع عمر العمامة من فوق رأس عمرو بن العاص وقال للشاب القبطى تعال اضرب على صلعة عمرو فباسمه ضربك، فلما امتنع الشاب القبطى قال عمر لعمرو «منذ كم يا عمرو تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» ويعلق الإمام أبوزهرة على هذه الواقعة قائلاً: هذه كلمة يتحدث بها الأحرار فى كل مكان، لأنها شعار الحرية، إذ الحر هو الذى لا يستعبد غيره ولا يرضى بالضيم.

غير أن الإمام الذى عاش حياته فى الإسلام وبالإسلام، لم يكن ليفوته الدخول فى قضايا عصره بشجاعته المعهودة، فيلوم على المسلمين وحكامهم تفرقهم تحت كل مذهب ويذم التفرق المذهبى بين الشيعة والسنة محاولاً أن يجمع المسلمين على كلمة سواء، ولهذا الغرض كتب كتابيه عن الإمامين زيد بن على زين العابدين وجعفر الصادق، ويقول الإمام فى مقدمه كتابه عن الإمام زيد «إننا فى هذا العصر قد تفرقنا فى السياسة، فتقطعت الأمم الإسلامية فى أقاليم متنازعة، وتوزعتها أرض الله لا جامعة تجمعها ولا رابطة تربطها، وأصبح ولاؤها لغير الله ورسوله، فصار لكل إقليم ولى من أعداء المسلمين». ويدعو الإمام إلى نبذ التعصب الأعمى بين أبناء الدين الإسلامى منبها إلى ضرورة أن يتعامل أبناء الدين الإسلامى مع تراثهم بشقيه السنى والشيعى باعتبارهما من الأصول المعترف بها، ومنبها أيضاً لخطورة اتباع منهج التكفير الذى أصبح سائداً فى عصره فيقول إننا «ورثنا فى هذا العصر التفرق المذهبى حتى أخذ بعضنا يكفر الآخر من غير حجة ولا بينة، وصارت للآراء والأفكار عصبية تشبه عصبية الجاهلية، فابن الشيعى شيعى وابن السنى سنى، يتوارث المذهب كما يتوارث الجسم واللون من الأب إلى ابنه، وأصبحت كل طائفة كأنها جنس قائم بذاته، ومن يغير مذهب أبيه الشيعى يكون كمن يغير دينه ويرتد بعد الإيمان، وأهل كل مذهب يحسبون أن مذهبهم تراث لهم فقط وليس تراثا للإسلام كله، وإن اعتبره تراثا للإسلام فإنه يتبع ذلك بأن مذهبه هو الإسلام، وأن ما عداه انحراف لا يؤخذ به وضلال لا يلتفت إليه، وبهذا النفاق السياسى والمذهبى ضاعت القوى وأذلنا أعداؤنا».

ولكى لا يتوهم البعض أن الإمام يريد توحيد المذاهب الإسلامية فى مذهب واحد يقول إن إدماج المذاهب لا يصح أن يكون غاية، وحتى لو صح فإنه مستحيل، لكنه يدعو إلى الاستفادة من المنجز الفقهى من كل المذاهب ذاكرا باستحسان واضح أن مصر أخذت فى الأحوال الشخصية من المذاهب الإسلامية المختلفة وتحللت من التقيد بمذهب أبى حنيفة وأضافت إليه بعض الأحكام من المذهب الإمامى أى من مذهب الإمام جعفر الصادق، كما أخذت من المذهب الظاهرى، ودعا الإمام فى موضع آخر إلى أن تؤلف لجنة من علماء المسلمين لاستنباط قانون إسلامى من ثنايا المذاهب يحيث يكون ملائما لروح العصر ولا يكون مجافيا له، ولتجتهد هذه اللجنة اجتهادا جماعيا كما كان يفعل السلف الصالح.

هكذا كان الإمام أبوزهرة الذى مهما قال الواحد فى فضائله فلن يوفيه حقه يتعامل مع التراث الإسلامى لا يقتطع الأحاديث من سياقها، ولا يغلق قلبه حارماً نفسه وأمته من منجزات الحضارة الإسلامية فى الفقه وتطوره، معتمداً على عقله المخلص وقلبه العامر بالإيمان، ولذلك نقد الإمام ابن تيميه وأخذ عليه إنكاره للمنطق وهجومه على من اتخذوا من المنطق سبيلاً وميزانا، موضحا فائدة المنطق فى حماية الأمة الإسلامية من الهجمات الإلحادية التى لم يكن يصح معها إلا المنازلة بالمنطق، وكشف ما وقع فيه الإمام من تناقض حينما غضب ضد الذين يؤولون النصوص ويفسرونها تفسيراً مجازياً، وفى الوقت نفسه يعتبر كل الأسماء الواردة فى نعيم الجنة مجازية قائلاً إن الخمر فى الجنة ليس الخمر واللبن ليس اللبن، كما أكد الإمام أن المنطق الفطرى لا يتعارض مع الإسلام والعقل فى شىء، وبناء عليه اعترض على ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية فى كثير من الأمور.

وكما نقد الإمام ابن تيمية نقد المذهب الوهابى أيضاً، بل اعتبره نحلة ومذهباً محدثاً مستقلاً ووضعه من جملة المذاهب الضالة التى أدرجها تحت عنوان مذاهب حديثة، وهى الوهابية والبهائية والقاديانية وأكد أن الوهابيين لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئا عما جاء به ابن تيمية، ولكنهم شددوا فيها أكثر مما تشدد، وأخذ عليهم عدم اقتصارهم على الدعوة المجردة بل حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم، باعتبار أنهم يحاربون البدع كما أخذ عليهم أنهم كلما تمكنوا من قرية أو مدينة أتوا على الأضرحة هدماً وتخريباً وأنهم يعتبرون التصوير الفوتوغرافى وثنية، وأنهم توسعوا فى معنى البدعة توسعاً غريباً بل إنهم زعموا أن القول «سيدنا محمد» بدعة.

7
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
18-08-2012, 10:38 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

وائل السمرى يكتب: الشيخ أحمد حسن الباقورى.. إمام التيسير.. قال إن غير المسلمين الذين لم يصلهم شىء عن الإسلام سيحاسبون بحساب «أهل الفترة» لأنه تعالى قال «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»

الخميس، 16 أغسطس 2012 - 11:51
s8201216114559.jpg
أحمد حسن الباقورى

141.jpg


أكد أن الإسلام أمرنا بالفرح وأن الرسول كان يستعيذ بالله من الهم والحزن وأنه من سنة الرسول أن نغنى فى الأعياد وأن نفرح بما آتانا
أفتى بجواز تمثيل حياة الصحابة لنستمد منهم القوة والقدوة وأشار على نور الشريف بأهمية تمثيل حياة «عمر بن عبدالعزيز»

لم يكن دين الله لينفصل عن الحياة ويعاديها، بل إن رسالته الأساسية هى أن يتفاعل مع العصور المختلفة مدعما للتطور ونابذا للتدهور، يحافظ على الأخلاق العامة، ويدعم قيم العمل والعدل والرحمة والرقى والتسامى والتقدم، ميسرا على الناس غير معسر، وهذه هى حكم رسول الله الذى قال بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وروى عنه أنه لم يكن يخير بين أمرين إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وهذا ما وعاه الشيخ أحمد حسن الباقورى وزير الأوقاف الأسبق، ووكيل جماعة الإخوان المسلمين فى زمن حسن البنا، أحد أكبر شيوخ عصره وأشهرهم.

ولد الشيخ فى العام 1907، وكان من الأزهريين النابهين، وتربى فى أحضان المدرسة المصرية فى الفقه والعلم والحديث، وهى المدرسة التى انفتحت على جميع المذاهب الإسلامية فأخذت منها ما استقام من أحكام وما ثبت لعلمائها أنه الحق، غير مجافية لتعاليم الدين الحنيف ولا معاديه لتطورات العصر ومنجزاته، ولعل أكثر ما ميز الإمام الباقورى هو حبه للأدب والشعر الذى هذب روحه، ومتعه بحسن البيان، وفقهه فى اللغة العربية وهى لغة القرآن الكريم، ولذلك يروى عن الشيخ أنه كام خطيبا مفوها، وشاعرا مجيدا، يتتبع الألفاظ ومعانيها ويتأملها، ويرصد تطورها، والظرف الزمنى الذى نشأت فيه هذه الألفاظ واستخداماتها، ليقف على معانى القرآن والحديث، لكن تعمقه فى الدراسة الجمالية للإسلام وتراثه، لم ينسه دوره السياسى كعالم بأمور الدين لا يقبل الظلم ولا يرضى به، فاشترك فى إضراب الأزاهرة المطالب بإصلاح الأزهر، وعودة الشيخ المراغى وتم فصله من الدراسة، ولم يعد إليها إلا مع عودة الشيخ، وكان الشيخ وقتها عضوا بجماعة الإخوان المسلمين، وعلى درجة كبيرة من القرب من الإمام حسن البنا، ولعل قراءة سيرة الباقورى ورؤية مواقفه والاطلاع على آرائه الفقهية، تبرز لنا مقدار التفتح الذى كانت تتمتع به الجماعة وقت مؤسسيها الأوائل، فقد كان حسن البنا تلميذا من تلامذة رشيد رضا، وكان رضا تلميذا من تلاميذ محمد عبده إمام الاستنارة والتطور، ومن تلاميذه أيضا الشيخ مصطفى السباعى مؤسس حركة الإخوان فى سوريا، الذى تعرضنا له فى حلقة سابقة، ورأينا كم الاستنارة التى كان يتمتع بها، حتى إنه قال إن التشريع الإسلامى «علمانى» وأن الاشتراكية هى الحل الأمثل لجميع مشاكلنا، وكيف أنه اجتهد ليسقط الجزية عن أهل الذمة فى الدستور السورى، وفى هذا أبلغ مثال على كيفية القيادة الإسلامية للحياة المدنية لا إرجاعها إلى أعراف حقب تجاوزها الزمن.

انضمام الشيخ إلى الإخوان المسلمين كان فى سنة 1933، وعن وعى البنا بالأزهر ومدى احتفائه به وأى المدارس التى كان يتبعها الإمام يقول الشيخ فى مذكراته: من الإنصاف للتاريخ القول بأن الأستاذ حسن البنا كان يرى الأزهر كما يراه الشيخ المراغى نفسه، فكان كثيراً ما يقول: إن كل شاب مسلم هو شاب أزهرى، وبهذا المنطق القائم على الصدق العقدى، والصدق التاريخى، كان الأستاذ البنا من الذين أيدوا أعظم تأييد حركة الطلاب الأزهريين فى ثورتهم وكان مرجع ذلك، توقعه الانتفاع بطلاب الأزهر، وآية ذلك أننى أول ما لقيته وأنا طالب فى قسم التخصص سنة 1933م، رأيت منه إقبالاً على الحديث معى والحفاوة بى، وقد مضى يحدثنى فى صوت خفيض بآماله الكبار فى إصلاح المجتمع الإسلامى فى ظل دعوة الإخوان المسلمين».

ويشرح الشيخ كيفية دخوله إلى الجماعة قائلا: وقد لاحظت فى حديثه معانى تحتاج إلى مزيد من إيضاح، فجعلت أستعجله فى الحديث إلىّ، بما يوضح المبهم ويجلى الغامض. إذ كان ذلك هو الأهم فى سعينا إلى حفل الإسراء والمعراج، وأذكر أنه بدأ يتحدث عن قصة الإسراء حديثا علمياً بعيداً عما ألفه الناس فى مثل هذه الأحفال، ولما كان يعلم أننى أعالج الشعر سألنى: «هل قلت شيئاً فى قصة الإسراء؟ فإن مثلك لا يترك هذه المناسبات دون أن تتحرك بين جنبيه عواطفه الإسلامية التى لا ترضى إلا إذا أعلنت إلى الناس ما يرضى العاطفة الإسلامية فى أنفس المسلمين» ومن هنا بدأت علاقة الشيخ بالإمام تأخذ منحى آخر، فقد عرف الإمام أن من مواهب مريده الجديد كتابة الشعر، وقدر ذلك واحترمه فكان من التلقائى أن يفرح الشيخ الشاب بحفاوة الإمام الكبير، بعد أن زادت أسباب التلاقى وأضيف إلى روح الحفاظ على الدين وتتبع المدرسة المصرية المستنيرة احتفاء الاثنين بالشعر والشعراء، وقد وضع «الباقورى» بعد ذلك نشيد الإخوان الرئيسى الذى كان يردده الإخوان فى كل محافلهم قائلين:
يَا رَسولَ الله هلْ يرْضِيكَ أنّا
أخْوَةٌ فِى الله للإِسْلامِ قُمْنَا
نَنْفُضُ الْيَوْمَ غُبَارَ النَّوْمِ عَنَّا
لا نَهَابُ الْمَوْتَ لا بَلْ نَتَمَنَّى
أَنْ يَرَانَا الله فِى سَاحِ الْفِدَاءْ
وكان البنا معجبا بهذا النشيد، وكثيرا ما كان يردده مع الإخوان، فقد أبدع الباقورى فى سهولة ويسر هذا النشيد الذى عبر فيه عن آراء الإمام، وعن آماله فى جيل إسلامى يحاكى جيل الصحابة، لهو شاعر ذو موهبة عالية، وهو أيضاً قد تشرب أفكار البنا وأهداف دعوته، وظلت علاقة الباقورى بالإخوان قائمة حتى بعد وفاة الإمام، ووصل به الأمر إلى الترشح لرئاسة الجماعة، لكن لقب المرشد وصل فى النهاية إلى الهضيبى، فكان الباقورى أول من بايعه، وحينما قامت ثورة يوليو عرض جمال عبدالناصر على الإخوان ثلاثة مقاعد وزارية، فرفض المرشد العام الاشتراك فى الوزارة، لأنه لم يكن يريد أن يتحمل أى فشل متوقع، خاصة أن الثورة لم تكن قد ثبتت قواعدها، ووافق الباقورى على تولى وزارة الأوقاف خلافا لرأى المرشد، وقدم استقالته من الجماعة، حيث كان يرى أن الوزارة فرصة للإصلاح من الداخل، وبداية عهد جديد مع حكومة جديدة، آملا فى النجاح مستعدا لتحمل عاقبة الفشل، إذا لم يوفقه الله، لكنه على الأقل لم يقف متفرجا باخلا بعلمه وقدراته على بلد فى طور التكوين.
انشغل الباقورى بالوزارة وأعاد تنظيم الأزهر، وأدخل به الكليات التى تخرج العاملين لصالح المجتمع من مهندسين وأطباء ورجال أعمال ورجال قانون ورجال علم تطبيقى، فضلا عن كلية البنات فيها ذات التخصصات، فلا ينبغى أن يقتصر الأزهر وهو أقدم جامعة فى العالم مازالت حية على علوم الدين فحسب، كما حاول إصلاح الطرق الصوفية ومستشفيات الأوقاف، وأسهم فى إعداد جيل من الدعاة لينشر العلم والدين فى مجاهل أفريقيا والدول العربية الواثبة نحو النهضة، والخارجة للتو من الاستعمار الذى كاد أن يطمس معالم الحضارة الإسلامية فى وجدان الشعوب العربية، ولم ينس الإمام أخوته فى جماعة الإخوان المسلمين، لما رآه فى بعضهم من حب للدين وفقه بين، فساعد كثير منهم على العمل، وعين منهم عشرات فى وزارة الأوقاف والأزهر الشريف، وكان الإخوان يبادلونه الحب والود، ويقدرون موقفه من قبول الوزارة، وأنه يأمل فى الإصلاح الذى تربى عليه من خلال منصبه الجديد، وأنه ساعد الإخوان على دخول الوزارة والأزهر بشكل كبير، كما كان يدافع عنهم عند عبدالناصر، إذا ما اعتقلوا أو تعرضوا لأذى، ولعل علاقة الباقورى بالإخوان هى التى أسهمت فى سوء العلاقة بينه وناصر، خاصة بعد حادثة محاولة اغتياله على يد أحد أعضاء الجماعة فى المنشية، فأقاله ناصر من الوزارة ثم أعاده بعد فترة رئيسا لجامعة الأزهر، ومستشارا لرئيس الجمهوية بدرجة وزير.

وقد عمل الباقورى فى هذه الفترة على أن يوحد أمة الإسلام تحت راية واحدة، متبعا فى ذلك سنة الأئمة الكبار «عبده والمراغى ومصطفى عبدالرازق»، وكان يدعو إلى نشر الكتب الشيعية وإخضاعها للبحث والفحص، لإزالة الخلاف بين المتخالفين، فقد كان يقول: ما تفرق المسلمون فى الماضى إلاّ لهذه العزلة العقلية التى قطعت أواصر الصلات بينهم، فساء ظن بعضهم ببعض، وليس هناك من سبيل للتعرف على الحق فى هذه القضية إلاّ سبيل الإطلاع والكشف عما عند الفرق المختلفة من مذاهب، وما تدين من آراء، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة. والخلاف بين السنّيين والشيعيين خلاف يقوم أكثره على غير علم، حيث لم يتح لجمهور الفريقين إطلاع كل فريق على ما عند الفريق الآخر من آراء وحجج، وإذاعة فقه الشيعة بين جمهور السنيين، وإذاعة فقه السنيين بين جمهور الشيعة من أقوى الأسباب وأكدها لإزالة الخلاف بينهما، فإن كان ثمة خلاف فإنه يقوم بعد هذا على رأى له احترامه وقيمته، له بحوث كثيرة فى مجال التقريب بين المذاهب.

كما كان الإمام فى فتاواه التطبيقية يدافع عن الأعمال الخيرية والوقف لله لما فى ذلك من إشاعة التكافل والتراحم فى المجتمع، فقد ألقى بيانا بمجلس الشعب عن أهمية الوقف الخيرى، قال فيه: ولقد تأخذ أحدنا الدهشة– وهو يستعرض حُجَج الواقفين– ليرى القوم فى نبل نفوسهم، ويقظة ضمائرهم، وعلوِّ إنسانيتهم، بل سلطان دينهم عليهم: يتخيَّرون الأغراض الشريفة التى يقفون لها أموالهم، ويرجون أن تنفق فى سبيل تحقيقها هذه الأموال، وأخذ يعدد أوجه الوقف الإسلامى، ومدى رحمة الإسلام وعظمته فى بث روح التقارب والألفة فى المجتمع: فقد كان هناك وقف يسمى بوقف الأوانى المكسورة، وهو وقف تُشترى منه صحاف الخزف الصينى، فكلُّ خادم كُسرت آنيته، وتعرَّض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناء صحيحًا بدلاً منه. وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه، وكان هناك آخر لإطعام الكلاب الضالَّة، وكان هناك وقف لإعارة الحليِّ فى الأعراس، وآخر للزوجات الغاضبات حتى تجد المرأة ما تأكله إذا غضبت من زوجها ولم يكن لها بيت يأويها، وكان هناك وقف آخر باسم «مؤنس المرضى والغرباء» وفيه ينفق على أصحاب الأصوات الحسنة، ليرتلوا القرآن وينشدوا القصائد ليسروا بها عن المرضى، وفى بلاد المغرب كان هناك وقف لمن يريد أن يستحم ولا يجد مالا، كما كان هناك وقف لإطعام الطيور المهاجرة والقطط التى لا مأوى لها، وكل ذلك يبرز عظمة الإسلام ورحمته.
وعلى هذا النحو كان الشيخ محافظا على روح النبوة السمحة الرحيمة فى دعوته، فأنتج العديد من الكتب المهمة التى جسدت منهجه فى الفقه والدعوة، منها «مع كتاب الله، ومع الصائمين، ومع القرآن، وأثر القرآن الكريم فى اللغة العربية، و«عروبة ودين» و«خواطر وأحاديث « و«من أدب النبوة»، كما سعى فى نشر كتاب «المختصر النافع» فى فقه الإمامية، له تقديم لكتاب العلم يدعو للإيمان، ووسائل الشيعة ومستدركاتها، ولقد اعتبر الشيخ يوسف القرضاوى كتاب «أثر القرآن الكريم فى اللغة العربية» من أهم كتبه وأفضلها، وفيه يتوافق الباقورى مع رأى عميد الأدب العربى «طه حسين» القائل بأن أغلب شعر الجاهلية منحول، ويبرز الإمام أهمية القرآن فى الارتقاء باللغة قائلا «إن اللغة العربية ما كانت تطمع فى أن يتعدى سلطانها جزيرتها، فتضرب الذلة على لغات نمت فى أحضان الحضارة وترعرعت بين سمع المدينة وبصرها، وتستأثر دونها بالمكان الأسمى فى ممالك ما كان العربى يحلم بها، فضلاً عن أن يكون السيد المتصرف فيها، ولكن القرآن الكريم انتزعها من أحضان الصحراء، وأتاح لها ملكاً فسيح الأرجاء، تأخذ منه لألفاظها ومعانيها، وأغراضها وأسلوبها، ما لم تمكنها منه حياته البدوية، فبعد أن كانت ثروتها فى حدود بيئتها، أصبحت غنية فى كل فنون الحياة، فأقبل الناس عليها مدفوعين إلى معرفة أحكام الدين، وأداء واجبات الإسلام».

فى حوار نادر مع الصحفى الكبير الراحل محمود عوض، رسم الأستاذ بقلمه الرشيق صورة لبيت الشيخ من الداخل، وفيه أبرز بساطته وإنسانيته وعدم تشدده مع بناته، وعدم وقوفه على الأمور الشكلية فى حياتهن، حيث تكلم الباقورى مع عوض حول الحب، وقال إن «الحب بعد الزواج أقوى وأبقى كثيرا من الحب قبل الزواج، والحب قبل الزواج شهوة وليس حبا، وعلى قدر ما يكون الحب شهوة، يكون بقاؤه شهوة» وصرح له بأنه كام يعشق غناء أم كلثوم وعبدالوهاب مسترجعا مقولة على بن أبى طالب «الناس أشبه بزمانهم، منهم بآبائهم وأمهاتهم» ولعلنا نتلمس بعضا من آراء الشيخ وفتاواه من أحاديثه التليفزيونية التى انتشرت هذه الأيام على مواقع الإنترنت بشكل ملحوظ، حيث بدأ العديد من الشباب فى استعادة تراث الشيخ وحكمته، بعدما يأسوا من تشدد متشددى هذه الأيام، ومن ذلك حديثه حول الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى أكد فيه أن هذه الشعيرة واجبة فى الإسلام، مشترطا أن تكون كما أمرنا الله «بالحكمة والموعظة الحسنة مستشهدا بقوله تعالى «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ»، وقوله «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» وقال إن الرأى العام الآن هو الذى يقوم بهذه الشعيرة، حيث أورد حديث رسول الله الذى أمر فيه رجلا أتاه شاكيا من إيذاء جاره له أكثر من مرة، بأن يترك له البيت ويجلس بمتاعه على الطريق، فلما جلس على الطريق مر الناس عليه وسألوه ما الذى يجلسك هكذا، فكان يقول لهم جارى يؤذينى، فيلعنه الناس صباحا ومساء، ولما رأى الجار المؤذى أن الناس يلعنونه بهذا الشكل ذهب إلى الرسول وقال له إن الناس يلعنوننى، فقال له الرسول وما الذى يدريك أن الله لا يلعنك قبل أن يلعنك الناس، فذهب الرجل إلى جاره الذى كان يؤذيه، فقد فقال له لقد أمرنى رسول الله أن أستسمحك وأن أستغفر الله لك، فعد ولك على عهد الله وميثاقه ألا يصلك منى إيذاء أبدا، وفى حديث آخر، قال إن الرسول كان يأمر الناس بالفرح والغناء فى العيد، ومن لا يفعل ذلك فقد خالف سنة رسول الله، وهو الذى كان يدعو الله مستعيذا من الهم والحزن، قائلا أن أبابكر الصديق رضى الله عنه أتى إلى بيت رسول الله، ووجد جاريتين تغنيان بغناء يوم «بعاث» وهو غناء قبيلة الأوس قبل الإسلام، فلما اعترض أبو بكر قال له الرسول دعهما يا أبا بكر فإنه يوم عيد، موضحا أن اعتراض أبى بكر لم يكن على الغناء فى حد ذاته، وإنما كان على نوعية الغناء، ومع ذلك أقره الرسول وسمح به.

وليس أدل على سماحة الشيخ واستنارته وتفقهه فى الدين من الحوار الذى أوردته الكاتبة الكبيرة نعم الباز فى كتاب عن الشيخ «ثائر تحت العمامة»، وفيه عرضت لأمسية رمضانية أقيمت فى بيت الشيخ، وكان من حضورها الممثل نور الشريف والممثلة نورا، حيث أخذ الحضور يسألونه فى أمور الدين والدنيا فيجيبهم برغم إرهاقه الشديد، مستمتعا بأسئلة نور الشريف الذكية الواعية، واستفسارات الفنانة المعتزلة نورا، وفى هذا يضرب الشيخ أعظم الأمثلة فى كيفية احتواء رجل العلم المسلم لكل قضايا المجتمع، وقدرته على احتواء جميع فئاته وتوجيههم نحو ما يخدم الدين والفن على حد سواء، قائلا: يجب أن تترك الفرصة للاجتهادات لكى تأخذ دورها فى اشتعال جذوة الدعوة فى كل مكان، ويجب أن تفكر الدول الإسلامية فى إرسال البعوث، بحيث لا يقع العبء على مصر وحدها، كما «كان» يحدث، مستشهدا بقول العالم السورى معروف الدواليبى «تغيير الأحكام بتغيير الزمان شىء غير تغيير الزمان دون تغيير النصوص وتعطيلها»

وفى ذات اللقاء صرح الشيخ برأيه فى ضرورة تقييد تعدد الزوجات، وقال إن رسول الله لم يرضى بأن يتزوج الإمام على على ابنته فاطمة الزهراء، وعلى هذا يجب أن نتخذ من هذا الموقف أساسا لتقييد تعدد الزوجات، بأن نمنع التعدد إذا لم توافق الزوجة، كما قال : يجب أن نأخذ بالعلم فى تحديد رؤية هلال الأشهر الهجرية، كما قال إنه من الواجب على الأمة الإسلامية أن تستخدم التمثيل فى خدمة الدين، وقال إنه لا يمانع من تمثيل حياة الصحابة والخلفاء الراشدين، قائلا «التمثيل صورة من صور البيان، ويعين على شرح الأشياء والأمور التى قد تخفى على الكثيرين، وأنه لا يمناع من تمثيل حياة الإمام على كرم الله وجهه، لأنه عاش حياته الإنسانية بكل ما فيها، ومؤكدا أن الله ورسوله استخدما «التمثيل» فى القرآن والحديث، فى وصف مشاهد كثيرة لتقريبها إلى أذهان الناس، فلماذا لا نتبع ما فعله الله ورسوله؟ كما أوحى فى تلك الجلسة إلى نور الشريف بضرورة تمثيل حياة عمر ابن عبدالعزيز، لما فيها من مآثر طيبة، وقدرة على تعريف الناس بحياة خيار المؤمنين، كما قال إنه يعتقد ما اعتقده من قبل الإمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، بأن غير المسلمين «الآن» الذين لم يصلهم شىء عن الإسلام، ولم يعرفوا عنه شيئا سيحاسبون بحساب «أهل الفترة»، وهم الذين لم يبعث الله لهم رسولا، لأن الله تعالى يقول فمحسنهم محسن ومخطئهم مسىء، لأن الله قال «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»، مؤكدا أن تعذيبهم يناقض الحكمة والله مبرأ عن ذلك».
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
18-08-2012, 10:39 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

وائل السمرى يكتب: مجدد القرن الإمام الشعراوى.. كبير عائلة الإسلام فى مصر ..انضم إلى «الإخوان» ثم تركهم بعد أن «لوّنوا الدين وتركوه من أجل السياسة وسعوا إلى تشويه المسؤولين والشخصيات العامة»

الجمعة، 17 أغسطس 2012 - 09:36
s820121793024.jpg
الشعراوى

141.jpg


خالف رأى الوهابية وأباح الغناء والخروج على الحاكم والصلاة فى المساجد ذات الأضرحة فشتمه شيخهم وقال إنه «منحرف العقيدة»

كان يصنع التماثيل ويحب الشعر ويكتبه ويعتبر أن طه حسين وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم والباوردى بعثوا اللغة العربية

فى عباءته الواسعة اجتمعت مصر كلها، وعلى مائدته القرآنية الممتدة لسنوات طويلة تربت أجيال وتعلمت وفهمت وعرفت وضحكت وبكت، كان الجميع ينظرون إليه بإجلال ومهابة كأنه عبد ربانى ينتمى إلى ذلك الكيان النورانى المتعالى، فى تقاسيم وجهه راحة وبشاشة، وفى روحه المصرية العميقة إيمان دائم ومحبة مستمرة، ميز الله يوم الجمعة منذ ظهور الإسلام بصلاتها المكتوبة، ولم تكن هناك ميزة أخرى لهذا اليوم سوى حديثه الشهير، فصار ضيفا على بيوتنا وأخا كبيرا وأبا معلوما، أغلب المصريين كانوا يتعاملون معه باعتباره واحدا من العائلة، أو إن شئت الدقة فهو كبير العائلة، حينما يتكلم يستمع الجميع، وحينما يظهر يهابه الجميع، وإذا أمر أطاعه الجميع، وإذا ابتسم ضحك الجميع، وإن مرض أو تعثر تهبط القلوب من مكانها مرتجفة خائفة، فكان يوم وفاته مأتما عاما، بكاه المصريون كما يبكون كبيرهم المفقود.

أحب الله فأحبه الناس، وقد صدق فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل، فَقَالَ: «إِنِّى أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ». فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِى فِى السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَضَعُ لَهُ الْقَبُولَ فِى الأَرْضِ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ الأَرْضِ» وكهذا كان حب الناس للإمام موصولا بالسماء، فهو محل إجماع المحبة، وقبلة كل سائل ومسؤول، ودواء القلوب الظامئة، وحضن الأمان للأرواح المتأرجحة، وحجة اليقين للمتشككين، وبسمة الرضا إذا ما قست الدنيا وأدبرت، وفرحة الانتشاء إذا ما أقبلت وتهادت، ولما غاب الإمام عنا، صار مكانه خاليا، لا يجرؤ أحد على ملئه، ولا يتجرأ أحد الحلم باحتلاله، ولعظيم دوره وأثره فى حياتنا، كان من الطبيعى أن تتوافق الأغلبية الغالبة على اعتباره مجدد القرن الماضى، ولسان حال الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها.

اختبرته الدنيا فخبرها، وعاش من الأحداث والوقائع والمتغيرات ما جعله يفهم ويعى ويدرس ويتأمل، فمنذ يوم ميلاده فى العام 1911م بمحافظة الدقهلية حتى وفاته فى العام 1998 مرت مصر بأحداث كثيرة، شهد الملكية فى أوجها وعاصر ثورة مصر الكبرى على يد الزعيم سعد زغلول كما عاصر وزارة النحاس باشا وأحبه، مرورا بثورة يوليو وحكم جمال عبدالناصر ثم السادات فمبارك الذى ظل مشهد لقائه به بعد تعرضه لحادثة الاغتيال الشهيرة فى 1995 حاضرا فى ذهن الجميع.

وعن طفولته ونشأته وأهم ما تأثر به وأثر فيه يقول الإمام فى إحدى حلقات برنامج من الألف للياء مع الإعلامى طارق حبيب فيقول: نشأت فى أسرة طابعها التدين، وكان طابع والدى هو عشق العلم، ولذلك حرص على أن ينشئنى فى حضن العلم، فنشأت طفولتى مطبوعة بهذا الطابع حتى ذهبت إلى الأزهر» ويشرح الإمام كيف احتفظ ببراءته وطفولته الدائمة فيقول: لم يخرجنى الله عن براءة الطفولة وقد سدت أمامى كل المسائل التى تخرجنى من براءة الطفولة إلى شراسة المراهقة، فقد تزوجت بعد حصولى على الابتدائية، فتحصنت من عواطف المراهقة، وكنت أعمل مع والدى فى الصيف فى الغيط، فلم يتح لى التقلب بين الأصحاب، وعن هواياته ومواهبه وحبه الغريزى للفن والشعر يقول الإمام: ونشأت لى هوايات نابعة من محيط قريتى تتعلق بالفلاحة والزراعة واللعب فى النيل وفى الطين، وكانت لى موهبة كبيرة فى صناعة التماثيل التى كنت أجيدها وأتميز فيها وكانت تلك الموهبة محل إعجاب من الجميع فقد كنت أجيد عمل التماثيل من الطين للحيوانات ولأى شىء، ولكن بعد أن تميزت فى هذه الهواية انتقلت هوايتى من شىء جميل إلى شىء جميل آخر، وهو الأدب والشعر فبدأت أسمع وأحفظ لأصبح أديبا وشاعرا، وقد كان أمير الشعراء أحمد شوقى هو خميرة هذا التأهيل، ويضيف الإمام: كنت أريد أن أصبح شاعرا أو أديبا وكان انتقالى من فن صناعة التماثيل إلى فن الشعر انتقالا سلسا، وقرأت بعد ذلك أن الشعر فن والنحت فن، فعرفت أن الفطرة الموضوعة فى نفس الإنسان كلها فن جمالى وابتكارى، وأعجبت حينما سمعت القول المأثور: أساطين البيان أربعة شاعر صاغ بيته، ومصور نطق زيته، ومثال ضحك حجره، وموسيقى بكى وتره.

ولعل فى هذه السطور ما يبين موقف الإمام من الفنون القولية والتشكيلية دون الحاجة إلى أى شىء آخر، فواضح تمام الوضوح أنه رحمه الله كان يعتنى بكل أنواع الفنون ويعرف عنها الكثير من الأشياء بل يمارس بعضها، ولم يكن فى تقدم الأدب وتطوره ما يعارض الشريعة الإسلامية ويعظم دورها، ففى موضع آخر من هذه الحلقة يقول الإمام مندهشا ومستحسنا أنه تعجب من ازدهار الأدب ورجاله فى عصر ما قبل الثورة برغم أن وضع مصر السياسى كان ضعيفا، ويقول إن اللغة العربية وآدابها شهدت حراكا فكريا كبيرا وبعثت من مرقدها على يد ما أسماهم «فطاحل الأدب» وهم «حافظ إبراهيم وطه حسين والرافعى والبارودى وشوقى» وغيرهم ممن لم يسمهم، لكنه يندهش أكثر من أنه حينما مات هؤلاء لم يأت أحد ليملأ مكانهم، مرجعا سبب ذلك إلى التضييق على الحريات التى تقتل العبقريات، قائلا إن «العبقرية سيطرة مواهب لا تحب أن يتحكم فيها أقل منها» ولذلك رأى أن التضييق على الإبداع الذى بدأ مع الدولة الناصرية هو سبب اختفاء المواهب العبقرية، ويدافع الإمام عن الأدب العربى وجمالياته قائلا إنه اطلع على العديد من النماذج للأدب الأوروبى فلم يجدها بأعظم من الأدب العربى الذى يحبه ويحفظه ويفتخر به، ويروى حكاية وقعت بينه وأحد أصدقائه المتيمين بالأدب الغربى، فيقول إنه لما رأى صاحبه معجبا بشكسبير قال له قل لى أكثر أبيات شكسبير حلاوة وحكمة وسآتيك بمثلها من الأدب العربى، فصار صديقه يقول بيتا من أشعار شكسبير وهو يأتى له بمثيله من أبيات شوقى أو المتنبى أو البحترى أو أبى تمام، حتى إذا ما انتهى زميله من أبياته قال له واثقا من عظمة تراثه الأدبى وجماله إن ابتعادنا عن الأدب العربى هو الذى جعلنا ننبهر بشكسبير وأمثاله.

كانت ساحة الجامع الأزهر هى أول الأماكن الشاهدة على تألق الشعراوى وتفوقه وانشغال بالعمل السياسى والدعوى، فمن الأزهر اندلعت الحركة الوطنية ومنه قامت ثورة 1919، ومنه انطلقت المنشورات تهاجم الملك والإنجليز، ومنه بدأ الشعراوى حياته العملية، والسياسية فتعرف على الإمام حسن البنا وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين فى بداية حياته، وعن هذه الفترة يتحدث الدكتور محمود جامع فى كتابه «عرفت الشعراوى»، ويقول إنه تعرف على البنا وكان من المقربين منه، بل إنه هو صاحب صياغة أول بيان للجماعة، وقد أعجب البنا ببلاغته وأسلوبه فى الكتابة، وظلت علاقة الإمام بالإخوان قائمة حتى كتب قصيدة يمتدح فيها سعد زغلول ومصطفى النحاس باشا، فغضب حسن البنا من الشعراوى وامتد الخلاف حتى قاله له الإمام «النحاس باشا رجل طيب نقى ورع ويعرف ربنا وإننى لا أرى داعيا لأن نعاديه وهذه هى الحكمة» فقال أحد الإخوان الحاضرين : إن النحاس باشا هو عدونا الحقيقى وهو أعدى أعدائنا لأنه زعيم الأغلبية هى التى تضايقنا فى شعبيتنا أما غيره من الزعماء وبقية الأحزاب فنحن نبصق عليها جميعا فتنطفئ وتنتهى! وهنا شعر الشعراوى أن هذا الكلام كان جديدا ومفاجئا له ولم يكن يتوقعه بأى حال فأخذ قراره بالابتعاد عن الجماعة، وقلت لهم: سلام عليكم .. ماليش دعوة بالكلام ده، لكن برغم ذلك لم يعاد الإمام الإخوان وظل على علاقة طيبة بهم، وخاصة عمر التلمسانى الذى كان يزوه فى بيته، ومن الأقوال المشهورة للإمام هو رأيه فى جماعة الإخوان الذى تداوله الكثيرون بكثرة هذه الأيام، حيث كان يرى أن الجماعة «شجرة طيبة» مترحما على زارع هذه الشجرة ومستنكرا من «استعجل حصد ثمرتها»، لكن الغريب أن الإخوان الآن يوردون نصف مقولة الشعراوى فقط فى منشوراتهم، ويقفون عند قوله إن الجماعة «شجرة طيبة» ولا يتطرقون إلى قوله «وغفر الله لمن تعجل ثمرتها» وهو الأمر الذى يشرحه «جامع» فى كتابه فيقول إن الشعرواى كان يذكر استعجال الإخوان لجنى الثمار، مؤكدا أن «خيبة أى داعية هى أن يستعجل ثمرة دعوته وهذا لم يحدث للنبى صلى الله عليه وسلم، فكيف تستعجل أنت ثمرة دعوتك؟ وقال الشعراوى أيضا: الذى يزرع لا ينتظر الحصاد السريع إلا إذا كان ما يزرعه هو «الفجل» وعايز يأكله «ورور» بعد أسبوعين!! أما الذين يزرعون النخيل فهم لا ينتظرون أن يأكلوا هم منها، أما عن انتماء الشعراوى السياسى والحزب الذى يفضله فهو حزب الوفد، فقد كان يقول: إنه كان سياسيا وفديا، «لكن هويتى أزهرية وكنت أحترم أزهريتى بسياستى وليس العكس».

وعن سبب ترك الإمام لجماعة الإخوان قال الدكتور عبدالله عبدالعليم الصبان أستاذ الحديث وعلومه فى جامعة الأزهر فى إحدى مرات الاحتفال بذكرى الإمام إنه «تركهم بعد أن لوّنوا الدين وتركوه من أجل السياسة، بينما كان الشيخ الشعراوى يؤمن بأن الدين حياة وليس لعبة سياسية، وقد رأى أن الإخوان لجأوا إلى الألاعيب السياسية، التى رفضها الشيخ منذ البداية، مثل تشويه المسؤولين بالدولة والشخصيات العامة حتى يخيروهم ما بين الانضمام إليهم وإلى آرائهم أو يكونوا من أعدائهم، فرفض الإمام الشعراوى هذا الأسلوب وترك الجماعة، لكنه لم يحاربهم يوماً، ونشر الدين الإسلامى الوسطى الذى وصل إلى قلوب الناس وعقولهم». ولعل هذا السبب هو ما يعطينا تفسيرا لعدم انضمام الإمام إلى أى حزب سياسى، قائلا إن الانتماء إلى حزب دينى ليس من ركائز الإسلام ولا يَضير إسلامىَ شىءٌ، فإن لم أنتمِ إلى هذا الحزب؛ فأنا مسلم قبل أن أعرفكم، وأنا مسلم قبل أن تكون حزباً، وأنا مسلم بعد زوالكم، ولن يزول إسلامى بدونكم، لأننا كلنا مسلمون، وليسوا هم وحدهم من أسلموا، وقال أيضا «إننى أرفض أن أنتمى إلى حزب يستجدى عطفى مستنداً على وازعى الدينى قبل أن يخاطب عقلى، لأننى أرفض أن أستجدىَ دينى فى صندوق انتخاب، فدينى لا أستجديه من غير خالقى، ويقول: «أتمنى أن يصل الدينُ إلى أهل السياسة، ولا يصلَ أهلُ الدين إلى السياسة» فإن كنتم أهلَ دين، فلا جدارةَ لكم بالسياسة، وإن كنتم أهلَ سياسة فمن حقى أن لا أختاركم ولا جناح على دينى.

وبرغم أن الشعرواى كان مكتفيا بتفسير القرآن عن الخوض فى الفقه ومسائله لكن كان له إسهام كبير فى العديد من قضايا عصره، ومن الممكن أن نقول إنه اتبع القاعدة الاجتهادية الأولى التى تأمر باستفتاء القلب، وعلى هذا نجده يقول أنه لابد لمن يرد إليه سؤال أن ينظر إلى سائله وأن يجيبه بإجابة تتوافق مع تحقيق غاية الدين فى الأمر فقد فسر قوله تعالى «لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان» قائلا يختلف فى مفهوم المفتين باختلاف الحانث، ومثال ذلك أن خليفة فى الأندلس حلف يميناً وأراد أن يؤدى عن اليمين كفارة، فجاء إلى القاضى منذر بن سعيد وسأله عن كفارة هذه اليمين، فقال لابد أن تصوم ثلاثة أيام، وكان يجلس شخص آخر فأشار للقاضى إشارة فلم يعبأ القاضى منذر بن سعيد بتلك الإشارة، وخرج القاضى ومعه ذلك الشخص فسأل القاضى يا أبا سعيد إن فى نفسى شيئاً من فتواك، لماذا لم تقل للخليفة إن كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟ فقال القاضى منذر بن سعيد: أمثل أمير المؤمنين يُزجر بعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟.. وهذا يعلمنا أن الكفارة فى جانب منها زجر للنفس وفى جانب آخر جبر للذنب، وكان رحمه الله دائما ما يقول «من حكمته التوسعة على العباد، إذ لو أراد الله أن تكون نصوصه على نحو واحد من الفهم لما أعجزه ذلك، وأنه ينبغى على كل طرف ألا ينكر على الآخر فى مواضع الاجتهاد». وقال «ولو أن الله يريد تلك النصوص على وجه واحد لأوضح ما أراد.. والأمر هنا أن يتفهم كل منفذ لحكم محتمل ألا يخطئ الحكم الآخر.. بل عليه أن يقول: هذا هو مقدار فهمى لحكم الله».

وعلى هذا نجد الإمام يتحدى شيوخ الوهابية الذين يقولون إن التوسل بالرسول شرك، قائلا إن الله تعالى قال «ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما» إذا التوبة والرحمانية تأتى بشروط أنهم يأتون للرسول ويستغفرون الله ويغفر لهم الله فيمنحهم الله الهبة مؤكدا أن الرسول يشعر بمن حوله وأن الميت يشعر بمن حوله، ويجوز أن نتوسل به لله، فقد قال عمر بن الخطاب كنا نتوسل برسول الله إليك يارب لتسقينا ولكن رسول الله انتقل إلى رفقتك فنتوسل إليك بعم نبيك العباس، يما يعنى أن ابن الخطاب أقر أن الصحابة كانوا يتوسلون لله بالرسول ولما مات الرسول توسلوا إليه بعمه.
وقال ردا على سؤال عن هذا الأمر لقد أمرنا أن نذهب إلى القبور ونقول السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ديار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، ولو لم يكن لديهم سماع لكان تكليفنا بالسلام عليهم عبث، لذا علينا أن نسلم، إذا كان النبى كلم الأموات فى بدر وكانوا من الكافرين، عندما قال يا عتبة لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم، فرد عليه عمر بن الخطاب قائلا هل تكلم الموتى، فرد النبى قائلا والله ما انتم أسمع منهم لكنهم لا يتكلمون، كما أنه أكد أن الصلاة فى بيوت الله التى بها قبور صحيحة فقد سأله أحد المذيعين قائلا: لو رجل تبرع ببناء مسجد وشيد لنفسه قبرا بداخله فهل هذا جائز؟ فقال الإمام: ليس به شىء، فقبر الرسول صلى الله عليه وسلم فى المسجد وقبور الأولياء كلها فى المساجد، كما قال الله تعالى فى كتابه «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخدن عليهم مسجدا»، فهذا أمر لم ينكره الله، كما أكد أن قراءة القرآن للميت جائزة ومقبولة بإذن الله قائلا: كل إنسان مطلوب منه مجموعة طاعات وفروض وإن زدت عن الطلب فهب لمن تشاء، ومن يقرأ لهم الفاتحة والقرآن هم بالطبع من الناس الصالحين الذين يستحقون. كما أنكر الإمام ما يقال عن عذاب فى القبر، وقال «القبر ليس فيه عذاب لأنه لا عذاب إلا بعد حساب والحساب فى الآخرة فقط، وفى القبر النفس تتجمد ويعرض عليه عذابه فى الآخرة وإن كان مؤمنا يعرض عليه الثواب، فهو عرض فقط لمنازل الآخرة إن كان شرا يعرض عليه وإن كان خيرا يعرض عليه «النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهنا عرض وهنا إدخال» بل قال إن الأموات يتزاورون ودلل على ذلك بقول رسول الله لسيدتنا فاطمة أنه ستكون أول من يلحق به من أهله فضحكت لأنها ستزوره، وكان الإمام يرى أنه لا يوجد مانع من الغناء فى الأفراح والأعياد أن نستأنس بالغناء وكذلك فى الأعمال الشاقة التى يقومون فيها بعمل نشيد والنشيد فى حالات الحرب من إلهاب الحماس، قائلا إن العبرة ليست بالغناء فى حد ذاته وإنما فى إثارة الشهوات «الغناء مش بس هو اللى وحش، النص من غير غناء لو أثار غريزة يصبح حراما، النص إن هاج وأخرج عن الوقار يصبح حراما، ولو استخدم مع النص أداء مهيج يكون محرما مرتين».

ولأنه رحمه الله كان يعلم أن واجب العالم الإمام أن يجمع حوله الأمة كلها كان كثيرا ما يقابل البابا شنودة ويتحدث معه ويحاوره ويمزح معه، وكان له رأى لافت للنظر فى مسألة الخروج على الحاكم فكان يقول إن طاعة أولى الأمر من باطن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، فإن عصى الحاكم الله فلا طاعة له، وكان للإمام رأى مخالف أيضا لما ذهب إليه الوهابيون فى مسألة أن أبوى الرسول فى النار، فأكد خطأ هذا الحديث قائلا إن الرسول قال إنه خيار من خيار، وفسر قصة سيدنا إبراهيم وأبيه قائلا إن الموجود فى القصة ليس أباه وإنما عمه، لأن أبا إبراهيم هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن غير المعقول أن يكون للرسول جد فى النار والقائل إنه خيار من خيار، وبرغم أن الإمام كان دائم الاحترام لكل شيوخ الإسلام ومذاهبهم لكن هذا لم يمنع أحد أكبر شيوخ الوهابية من التجرؤ عليه قائلا إنه منحرف عن العقيدة «الشعرواى» ما يدل على وجود نية مؤكدة من أجل النيل من القامات الإسلامية المصرية وانتهاك لحرمة العلم وعلمائه الأبرار.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
18-08-2012, 10:41 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

وائل السمرى يكتب: لكم دينكم ولنا الإسلام

السبت، 18 أغسطس 2012 - 08:41
s820121883727.jpg
فقهاء التنوير
بقلم وائل السمرى

141.jpg


فى رحلتى مع الفقهاء عرفت أن الإسلام الذى ندين به غير الإسلام الذى يصدرونه لنا، وأيقنت أن هناك حربا حقيقية بين الوهابية المنغلقة والإسلام الرحب

لماذا لم يستخرج لنا العلماء منهجا من فقه الصحابة لنفكر مثلما فكروا لا أن نأخذ ما رأوه مناسبا فى عصرهم ولماذا نحرم أنفسنا من التجديد وهو سنة مؤكدة؟

دعوة إلى الأزهر ووزارة الثقافة إلى عمل مركز إسلامى مستنير باسم الإمام محمد عبده ليخرج لنا أئمة مجددين لا حفظة منغلقين

ذات يوم سألت نفسى: لماذا جعل الله الإسلام هو الدين الخاتم، ولماذا جعل الله نبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم تاج الأنبياء؟ وما أظن أن هذه الحلقات الثلاثين إلا إجابة عن هذا السؤال.

نعم، كانت هذه الحلقات التى توغلنا فيها فى عمق الفقه الإسلامى وفى تاريخ الإسلام ومذاهبه وأعلامه المجددين الصالحين الأبرار، إجابة عن هذا السؤال، فقد انفرد هذا الدين بخصائص لم تتيسر لغيره جعلته الدين الخاتم وجعلت من التطور سنة مؤكدة، ومن السؤال بداية للاجتهاد، ومن الاجتهاد آلية دائمة تضمن ضخ الدماء الجديدة فى أوردة الفقه الإسلامى فيتجدد شباب الإسلام بآراء الصالحين والأعلام، وسبحان من جعل اسم العلم الموكل إليه البت فى أمور المسلمين ومستجداتهم هو «الفقه» والفقه فى اللغة يعنى الفهم، ويقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «من يرد الله به خيرا يفقه فى الدين»، أى يفهمه أموره ودقائقه وتفاصيله وأحكامه، ولا يتيسر الفهم إلا بالعقل وإقامة الحجة والإتيان بالبرهان، فمن أبرز منجزات الإسلام أنه بلا كهنوت ولا وصاية، يخاطب العقل وحده فيزداد الواحد اقتناعا به، يخاطب أحرارا لا يفعلون إلا ما يعتقدون، ولا يقتنعون إلا بما يوافق المنطق ويسلم به العقل دون إجبار أو ترهيب أو تفزيع بما وراء العقل وما يجافى المنطق، وليس أدل على أن الإسلام بحاجة دائمة إلى من يتفقه فى أمره كل حين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، فسبحان من جعل تجديد الدين سنة من سننه، وسبحان من أخرس حجج المتنطعين الذين يريدون أن يغلقوا علينا عقولنا بحديث صحيح واضح المعنى جلى الألفاظ، يجزم بضرورة التجديد على أيدى رجال الفقه أو إن شئت قل رجال الفهم، لا رجال الحفظ والتلقين والانغلاق.

تلك سنة رسول الله التى كفلت لنا عدم التمزق بين الدين والحياة، ورفعت عنا الحرج فى الدنيا والآخرة، وهذا ما وعاه الصحابة الأجلاء ونفذوه، لكن يبدو أن هنالك من لا يريد أن يقتنع بتلك السنة، ومن لا يريد أن يتصالح الدين مع الدنيا ليبقى المسلمون منفصلين عن واقعهم شاعرين بأن كل ما يفعلونه فى دنياهم إثم أو ذنب، فيهرعون إلى كهنة الدين الجدد الذين يتسلطون على رقاب العباد ويتشددون فى أمور الدين حتى يثبتوا لمن يسألهم أنهم من دونهم عصاة مجرمون مذنبون، ولا يعدم الواحد منهم من ذكر بعض الآيات أو الأحاديث لتأييد وجهة نظره التى يقطعها من سياقها ويحذف عنها سبب نزولها ويفصلها عن غيرها من الآيات والأحاديث حتى يهيمن على أدمغة السائلين، ويوهمهم بأن نصوص الدين تأمرهم بفعل كذا أو كذا ويتناسى أن الله جل وعلا لم يقصد من شريعته إلا جلب الخير كله وإبعاد الشر كله، ولم يقصد بها أبدا أن يعذب عباده بها فى الدنيا والآخرة، ولك أن تقارن بين موقف الذين يدّعون أنهم يتحدثون باسم الله ولا ينطقون عن الهوى، وواحد مثل الإمام المراغى الذى أسهم بمجهوداته فى إعلاء كلمة الإسلام ورد الشبهات عنه وتطوير الأزهر وهو بيت الإسلام الأكبر حينما قال للجنة وضع القوانين فى عشرينيات القرن الماضى: ضعوا ما ترونه فى مصلحة المسلمين من قوانين ومواد وسآتى لكم من الشريعة بدليل على صحته، ولو كان هناك من يرى فى جملة المراغى تلك عيبا فليس هذا إلا لمرض فى نفسه، فما قال المراغى هذا وهو الذى صاح فى الملك فاروق قائلا إن المراغى لا حرم ما أحله الله إلا ليقينه من أن الله رحيم بعباده، ويقينه من أن الإسلام صالح فى كل زمان ومكان، وأن أعلامه المجددين اجتهدوا ليجعلوا الحياة فى ظل الإسلام «حياة» لا موات.

وما دمنا قد تطرقنا إلى الإمام المراغى فلا بد لنا من وقفة عند هذا الرجل العالم المعلم الذى أسهم بعلمه وتفقهه فى أن يستنهض الدين من ضيق الشروح والحواشى وحواشى الحواشى إلى الفضاء الأرحب، داعيا إلى أن يحفظ الفقهاء قوله تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» و«ما جعل عليكم فى الدين من حرج» قائلا: «يجب أن يسيطر هذان النصان سيطرة تامة على جميع أمور التشريع الإسلامى، فإذا ما وجدنا أن النصوص الخاصة ببعض الأمور يوقع فى الحرج أو يحدث الضرر فيجب أو تقف النصوص الخاصة عن عملها فى تلك المواطن، وأن يعمل بالنص العام القاطع الموجب لنفى الحرج» فلننظر إلى هذه الدعوة الكريمة التى أراد بها الإمام أن يطلق عنان الاجتهاد فى إطار شرعى من الدين الخاتم الذى لا يعادى عصرا ولا يقتل علما ولا يقوض حلما.

ما أحوجنا الآن إلى التشبث بالقيم التى زرعها فقهاء التنوير الذين تناولناهم فى الحلقات الثلاثين فى جسد حضارتنا الإسلامية، ما أحوجنا الآن إلى كل هؤلاء مجتمعين فى واحد أو فى مؤسسة أو فريق، وللحق فقد زادتنى هذه الحلقات خبرة وعلما، فأنا لا أدعى أنى عالم فقه أو خبير تاريخ أو مرجع أو حجة فى شىء من هذا، وما أنا إلا تلميذ طلبت العلم فوجدته متحققا فى هؤلاء، وللحق أيضا فقد حرمتنى محدودية أيام رمضان التى شهدت هذه الحلقات فحصرتها فى ثلاثين حلقة فقط من أن أتناول أعلاما لا يقلون أهمية وتجديدا من هؤلاء الذين ذكرتهم، فرغما عنى والتزاما بالحلقات الثلاثين اضطررت إلى استبعاد الكثير من الأسماء مثل الصحابى ابن مسعود، الإمام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والإمام الشوكانى، والإمام الجوينى، والعالم محمد البهى، والفقيه مصطفى الزرقا، والشيخ يوسف القرضاوى، والمجدد معروف الدواليبى، والإمام عبدالحليم محمود، والإمام محمد الغزالى، وغيرهم كثير من رموز حضارتنا مجددو إسلامنا، ولقد لاحظت من واقع خبرتى المحدودة أثناء العمل على إنجاز هذه الحلقات افتقارنا إلى الدراسات الفقهية الجادة، ولاحظت أيضا أننا واقعون ما بين فقه مضى وهو كثير ولكن بحاجة إلى مراجعة وتجديد، وفقه محدث وهو قليل جدا ويكاد ينحصر فى بعض الأسماء التى تعد على أصابع اليدين، فما أشقانا ونحن نتحدث عن الشريعة الإسلامية ليل نهار أن يكون هذا هو حالنا وحال فقهنا.

من الملاحظات أيضا أننى وجدت تجاهلا لا أعرف سببه لما يمكن أن نطلق عليه «فقه الصحابة» وأعتقد أنه من الواجب الآن أن ندرس بشىء من التفصيل الفقه العمرى «نسبة لعمر بن الخطاب، والفقه العلوى «نسبة لعلى بن أبى طالب» والفقه المسعودى «نسبة لعبدالله بن مسعود» والفقه العثمانى «نسبة لعثمان بن عفان»، لنعرف كيف كان هؤلاء العظماء يفكرون فى ما استجد من أمور، على أن ينصب اهتمامنا إلى الكيفية التى كانوا يفكرون بها والآلية التى كانوا ينتهجونها ليستخرجوا الأحكام، وهى الدعوة التى أشار إليها من بعيد الإمام محمد أبو زهرة فى مقدمة كتابه «محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية» حيث قال إنه من الصحابة من اشتهر بالرأى والقياس مثل عبدالله بن مسعود، وعلى بن أبى طالب مع أخذهما أحيانا بالمصلحة، ومنهم من أفتى بالمصلحة ذاتها مثل عمر بن الخطاب بل كان يقول لأبى موسى الأشعرى «الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدر مما ليس فى كتاب أو سنة، اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك» هذا فى شؤون الشرع أمام فى شؤون الدنيا لدراسة فقهه أهمية بالغة وهو المؤسس الفعلى للدولة الإسلامية، فقد رأيناه يتعامل بالنقود المصورة من الأمم الأخرى والتى تجسد ملوك الروم والفرس وتحمل العديد من الرموز الدينية والوثنية بلا أدنى حرج، ورأيناه يأخذ نظام الدواوين من فارس وبه يرسم نظم الحكم فى بلاد الإسلام بلا أى حرج أيضا، كما لو كان يرد على من يدعون أن الديمقراطية كفر وأن اتخاذ الأمثلة الناجحة من الدول الأخرى ارتداد عن الدين، فهل كان عمر بن الخطاب كافرا هو يستعير تلك الأنظمة من بلاد الكفر، أم أن ما يقولونه فى حاجة إلى ضبط وإصلاح وتهذيب؟
هنا تجدر الإشارة إلى ابتعاد تلك الطائفة عن أصول الدين وعقائده، وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه لم يخل عصر من مثل هؤلاء، فقد رأينا كيف استشهد الإمام على على يد أحمق جاهل حسب أنه يتقرب إلى الله بقتل الإمام المكرم من فوق سبع سماوات، رأينا كيف قتل الإمام زيد بن على زين العابدين على يد الطاغية الأموى هشام بن عبدالملك، ورأينا كيف عذب الإمام أبو حنيفة وأوذى لثباته على الحق وحرصه على التجديد وتحدى الملك الذى كان يريد أن يتزوج خلاف زوجته فلم يرض بذلك، كما رأينا كيف سجن الإمام مالك لأنه قال رأيا، ورأينا كيف قتل الإمام الشافعى كما قال ياقوت الحموى فى معجم البلدان من الحمقى أتابع مالك لأنه خالف إمامهم، ورأينا كيف عذب الإمام أحمد وسجن فى محنة خلق القرآن وكيف تقولوا على الإمام ابن حزم وأحرقوا له كتبه، وكيف تطاولوا على الإمام أبوحامد الغزالى وكفروه وهو الذى أحيا علوم الدين، ورأينا كيف نفوا العز بن عبدالسلام وعذبوه وآذوه لأنه لم يسر مع السائرين، ورأينا كيف كفروا الطهطاوى الأفغانى وعبده وكيف تجرؤوا على الإمام محمود شلتوت والمراغى وعبد المتعال الصعيدى وكيف قتلوا عبدالرحمن الكواكبى بالسم دون رحمة وكيف تجرأ الجهال على الإمام محمد أبوزهرة بسب رأيه فى حد الرجم وكيف تجرؤوا أيضا على الباقورى لأنه اتبع التيسير والسماحة منهحا وكيف تسممت ألسنتهم واسودت قلوبهم فرمى أحد أكبر شيوخ الوهابية المنحلة الشيخ الشعرواى بالانحراف، وكأن قدر كل مصلح ومجدد أن يتم اتهامه بما ليس فيه، تأكيدا للقول «الناس أعداء ما جهلوا» فطبيعى أن يصير حملة العلم شوكة فى ظهر الجهال والمنافقين.

هنا لابد لنا من وقفة عند أمر فى غاية الأهمية، وهو أنه من الملاحظ أن الفقه الإسلامى مدرسته المصرية المتسامحة الرحبة أصبح عدوا بينا للوهابية ومرتزقيها، فما من عالم مصرى ملتزم مستنير إلا وستجده على صليبة مدفع الوهابيين، يكفرون الإمام محمد الغزالى ويتطاولون على الإمام شلتوت، بل وصل الأمر بأحد علماء الوهابية وهو المسمى بصالح الفوزان إلى رمى إمام الفقهاء الملقب بأفقه أهل الأرض «محمد أبوزهرة» بالجهل والحقد والتطفل على العلم وأخذ يبث سمومه فى مقالاته متطاولا على من شهد له جميع فقهاء عصره والعصور اللاحقة بالريادة فى العلم والفقه، كما وصل الأمر بأحد هؤلاء إلى أن يؤلف كتابا قال مؤلفه فى عنوانه أن يوسف القرضاوى «كلب عاوى» وما هذا العداء الواضح الذى يتخذ من أحقر الخصال منهجا إلا عداء لدور مصر الإسلامى السامق، وأعلامها الرواد وهو ما يجب أن ننتبه مدافعين عن أئمة التنوير ضد رؤوس الفتنة والتكفير، الذين يكيلون للإسلام اتهامات بشعة بدعوى الحفاظ عليه وما هم إلا يحافظون على سطوتهم وملكهم ونفوذهم وأموالهم.

شىء غاية فى الأهمية لاحظته أثناء إعدادى لهذه الحلقات وهو أنه كلما سار بنا الزمان أصبحنا أكثر تشددا وما تشددنا إلا لأننا منهزمون داخليا وخارجيا فالإنسان لا يكون فى أكثر حالاته عصبية وتشددا إلا حينما تحل به الهزيمة وينزل منه الضعف، ولعله من الواجب الآن أن ننزع عن أنفسها أقنعة المنهزمين وأن ننظر إلى ديننا بلا ريبة أو خشية، ويجب أيضا أن ننزع عنا التمذهب والتعصب وآفة عدم الخروج عن تعاليم المذهب الواحد التى يتشدد فيها البعض حتى يحسب الواحد أن كل مذهب دين جديد من يخرج عنه يكفر، كما يجب علينا أن ننظر بعين الفحص والمراجعة لما قال عنه الإمام محمود شلتوت «أحاديث الآحاد» التى قال إنه لا يصح أن نحكم بها أو أن نحتكم إليها فى أمور التشريع والعقيدة، كما يجب علينا أن ننظر إلى الطنطنة باسم الإجماع، لأنه معيار زمنى متغير، فما أجمع عليه الصحابة بعد وفاة الرسول غير ما أجمعوا عليه أيام الرسول، ولننظر مثلا إلى حد الخمر لنعرف كيف كان اجتهاد الصحابة نابعا فى الأساس من الواقع، فالرسول كان يضرب شارب الخمر أربعين ضربة بالنعال أو بالجريد، فالغرض الأساسى من العقوبة هو التشديد على الـتأثيم، لكن هذا الحد تغير بعد ذلك حتى جعله الإمام على ثمانين ضربة، وجعله عمر بن الخطاب بالسوط بدلا من الجريد أو النعال، وذلك لأنهم رأوا أن الظاهرة تفشت فى المجتمع حتى أن بعض الصحابة كانوا يعاقرون الخمر مثل قدامة بن مظعون الذى كان من أهل بدر وممن شهدوا الهجرتين، ولذلك كان التشديد بالمخالفة لظاهر السنة واجبا، لأن السنة الحقيقية هى فى العمل على تجريم شرب الخمر لبتر هذه الظاهرة من المجتمع أو تقليلها بصرف النظر عن طريقة معالجة هذا الأمر، وما يجوز فى التشديد يجوز أيضا فى التخفيف، ومن هناك يجب أن ندرس الآلية التى كان يفكر بها الصحابة والأئمة المجددون لا أن نتوقف عند نتيجة ما توصلوا إليه بهذه الآلية، وتمسكنا بظاهر النص وليس بحكمته، وحاولنا بقدر الإمكان أن نبطل عمل العقل فى الشريعة وأجهدنا عقولنا فى إثبات ذلك غير مدركين أن إعمال العقل فى إبطال العقل اعتراف ضمنى بأهمية أعمال العقل فى الدين وضرورته.

بقى أن نستعرض أهم ما أثارته هذه الحلقات من ردود أفعال وأهم ما واجهته من اعتراضات، والتى أظن أن مناقشتها واجبة عملا بمبدأ الرأى والرأى الآخر، خاصة أن حلقتى الإمام أحمد ابن حنبل والإمام محمد أبو زهرة قد نالتا قدرا كبيرا من الاهتمام والجدل لما فيهما من اشتباكات أرى أنها من الأهمية بمكان، لكن نظرا لضيق المساحة أؤجل الحديث فى هذا الأمر لوقت آخر لإعطاء الآراء المعارضة حقها فى العرض والمداولة، وفى هذا السياق أورد فى نهاية الصفحة بعض المراجع التى استعنت بها فى هذه الحلقات حتى يستزيد من أراد الاستزادة، ولأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، أتوجه فى هذا المقام بالشكر للزميل والصديق خالد صلاح على رعايته بهذه الحلقات واهتمامه بها وحماسه لها والعمل على وضعها فى المقام المناسب، كما يسعدنى أن أشكر أستاذى الغالى جمال العاصى وصديقى الناقد أحمد حسن والشاعر محمد طلبة والناقد حاتم حافظ على اهتمامهم البالغ بهذه الحلقات ومتابعتهم لها وتناولها بالنقد المستمر وعدم البخل بإسداء العون والنصيحة والاهتمام.
ولعل آخر ما أود أن أشير إليه هنا هى دعوة الإمام المراغى التى رأيت فيها قدرا كبيرا من الإيجاز والفعالية لم يرد أن يتبنى منهجا جديدا فى العمل على تجديد الفقه الإسلامى فقد قال الإمام: يجب أن يدرس الفقه الإسلامى دراسة خالية من التعصب لأى مذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام والمجمع عليها، والنظر فى الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف، وأمزجة الأمم المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء كما يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من العقائد والعبادات والأحكام بما هو موجود فى الدين الإسلامى، ليظهر للناس يسره وقوته وامتيازه عن غيره فى مواطن الاختلاف» كما دعا الإمام إلى وجوب دراسة كل فرقة إسلامية وظروف نشأتها والعوامل السياسية التى تحكمت فيها، بحيث يخرج الإسلام نقيا من حروب الفتنة والتقول على الدين بالزج فيه بما ليس فيه، بناء على رغبة سلطان أو زلل عالم، لكن للأسف ذهبت تلك الدعوة هباء ولم تجد من يتصدى لها بشكل جماعى ليتحصن من غوغائية العامة أو مزايدة المزايدين المدعين، وما أحوجنا الآن إلى جعل هذه الدعوة نبراسا للاهتداء بنور الإسلام ودفع الشبهات عنه ممن يحتكرون الحديث باسمه، وإنى لأنتهز هذه الفرصة الطيبة لأوجه الحديث إلى كل من وزارة الثقافة التى نسيت طوال عهود مضت ما للإسلام من دور كبير فى «الثقافة» وإلى الجامع الأزهر الذى غاب عن مكانه زمنا طويلا فاحتل مقعده شرار الناس وأرذلهم إلى تبنى دعوة الإمام المراغى بأن ننشئ جيلا من المحققين والفقهاء والدارسين لدقائق الفقه والتاريخ والأديان والمذاهب، وكم أتمنى من هذين الكيانين الكبيرين أن يعملا سويا من أجل إنشاء مركز إسلامى ثقافى حضارى كبير يخرج لنا أئمة مستنيرين يتخذون من المنهج العلمى سبيلا ومن القرآن والسنة هاديا ومن إرثنا كله مؤونة وذخيرة للعمل من أجل استكمال مدرسة الإمام محمد عبده والمراغى وشلتوت وأبو زهرة والباقورى والشعرواى ليظل الإسلام محتفظا بسنة التجديد التى طالب بها نبى الإسلام، ولكى لا يفرض علينا أحد رأيه القاصر أو فهمه المنغلق، ولا أتخيل أن يحمل هذا المركز الحلم سوى اسم الإمام محمد عبده الذى يدين له الجميع بالفضل، والذى يقدم لنا صيغة مكتملة للإسلام ومنهجه غير مبتورة عن سياقه ولا مقتطعة من تاريخه ولا منفصلة عن واقعه، الإسلام الحق الإسلام كما أنزل من عند الله وليس دينهم المبتور المشوه.

قائمة بأهم المراجع التى استعان بها الكاتب

القرآن الكريم
مسند الإمام أحمد بن حنبل
الدعوة إلى الإسلام - محمد أبوزهرة
ابن تيمية حياته وعصره وآراؤه وكتبه - محمد أبوزهرة
أصول الفقه - محمد أبوزهرة
أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام - الطاهر بن عاشور
الإمام أبوحنيفة - محمد أبوزهرة
الإمام أحمد بن حنبل - محمد أبوزهرة
الإمام الشافعى - محمد أبوزهرة
الإمام مالك - محمد أبوزهرة
الأئمة التسعة - عبدالرحمن الشرقاوى
الإمام زيد - محمد أبوزهرة
العقوبة - محمد أبوزهرة
المجتمع الإنسانى فى ظل الإسلام - محمد أبوزهرة
فقه الإمام أحمد بن حنبل - محمد أبوزهرة
محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية - محمد أبوزهرة
المجتهدون فى التشريع - محمد رجب بيومى
الاجتهاد - محمد مصطفى المراغى
الحرية الدينية فى الإسلام - عبدالمتعال الصعيدى
لماذا أنا مسلم - عبدالمتعال الصعيدى
محاضرات فى تاريخ المذاهب الفقهية - محمد أبوزهرة
القضايا الكبرى فى الإسلام - عبدالمتعال الصعيدى
اشتراكية الإسلام - مصطفى السباعى
هكذا علمتنى الحياة - مصطفى السباعى
السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى - مصطفى السباعى
من روائع حضارتنا - مصطفى السباعى
ابن حزم الأندلسى - زكريا إبراهيم
ابن حزم الأندلسى «عصره تمركزه وفكره التربوى» - حسان محمد حسان
طاهرة بن حزم - أنور الزغبى
أبوحامد الغزالى.. المفكر الثائر - الصادق عرجون
الإمام الغزالى بين ناقديه ومادحيه - يوسف القرضاوى
الإمام الغزالى مجدد المائة الخامسة - صالح أحمد الشامى
الإمام الغزالى وعلاقة اليقين بالعقل - إبراهيم الفيومى
التربية والسياسة عند أبوحامد الغزالى - أحمد عرفات القاضى
صفوة إحياء الغزالى - محمود على قراعة
نظرات فى فكر الغزالى - عامر النجار
زعماء الإصلاح فى العصر الحديث - أحمد أمين
ثائر تحت العمامة - نعم الباز
الاجتهاد فى الإسلام - مصطفى المراغى
الزمالة الإنسانية - مصطفى المراغى
الشاطبى ومقاصد الشريعة - حمادى العبيدى
القواعد الإسلامية عند الشاطبى - الجناينى المرينى
نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبى - أحمد الريونى
مقاصد الشريعة - عبدالرحمن يوسف
الاعتصام - الشاطبى
العز بن عبدالسلام «حياته وآثاره ومنهجه فى التفسير» - إبراهيم الوهيبى
كتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز - العز بن عبدالسلام
الموردى وفكره السياسى - خلف الجراد
أدب الدين والدنيا - المواردى
الفكر السياسى عند المواردى - صالح عثمان
الأحكام السلفية - المواردى
القضاء والقدر - جمال الدين الأفغانى
جمال الدين الأفعانى - على شلش
جمال الدين الأفغانى وإشكاليات العصر - مجدى عبدالحافظ
منهج الأفغانى ودفاعه عن الإسلام - زاهد روسان
حسن العطار - محمد عبدالغنى
الجذور الإسلامية للرأسمالية - بيتر جران
الدولة والخلافة فى الخطاب العربى - رشيد رضا وعلى عبدالرازق
الفقه المقاصدى عند رشيد رضا - منوبه برهانى
رشيد رضا الإمام المجاهد - إبراهيم العدوى
رشيد رضا والخطاب الإسلامى المعتدل - سمير أبوحمدان
لماذا تأخر المسلمون - شكيب أرسلان
فتاوى رشيد رضا - صلاح الدين المنجد
حقوق النساء فى الإسلام - رشيد رضا
الإسلام والعقل - عبدالحليم محمود
دفاعا عن العقيدة والشريعة - محمد الغزالى
السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث - محمد الغزالى
التوحيد الأدبى للعبادات - عبدالمتعال الصعيدى
الخلافة الإسلامية فى عهد الخلفاء الراشدين - عبدالمتعال الصعيدى
محمد عبده رائد الفكر المصرى - عثمان أمين
عبقرى الإصلاح محمد عبده - عباس محمود العقاد
الإمام محمد عبده - محمد الجوادى
الأعمال الكاملة لمحمد عبده محمد عمارة
رفاعة الطهاوى رائد التنوير محمد عمارة
من توجيهات الإسلام محمود شلتوت
الفتاوى محمود شلتوت
الإسلام عقيدة وشريعة محمود شلتوت
المفكر الإسلامى مصطفى عبدالرازق عبدالفتاح المغربى
من آثار مصطفى عبدالرازق على عبدالرازق
مقدمة طه حسين
موسى بن ميمون - ترجمة مصطفى عبدالرازق
الفقهاء والخلافة فى العصر الأموى - حسين عطوان
الليث بن سعد - عبدالحليم محمود
النهضة الإسلامية فى سير أعلامها المعاصرين - رجب البيومى
تجديد الفقه الإسلامى - جمال عطية ووهبة الزحيلى
عبقرية الإمام - عباس محمود العقاد
عبقرية عمر - عباس محمود العقاد
تجديد الفكر الدينى - محمد إقبال
المدخل الفقهى العام - مصطفى الزرقا
الفقه الإسلامى ومدارسه - مصطفى الزرقا
عرفت الشعراوى - محمود جامع
مائة سؤال وجواب - محمد متولى الشعرواى وغيرهم


lastfokaha22012.jpg
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
14-05-2014, 04:05 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,782

icon1.gif

أبو حنيفة النعمان.. واجه السلطة ومات مسموما في سجونها.. وصلى الناس على قبره 20 يوما
الخميس 26 يوليو 2012 - 12:12 م عبد الوهاب عيسى رمضان جانا
d4u2ye6v.jpg
خير الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر

إذا كان أَعْظَمُ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، كما روى الترمذى عن نبينا الكريم، فإن الإمام أبو حنيفة النعمان هو أعظم المجاهدين في التاريخ الإسلامى، فقد عايش الإمامُ أبو حنيفة أبغى الملوك والممالك وصدح بما رآه حقا، عاش الإمام أبو حنيفة اثنين وخمسين عامًا من حياته فى العصر الأموى وثمانية عشر عامًا فى العصر العباسى، أدرك فيها الدولة الأموية فى قوتها وعنفوانها، وكان لا يرى أى شرعية لها، ثم فى تحدرها وانهيارها، وأدرك الدولة العباسية وهى دعاية سرية تجوس خلال الديار الفارسية، وأيدها كرهًا فى بنى أمية، ثم أدركها، وهى حركة تغالب الأمويين وتنزع الملك من أيديهم ثم تحمل الناس عليه بالرغبة والرهب كما يقول الإمام أبو زهرة، لقد صدم الإمام أبو حنيفة فى العباسيين، فقد أيدهم ليرفعوا ظلم الأمويين وبطشهم وتجبرهم فكانوا أنكى وأضل سبيلا.



لذلك تحول الإمام إلى عشقه القديم، إلى تأييد العلويين، يروى البزازى فى المناقب أنه حين خرج زيد بن علىٍّ على هشام بن عبد الملك عام 112هـ قال أبو حنيفة: «ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر. فسئل لمَ تخلفت عنه فقال: حبسنى عنه ودائع الناس عرضتها على ابن أبى ليلى فلم يقبل فخفت أن أموت مجهلا». لقد كان أبو حنيفة من أهم مصادر الشرعية لثورات العلويين، بينما كان فقهاء السلطان يكفرون من يسىء إلى بنى أمية بالكلام. وقد أرسل أبو حنيفة إلى زيد معتذرا عن عدم المشاركة معه «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لخرجت معه، لأنه إمام حق ولكن أعينه بمالى»، وأرسل إليه بعشرة آلاف درهم، مع رسول وقال له ابسط عذرى له.



يقول الزمخشرى فى الكشاف: «وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سرا بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، كالدوانيقى وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابنى عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتنى مكان ابنك».



ولقد تعددت خروجات آل البيت اعتراضا على حكم العباسيين، وقد أيد أبو حنيفة كل ثوراتهم، إلا أن كل ثوراتهم قوبلت بالعنف العباسى والدموية والنهاية المأساوية للعلويين، وحين تلاشى أمل التغيير بتأييد الثورات بدأ أبو حنيفة فى إعلان عدم الاعتراف بشرعية العباسيين، فرفض التعاون معهم بأى شكل يروى الزمخشرى «كان أبو حنيفة يقول فى المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادونى على عدّ آجره لما فعلت». وحين علم النظام بذلك أخذوا يدعونه إلى المناصب المختلفة وهو يرفض تمام الرفض دعوة لبيت المال ثم للقضاء ثم لحمل خاتم الدولة، وأن لا ينفذ أى قرار إلا بإذنه، كل ذلك وأبو حنيفة يرفض ويجلد ويتعذب فى صبر وثبات على المبدأ.



لكن ما كان يفتّ فى عضده ويحزنه غاية الحزن هو كلام علماء السلطة فيه، فقد أخذوا يهاجمونه ويطعنون فى علمه ودينه، ووصلت بهم الحال إلى أن أغروا به السفهاء والعوام يسيرون خلفه سابين مهينين، والإمام لا يرد، وحين زاد هجوم عدوه اللدود عليه قال فى أسى «إن ابن أبى ليلى ليستحل منى ما لا أستحله من حيوان»، إنها عبارة تنبئ عن قدر المرارة التى كان يشعرها الإمام من إساءات فقيه الأمويين ابن أبى ليلى، لقد كانت انتقادات بعضهم لأبى حنيفة إدانة كبيرة للمنتقد.



يروى الخطيب البغدادى فى «تاريخ بغداد» عن ابن عيينة يقول: «لم يزل أمر الناس معتدلا حتى ظهر أبو حنيفة بالكوفة، فنظرنا، فوجدناه من أبناء سبايا الأمم»، إن وجه النقد ليس لعلم أو دين وإنما لأنه من الموالى (المسلمون من غير العرب) إنها عنصرية فجة من رجل محسوب على العلم.



لقد كان فقهاء السلطان يخشون فقدان مكانتهم عند الأسياد، وقد بدؤوا بالفعل يفقدونها أمام هذا الفقيه المفكر. يروى المكى: «أنه حين أراد ابن هبيرة أن يكتب بينه وبين الخوارج عهدا بالصلح قال لابن أبى ليلى وابن شبرمة، اكتباه فكتباه فلم يرضه ابن هبيرة، فقيل له إن بالكوفة رجلا نظارا فى مثل هذه الأمور، قال فبعث إليه، فلما صار إليه دفع الكتاب إليه فلم يرضه أبو حنيفة، وقال كله خطأ إلا ما ذكر من أسماء الله تعالى، فقال له ابن هبيرة فاكتبه فكتبه فأعجبه، فكان ذلك أول يوم فضل فيه أبو حنيفة على ابن ابى ليلى وابن شبرمة».



إن الروايات لتوضح أن حالة من الصَّغَار كانت تنتاب فقهاء عصره أمامه. يروى المكى «ضرب أبو حنيفة فى السجن ضربا شديدا، وكانوا قد أمروا بذلك، وكان ابن أبى ليلى وابن شبرمة فى المسجد فأُخبرا بذلك فأظهر ابن أبى ليلى الشماتة، فقال ابن شبرمة ما أدرى ما تقول، هذا الرجل أشفق على نفسه منى ومنك على أنفسنا، فنحن نطلب الدنيا وهو يُضرب كى يأخذها فيأبى».



وحين خرج إبراهيم بن عبد الله بالبصرة يدعى لنفسه الخلافة بلغ المنصور أن أبا حنيفة والأعمش كتبا إليه، فكتب على لسان إبراهيم كتابا وأرسله إلى أبى حنيفة فأخذ الكتاب وقبله، فقرر المنصور التخلص من أبى حنيفة ولكن كيف يمكنه ذلك؟ فلجأ إلى الحيلة القديمة، عرض عليه المنصور أن يوليه القضاء ويخرج القضاة من تحت يده إلى جميع البلدان الإسلامية، عرض ذلك وهو يعلم تماما أنه سيرفض، وحين رفض بالفعل هدده بالحبس فأصر على الإباء فحبسه، وكان يخرجه كل يوم فينادى عليه ويجتمع الناس ويضربه عشرة أسواط، ويطوف به فى السوق، وظل على ذلك حتى ضرب مئة وعشرين سوطا، وفى اليوم الأخير كما يروى المكى دفع إليه قدحا ليشربه فأبَى، وقال لا أشرب لأنى أعلم ما فيه، ولا أعين على قتل نفسى، فطرحوه أرضا وصبوه فى فيه، فاخضر وجهه من السم، فجاء إلى المنزل فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.



ولما مات نودى فى الناس بموته فازدحموا عليه حتى امتلأت المدينة من بابها إلى بابها الآخر. يقول الراوى فلم نقدر على دفنه إلا بعد العصر من الزحام، وجاء المنصور فصلى على قبره ومكث الناس يصلون على قبره عشرين يوما، ويروى المكى أن رجلا من المحدثين كان يقع فى الإمام فقيل له إنه أفضل أهل زمانه فلا تقع فيه، فمات ذلك المحدث فما صلى عليه سوى ثمانية أنفس، بينما صلى على أبى حنيفة خمسون ألفا.



لقد كان اغتيال هذا الفقيه المفكر النبيل بسُمِّ المنصور أهون بكثير من اغتياله الثانى الذى تم على يد محدِّثى عصره، فقد شنوا عليه حربا ضارية، فبعد وفاة الجسد لا بد أن يموت فكره وفقهه، فوجدنا كتب المحدثين وقد مُلئت حقدا وغلا وكراهية للرجل فقد خالفهم، وعقوبة من يخالفهم دائما الإقصاء والتشويه.



ولنر نماذج للتشويه والتدليس والحقد والغل والحسد من المحدثين (السلفيين الآن) تجاه أبى حنيفة، يروى الحافظ البغدادى وأغلب الروايات القادمة منه عن محمد بن شجاع بن الثلجى قال: قال أبو حنيفة: «لما أردت طلب العلم جعلت أتخير بين العلوم وأسأل عن عواقبها، فقيل لى تعلم القرآن، فقلت إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس فى المسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك فى الحفظ، فتذهب رياستك، قلت فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن فى الدنيا أحفظ منى، قالوا إذا كبرت وضعفت يرمونك بالكذب فيصير عارا عليك.. قلت فإن تعلمت الفقه، قالوا تسأل وتفتى الناس وتطلب للقضاء فلزمت الفقه وتعلمته». إن الرواية لرجل يتاجر بدينه ويبحث عن أى المجالات أربح لهذه التجارة لا لعالم زاهد مثل أبى حنيفة، ومع ذلك فالرواية موضوعة، لأن فيها محمد بن شجاع بن الثلجى، قال ابن عدى: «كان يضع الحديث وينسبه إلى أهل الحديث يثلبهم بذلك»، إن فى سند الرواية كذاب أشِر، ولكن نقلها المحدثون كرها فى أبى حنيفة ولا حول ولا قوة إلا بالله.



ويروون عن إسماعيل بن عيسى بن على قال: قال لى شريك: «كفر أبو حنيفة وزعم أن الصلاة ليست من دين الله»، وهذا والله منتهى الإفك ولا يصدقه عقل على الإطلاق ومع أن الرواية موضوعة، ففيها شريك بن عبد الله «تكلم فيه العلماء كثيرا وضعف يحيى بن سعيد حديثه جدا» إلا أنها مُرِّرت ورويت للتقليل من قدر أبى حنيفة.



ويروون عن ابن أسباط يقول: قال أبو حنيفة: (لو أدركنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولى)، ورغم سخف الرواية وسقوطها فإن راوييها محبوب بن موسى الأنطاكى ويوسف بن أسباط ضعيفان لا يحتج بهما.



إن هذه ليست النهاية فقد رأينا أمويا كبيرا كالإمام الألبانى يضعف أبا حنيفة بناء على هذه الترهات وشبيهاتها، وأمويا آخر متعصبا يصدر كتابا كاملا ليثبت ضعف أبى حنيفة، وعماده فيه حقد أسلافه الذى ورثوه له على أنه دين الله.



وفى الأخير….. ولأن الله لا يصلح عمل المفسدين فقد صار المذهب الحنفى المذهب الرسمى للدولة العباسية التى حاربوه لكسب ودها، بل ولدول كثيرة على مدار التاريخ الإسلامى، وحتى فى زمننا هذا ما من زواج يتم إلا ويباركه ذكر مولانا الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان.
 
أعلى