آه لو أبوكي حضر ويانا * و شاف و سمع الغنه ده معانا....نجيب الريحاني

السيب

Active Member
طاقم الإدارة
20-07-2012, 02:56 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,768

icon1.gif
آه لو أبوكي حضر ويانا * و شاف و سمع الغنه ده معانا....نجيب الريحاني
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
20-07-2012, 03:01 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك : نجيب الريحاني… مملكة الحب 1

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 20, July 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط


لم يكن نجيب الريحاني نفسه، يعرف سر اهتمامه الكبير بفيلم «غزل البنات»، الذي قدم فيه دور «الأستاذ حمام» مدرس اللغة العربية الفقير الذي يعمل في مدرسة خاصة، والتي يطرد منها لضعف شخصيته وطيبة قلبه، ليصبح مدرساً خصوصياً لابنة الباشا، والتي يقع في غرامها، غير أنه يكتم هذا الحب في قلبه، مضحياً بنفسه وحبه وقلبه من أجل إسعادها، وهو ما لخصته أغنية «عاشق الروح» التي قدمها ضمن أحداث الفيلم الموسيقار محمد عبد الوهاب، وبكى على إثرها «حمام أفندي» تأثراً بكلماتها بعدما ضغطت على جرحه الغائر.
اهتم نجيب الريحاني بفيلم «غزل البنات» اهتماماً خاصاً، بداية من حرصه على مشاركة ليلى مراد في فيلم سينمائي، لدرجة أنه هو من بادر وطلب منها مشاركته فيلماً سينمائياً، ثم الجلوس مع شريكه الفني بديع خيري للعمل على القصة التي كتب الفنان أنور وجدي السيناريو والحوار لها، مروراً بمشاركة مخرج ومنتج وبطل الفيلم أنور وجدي، في اختيار الفنانين الذين يشاركون في الفيلم، وحشد له أكبر عدد من عمالقة التمثيل والغناء آنذاك إلى جانب الثلاثي «نجيب وليلى وأنور»، ليضم الفيلم أيضاً يوسف بك وهبي، سليمان بك نجيب، عبد الوارث عسر، محمود المليجي، أستيفان روستي، فريد شوقي، وسعيد أبو بكر، فردوس محمد، وزينات صدقي، كذلك قدم عدداً من الفتيات ككومبارس صامت في أدوار زميلات «ليلى» في الدراسة، منهن داليدا (المطربة العالمية في ما بعد)، هند رستم ونبيلة السيد.
لم يقتصر اهتمام الريحاني على التحضير للفيلم حتى انتهاء تصويره، بل راح، على غير العادة، يتابع مراحل ما بعد التصوير، ولم ينتظر أن تنتهي هذه المراحل ليشاهد الفيلم مكتملاً، بل طلب من مخرجه أنور وجدي أن يشاهد ما انتهى إليه من مونتاج الفيلم بشكل ملح، ما أثار دهشة أنور وجدي:
- أيوه يا أستاذ أنا مستعجل أكتر منك… بس لسه «الدوبلاج» هيخلص بكره… وبعدين فيه كام مشهد كده ناقصين كنا عاوزين نصورهم.
- لا كام مشهد ولا كام سنيه… حلو قوي كده… أنا مش هقدر أعمل أكتر من اللي عملته.
- لا. أنا في عرضك يا أستاذ نجيب. ده مال يتامى… وأنت ميرضكش أخسر.
- أنت تخسر؟! يا سلام على الأونطة بتاعتك يا سي أنور… هشوف الفيلم يعني هشوف الفيلم.
- صدقني يا أستاذ لسه مش هينفع. وبعدين ناقص المزيكا… ومكساج… لسه لسه.
- مزيكة الفيلم ولا الأغنية؟
- الأغنية خلصت خلاص… الأستاذ عبد الوهاب بعت لي أسطوانة الأغنية وركبناها. لكن لسه مزيكة الفيلم.
- مش مهم… خليني بس أشوف اللي خلص… وبعدين ركب المزيكا براحتك… أنا مش هقدر استنى لما يخلص خالص.
- بس أنا بدي أعرف أنت مستعجل ليه؟ أنت مسافر؟
- يمكن يا أخي مين عارف؟!
وكأنه كان يدري أنه على سفر… سفر طويل لن يعود منه، فما كان من أنور إلا أن لبى رغبته، وجلس إلى جواره في حجرة المونتاج في أستوديو مصر يشاهدان معاً النسخة الأولية من فيلم «غزل البنات»…
لم ينتبه أنور وجدي أن الأستاذ يبكي إلا بعدما انتهى الفيلم وأضيئت الأنوار فوجده يمسح دموعه:
- يا نهار أبيض… الأستاذ نجيب الريحاني بذات نفسه بيبكي. يبقى أنا نجحت… أنا كده اطمنت.
- بس يا واد يا أونطجي. هو لازم تشوف دموعي يعني علشان تعرف أنك نجحت… وبعدين دي مش دموع من الفيلم… دي من الخنقة. الأوضه حر ومخنوقة…
- أطلع من دول يا أستاذ حمام… قصدي يا أستاذ نجيب. دموعك دي أنا بعتبرها أكبر جايزة.
- أنت موهوب يا أنور وهيبقالك مستقبل كبير.
على غير العادة في غالبية أعماله، خرج نجيب الريحاني من أستوديو مصر في الثالث من مارس في عام 1949، بعدما شاهد نسخة أولية من فيلمه «غزل البنات»، قبل أن يستكمل مخرجه أنور وجدي، بقية عناصره الفنية، من مونتاج ومكساج ودوبلاج، حيث كان يتم آنذاك عمل الدوبلاج في السينما المصرية لتركيب الصوت على الصورة قبل اختراع الأجهزة الحديثة، ليصبح الفيلم بعد ذلك في صورته النهائية ويكون جاهزاً للعرض، ليرحل الريحاني بعد ثلاثة أشهر من هذا التاريخ، في 8 يونيو 1949!
خرج الريحاني من الأستوديو بعد مشاهدة نسخة الفيلم الأولية، ليتجه فوراً إلى مكتبه في عمارة «الأيموبليا» في شارع شريف بوسط القاهرة، ليجلس يكتب هذه الملاحظة المهمة، ليس حول رأيه في دوره في أحد أفلامه، بل تشمل الملاحظة رأيه في ما قدمه إجمالاً من أفلام على تلك الشاشة الفضية، وكأنه يدون ملاحظة للتاريخ بمقارنة سريعة بين تواجده السينمائي وتواجده المسرحي، وهل استطاعت السينما استيعاب مواهبه كافة وقدراته كفنان، مثلما فعل المسرح أم لا؟ ويكتب هذه السطور للتاريخ:
«هل وفقت في أن أسيطر على الستار الفضي بمثل القوة التي منحتني إياها مواهبي وخبرتي في السيطرة على زمام التمثيل المسرحي؟
أعتقد أنني لم أوفق تماماً… وكثيرون ممن يعرفون الريحاني قد يشاطرونني هذا الشعور.
ولكن… ألم تنل أفلامي قسطاً وافراً من النجاح؟ نعم إنها حازت هذا النجاح، لكن في نظري أنه كان نجاحاً ناقصاً، لأنه لم يظهر تلك الجهود التي بذلتها من صدق العاطفة وحسن الأداء… حتى إنني أحسست أن ضوء الستار الفضي إنما هو كضوء القمر… جميل… ولكن بارد لا حياة فيه.
ثم شاءت الظروف واجتمعنا… وكلنا ممن أخلصوا لفنهم فانسجمنا… واستحال ذلك الضوء الفضي إلى شعاع منعش كله حياة… وكله حرارة… تحقق الحلم المحبب إلى نفسي… الحلم الذي وهبته حياتي… شعرت بوجود عشاق فني أمامي… شعرت بأنني أنفذ بسهولة من وراء الستار فأصل إلى قلوبهم وأصيب مشاعرهم.
هذا ما جال في خاطري عندما شاهدت بعض مناظر من فيلم «غزل البنات» الذي أعده وأخرجه عزيزي أنور… ابني البار الوفي».
نجيب الريحاني
أستوديو مصر 3 مارس 1949
سأل نجيب الريحاني السؤال ولم يترك غيره يجيب عنه، سواء من النقاد أو المحللين أو المؤرخين السينمائيين، بل وضع الإجابة بنفسه، مقيماً، بخبرته وتاريخه وحنكته، تجربته السينمائية ككل، وليس فيلم «غزل البنات» فحسب.
شعر الريحاني بأن السينما لم تعطه ما أعطاه له المسرح، وأن أفلامه السينمائية على رغم أنها لم تكن بجهد وأداء أعماله المسرحية نفسيهما، إلا إنها نالت قسطاً وافراً من النجاح، وعلى رغم اعترافه مثل الكثيرين حوله بنجاحه السينمائي، إلا أنه يعتبر هذا النجاح ناقصاً في نظره، ليس لأنه لم يؤد كما ينبغي ويبذل جهداً في هذا الأفلام، لكن لإحساسه بأن تلك الشاشة الفضية التي شبهها بضوء القمر الساحر، شاشة باردة، بلا إحساس، بلا نبض الجمهور الذي يستمد منه قوته فوق خشبة المسرح، حتى وجد ضالته أخيراً من خلال فيلم «غزل البنات» الذي اجتمع فيه مع أقرانه من عمالقة الفن في عصره، يوسف بك وهبي، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والقيثارة ليلى مراد، والابن البار الوفي، كما وصفه، أنور وجدي… اجتمعوا وانسجموا وأخلصوا، فتحول ضوء الشاشة الفضي البارد إلى شعاع كله حرارة تسرَّب إلى عروق الريحاني فبث فيها الحياة عبر هذا المربع الفضي، فتحقق الحلم الذي طالما حلم به، أن ينفذ من وراء الستار ليصل إلى قلوب عشاق فنه ويصيب مشاعرهم.
عندما جالت في خاطره هذه الكلمات، فسطرها عبر 20 سطراً بخط يده في ورقة صغيرة، لم يكن نجيب الريحاني يدري أنه يلخص تجربته كلها ومسيرته الفنية بكلمات بسيطة صادقة، بعدما أنهى تصوير آخر أفلامه، الذي لم يستطع أن يشاهده مكتملاً بعناصره الفنية كافة في ما بعد، لأنه رحل بعد هذا اللقاء بثلاثة أشهر فقط.
كتب الريحاني هذه الكلمات وكأنه يكتب وثيقة مهمة للتاريخ لمن سيأتي من بعده، ليعبر بصدق عن مدى اتساع «قماشة» قدراته الفنية وما كان يمكن أن يقدمه من خلالها، وكيف تحققت هذه القدرات وأخذت مداها فوق خشبة المسرح التي استمد فوقها دفء مشاعر جمهوره؟ وكيف أن تجربته السينمائية كانت آخذة في النضج والاكتمال عند فيلمه الأخير؟ وربما لو كانت هناك بقية في عمره ربما كان للكوميديا والسينما شأن آخر في وجوده… مثلما حدث مع المسرح في وجوده.
عصر من الكوميديا
لم يكن نجيب الريحاني، سواء في عصره أو حتى في العصر الحالي، مجرد فنان كوميدي وشخصية نادرة فنياً، وفنان مصري أصيل، ترك بصمة واضحة على الكوميديا المصرية، حيث كان يهز المشاعر، يضحك ويبكي من دون افتعال أو تكلف، لكنه كان علامة فارقة ومحطة مهمة في تاريخ الكوميديا المصرية، وحدا فاصلاً لما كان قبله وما جاء بعده، فربما اختار طريقه في الحياة كممثل، غير أنه أبداً لم يختر الشكل الذي قدم به نفسه لجماهيره، فقد سلك الطريق التقليدي لغالبية فناني عصره، ودخل من الباب الأشهر والأكثر اتساعاً وقبولاً، دخل من باب «التراجيديا»، وحاول، بل واجتهد ليكون أحد فناني هذا الفن الأصيل، غير أن الجماهير التي وقف أمامها رأت فيه ما لم يره في نفسه، وجدت فيه ضالتها في البحث عن نموذج لكوميديان العصر، واختارته لهذه المهمة الشاقة، بل والأكثر صعوبة، خصوصاً مع شعب لا يتذوق النكتة بل ينتجها في كل لحظة.
اكتشف الريحاني ذلك، وكان من الشجاعة أن رضخ لاختيار الجمهور، غير أنه أبى أن يكتفي بأن يكون كوميديان عصره، وعمل على أن يكون كوميديان العصور التالية له كلها، فعمل على تطوير الكوميديا المصرية لأكثر من 30 عاماً، منذ أن بدأ عمله الاحترافي في الفن في عام 1908، ابتداء من الفصل المضحك الأقرب إلى الكوميديا المرتجلة، ثم الاستعراض والأوبريت، مروراً بالكوميديا الهزلية التي خصها بمغزى أخلاقي واجتماعي جاد، حتى وصل بها إلى الشكل الأكثر نضجاً من خلال «كوميديا الموقف» التي لا تزال معتمدة إلى يومنا هذا.
لم يهدأ الريحاني طيلة 30 عاماً، هي رحلته مع الفن تقريباً، حتى أصبحت الكوميديا على يده صيغة مصرية خالصة، تعبر بصدق عن المجتمع، ساعده في ذلك عوامل رئيسة مهمة عدة، ربما أهمها وجود تربة خصبة من بيئة مصرية تتعاطى النكتة بسخرية لاذعة، وتتعامل مع الكوميديا باعتبارها جزءاً أصيلاً من حياتها اليومية. إضافة إلى ذلك، ثمة عاملان آخران لا يقلان في أهميتهما هما: موهبته الفطرية كفنان له حضور وكاريزما خاصة، إضافة إلى حظ وافر من الثقافة والاطلاع لم ينقطع عنه حتى رحيله.
فقد قطع نجيب الريحاني في مراحل التعليم شوطاً يعد قصيراً بمقاييس عصرنا الحالي، لكنه يعد كبيراً بمقاييس عصره، غير أنه لم يكتف بالوصول إلى مرحلة «البكالوريا»، ما يعادل الثانوية العامة الآن، ثم حرمانه من استكمالها بسبب ظروف الأسرة الاقتصادية، بل واصل الاطلاع حراً، والتهم الكتب التهاماً في المجالات كافة، وعمل على اتقان عدد من اللغات من بينها الإنكليزية والفرنسية إلى جانب اتقانه العربية، لدرجة أنه أصبح ملماً إلماماً رائعاً بالأدب المسرحي الفرنسي في لغته الأصلية، حتى أصبح هذا الأدب له بمثابة «كنز علي بابا» الذي راح يغترف وينهل منه، ويقوم بهضمه ثم يعيد إنتاجه في ثوبه المصري الخالص، حتى أصبح الريحاني نفسه يشكل المصدر الرئيس للأعمال الكوميدية المصرية في المسرح والسينما، بعدما صار تراثه الفني جزءاً أصيلاً في نسيج الذوق العام في مصر، لأنه استمد عبقريته في الأداء من إنسانيته كجزء من النسيج المصري، فاكتشفته الكوميديا المصرية ونصبت منه عميداً لها.
فلا أحد ينكر أن الكوميديا جزء مهم ومتأصل في تكوين الشعب العربي عموماً، والشعب المصري خصوصاً، فقد اتخذ هذا الشعب من الكوميديا، بل ومن السخرية اللاذعة، حتى من نفسه غالباً، ملاذاً آمناً يلجأ إليه كل وقته، تحديداً عندما تشتد الأمور وتضيق عليه الحياة الخناق، فيفر هارباً إلى الضحك.
فالضحك ظاهرة اجتماعية ولعل هذا ما جعل الشاعر الإنكليزي صمويل جونسون يقول في القرن الثامن عشر: «اختلف الناس في الطريقة التي يعبرون بها عن حكمتهم، لكنهم اتفقوا على الطريقة التي يضحكون بها»، أو كما عبر عنه الضاحك الساخر فولستاف، أحد أشهر الشخصيات الشكسبيرية، عندما قال في مسرحية «هنري الثامن»: «ألا تحبون الدنيا؟ إذن لأستخدمن فني في إقناعكم بأنها هكذا فعلا».
فقد تعددت أشكال الكوميديا منذ بدايات المسرح عند أريستوفانيس التي اتسمت بالبذاءة والصخب، ثم كوميديا العصور الوسطى التي ظهرت ضمن الاحتفالات بالأعياد الدينية والموالد، وما كان يتخللها من فصول هزلية مضحكة وفكر راق، ثم كوميديا الطرقات والشوارع التي نشأت في إيطاليا، كذلك الفانتازيا الكوميدية عند شكسبير، والكوميديا السياسية عند برنارد شو وبريخت وتشيكوف، والكوميديا السوداء عند موليير، لتزدهر الكوميديا القديمة وتعتمد الفكاهة على السلوك الاجتماعي وانحرافاته، وهو ما استمده منها مسرح «خيال الظل» الذي ترك أثراً كبيراً على الكوميديا المصرية، حيث تسرب بعض شخوصه وأساليبه الفنية، إلى الفصول الكوميدية المضحكة التي عرفتها البيئات الشعبية في المدن والريف المصري منذ مجيئه إلى مصر مع الفاطميين في القرن الحادي عشر، كذلك تسربت كوميديا خيال الظل إلى الفن المصري «الأراجوز»، الذي ترك بدوره أثراً عظيماً على الكوميديا المصرية، بتحول الأراجوز من دمية تصنع من الخشب، إلى شخصية إنسانية من لحم ودم، فقد أخذ الكوميديان المصري القديم من «الأراغوز» مكره الشعبي وسلاطة لسانه، وتصلب تعبيرات وجهه، كذلك استبقى صوته ذا الفحيح، وحبه للمسرح، ثم ضعفه الدائم أمام النساء وميله إلى التهريج بالكلمة والحركة والفعل اللاإرادي، أي أنه استعان بروح «الأراغوز» وملامحه الثابتة وبعض تصرفاته، ليضفي طابعاً شعبياً على أدوار متعددة.
(البقية في الحلقة المقبلة)
زخم مسرحي
في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ المسرح في مصر يأخذ شكله التقليدي بعدما أنشأ نابليون بونابرت مسرحاً في الأزبكية للترفيه عن القوات الفرنسية، ثم أنشأت الجالية الإيطالية في ما بعد «تياترو دو لا كايرو»، كذلك قامت مسارح أخرى أوروبية في الإسكندرية، وبينما بنى الخديو إسماعيل دار «الأوبرا المصرية» تأسس مسرح آخر للكوميديا خصيصاً في حديقة الأزبكية في مواجهة «الأوبرا» لتقدم عليه المسرحيات التي مصرها يعقوب صنوع (أبو نضارة) الذي يعد أول من فكر في تمصير الفن المسرحي، إضافة إلى ما قام به المناضل الوطني من تأليف مسرحي، حيث قدم مسرحيتين هما «الوطن» و{العرب» مثلتا في الإسكندرية في أواخر القرن التاسع عشر. كذلك جاء أحمد أبو خليل القباني بعد معاناته في دمشق من التشهير والقهر، وبدأ عمله في الإسكندرية بمسرحية «نكران الجميل» تبعتها بمسرحيات أخرى من تأليف واقتباس غيره أو ترجماتهم، وفي بعض المسرحيات كان يدفع ببعض المطربين في ختامها كما فعل في مسرحية «عنتر العبسي» عام 1884 على مسرح «زيزينيا» حين أطل على الجمهور في نهاية المسرحية المطرب المعروف عبده الحامولي ليقدم إحدى وصلاته الغنائية، حيث كانت المسرحيات فآنذاك تقدم بالعربية الفصحى، يعقبها فصل هزلي ختامي يقدمه بعض الممثلين الكوميديين ارتجالاً، فيتحدثون بالعامية المصرية في مشاهد عصرية ساخرة.
في عام 1886، ألف إسكندر فرح فرقة ضم إليها الشيخ سلامة حجازي، وكان يترجم لها مسرحياتها نجيب وأمين الحداد، وطانيوس عبده، وإلياس فياض، وظلت هذه الفرقة مسيطرة على المسرح المصري مدة 18 سنة حتى تركها الشيخ سلامة حجازي وألف فرقته في عام 1904، ثم بنى «دار التمثيل العربي» على مقربة من حديقة الأزبكية في عام 1907. وكانت هذه الفرقة بمثابة وثبة جديدة للمسرح المصري في عناصره الفنية من تأليف وإخراج ومناظر وملابس.
وفي أوائل القرن العشرين جاءت محاولة جديدة من إسكندر فرح بفرقته، فقدم مسرحيات عصرية خلت من الغناء، فلم يتردد سلامة حجازي في مزاولة تلك التجربة في دار «التمثيل العربي» فقدم مسرحيات غير غنائية مثل «عواطف البنين، النجم الآفل، غادة الكاميليا، وابن الشعب»، غير أن سلامة حجازي وجد أنه من الأفضل أن يترك هذه النوعية من المسرحيات ليتفرغ بجهده وفنه للمسرح الغنائي، فضم وجوهاً جديدة للمسرح الغنائي، على رأسهم سيد درويش وكامل الخلعي وبذل حجازي جهداً كبيراً في هذا الاتجاه.
وسط هذا الزخم الفني للمسرح المصري، وظهور جيل من كبار المسرحيين المصريين، بعضهم دخل من باب الكوميديا، والغالبية من باب التراجيديا، عبر الكثير من الفرق المسرحية، ولد نجم جديد يبشر بعملاق قادم، زحف ليتوغل وينتشر ويسيطر على المسرح الكوميدي المصري.. ولمع اسم نجيب الريحاني إلى جانب عمالقة سبقوه إلى المسرح، وآخرين عاصروه وبدأوا معه.

شارك هذه المقالة







الجريدة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
20-07-2012, 11:11 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 2 : نجيب الريحاني… مندوب فوق العادة

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 20, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


كانت تجارة “الخيول العربية” رائجة في مصر الخديوية في منتصف القرن التاسع عشر، الأمر الذي دفع بأسرة ريحاني، تلك الأسرة المسيحية الكلدانية، للنزوح من الموصل في العراق إلى مصر في عهد الخديو توفيق، حيث كان إلياس وتوما وماريا لا يزالون أطفالاً، حتى إن إلياس أكبرهم لم يكن قد وصل إلى مرحلة الصبا بعد.
عاشت أسرة ريحاني في شارع «باب البحر» في حي «الفجالة» في القاهرة، لتكون قريبة من مزارع الخيول، حيث كان الوالد يعمل بتربية وتجارة الخيول، وهي المهنة التي أنتقلت إلى ولديه إلياس وتوما.
حرص إلياس على أن يعمل مع والده لأجل زواج شقيقيه ماريا وتوما أولاً، ليأتي بعد ذلك دوره في الزواج، ليتزوج إلياس ريحاني من لطيفة بحلق، الفتاة المصرية القبطية، التي تعود أصول أسرتها إلى “نجع حمادي” في صعيد مصر، وينتقل العروسان إلياس ولطيفة للعيش بالقرب من الفجالة في “باب الشعرية” أحد أحياء القاهرة، ذلك الحي الشعبي العريق الذي عرف بهذا الاسم نسبة إلى طائفة من «البربر» يقال لهم «بنو الشعرية»، وجاءت تسمية «باب» باعتبار أن القاهرة كان يحاط بها سور شيده بهاء الدين قراقوش وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي وكان في السور عدد من الأبواب للخروج والدخول من القاهرة وإليها، وكان «باب الشعرية» هو أحد بابين في جزء من السور الشمالي، هما «باب البحر» و{باب الشعرية».
استمر إلياس يعمل في مهنة تجارة الخيول وتربيتها مع شقيقه توما بعد رحيل والدهما، وسرعان ما لحقت به الوالدة بعد أن شاهدت ابنة ماريا، وتوفيق أول أولاد إلياس، الذي أطلق على ابنه اسم توفيق تيمنا باسم خديو مصر توفيق، غير أن توما لم ينجب.
إنقاذ العائلة
كان إلياس مولعاً بالأطفال، يريد أن يكون له الكثير منهم، لسبب وحيد ومهم، وهو استمرار نسل ريحاني، فقد شعر بأن عائلته قصيرة العمر يرحل أفرادها وهم بعد في ريعان الشباب، ومن ناحية أخرى أفرادها قليلو الإنجاب، فأراد أن يكون له «عزوة» من الأولاد يملأون حياته ويجدد بهم شباب عائلة ريحاني التي أوشكت على الانقراض بعد وفاة الجد والأب والأم والعمات، وزاد لديه هذا الإحساس عندما علم أن شقيقه توما لم ينجب، وشقيقته الوحيدة لحقت بوالديها ورحلت وهي ما زالت شابة، تاركة خلفها طفلة صغيرة يتيمة، أراد إلياس أن يتكفل بها مع ضيق حال والدها.
شعر إلياس بقلق بالغ عندما مر عامان على ولادة ابنه الأول توفيق، ولم تنجب زوجته غيره، فكان لا بد من أن يصارحها في الأمر ليلفت نظرها:
• أنت مستعجل على إيه بس يا أبو توفيق…
* مستعجل إيه… الواد توفيق بقى عنده أكتر من سنتين وتقوللي مستعجل.
• ماهو توفيق مالي علينا حياتنا. ولا أنت بقى نفسك في بنت.
* ولد بنت… كله عطية ربنا. المهم يكون فيه عزوة من الولاد. نفسي يكون عندنا عشرة ولاد. يكبروا ويتجوزوا وتكبر معاهم عيلة ريحاني.
• ربنا عنده كتير يا إلياس.
* عارفة يا لطيفة… نفسي ولادي يشيلوا اسم إلياس واسم عيلة ريحاني… علشان اسم العيلة يفضل موجوداً على طول.
قبل أن ينتهي العام رزق إلياس ولطيفة بمولودهما الثاني، في 15 فبراير من عام 1889، جاء إلى الدنيا مقطب الجبين، كأنه لم يكن يتمنى أن يأتي، وعلى رغم أن حظه لم يكن وافراً من الوسامة، إلا أن حظه من الأسماء كان وافراً، فقد أطلقت عليه والدته اسم نجيب، وأطلق عليه والده اسم أنطون، فيما سماه عمه توما اسم ريحان، وتم تقييده بمكتب صحة «باب الشعرية» باسم نجيب أنطون إلياس ريحاني، واكتفى والده وعمه بأن يطلقا اسم ريحان على «مُهر» صغير ولد في الأسبوع نفسه الذي ولد فيه نجيب.
شعر إلياس بأن ابنه نجيب «وش السعد»، فقد جاء ومعه الخير للأسرة، لدرجة أن والده ربح هذا العام من تجارة الخيول، كما لم يربح سابقاً، غير أن الشيء الذي لفت نظر إلياس وزوجته لطيفة أن ابنهما نجيب لا يضحك، حتى بعد أن وصل عمره إلى العام، لم يكن ليضحك أو ليبتسم مهما حاولا معه واجتهدا في أن يضحكاه:
• أنا مش عارف الواد ده مكشر على طول كده ليه؟ كأنه مستخسر يضحك في وشنا ابن الإيه ده.
* يا خويا الواد لسه صغار… ده يا دوب كمل السنة وكام وشهر.
• صغار!! تعالي شوفي «المُهر ريحان» اللي اتولد معاه في نفس الأسبوع… بقى فرس ميقدرش عليه أجدعها خيال.
* صحيح يا معلم إلياس… مش هنعمد نجيب.
• فكرتيني. أنا قلت لتوما هيروح يعمد نجيب يوم الحد الجاي.
* وليه توما… مش أنت؟
• لأني لازم أسافر إسكندرية بعد بكره علشان فيه مُهرتين هناك لازم اشتريهم.
* خلاص يبقى لما ترجع.
• أنا اتفقت مع توما وخلاص. وبعدين أنا قاصد إن توما اللي يروح يعمده. عاوز توما يحس إن توفيق ونجيب ولاده زي ماهم ولادي.
في 15 مايو 1890 عمَّد الخوري يوحنا طواف نجيب أنطون إلياس ريحاني، في الوقت الذي كأنت تستعد فيه لطيفة لاستقبال مولودها الثالث، وهو ما زاد من سعادة إلياس، غير أن الرياح أحياناً تأتي بما لا تشتهي السفن، فإذا كان إلياس يؤرقه كسل توفيق وكثرة نومه، ويقلقه عدم ضحك أو ابتسامة ابنه نجيب في وجهه، فإن حال مولوده الثالث يوسف سببت له حزناً وأرقاً كبيرين، فقد جاء وفيه عيب خلقي أصاب كتفه وذراعه الأيسر، ما سبب له شللاً واضحاً في هذه الجهة، عجزت الوصفات الشعبية كافة، عن شفائه منه، كذلك عجز «برسوم المجبراتي» عن إعادة الطفل إلى حالته الطبيعية ليصبح «أحدب».
أخذ يوسف اهتمام الوالدين لما ألم به من عجز مبكر، فانصرف الوالد إلى الاهتمام به، بينما لم تنس الأم معه وجود توفيق ونجيب، بل والاهتمام بما تحمله في أحشائها من طفل رابع، تمنت أن يكون أنثى، غير أنه كان ذكراً أيضاً، وهو ما أسعد إلياس، خصوصاً أن جورج المولود الرابع خلا من كل عيوب أشقائه الثلاثة، فقد كان بشوشاً باسم الثغر، وسيم المنظر صحيح الجسد.
كأنت السيدة لطيفة والدة نجيب هي المحفزة له، بل والمعلم الأول له ولأشقائه، غير أنها وعلى رغم جهودها المضنية، لم تجد تجاوباً إلا من نجيب دون أشقائه، فراحت تصب عليه اهتمامها كله، وتذاكر معه دروسه بالفرنسية والإنكليزية، والأهم اللغة العربية، خصوصاً أنها كأنت تتذوق الشعر، فحرصت كل الحرص على أن يحفظ نجيب الشعر بل والنثر أيضاً، لدرجة أنها كأنت تشرح له أبيات الشعر التي يحفظها، وكان نجيب بدوره يمارس دور المدرس أو «الأفندي» ليس على أشقائه فحسب، بمن فيهم الكبير توفيق، لكن على زملاء وأصدقاء الشارع، الأمر الذي جعل جميع أقرانه في المدرسة وفي الحي، يتهافتون على صداقته وزمالته، يقابل ذلك حياء وخجل شديدان من نجيب، باستثناء ولد واحد فقط، «دومة» ابن أحد كبار تجار الغلال في منطقة باب الشعرية، يرى في نفسه الأحق في زعامة «الشلة» أو مجموعة الأصدقاء، بل ويرى أن صوته جميل عندما يغني، أو يحاول إلقاء قصائد الشعر:
• على إيه يعني؟ حتى نجيب بتاعكم ده صوته مش حلو ومش حافظ زيي.
= يا ابني أنت مش قده.
• أنا مش قده؟ طب ييجي ويشوف مين يغلب.
= هي عركة يا دومة… أنت متعرفش شعر أصلاً… ولا بتعرف تقول زيه.
• أنا حافظ أكتر منه وبقول أحسن منه. وبعدين كفاية شكله الملخبط ده.
= نجيب شكله ملخبط!! ما ترد عليه يا نجيب أنت ساكت ليه. مكسوف ترد عليه زي كل مرة؟
* أقول له إيه بس؟ ده واحد مش مقتنع بكلامكم… ومش مصدق. طيب كمان مراية بيتهم مكسورة مش شايف نفسه. ده لو أبوه صلح المراية المكسورة وصاحبكم ده شاف نفسه فيها هيحدف لها فول سوداني.
• أنت عبيط يالا… فيه حد يحدف للمراية فول سوداني.
* تحدف للمراية..!! بقولك إيه دومة… أنت تعرف أبو العلاء المعري.
• مش بقولك عبيط… دا يا بني صاحب أبويا الروح بالروح… وبييجي عندنا كل يوم يسهر مع المعلم.
* كدهه… طب ابقى سلملي عليه يا معلم دومة.
ويضج نجيب وأصدقاؤه بالضحك لجهل صديقهم وإصراره على استخدام يديه وليس عقله، ليفرض صداقته وزعامته بالقوة، في حين لم يكن نجيب يشغل باله به ولا بما يريده، فلم يكن نجيب يريد أن يتزعم «شلة الأصدقاء» ولا أن يكون أفضلهم، بل إنه يريد أن يمتعهم ويستمتع معهم بما يحفظه من شعر يلقيه عليهم بأداء أقرب إلى التمثيل، لدرجة أنه حدد موعداً ثابتاً للقاء مجموعة الأصدقاء بشكل يومي في السابعة من مساء كل ليلة… يلتقي بهم ولمدة ساعة، عند الباب الخلفي لوكالة غلال المعلم «رزق أبو دومة» حيث يتسع الشارع هناك، وتقف بعض العربات «الكارو» في نهاية اليوم، بعد أن تذهب الخيول إلى الإسطبل، فيعتلي نجيب واحدة من هذه العربات، كأنه يقف فوق خشبة مسرح، بينما يقف مجموعة الأصدقاء قبالته على الأرض، يستمعون في استمتاع لما يلقيه من أشعار في أداء تمثيلي بصوت جهوري، غير أن «دومة» أراد أن يفسد عليهم متعتهم بسبب حبهم وتعلقهم بنجيب، فذهب إلى «دسوقي» صاحب «العربة الكارو» الذي يعمل ناقلاً للغلال من وكالة والده، وحفزه على أن يأتي معه لضرب نجيب وأصدقائه لأنهم، على حد قوله، سيخربون عربته، وبالفعل نجح في ذلك وأتى به، غير أنه لم يتوقع رد فعل دسوقي:
= إيه ده… مين اللي واقف ده ع العربية؟
• مش بقولك. ده الواد نجيب… ابن إلياس بتاع الخيول.
= وعاوزني أضربه؟ دا أبوه حبيبي… عمري ما قصدته في علاج للحصان وردني.
• اضربه يا عم دسوقي بالقمشة (الكرباج)… ونزله من على العربية. دا هيكسرها هو والعيال اللي معاه.
= اصبر بس يا دومة… الواد بيقول كلام حلو قوي ماشاء الله عليه.
• أنت فاهم اللي بيقوله يا عم دسوقي.
= لا… بس عاجبني قوي!
كان كلام السيدة لطيفة والدة نجيب، وتشجيع أصدقائه له، دافعاً قوياً له لأن يزداد حبه وتعلقه بالإلقاء والأداء التمثيلي، وراح يشارك في الأنشطة المدرسية، لدرجة أن أساتذته لم يصدقوا أنه وتوفيق شقيقان يعيشان معاً في بيت واحد، وهو ما جعل الأب يسارع بإخراج توفيق من مدرسته ليكون عونا له في تجارته التي كأنت تأخذ طريقها إلى الأفول بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية.
اللغة العربية
حتى عندما أنتقل توفيق للعمل مع والده، لم يكن يظهر أي تجاوب في العمل، حيث كان كسولاً يريد النوم بشكل دائم، والسهر في المقاهي ليلاً، الأمر الذي جعل والده يمتنع عن أن يأخذ شقيقاه يوسف وجورج حظهما من التعليم، على رغم ما كان يظهره نجيب من نبوغ واضح في تعليمه، ولولا وجود والدته لكان قد لحق بشقيقه توفيق في العمل مع والده.
أحب نجيب دراسة آداب اللغة العربية، وتوسع في الحصول على أكبر قسط من فنونها، لا سيما الشعر وتاريخ الشعراء، غير أن أمه لم تكتف بما يتلقاه في المدرسة، خوفاً من أن يهجر نجيب اللغة العربية ويتعلق بالفرنسية، فطلبت من والده أن يأتي له بمدرس خاص لتعليمه فنون الشعر وقواعد اللغة العربية:
* أنا مش عارف أنت مهتمة قوي بنجيب ليه في العلام كده… أكتر من أخواته.
= أنت اللي بتقول كده يا إلياس؟ أمال لو مكنتش شفت بنفسك اللي عملته مع توفيق علشان يكمل علامه… غيرش بس هو اللي مش غاوي… وكمان بعمل كل اللي يقدرني عليه ربنا مع يوسف وجورج علشان يبقوا زي أخوهم نجيب. تقوم تيجي على الواد اللي غاوي وتقصر معاه.
* أنا مش مقصر… بس أديكي شايفه الحال… التجارة كل يوم في النازل والدنيا عماله تقلب مش عارفين رايحه بينا على فين… علشان كده بقول كفاية المدرسة مش لازم حكاية أني أجيب له كمان «خوجه» هنا في البيت.
= خوجة في البيت علشان يعلمه عربي كويس.
* وهو ناقص عربي… ما الواد لبلب في العربي وبيتكلم أحسن مني ومنك.
= العربي مش كلام يا إلياس… العربي علم… وأنا بصراحة شايفه نجيب ميال للفرنساوي أكتر من العربي… وأنا عاوزة ولادي يفضلوا في حضني يشربوا من مشروبنا… مش مشروب بلاد الخواجات وياخدوهم مننا.
* أنت هتعمليها حدوته وقصة أبو زيد… ما تمسكي ربابه وتغنيها أحسن.
= علشان علام ولادي أعمل أي حاجة يا إلياس.
لم يسلم إلياس من إلحاح زوجته لطيفة المستمر، حتى فاجأها يوماً بأنه اتفق مع الشيخ بحر، أحد قراء القرآن الكريم وخطباء «مسجد الشعراني»، باعتباره خطيباً مفوهاً وأستاذاً متمكناً من اللغة العربية وقواعدها، الأمر الذي أدخل السرور على قلب لطيفة، لسمعة الرجل وعلمه الواسع.
اتفق إلياس مع الشيخ بحر على أن يأتي الأخير يومياً إلى المنزل في الفترة ما بين صلاتي المغرب والعشاء، ليلقن نجيب وشقيقيه (يوسف وجورج) قواعد اللغة العربية وأصولها، كتابة ونطقاً سليماً، ولم يثر ذلك دهشة أي منهما، سواء المعلم إلياس، المسيحي الكاثوليكي الذي طلب الاستعانة بشيخ ليدخل بيته ليعلم أولاده، أو حتى الشيخ المسلم حافظ القرآن الكريم، الذي رحب بعرض إلياس ودخل بيته ليعلم أولاده.
البقية في الحلقة المقبلة
نبوغ مبكر
لم يكن إلياس مهتماً بأن ينال أولاده أي حظ من التعليم، بل كان، بناء على نصيحة شقيقه توما وبقية زملائه التجار، يؤمن بأن الولد لا بد من أن يكون ذراع والده في العمل، وهو ما حاول أن يفعله مع نجله الأكبر توفيق، وأراد أن يكرره مع نجيب، غير أن زوجته لطيفة عارضت بشدة، وأصرت على أن ينال أولادها حظهم من التعليم، وهو ما كان يراه توما مضيعة للوقت والمال.
* كلام إيه ده يا معلم إلياس… أنا لازم أعلم ولادي.
• علام إيه بس اللي بتتكلمي عنه؟ أنا كنت بخلف علشان المدارس تاخد ولادي… أنا عاوزهم يشربوا تجارة أبوهم ويكونوا سندي. مش تقوللي علام. يعني واحد هيبقى أبوكاتو والتاني خوجه… بناقص.
* وليه لا… وأهو لما يكون الولد متعلم ويشتغل بتجارتك يعرف يصونها ويكبرها…
• أنت شايفه كده؟
ألحقت لطيفة ولديها توفيق ونجيب بمدرسة «الفرير» في إحدى مدارس الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، حيث كانوا يعتنقون المذهب الكاثوليكي، وإحدى مدارس النيابة الرسولية (مطرانية اللاتين) التي تأسست عام 1890 فى مدينة المحلة الكبرى، بدلتا النيل، وسرعان ما أنشأت فرعاً جديداً لها في منطقة «الخرنفش» التي لم تكن تبتعد كثيراً عن حي باب الشعرية.
لم يظهر توفيق أي تقبل للعلم في مدرسة الفرير، حيث كان أساتذته دائمي الشكوى منه، ينام وقت تلقيه دروسه بالفصل الدراسي، ولا يهتم بواجباته المدرسية، على عكس نجيب الذي كان له حظ وافر من اسمه، فكان تلميذاً نجيباً، ينهل من العلم ما تصل إليه يداه، حتى إنه تعلم اللغة الفرنسية واتقنها في وقت قليل، وبقدر سعادة والدته بهذا الإنجاز الكبير الذي قام به أوسط أولادها، إلا أنها كان لا بد من أن تتوقف عند هذا الإنجاز الذي قام به نجيب… وتلفت أنتباهه إلى شيء مهم:
* حتى شوفي: كومنت بل تي… جومابيل نجيب أنطون إلياس ريحاني.
• جميل قوي يا نجيب. أنت عارف أنا فخورة بيك وفرحانة أد إيه. بس فيه حاجة كنت عاوزه أقولك ولازم تاخد بالك منها كويس.
* عارف… بس أنا هعمله إيه؟ هو مش بيرضى يذاكر معايا ولا يحفظ زيي.
• قصدك على مين؟
* قصدي أنك هتقوللي زي الأفندية في المدرسة… أخوك توفيق ليه مش بيحفظ زيك كده؟
• أنا عارفه يا حبيبي أنك ملكش ذنب… ده حظه ونصيبه. بس أنا كنت عاوزه أقولك حاجة تانية مهمة، وهي إنك زي ما بتحب الفرنساوي كده وبقيت شاطر فيه… لازم كمان تحب لغة بلدك وتبقى شاطر قوي فيها.
* لغة بلدي… هي بلدي ليها لغة.
• طبعا… أمال هو فيه بلد مالهاش لغة.
* طب الفرنساوي لغة الفرنسيين… يبقى المصري هو لغة المصريين.
• لا يا حبيبي. أنت مصري عربي ولغة المصريين وكل العرب هي اللغة العربية. علشان كده عاوزاك تاخد بالك من دروس اللغة العربية وتتعلمها كويس قوي.

شارك هذه المقالة






الجريدة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
22-07-2012, 09:25 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 3 : نجيب الريحاني… استنى بختك

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 22, July 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط


وجد الشيخ بحر في تلميذه «نجيب» تجاوباً كبيراً على عكس شقيقيه، فكان يسر كثيراً حين يلقي نجيب أمامه ببعض المحفوظات بصوت جهوري، ونبرات تمثيلية وإشارات تفسيرية، وما إلى ذلك مما كان يعتبره الشيخ بحر نبوغاً وعبقرية.
* بسم الله ماشاء الله… لا قوة إلا بالله… ابنك يا معلم إلياس نابغة.
= البركة فيك يا سيدنا.
* هذه بركة ربنا. وأنا على اتفاقي معك يا معلم… لو لم أجد تجاوبا من الولد لتركته على الفور… مثلما فعلت مع أخوته يوسف وجورج. لا تؤاخذني يا معلم لا جدوى من تعليمهم.
= يعني مفيش فايدة من العيال دي؟
* العلم يا معلم إلياس عطية من الله وهبة يمنحها الله لمن يشاء من عباده… ونجيب ربنا موسع عليه في العلم. بيحفظ القصيدة من أول مرة… وكمان بقى بيشرحها ويعربها كأنه خوجة بيعلم تلاميذ. آي والله بعقد الهاء، وياسلام يا معلم لما تشوفه واقف بيلقي قصيدة ولا عرابي باشا في زمانه.
ولمع اسم نجيب أنطون إلياس بين المدرسين والتلامذة كأمهر من يقوم بأداء القصائد الشعرية باللغتين العربية والفرنسية، لدرجة أنه كان يمكن أن يحفظ قصائد تزيد على المائة بيت، ويقولها دون ورق أمامه، لدرجة أنه لم يوجد من بين زملائه بالمدرسة من يمكن أن يجاريه في الحفظ أو الأداء، ما جعل أساتذته يتنبئون له بمستقبل واعد كمحام مفوه أو قاض شهير، غير أن نجيب كان له رأي آخر في مستقبله، وهو ما أسر به للمسيو “الفريد” مدرس اللغة الفرنسية:
* قوللي يا نجيب. أنت عاوز تشتغل إيه لما تكبر؟
• نفسي أبقى زي الشيخ عبدالرازق العتر.
* عبد الرازق العتر… مين ده… وبيشتغل إيه؟
• فيه حد يا مسيو ما يعرفش الشيخ عبد الرازق العتر.
* معلهش يا سيدي… أصل أنا جاهل… مين بقى عبد الرازق العتر ده.
• الشيخ عبد الرازق العتر ده شاعر الربابة اللي بيقعد كل يوم. (خميس) بعد العشا في “قهوة البنا” اللي في ميدان باب الشعرية.
* شاعر ربابة!! بقى أنت بتتعلم كل العلوم دي وعربي وفرنساوي وإنجليزي علشان في الآخر تطلع شاعر ربابة.
• أصل صوته حلو قوي يا مسيو. وكمان بيقول حكايات جميلة… ومعاه أربعة بيشخصوا الحكايات اللي بيقولها.
* حكايات إيه وتشخيص إيه… يا بني أنت بتتعلم ولازم تستفيد بعلمك. يعني بعد ما تاخد الابتدائية وتاخد البكالوريا تدخل مدرسة الطب ولا المهندس خانة ولا الحقانية وتبقى أبوكاتو قد الدنيا… مش تقوللي شاعر ربابة ومشخصاتي. أنت نبيه يا نجيب وواحد زيك خسارة يضيع علمه في التشخيص.
تأثر نجيب بكلام معلمه، وراح يفكر في مستقبله بشكل مختلف، راح يفكر ماذا لو أنه حصل على البكالوريا والتحق بمدرسة الحقانية، فهي الأقرب إلى ميوله الخطابية، فضلاً عن ذلك إن لها مستقبلاً مضموناً، خاصة إن مدرسة الحقانية، كلية الحقوق، يطلق عليها “مدرسة الوزراء” فأغلب الوزراء والوجهاء من خريجيها.
ليلة من ألف ليلة
ظل نجيب مقتنعاً بهذا المبدأ الذي زرعه بداخله أساتذته ومعلميه، حتى كان أحد أيام صيف عام 1901، الذي شاهد فيه واحدة من تلك “العربات الكارو” التي تعمل لدى وكالة المعلم “رزق أبو دومة” لنقل الغلال، غير أنه هذه المرة شاهدها يجرها حصانان، وتحمل العربة عليها بدلا من الغلال مجموعة من “الآلاتية” أو الموسيقيين الذين يعزفون على الآلات النحاسية، وفي المنتصف رجل يرقص على العزف ويأتي ببعض الحركات البهلوانية، وفي نهاية العربة اثنان منهما يمسكان بطرفي لافتة كبيرة مكتوب عليها:
الشيخ سلامة حجازي في أروع التمثيليات العالمية… يقدم رواية “روميو وجولييت” بمصاحبة جوقه الكبير… الليلة وكل ليلة.
استطاع نجيب أن يقرأ اللافتة بسهولة، حيث كانت العربة تسير ببطء، ثم تتوقف في كل شارع بضع دقائق، حتى يتسنى للجمهور رؤيتهم وقراءة اللافتة، وعلى رغم قراءة نجيب لها، إلا أنه لم يفهم ما المقصود بهذه العبارة، ولأنه لم يكن يترك حادثاً مثل ذلك يمر عليه مرور الكرام، فكان لا بد من أن يسأل:
* فرح مين ده يا عم؟
= ده مش فرح يا حبيبي… ده إعلان عن جوق الشيخ سلامة حجازي.
* جوق! يعني إيه؟
= الجوقة دي فرقة مرسحية… بتقدم روايات فيها مغنى ورقص وتشخيص.
* تشخيص!! آه عارفه يعني بيقولوا شعر ويحكوا حكايات؟
= حاجة زي كده… بس بيقولها بالمغنى والرقص. وبعدين أنت هتوجع دماغي ودماغك ليه؟ لو عاوز تتفرج تعالى النهارده يا عم الساعة سبعة وأنا أفرجك.
* ببلاش من غير فلوس.
= زي بعضه يا سيدي خليها المرة دي علينا… بس المرة الجاية تدفع فلوس. خد الورقة دي فيها اسم الرواية والمشخصاتية وكمان فيها العنوان… مش بتعرف تقرا.
* أمال.. أنا في مدرسة الفرير بالخرنفش.
= طب عال قوي… عموماً هو المرسح مش بعيد عن هنا خطوتين… في الأزبكية… لما تيجي اسأل بس عن عمك “فزدق” ألف مين يدلك.
كأنها ليلة من ألف ليلة… ما إن دخل نجيب إلياس من باب “مسرح الأزبكية” حتى شعر بأنه انزلق إلى داخل “بلورة سحرية” كثيراً ما سمع عنها في عالم الحواديت والأساطير، عالم آخر مختلف غير الذي يراه خارج هذه الجدران، رواية من أبطال يتحركون أمامه على خشبة المسرح، ليسوا “بالأراجوز” ولا “خيال الظل” اللذين اعتاد على مشاهدتهما في ميدان باب الشعرية، ولا هم يشبهون الشيخ عبد الرازق العتر شاعر الربابة الذي يجلس يوم (الخميس) من كل أسبوع في “قهوة البنا” في ميدان باب الشعرية، الذي يستعين ببعض المساعدين لتصوير أحداث الحكايات التي يرويها، بل هو عالم سحري يحركه بشر، غير انهم ليسوا بشراً عاديين، كأنهم جاؤوا من عالم آخر، ملابس ومكياج وديكورات ورقص، والأهم الغناء بصوت الشيخ سلامة حجازي عملاق زمانه، وزاد من انبهار نجيب ابن الثالثة عشرة، ذلك التصفيق المدوي الذي يتلقاه هؤلاء الذين يعتلون تلك الخشبة، فما إن ينتهوا من حركاتهم ورقصاتهم أو غنائهم حتى يكافئهم الحضور بتصفيق حاد مدو.
من المؤكد أن نجيب لن ينسى هذه الليلة، ليس فقط بسبب العالم السحري الذي قذفه فيه فجأة “عم فزدق”، بل بسبب العلقة “الساخنة” التي تلقاها من والده، بإيعاز من والدته، بسبب تأخره عن البيت حتى الحادية عشرة مساء… ولم يكن مسموحاً له أو لأي من أشقائه بالتأخر إلى ما بعد الثامنة مساء… حتى ولو عند الجيران، فكيف يكون الحال وقد تجرأ نجيب وذهب لمشاهدة جوق الشيخ سلامة حجازي؟!
* عليه العوض في الولد يا إلياس… الواد ضاع مننا.
• ما تبالغيش يا لطيفة… أنا بس ضربته لأنه ماقالش وراح وأتأخر.
* يعني لو كان قال وراح وجه بدري كنت رضيت عنه؟
• ما تحبيكهاش يا لطيفة… لا ضاع ولا حاجة… كل الحكاية أنه حب يتفرج شوية زي الولاد.. ماهو الحق علينا برضه.. أحنا المفروض من وقت للتاني ناخد الولاد ونخرجهم يشوفوا الدنيا.
* ماهو دا اللي ناقص يا معلم إلياس… نخلي ولادنا يتفرجوا على مغنى ورقص وكلام فاضي… كله من الشيخ بحر.
• وذبنه إيه بس الشيخ بحر؟
* هو اللي كبر الموضوع ده في دماغه لما كان بيطلب منه يقف ويقول شعر ويصقف له ولا الصييته اللي في الأفراح.
• أهو شورتك… أنت اللي شورتي بيه.
* أنا كان غرضي يعلمه عربي… مش يعلمه التشخيص… خلاص من هنا وجاي مفيش الشيخ بحر… كفاية المدرسة… وأهو الولد بقى شاطر في العربي.. ونشكر ربنا لحد كده.
لم تكن هذه الليلة هي نهاية عهد نجيب بالتشخيص بسبب ما ناله من عقاب، بل كانت البداية، فقد ظلت الصورة التي شاهدها داخل جدران مسرح الأزبكية عالقة بذهنه طوال الوقت، وظل التصفيق المدوي يرن في أذنيه كلما خلا بنفسه، فلم يكن نجيب يحب اللعب مع أقرانه سواء في المدرسة أو الشارع، إلا في ما ندر، فقد كان خجله يمنعه من مخالطة الأصدقاء طوال الوقت، كما لم يحب طرقهم في اللعب، ويشعر دائماً بأنه أكبر من أن ينخرط معهم في ألعابهم البسيطة، حتى أصبح عالمه الجديد يملأ عليه خلوته ووحدته، يظل جالساً ساعات يفكر في ما رآه وما كان يحدث فوق هذه الخشبة، فمن المؤكد أن هذا ليس عبثاً، بل مدبر بإحكام.
كان نجيب قد بلغ عامه السادس عشر عندما التحق بوظيفة كاتب حسابات في البنك الزراعي، غير أنه كان لا بد من أن يودع مبكراً حياة الطفولة والصبا، ليأخذ مكانه بين الرجال، فقد بات مسؤولاً عن أسرة قوامها والدة وثلاثة أشقاء، جميعهم يحتاجون إلى الإعالة.
اندمج نجيب في سلك موظفي البنك الزراعي في القاهرة، حتى جاء اليوم الذي التقى فيه أحد زملائه من موظفي البنك أثناء خروجهما بعد انتهاء يوم العمل في نهاية الأسبوع، الذي ينتهي يوم (السبت) في الواحدة ظهراً، تتبعه الإجازة الأسبوعية للبنوك يوم الأحد، ليجد في هذا الصديق ضالته وما يمكن أن يعينه على نسيان ألمه لترك دراسته وحرمانه من ممارسة هوايته في الإلقاء والتمثيل.
* أهلا أهلا… مش أنت برضه نجيب أفندي إلياس الموظف الجديد
• هو بعينه يا فندم. نجيب إلياس بس… من غير أفندي. أحنا لسه مكملناش شهر في الوظيفة.
* يا سيدي… بكره تكمل وتتثبت وتبقى أفندي. ومش بعيد كمان تبقى بيه قد الدنيا.
• مش ممكن. سعادتك ظريف قوي… وكمان خيالك واسع. بيه كده حته واحدة؟
* لا ياسيدي تلات حتت… باء وياء وهاء…
• ظريف والله يا فندم… ظريف.
* الله… إيه حكاية يا فندم وسعادتك. أنت فاكرني مين؟
• والله يا فندم أنا ماتشرفتش بسعادتك… بس أكيد سعادتك من كبار الموظفين هنا في البنك.
* يا راجل… كبار إيه وصغار إيه. أنا أخوك عزيز عيد… موظف معاك في قلم الحسابات بالبنك. كل الحكاية أني مستوظف قبلك بستين شهر بس.
• بس!! لا إن كان على كده… يبقى يا عزيز أفندي. اتفضل سعادتك معايا.
* هاهاها… لا دا أنت ظريف قوي… قوللي أنت هتسهر فين الليلة؟
• لا والله أنا مش متعود أسهر. من البنك للبيت ومن البيت للبنك.
* لا ياراجل وده كلام. النهارده (السبت) وبكره الحد. يعني إجازة… قوللي أنت ساكن فين؟
• في باب الشعرية جنب وابور الطحين.
* عال قوي… يبقى هما خمس دقايق مشي.
• منين لفين؟
* شوف يا سيدي أنت تعرف شارع عبد العزيز.
• نسأل عنه يا فندم… نسأل.
* تاني يا فندم. من غير ما تسأل. شارع عبد العزيز ده اللي لازق على طول في شارع محمد علي في العتبة الخضرا… هتوصل لهناك وتسأل عن مرسح إسكندر فرح.
• مرسح؟!
* أيوه… جنبه على طول قهوة “إسكندر فرح”… هستناك هناك على القهوة النهارده الساعة سبعة.
على مقهى “إسكندر فرح” في شارع عبد العزيز، راح الصديقان الجديدان يفضي كل منهما للآخر بعشقه التمثيل، وإن كان عزيز عيد قد خطا خطوات بعيدة حدا ما نحو عشقه الأول “التمثيل” من خلال تجارب مسرحية عدة سبق أن قدمها مع عدد من الهواة وعشاق فن الدراما، غير أن نجيب لم يجد سوى بعض مشاركاته المدرسية في بعض الروايات العالمية التي قدمها على المسرح المدرسي، لكنه وجد ضالته في صداقته الجديدة، ولم يتردد، بل لو لم يفعل لكان تودد إلى صديقه عزيز عيد ليشاركه تجاربه المسرحية التي يقدمها.
حب التراجيديا
ربما كان العائق الوحيد والمشكلة الحقيقية أن نجيب الريحاني لم يكن يميل إلى اللون الكوميدي الذي يفضله صديقه عزيز عيد، بل كانت هوايته منصبة على التراجيديا دون غيرها، يحفظ عن ظهر قلب قصائد “فيكتور هيغو” وأشعار المتنبي ولزوميات أبي العلاء المعري، وما إن يخلو بنفسه في منزله ليقف أمام المرآة ويقوم بإلقاء هذه القصائد بأداء تمثيلي وصوت جهوري، حتى ضجت والدته وأشقاؤه بما يفعله، بل إنها وصفته بـ “المجنون” غير أن ما كان يصبرها هو انضباطه في وظيفته في البنك الزراعي.
بحكم رابطة الزمالة في البنك والصداقة الجديدة والموهبة المشتركة التي جمعت بين نجيب الريحاني وعزيز عيد، قام الأخير بضمه إلى الفرقة التي كونها من بعض الهواة، وأسند لنجيب أول دور له في رواية تمثيلية بعنوان “الملك يلهو”، التي ترجمها عن الفرنسية الأديب أحمد كمال رياض “بك”.
لم يستطع نجيب أن يصدق ما حلّ به من سعادة بانضمامه إلى فرقة الهواة التي كونها عزيز عيد، فقد تحقق حلمه بالوقوف على خشبة المسرح أمام جمهور، غير أن ما يؤرقه لم يكن حجم الأدوار التي يسندها له عزيز عيد، حيث كان يسند له الأدوار الثانوية، بل ما كان يؤرقه هو نوعية الأعمال التي يقدمها، وهي مسرحيات كوميدية، ذلك النوع من المسرح الذي لم يستهوه، حيث يتوق إلى التراجيديا!
اعتاد نجيب أن يجلس يومياً في مقهى “إسكندر فرح” في شارع عبد العزيز، حيث كان المقهى مكان التجمع الرئيس لعدد كبير من العاملين في الفرق المسرحية، حتى صارت صداقة جديدة تجمع بين نجيب وبين ممثل قديم يدعى علي أفندي يوسف، الذي كان يتخذ أيضاً من المقهى مكاناً ثابتاً يلتقي فيه ببعض أعضاء فرقته، التي كانت بطلتها الفنانة صالحة قاصين.
* أقدم لك يا ستي نجيب أفندي إلياس… مشخصاتي وابن كار.
• أهلا وسهلا.
* ودي بقى الأرتيست الكبيرة صالحة قاصين… البريمادونا في فرقة أخوك علي يوسف.
• أهلا يا فندم… تشرفنا.
= وأنت بقى يا سي نجيب أفندي… بتشخص فين.
• لا أبداً… علي أفندي بيبالغ شويه… دا أنا يا دوب اشتركت في كام رواية كده مع صديقي الأستاذ عزيز عيد… يعني لسه “نونو” في المرسح.
= نونو!! دمك خفيف قوي يا سي نجيب أفندي.
اتخذ علي يوسف من هذه الفتاة عشيقة له، ولم تجد هي غضاضة في أن تبادله أيضاً الحب، ولكن ما إن ظهر على ساحة المقهى نجيب إلياس الريحاني، وبتكرار تردده واللقاءات بين الثلاثي (نجيب وعلي وصالحة) حتى وقعت الفتاة أسيرة حبه… وسرعان ما اكتشف علي يوسف الحب الوليد بين نجيب وصالحة… فقرر أن يقتله في مهده.
(البقية في الحلقة المقبلة)
لعبة القدر
تولدت لدى نجيب إلياس هواية التمثيل، بسبب تلك الليلة التي عاشها داخل جدران مسرح الأزبكية، غير أنه لم يعرف كيف يخرج هذا المولود الذي ولد داخله، حتى وجد ضالته في المسرح المدرسي، حين بدأت المدرسة في تكوين فريق للتمثيل لتقديم عدد من الروايات المقررة عليهم في دراستهم، فكان أول من تقدم للمشاركة في هذه الروايات، ووجد ترحيباً كبيراً من أساتذته لما عهدوه فيه من نطق سليم للغة الفرنسية، كما العربية، فضلاً عن صوته الجهوري وأدائه المتزن، فراح يشارك من وقت إلى آخر في تمثيل بعض الروايات، سواء التي تم تقديمها بلغتها الأصلية الفرنسية، أو تلك التي تمت ترجمتها عن الأدب العالمي، الأمر الذي زاد من تعلق نجيب بالمضي في هذا الطريق، حتى لو كان دون علم والديه، فقد بات الأمر حلماً، ولا بد من أن يسعى إلى تحقيقه.
لكن يبدو أن الاقدار كانت تخبئ شيئاً آخر لنجيب في عام 1904، فلم يكن قد بلغ عامه السادس عشر، عندما رحل والده المعلم إلياس فجأة وهو لم يكمل عامه الخمسين بعد، حيث ورث صفة قصر العمر من عائلته، ما ألقى بعبء ثقيل على السيدة لطيفة، وزاد من صعوبة الحمل وثقله، أن كل ما ادخره الأب تركه لابنة شقيقته باعتبار أنها فتاة “يتيمة”، إضافة إلى أن تجارة والده مع عمه توما قد تدهورت بشكل كبير، لدرجة أن توما راح يبحث عن عمل بالأجر لدى الغير ليجد ما يأكله.
لم تستطع الأسرة الاعتماد على توفيق باعتباره كبير العائلة بعد رحيل الأب، فلم ينل حظاً من التعليم يؤهله للعثور على عمل مناسب، كما لم يتعلم شيئاً من تجارة والده بسبب تكاسله، فضلاً عن رفضه العمل في مهنة أخرى إلى جانب بوار تجارة والده، فلم يجد نجيب أمامه سوى أن يترك دراسته، على رغم نبوغه الواضح فيها، للبحث عن عمل يعول به أسرته التي أصبح فجأة هو المسؤول الأول عنها، ويترك دراسته قبل عام فقط من حصوله على “البكالوريا”، ما يعادل الثانوية العامة، وعن طريق أصدقاء ومعارف والده يستطيع العثور على وظيفة “كاتب حسابات” في البنك الزراعي في القاهرة.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
23-07-2012, 01:20 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 4: نجيب الريحاني… آه من النسوان

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 22, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


بلغ نجيب إلياس الريحاني مبلغ الرجال، مع وصوله إلى عامه السابع عشر، خصوصاً بعدما أصبح المسؤول الأول والعائل الوحيد، تقريباً، لأسرته المكونة من أربعة أفراد، الأم والأشقاء الثلاثة، رغم عمل توفيق الكبير كاتباً في المحكمة، وإن كان دخله من عمله لا يكفي الإنفاق على الأسرة، لمدة أسبوع، فكان عمل نجيب المنقذ لهذه الأسرة التي لا عمل لأفرادها سوى الجلوس في البيت وانتظار ما يأتي به نجيب، الذي لم يكن له سوى عمله، والجلوس في مقهى «إسكندر فرح» في شارع عبدالعزيز.
أصبح الجلوس في مقهى “إسكندر فرح” جزءاً أساسياً من طقس نجيب الريحاني اليومي بعد أنتهاء عمله في البنك، الأمر الذي ساعد بشكل كبير في التهاب المشاعر بينه وبين الممثلة صالحة قاصين، خصوصاً أن المقارنة التي تعقدها الحبيبة دائماً في صالحه، مقارنة بصديقها علي يوسف.
فالحبيب الجديد أكثر وسامة من علي يوسف، وأكثر هنداماً، ملابسه نظيفة دوماً، له طربوش “نظيف ومنفوخ”، إضافة إلى أنه فنان يعمل بشكل دائم في فرقة الأستاذ عزيز عيد المسرحية، زد على ذلك أنه موظف محترم في البنك الزراعي، لديه راتب شهري مضمون، في حين أن منافسه “يا مولاي كما خلقتني”، أبعد ما يكون عن الوسامة، يعمل يوماً وبقية الأيام تراه زبوناً دائماً في المقهى “على الحساب”.
هذه العوالم كافة شدت أزر نجيب وزادت من جرأته، ما جعله يتفق مع صالحة على القيام بمغامرة غرامية للمرة الأولى في حياته:
* قولتي إيه يا ست الكل؟
ـ إزاي بس يا سي نجيب؟
* زي الناس… أنا يوم السبت بشتغل نص يوم، يعني الساعة واحدة بعد الضهر هنكون في محطة مصر.. ناخد الوابور على إسكندرية.. نقضي اليوم هناك، وكمان يوم الحد طول النهار… ونرجع تاني يوم في آخر وابور.
ـ أيوه بس… بس…
* أنت هتبسبسي… مفيش بس. قولي آه. خلينا نعيش يومين… وأهي فرصة نهرب من عنين سي علي اللي زاغرلي في الرايحة والجاية
ـ خلاص اللي تشوفه يا سي نجيب.
* أهو كده… أقوم أنا بقى علشان ألحق أحجز تذاكر الوابور… وكمان لأن سي علي جاي وعينيه بتطق شرار.
قبل موعد الانصراف من البنك صباح يوم السبت، فوجئ نجيب بصديقه علي يوسف يزوره في مكتبه، ما أصابه برعب واضطراب، خشية أن يكون قد كشف الملعوب وجاء لتصفية الحساب معه في محل عمله، غير أن علي فاجأه:
* يا سي نجيب أنا جايلك ووشي منك في الأرض.
ـ أنت بتقول إيه يا علي أفندي… المفروض إن أنا اللي وشي لازم يبقى في الأرض منك.
* ليه؟ أنت عامل حاجة غلط؟
ـ إيه؟ لا… أنا قصدي علشان لحد دلوقتي ما عزمتش عليك بفنجان قهوة.
* لا أبدا… ملوش لزوم… أنا جاي وليا طلب عندك وعشمي أنك ماتكسفنيش.
ـ عشمك في محله يا علي أفندي أؤمر.
* كنت يعني… يعني… عاوز منك سلفة قد اتنين جنيه لحد آخر الشهر… لأن أخوك علي اتورط في عزومة ومينفعش أطلع صغير قدام الناس.
ـ يا محمدي… أنت عاوز مستوظف في بنك مصر… مش البنك الزراعي…
* أنا قولت كده برضه… الصداقة اللي بينا لسه جديدة… ومش من السهل يا واد أنه يسلفك كده بسهولة.
ـ لا مش المسألة يا سيدي. بس اتنين جنيه يبقوا نص المهيه… والشهر لسه بدري عليه. على كل… أنا ميرضينيش تطلع صغير قدام أصحابك ولازم توفي بوعدك… بس هما اتنين جنيه اللي معايا نقسمهم سوا… أنت جنيه وأنا جنيه.
* زي بعضه مفيش مانع.
ـ أيوه يا سيدي… وأمرك لله.
على رغم من أن قرض علي يوسف سيحدث عجزاً في ميزانية نجيب، إلا أنه أعطى الجنيه لعلي يوسف عن طيب خاطر، لسبب وحيد فقط، وهو أنه سيضمن أن علي سيكون مشغولاً بالوليمة التي سيقيمها لأصدقائه.
بحث عن التراجيديا
على رغم كثرة المحاولات والتجارب المسرحية التي كان يشارك فيها نجيب مع عزيز عيد، إلا أنها لم تكن ترضيه كعاشق للفن، خصوصاً أن ما كان يقدمه عزيز عيد من مسرحيات تنتمي إلى نوع “الفودفيل” تمت ترجمتها حرفياً عن روايات فرنسية، وهو ما لم يرض عنه نجيب، غير أنه لم يجد طريقاً آخر يسلكه، فضلاً عن عدم انتظام عمل الفرقة لعدم تفرغ كل منهما للمسرح، حتى قرر عزيز عيد أن يتفرغ تماماً للفن:
* اسمع يا نجيب فيه موضوع كنت عاوز أخد رأيك فيه.
ـ خير يا عزيز؟
* أنا نويت أتفرغ للفن… الفن يا نجيب ما بيحبش شريك معاه.
ـ طب ما أنت متفرغ له أصلاً… أنت بتروح البنك يوم آه وعشرة لا… عاوز تفرغ أكتر من كده إيه.
* مش القصد يا أخي. مسألة أني حريص على الوظيفة دي عاملة زي الطوق في رقبتي… وحكاية أني لازم أصحى كل يوم بدري علشان أبقى في البنك الساعة سبعة ونص دي مصيبة.
ـ أيوه بس اللي أعرفه أن مرتبك ما شاء الله وصل أكتر من أتناشر جنيه… ودا مبلغ عال مش بطال… يغنيك عن سؤال اللئيم. وأنت سيد العارفين المرسح ما بيأكلش عيش.
* دا لأننا عين في الجنة وعين النار… لازم نركز ونخلي عينا في ناحية واحدة بس.
ـ ويا ترى هتخلي عينك في الجنة ولا النار؟
* في الجنة طبعاً.
ـ يعني اخترت الوظيفة.
* إذا كأنت الوظيفة هي الجنة… فأهلا وسهلا بالنار!
ـ أيوه بس هتعمل إيه بعد كده؟
* شوف يا سيدي أنا ليا واحد صديق مجنون زينا كده بالفن… أبوه مات من أسبوعين… أخينا ده ورث قرشين مش بطالين عن المرحوم… جه أمبارح فاتحني في حكاية كده حسبتها لقيتها فرصة… نكون جوقة مرسحية ونبقى أحرار منشتغلش عند حد.
ـ مين صديقك ده أنا أعرفه؟
* ما أظنش… اسمه سليمان حداد… زمانه جاي دلوقت خليك لما تسلم عليه.
ـ حداد… طب حاسب يا عم عزيز تنكوي بناره.
* بقولك إيه… ما تقايس أنت كمان يا نجيب وتعملها معايا.
ـ أعمل إيه؟
* تستقيل أنت كمان من البنك.
ـ مينفعش.
* ليه بس؟
ـ أنت راجل بطولك… لكن أنا فيه كوم لحم في رقبتي… أمي وأخواتي!
ودع عزيز عيد الوظيفة إلى الأبد، فتقدم باستقالته من البنك الزراعي في العام 1908، وقرر بعدها مباشرة تكوين أول فرقة مسرحية بشكل احترافي، مع صديقه الممثل سليمان حداد، حيث قاما باستئجار “تياترو إسكندر فرح” في شارع عبد العزيز بجوار مقهى إسكندر فرح، ليكون مقرا للفرقة الجديدة.
اجتهد عزيز عيد في تكوين الجوق المسرحي، وجمع له عدداً كبيراً من الممثلين الهواة كان في مقدمهم نجيب إلياس ريحاني، واعتمد في البداية على رواية “ليلة الزفاف” ترجمها له الأديب إلياس فياض، ثم تولى بنفسه ترجمة عدد من الروايات المسرحية من الفرنسية إلى العربية، وأخرجها للفرقة، وشارك فيها نجيب بأدوار تتراوح بين الصغيرة والثانوية، حيث كانت البطولة دائماً للشريك الثاني في الفرقة الممثل سليمان حداد، فقدمت الفرقة روايات “ضربة مقرعة، الابن الخارق للطبيعة، عندك حاجة تبلغ عنها”.
توالت الروايات في فرقة عزيز عيد، وزاد انشغال نجيب بها، على رغم صغر أدواره، وعدم اقتناعه بنوعية ما يتم تقديمه من روايات تعتمد على الكوميديا، فلم يكن نجيب يميل إلى الكوميديا، بل يرى ان “الميلودراما” هي الفن الحقيقي، وأنه كلما استطاع الفنان أن يبالغ في إبكاء المشاهدين، كان بارعاً ومتمكناً من فنه، لكن هذا هو المتاح أمامه في الوقت الراهن، في حين كان عزيز عيد مشغولاً بترقية الكوميديا، ويرى أن الجمهور لابد أن يتعود على نوع أرقى من الكوميديا بعيدا عن كوميديا “الفصل المضحك”، وأن الجمهور المصري بحاجة لمشاهدة “كوميديا الفارس” الفرنسية ليتعرف إلى موضوعات الحياة المعاصرة وقواعد البناء الكوميدي الحقيقي.
اندمج نجيب في فرقة عزيز عيد وعروضها حتى انقلب حاله رأساً على عقب، فقد كان يمضي يومه بين البروفات على الرواية التي تقدمها الفرقة، وبين الاستعداد لرواية جديدة، ثم العرض في المساء حتى ساعة متأخرة، يخرج بعدها لاستكمال بقية الليل في المقهى المجاور للتياترو، ولا يدخل بيته إلا قبيل الفجر على أطراف قدميه بعد أن يكون قد خلع حذاءه قبل دخوله البيت، خشية أن تشعر به والدته التي كأنت تعارض بشدة انشغال عائل الأسرة الوحيد بالتمثيل، أو بالتشخيص على حد قولها:
* أنا أمور المشخصاتيه دي متعجبنيش يا نجيب… حالك اتبدل وكيانك اتلخبط.
ـ أمور إيه بس يا أمي! أنت شيفاني بمشي ع الحيط ما أنا أهو زي ما أنا.
* ماهو ده اللي كان ناقص. شغل الأراجوزات كمان… والسهر لوش الفجر كل ليلة.
ـ أراجوزات!!
* أيوه… يظهر أنت مش عارف أنت مين وابن مين؟
ـ ابن المعلم إلياس ريحاني… شوفتي إزاي أنا عارف أنا ابن مين.
* أيوه ما هو إحنا كنا بنصرف عليك ونعلمك في مدارس ونوظفك علشان تشتغل مشخصاتي.
ـ دي هواية يا أمي… وبعدين أنا ما بضرش حد بيها.
* لا بتضر نفسك وتضرني وتضر أخواتك… وتضر اسم عيلة ريحاني وعيلة بُحلق.
لم يفت كلام السيدة لطيفة في عضد ابنها نجيب، وإن كان قد تظاهر أمامها بالالتزام بما طلبته منه، غير أنه لم يستطع أن يقاوم عشقه الجارف للفن الذي بات يجري في عروقه.
أهمل نجيب عمله في البنك حتى بلغ حدًا لا يحتمله أحد، فكم من ساعات بل أيام كان يتغيب فيها عن العمل، وكم من ممثلة كأنت تقتحم عليه مكتبه في البنك خصوصا صالحة قاصين:
= صباح الخير يا نجيب أفندي… قهوتك.
* صباح الخير يا عبده… آي والله القهوة جت في وقتها بالظبط أصل أنا دماغي هتنفجر.
= صباح الخير يا نجيب أفندي.
* صباح النور يا عبده… خلاص سيب القهوة عندك واتوكل على الله شوف شغلك.
= صباح الخير يا نجيـ………..
* صباح الزفت يا سيدي… صباح القطران على دماغك… إيه فيه إيه؟ نازل صباحات من غير مناسبة.. وبعدين إيه حكاية عينك اللي عمال تغمز بيها؟ شايف سحنه غزلاني قدامك بتتغزل فيها؟
= ما تفهم بقى يا نجيب أفندي… أنا بغمز لك بعيني علشان الجماعة بره.
* جماعة… جماعة مين يا جدع أنت.
= الجو…
* جو إيه وطقس إيه يا جدع أنت ما تتكلم عدل.
= يا نجيب أفندي الهانم اللي بتيجي كل يوم والتاني مستنياك في الاستراحة بره.
* طب مش تقول كده من الصبح يا عبده أفندي…. يا عبده بيه… هات لي قهوتي في الاستراحة… وهات لها هي “كازوزة”.
أمام هذه الزيارات المتكررة للفنانة صالحة قاصين، وغيرها من فنانات أخريات من الفرقة، فضلاً عن تكرار أيام الغياب والتأخير من دون إذن وحالات صارخة من الإهمال في عمله، وضع نجيب إدارة البنك الزراعي أمام حل وحيد لم يترك لها غيره، بعد إنذارات عدة لم يهتم بها، وهو توجيه خطاب بالفصل له، والاستغناء عن عمله في البنك في سبتمبر 1909.
لم يكن الخبر مفاجأة لنجيب فقد كان يتوقعه بسبب إهماله الشديد لعمله، غير أن الخبر وقع على والدته كالصاعقة، ليس لأن الأسرة ستفقد أهم مصدر لدخلها، لكن لضياع مستقبل ابنها، وليس أي ابن، بل من كان يتوقع له الجميع النبوغ والنجاح، غير أنها لم تكن لتستسلم لهذه الكارثة التي حلت بهم، وراحت تبحث بنفسها عن وظيفة له لدى أقاربها ومعارف الأسرة من الأفندية والبكوات الذين يعملون في مناصب مهمة في البنوك والشركات.
في مقابل ذلك، لم يكن أمام نجيب، بعد فصله، سوى مقهى إسكندر فرح بجوار “تياترو إسكندر فرح”، والأهم أنه أمام منزل “الحبيبة” صالحة قاصين، خصوصاً في غيبة “صديق الطرفين” علي أفندي يوسف، فلم يفت الدرس الذي لقنه علي يوسف في عضد نجيب وصالحة قاصين، وكانا يتحينان الفرصة لاختلاس نظرة أو ابتسامة أو حتى موعد غرام.
في اللقاء الأخير الذي زارت فيه صالحة نجيب في البنك، قبل فصله منه، اتفقت معه على أنها إذا وضعت نورا في النافذة، كان معنى ذلك أن علي يوسف مشغول في عمل ما، وليس موجوداً عندها في البيت حيث كان يزورها يومياً، وتكون تلك هي الإشارة بينهما، بالتالي يمكن أن تستقبل نجيب في البيت في وجود خالتها، التي كأنت ترحب بوجود علي يوسف على أمل بأن يتمم الزواج من ابنة شقيقتها.
في إحدى الليالي تراءى لنجيب أن نوراً يشع من النافذة، فعرف أن الطريق خال وربما كانت الحبيبة بمفردها من دون خالتها، فاتجه على الفور إلى باب منزلها، وما إن وقف على الباب حتى خلع حذاءه وتأبطه وراح يصعد درجات السلم بلا حذاء كي لا يحدث حركة، وطرق الباب طرقاً خفيفاً وهو ينظر إلى الأعلى والأسفل ويميناً ويساراً، وإذ بالفاتح علي يوسف نفسه وخلفه خالتها.
تناول علي يوسف الحذاء من أسفل إبط نجيب الذي تركه له في هدوء، وقبل أن ينطق علي أو خالتها بكلمة واحدة، أطلق نجيب ساقيه للريح، وظل يعدو في الشارع ببدلته الأنيقة حافي القدمين، من شارع عبد العزيز حتى بيته في باب الشعرية!
البقية في الحلقة المقبلة
الدرس الأول
في الموعد المحدد التقى الحبيبان (نجيب وصالحة) على رصيف محطة سكك حديد مصر، واستقلا القطار المتجه إلى الإسكندرية، وهما يرقصان فرحاً، ويمنيان نفسيهما بتمضية نهاية أسبوع سعيدة لم يرها أي منهما من قبل.
وصل القطار إلى محطة الإسكندرية، ونزل الحبيبان من القطار وأخذا طريقهما إلى خارج المحطة، وما إن خرجا حتى وجدا في وجهيهما علي يوسف يبتسم ابتسامة عريضة ويمد يده لنجيب يتسلم منه حبيبة القلب شاكراً له أنه أحضرها له إلى هنا، وعلى ما تكبده من مصاريف وأعباء السفر، فضلاً عن إنه أقرضه بعض المال الذي سيعينه على تمضية إجازة سعيدة مع المحبوبة!
ذهب علي يوسف وصالحة قاصين لينعما بيومين سعيدين بمنحة من نجيب، الذي ظل واقفاً مكانه أمام محطة القطار في دهشة من أمره، حتى دنت ساعة القطار العائد إلى القاهرة، فعاد يجرجر أذيال الخيبة والحسرة.
عاد نجيب من الإسكندرية، عازماً على ألا يستسلم لهزيمته أمام علي يوسف، وعاود الانتظار مجدداً على مقهى إسكندر فرح بشارع عبد العزيز، وهو المقهى نفسه دون غيره، الذي كان يجلس عليه ولا يفارقه علي أفندي يوسف، لسبب مهم ووجيه، وهو أن المقهى كان يقع في موقع استراتيجي مهم، فقابلته المنزل الذي تعيش فيه المحبوبة، التي يتنازع عليها الصديقان… وإن كانا قد صارا بعد هذا الحادث “غريمين”.
كان علي يوسف لا يفارق المقهى ليلاً ولا نهاراً، في تلك الأيام التي لم يكن لديه فيها عمل في المسرح، وهو ما جعل نجيب يبحث له، دون علمه، عن أعمال في بعض الفرق المسرحية، ويلتحق علي بواحدة من هذه الفرق لمدة ليلتين أو ثلاث ليال، يعود بعدها إلى الجلوس على المقهى، وإن كانت هذه المدة غير كافية بالنسبة إلى علي، إلا أنها كأنت كافية أن يقوم نجيب بعمل ما يشبه “غسيل المخ” لصاحبتيهما، حتى يجعلها تميل كل الميل تجاهه خلال فترة غياب علي، بل وبعد عودته بعدة أيام حتى يقوم باسترجاعها.
استطاع نجيب إلياس ريحاني أن يثبت أقدامه في وظيفته في البنك الزراعي خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، حتى إن راتبه الشهري زاد بمعدل كبير، وبدلاً من حصوله على خمسة جنيهات، أصبح راتبه ثمانية جنيهات شهرياً، وهو ما أسعد والدته وأحدث انفراجة كبيرة على أشقائه مع ما يتقاضاه توفيق من عمله ككاتب في المحكمة، وإن كان لا يزال الاعتماد الأكبر على راتب نجيب.
لم يستطع الراتب الكبير والوظيفة المستقرة أن ينسيا نجيب حبه، بل عشقه لفن التمثيل، فكان حريصاً، ربما أكبر من حرصه على الوظيفة، أن يعمل في فرقة صديقه عزيز عيد في المسرحيات التي كان يقدمها من حين إلى آخر، بل ويبحث عن غيرها من فرق في الفترة التي يتوقف فيها عزيز عن العمل، فلم يكن لديه مانع أن ينفق على التمثيل والمسرح من راتبه الذي يتقاضاه من وظيفته، حتى أصبحت لديه حصيلة كبيرة من المسرحيات التي قدمها خلال هذه الفترة.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
24-07-2012, 12:07 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 5: نجيب الريحاني… لعبة الست

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 23, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


بعد فصل نجيب إلياس ريحاني من البنك الزراعي، لم يكن هناك مكان يأوي إليه سوى مقهى «إسكندر فرح» أو كما أصبح رواده يطلقون عليه «مقهى الفنانين» في شارع عبد العزيز، يمضي فيه يومه بالكامل، متنقلاً بين الطاولات، يناقش ويجادل في أمر الفن والفنانين، يتحدث عن الأعمال التي شارك فيها والمسرحيات التي قدمها، لعل وعسى يجد من يطلبه للعمل هنا أو هناك، في هذه الفرقة أو تلك.
إذا كان نجيب استطاع أن يصبر على عدم العمل والجلوس «عاطلاً»، فأنه لم يستطع أن يصمد أمام إلحاح والدته الدائم عليه، حيث راحت تطارده ليلاً ونهاراً للبحث عن وظيفة لا تقل في شأنها عن وظيفته التي فقدها بإهماله في البنك الزراعي.
فوالدته لم تطق صبراً، ليس طلباً للإنفاق على الأسرة، فهي لم تعد تعتمد عليه ولا على توفيق في الإنفاق على البيت، فقد استطاعت أن توفر دخلاً ثابتاً من خلال مشاركتها العم «توما» في بعض الأعمال التجارية، حيث كانت تدخر مبلغاً من المال في أيام «العز» عندما كانت تجارة إلياس رائجة، فأعطت هذا المال لتوما لتشاركه الاتجار في مواد البناء، على أن يكون الربح مناصفة بينهما، الأمر الذي وفَّر دخلاً شبه ثابت لكليهما، وإن كانت لم تصرح لأولادها بذلك، حتى يستطيع كل منهم أن يشق طريقه في الحياة، ليس فقط توفيق ونجيب، بل لحق بهما أيضاً يوسف وجورج، وإن كان يوسف اختار أن يجلس إلى جوار توفيق ليساعده ككاتب في المحكمة، فلم يكن يستطيع أن يبذل جهداً في أي عمل لأنه «أحدب» تلك العاهة التي سببها له الشلل وهو طفل، أما جورج فلم يكن أحد يعرف عنه أو عن عمله شيئاً، فقد كان قليل الكلام، كثير الاختلاء بنفسه، دائم التفكير في ما حوله، غير أنه كان منتظماً في عمله.
الأخوان عطا الله
لم يكن نجيب يؤرقه عدم العمل لنفسه، بل بسبب نظرات أمه له كلما غدا أو راح، فقد عزم ألا يترك الفن، وفي الوقت نفسه يعرف أن هذه هي حال أهل الفن، من الممكن أن ينتظروا أشهراً بلا عمل، ومن الممكن أن يأتي لهم العمل بين طرفة عين وانتباهتها، وهو ما حدث مع نجيب عندما زار أمين
عطاالله مقهى إسكندر فرح ووجد نجيب يجلس بمفرده على طاولة في طرف المقهى، وقد غلب عليه النوم بسبب طول الانتظار:
* السلام عليكم.
• وعليكم السلام… اتفضل.
* إيه بتفضل لأني بدي إياك نجيب أفندي.
• بدك إياي أنا؟
* إيه معلوم… مو أنت نجيب إلياس ريحاني… هيك دلوني.
• هو بعينه. اتفضل. شاي يا سيكا للأستاذ… قولتلي اسم الكريم إيه؟
* محسوبك أمين عطا الله… من الشام.
• أنعم وأكرم ما هو باين.
* أهلين حبيبي أهلين… صحيح أنا من الشام لكن مصر بلدي التاني… من شان هيك بتلاقيني يومين بالشام ويومين بمصر.
• ومصر نورت يا خواجة أمين.
* مصر منورة بأهلها… وبعدين شو خواجة؟ ماني ضيف يا زلمي… أنا مصري متلك وأكتر منك.
• طبعاً طبعاً… الشاي يا سيكا.
* يا سيدي شايك مشروب… أنا جاي من شان أعرض عليك تشتغل في فرقة أخي سليم عطا الله.
• فين… في الشام؟
* لا… هون بمصر… لكن في الإسكندرية… كون فرقة منيحة كتير. وكمان بلدية الإسكندرية بتراعيها وتمدها بإعانة شهرية منيحة… ونحنا بنعطيك أربع جنيهات شهرية.
• عال… عال قوي.
* شو قلت؟
• وده سؤال برضه يا سي أمين… موافق طبعاً. من بكرة.. لا من بكرة إيه؟ من النهاردة. أقولك… دلوقتي… من هنا على السكة الحديد عدل… سُك على الشاي يا سيكا.
* منيح كتير… لكن السفر بيكون بعد بكرة بنتقابل في محطة السكة الحديد الساعة السابعة صباحاً وبنتوكل على الله…
• وأنا تحت أمرك من دلوقت ليوم التلات.
* بتكرم عيونك… ها دول جنيهين… روح دبر حالك واستعد للسفر.
• أنا بس كنت عاوز أسالك أنت ليه اخترتني أنا بالذات؟
* ولو يا زلمي… دلني عليك عزيز أفندي عيد… بيشكر فيك كتير كتير.
قبل نجيب العرض الذي جاء في موعده تماماً، لا سيما أن المرتب كان مغرياً جداً… أربعة جنيهات مصرية في الشهر، مبلغ رائع في ظل الظروف التي يعيشها نجيب، حتى وإن جاء نصف ما كان يتقاضاه من البنك، إلا أنه أول راتب ذي قيمة يتناوله من التمثيل، وإن كان قد اضطر إلى أن يكذب على والدته، للمرة الأولى، ويقنعها بأنه سيسافر للعمل في «بورصة القطن» بمدينة الإسكندرية حتى تبارك سفره، فهي لا تطيق أن تسمع كلمة واحدة عن التمثيل.
كان نجيب في محطة سكك حديد مصر في ميدان المحطة قبل الموعد المحدد للسفر بوقت طويل، وما إن وصل وأمين عطالله إلى الإسكندرية، حتى توجها إلى المسرح.
انتهت التجهيزات واستعدت فرقة سليم عطا الله لتقديم رواية «شارلمان الأكبر»، وتهيأت لنجيب الفرصة التي كان ينتظرها منذ زمن، وهي أن يسند له دور في إحدى الروايات التراجيدية بعيداً عن الكوميديا التي كان يقدمها عزيز عيد، لكن جرى العرف أن يتم إسناد دور البطولة دائماً إلى مدير الفرقة، إذا كان من أهل التمثيل، وهو ما حدث فعلاً، فقد أسند سليم عطا الله لنفسه دور البطولة، أما نجيب إلياس ريحاني فقد كان نصيبه الدور الثاني في الرواية، وهو دور أصغر كثيراً من دور البطل، حيث جسد دور الإمبراطور الفرنسي «شارلمان»!
نجح نجيب وأبهر الجمهور فكانت المفارقة أن مدير الفرقة سليم عطالله طرده.
عاد نجيب أدراجه إلى القاهرة، وفي قهوة الفن متسع للجميع، لكن هذه المرة طال به عهد البطالة، حيث حفيت قدماه سعياً وراء طرق الأبواب، ليس هو فحسب، بل عادت والدته تفاتح الأهل والأصدقاء والأقارب، حتى جاءتها البشرى في منتصف عام 1910، من أقارب لها من بلدتها «نجع حمادي» أبلغوها بأنهم استطاعوا أن يجمعوا له وظيفة كاتب حسابات في شركة السكر في نجع حمادي.
كان الإحباط قد استبد بنجيب، لذا لم يصدق نفسه عندما أخبرته والدته بأمر وظيفة شركة السكر، حمل حقيبته واتجه إلى محطة سكك حديد مصر ليستقل القطار المتجه إلى محافظة «قنا» ومنها إلى «نجع حمادي» حيث «شركة السكر».
تحيا الوظيفة
سارع إلى تسلم عمله هناك، مبتعدًا عن العاصمة بما فيها من شقاء، تاركاً خلفه وسط التمثيل الذي يعشقه ويتمناه، لكن ما في اليد حيلة، فلم يجن منه سوى الشقاء والبؤس والبطالة، وقبل هذا وذاك عدم رضاء أمه السيدة لطيفة، التي تشعر بأن الفن عدو لدود لها، يريد أن يختطف منها ابنها.
ما أن استقر نجيب في نجع حمادي بعدما استأجر بيتاً صغيراً يعيش فيه، ورفض أن يعيش في استراحة الشركة وسط العمال والموظفين، ليكون حراً يخرج وقتما شاء ويعود وقتما شاء من دون أن تكون هناك أعين تراقبه، ما انعكس على عمله فأظهر نشاطاً ملحوظاً فيه، ولم يمض وقت طويل حتى كان موضع ثناء رؤسائه وإعجابهم، وشعر نجيب بأن الدنيا بدأت تبتسم له، ولم تضحك بعد، فراح يرسم مستقبله الجديد بعيداً عن الفن والتمثيل، وإن كان لا يزال يجري في عروقه، لكن حياة الاستقرار منحته طمأنينة كان من الصعب التضحية بها، والجري مجدداً وراء سراب الفن الذي لا يزال يدير له ظهره.
استمر نجاح نجيب في عمله، ولم يكن له سوى عمله في الشركة نهاراً، وقراءة عدد من الروايات الفرنسية ليلاً، حتى إن التجمعات التي كان يقيمها بعض العاملين مساء الخميس من كل أسبوع يتسامرون فيها ويلعبون الورق ويشرب من يشرب منهم، لم يكن يحضرها، ويفضل أن يمضي ليلته مع واحد من أحبائه، موليير أو فكتور هوغو أو إميل زولا.
استمرت الحال تسير بشكل هادئ، وراحت أسهم نجيب ترتفع، بل إنه كان يرسل كل شهر ما يزيد على حاجته من المال لوالدته وأشقائه، ليصبح لديهم «بحبوحة من العيش»، حتى كان ديسمبر من عام 1910، عندما ضربت المدينة موجة شديدة من البرودة. في تلك الليلة، لم يجد نجيب لديه وقوداً يشعل به مدفأة صغيرة تعمل «بالكيروسين»، وأمام زيادة البرودة اضطر إلى أن يطرق باب جاره المقابل له توفيق أفندي ميخائيل، وهو في الوقت نفسه «باشكاتب» الشركة، لطلب بعض الوقود ليمد به مدفأته، وما إن انفتح باب جاره حتى كاد يغشى عليه من هول المفاجأة، فهو يعرف أن توفيق أفندي الباشكاتب رجل تخطى الستين من عمره، تلاحقه الأمراض المزمنة، خصوصاً الربو على رغم أنه غير مدخن، غير أن نجيب فوجئ بملكة جمال تفتح له الباب، ظن أن الرجل ليس في منزله وفتحت ابنته، وأمام المفاجأة تلعثم وأصفر وجهه وأحمر من شدة الخجل، ولم ينطق ببنت شفة، ظل واقفاً صامتاً يتأمل جميلة الجميلات لا يتحدث، حتى جاء من خلفها توفيق أفندي:
* أهلا نجيب أفندي اتفضل.
• مس… مسا… مساء الخير يا توفيق أفندي. أنا آسف على الإزعاج.
* مفيش إزعاج ولا حاجة اتفضل ادخل.
• لا لا شكراً الوقت متأخر… أبقى آجي وقت تاني… أنا بس الدنيا تلج والجاز خلص من عندي وكنت محتاج بس شوية «جاز» لو ماكنش فيها إزعاج.
* بس كده… هاتي صفيحة الجاز يا ماتيلدا من جوه أصل البنت الخدامة مشيت بدري النهاردة بسبب الجو ده… صحيح نسيت أعرفكم ببعض… سي نجيب أفندي إلياس… مستوظف عندنا في حسابات الشركة ودي ماتيلدا مراتي.
وقعت الكلمة كالصاعقة على رأس نجيب… توفيق أفندي العجوز الذي تخطى الستين زوج لهذه الملكة المتوجة… كيف؟!
عودة إلى الشارع
منذ هذه الليلة ووسط هذه الأجواء قارسة البرودة ولد الحب في قلب نجيب وماتيلدا ملتهباً، وأصبحت صدفة نقص الوقود من بيته، عادة تتكرر بشكل شبه يومي، بل أصبح هناك الكثير من الحجج لطرق باب «باشكاتب» الشركة، ولولا أن الرجل لم يكن له في اللهو واللعب ولا أمور التسالي، لوجد الفرص سانحة لتمضية ساعات لديه، لكن توفيق أفندي لم يكن له في هذه الأمور، وعلى رغم ذلك كان الحب يزداد كل يوم وينمو، حتى إنهما راحا يفكران كيف يتوجان هذا الحب بالزواج، فاتفقت ماتيلدا مع نجيب أن تقوم بتغيير ملتها من الأرثوذكس إلى الكاثوليك لطلب الطلاق من زوجها… غير أن نجيب طلب منها أن تنتظر حتى يقوم بإجازته وتفعل ذلك حتى يكون بعيداً وقت حدوث ذلك.
وفي أحد أيام شهر فبراير 1911، ومع بداية تحسن الأحوال الجوية، اضطرت أعمال الشركة الباشكاتب توفيق إلى السفر إلى مصر في مهمة خاصة، ورقص قلب نجيب ولعب الشيطان في رأسه، وظن أنه من الممكن أن تكون الفرصة سانحة للقاء الحبيبة، غير أن الخادمة ظنت أن لصاً اقتحم المنزل فراحت تصرخ حتى اجتمع الجيران وأهالي الشارع والخفراء الذين ألقوا القبض عليه داخل منزل الباشكاتب، وتحول الأمر إلى فضيحة مدوية لم يستطع نجيب أن يدافع فيها عن نفسه فاكتفت الشركة بفصله من عمله.
لم يستطع نجيب أن يقص على والدته السبب الحقيقي لفصله من الشركة مكتفياً بإخبارها بأنه خرج مع عدد من الموظفين باعتبارهم «عمالة زائدة»، لكنه لم يكن يدرك أن مفاجأة أخرى في انتظاره، غير أنها مفاجأة قاسية من العيار الثقيل، لم يتوقعها:
* أنا مش مصدقة نفسي… أنت نجيب ابني اللي أنا ربيته وعلمته.
• هو بعينه ياستي… إيه بس اللي اتغير؟
* لا… حاجات كتير اتغيرت.
• يا أمي هو نجيب بعينه وشحمه ولحمه… أنت بس مش اللي واخده بالك.
* نجيب ابني أنا ربيته على الأخلاق والفضيلة وحب العلم… مش المسخرة والتشخيص.
• أنا مش عارف بس أنت حاطه نقرك من نقر التشخيص ليه؟ هو بس عملك إيه؟
* خد مني ابني؟
• لا خده ولا حاجة ماهو قدامك أهو.
* لا مش هو… نجيب ابني كان أملنا أنا وأبوه… كان دايما إلياس يقوللي نجيب ده هو اللي هيكون في أخواته… هو اللي هيرفع اسم عيلة ريحاني ويعوضنا عن كل اللي راح… لكن يا حسرة… نجيب نفسه هو اللي راح.
• راح فين بس… اصبري يا أمي أنا.
* أنا مش ممكن أصبر على كده… أنت مبقاش لك مكان هنا في البيت ده.
• يعني إيه؟
* يعني اتفضل متورنيش وشك إلا لما ينعدل حالك وترجع لوظيفتك.
• كدهه… بتطرديني من بيتي يا أمي؟
* ده مبقاش بيتك.
• طيب… نهارك سعيد!
خرج نجيب من بيته ليلقى مصيراً غامضاً، فلم يجد مكاناً يأويه سوى الشارع.
البقية في الحلقة المقبلة
ثمن النجاح
وقف نجيب على خشبة المسرح يحاول أن يجتهد في دوره الصغير، فراح يصول ويجول في المساحة التي رسمها له المخرج، حتى جاء المشهد الأخير من الفصل الثالث من الرواية، وهو المشهد الأهم بالنسبة إلى دور نجيب، مكتوب بعناية فائقة، حيث يدور بين الإمبراطور الفرنسي «شارلمان» وبين بطل الرواية «سليم عطا الله»، واجتهد نجيب في أداء المشهد، بل وأخرج فيه خبرته التمثيلية كافة التي اكتسبها من الأعمال الكثيرة التي شارك فيها مع عزيز عيد، ومن مشاهداته الأخرى لروايات كبار الممثلين، حتى إنه تفوق على أعضاء الفرقة كلهم، بل وعلى بطل الرواية ومدير الفرقة نفسه، وحالفه النجاح بشكل لم يكن ينتظره، لدرجة أن جمهور المشاهدين استقبلوه في نهاية العرض باعتباره بطل المسرحية الأول، فلم يصدق نفسه حتى جاءه التأكيد من كل العاملين بالفرقة، بأنه ألغى وجود سليم عطا الله، لدرجة أن الجمهور لم يشعر به، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل ما أدهش نجيب ما شاهده بمجرد إسدال الستارة، جمهرة من الفضلاء والأدباء والمثقفين غالبيتهم من أصدقاء سليم عطا الله وشقيقه أمين عطا الله، صعدوا إلى المسرح لتهنئته، ولم يكتفوا بذلك بل قابلوا سليم عطا الله في غرفته، وطلبوا منه استدعاء نجيب وأجزلوا له التهاني أمام مدير الفرقة، موجهين إلى سليم نصيحة غالية بأن يحتفظ بهذا الفنان لأنه سيكون «وش السعد» عليه وعلى الفرقة، وسيكون أحد أكبر الممثلين في «مصر المحروسة» وبر الشام.
لم يصدق نجيب ما سمعه من هؤلاء المهنئين، للمرة الأولى يشعر بأنه ممثل بالفعل، وأن ثمة من يشعر بوجوده فوق خشبة المسرح، أصبح له جمهور يهتم به ويطلب وجوده ويتمنى بقاءه، ما جعله يتوقع أن يكون لذلك مردود مالي من مدير الفرقة سليم عطا الله، فيزيد الراتب الشهري ولو «جنيهين» ليصبح ستة جنيهات بدلاً من أربعة، وهو ما خمنه نجيب عندما استدعاه مدير الفرقة صباح اليوم التالي بشكل عاجل، وفي الطريق إليه راح نجيب يفكر هل ستكون مكافأة خاصة، أم علاوة دائمة على الراتب؟!
أغلق نجيب أزرار بذلته، وأحكم «الطربوش» فوق رأسه، ولمّع حذاءه في الجزء السفلي من بنطاله، وطرق باب مدير الفرقة سليم عطا الله:
* أهلين نجيب أفندي اتفضل… اتفضل.
• العفو يا جناب المدير.
* اتفضل يا زلما ولو…
• كتر خيرك يا خواجة سليم… قصدي يا سليم بيه.
* شوف نجيب أفندي ما في حكي أنك مشخصاتي منيح… منيح كتير.
• دا من ذوقك يا سليم بيه… أحنا بنتعلم منك يا سليم بيه.
* وأنك تستحق كل خير… وقليل عليك الراتب اللي اتفقنا معك عليه.
• والله كلك نظر يا سي سليم بيه… لكن يهمني تعرف أني مش طماع… وبرضى بقليلي.
* ولو. أنت يا زلما تستحق… لكن يا حسرتي الفرقة ما فيها إمكانيات تكافئ قدراتك.
• يا حسرتك أنت… قول يا حسرتي أنا. ما علينا… ولا يهمك يا سليم بيه مش مهم أنا راضي بالأربعة جنيه لحد ما ربنا يفرجها.
* ولو يا زلما… إذا أنت بترضى أنا ما برضى. أنت آدمي كتير نجيب أفندي… من شان هيك من الأفضل لك وإلنا إنك بتشوف حظك في فرقة أخرى.
• تقصد إيه يا سليم بيه.
* أقصد أن الفرقة استغنيت عن خدماتك وبنودعك وبنشكرك.
• يا نهار زي الحبر يا أولاد!! استغنيت عني!! إزاي؟
* هيك… متل الناس.
• أنت ما شفتش الجمهور كان عامل إزاي إمبارح… الجمهور قطع إيده من التصقيف.
* إيه… ما هو من شان هيك.
• تقصد إيه؟!
* قصدي من شان هيك نحنا ما بنقدرك التقدير اللائق.
• يا سيدي أنا موافق بالأربعة جنيه… أقولك… بتلاتة جنيه بس.
* بس أنا ماني موافق… فارقنا يا زلما.
• كدهه… ماشي يا سليم أفندي… يا سليم بس من غير أفندي ومن غير سلامو عليكم.
* فارقنا.. .الله معك.

شارك هذه المقالة




الجريدة


 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
24-07-2012, 09:27 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 6 : نجيب الريحاني… الدنيا جرى فيها إيه!

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 24, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


لم يعتد نجيب إلياس ريحاني أن يطأطئ هامته أمام أي خطب مهما كان قاسياً أو صعباً، فلم يناقش والدته في أمر بقائه في المنزل، خرج منه للمرة الأولى في حياته مطروداً، لا يعرف إلى أين سيذهب، أو ماذا سيفعل؟ فقد تعود منذ طفولته أن يظهر أمام أقرانه بمظهر المستغني، حتى لو كان لا يملك قوت يومه، الأهم عنده هو مظهره، لذا فقد حرص قبل أن يغادر بيت والدته على أن يأخذ معه حقيبة ملابسه التي كانت لا تزال كما هي منذ عودته من نجع حمادي، وقروشاً بسيطة كانت كل ما تبقى معه من راتبه، لم تكن تكفي لاستئجار حجرة في أحد فنادق منطقة “العتبة الخضرا” أو شارع “باب البحر”، أو حتى حجرة فوق أحد أسطح المنازل القديمة في المنطقة لمدة يوم، وسرعان ما أنفقها ليصبح خالي الوفاض، بلا مأوى، ولا مال، ولا مستقبل ينتظره، ومع ذلك لم يحن رأسه ولم تذل نفسه، وبقي كما هو، ولكن كيف يمضي نهاره؟ وأين يبيت لياليه؟
لو كان الأمر مقصوراً على الجوع وحده لهان الأمر، لكنه لم يجد مكاناً يأوي إليه كلما جن عليه الليل، فما إن تقترب عقارب الساعة من الثانية عشرة عند منتصف الليل، حتى يبدأ قلقه وتوتره، حيث تخلو الشوارع من المارة، ثم يتسرب زبائن مقهى الفن أو إسكندر فرح واحداً تلو الآخر، حتى إذا ما جاءت الثانية بعد منتصف الليل يكون المقهى قد خلا تماماً إلا منه:
ـ يا نجيب أفندي… نجيب أفندي.
* هه… أيوه يا سيكا… فيه حاجة؟
ـ بعد إذنك.
* إذنك معاك يا سيدي… اتفضل مع السلامة.
ـ اتحرك يا نجيب أفندي من ع الكرسي.
* إيه فيه إيه… انت محسسني إني دايس على ديلك.
ـ أنا ليا ديل… الله يسامحك يا سي نجيب… بعد إذنك بقى الكرسي علشان هنشطب… خلاص تشطيب.
* طب قول كده يا أخي من الصبح… يا نجيب أفندي وعن إذنك… وحاسب ديلي… اتفضل يا سيدي الكرسي… زي ما يكون كرسي العرش جاتك البلا.
يغادر المقهى من شارع عبد العزيز متجهاً إلى ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حالياً) ومنه إلى كوبري قصر النيل، سائراً في اتجاه الجيزة على قدميه، حتى إذا أعياه التعب اتخذ من “حشائش” إحدى الحدائق سريراً، وتوسد حجراً من أحجار الطريق يضع عليه رأسه، ويروح في نوم عميق إلى أن ترسل الشمس أشعتها، فيستيقظ من نومه ليعود أدراجه إلى المقر الرسمي حيث “مقهى الفن” في شارع عبد العزيز.
أمضى نجيب 48 ساعة لم يذق خلالها للأكل طعماً، ليس زهدًا منه، ولا أسفًا على شيء، فلم يعتد نجيب أن يأسف على شيء ضاع، لكن لأنه لم يجد وسيلة يكتسب بها ثمن “لقمة العيش” بما يكفي لسد جوعه، فلم يكن يهنأ بنومه قط، ليس فقط لأنه ينام في العراء يلتحف السماء، لكن لسبب أهم، وهو شدة الجوع.
استيقظ نجيب من نومه كعادته وقد قرص الجوع بطنه، ليلتفت بجواره تحت وسادته، الحجر الذي يضع رأسه عليه، فإذا به يجد كنزاً ثميناً قد لا يعرف قيمته إلا المفلسون!!
وجد نجيب “قرش تعريفة” خمسة مليمات، جزء من مائتي جزء من الجنيه، يا لها من بشرى:
* يا فرج الله… تعريفة حتة واحدة!! يا ما أنت كريم يارب… جت في وقتها.
للمرة الأولى منذ ثلاثة أيام ينزل طعام في جوف نجيب، فكان لا بد من أن يستغل الكنز الذي عثر عليه أفضل استغلال، فطلب وجبة دسمة عمادها “الفول المدمس والسلاطة والفلافل”… أما الشاي فكان كالعادة… حين ميسرة.
نفذ نجيب ومحمود صادق فكرة لم تنقذهما فقط من الموت جوعاً، بل أيضاً من النوم في الشوارع والحدائق العامة، فقد كان صاحب مكتبة المعارف يملك فندقاً صغيراً أعلى المكتبة، فاتفق معه نجيب وصادق أن يستأجرا غرفة في الفندق، بحجة التفرغ للترجمة والكتابة، على أن يخصم أجرة الغرفة من أجرهما عن الترجمة والكتابة، فوافق الرجل على إتمام هذه الصفقة التي خرج منها رابحاً مرتين، الأولى ترجمة الرواية وكتابتها بأسلوب أدبي شيق لنشرها في مكتبته، والثانية أنه ضمن إشغال حجرة في فندقه بشكل دائم، وقبض الأجر مقدماً.
مترجم وممثل
كان نجيب يعرف أنه دخل صفقة خاسرة، فقد كان يعمل مقابل الأكل والنوم فقط، وغالباً يكون مداناً لأسابيع مقبلة مضطراً إلى أن يعمل مقابل سداد أجرة الحجرة، ولم ينقذه من هذه الصفقة سوى الصدفة التي قادته لمقابلة صديقه الفنان مصطفى سامي في مقهى إسكندر فرح:
ـ نجيب. ابن حلال كنت لسه بفكر فيك.
* معذور… ماهو أصل أنا حليوه وأستاهل تفكر فيا.
ـ بلاش هزار وخلينا في الجد.
* يا سيدي هزر محدش واخد منها حاجة.
ـ لا اسمع بجد… أنت عارف أن أخويا الشيخ أحمد الشامي عنده فرقة.
* أنعم وأكرم.
ـ هو دلوقت بيدور على مترجم يترجم له روايات من الفرنسية للعربية علشان الفرقة.
* أي روايات والسلام؟
ـ لا طبعا… روايات كوميديا فودفيل.
* زي إللى كان بيعربها عزيز عيد لفرقته.
ـ بالظبط كده… وأنت هترجم رواية في الشهر.
* مفيش مانع… بس يعني… كده أرديحي؟
ـ لا طبعا هتاخد أجر.
* ياسيدي مش القصد… أنا قصدي يعني إن طباخ السم بيدوقه.
ـ مش فاهم تقصد إيه؟
* يعني نترجم الروايات… ومفيش مانع ناخد دور فيها… أنا مش طماع مش لازم البطولة.
ـ أوي أوي… هو هيلاقي أحسن منك فين يا نجيب… ويا سيدي أجرك عن الترجمة والتشخيص أربعة جنيه في الشهر.
* عال… عال قوي.
التحق نجيب بالفرقة، وسرعان ما أصبح أحد أعضائها البارزين، وبدأ بترجمة رواية “الابن الخارق للطبيعة”، ولأن الفرقة جوالة راحت تجوب مدن القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه، وكانت بطبيعة الحال إذا نزلت في بلدة اضطرت إلى البقاء فيها أياماً عدة، وإذا صادفها النجاح في هذه البلدة ربما استمرت أسابيع. بالتالي، فإن نزول أفراد الفرقة في فنادق كان سيكلف الفرقة مصاريف باهظة، ومن ثم كانت الإدارة تعمد إلى استئجار أحد منازل البلدة ينزل فيه الجميع ويطلق عليه اسم “بيت الإدارة”، غير أن هذه المنازل لم يكن بها سوى الأثاث فقط، فكان لزاماً على كل فرد من أفراد الفرقة أن يقوم بتجهيز ما يلزم من “فرش وغطاء” في رحلته، وهو ما قام به نجيب حيث وقف يحمل متاعه مثل بقية أعضاء الفرقة في محطة سكك حديد مصر:
* هنفضل ملطوعين كدا كتير يا سي أمين أفندي مش نعرف رايحين على فين.
ـ أنا سمعت غبريال أفندي بيقول إننا طالعين على بني سويف.
* طالعين ولا نازلين… المهم نمشي من هنا بدل ما الرايح والجاي بيتفرج علينا.
ـ يتفرجوا علينا ليه؟ إحنا فرجة.
* طبعا… كل واحد فينا شايل بقجة على رأسه فيها لحاف ومرتبة ومخدة… عاملين زي المهجرين اللي ملهمش متوى.
ـ على قولك يا سي نجيب أنت برضه مرحتش بعيد. ماهو الأرتيست اللي زينا ملهمش متوى… مطرح ما يحطوا ويقدموا فنهم تبقى بلدهم
* على قولك يا فيلسوف الغبرة.
أمضت الفرقة ثلاثة أسابيع في بني سويف، انتقلت بعدها إلى المنيا، ومن بعدها إلى أسيوط ومنها إلى سوهاج، وهناك انتهى نجيب من ترجمة الرواية الثانية “عشرين يوم في السجن”، التي لاقت نجاحاً كبيراً في سوهاج، لدرجة أن الفرقة استمرت في تقديم عروضها هناك ما يزيد على الشهرين، حتى ضاق نجيب بحياة التقشف، وتأخر دفع الرواتب، على رغم الأرباح الكبيرة التي تحصدها الإدارة، ما جعل نجيب يصب جام غضبه عليها، ليس بسبب نقص في الطعام أو عدم توافر المأوى، لكن حتى “مصروف الجيب”، ما حرم نجيب من ميزة غاية في الأهمية بالنسبة إليه، وهي “كي ملابسه” فلم يعتد نجيب أن يرتدي ملابسه دون “كيها” ما كان يسبب له مشكلة يومية حقيقية، فهو يرى أن أهم ما في الفنان هندامه ونظافة ملابسه، على عكس أغلب المحيطين به الذين يرون في ذلك تكلفاً زائداً لا طائل فيه، حتى اهتدى نجيب يوماً إلى حيلة تؤدي الغرض، وهي أن يضع “بنطاله” أسفل “المرتبة” التي ينام عليها، من المساء حتى الصباح، فتفعل فيه فعل “المكواة”.
عودة إلى الوظيفة
أتت الفرقة على أغلب محافظات الوجه القبلي خلال أشهر الشتاء والربيع، وكان عليها العودة إلى القاهرة، ليس للراحة، ولكن لأن الموسم الصيفي على الأبواب. بالتالي، لا بد من الانتقال إلى محافظات الوجه البحري والإسكندرية، وفعلاً كانت البداية في مدينة “طنطا” التي انتقلت إليها الفرقة وبدأت بإعادة رواية “عشرين يوم في السجن” لشدة نجاحها مع جمهور الوجه القبلي، وفي الوقت نفسه إلى حين انتهاء نجيب من ترجمة الرواية الجديدة.
وفي صباح أحد أيام شهر أبريل من عام 1911، وبينما كان نجيب لا يزال يتمدد على “المرتبة الجوالة” التي يصطحبها معه من محافظة إلى أخرى ومن بلدة إلى أخرى للنوم عليها، وإذا بمن يطرق باب الحجرة:
* افتح يا غبريال.
ـ يا عالم حرام عليكم… أنا مانمتش طول الليل.
* أنت برضه اللي مانمتش… معك حق… منمتش طول الليل من “السيمافور” اللي بيصفر طول الليل في مناخيرك.
= خلي عنكم هفتح أنا.
قام أمين أفندي وفتح الباب، ويا لهول المفاجأة، إنها السيدة لطيفة، والدة نجيب الريحاني، انتفض الريحاني من فراشه، وهو يحاول أن يداري نفسه، بل ويتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه، تسمرت عيناه مكانهما بينما راحت عينا والدته تتجولان في الحجرة التي يعيش فيها ابنها الفنان… حجرة فقيرة أتت عليها الرطوبة، وعدد من المراتب مفروشة على الأرض، وملابس وأغطية مبعثرة، مكان لا يرقى إلى عيش الآدميين.
استقرت عينا السيدة لطيفة على عيني نجيب… الذي لم يقو على النظر فيهما، فطأطأ رأسه خجلاً ما رأته والدته، وهو من كان يتحداها لأجل العمل بالفن، فهل تحداها لهذا المنظر الذي يبعث على الحزن والأسى؟ هل تحداها وخرج من بيته غاضباً لأنها رفضت أن يكون ابنها مجرد “مشخصاتي” أقرب إلى المشردين في الشوارع؟!
فقد اجتهد من أجل أن يدخل في روعها أنه على أحسن حال في عمله من الفن، وأنه ليس محتاجًا لخير يأتيه على يد أهله، ولكن أين ما كان يتحدث عنه، فقد انكشف أمره وظهر جليا ما فعله به حبه للفن والتشخيص، وبدورها لم تدخر والدته جهدا في إظهار نظرات من العتاب هي أقرب إلى الشماتة منها إلى أي شيء آخر، ولم تنطق سوى بجملة واحدة تلقاها نجيب وهو ينظر في الأرض ثم هز رأسه بالموافقة دون أن ينطق ببنت شفة:
ـ البس هدومك… وإذا لك حاجة هنا هاتها معاك… أنا مستنياك بره.
فقد وصل خطاب مسجل بعلم الوصول إلى نجيب إلياس ريحاني على عنوان منزله “في القاهرة” من شركة السكر “بنجع حمادي” تدعوه فيه إلى العودة إلى استئناف عمله بها.
حملت السيدة لطيفة خطاب الشركة وهي تطير فرحا، وبعد أن أضناها البحث عن مقر الفرقة التي يعمل بها ابنها، والسؤال هنا وهناك، والتنقيب عن أسر الممثلين، تسألهم عن أخبار أبنائهم، وأين يحطون الرحال، وأخيرًا اهتدت إلى أنهم يقيمون في طنطا… فلم تتردد وهبت من فورها لاستعادة ابنها.
عاد نجيب ومعه متاعه، بصحبة والدته إلى بيته في حي باب الشعرية في القاهرة، فلم تذهب السيدة لطيفة لمصالحة ابنها وإعادته بعد أن رق قلبها لحاله أو إنها عرفت الظروف القاسية التي يمر بها، بل ذهبت لإحضاره لسبب آخر أهم، فهي لا يهمها كيف يعيش بعيداً عنها، ولا كيف يأكل أو يشرب، فما دام بلا وظيفة، فلا مكان له في بيتها، لكن عندما يصبح له وظيفة تبحث عنه بنفسها وتعيده إلى بيته، فقد حدثت المعجزة وأرسلت إليه شركة السكر بنجع حمادي خطاباً تخبره بأن الشركة قد أعادت تعيينه، وتطلب منه سرعة الحضور… حقاً إنها معجزة… لكن كيف حدثت؟!
حدث خلاف حاد بين بعض موظفي الشركة وبين توفيق ميخائيل، غير أن الرجل بما له من خبرة طويلة في مجال عمله، لم يترك خلفه خطأ يمكنهم الوقوف عليه واستخدامه لفصله، بل إن رؤساءه وزملاءه أعياهم تصرفاته الصحيحة الملتزمة، غير أنهم لم يطيقوه بينهم، ولا بد من البحث عن حيلة يبعدونه، فلم يجدوا سوى إعادة غريمه المفصول نجيب إلياس ريحاني، فمن المؤكد أن عودته ستجعل توفيق أفندي يقول: “حقي برقبتي” ويفر من الشركة مهما كانت الإغراءات أو الأسباب التي تجعله يتمسك بها… لذا كان هذا سبب الخطاب الذي وصل نجيب لإعادته للشركة.
لم يبت نجيب ليلته في القاهرة، بل استبدل ملابسه الرثة بأخرى نظيفة مكواة، وتناول وجبة ساخنة حرم منها لأشهر طوال، وفي المساء كان جاهزاً بحقيبة ملابسه، اتجه إلى محطة سكك حديد مصر، حيث وصل القطار إلى نجح حمادي مع أول ضوء للنهار.
ما أن تسلم نجيب مهام عمله من جديد، حتى جلس إلى مكتبه ونظر إلى جدران الحجرة، وأقسم بأنه لن يعود إلى التمثيل مهما حدث، ومهما كانت الأسباب، وتكفي الليالي الطوال التي عاش فيها في الشوارع ونام فوق الأرصفة بلا مأوى وبلا طعام!
تسلم نجيب عمله في شركة السكر، لكن ليس كسابق عهده، فعلى رغم أنه خرج من الشركة مطروداً بفضيحة مدوية، إلا أنه عاد إليها مديراً للحسابات، فقد رأى رؤساؤه إمعاناً في التضييق على توفيق أفندي، أن يكون نجيب هو رئيسه في العمل وأن يكون من اختصاصه مراقبة أعمال توفيق، على عكس ما كان، كذلك لم يدخر الرؤساء توصية قدموها إلى نجيب لأجل “تطفيش” توفيق أفندي.
وجد نجيب الفرصة سانحة أمامه، ليس فقط للانتقام من توفيق أفندي، بل لينال رضا رؤسائه وتثبيت قدميه في هذه الوظيفة التي لم تكن تخطر له على بال، ولو في الأحلام… وبدأ على الفور في تنفيذ مخطط قيادات الشركة، وبدأت أحداث مسلسل “تطفيش” توفيق أفندي… غير أن نجيب لم يتوقع ما رأه.
(البقية في الحلقة المقبلة)
رفيق الشارع
في إحدى الليالي، وبينما كان يقطع رحلته اليومية من مقهى الفن إلى منطقة الجزيرة في نهاية كوبري قصر النيل، وبينما يتلمس مكانه اليومي الذي ينام فيه، تعثرت قدمه بشيء تحسسه فإذا برجل آخر سبقه، فنام إلى جواره من دون أن يوقظه، وفي الصباح نظر إلى جواره ليتبين النائم، فإذا به يجد أحد أقرب أصدقائه، الكاتب محمود صادق سيف:
* يادي الداهية السودة… محمود صادق؟ إيه اللي جابك هنا؟
ـ اللي جابني هو نفس السبب اللي جابك يا سي نجيب!!.
* عال قوي… أدي إحنا بقينا في فندق واحد… هاهاهاها.
وجد نجيب إلياس ريحاني رفيقاُ للرحلة اليومية، بل وأنيساً يمضي معه الليل في هذا العراء، يوماً بعد يوم راح كل منهما يشكو حاله وسوء طالعه للآخر، يلتقيان معا عند منتصف الليل في المقهى، يسيران معاً إلى حيث ينامان، ويمضيان الليل في السمر والضحك والحديث حول الفن والتمثيل والكتاب والأعمال العالمية، حتى يغلبهما النعاس، ويفترقان في الصباح، كل إلى طريق، إلى أن جاءه صادق يوماً وهو مبتهج متهلل:
* اسمع يا نجيب عندي لك موضوع هيطير عقلك.
ـ اسم الله يعني هو ناقص… ما البرج اللي كان فاضل طار من النوم ع الرصيف… وعلى كل قول ياسيدي… خير؟!
ـ الراجل صاحب “مكتب المعارف” يعرفني وكنت بتردد عليه من وقت للتاني… لأنه كان ساعات بيكلفني أكتب له حاجات كده.
* القصد. وبعدين زهق منك يعني؟
ـ لا يا أخي اصبر بس. النهارده فاتحني في موضوع قلت له سبني أدورها في دماغي وأرد عليك.
* خير يا سيدي.
ـ جاب لي رواية بتصدر في سلسلة اسمها “نيكولا كارتر” مكتوبة بالفرنسية… وطلب مني أترجمها.
* عال… كده ضمنا أن “مكتبة المعارف” هتقفل.
ـ اسمع بس يا أخي بلاش تريقة… أنت عارف أني مليش في الفرنساوي.
* ما أنا برضه بقول كده.
ـ ما هو علشان كده أنا فكرت… إن أنت تترجم وأنا أصيغها بشكل أدبي… كل أسبوع جزء من السلسلة… وهو هيدفع في الجزء ميه وعشرين قرش… أنت ستين قرش وأنا ستين قرش… إيه رأيك يا أبو الأنجاب؟!
* ودي بدها رأي… أنت تستاهل ستين بوسة… لا يمني ع الجزء الأول.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
26-07-2012, 12:41 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 7 : نجيب الريحاني… ياما كان في نفسي

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 26, July 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط


لم يدخر نجيب إلياس ريحاني جهداً في محاولاته «لتطفيش» توفيق أفندي ميخائيل، باعتباره رئيسه الجديد في العمل، وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها نجيب ذلك التحول في شخصية توفيق، من رئيس إلى مرؤوس، انصاع لكل أوامره واستجاب لكل مطالبه، مهما قسا أو بالغ في ما يلقيه على عاتقه من أعمال.
تحمل توفيق أفندي ميخائيل الأوامر التي وصلت إلى حد الإهانة، ورغم ذلك كله لم يتبرم من تصرفات نجيب الريحاني، بل ولم يحرك ساكناً… حتى إن نجيب نفسه ملَّ من القيام بمثل هذه المضايقات نحوه، ولأن ما يفعله نجيب ضد طبيعته وضد رغبته، لكنه ينفذ أوامر الرؤساء فحسب، قرر أن يكف عن مثل هذه المضايقات ويمتنع عن توجيه أي إهانة إلى توفيق أفندي، وليحدث ما يحدث، فوجد أن أحداً لم يلحظ ذلك، بل إن الرؤساء وجدوا أنه يكفي توفيق ما ناله من عقاب، خصوصاً أن حاله انصلحت على يد نجيب، بل والأهم أنه وتوفيق أصبحا منذ ذلك العهد صديقين، غير أن نجيب فضل أن تكون الصداقة قاصرة على العمل أو الجلوس معاً في المقهى، من دون أن يزور أي منهما الآخر في بيته، فقد اتخذ نجيب قراراً بأن يبتعد عن أي شبهات قد تجلب له وللآخرين مشاكل، الأمر الذي كان له مردود قوي على عمله واستقامته، ولم يجد أمامه سوى إتقان عمله ومراعاة الواجب فارتفع بأخلاقه إلى مستوى أذهل كل من حوله، حتى إنه لم يمض وقت طويل حتى حاز ثقة مدير الشركة وغيره من رؤساء، فارتفع بذلك مرتبه إلى 14 جنيهاً في الشهر، ليقترب من الطبقة البرجوازية الصغيرة.
ظل قرابة العامين هانئاً في عيشته راضياً بما كتب له في سجل الحياة، حتى إنه استطاع أن يقتصد من راتبه مبلغاً يزيد على مائتي جنيه.
محاولة فاشلة
في منتصف فبراير من عام 1912، فوجئ نجيب بخطاب يصله من القاهرة، ظن أنه من السيدة الوالدة، لكن ما إن فتحه حتى وجد المرسل عزيز عيد:
القاهرة في 13 فبراير 1912
عزيزي/ نجيب أفندي الريحاني
تحية وبعد
أرجو أن تكون بخير وسعادة عندما يصلك خطابي هذا الذي أرسله لك الآن وبعد كل هذا الغياب، بعد أن أصبح هناك ما يمكنني أن أقوله لك، بعد أن أصبح لفن التمثيل شأن آخر في بر مصر، وإن كان الفضل في ذلك يعود لأخينا الأستاذ جورج أبيض، الذي شرع في تكوين جوق مسرحي منذ أن عاد من باريز بعد انتهاء بعثته لدراسة فن التمثيل التي أرسله فيها صاحب السمو توفيق خديو مصر.
لن أطيل عليك أريد فقط أن أقول لك إن الأحوال تبدلت، والجوق الذي كونه جورج أبيض أصبح له شأن كبير ويقدم روايات عظيمة، وانضم له عدد كبير من الممثلين والممثلات، فلا أخفي عليك سراً عندما أقول إن الرواتب ارتفعت بشكل كبير وتدفع بانتظام، وأخوك عزيز أصبح يتقاضى الآن أربعة عشر جنيها مصرياً، وعندك الست صالحة قاصين وصل مرتبها إلى ألف قرش صاغ، يعني عشر جنيهات حتة واحدة، وأستر شطاح ثمانية جنيهات ونظلة مزراحي ستة جنيهات… وغيرهم وغيرهم.
نجيب… آن الأوان أن تكون موجوداً فأنا أعرف معدنك كممثل على قدر كبير من الموهبة والثقافة… لا تتأخر نريدك معنا.
أخوك عزيز عيد
انتهى نجيب من قراءة الخطاب ووضعه جانباً، واستلقى بظهره على سريره، وراح ينظر في «سقف الحجرة» ويسرح في خياله بعيداً حيث القاهرة، ليعيش ويتخيل هذه الأجواء الجديدة، بل ويتخيل نفسه مجدداً فوق خشبة المسرح، ويدوي تصفيق الجمهور له في أذنيه، لدرجة أنه راح يبتسم ويحني رأسه كمن يرد تحية الجمهور، ثم فجأة قفزت صورة والدته أمام عينيه، فاعتدل في جلسته… وراح يعيد قراءة الخطاب، ووقعت عيناه على الراتب الذي أصبح يتقاضاه عزيز عيد، إنه 14 جنيهاً، فابتسم وهزَّ رأسه، فهو الراتب نفسه الذي يتقاضاه الآن، ومن المحتمل أن يزيد، فخلال عام واحد تقريباً قفز راتبه إلى هذا الرقم، فمن الوارد جداً أن يزيد وربما يتضاعف خلال عام أو عامين على الأكثر، أضف إلى ذلك نعمة أخرى ربما لا ينعم بها من يمتهن التمثيل، وهي هدوء البال وراحة الأعصاب، وعدم التنقل من مكان إلى آخر، بل والأهم هو أنه ليس مهدداً بتوقف أو غلق الشركة لأي سبب كان، وهو ما قد يحدث لأي فرقة مسرحية، مهما علا شأنها أو عظمت قيمتها.
دقائق عصيبة مرت على نجيب، دار فيها صراع نفسي داخلي، انتهى بأن ينتصر رأي البقاء في نجع حمادي، خصوصاً بعدما قفزت أمامه صورة والدته، وهو يعرف رأيها تماماً في التمثيل ومن يمتهنونه، والموقف الذي قد تتخذه إذا فكر في العودة إلى التمثيل، فطوى الخطاب من جديد، ولتفعل فرقة جورج أبيض بالممثلين ما تشاء.
مرت الأيام سريعة وقد نسي نجيب أمر الخطاب الذي أرسله إليه عزيز عيد، بل إنه أغلق باب المناقشة بينه وبين نفسه في أمر التمثيل، حتى ذلك اليوم الذي كان يجلس فيه توفيق أفندي يتصفح جريدة «الأهرام» وقد انشغل في قراءة مقال ما، لدرجة أنه لم يسمع نجيب وهو يتحدث إليه:
* ياه… للدرجة دي مشغول أوي في القراية يا سي توفيق أفندي.
• هه… بتكلمني يا سي نجيب؟
* أمال بكلم الست والدتي. الثقافة واخده حدها معاك أوي.
• لا مؤاخذة ياسي نجيب ما أخدتش بالي.
* إيه اللي واخدك أوي كده في الأهرام؟
• حتة مقال عن رواية مرسحية… بس حكاية مؤثرة بصحيح.
* مرسحية!! أنت بتحب المرسح يا توفيق أفندي؟
• مش القصد… بس الكلام اللي مكتوب هنا كلام موزون تمام. زي ما يكون الناس المشخصاتية دول ولا أبو زيد الهلالي في زمانه، ولا عنترة بن شداد.
* ومين بقى المشخصاتية دول؟
• خد عندك يا سيدي… جورج أفندي أبيض، وعزيز أفندي عيد، و…
* جورج أبيض وعزيز عيد!!
• لا وكمان الست أستر شطاح والست صالحة قاصين، والست …
* بس بس استنى… صالحة قاصين؟ وريني كده.
• أهه… شوف.
* صالحة… والله عال. شوف يا أخي الدنيا.
• إلا قوللي يا سي نجيب… باعتبارك يعني من المحظوظين اللي عايشين في مصر أنت تعرف الجماعة المشخصاتية دول؟
* آه… قصدي لا. وأحنا إيش وصلنا ليهم يا سي توفيق… دول نجوم بتلمع في السما… شوف يا سيدي بيقولك الأرتست الست صالحة قاصين بلغت في دورها حداً بعيداً من الإتقان… وتقوللي أعرفهم؟
بعدها بدأ نجيب يقرأ ويتابع أخبار المسرح والمسرحيات التي يقدمها جورج أبيض وعزيز عيد، والشيخ سلامة حجازي، وفرقة أولاد عكاشة، وفرقة إسكندر فرح، وغيرها من فرق بدأت في الظهور تباعاً، وأسماء الممثلين الذين يقومون بتمثيل هذه الروايات التي ملأ صيتها ربوع بر مصر، بينما نجيب قابعاً في نجع حمادي، يتابعها من خلال ما يصل إليه من صحف ومجلات فحسب، حتى خارت المقاومة في نفسه ولم يعد يحتمل البقاء في أقاصي الصعيد، بعيداً عن هذا العالم الجديد الذي يفتح ذراعيه لزملائه الأقدمين فقرر القيام بإجازة:
* إيه ده يا نجيب أفندي؟
• دا طلب إجازة يا فندم.
* شهرين مرة واحدة؟
• سعادتك أنا داخل دلوقت على سنتين ما أخدتش يوم واحد إجازة… والست الوالدة بعافية شوية ولازم أكون جنبها الفترة دي.
• لا يا سيدي ألف سلامة… أوافق، بس متتأخرش ساعة واحدة بعد الشهرين.
* ربنا يستر يا فندم… يا إما أرجع قبل الشهرين ما يخلصوا… يا إما نبلط جنبها.
• تقصد إيه… أنت مش ناوي ترجع ولا إيه.
* لا راجع يا فندم راجع… كله بأمره… هنروح فين؟
سافر نجيب إلى القاهرة في إجازة شهرين، لكن الأهم أنه يحمل في جيبه مئتين من الجنيهات الذهبية الصفراء، هي كل ما ادخره من راتبه خلال الفترة التي أمضاها في نجع حمادي.
قُندس المنقذ
ساءت أحوال نجيب بعدما عادت «حمى التمثيل» تغلي في رأسه في الغدو والرواح، فلم يهنأ له بال ولم يرتح له فؤاد، فاهتدى إلى حل موقت وجد فيه سلواه، عندما زار عيادة صديقه طبيب الأسنان جودة للمرة الأولى بسبب ألم أسنانه، ليشكو له سوء حالها، من دون سبب واضح:
* لا دي أول مرة.
• بس أسنانك نضيفه مش واضح عليها أي تسويس.
* بص كويس يا دكتور… أمال الوجع ده من إيه؟
• صدقني يا نجيب أفندي سنانك زي اللولي… يمكن بس اللثة ملتهبة شوية… أنا هكتب لك على مضمضة بعد الأكل تلات مرات وهتبقى زي الحديد.
* إزاي بس… دا اللي بيسف معلقة سكر سنانه بتسوس… مابالك والعبد لله شغال في شركة سكر من بابها… دا مش بس تسوس… دا سناني بتطرح سوس.
• هاهاها… مش للدرجة دي. هو بس تلاقي فيه حاجة مزعلاك وبتفكر فيها. وده ممكن يعمل ألم في السنان.
* عندك!!
• إيه خير فيه إيه؟
* أنت حطيت إيدك ع الجرح.
وجد نجيب في الطبيب جودة ضالته، حيث أنصت إليه الطبيب، واستمع إلى عشقه التمثيل، وانتهز نجيب الفرصة وراح يحكي له عن الأدوار التي أداها على قلتها، والأدوار التي شاهدها في فرق سلامة حجازي وعزيز عيد وجورج أبيض وأولاد عكاشة وإسكندر فرح والأخوين عطا الله، على كثرتها، ووجد نجيب اهتماماً من صديقه الطبيب، فأصبح زبوناً دائماً لديه، حتى بعدما شفيت أسنانه، فذهب إليه ليجبره على الإنصات إليه، ليس يالحديث ولكن بالتمثيل، فكان يجبر الطبيب على أن يترك عمله ويقف يشاهده وهو يلقي عليه بعض المشاهد المسرحية التي شاهدها أخيراً خلال زيارته القاهرة، فيقلد تارة جورج أبيض، وطوراً عزيز عيد أو أحمد فهيم، أو غيرهم من كبار الممثلين!
أصبحت زيارة عيادة الأسنان رحلة يومية يقوم بها نجيب، حتى ضاق به صديقه جودة ذرعاً، لدرجة أنه أصبح يتهرب منه حين كان يجبره على سهر الليالي، ليسمع ويشاهد أقوال «لويس الحادي عشر»، وصرخات القائد المغربي «عطيل»، وتأوهات الملك «أوديب» وغيرهم من بقية شخوص مسرح الأزبكية.
أصبح الصديق الدكتور جودة بمثابة «جمهور» نجيب الوحيد في غربته في أقاصي الصعيد، يفرغ في رأسه ما حفظ من مشاهد ومواقف تمثيلية، وعندما ينتهي من أدائها يؤلف مونولوجات وأزجالاً، بل وأغاني ومنثورات فنية، حتى يضمن بقاء «جمهوره الوحيد» ولا يمله. شاءت الأقدار أن يصبح عدد الجمهور اثنين بدلاً من واحد، عندما أتى إلى نجع حمادي مهندس جديد، ولعبت الصدفة دورها في الجمع بينهما، ليس في اللقاء الأول عند طبيب الأسنان فحسب، بل الأهم في الهواية وحب التمثيل بجنون:
•ؤطبعاً متعرفوش بعض.
* أتشرف.
• دا يا سيدي الباشمهندس محمد أفندي عبد القدوس… ودا بقى نجيب أفندي الريحاني.
= أهلا وسهلا أهلاً وسهلاً.
* وسيادتك بقى يا سي محمد جاي هنا غضب ولا رضا
= مش فاهم؟
* يعني جاي نجع حمادي ترقية… ولا غضب من رؤسائك ونقلوك آخر بلاد المسلمين؟
= هاهاها… دمك خفيف قوي يا سي نجيب. لا يا سيدي أنا جاي هنا بمحض إرادتي لأن دا واجب عليّ… طالما اتعلمت لا بد أعلم غيري علشان كده رفضت الوظيفة في القاهرة وطلبت آجي هنا مدرسة نجع حمادي الصناعية.
* لا… دا أنت ملك قوي.
• على فكرة يا نجيب… محمد أفندي مجنون بالتشخيص زيك.
* كده… عال… عال قوي… يا عم قندس.
= إيه قندس دي؟
* قندس دي دلع عبد القدوس… واللي بحبه بدلعه من أول جلسة.
= لا… دا أنت ظريف أوي. سبحان الله في طبعك.
ائتلف الثلاثي، نجيب وجودة ومحمد عبد القدوس، ائتلافًا تاماً، ووجد نجيب في محمد عبد القدوس رفيق درب، لدرجة أنه اقترب منه أكثر من اقترابه من الدكتور جودة، يجلسان ساعات طوال يتباحثان كثيراً في فنون «الدردحة» وحب المسرح والروايات العالمية، حتى أصبحت لقاءاتهما اليومية جنوناً في جنون، يلقي محمد عبد القدوس مونولوجاً، يجلس نجيب منه في مكان «الجمهور» من الممثل، ثم يأتي دور نجيب فيلقي قطعة تمثيلية يحتل عبد القدوس فيها موقع الجمهور، وهكذا إلى أن يأذن الليل بالرحيل، وفي كثير من الأحيان، كان أحدهما يضطر إلى المبيت عند الآخر، ولم يعد أحدهما يفارق الآخر، لا في الصحو… ولا في المنام، لدرجة أن الدكتور جودة الذي كان يضطر أحياناً إلى التهرب من نجيب، أصبح هو من يبحث عنه لكثرة انشغاله وارتباطه بمحمد عبد القدوس، حتى استيقظ نجيب يوماً على صدمة كبيرة، كموجة عاتية، أطاحت بالقصور كافة التي بناها على الرمال!
(البقية في الحلقة المقبلة)
نظرة عن بُعد
لم يطق نجيب أن يجلس يومه الأول في القاهرة مع والدته وأشقائه، الذين رحبوا به أيما ترحاب، خصوصاً أنه أصبح موظفاً كبيراً يتقاضى راتبه بالجنيهات الذهبية، لكنه خرج من فوره ليتنقل بين مسارح الأزبكية وشارع عماد الدين، وشارع عبد العزيز.
عالم ساحر، كأنما يراه نجيب للمرة الأولى، اختلفت الرؤية، وتغير الشكل، زادت الخبرة لدى من يترجمون الروايات العالمية الفرنسية والإنكليزية، وزادت خبرة الممثلين الذين يقدمونها، غير أن أكثر ما أصابه بالحزن رؤيته الشيخ سلامة حجازي وهو يقدم وصلات غنائية بين فصول مسرحية «نسيم القلوب» وهو جالس على كرسي، بعد إصابته بالفالج (الشلل النصفي) وبينما كان نجيب يخرج من باب مسرح إسكندر فرح، إذا به يلتقي عزيز عيد:
• معقول… نجيب الريحاني في القاهرة، وفي تياترو إسكندر فرح؟!
* أهلا أهلا عزيز أفندي.
• أهلا بك يا عم نجيب… أنت فين يا راجل؟
* أهه… في الدنيا… لسه عايشين.
• وصلك جوابي ولا لأ.
* وصل يا أستاذ… في الحقيقة أنا مقصر معاك.
• لا مش القصد. بس أنت خسارة يا نجيب. الدنيا بتفتح وأنت من الفنانين البارعين ودورك هنا في المحروسة… مش في الصعيد الجواني.
* والله نفسي يا عزيز… لكن…
• لكن إيه… مكانك موجود في «جوق أبيض» اللي كونه الأستاذ جورج أبيض من بعد ما رجع من باريز.
* أيوه بس أنت أدرى مني… الفن ما بيأكلش عيش. والرصيف خد من جتتنا راقات.
• خلاص مبقاش فيه أرصفة… الدنيا اتغيرت يا نجيب. فيه اهتمام دلوقت بالفنانين والتياتروهات… غير الأول…
* أيوه بس…
• ما بسش… أحنا هنضيع وقت ليه؟ بينا على تياترو الأزبكية أعرفك على جورج أفندي وتمضي العقد فوراً
* أصبر بس… عقد إيه؟
• مش بقولك الدنيا اتغيرت… مفيش حد دلوقت بينضم للجوق إلا لما يوقع عقد اتفاق… يقولك إيه حقوقك… وإيه التزاماتك.
* لا… دا أحنا اتقدمنا قوي.
• مش بقولك… يلا بينا.
* أنا بقول طالما الحكاية فيها عقود والتزامات… تديني فرصة أرجع نجع حمادي أسوي حالتي وأنهي التزاماتي هناك… وبعدين أرجع اتقيد بالتزامات هنا. ودلوقت يلا بينا على تياترو الإزبكية… نتفرج بس على جوق جورج أبيض… مش لتوقيع عقود.
• دا أنت حظك من السما… النهاردة أول عرض لرواية «أوديب الملك».
لم يدخر نجيب الريحاني جنيهاً يملكه إلا وأنفقه على مشاهداته وسهراته في مسارح وفرق القاهرة، حتى عندما انتهت الإجازة، لم يجد في جيبه «قرشاً واحداً»، فاضطر إلى أن يقترض من شقيقه توفيق ثمن تذكرة القطار الذي سيقله إلى نجع حمادي، واكتفى بأن تكون تذكرة في الدرجة الثالثة، ليعود وكله حسرة وألم على فراق هذا العالم السحري، وإن كان ما آلمه أكثر هو نظرة والدته له بعدما علمت بأنه لم يتبق معه شيء من جنيهاته الذهبية، وعلمها بأنه أنفقها كلها على لياليه المسرحية.
عاد نجيب إلى عمله في نجع حمادي، غير أن عودته هذه المرة اختلفت تماماً عن عودته الأولى، فقد رجع غير مقبل على العمل، فلم تعد تلك المشاهد التي علقت في ذهنه من مسارح الأزبكية، وإسكندر فرح، وفرقة أولاد عكاشة وغيرها من فرق مسرحية في القاهرة، تفارق خياله، حتى ساءت حالته النفسية بسبب ابتعاده عن هذه الأجواء التي تنذر بمولد مسرح مصري حقيقي ومختلف، ولم يسره بالطبع أن يكون بعيداً عن هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ المسرح، غير أنه يقع في حيرة من أمره، فلا تزال الصورة التي عاش عليها قبيل مجيئه إلى نجع حمادي في المرة الأولى ماثلة أمام عينيه من ناحية، ونظرات أمه إليه وإلى التمثيل والممثلين أمام عينيه من ناحية أخرى.

شارك هذه المقالة


 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
26-07-2012, 09:56 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 8 : نجيب الريحاني… قسمتي

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 26, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


أشهر قليلة تلك التي شعر فيها نجيب بنعمة الصداقة الحقيقية والرفقة بقدوم المهندس محمد عبد القدوس، الذي ملأ عليه حياته، وأنسى كلاهما الآخر مرارة الغربة، حتى استيقظ يوماً على خبر صدمة بشكل كبير. فقد وصل خطاب من مديرية التعليم إلى المهندس محمد عبد القدوس تستدعيه للعمل في إحدى مدارس القاهرة الصناعية، وكان عليه أن ينفذ أمر النقل من فوره.
شعر نجيب بأن مرور محمد عبدالقدوس بحياته كان كالطيف الجميل، الذي مر به، فأسعده ثم أكمل رحلته، ليتركه وحيداً يكابد شوقه للتمثيل في تلك الغربة المريرة.
تدافعت الأيام متشابهة على نجيب. حتى إنه لم يحاول العودة إلى الزيارات اليومية إلى الدكتور جودة، فقد أصبح يسيطر عليه الملل والنوم مبكراً، إلى أن وصل إلى نجع حمادي في شتاء 1913 رجل بلجيكي بصحبة زوجته الفرنسية. يعمل الرجل في مهنة التنويم المغناطيسي، بينما زوجته تقوم بما يسمى «قراءة الكف» فقد جاءا النجع كواحدة من محطات عدة يمران بها، ليقوما بإحياء بعض حفلات في المدينة أمام جمهور الأهالي، فيأتي الرجل بعدد من الألعاب المدهشة التي لم يكن يعتادها الجمهور، اللهم إلا بعض الحركات البسيطة التي كانوا يشاهدونها من بعض الحواة، غير إنها لم تكن ترقى إلى هذا المستوى المدهش.
على رغم الدهشة التي سببتها عروض الرجل البلجيكي، إلا أنها لم تكن تساوي شيئاً إلى جوار ما قامت به زوجته من قراءة كف بعض من أرادوا ذلك، فما إن يمد لها أحدهم يده وتتفرس كفه، حتى تبدأ بقراءة ما فيها وكأنها تتلو من كتاب بين يديها، ما أدهش نجيب بشكل أثار فضوله لمعرفة ما يخبئه له المستقبل. غير أن المبلغ الذي تتقاضاه تلك الفرنسية كبير، ونجيب لا يزال يسد ديون رحلة القاهرة، حيث كان عليه الاستدانة فور عودته من رحلته، ويتم ترحيل الدين من شهر إلى آخر.
في إحدى الليالي، ذهب نجيب مع عدد كبير من العاملين في الشركة لحضور حفلة لهذا البلجيكي وزوجته، وما إن انتهى العرض حتى تقدم الزوج بعدد من «التذاكر» ثمن الواحدة منها «20 مليما» ستكون واحدة من بين هذه التذاكر فائزة، أما الجائزة فهي أن تقوم الزوجة الفرنسية بقراءة كف الفائز عصر اليوم التالي في مقر إقامتهما.
تذكرة السعادة
سارع نجيب بشراء واحدة من التذاكر وهو يمني نفسه بالفوز لتقرأ الفرنسية طالعه المكتوب في كفه. ما إن انتهى توزيع التذاكر حتى تدافع الجميع لحضور عملية السحب، فيما بقي نجيب في مكانه وقد أغمض عينيه للحظة في انتظار اسم الفائز، وإذا بالرجل البلجيكي يعلن اسم عبد الكريم صدقي، ضرب نجيب الطاولة بيده لاعناً حظه العاثر، ولكن لعب القدر لعبته في اليوم التالي:
* بتنفخ وتفش ليه يا عبد الكريم أفندي… أنت المفروض إن محدش أدك النهاردة.
ـ على إيه بس يا سي نجيب. الحكاية مش ناقصة.
* هي إيه اللي ناقصة وزايدة. واحد زيك كسبان أمبارح «لوترية» وهتروح النهاردة بعد العصر تسلم أيدك لأختك الفرنسية تقطع في فروتك وتقولك ع اللي طالع واللي نازل في حياتك.
ـ لا طالع ولا نازل… ارتاح بقى يا سي نجيب. مش رايح.
* هو إيه أصله ده… أنا مش فاهم؟
ـ جاتلي مأمورية لسوهاج… ولازم أمشي دلوقتي فى التو واللحظة.
* يا حظك اللي زي وشك. قصدي يا حظك الأسود.
ـ مش كده والنبي؟
* لا بس اسمع… أنت وشك مش أسود أوي. أنت اسمر على خمري. يعني ممكن يكون حظك بني.
ـ أنت فايق وبتنكت يا نجيب أفندي.
* مش القصد والله… بس بدي أقولك إن ممكن تكون المأمورية دي فيها خير لك… مين عارف؟
ـ أنت شايف كده؟
* هو فيه غير كده؟
ـ طب يا سيدي حيث إنك بشرتني بالخير خد التذكرة دي روح أنت بيها خللي الست الفرنجية تشوفلك الطالع.
* أنت عارف يا عبد الكريم أفندي أني مليش في الخزعبلات دي…
ـ كده… طب خلاص أديها لفكري أفندي.
* والله ما أنا كاسف إيدك يا راجل. دا حتى أبقى أنا قليل الذوق.
خطف التذكرة من يد زميله عبد الكريم ووجهه ممتعض، غير أن قلبه كان يرقص بين أضلعه. ستتحقق أمنيته ويذهب لهذه السيدة فربما أخبرته بما سيكون عليه حبه للتمثيل، وهل سيتجه إليه أم سيظل وجهه في وجه عبد الكريم أفندي، وتوماس أفندي وفكري أفندي… وبقية فريق الأفندية زملاء الشركة؟!
قبل الموعد المحدد كان نجيب بين يدي السيدة الفرنسية، تناولوا معاً، نجيب والسيدة وزوجها، فنجاناً من القهوة، ثم ترك يده للسيدة التي راحت تنظر إليه، ثم تنظر في كفه، تطيل النظر في كفه، ثم تنظر إليه مجدداً، حتى بدأ القلق يساور نجيب، وراح يحدث نفسه:
ماذا ستقول هذه السيدة، هل هناك كارثة تظهر في كفي، أم أنها لا ترى شيئاً، أم أنها مدعية وتبحث عن كلام تقوله من ذلك الذي يُقال في مثل هذه المناسبات من نوعية «قدامك سكة سفر، وسيصلك خير وفير بعد نقطتين، والنقطتان إما ساعتين أو يومين أو سنتين…} وفي الغالب ستكون النقطتان سنتين، حتى تكون الفرنسية وزوجها قد فارقا نجع حمادي، أو فارقا بر مصر بأكمله، أو ربما فارقا الحياة!
أطالت السيدة النظر في عيني نجيب ثم قالت بالفرنسية التي يجيدها نجيب جيداً:
= خدمة الجيش لن يكون لك فيها عيش!
همس نجيب لنفسه قائلا:
* بدأنا النصب… خدمة جيش إيه يا خالتي أم ليشع. شحط زيي عنده أربعة وعشرين سنة لسه هيخدم في الجيش… جلتّ منك دي يا حيزبون. أكيد أنت عارفه أني موظف وفات معاد خدمة الجيش… القصد هاتي اللي عندك.
انصرف نجيب ذاهلا.. شعر بأنه كان يحلم.. فربما قامت السيدة بتنويمه مغناطيسيا وحلم بما قالته، ولكن زوجها هو من يقوم بالتنويم وليس هي، فكثير مما قالته السيدة عن حياته الماضية قد حدث بالفعل، ولكن ربما تكون الصدفة مع كلام يتم تكراره مع كثيرين غيره، ولكن الكارثة الحقيقية فيما هو آت.. راح نجيب يقطع الطريق إلى مسكنه سيرا على الأقدام وهو غائب عن الوعي يفكر فيما قالته هذه السيدة:
* لا… لا… ده أكيد نصب وكلام محفوظ بتقوله لكل واحد. أكيد الكلام ده كانت هتقوله لعبد الكريم أفندي لو كان هو اللي جه مكاني.
- لكن دي قالت لي على حاجات حصلت معايا زي حكاية الرفت من الشركة والرجوع لها مرة تاني بسبب الطيش اللي كنت فيه… بس كله كوم وحكاية الفلوس اللي من غير عدد دي كوم تاني… ومنين؟ يا حسرة دا مرتبي أول عن آخر أربعتاشر جنيه، ومفيش مؤشر يقول إني ممكن أورث… دا يمكن أنا أغنى واحد في العيلة. عمي توما باطه والنجم، وعمتي ماتيلدا الله يرحمها ماتت مديونة وجوزها بيسأل ربنا في حق النشوق… وحتى لو عنده ثروة… ماهي بنته الوحيدة هتورثها… وست الحبايب أم توفيق على الله زينا… يعني لاخال هيسيبلها تركة ولا عم هتورث عنه يشوفك في وصيته بحسبة كام ألف مصري يبحبحوك… لا… لا… مش بقولك دي ست بتتكلم من وسع. أمال بس منين رايح يجيني الغنى يا أخواتي إن ما جاش بالطريقة دي، هييجي من التمثيل؟ اسم الله… ده إخوانا باسم الله ما شاء الله مكانش يلف الشهر إلا والجعيص فيهم يستلف قد ماهيته مرتين!
وكله كوم وحكاية الجيش اللي مليش فيها عيش دي كوم تاني… أما ست نصابة بشكل!
لا واللي زاد وغطى حكاية حادثة الأتوموبيل دي. أعوذ بالله… طب بالعند فيكي عمري ماهشتري عربية حتى لو بقيت أغني واحد في البر كله… وريني بقى هتيجي منين حادثة العربية؟ ست بوزها ناشف.
مضى نجيب في طريقه يحدث نفسه وهو في دهشة من أمره، ويلعن الحظ الذي جعل عبد الكريم تأتي له مأمورية فيحل محله ليرى هذه السيدة ويسمع منها هذا الكلام، الذي لا أصل ولا فصل له. وظل بين أخذ ورد بينه وبين نفسه، وراح يعبر الشارع الرئيس في المدينة وهو على هذه الحالة، ولم يدر بنفسه إلا وهو يسقط على الأرض مغشياً عليه بعدما صدمه أتوموبيل نجل حامد باشا رشدي صاحب أكبر عزبة في زمام نجع حمادي بأكمله:
= لا حول ولا قوة إلا بالله… الراجل طب ساكت يا ولداه.
ـ من فضلكم. من فضلكم. شوية كده. شوية هوا. ابعد من فضلك أنت وهو.
= هوا إيه؟! دا الراجل مات يا سعادة البيه.
ـ من فضلكم هدوء شوية. مفيش داعي للكلام ده خلينا نشوفه ونطمن عليه… يا أستاذ… يا أفندي… يا أستاذ… أنت يا…
* هه… إيه؟ فيه إيه؟ أنا فين؟
= مفيش حاجة متخافش اتطمن أنت بخير.
* إيه اللي حصل؟
= أنت كنت ماشي سرحان مش واخد بالك وعديت الطريق وفجأة لقيتك قدامي قمت صدمتك بالأتوموبيل… بس الحمد لله جت سليمة.
* إيه؟! بتقول إيه؟ صدمتني بالأتوموبيل؟
= بس الحمد لله جت سليمة… أنت حاسس بحاجة؟
* حاسس بمصيبة جيالي.
= يا لطيف! مصيبة إيه ياجدع أنت كويس أهه.
كذب المنجمون
لم يصدق نجيب ما حدث بهذه السرعة. راح يقبل قائد السيارة، ثم هرول وهو لا يكاد يصدق ما حدث. ليس لأن الله نجاه من هذا الحادث الذي كان من الممكن أن ينهي حياته في لحظة، بل لأن هذه أول نبوءة تحدث له من بين ما قالته له السيدة الفرنسية: «حادث تصادم أتوموبيل سينجيك الله منه!».
بقدر سعادة نجيب بتحقيق هذه النبوءة، بقدر ما سببت له مزيداً من الحيرة. فراح يسأل نفسه في حيرة: «وماذا بعد؟!».
غادرت السيدة الفرنسية وزوجها نجع حمادي، وعاد نجيب إلى عمله وروتينه اليومي، غير أنه مل في انتظار تحقيق شطر جديد من نبوءات السيدة الفرنسية، فنسى الموضوع ونسى أمرها كله، حتى فوجئ بخطاب يأتي له من القاهرة، أمسك الخطاب بيده وراح يفكر فيمن أرسله، وماذا يحمل له من أخبار. لعل عزيز عيد أرسل يستعجل حضوره إلى القاهرة، فقرر بينه وبين نفسه أنه إذا كان الأمر كذلك، سيرد عليه بأن ينسى أمر هذا الموضوع مؤكدا له أنه سعيد بحياته هنا. لكن يا لها من مفاجأة، فالخطاب من السيدة لطيفة والدة نجيب:
ولدنا الحبيب/ نجيب
أرجو أن تكون بخير وبصحة جيدة. أنا وأخوتك توفيق ويوسف وجورج بخير ولا ينقصنا إلا رؤياك.
ولدى الحبيب… أعلمك بأن زكي أفندي شيخ الحارة كان قد حضر إلينا الشهر الماضي ومعه ورق القرعة بخصوص طلبك للجهادية، ولكننا قمنا بدفع «البدّلية» لك، وتم إعفاؤك من الذهاب إلى الجهادية.
اطمئن يا ولدي والتفت لعملك ولا تحمل هم أي شيء.
والدتك الحبيبة
لم يصدق نجيب السطور التي يقرأها، لدرجة أنه أعاد قراءتها ثلاث مرات. دفعت له والدته «بدّلية» الجيش لإعفائه من أداء الخدمة العسكرية، من حقه أن يسعد بما فعلته والدته لأجله حتى تضمن له مستقبله. لكن الأهم أن ما حدث هو النبوءة الثانية… حقاً إنها النبوءة الثانية التي أخبرته بها السيدة الفرنسية، فيبدو أن هذه السيدة على حق… لكن كذب العرافون ولو كانوا صادقين. هكذا تقول الأديان كافة، لكن ما تفسير ما يحدث هذا؟ ربما هي الصدفة، لكن ماذا لو لم تكن الصدفة؟ هذا يعني أن النبوءة الثالثة في الطريق. لعن نجيب السيدة الفرنسية ويوم لقائها، فقد كان على وشك نسيانها ونسيان ما قالته، لكن هذا الخطاب جدد عليه ما قالته، وراح ينتظر النبوءة الثالثة.
يبدو أن القدر لم يجعله ينتظر طويلاً، في صباح يوم الأحد 28 فبراير عام 1914، وبينما كان يجلس في مكتبه بإدارة شركة السكر في نجع حمادي، تسلم إشعارًا بوصول خطاب مسجل «مسوكر» باسمه، فقام بالتوقيع على هذا الإشعار، على أن يذهب لاستلام الخطاب من مكتب بريد نجع حمادي في وقت لاحق.
لم ينتظر نجيب انتهاء يوم العمل للذهاب إلى مكتب البريد، وحصل على إذن بالانصراف، وكانت المفاجأة أن المدير لم يسأله عن سبب انصرافه مبكراً، بل أومأ برأسه وأشاح له بيده، فلم يلق له نجيب بالاً، وخرج وقلبه يرقص فرحًا، وهو على يقين بأن الخطاب «المسوكر» يحمل النبوءة الثالثة، وليست أي نبوءة، فهذه المرة ستكون تلك التي تتحدث عن المال، المال الذي سيكون بلا حساب وبلا عدد. فمن يا ترى من عائلته فارق الحياة وترك له إرثا؟ ليس مهماً من يكون، المهم أنه فعلها وترك له الإرث!
أحلام العرافة
راح نجيب وهو في طريقه إلى مكتب بريد نجع حمادي يرسم شكل حياته الجديدة، متى سيتقدم باستقالته من الوظيفة؟ فهو لن يستطيع أن يستمر بها ليوم واحد، فلا يصح لمثله من الأثرياء أن يعمل تحت إمرة رجل مهما كانت درجته الوظيفية، سيرفض نجيب غداً أن يجعله موظفاً لديه!
الأمر الثاني لا بد من أن يشتري «بيتا من بابه» لأسرته ترتاح فيه والدته بقية عمرها ويستأجر من يخدمونها هي وأشقاءه، ثم يتفرغ بعد ذلك لمطالبه، فالقائمة طويلة، فهو لن يرضى أن يعمل لدى أحد من أصحاب الفرق الموجودة، لا بد من أن تكون له فرقة خاصة تحمل اسمه «جوق نجيب الريحاني» ويضم إليها كبار الممثلين والممثلات، لينافس بها أكبر جوق في البر المصري كله، ويكتب عليها اسمه بالنور، ليكون اسمي «نجيب بك»، ويكفي إلى هنا مشواره مع لقب «الأفندي»، وهذا يلزمه سيارة تصميم 1914… لكن لا داعي للسيارات، فربما كان هناك بقية لنبوءة حادث السيارة، وإذا كان الله سلم في «البروفة» فربما تقع الواقعة بسيارة يملكها ويقودها بنفسه، فلا يعرف ماذا قد يتحقق أيضاً من نبوءات تلك السيدة الفرنسية، التي يبدو أنها من الأولياء الصالحين المكشوف عنهم الحجاب، إذا صحت نبوءتها الثالثة التي ستكشف عن نفسها بعد لحظات!
دخل نجيب مكتب البريد وقدم نفسه لموظف المكتب الذي ابتسم ابتسامة عريضة وهز رأسه يمينا ويسار:
= يا نجيب أفندي… أنا إيدي دي ياما سلمت جوابات كلها شيكات وحجج أطيان… وكان الواحد من دول يمد إيده بالحلوان بتاعي ولا يستخسرش فيا الكتير.
* يا سيدي أنا عنيا لك بس نطمن الأول ونشوف اللي فيه
ـ بسم الله ماشاء الله… الجواب متختخ ومنفوخ… وبخبرتي الطويلة في البريد بقولك إن فيه شيكات بنكية.
* من بقك لباب البنك. متعرفش منين الجواب ده؟
ـ الجواب ده من هنا… من النجع.
* من هنا إزاي؟! أنا لاعم ولاخال هنا.
ـ مين عارف يا نجيب أفندي؟
* على قولك… يا خبر بفلوس دلوقت يبقى ببلاش.
ـ أنا على قولي… بس أنت خليك عند قولك. أنا اسمع إنك بحبوح وابن حظ واللي في إيدك مش ليك.
ـ أنا عارف… بس اللي في إيدك أنت دلوقت ليا.. تسمح لي.
تناول نجيب الخطاب من موظف البريد وراح يتحسسه، وبدا له أن موظف البريد على حق، فالخطاب منفوخ وله غلاف سميك، بدأ يفتحه جزءاً جزءاً، وكلما مرت يده على جزء زادت ضربات قلبه، حتى أصبحت أسرع من بندول الساعة، وأخيراً انفتح الخطاب!
لم يكن به شيك، ولا حجة أطيان ولا حتى مبلغ من المال، جرت عيناه بسرعة على سطوره القليلة… وكاد يغشى عليه من صدمة ما قرأ.
البقية في الحلقة المقبلة
الكف والبخت
نظرت السيدة مجدداً في كف نجيب ثم نظرت إليه وأكملت بفرنسيتها الواضحة:
عيناك فيهما مكر مثل الثعلب، إلا أنهما ممتلئتان طيبة وحنان. أنت تحب النساء كثيراً، وهذا سبب لك الكثير من المتاعب، سواء في القاهرة أو هنا في نجع حمادي. زي فصلك من عملك بسبب سيدة كنت تنوي الارتباط بها، ورجعت لعملك مرة تانية بسبب نفس السيدة، وهناك متاعب أخرى بانتظارك بسبب علاقاتك بالنساء. لكن سيكون لك حظ الارتباط بأكثر من سيدة في حياتك.
حياتك عبارة عن ضجة صاخبة، شوية تحت… وكتير فوق… عندك أفكار مجنونة كثيرة تسيطر على رأسك. ستضحي براحة بالك من أجل هذه الأفكار. أنت مغامر وفي المغامرة حظك.
أموال كثيرة جداً ستجري في يديك… لدرجة أنك لن تستطيع عدها. وستنتقل من الفقر إلى الغنى، ثم من الغنى إلى الفقر مجدداً… ثم تعاود الغنى. وسيحدث لك حادث تصادم في «أتوموبيل» وسينجيك الله منه… وسيصبح لك شأن عظيم ويرتفع اسمك فوق الجميع… ويكتب بأحرف من نور.
صمتت السيدة لحظة ثم ابتسمت ابتسامة عريضة وقلبت يدها لتصافح بها يد نجيب قائلة:
= مسيو نجيب. شرف لي أن أجلس معك… وأصافحك.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
27-07-2012, 11:26 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 9: نجيب الريحاني… الدنيا على كف عفريت

نشر في 27, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


لم يكن الخطاب الذي وصل إلى نجيب الريحاني فيه مبالغ مالية أو شيكات، أو حتى من عزيز لديه رحل وترك له إرثاً كبيراً، كما راح يمني نفسه.
كان الخطاب الذي تلقاه الريحاني من المكتب المجاور له، تحديداً من مدير الشركة، وجرت عينا نجيب على سطوره لتقرأ:
حضرة/ نجيب أنطون أفندي إلياس ريحاني المحترم
تفيدكم الشركة المصرية لصناعة السكر في نجع حمادي، أنه نظراً إلى وجود عدد كبير من العاملين في الشركة زائد عن حاجة العمل، فقد تقرر الاستغناء عن البعض منهم، ونحن إذا نخبركم أنه قد تقرر من أول مارس من عام 1914 الاستغناء عن خدماتكم… متمنين لكم التوفيق.
المدير العام سالم بك جركس
استغنت الشركة عن نجيب مجدداً، لكن هذه المرة لم يكن هو المسؤول عن هذا الاستغناء، بل كان سببه العمالة الزائدة، لذا منحته الشركة مكافأة فوق راتبه الشهري، ليصل إلى القاهرة ومعه 70 جنيهاً.
وصل نجيب إلى القاهرة وهو لا يعرف هل يفرح أم يحزن، هل يفرح لأن الأقدار قد اضطرته إلى العودة إلى القاهرة ليعاود البحث عن فرصة كممثل، أم يحزن لأنه خسر وظيفة براتب مضمون وحياة مستقرة؟ وإن كان الأهم عنده أنه هذه المرة لديه من الشجاعة ليخبر والدته عن سبب رجوعه الحقيقي، وإن كان هذا السبب أيضاً الذي لا ذنب له فيه لم يشفع له عندها، وراحت تنظر إليه نظرات شك، فقد ارتابت في أن هذا الأمر من تدبيره ليعود إلى ما كان عليه من حبه للتمثيل والجري وراء الفرق المسرحية من محافظة إلى أخرى، ومن بلدة إلى قرية. فما كان من نجيب إلا أن اختصر الطريق وآثر السلامة، وقرر استئجار شقة يعيش فيها بمفرده، وما معه من ثروةـ السبعون جنيهاً، تكفل له ذلك بارتياح شديد، بل وبأثاث جيد.
استأجر نجيب شقة في منطقة جديدة على أطراف القاهرة كي لا يكون إيجارها مبالغاً فيه، فوجد شقة كبيرة بإيجار زهيد في منطقة «مصر الجديدة» وفرشها بأثاث معقول، وحمل ما تبقى من الثروة، وارتدى أفضل بذلة لديه، فبدا وكأنه أحد الوجهاء من أصحاب العزب والأراضي، ثم راح يبحث عن الزملاء الأقدمين والأصحاب الأولين في المسارح والتياتروهات، ليجدد ما فاته.
كانت الثروة التي يحملها، والوجاهة التي ظهرت عليه سبباً في أن يلتف حوله رهط منهم، خصوصاً عندما راح يسرف في الإنفاق أمامهم، حتى فوجئ بعد مرور أسبوعين فقط من عودته من نجع حمادي أن ما تبقى من السبعين جنيهاً مبلغ وقدره 26 جنيهاً فقط لا غير، فأصدر قراراً في ما بينه وبين نفسه وأصر على تنفيذه، بأن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المبلغ المتبقي ليضمن لنفسه عدم «سؤال اللئيم» إلى حين تدبير عمل مناسب، وعليه ألا يزيد ما ينفقه يوميا على 20 قرشاً تحت أي ظروف، وهذا المبلغ سيكون للأكل ولزوم الجلوس على المقهي. أما المسارح، فإما ستكون عبر دعوة صديق من الأرتست، أو عبر مدير فرقة من الفرق، فهو على صلة وثيقة بأغلبهم، إن لم يكن جميعهم.
لم يمض على اتخاذ نجيب هذا القرار أكثر من ساعة، حتى حل ضيفاً عزيزاً على «جوق أبيض» الذي يعرض مسرحية «أوديب ملكا»، واستُقبل باعتباره «أرتستاً» سابقاً، ليجلس في صالة العرض بين المتفرجين، ودقائق وأعلن عن بدء العرض من خلال دقات المسرح الثلاث.
منحة لا ترد
راح نجيب يندمج مع أحداث المسرحية وما تتناوله من مأساة يجسدها ببراعة الفنان جورج أبيض، جعلت جمهور الحضور يذرفون الدمع، وفي مقدمهم نجيب نفسه. وبينما هو على هذه الحالة حتى وجد من يأتي ويجلس بجواره، ويربت على كتفه، فظن نجيب أن أحداً من الجمهور رق لحالة اندماجه، وما أن التفت ليشكره، فإذا به يجد الجالس إلى جواره سليم أبيض شقيق الفنان جورج أبيض، والمدير المالي للفرقة، وراح يهمس له:
• أهلاً أهلاً سي نجيب… جوق أبيض منور اليوم كتير.
* منور بيكم يا سي سليم. رواية هايلة… والأستاذ جورج ارتست ملوش مثيل. دا خلاني عيطت رغم إني ممثل وعارف أن دا تمثيل
• إيه والله يا سي نجيب معك حق أرتيست ماله مثيل… لكن البخت.
* الله!! أنت كمان بتعيط يا خواجة سليم.
• إيه ببكي… بس ما من شان أوديب.
* لكن من شو… قصدي أمال من إيه؟
• إيه يا سي نجيب هاي حكاية طويلة عريضة ما بريد أصدع راسك الكريم.
* صحيح عندك حق… هو مش وقته.
• ممكن ناخد فنجان قهوة في مكتبي إذا بتريد.
* لا والله ما بريد دلوقت… تخلص الرواية وبعدين ناخد القهوة على راحتنا.
• أستاذ نجيب… بدي أحكي معك في موضوع مهم وخطير كتير.
* والموضوع ده ما يستناش لما الرواية تخلص يا خواجة سليم
• الحين… إذا بتريد!
* خير يا خواجة سليم قلقتني.
• يا سيدي كان المفروض اليوم باعطي الفرقة قسط من راتبهم… منيح؟
* منيح.
• لكن يا حسرتي… كيف ما بتشوف ما في جمهور… يعني ما في إيراد.
* آي والله دي مشكلة كبيرة يا خواجة.
ـ من شان هيك حمدت الله إني شوفتك هون اليوم.
* ولو أني ابتديت أقلق من حكاية هون دي… بس أنا إيه علاقتي بالموضوع؟
• من شان خاطر الله… إذا بتريد أستاذ نجيب بتقرضني خمسة وعشرين جنيه نعطي الفرقة مصاريهم اليوم… وبوعدك المبلغ بيكون عندك في ظرف يومين… وشقيقي جورج بيضمني عندك
* أيوه يا خواجة سليم مش المسألة… أنت وجورج واحد… بس يعني.
• من شان الله… هذا جميل ما بنساه إلك أستاذ نجيب. أنت أرتيست وبتعرف حال الفن… يوم فوق ويوم تحت.
* قول يوم فوق وعشرة تحت… لكن يا خواجة ميغركش المنظرة والوجاهة دي… أنا كل اللي احتكم عليه في جيبي ستة وعشرين جنيه… يعني لو خدت خمسة وعشرين هيفضلي أنا جنيه واحد… عارف يعني إيه جنيه واحد؟!
• إيه بعرف… وبوعدك يومين على الأكثر وبيكون المبلغ عندك.
* في الحقيقة يا خواجة أنا مش عارف أقولك إيه… بس كل اللي أقدر أقوله لك أن المبلغ لو اتأخر عن يومين أنا هامد إيدي وأشحت… مش هلاقي أكل.
• بوعدك بشرفي.
تناول الخواجة سليم مبلغ الخمسة والعشرين جنيهاً في التو وترك في جيب نجيب جنيهاً، ليخرج بعدها من مسرح جورج أبيض وهو يلعن الظروف التي قادته اليوم إلى مشاهدة «أوديب الملك» الذي كان سبباً في إفراغ كل ما تبقى في جيبه من ثروة نجع حمادي، خصوصاً أن هذه الصدفة لم تحدث إلا في هذه الليلة الليلاء، عندما قرر أن يبدأ رحلته مع الاقتصاد والتدبير.
انقضى الموعد الذي حدده له سليم أبيض وراح يضرب أخماساً في أسداس، ويندم على ما فعل من تفريط في كل ما لديه. فذهب إلى «جوق أبيض» وقابل الخواجة سليم، وبعد أن كان الأخير يرجو ويتوسل ويتمنى، انقلب الوضع وراح نجيب يرجو ويتضرع شاكياً باكياً مرارة الزمن وشدة الحاجة:
* بقولك يا خواجة سليم أنا شطبت… خلاص مش فاضل معايا ولا مليم.
• إن شاء الله بتفرج.
* أيوه بس أنت وعدتني… وكان الميعاد أول إمبارح.
• الصبر طيب يا سي نجيب.
* يا سيدي الصبر طيب… بس أنا مش طيب.
• شو هالحكي… يا سيدي نحن ما بناكلهم عليك.
* لا يا سيدي أنا عارف أنكم مش راح تاكلوهم عليّ… لكن المهم إن أنا لازم آكل… عاوز الفلوس آكل بها يا خواجة، وإلا يعني عاوزين آكل طوب!
• نحن ما بنرضى تاكل طوب… فرج الله قريب.
* ولحد ما ييجي الفرج ده أعمل إيه؟ هو فين الأستاذ جورج… أنت مش قولتلي هو الضامن؟
• مانو هون… راح يدبر مصاري… فوت بكره نجيب أفندي يكون الله دبرها من عنده.
لم تفلح توسلات نجيب، ولم ينل من أمواله سوى 20 مليماً، ثمن أجرة «مترو مصر الجديدة» اقترضها من سليم أبيض ليستطيع أن يعود إلى منزله، وكان عليه أن يقترض مثلها من «بواب العمارة» إلى حين عودته من لقاء سليم أبيض بعد أن يكون قد استرد آخر ما تبقى من ثروته، غير أنه عاد وبحوزته خمسة قروش فقط، فقد قرر سليم أبيض أن يعيد الخمسة والعشرين جنيهاً بالتقسيط، على أن يكون القسط بين خمسة إلى عشرة قروش يومياً، وهو ما قد يستغرق 15 شهراً.
كل يوم كان يمر على نجيب كان يؤكد له صدق حدس والدته السيدة لطيفة، ونظرتها إلى التمثيل والممثلين، وحياتهم التي لا بد أنها «على كف عفريت»، وعدم صدق وعود عزيز عيد التي راح يحكي عنها في خطابه له، من بلوغ رواتب الممثلين عنان السماء، وتغير الأوضاع والظروف.
زاد من إحباط نجيب وباعد بينه وبين تحقيق حلم التقسيط الذي قبل به مضطراً نشوب الحرب العالمية الأولي في صيف 1914، ما أدى إلى تدهور الأحوال الاقتصادية في مصر، وبالتبعية تدهورت أحوال الفن والمسرح، وخلت المسارح من الجمهور، بل إن كثيراً من الفرق اضطرت إلى غلق أبوابها، والبعض الآخر دخل في شراكة ودمج فرقتين في فرقة واحدة لمزيد من جذب الجمهور، مثلما‏ ‏اندمج‏ ‏{جوق‏ ‏الشيخ سلامة‏ ‏حجازي»‏ ‏مع‏ ‏{جوق‏ ‏أبيض»‏ على ‏رغم‏ ‏فارق‏ ‏العمر‏ الكبير ‏بينهما‏، حيث‏ ‏لم يتخط عمر‏ ‏جورج‏ ‏34‏ ‏عاماً‏، بينما الشيخ سلامة‏ ‏حجازي‏ ‏بلغ 62 ‏عاماً‏، إضافة إلى إصابته بمرض «الفالج»، وعلى رغم ذلك تألفت فرقة «أبيض وحجازي»، وكان على رأسها جورج أبيض وسلامة حجازي.
كوميديان رغم أنفه
كان حدس نجيب في محله، إذ بدأ على الفور عدد من أفراد الفرقة في نصب «الأفخاخ والمقالب» له، ولم يكن نجيب على دراية بمثل هذا النوع من «المقالب» الذي اعتاده أفراد الفرقة في ما بينهم، وزاد من صعوبة الأمر أن من تصدى لتنفيذ «المقالب» الفنان عمر وصفي!
بدأت الفرقة في تجهيز الرواية التي سيبدأون بها، وهي رواية «صلاح الدين الأيوبي»، ووزع جورج أبيض الأدوار على الفرقة، بحيث حجز لنفسه دور «ريتشارد قلب الأسد» ملك إنكلترا، والشيخ سلامة حجازي في دور «صلاح الدين»، بينما جاء دور «ملك النمسا» من نصيب نجيب الريحاني.
أخذ نجيب الدور وراح يحفظ الحوار الذي سيكون بينه كملك للنمسا وبين جورج أبيض كملك لإنكلترا، غير أن ما أقلقه كيف سيكون شكل هذا الملك، فهو لم ير ملوكاً سابقاً، تحديداً ملوك أوروبا في ذلك العهد البعيد… منذ ما يقرب من ألف عام!
راح نجيب، بكل طيبة وحسن نية، يسأل الفنان عمر وصفي عله يجد عنده إجابة عن السؤال الذي يحيره، كيف كان شكل ملوك أوروبا في ذلك العهد البعيد؟!
هنا وجد عمر وصفي الفرصة سانحة لتدبير مقلب من مقالبه لنجيب، فلم يجد أمامه سوى بعض الصحف اليومية التي نشرت شكل ملوك ورؤساء الدول الأوروبية الذين يشاركون في الحرب العالمية الأولى، وكان من بينهم إمبراطور النمسا فرانز جوزيف وقد ظهر في الصورة ببذلته العسكرية المعاصرة، ولحيته التي تتدلى على وجنتيه، وفي منتصفها فراغ، وقدمه عمر وصفي لنجيب:
= أنت هتروح بعيد ليه… أهه يا سيدي إمبراطور النمسا بشحمه ولحمه.
* تفتكر كده يا سي عمر.
= إلا أفتكر… الصورة قدامك هتنطق… الشكل واللبس.
* أيوه بس دا إمبراطور وصاحبنا اللي هجسد شخصيته ملك.
= مش فارقه… الجماعة بتوع السياسة دول كل شوية يغيروا ويبدلوا… وملك من إمبراطور مش فارقة.
* أنت شايف كده؟
لم يلحظ نجيب أن الفارق كبير جداً بين ملك النمسا منذ ما يقرب من الألف عام في عهد صلاح الدين الأيوبي، وبين إمبراطورها الآن خلال الحرب العالمية الأولى، ليس على مستوى الشكل فحسب، لكن الأهم الملابس العصرية. فأغلق عليه باب حجرته وجلس أمام المرآة وراح يلتمس في مساحيق الماكياج ومعداته، ما يجعله الإمبراطور جوزيف، وليس «ليوبولد الخامس» دوق النمسا في الحملة الصليبية الثالثة في عهد صلاح الدين!
لم يستطع كل من شاهد نجيب الريحاني منذ أن خرج من غرفته أن يخفي ضحكه، وإن كان بصوت هامس لأن العرض قد بدأ، غير أن نجيب لم يهتم بذلك لتعوده على أن البعض منهم اعتاد أن يسخر منه وينكت عليه، وكان يمنعه خجله من أن يرد لهم الصاع صاعين، باعتبارهم فنانين. حتى جاء موعد دخوله إلى خشبة المسرح ليتبادل مع ريتشارد ملك إنكلترا حواراً طويلاً حول الحرب التي افتعلوها لاغتصاب «أورشليم» من أيدي العرب، مسلمين ومسيحيين، تحت شعار «الحرب المقدسة» باسم الصليب.
دخل نجيب إلى خشبة المسرح، ووجده جورج أبيض أمامه بهذه الهيئة، ولم يستطع أن يتمالك نفسه للمرة الأولى، وأدار وجهه وكتم ضحكته، غير أن الجمهور لم يكتم الضحك، وانفجرت الصالة بالضحك لدرجة أن جورج أبيض نسي ما كان سيقوله، بينما وقف نجيب مندهشا في حيرة من أمره… ولم يدر بما حل به من كارثة.
البقية في الحلقة المقبلة
«مقلب فني»
بسبب حالة الشيخ سلامة حجازي الصحية، أوكل الإدارة الفنية لفرقة جورج أبيض الجديدة، ولأن جورج أبيض تعود أن يكون عمل الفنانين معه بعقد رسمي، وهو ذلك التقليد الذي جلبه معه بعد دراسته التمثيل في باريس، فقرر كتابة عقود للفرقة الجديدة، خصوصاً لمواجهة الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وحتى لا يقف عاجزاً عن دفع أجور الممثلين.
نصت عقود الممثلين في الفرقة الجديدة على أن يكون العمل في الفرقة بالمساهمة، أي يكون للممثل عدد من الأسهم في الفرقة، ومن ثم يوزع الإيراد، وكل ممثل ينال أجره وفقاً لنصيبه من هذه الأسهم.
ذهب نجيب كالعادة مساء أحد الأيام طالباً الحصول على قسط جديد من ماله الذي أقرضه إلى سليم أبيض، غير أن الأخير لم يكن موجوداً في المسرح، وتصادف أن كان جورج أبيض يرتِّب أدوار أعضاء الفرقة الجديدة، ويحصيهم ليوفق شخصياتهم على أدوار إحدى الروايات الجديدة التي ستفتتح بها الفرقة الموسم الجديد التي ضم إليها جورج أبيض كل من، روز اليوسف، عزيز عيد، سرينا إبراهيم، نظلي مزراحي، عمر وصفي، محمود رحمي، فؤاد سليم، عبد العزيز خليل، وعبد المجيد شكري، والمنشد الشيخ حامد المغربي وغيرهم.
اقترب نجيب من جورج أبيض، فنظر إليه جورج من خلف نظارته:
= أهلا يا نجيب… أتفضل.
* أهلاً يا أستاذ جورج.
= أخبارك إيه؟
* على فيض الكريم يا أستاذ.
= سليم عامل معاك إيه؟
* لا مؤاخذة يا أستاذ… صحيح الخواجة سليم أخوك بس ربنا ما يحكمه على يتامى.
= اسمع يا نجيب أفندي… أنت راجل أرتيست وياما عزيز عيد كلمني عنك.
* دا من أصلك يا أستاذ… بس زي ماهو واضح كده الفن ما بيأكلش عيش دلوقت.
= وإيه الجديد يا نجيب… أحنا أتعودنا على كده خلاص. بس المهم إن الأرتيست عند رسالة لازم يؤديها… حتى لو جاع أو نام ع الرصيف، لأنه لازم يكون مؤمن برسالته.
* أيوه يا أستاذ بس…
= مفيش بس… إيه رأيك تنضم للجوق الجديد «أبيض وحجازي»؟
* دا أنا يا أستاذ ماكنتش قادر على «جوق أبيض» لوحده… هقدر على «أبيض وحجازي»؟
= هاهاها… الغريبة يا أخي إن دمك خفيف قوي زي كل المصريين.
* وإيه الغريب في كده؟
= شكلك ما يقولش خالص إنك دمك خفيف… متجهم ودايماً مكشر وحاسس دايماً إنك عاوز تبكي.
* من اللي شفته يا أستاذ… الدنيا فرمتني… بتشيل وتخبط فيا. خدتها من شرقها لغربها… من فوق لتحت… ومفيش فايدة.
= خلاص من دلوقتي اعتبر نفسك واحد من الجوق… اتفضل.
* إيه ده؟
= دا عقد التحاقك بالجوق. وقع وقع… دي الطريقة الوحيدة اللي بيها تضمن تاخد فلوسك من سليم… وفوقهم حصتك من أسهم الجوق.
* يا سيدي أنا بس أطول فلوسي… وآدي التوقيع… نجيب أنطون إلياس ريحاني.
= إيه كل ده؟ كفاية أوي «نجيب الريحاني».
أصبح لنجيب اسم فني بعد أن التحق بفرقة «أبيض وحجازي»، ليكون «نجيب الريحاني»، غير أنه على غير المتوقع وجد نفسه غير متآلف مع الفنانين الموجودين بالفرقة، خصوصاً أن معظمهم قد سبق نجيب في احترافه التمثيل، وبات له اسم كبير في عالم المسرح، مثل السيدة فاطمة آل يوسف أو باسمها الفني «روز اليوسف» وعزيز عيد، والفنان عمر وصفي، وعبد العزيز خليل، وعبد المجيد شكري، وغيرهم. وزاد من عدم التآلف، إحساس نجيب بأن نظرة الجميع له، باعتباره أحدثهم، أنه جاء ليقتسم معهم رزقهم، لا سيما أن إيراد الواحد منهم، أو حصة أسهم الفرد منهم، لم تكن لتصل في كثير من الأوقات إلى أكثر من 35 قرشاً صاغاً أميرياً لا غير.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
28-07-2012, 09:40 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 10 : نجيب الريحاني… حكم قراقوش

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 28, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


وقف نجيب الريحاني فوق خشبة المسرح لا يبتسم ولا يخالف الحركة التي رسمها له المخرج وبطل العرض جورج أبيض، وعلى رغم ذلك فهو لا يعرف ماذا يحدث من حوله، فمن المفترض أنه يقدم دوراً جاداً لشخصية إمبراطور وليس مهرجاً في سيرك، فماذا يحدث إذا؟ وما الذي يجعل الجمهور يضج بالضحك لهذه الدرجة؟ ولماذا ثار جورج أبيض كل هذه الثورة وطلب من العمال غلق الستار وإنهاء العرض بعدما سادت خشبة المسرح والكواليس حالة من الهرج والمرج، واختلط الحابل بالنابل، واتجه جورج إلى الكواليس وهو يصرخ ويتوعد ملك النمسا أو نجيب الريحاني، وما فعله بملك إنكلترا «ريتشارد قلب الأسد» أو جورج أبيض.
اتجه جورج أبيض إلى حجرته وفمه يخرج سيلاً من القذائف الحادة من أنواع الاتهامات والشتائم والتوبيخ كافة، لمن جعل نجيب الريحاني يصعد إلى خشبة المسرح. غير أن الأمر لم ينته عند حد جورج أبيض، بل راح جميع العاملين في الفرقة، بمن فيهم الكومبارس الذين يؤدون أدوار الجنود، يوجهون اللوم إلى نجيب الريحاني على ما فعله من إفساد المسرحية، وتعكير صفو بطل العرض ومدير الفرقة!
أما ما زاد من دهشة الريحاني وجعله يكتشف الشرك الذي نُصب له، فهو ما قام به الفنان والكاتب عمر وصفي من «تأنيب» لنجيب الريحاني على ما فعله فوق خشبة المسرح، وأنه خلط الأمور ببعضها، وقدم شكلاً ومضموناً لإمبراطور النمسا الحالي، وليس لملك النمسا منذ تسعمائة عام، أو ما يقرب من ألف سنة.
فقد نجح عمر وصفي بامتياز في «تطفيش» نجيب الريحاني من فرقة «أبيض وحجازي».
سدت في وجه نجيب الريحاني الأبواب، وضاقت به السبل حتى إنه لم يجد طريقاً يسلكه لكسب العيش، فقرر بعد يومين من «موقعة صلاح الدين الأيوبي» في مسرح «أبيض وحجازي» أن يذهب في صباح هذا اليوم إلى سليم أبيض، يطالبه ولو بجزء مما لديه من دين، ففوجئ بأعضاء الفرقة (على غير العادة) يجتمعون في ساحة المسرح الخارجية، بينما يقف وسطهم سليم أبيض يهدئ من ثورتهم لأنهم لم يتقاضوا رواتبهم منذ بدأ عرض «صلاح الدين الأيوبي»، حيث كان نصيب الفرد من الأسهم، وفقاً للنظام الذي ابتدعه جورج أبيض، لا يزيد كل يوم على خمسة عشر مليما، أي قرش ونصف القرش، وهو ما لا يكفي لذهاب ومجيء أحدهما في المواصلات العامة!
طرأت فكرة على ذهن نجيب الريحاني، وهي لماذا يظل هو وهؤلاء يعملون لدى الغير ممن يتحكمون فيهم ولا بد من أن يرضوا «بقليله»؟ وما الذي يجعلهم يحتملون هذا الوضع الذي لا يجدون معه قوت يومهم؟ لماذا لا يستقلون بأنفسهم ويعملون بشكل حر بعيداً عن قيود جورج أبيض التي يضعها في عقوده ثم لا يجدون أي مردود لذلك؟
اقتناع بالكوميديا
عرض نجيب الريحاني هذه الأفكار على عزيز عيد، فوجدها لم تلق استحساناً كبيراً لديه فحسب، بل راح يعرض الأمر على بعض أعضاء الفرقة المقربين منه، ولاقت الفكرة ترحيباً كبيراً من الفنانة روز اليوسف، وانضم إليهم عدد من الشباب الذين يبحثون أيضاً عن فرصة وصدموا بما حدث لهم في فرقة «أبيض وحجازي» من بينهم ستيفان روستي، وحسن فايق وعبد اللطيف جمجوم، ثم انضم إليهم بعد ذلك من غير أعضاء فرقة «أبيض وحجازي» أمين عطا الله، بعدما سرَّح فرقته التي كونها مع شقيقه سليم عطا الله. كذلك انضم الكاتب أمين صدقي الذي يحمل بين يديه باستمرار عدداً من روايات ألَّفها اقتباساً، ولا يجد من ينفذها.
قرر الريحاني ومعه عزيز عيد وروز اليوسف، ومعهم من انضم إليهم، تكوين فرقة خاصة بهم لمنافسة فرقة «أبيض وحجازي»، وقد أصبح أعضاء الفرقة كافة موجودين، من الممثلين الكبار والصغار، المخرج، والمؤلف الذي يقدم الرويات. لكن لا يزال ينقصهم الأهم، وهو الممول الذي يقوم بتمويل عروض الفرقة والمسرح الذي سيقدمون عليه عروضهم!
قرر نجيب الريحاني أن يلتقي كل من يؤيد هذه الفكرة يومياً لبحث أمور تكوين الفرقة الجديدة، ومن سيشارك فيها؟ ومن سيتولى إخراج أعمالها، ومن يكتب لها؟
استقر الرأي أن يكون الاجتماع بشكل يومي في مقهى «متروبول» في أول شارع عماد الدين، حيث اتفق الجميع أن يكون هذا المقهى محلاً مختارًا يأوون إليه، منذ طلوع الشمس، وحتى غلق المقهى بعد منتصف الليل، ليكونوا هم أول من يستقبلهم موظفو المقهى في الصباح، وآخر من يرونهم قبل الإغلاق بعد منتصف الليل. فالجميع لا عمل ولا وظيفة له سوى الجلوس في المقهى.
ظلوا يلتقون يومياً، وعلى مدار ما يقرب من الشهر، حتى ضاق بهم الخواجة «استولو» اليوناني صاحب المقهى، لكنه لم يجرؤ على طردهم، كذلك لم يعد النادل يقترب منهم كعادته ويسألونه عما يطلبون، فلم يعد مع أي منهم ما يمكنه من طلب ولو «فنجان قهوة» لنفسه، وليس للآخرين، يجلسون يتحدثون ويتشاورون فيما يمكن أن يقدموه، ويبنون في مناقشاتهم مستقبلاً من الآمال، حتى لاحظ ذلك أحد رواد المقهى الدائمين، السيد «بحري»، فاقترب منهم وتوجه بالسؤال إلى نجيب:
= مساء الخير…
* مساء النور… أهلاً وسهلاً.
= محسوبك «بحري».
* أنعم وأكرم… وبتشتغل بقى على أي مركب؟
= لا يا فندي أنا اسمي بحري… وبشتغل قومسيونجي.
* آه… أهلاً أهلاً.
= اتفضل سيجارة… نزل قهوة هنا يا فلفل للأفندية.
* واجب علينا يا فندم… ملوش لزوم والله.
= أنا بس كنت عاوز أسألك لو مفيهاش تدخل… أنا بشوف حضراتكم هنا من ييجي شهر. وفي أي وقت آجي القهوة ألاقيكم بنفس القعدة… وما تآخذنيش يعني سمعتكم بالصدفة كده بتتكلموا عن المرسح والروايات.
* إذا كنت سمعتنا بالصدفة مفيش مشكلة.
= هو حضراتكم بتشتغلوا إيه؟
* أحنا كده بعيد عنك وعن السامعين «أرتيست».
= كدهه. عال عال أوي… فين القهوة يا فلفل؟
* بنحاول نكون فرقة. وإن جيت للحق… كل شيء جاهز… مش ناقص بس غير الممول.
= وعلى كده يلزمكم كام تمويل علشان تشتغلوا؟
* قول كده يا سيدي… قد عشرة جنيه.
= عشرة جنيه حتة واحدة.
* يا سيدي معندناش مانع تبقى عشر حتت… كل حتة بجنيه.
تولدت صداقة بين السيد بحري «القومسيونجي» وبين أفراد المجموعة، فراح من حين إلى آخر يطلب لهم الشاي والقهوة على نفقته الخاصة، أو يشتري صندوقاً من السجائر ويتركه أمامهم، حتى لاحظ الخواجة «استولو» صاحب المقهى ذلك، فسأل السيد بحري عن أمر هؤلاء الذين ملَّ وجودهم من دون أي منفعة، فأخبره بما سمعه من نجيب الريحاني، وأنهم في حاجة إلى مبلغ عشرة جنيهات لتقديم أول رواية مسرحية لهم.
ممول بالصدفة
هز الخواجة رأسه وراح يفكر، ثم توجه ناحيتهم، فحدث بينهم قلق وتوتر وظنوا أنه قد آن الأوان ليطردهم من المقهى لأنهم جلبوا له النحس بجلستهم اليومية التي لا طائل فيها، غير أنه فاجأهم:
ـ سوف خبيبي أنت وهو… أنا يعرف إن أنتو جماعة أرتيست.
* أيوه يا خواجة… أحنا كنا هنمشي من نفسنا خلاص.
* لا خبيبي. أنتو مس يمسوا أنا ممكن أمول الفرقة… أدفع عسرة جنيه والمكسب ييجي سوا سوا بالنص. أنتو قولتوا إيه؟
نظروا بعضهم إلى البعض الآخر وعلت وجوههم الدهشة والحيرة، وقد أخرستهم المفاجأة، فطلبوا منه إمهالهم خمس دقائق للرد عليه، وانصرف الخواجة عائداً إلى مكتبه، بينما راحوا يتداولون في أمر هذا العرض، فأدلى عزيز عيد برأي، بينما خالفه نجيب الريحاني برأي آخر:
= أنا من رأيي إن الاتفاق ده مع الخواجة بشرة خير… ودليل أننا هننجح، لأنه راجل ابن سوق. يعرف من أين تؤكل الكتف، ومش ممكن يغامر بفلوسه لو هو مش متأكد من النجاح وعارف إنها هترجع أضعافًا مضاعفة.
* أنا بقى عندي تفسير تاني خالص.
= خير يا نجيب.
* الراجل ده زهق مننا… ومن ساعة ما طبينا على القهوة ومفيش زباين غيرنا. وإحنا يا حسرة يوم ما بنتمعظم بنطلب واحد شاي وكل واحد فينا ياخد شفطة. فالراجل حب يضحي بالعشرة جنيه علشان يخلص مننا وترجع القهوة تشتغل زي الأول.
= على كل حال أنا شايف إن دي فرصة مش هتتعوض… وأنا من رأيي نمسك فيها بأدينا وأسنانا.
على رغم التفسيرات الكثيرة التي راح البعض الآخر يبديها، والاقتراحات من البعض بأنه طالما الرجل يريد الخلاص منهم، فليأخذوا المبلغ ويتم توزيعه على الجميع بالتساوي، وإلغاء فكرة الفرقة، إلا أنهم استقروا في نهاية الأمر على قبول العرض وتكوين الفرقة باسم «فرقة الكوميدي العربي»، على أن يكون بطلاها نجيب الريحاني وروز اليوسف، ومعهما أمين عطاالله، أمين صدقي، ستيفان روستي، حسن فايق، عبد اللطيف جمجوم، وآخرين، وسيتولى عزيز عيد الإخراج.
وقع اختيار الفرقة على مسرح «برنتانيا» في شارع عماد الدين، على بعد خطوات من مقهى «متربول»، واختاروا رواية «خللي بالك من إميلي» التي ترجمها عن الفرنسية أمين صدقي، لتكون أول عروض الفرقة.
مولد كوميديان
جاء توزيع الأدوار، فحجز عزيز عيد دور البطولة لنفسه، ثم أسند دور «برجيه» والد إميلي إلى نجيب الريحاني باعتباره بطل الفرقة، وهو دور جندي بوليس قديم، له ابنة جميلة يعيش عالة على سعيها، على أن تقوم روز اليوسف بدور إميلي، فأسقط في يد نجيب الريحاني:
* إيه يا عم عزيز ده؟
= خير فيه إيه يا نجيب؟
* دور «برجيه» ده كوميدي راجل فكاهي دمه خفيف… وأنت شايف السحنة اللي قدامك… مكشرة حتى وأنا بنكت… ومرسوم على وشي علامة استفهام.
= طيب حلو أوي!
* حلو إزاي… أنا مليش في الكوميدي… ما أنت عارف أنا غاوي دراما وحاسس إني اتخلقت علشان الدراما وعمري ما حسيت ناحية الكوميديا بأي عاطفة.
= أحاسيس إيه وعواطف إيه؟ فيه إيه يا عم نجيب؟ هو أنا بقولك أعمل غراميات مع الكوميديا. دا دور وأنت أرتسيت المفروض تعمل كل الأدوار.
* أيوه. بس مش أول ما أشطح أنطح. أنت عاوز الجمهور يحدفني من أول ليلة بالبيض والطماطم. وبدل ما تكون بدايتي تبقى نهايتي!
= أعمل الدور وعلى مسؤوليتي.
* يعني أنت هتنضرب بدالي. أنت هتبقى في الكواليس بعيد عن الضرب.. وبعدين بدل ما نرّجع للخواجة أستولو فلوسه.. نخرب بيته؟!
= يا سيدي متخافش.. وبعدين مفيش حد في الفرقة يقدر يعمل الدور دا إلا أنت.
* يعني ياسي عزيز عيد أروح أنا في ستين داهية علشان حضرتك مش لاقي ممثل يعمل دور برجيه؟!
= يا نجيب. أنا المخرج وأنا اللي بقولك على مسؤوليتي.
ذهب نجيب الريحاني إلى منزله، وأغلق عليه حجرة نومه، ووقف أمام المرآة، وراح يجري تجربة أمام نفسه على دور «بروجيه»، يلقي جمل حوار الدور واحدة إثر الأخرى، ويراقب ما يرتسم على وجهه من تعبيرات، متلمساً السبيل إلى إجادتها. لكن من دون جدوى. لم يحس بالدور، بل وجد ثقل ظل غير عادي لا يتناسب وهذه الشخصية المرحة، فما كان منه إلا أن جدد الاعتذار لعزيز عيد في اليوم التالي، فامتعض وجه عزيز وصاح فيه:
= أستاذ نجيب. أحنا مش هنهزر… مفيش حد غيرك هيعمل الدور. مفيش قدامنا غير تلات أيام. اتفضل ع البروفة.
انقضت التجارب. وأخيراً جاءت اللحظة الحاسمة. اللحظة التي ينتظرها نجيب الريحاني منذ سنوات طويلة، لحظة أن يكون ممثلاً محترفاً، فها هو ينال الدور الثالث في الرواية بعد عزيز عيد وروزاليوسف، بعد الأدوار الهامشية، وفي عرض مسرحي يضم الكثيرين من المحترفين، إن لم يكن فيهم الكثيرون ممن يطلق عليهم نجوم، لكن كيف ستسير الأمور؟ كيف سيستقبله الجمهور وهو يتقمص دور العسكري «بروجيه»؟ هل سيكتب شهادة ميلاده الفنية، أم ستكون نهايته التي لن تقوم بعدها له قومه؟!
وقف عزيز عيد في كواليس خشبة المسرح، وأمسك في يده عصا غليظة، وراح يدق دقات المسرح الثلاث ليعلن عن بدء عرض رواية «خللي بالك من إميلي».
راح قلب الريحاني يدق بصوت أعلى من دقات المسرح، غير أنه اهتدى إلى حل لهذا المأزق، فمادام أن السقوط سيكون حليفه، فما الذي يخيفه أكثر من ذلك؟ ومادام عزيز عيد أعلن مسؤوليته الكاملة عن هذا الفشل، فما الذي يخيفه؟ فليكن ما يكون.
قرر نجيب الريحاني أن يمهد لدخوله إلى خشبة المسرح، على عكس ما اتفق عليه مع عزيز عيد، فقرر أن يمهد للجمهور بصوته قبل أن يرى وجهه، فراح يبدأ الحوار من خلال الكواليس، فضجت الصالة بالضحك، ما زاد من توتر وخوف نجيب الريحاني، وقال لنفسه: ربما ضحكوا لأنهم لم يروا وجهه بعد، فاقتحم المسرح وتشجع وأدى الدور، وراح يصول ويجول فوق خشبة المسرح، كأنه يوجد بمفرده في هذا الفضاء، لا يرى ممثلين ولا جمهورا، حتى أفاق من اندماجه على تصفيق حاد من الجمهور.
لم يصدق نجيب الريحاني أن التصفيق الذي يسمعه له، وأنه كممثل قادر على انتزاع كل هذا الضحك من الجمهور، فمن المؤكد أن الجمهور يستجيب لممثل آخر غيره، فنظر الريحاني عن يمينه وعن يساره وخلفه، فلم يجد غيره فوق خشبة المسرح. إذاً فهذا الذي يحدث بفعله هو… دون غيره.
بالرغم من مشاركة عزيز عيد بطل الرواية، إضافة إلى عدد كبير من نجوم الكوميديا في العرض إلى جانب الريحاني، إلا أنه لم يتأكد أن الجمهور أعجب به ورفعه دون غيره إلى هذه المكانة، إلا في نهاية العرض، وهو يستقبله هذا الاستقبال الحار والتصفيق المدوي، فقد أراد نجيب أن يختار طريقاً لنفسه من خلال الأعمال التراجيدية والميلودرامية، غير أن الجمهور هو من اختار له الطريق، ليس ليعلن عن مولده كممثل ناجح فحسب، بل ككوميديان ليس له مثيل.
(البقية في الحلقة المقبلة )
حكم بالفشل
وقف سليم أبيض في بهو «التياترو» وفي يده خطاب إنهاء عقد نجيب الريحاني من الفرقة، والذي كتب حيثياته ووقع عليه مدير الفرقة وبطلها الأول جورج أبيض، حيث احتوى الخطاب على التذكير ببنود العقد التي تبيح لمدير الفرقة فسخه إذا ما أرتأى ذلك، لكن ما لفت نظر الريحاني وأثر فيه بالغ الأثر تلك الجملة التي ذيل بها جورج أبيض خطاب الرفت: «حيث أنكم رجل ليس له علاقة بفن التمثيل، ولن تكون ممثلاً في يوم من الأيام، حتى ولو ممثلاً ثانوياً… قررت إدارة جوق «أبيض وحجازي» الاستغناء عنكم»!
أخذ نجيب الريحاني خطاب رفته من الفرقة، ولم يستطع أن يفاتح سليم أبيض في أمر ما له من أموال لا تزال ديناً عليه، ويكفي ما حدث الليلة، ليخرج من المسرح يجرجر أذيال الخيبة والندامة، واستقل «مترو» مصر الجديدة عائداً إلى بيته، وبينما اختار مقعداً خالياً ليجلس عليه، إذا بمن يصعد خلفه ويجلس بجواره، إنه صديق قديم من الرواد الدائمين لمقهى «إسكندر فرح» في شارع عبد العزيز، وجاره في سكنه الجديد:
= إيه الصدفة الجميلة دي؟ نجيب أفندي؟
* أهلاً وسهلاً… إزي حضرتك؟
= الله… أنت مش واخد بالك منيّ ولا إيه… أنا صادق عبد الفتاح صديقك… وكمان جارك في سكنك الجديد بمصر الجديدة.
* عارف والله العظيم. أنا بس دماغي مش رايق شويتين.
= لا ألف سلامة… لو أعرف والله كنت خدتك معايا تسهر وتفرفش النهاردة.
* على كده بقى حضرتك راجع من سهرة حظ؟
= مش بالظبط كده… بيني وبينك كنت ناوي على سهرة جد مع رواية محترمة… لكن جت في نصها وقلبت «مسخرة»!
* مش فاهم… ليه أنت كنت فين؟
= كنت في جوق أبيض وحجازي. الجوق اللى اتعمل جديد ده… كانوا بيقدموا رواية صلاح الدين الأيوبي وكانت الرواية ماشية تمام، وعمك جورج أبيض كان ملعلع للسما…
* عمك أنت أنا مليش أعمام.
= القصد فجأة ظهر واد ممثل كده ابن (…) قلبها مسخرة.
* إزاي مش فاهم؟ يعني كان كويس ولا وحش؟
= مش حكاية كويس ولا وحش… دا المفروض عامل ملك النمسا من أيام صلاح الدين. قوم بسلامته طلع ملخبط خلقته ولابس هدوم الإمبراطور فرانز جوزيف الإمبراطور اللي ماسك النمسا دلوقت. وعنها والرواية قلبت مسخرة وباظت والتياترو كله هات يا ضحك… أما حتة واد (ابن …) ملوش مثيل… بجد مشخصاتي هايل ابن الـ… ده.
* حيلك يا سدنا… أنت نازل شتيمة وقباحة. مش كده أمال.
= أصله عجبني أوي… واد جريء فعلاً.
* تقوم تشتمه؟! برضه ما يصحش!
= يا سيدي… دا كان نفسي أشوفه بعد ما خرجنا علشان أقوله الكلمتين دول.
* اعتبر نفسك قلتهم له.
= إزاي مش فاهم؟
* ماهو الواد ابن الـ… ده يبقى محسوبك. العبد لله.
= طب بعد إذنك يا نجيب أفندي. أنا لازم أنزل هنا لأني افتكرت حاجة مهمة عاوز أجيبها.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
30-07-2012, 02:23 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

عدوه اللدود...............في الافلام طبعا


حرافيش السينما المصرية



شرفنطح فيلسوف الضحك الحزين



محمد كمال المصري









القاهرة - خالد بطراوي


ليسوا نجوماً جرى وراءهم المعجبون وطاردتهم المعجبات، لم يحصدوا الجوائز والنياشين وشهادات التكريم في المهرجانات، لم يجنوا الأرباح من وراء إعلانات المياه الغازية والأجهزة الكهربائية، لكنهم رغم ذلك هم أعمدة الفن السابع وروحه الخلاقة، بهم كتبت السينما تاريخها الحقيقي في وجدان المشاهد العربي، على أكتافهم صعد نجوم سوبر ستار. أما هم فاكتفوا باحتضان الجمال والإبداع والمتعة. إنهم حرافيش السينما المصرية.
كان فيلسوفاً في فنه وفي حياته، في الشاشة وعلى خشبة المسرح أدى أدواراً لا ترقى إلى البطولات المطلقة، لكن زمنه الجميل لم يكن يعرف هذا المصطلح، أدواره الصغيرة صنعت له نجومية كبيرة لأن موهبته كانت تتجسد بقوة في كل لفتة أو لمحة أو حركة منه فتثير الضحك وتنتزعه من الجمهور. ولعل سر شهرته أنه كان صاحب أسلوب خاص جداً في الأداء، يبدو في أدواره مثل الشرير الداهية خفيف الظل رغم ضآلة جسمه، وكان صاحب أداء صوتي مميز، يملك مهارة خاصة في أداء الحوار والألفاظ.
هكذا كان محمد كمال المصري أو «شرفنطح» يضحكنا وهو يتمزق ألماً وتقطر عيناه مزيداً من الدموع في صفحات كتاب حياته، وحتى آخر سطر فيه.
لم يكن «شرفنطح» الذي أسعد الملايين بخفة ظله طيلة نصف قرن من الزمان يدرك ان نهايته المؤلمة التي كتبت عليه ستكون بمرض الربو الذي شل كل قدراته، وأقعده في منزله عام 1954، وأصبح كل ما يربطه بالعالم الخارجي سطرا واحدا في ملفات نقابة الممثلين يتضمن اسمه وعنوان منزله الكائن في 3 عطفة علي باشا ابراهيم، حارة الماظ في شارع محمد علي بالقاهرة الذي كان قد ولد فيه عام 1890.

عزلة إجبارية
أما هو نفسه «شرفنطح» فلم يعد يراه أحد في الاماكن التي كان يتردد عليها ويملأها بالضخك والمرح، وأما بيته فلم يعد له وجود أيضاً، لقد أنهكه الزمن، وآل للسقوط، فأخلته البلدية من سكانه، فحمل أمتعته، وركب الترام إلى القلعة، وحل ضيفاً على صهره في حارة حلوان، ولم يعد يهتدي إليه أحد سواء من أصدقائه أو عشاق فنه الذين عاصروا شهرته وأيام مجده الفني الكبير.
لقد فرض «شرفنطح» على نفسه عزلة إجبارية، عاش وحيداً متعطلاً مثقلاً بمرض الربو والشيخوخة، ولم يعد لديه المال الكافي بعد أن أنفق كل ما لديه على الدواء، وليته أفاده، فقد تملك منه الربو، وأقعده وأعجزه عن الحركة، وحذره الأطباء من الموت إن هو غامر بإجهاد نفسه في العمل.
وفوق ما عانى من المرض والشيخوخة، عانى «شرفنطح» أيضاً من تجاهل نقابة الممثلين له، كان يأمل أن تساعده الهيئات المسؤولة عن الفن في أواخر ايامه لتوفر له حياة كريمة جراء ما قدم على مدى حياته، ولقاء التزامه بأداء ما عليه دائماً تجاه نقابة الممثلين التي واظب على دفع اشتراكه فيها رغم فقره وعزلته ومرضه وشيخوخته، لكن هذه هي الدنيا.

إلا الأولاد
كانت تحكم «شرفنطح» في حياته فلسفة قد تبدو غريبة، فرغم شعوره بالوحدة هو وزوجته، فإنه أبى أن ينجب أولاداً حتى لا يصبحوا ضحايا جددا للحياة، لقد كانت الدموع تنحدر من عينيه عندما كان يتحدث عن أحواله، ويقول: ليست لي أسرة كبيرة، فزوجتي وحدها هي التي ترعاني وتقوم بتمريضي وتسهر على راحتي بصفة دائمة، وكان يردد «إلا الأولاد، لقد عشت حياتي معذباً مثقلاً بالهموم والمتاعب، فلم أجد معنى لأن أقدم بيدي ضحايا للحياة، لم أشأ أن أقذف بنفوس جديدة في مجرى الحياة تعاني مثلي الهموم والأحزان.

إلى السينما
لمع «شرفنطح» فى العديد من الأدوار المسرحية، وحقق شهرة كبيرة وأصبح أحد أهم وأبرز نجوم الكوميديا، إلى أن نادته السينما وجذبته أضواؤها، فشارك للمرة الأولى في بطولة فيلم «محزن العشاق» امام المطربة المشهورة في ذلك الوقت نادية، وإخراج بوبا عام 1933، وتقاضى عن دوره فيه 50 جنيهاً، وكان أيضاً فاتحة خير عليه، فتعاقد على بطولة فيلم «كله إلا كده» أمام الراقصة ببا عزالدين، إخراج أدمون تويما عام 1936، ثم اشترك مع نجيب الريحاني في ثلاثة أفلام هي: «سلامة في خير» عام 1937، وأدى فيه دور ناظر مدرسة، و«سي عمر» عام 1941، وأدى فيه دور ضابط البوليس السابق، و«أبو حلموس» عام 1947.
وسرعان ما توالت عليه الأفلام، فشارك في 120 فيلماً من أشهرها «فاطمة» الذي أدى فيه دور وكيل المحامي، و«شهر العسل»، و«السوق السوداء»، و«الستات كده»، و«الهوى والشباب»، و«الستات عفاريت»، و«أحب الرقص»، و«ليالي الأنس»، و«غني حرب» و«آه من الرجالة»، و«حلاوة»، و«البطل»، و«خبر أبيض»، و«ابن الفلاح»، و«الآنسة ماما» الذي أدى فيه دور «عكاشة عكاشة صاحب صالون دقـن الباشا»، وغيرها من الأفلام.

النهاية
لقد كسب «شرفنطح» الكثير، وأنفق الكثير، ولم يدخر إلا أقل القليل، وفي عام 1953، قرر أن يحج إلى بيت الله الحرام وارتدى عباءة التصوف والورع، وأطلق عليه الناس لقب «الحاج شرفنطح»، ومع أنه كان يراعي صحته، ولا يرهق نفسه في العمل، أو يوزع نشاطه بين أكثر من عمل في وقت واحد، إلا أن مرض الربو تمكن منه عام 1954 وضيق عليه أنفاسه، وافترس حصيلة عمره من المال.
وقاوم «شرفنطح» في البداية، وظل يعمل على المسرح وفي السينما، لكن الشيخوخة والمرض تحالفا ضده فعجز عن المقاومة واستسلم، واعتزل العمل بعد أن صور آخر أفلامه «حسن ومرقص وكوهين»، إخراج فؤاد الجزايرلي عام 1954، وظل يصارع مرض الربو سبع سنوات متواصلة، إلى أن فاضت روحه في صباح يوم 3 أبريل عام 1961.
وإذا كان «شرفنطح» أو محمد كمال المصري قد عاش أواخر أيامه حزيناً كئيباً بسبب ثقل المرض عليه، حيث تواطأ مع الفقر ضده، إلا أنه لا يزال حتى يومنا هذا أحد أهم وأشهر نجوم الكوميديا في العالم العربي فنانا كوميديا صنعه الألم والدموع.


القبس
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
30-07-2012, 09:42 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 12 : نجيب الريحاني… الدلوعة

نشر في 30, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


نظر نجيب الريحاني في جيوبه فلم يجد سوى خمسين قرش صاغ، هي كل مدخراته من مشاركته في الروايات التي قدمها على مسرح «الشانزلزيه»، وخطر في باله أن يعطيها للعسكري الذي يمسك به وبعلي يوسف في الخفاء، من دون أن يراه أحد، فربما ذلل هروبهما.
أخرج الريحاني الخمسين قرشاً من جيبه، وراح يحركها ويقلبها في يده من أسفل إلى أعلى، يميناً ويساراً، في عملية جس نبض العسكري، فوجد على شفتيه ابتسامة عريضة تنم عن رضا وقبول إذا ما ناولها له، ومن المؤكد أن ذلك سيعقبه عفو عنهما بطريقة أو بأخرى.
ناول الريحاني الخمسين قرشاً، وأخذها العسكري في رضا، وتراخت حماسته وبدأ يشاور عقله في تذليل هروبهما. لكن حدث ما لم يتوقعه نجيب، فما أن لمح علي يوسف ذلك حتى صرخ صرخة عالية في وجه نجيب الريحاني:
= يا دي المصيبة. إيه اللي أنت عملته ده؟ أنت عبيط يا نجيب! ليه تدي العسكري فلوس؟ دلوقت تشوف راح يجرى لنا إيه؟
* يا سيدي وطي صوتك. أنت عاوز تقول يا اللي ماشفتش شوف؟
= اللي عملته دا اسمه رشوة. هنتحاسب عليها!
ما إن سمع العسكري هذا التحدي له في أثناء تأدية وظيفته، حتى غلا الدم في عروقه، وأخذته النخوة والعزة:
- بقى عاوز ترشيني يا متهم؟ دا أنت وقعتك سوده!
* رشوة إيه بس ياشاويش. عاجبك كده ياسي علي. أهي ختمت. بدل تهمة واحدة بقوا اتنين.
- قدامي يا متشرد منك له على القراقون. أنتو لازم تباتو الليلة في «الحاصل»، السجن، بتديني رشوة؟!
ما قاساه نجيب الريحاني في هذه الليلة لا يمكن أن ينساه، ولن ينسى حسرته على «البذلة الكتان» البيضاء، التي أصبحت بلون الإسفلت الذي نام فوقه بلا فرش ولا غطاء، بين اللصوص والمتشردين.
بعد ساعات قليلة كان خبر القبض على نجيب الريحاني وعلي يوسف قد وصل إلى أعضاء الفرقة، وتحرك عزيز عيد على الفور وذهب إلى «شيخ الحارة» ليضمن عضوي الفرقة، غير أن «شيخ الحارة» أجل ذلك للصباح، ومع أول ضوء للنهار دخل العسكري لينادي على نجيب الريحاني وعلي يوسف وقد حمل لهما «زيارة»، أتت بها عضوتا الفرقة سرينا إبراهيم ونظلة مزراحي، حيث حملتا إليهما الفطور والسجائر.
ولم يكد ينتهي علي يوسف والريحاني من فطورهما، حتى أتى عزيز عيد بصحبة «شيخ الحارة» الذي أخرجهما بضمانته الشخصية على اعتبار إنهما فنانان وأثناء طريقهما إلى المسرح تم القبض عليهما.
عاد نجيب إلى الفرقة، لكن يبدو أن تجربة السجن، التي لم تزد على ليلة، قد تركت عظيم الأثر في نفس الريحاني، حيث أمضى الليلة في التعرف إلى المجرمين واللصوص والمتشردين، ومعرفة الأسباب التي أتت بهم إلى هنا، مع حرصه على أن يسمع كل فرد منهم على حدة، في حين جلس علي يوسف بعيداً وهو في دهشة من أمر نجيب وما يفعله، غير أنه لم يكن يعرف أن نجيب يستعين بمخزون جديد لتجربته الإنسانية والتعرف إلى نماذج بشرية جديدة، تكون له معيناً في رحلته الفنية.
مع عروض الروايات الجديدة، بدأ نجيب يشعر بأن قدميه قد ثبتتا تماماً، وأنه أصبح شيئاً مذكوراً في عالم التمثيل والوقوف على خشبة المسرح، بل إنه أصبح يجيد تنفيذ ما يجول في مخيلته من أفكار فنية، ينفذ بعضها بشكل فوري فوق خشبة المسرح أثناء العرض. فمن خلال دراسته الأدوار التي تسند إليه جيداً، ومن خلال كثرة العمل والشخصيات التي يؤديها، أصبح يعرف كيف يرضي الجمهور، وكيف يتعمق داخل الشخصية التي يجسدها، وما الجمل الحوارية التي قد يضحك لها الجمهور دون غيرها.
البحث عن منقذ
زادت خبرة نجيب وخبرة أكثر أعضاء الفرقة، غير أن ذلك لم يكن باعثاً على زيادة إيراد الفرقة، حتى أصبح حالها من الوجهة المادية لا يسر أحداً، وجلس الجميع مجدداً للتفكير في كيفية الخروج من هذه الحالة، والطريق إلى الإصلاح، وهو ما كان يفكر فيه نجيب ويهتم به:
* يا أخوانا لازم تعرفوا إن الجمهور بيمل بسرعة. وبعدين الحالة اللي عليها البلد لا تسر عدو ولا حبيب. الحرب من ناحية والأسعار اللي بقت نار من ناحية تانية. كل ده خلى الجمهور يبعد عننا.
- تتصور يا سي نجيب أفندي إن العشر بيضات بقو باتنين مليم.
* أنت بتاكل عشر بيضات في الطقة يا عبد اللطيف؟
- يوووه يا نجيب أفندي. هما العشر بيضات يعملوا إيه مع النفر مننا؟
* يا أخي أنت خرجتنا من الكلام المفيد للبيض والجبنة الرومي بتوعك. القصد… أنا بدي أقول يا أخوانا إننا لازم نفكر في طريقة جديدة نجذب بيها الجمهور لنا من تاني.
= عندك حق يا نجيب بس هنعمل إيه أكتر من كده؟ دا أحنا بنغير رواية كل أسبوع؟
* يا أستاذ عزيز بنغير رواية كل أسبوع. بس الجمهور مش حاسس إن فيه شيء بيتغير. لازم يكون فيه شكل جديد يحس معاه الجمهور بتغيير.
# أنا عندي فكرة.
* قول يا علي يا يوسف. أنا مفيش حاجة بتخوفني غير أفكارك دي!
# اسمعوا بس… الست منيرة المهدية دلوقتي أشهر من نار على علم. واحدة من الصييته الكبار في البلد… ومن غير حسد التياترو بتاعها كل يوم مافهوش كرسي فاضي.
= تقصد إيه يا علي… مش فاهم؟
# أقصد إننا لو قدرنا نجيب الست منيرة هنا معانا تبقى ضربة معلم.
* يعني تيجي تغني هنا في «الشانزلزيه» وأحنا نبقى الكورس بتاعها يا سي علي يا يوسف؟
# لا يا أخي. أنا عاوز أقول إن الست منيرة صييته كبيرة دلوقت وأغانيها على كل لسان… يجرى إيه لو خليناها تشخص معانا… وبدل ما تبقى مغنية بس تمثل وتغني في جوق «الكوميدي العربي»؟
* معقولة اللي أنا سامعه ده… الفكرة الجهنمية دي تطلع منك أنت يا أبو يوسف؟
# أنتو شوفتوا حاجة… دا لسه يا ما في الجراب يا حاوي.
باعتبار أن هذا هو اقتراح علي يوسف، كلفته الفرقة بالاتفاق مع السيدة منيرة المهدية، على أن يكون معه الريحاني للاتفاق على النواحي الفنية والمالية. وبعد تفكير ومشورة أهل الثقة ممن يعملون معها، راحت تضع شروطاً لا يمكن التنازل عنها، لتضمن بقاء ارتفاع أسهمها، وعدم نقصان دخلها عما تحققه في مسرحها:
- أولكشي (أول كل شيء)… اسمي يتكتب بالنور لوحدي على التياترو.
= بسيطة…
* ومن غير ما تقولي يا سلطانة هنعمل كده.
- أنت قلتلي اسمك إيه يا جدع أنت يالي لسانك بينقط شهد؟
* نجيب الريحاني يا سلطانة.
- آه والنبي نسيت… دا أنا سامعة باسمك بيقولوا إنك مشخصاتي عفريت.
* دا بس من لطفك يا سلطانة.
- آه نرجع للشروط… تاني هام أعرف الأول الرواية اللي هعملها وأوافق عليها.
= برضه بسيطة.
- نيجي بقى للفلوس… من غير شرط ولا كلام أنا والتخت بتاعي لنا نص الإيراد.
الكوميدي العربي
بدأت عروض الفرقة ونجحت منيرة المهدية، ونجحت «الكوميدي العربي» بقوة، وأقبل الجمهور على مسرح «الشانزلزيه» إقبالاً لم ينتظره أعضاء الفرقة، وارتفع الإيراد اليومي ارتفاعاً غير منتظر. كان نصفه بالتمام والكمال يذهب إلى منيرة المهدية والتخت الخاص بها، والنصف الثاني يذهب إلى فرقة «الكوميدي العربي» ومع ذلك فقد ارتفع نصيب كل منهم بشكل ملحوظ، لدرجة أن نصيب كل فرد بعد إيجار المسرح والكهرباء يترواح بين ثلاثين وأربعين قرشاً يومياً.
استطاع المحيطون بالسيدة منيرة المهدية إقناعها بأنها صاحبة هذا النجاح وحدها، ولولاها ما تكالب الجمهور كل ليلة بهذا الشكل على المسرح، لأنها هي المقصودة دون غيرها بالمجيء، وعليه قررت منيرة مراجعة اتفاقها مع الفرقة:
= الكلام ده ما ينفعش… لازم يبقى فيه اتفاق جديد.
* اتفاق إيه يا سلطانة. ما الأمور ماشية عال والحمد لله.
= ماهو علشان كده… لازم تعرفوا أن الناس بتيجي علشان السلطانة منيرة المهدية.. مش لحد تاني.
* وأحنا نبصم بالعشرة بكدا ومحدش يقدر يتكلم.
= يبقى من الظلم لما الجمهور كله يكون بتاع منيرة… وأنتو تأخدوا نص الإيراد.
* تقصدي إيه يا سلطانة… مش فاهم؟
= أقصد أن العدل يقول إن أنا التلات أرباع وأنتم الربع.
* بس ده يبقى ظلم يا سلطانة!
= خلاص… طالما أنا ظالمة يبقى كل واحد من طريق.
* مش كده يا سلطانة… أنا مقصدش.
= ولا تقصد. هي خلصت لحد كده… إما التلات أرباع… وإما كل حي يروح لحاله.
صممت منيرة المهدية على فض الارتباط، وما كادت «تنفض» يدها من الفرقة، حتى اختفى معها الخير الذي عم الفرقة ردحا من الزمن، وعاد المسرح خاوياً من الجمهور، وعلى رغم ذلك ظلت الفرقة تقدم عروضها وظل أفراد الفرقة يكابدون الجوع والفقر، إلى أن جاء حسن فايق باقتراح جديد للخروج بالفرقة من أزمتها.
دمج فني
اقترح حسن فايق أن يتم دمج فرقة «الكوميدي العربي» مع فرقة «إخوان عكاشة» الذين يعملون على مسرح «دار التمثيل العربي»، مشيراً إلى أنه قام بعملية جس النبض معهم، فوجد منهم ترحيباً كبيراً.
بعد مشاورات لم تستمر طويلاً وافق الجميع، وعلى رأسهم عزيز عيد، إنقاذا للفرقة من حالة الإفلاس، وتم الاتفاق ولكن على أن تظل كل فرقة قائمة بذاتها ومستقلة فنيا وماليا،حيث قضى الاتفاق على أن تقدم كل فرقة منهما ليلة عرض، تعقبها الأخرى بعرض مختلف، وفي نهاية الأسبوع يتم جمع الإيراد للفرقتين واقتسامه في ما بينهما.
انتقلت «الكوميدي العربي من «الشانزلزيه» إلى «دار التمثيل العربي» في شارع الباب البحري لحديقة الأزبكية، وجاءت الليلة الثانية لتقدم فرقة «الكوميدي العربي» عرضها، وكثيراً ما كانت الغيرة على مصلحة العمل تدعو روز اليوسف إلى الوقوف موقف العناد من عزيز عيد، وجاءت الصدفة في الليلة الأولى ليحدث ما أدى إلي إصرار الاثنين على عدم الظهور على خشبة المسرح مطلقاً، ووقف كل أعضاء الفرقة موقفاً لا يحسدون عليه، فلا بد من رفع الستار، وكل منهما في حجرته يقسم بأنه لن يصعد إلى خشبة المسرح.
تقمص نجيب الريحاني دور المخرج، دق دقات المسرح الثلاث، أعلن عن رفع الستار وبدأ العرض، وعندما حانت لحظة دخول عزيز عيد، وجد نجيب نفسه يقتحم غرفة عزيز عيد، ويحمله بين يديه بجسده النحيل، ويقذف به إلى خشبة المسرح، وأمام تصفيق الجمهور انتصبت قامة عزيز عيد وبدأ في تقديم دوره، وأمام هذا التصرف الذي أضحك روز اليوسف كثيراً، لم تجد بداً من أن تدخل طواعية إلى خشبة المسرح، خشية أن يفعل معها نجيب ما فعله مع عزيز عيد.
وبدأت عروض الفرقتين تتوالى، لكن يالها من خيبة أمل، فقد كانت نتيجة الاتفاق الجديد، «كالمستجير من الرمضاء بالنار»!
استمر الاتفاق عدة أشهر، إلى أن كان شهر مارس عام 1916، حيث بدأت المشاحنات بين أعضاء الفرقتين، وإحساس كل منهما بأنها هي المصدر الرئيسي للإيراد الأسبوعي فآثرت فرقة «الكوميدي العربي» السلامة، وعادت من حيث أتت، حيث انتقلت الفرقة إلى مسرح «برنتانيا» مرة أخرى، ومادام هناك قليل وهنا قليل، فليكن العيش بكرامة أفضل.
خلاف وانفصال
لم يصدق أحد ما حدث، فما أن انتقلت فرقة «الكوميدي العربي» إلى مسرح «برنتانيا» حتى عرف الجمهور طريقه مجدداً، بل وعرفت الفلوس طريقها إلى جيوبهم، وبدأ إيراد الفرقة يرتفع يوما بعد يوم، ولكن هذه المرة لم يكن بسبب السلطانة منيرة المهدية، ولا بطلة الفرقة الأولى روز اليوسف، ولا حتى نجمها الأول ومخرجها عزيز عيد، بل كان بسبب بزوغ نجم جديد انتبه له الجمهور للمرة الأولى، هو نجيب الريحاني. فقد أصبح له جمهور يبحث عن اسمه وينتظر طلته على خشبة المسرح، حتى إن جمهوره أصبح في تزايد كل يوم عن سابقه، وبالتالي فإن إيرادات الفرقة دخلت معه في علاقة طردية، كلما علا نجم نجيب الريحاني واستقبال الجمهور له، علا وزاد الإيراد، بينما ظل ما يتقاضاه كما هو، لم يزد مليماً. أكثر من ذلك، فعلى رغم رضاه بقليله من المليمات، لم يكن مسموحاً له بكتابة اسمه على إعلان الرواية على واجهة المسرح، ولا حتى في الذيل بأصغر خط، حتى شعر نجيب بغبن حقيقي أمام ما يحققه يومياً من نجاح ويشهد بذلك استقبال الجمهور له في الدخول في بداية الرواية، أو في التحية النهائية في الختام، فاستجمع شجاعته وفاتح عزيز عيد في الأمر:
= تعالى يا نجيب… أدخل.
* هو بس كان فيه حاجة كده كنت عاوز أكلمك فيها يا أستاذ عزيز.
= طب ما تقعد مالك كده عامل زي الدّيانة والعياذ بالله.
* لا أبداً… بس كنت متردد يعني.
= يا سيدي قول ما تترددش. أحنا فيه بينا الكلام ده.
* ماهو علشان كده أنا جيتلك… طبعاً أنت عارف أن أجري في الليلة ما بيزدش عن عشرة صاغ.
= آه… طالب زيادة. هيحصل إن شاء الله… بس الأمور تستقر شوية ونسدد ديوناً.
* ديون إيه يا أستاذ ماهو كله على يدي. وعلى كل حال مش هو ده الموضوع اللي كنت عاوز أكلمك فيه… أنا بس كنت بستسمحك يعني… تأمر بكتابة اسمي على إعلان الرواية على باب التياترو.
= كدهه.. مرة واحدة كده.
* دا بعد إذنك طبعاً.
= إذن إيه… فيه إيه يانجيب. أنت اتجننت؟!
* اتجننت علشان بطلب حقي يا أستاذ؟
= لا… ده مش حقك!!
* إزاي؟
= لأن الوحيد اللي له الحق هنا هو أنا!
* وأنا يا أستاذ؟
= أنت صدقت نفسك يا نجيب يا ريحاني… أنا صاحب الفرقة… وأنا المخرج، والبطل الأوحد، وإذا كان فيه جمهور بييجي، فهو بييجي علشان عزيز عيد مش علشان نجيب الريحاني ولا أي حد تاني. فووق يا نجيب!
* حد قلك إني شارب حاجة ولا واكل «تاتورة»… بس ده يبقى ظلم.
= ظلم إني جبتك من الصعيد وأنت قاعد هناك وكنت هتقضي بقية عمرك موظف وهتموت موظف؟
* يا سيدي كتر خيرك… بس أنا كنت ممثل من قبل ماتجبني. وأنا اللي بعدت بسبب الحالة اللي كان عليها التمثيل… ولما لقيت الدنيا اتغيرت رجعت بخطري من غير ماحد يأثر عليّ.
= أنا كنت عارف إن هييجي يوم وده يحصل. وقصر الكلام. أنا معنديش أرتست ينكتب اسمه على الإعلان… واللي مش عاجبه الباب يفوت جمل!
* وأنا عند قولك… بس خليك فاكر يا أستاذ إن أنت اللي اخترت!
البقية في الحلقة المقبلة
شروط منيرة المهدية
لم يكن أمام نجيب وعلي يوسف إلا الموافقة بل والرضوخ لشروط منيرة المهدية كافة، حتى لو غالت فيها أكثر من ذلك. وفي أول لقاء لها مع مخرج الفرقة عزيز عيد، اتفق معها على أن تقدم كل ليلة فصلاً من رواية غنائية، ثم تبدأ بعدها الفرقة تقديم إحدى رواياتها المعتادة، وتم الاستقرار على أن تقدم فصلاً من إحدى روايات الشيخ سلامة حجازي الغنائية.
وقع الاختيار على الفصل الثالث من رواية «صلاح الدين الأيوبي» لأول ظهور للمطربة الكبيرة منيرة المهدية على خشبة مسرح «الشانزليزيه» مع فرقة «الكوميدي العربي»، لتغني القصيدة المشهورة من الرواية «إن كنت في الجيش أدعي صاحب العلم».
كانت منيرة في ذلك العهد تسكن في ضاحية مصر الجديدة وبما أن نجيب الريحاني من سكان هذه الضاحية، فقد اختارته إدارة الفرقة، وبموافقة منيرة المهدية، كي يراجع لها دورها في الرواية نهاراً، ويرافقها على خشبة المسرح ليلا، باعتبارها حديثة العهد بالتمثيل، ونجيب بما له من خبرة يساعدها في إلقاء الجمل وبداية الكلام ولحظات التوقف.
في اليوم الأول، دخل نجيب الريحاني منزل الست منيرة على استحياء، وتقدمت لا لتراجع معه الدور، لكن لتداعب حيواناً أليفاً كانت تقتنيه. وما إن شاهد نجيب الحيوان حتى ترك ساقيه للريح، وسط قهقهات منيرة المهدية، ذلك لأن الحيوان الذي كانت تقتنيه وتداعبه، ليس كلباً ولا قطة، ولا حتى أسداً، بل كانت تقتني «عرسة»!
لم يعد الريحاني إلى منزل منيرة المهدية، لأنه لم يكن يكره في حياته بقدر ما يكره «العرس والفئران» وهما من الفصيلة نفسها تقريباً، واكتفى بالجلوس معها ساعة يومياً في المسرح قبل رفع الستار، وهو ما جعله يتعلم فن الإخراج بشكل مباشر من المخرج عزيز عيد، وما يلقنه له ليطبقه مع منيرة المهدية، حتى أصبح له باع كمخرج، لدرجة أن عزيز عيد أعجب بكثير من الملاحظات التي كان يبديها نجيب الريحاني للسيدة منيرة المهدية، بل وصل الأمر أن يبدي الريحاني ملاحظاته لباقي زملائه بالفرقة، ما كان يثير حفيظة عزيز عيد أحياناً.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
31-07-2012, 08:22 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

لفيلسوف الضاحك 13 : نجيب الريحاني… أحلام كشكش بك

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 31, July 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


كانت فرقة «الكوميدي العربي» تعيش حالة مؤلمة، وهو الأمر الذي ساعد نجيب الريحاني على اتخاذ قراره الشجاع، في ظل تعنت عزيز عيد بعدم الموافقة على كتابة اسمه على إعلان الفرقة في واجهة «التياترو».
في شهر مايو عام 1916، انفصل نجيب الريحاني عن فرقة «الكوميدي العربي» من دون أن يفكر إلى أين سيذهب؟ أو ماذا سيفعل؟ المهم ألا يستمر مع هذا الإجحاف والتعنت في إنكار جهوده وتميزه اللذين يشهد بهما جمهور فرقة «الكوميدي العربي».
ظل نجيب الريحاني لما يزيد على شهر ونصف الشهر يفكر في ما يفعله، بعيداً عما يحدث على الساحة الفنية. وبذهن صاف غير مرتبط بـ «لقمة العيش»، راح يفكر في تقديم أفكار جديدة للمسرح الكوميدي، ويضع تصورات لمشروعات مضمونة النجاح… ينقصها التمويل فحسب، لكن من أين؟!
انفصل الريحاني عن فرقة «الكوميدي العربي» غير أنه لم ينفصل عن «بوفيه تياترو مسرح برنتانيا» الذي تقدم عليه «الكوميدي العربي» عروضها، فأصبح «البوفيه» هو مقر إقامته الدائم منذ الصباح إلى ما بعد انتهاء عرض الفرقة.
كعادته اليومية، جلس الريحاني في «بوفيه» مسرح برنتانيا مفلساً لا يجد ثمن كوب الشاي الذي يطلبه من عامل البوفيه، ولم تكن الفرقة قد انتهت من عرضها بعد. وفي تمام الواحدة من بعد ظهر أول يونيو عام 1916، إذا به يرى شخصاً يهبط عليه في سترة فاخرة وعصا ذهبية المقبض، وخاتم ذهبي يداعب شعاعه الأعين. جلس إلى جواره، ثم أخرج من جيبه علبة سجائر من الفضة، فيها نوع فاخر من السجائر، ومن دون أن يتوقع نجيب، وجد الرجل يناوله سيجارة ويلتفت لإشعالها له، والتفت الريحاني لينظر في وجه هذا الكريم الذي شعر بحاجته إلى هذه السيجارة، من دون أن يعرفه ليشكره، غير أنه لم يصدق ما رأه:
* يا وقعتك اللي زي بعضها… مين؟! ستيفان روستي.
• هو بعينه.
* إيه يا واد اللي نجرك ونضفك كده؟
• الدنيا يا عزيزي!
* ماكنتش أعرف أن الدنيا عندها حساب في البنك الأهلي.
• الدنيا فيها كتير يا سي نجيب.
* أيوه بس بدي أعرف سر النعمة اللي حطت على جتتك… والعز ده كله منين؟ بدلة كتان وبرنيطة ولا ولاد الخواجات… وكمان سجاير فخمة في علبة فضة… الله يرحم سجاير ماركة «الحملي» ولا حتى ماركة «الكوز» (أعقاب السجائر التي يتم جمعها في علبة من المعدن)!!
• الدنيا مش على حال واحد ياعم نجيب… المهم أن ربنا فرجها.
* يا سيدي من حكم ومواعظ… إيه اللي عمل فيك كده.
• أقولك… أنا بعد ما سبتكم الدنيا شالت وهبدت فيا… جعت وتشردت، نهايته ربنا وفقني ولقيت شغل في «كباريه» اسمه «ابيه دري روز» هنا ورا تياترو «برنتانيا» على طول.
* كباريه؟ وبتعمل إيه في الكباريه؟
• مش مهم بعمل إيه المهم إن أجرتي في اليوم ستين قرش صاغ… صاغ ينطح صاغ.
* يا نهار أبوك زي الكرمب… ستين قرش حتة واحدة. دي ماهية العبد لله في شهر… لو الحالة رايجة… أيوه بس مقلتليش بتشتغل إيه في الهباب ده؟
• إيه رأيك. أنا عازمك النهارده… تتعشى وتتفرج وتقوللي إيه رأيك. عجبك الشغل… أكلملك الراجل صاحب الكباريه.
* ولا معجبنيش… غايته يعني هشتغل رقاصة؟!
خيال الظل
جلس نجيب الريحاني في أحد أركان الملهى الليلي يتناول ما لذ وطاب على نفقة ستيفان، غير أن أصناف الطعام الفاخرة لم تشغله عما يريد أن يعرفه عن طبيعة عمل ستيفان. وفجأة انطفأت أنوار الملهى، وسلطت الأضواء من خلف ستار أبيض من الشاش، وإذا به يرى من خلف هذا الستار من يؤدي بعض الحركات الهزلية من خلال حكاية شعبية تضج لها ضحكات «السكارى» من رواد الملهى، إنه ستيفان روستي الذي عاد بالفن عشرات السنين إلى الخلف:
* «خيال الظل» يا ستيفان… بتقدم عروض خيال الظل؟
• خيال ظل مش خيال ظل… فن ده ولا مش فن؟
* أيوه ماقلناش حاجة… بس الدنيا بتطلع لقدام مش بترجع بضهرها.
• وإذا كان الناس اللي بتشتغل معاهم والناس اللي دافعين فلوس علشان يشوفوك… عاوزين الدنيا ترجع بضهرها تقول لا؟ هو أكل ولا بحلقة؟
* على رأيك… بس المكان هنا مش أد كده… حاجة كده اللهم أحفظنا. كله ناس سكرانين ولا عارفين رأسهم من رجليهم.
• أنا مالي بيهم. أنا بقدم فقرتي في ربع ساعة من ورا الستارة. لا حد شايفني ولا أنا شايف حد. وأتلايم على الستين صاغ وتصبحوا على خير.
* والله كلام معقول برضه… طب وأخينا ده صاحب الكباريه يرضى يشغلني… هو طبعا مش لازم أوصل للأملة اللي أنت فيها. أنا برضى بقليلي… لو حتى بتمانية صاغ في الليلة مش هقول لأ.
• سيب الموضوع ده عليّ أنا.
انصرف نجيب بعدما وعده ستيفان خيراً وأقرضه مبلغاً من المال يمكنه من العودة إلى منزله، وفي مساء اليوم التالي، وقبل موعد تقديم ستيفان لفقرته، التقاه نجيب أمام باب «ابيه دي روز» حيث قاده لمقابلة الخواجة الإيطالي «روزاتي» صاحب الملهى الذي راح يتحدث الفرنسية كلغة مشتركة بينه وبين نجيب وستيفان.
رأى ستيفان أن يقدم نجيب لصاحب الملهى، ليس بما يليق به كصديق وفنان متميز فحسب، بل بما يجعل صاحب الملهى يكون حريصاً وفخوراً بأن يعمل لديه فنان كنجيب الريحاني:
= نجيب الريحاني ممثل كبير ومشهور. عمل مع جورج أبيض والشيخ سلامة حجازي، وعمل مع عزيز عيد، وكبار الأرتيست في مصر.
- برافو برافو… ممثل كبير. بس للأسف أنا مش عاوز ممثل كبير ومشهور، أنا عاوز ممثل صغير لأن الدور صغير ومش مهم.
يبدو أن ما حاول أن يفعله ستيفان أتى بنتيجة عكسية، وبدلاً من أن يتمسك صاحب الملهى بنجيب اعتذر عن عدم قبوله. هنا كان لا بد من أن يتدخل نجيب في المناقشة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه:
* يا فندم اسمح لي… ستيفان بيبالغ كتير مش شوية. أنا يا أفندم ممثل بسيط على قد الحال. لا أنا مشهور ولا أنا كبير وممكن أعمل أي دور كبير أو صغير… مش فارقة.
- زي ما تحب… في كل الحالات أنا مش رايح أدفع أكثر من أربعين قرشاً.
انتظم نجيب في ملهى «ابيه دي روز»، وراح يشارك ستيفان تقديم حكايات خيال الظل باللغة الفرنسية، غير أن أكثر ما كان يحزنه، ليس تقديمه هذا النوع من الفن القديم الذي لا يشترط موهبة خاصة كموهبة الريحاني وستيفان، ولكن ما يحزنه هو استقبال الجمهور لفنهما، فما إن يبدأ العرض حتى يدير الجمهور ظهره إلى المسرح، ويبدأ في التحدث بصوت عال مع بعضه البعض!
توالت ليالي العرض والجمهور مضمون لا ينقطع عن الملهى، فهو لم يأت ليشاهد هذه العروض، فربما أحد رواد الملهى يظل لأشهر لا يلحظ مشهداً واحداً من مثل هذه العروض، وقد اعتاد نجيب هذا الأمر. فالمهم هو راتبه اليومي الذي كان سبباً في اعتدال أحواله، بل وشجعه للمرة الأولى منذ فترة طويلة على زيارة أسرته، وهو يحمل معه ما ثقل حمله، فقد حرص أن يأخذ معه ما لذ وطاب، وهدايا لوالدته وأشقائه، وراح يقبل أيدي والدته لتقبل هدياه وترضى عنه، فقبلتها بعد إلحاح، فهي لا تريد أن تأخذ شيئاً اشتراه نجيب من «فلوس التشخيص» تلك المشكلة الأزلية فهي ترفض هذا العمل ولا ترضاه لابنها.
عودة للأسرة
فاتحت السيدة لطيفة نجيب في رغبة شقيقه توفيق في الزواج، وأنها اختارت له فتاة من أسرة محافظة لا تخرج إلى الشارع بوجهها مكشوف، وأنها حددت موعداً مع والدتها للذهاب إليهم، ولا بد من أن يحضر هذا اللقاء بشرط ألا يخبر أهل الفتاة التي سيتزوجها شقيقه، بأنه «مشخصاتي».
وافق نجيب على شرط والدته علها ترضى عنه، غير أن الرضا التام كان مشروطاً بالابتعاد عن «التشخيص»، فلن يهدأ لها بال، حتى إذا توفاها الأجل لن تكون راضية ما دام ابنها يمتهن التمثيل.
انتهز نجيب فرصة هذا الجو الأسري الدافئ وعرض عليها أن تأتي وأشقاؤه ليعيشوا معه في منزله الجديد في مصر الجديدة، غير أنها رفضت رفضاً قاطعاً. لكن أمام إلحاح يوسف الذي له مكانة خاصة لدى والدته بسبب إعاقته، وأمام إلحاح توفيق ليكون المنزل الجديد مشرفا لهم أمام أهل عروسه، وأمام تودد جورج، اضطرت الأم إلى أن توافق على طلب نجيب.
اكتمل شمل الأسرة مجدداً في بيت نجيب في ضاحية مصر الجديدة، ليشعر بإحساس جديد غاب عنه لفترة طويلة، وهو دفء الأسرة، خصوصاً عند انتظارهم له لتناول طعام العشاء معه، وغالبا ما كان يتأخر نجيب عليه بسبب عمله في الملهى، فيضطرون إلى تناول العشاء من دونه، باستثناء شقيقه الأصغر جورج الذي كان يصر على انتظار نجيب لتناول العشاء معه.
لم يعد نجيب حريصاً على العودة إلى منزله مبكراً كما اعتاد منذ عودة الأسرة لتقيم معه، غير أن ذلك لم يكن بسبب أسرته أو لحرصه على التسكع بعد تقديم عرضه اليومي، بل لإحساسه بالخوف من المجهول الذي بدأ يلوح في الأفق، وبات ينتظره بين ليلة وأخرى. فقد بدأ يقل تدريجاً رواد ملهى «الابيه دي روز»، ما ينذر بأحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن يضطر صاحب الملهى إلى الاستغناء عنه وعن ستيفان روستي لتوفير أجرهما وإلغاء فقرة «خيال الظل»، خصوصاً أن الجمهور لم يكن يلقي لها بالاً ولن يؤثر غيابها، أو أن يكون الرحيل للجميع، بمعنى أن يغلق الرجل الملهى مع الخسائر المتتالية. وفي الحالتين، ثمة مجهول جديد لا بد من أن يستعد له نجيب.
مولد كشكش
في هذه الليلة، وضع نجيب رأسه على الفراش، غير أنه لم ينم، ظل يتقلب يميناً ويساراً، لم يغمض له جفن، فاعتدل وجلس على الفراش، وراح يستعرض أمام مخيلته كل ما مر به من تجارب، حلوها ومرها، ووقف أمام الكثير منها، استخلص ما تبعها من خير أو شر، فإذا به يجد مواضيع عدة كانت ترجمة واضحة صادقة للمرحلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها… مرحلة مضطربة بكل ما فيها، على رغم أن الحرب الكبرى (العالمية الأولى) أوشكت على الانتهاء.
في فجر هذه الليلة، انتبه نجيب الريحاني لنفسه، غير أنه لم يدر، على أي حال هو في هذه اللحظة، هل هو نائم؟ ويرى فيما يرى النائم، أم أنه مستيقظ وما يراه هو اليقين؟
رأى نجيب الريحاني بعيني رأسه خيالاً كالشبح شاخصاً أمام سريره، رجلاً يرتدي «كاكولا» عبارة عن زي المشايخ أو وجهاء الريف المصري، «الجبة والقفطان وعلى الرأس عمامة» كل شيء واضح، وراح نجيب يسأل نفسه:
* مين ده؟ متهيألي الراجل ده شوفته قبل كده. وإيه اللي جابه هنا دلوقتي؟ أيوه… أيوه… افتكرته… دا الراجل اللي قابلته في المنصورة ليلة ما سهرت أنا وأحمد حافظ. ودفع لنا الحساب. ليلتها رفض إني أرد له المبلغ، أيوه يا نجيب هو… أنا كنت فاكر اسمه لأن اسمه كان غريبا شوية. أيوه كان اسمه كشكي بيه أو كشكش بيه. حاجة زي كده… أيوه هو كشكي بيه «عمدة كفر البد ماص» هو بعينه بلبسه وعمته ودقنه.
طب جاي ليه ياعم كشكش… وعاوز إيه مني؟
انتفض نجيب من سريره ووقف وسط الحجرة، فلم يجد الشبح أمامه، أضاء النور راح يبحث عنه وكأن الشبح كان موجوداً بالفعل، وراح يصيح:
* هو ده… هو ده… هو ده يا نجيب… فهمت الرسالة.
راح نجيب يوقظ شقيقه الأصغر جورج، الأقرب إلى نفسه وعقله ليقص عليه ما رأه وما اهتدى إليه من هذه الرؤيا التي لا يعرف إن كانت رؤيا منام، أم حلم يقظة:
= إيه يا نجيب… مالك؟ مال وشك أصفر كده؟
* لقيته يا جورج لقيته!
= هو مين ده اللي لقيته… اقعد بس واهدى.
* كشكش بيه.
= مين كشكش بيه ده؟
* عمدة «كفر البد ماص».
= عمدة كفر البلاص… هو فيه كفر اسمه البلاص؟
* الله عليك ياواد يا جورج. تصدق كده أحسن وتجيب كوميديا أكتر.
= هو إيه ده؟ أنا مش فاهم حاجة!!
* كشكش بك… عمدة كفر البلاص. دي الشخصية اللي اخترعتها وهقدمها في رواية جديدة.
= ياه عليك يا نجيب يا أخويا. وقعت قلبي… مش تقول كده!
* عندك هنا في الكوميدينو كراسة وقلم… هاتهم واكتب اللي هاقولهولك.
لم يتوان نجيب لحظة… وعقارب الساعة تشير إلى الخامسة صباحًا، راح يملي على شقيقه جورج هيكل الرواية التي صمم على كتابتها وإخراجها، وقوامها أن عمدة من الريف وفد إلى القاهرة، يحمل الكثير من المال ويلتف حوله فريق من الحسان يكن سبباً في ضياع ماله ويتركنه مفلساً، فيعود إلى قريته يعض بنان الندم ويقسم بأغلظ الأيمان أن يثوب إلى رشده، وألا يعود إلى ارتكاب ما فعل.
في الوقت نفسه كان الخواجة الإيطالي «روزاتي» قد اتخذ قراراً سبق وتنبأ به نجيب قبل أيام، ليس بالاستغناء عنه، ولكنه كان الخيار الثاني، وهو غلق الملهى بسبب الخسائر المتتالية، وقد أوشك الرجل على الإفلاس، فراح نجيب يجرب معه آخر أمل لهما معاً:
= وإيه الجديد في كده يا نجيب أفندي
* من جهة الجديد… فيه جديد… وخلينا نجرب.
= نجيب أفندي. أنت مش تحس بحاجة… أنا مفيش فلوس خلاص.
* أنا مستغني عن أجري.
= نجيب أفندي… الخسارة مش أربعين قرش أجرك… الخسارة أكبر كتير… أنا بدفع كهربا يوميا تلاتة وتمانين قرش، وأدفع أجور لك ولغيرك سته جنيه، ومصاريف تانية يعني ممكن أنا بخسر عشرة جنيه كل يوم الملهى مفتوح.
* يا خواجة… بدل ما أنت مقرر تقفل بعد أسبوع خليهم أسبوع ويوم… مش هتفرق كتير.
= خلينا نشوف نجيب أفندي.
* فيه كمان طلب صغير.
= أنت طلباتك بقى كتير نجيب… خير؟
* هنحط إعلان على باب الملهى نقول فيه «ترقبوا ظهور كشكش بك في ملهى «الابيه دي روز».
= مفيش مانع نجيب… مفيش مانع.
وضع نجيب الريحاني أولى روايات «كشكش بك» بعنوان «تعالي يا بطة»، وهي عبارة عن أسكتش فكاهي، يستغرق عشرين دقيقة.
وفي ظهر يوم الافتتاح أجرى نجيب البروفة النهائية على الرواية، وفجأة وبينما هو يؤدي دور «كشكش بك» كما تصوره، يشعر بمدى سخف العمل والشخصية، ما زاد من رعبه وقلقه، فإذا كان هو مخترع الشخصية يشعر بمدى سخافة ما يقدمه، فماذا سيكون رأي الجمهور فيها؟ وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل سيعجل بخراب بيت الخواجة الإيطالي «روزاتي» حيث سيقوم الجمهور بتكسير الملهى على رأسه.
وضع نجيب يده على قلبه… وراح يراجع نفسه ويشاور عقله في التراجع.
(البقية في الحلقة المقبلة)
أربعون قرشاً
وافق نجيب فوراً، وهو في دهشة مما سمعه، ونظر إلى ستيفان نظرة استفهام، فلم يكن يحلم بأن يحصل على مرتب أربعين قرشاً، لدرجة أنه راح يستفهم من ستيفان بالعربية حتى لا يفهم صاحب الملهى، هل هذا المبلغ في الشهر أم في الأسبوع، فأكد له ستيفان أنه يومي.
كان أسكتش «خيال الظل» المزمع إخراجه في هذه الليلة يحتاج إلى ظهور خادم بربري إلى جانب الشخصية التي يقدمها ستيفان، فأوكل صاحب الملهى هذه الشخصية إلى نجيب الريحاني.
هنأ ستيفان نجيب بقبوله عضواً في فرقة «خيال الظل»، وفوراً قاده إلى مدير خشبة المسرح ومعاونه مسيو «روزاتي»، وهي فتاة رائعة الجمال الجميع ينادونها: «ليليان الجميلة».
راحت ليليان تشرح لنجيب الفكرة التي سيقدمونها في أسكتش «خيال الظل» الليلة، مشيرة إلى أن إدارة الملهى أعلنت في جميع أنحاء القاهرة عن عرض في ملهى «ابيه دي روز» تشارك فيه فتاة باريسية رائعة الجمال لمدة ثلاثة أيام، وأن ثمة مفاجأة كبرى ستحدث في الملهى في اليوم الرابع الذي هو اليوم، وهذه المفاجأة هي أن السيدة الباريسية ذات الجمال الفاتن والحسن الرائع، ستظهر للجمهور في اليوم الرابع، ليس خلف الستار ولكن أمامه.
نجحت الدعاية عن الفاتنة الباريسية في جلب جماهير غفيرة طيلة الليالي الثلاث، وتضاعف الجمهور في الليلة الرابعة، واستمر العرض الذي شارك فيه نجيب الريحاني في دور «بربري»، وهو يقف ينتظر أيضاً مشاهدة هذه الفاتنة الباريسية.
عندما حان وقت ظهور المفاجأة المدهشة، عرف نجيب من هي، عندما ظهرت للجمهور، فلم تكن سوى ستيفان روستي، الذي خرج على الجمهور من خلف الستار بشعر مستعار وشارب في وجهه، ليكتشف الجمهور اللعبة، فما كان منهم إلا أن انفجروا بالضحك، لدرجة أنهم كانوا يتساقطون على الأرض من فرط الضحك.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
01-08-2012, 09:23 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 14 : نجيب الريحاني… سلامة في خير

نشر في 1, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


جلس نجيب الريحاني أمام المرآة يصنع لنفسه «مكياجاً»، ويضع لمسات ملامح شخصية «كشكش بك» كما شاهدها وتصورها، وركَّب «لحية» وارتدى ملابسه، ثم وقف ونظر إلى نفسه في المرآة، فوجد «كشكش بك» بشحمه ولحمه، عمدة كفر البلاص، الرجل الساذج الذي أشاب الزمان قرنيه، ولا تزال أشعة السحر تبدو في عينيه.
خرج نجيب من حجرته يجر ساقيه بصعوبة بالغة، يقدم إحداهما فيجد الأخرى تتراجع رغماً عنه، فهذه تجربة عمره، إما أن يكتب له النجاح وإما أن يغلق ملف التمثيل ويكتفي ببعض الحركات الهزلية على طريقة بعض المهرجين، هذا إن سمح له أحد «بالتهريج».
أعطى نجيب الإشارة وتم رفع الستار، وفجأة تحول نجيب إلى شخص آخر، انطلق فاقتحم المسرح مضطراً بملابسه ولحيته، وسوء المصير يلوح في خياله، حيث سيعود إلى المقهى مجدداً، ويعود ليرى في نظرات والدته «الشماتة والتأنيب».
بدأ نجيب يجسد شخصية «كشكش بك» وراح يصول ويجول فوق خشبة المسرح، يتحرك ولا يرى شيئاً أمامه، لا يعرف هل أجاد أم لا؟ غير أن كل ما يدركه أن ثمة ضحكاً متواصلاً لم ينقطع طوال عشرين دقيقة، لدرجة أنه شك في أن هذا الضحك مصدره الجمهور الذي يجلس في صالة العرض.
انتهت الرواية، ومرت أطول عشرين دقيقة في حياة نجيب الريحاني، من دون أن يدري على أي حال انتهت؟ وهل نجحت الرواية أم سقطت؟ وهل نال القبول من مدير الملهى الخواجة روزاتي، أم سبب له امتعاضًا فوق ما كان يشعر به من ضيق وإحباط بسبب اقتراب إغلاق الملهى؟!
لم يشأ نجيب أن يعرف انطباع المحيطين ورأي مدير الملهى إلا صباح اليوم التالي، حتى تكون الصدمة قد أخذت مداها وخف وقعها، فخرج من فوق خشبة المسرح وهو يخفي وجهه في ملابس «كشكش بك» حيث قرر أن يعود بها إلى منزله، فلا وقت لتبديل ملابسه… وضع معطفه فوق ملابس كشكش بك، ورفع ياقة المعطف يخفي بها أطراف وجهه عن الأعين، وتسلل على مهل متخذًا طريقه إلى الخارج من دون المرور على الخزانة، على غير عادة كل يوم، لقبض الأربعين صاغًا أجره اليومي.
وفي اللحظة التي كاد يسلم فيها ساقيه للريح عند الباب الخارجي لمحته ليليان وكيلة الملهى وصديقة الخواجة «روزاتي»، صرخت تنادي عليه فتوقف مكانه كتمثال شمع لا يحرك ساكناً، واقتربت تهنئه بحرارة لم ير لها مثيلاً. هل هذه تهنئة حقيقية بنجاحه أم هو فخ حتى يأتي الخواجة «روزاتي»؟ ولم يدر كيف سحبته من يده وألقت به أمام الخواجة «روزاتي» الذي كان مشغولاً بإحصاء «كومة» من المال أمامه، وما إن رأى نجيب حتى صرخ ضاحكاً وقفز ليمطره بوابل من القبلات وهو يحدثه بالفرنسية:
= رائع نجيب أفندي… رائع… أنا ما كنتش أظن أبدًا أنك ممثل عظيم بالشكل ده!! أنت هايل مبروك مبروك!
* العفو يا خواجة بس إيدك على جيبك بقى واتحفني بالأربعين صاغ… الله يطمنك أحسن أنا كنت هاروح كعابي.
= مفيش كعابي… فيه أتوموبيل.
* لا وحياة والدك يا خواجة بلاش موضوع الأتوموبيلات دا لأن مفيش عمار بيني وبينها… خليني ألحق المترو.
= خد نجيب أفندي. أنت من النهارده أجرك ستين قرش… ومفيش غلق محل خلاص… أنت من اليوم بطل «الابيه دي روز».
وضع نجيب المبلغ في جيبه، وراح يبحث في كل مكان عن ستيفان روستي حتى قابله، فارتمى ستيفان في أحضانه يهنئه، وبادره ستيفان:
= مبروك… ألف مبروك يا نجيب.
* خلاص يا عم… ما حدش أحسن من حد يا سي ستيفان. الروس ساوت بعضها أجري من النهارده ستين قرش.
= أنت تستاهل يا نجيب لأنك فنان حقيقي ومش واخد حقك.
* خلاص يا عم ستيفان… جهز نفسك علشان تشتغل مع «أبو الكشاكش»… أنا محتاجك معايا.
= وأنا مقدرش أتأخر… بس أنت عارف أنا ليا «بروجرام» لوحدي ومش عاوز الخواجة يحس أننا بنجدد حاجة علشان نقفل حاجة تانية… وبعدين يا سيدي سيبني أهيئ لك الجمهور الأول قبل أنت ما تبدأ.
حاول نجيب أن ينقل هذا النجاح الذي شعر به للمرة الأولى إلى والدته، غير أنها كالعادة رفضت أن تستمع أي كلام حول التمثيل وعمل ابنها فيه، غير أن أشقاءه فرحوا به، خصوصاً الصغير جورج الذي كتب بخط يده تفاصيل حياة «كشكش بك» على الورق قبل أن ينطلق بها نجيب فوق خشبة المسرح.
اقترب الأسبوع الأول من نهايته والنجاح يزيد من يوم إلى آخر، ما جعل نجيب يفكر في الرواية الثانية التي سيظهر بها «كشكش بك» في الأسبوع الثاني، فراح يعد أفكارها وتفاصيلها ويمليها على شقيقه جورج، وكان لا بد من البحث عن جديد يضيفه إلى العمدة، فاختار شخصية جديدة تابعة للعمدة وأطلق عليها اسم «زعرب»، وعرضها على الخواجة روزاتي، ليس من الناحية الفنية، لكن من الناحية المالية، لأن وجود «زعرب» يعني أجراً جديداً لممثل آخر، غير أن الخواجة أمام النجاح الذي يراه يومياً وافق على كل ما يقوله نجيب.
ولما رفض ستيفان عرض نجيب، كان لا بد من البحث عن ممثل آخر يقدم الشخصية أمامه، وبينما يجلس نجيب يتأمل الورق ويقرأ حوار «زعرب» حتى وجد الممثل عبد اللطيف المصري يقفز أمام عينيه، ووجده ينطق بالحوار، فضحك نجيب، وقام من فوره واتجه إلى تياترو «الشانزليزيه» خلف ملهى «الابيه دي روز» ليقابل عبد اللطيف المصري، وعرض عليه الشخصية التي سيقدمها أمامه مقابل عشرين قرشاً في الليلة، فأبدى عبد اللطيف موافقته بشكل عملي، حتى كاد أن يغشي عليه من فرط السعادة.
قدم نجيب روايته الثانية التي كتبها عن «عمدة كفر البلاص» وتابعه «زعرب شيخ الخفر» بعنوان «بستة ريـال» لتنجح كما نجحت سابقتها، وشعر عبد اللطيف المصري بنفسه كممثل للمرة الأولى إلى جانب الريحاني، وكإنسان بعدما تقاضى عشرين قرشاً يومياً. ورأى الخواجة «روزاتي» صاحب الملهى بعدما شاهد من ازدياد الإقبال، أن يرتقي بنظام الدخول إلى الملهى بعض الشيء، حيث كان دخول الملهى بلا رسوم اعتماداً على ما سيطلبه الرواد من شراب وطعام، لكن لأنهم يقصدون عرضاً لمشاهدته، فلا بد من دفع رسم دخول، وجعله خمسين مليمًا.
كتب الله النجاح لنجيب وروايته الثانية، ما جعل ثمنه كفنان يرتفع مع ارتفاع الإيراد اليومي، فلم يقف راتبه عند القروش الستين، إذ اتفق معه صاحب الملهى على أن تكون له إلى جانب الراتب اليومي حصة تعادل خمسة في المائة من الإيراد، نظير التأليف والإخراج، وهو مبلغ كبير جداً، إذ بلغت حصته اليومية ما يقرب من المائه وخمسين قرشاً، إلى جانب الستين قرشاً… فأقبلت الدنيا على نجيب الريحاني ترفرف بجناحيها.
في الأسبوع الثالث من يوليو عام 1916، كتب نجيب الريحاني روايته الثالثة وأخرجها باسم «بكرة في المشمش»، والتي حققت مزيداً من النجاح والإيرادات.
تعود نجيب الريحاني أن يخرج من بيته في الثامنة صباحاً وبصحبته شقيقه جورج. يتجه الأخير إلى ملهى «الابيه دي روز» ليبدأ في تجهيز البروفة وتحضير الأوراق، بينما يذهب نجيب إلى محل «حديقة جروبي» في منطقة الأزبكية وهي على بعد خطوات من الملهى، يتناول «قهوته» ويراجع بعض الجمل الحوارية التي سيقولها في العرض مساء اليوم، على أن يكون في الملهى في العاشرة صباحاً.
جلس نجيب وأحضر له «الجرسون» القهوة، وبدأ يرتشف أول رشفة منها، عندما سمع حواراً يدور بين اثنين من الباشوات اعتادا أن يفطرا ويتناولا قهوتهما في «جروبي»، فوضع الفنجان وعاد برأسه إلى الخلف ليستمع إلى حوارهما:
= وبعدين يا مون باشا راح طالع على المسرح عمك كشكك بك ده وشاف زعرب بيلعب بديله من وراه… وعنها ومسك زعرب متلبس وهات يا ضرب… لما وقعنا من الضحك.
• دي رواية هايلة يا باشا… لازم أشوفها.
= أمال لو كنت شفت الرواية الأولانية… كانت حاجة «مسخرة» يا مون باشا… كشكش بك دا مفيش كده. أنت لازم تشوفه يا باشا.
• ضروري… بس يا هل ترى المكان يليق بوجودك يا باشا.
= مكان مش بطال… وبعدين أنت أول ما هتشوف كشكش هاتنسى كل اللي حواليك. ومش هتعرف تمسك نفسك من الضحك.
أراد نجيب الريحاني أن يلتفت ويصرخ بأعلى صوته لهما: أنا كشكش بك اللي بتتكلموا عنه. لكنه وجد أنه من الأفضل أن يترك ذلك لهم وللجمهور، يترك لهم أن يتعرفوا إليه في الشارع وفي المترو، وأن يبادروا هم يشيرون إليه… «كشكش بك أهه» هذا أفضل من أن يبادر بتعريف نفسه. لكن إلى أن يحدث ذلك يكفيه ما وصل إليه من لفت الأنظار بهذه القوة، لدرجة أن يكون مادة للحديث بين اثنين من الباشوات.
كعادته عاد نجيب الريحاني بعد انتهاء العرض اليومي، وما إن وضع رأسه على الفراش حتى سمع من يدق فوقه. انتظر أن ينتهي الدق، لكنه تزايد وراح من يدق بشكل منتظم، ما سبب له توتراً وقلقاً استحال معه النوم، وقد تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فلم يجد بدا من أن يصعد بنفسه إلى الجيران لينظر في أمر هذا الدق المستمر دون توقف:
* مساء الخير يا فندم.
= مساء النور يا سيدي… أي خدمة؟
* أنا نجيب الريحاني… جاركم اللي تحتكم.
= تشرفنا. أؤمر أي خدمة؟
* لا أبداً بس بدي أقول لسعادتك إني عاوز أنام.
= حضرتك طالعلي في الوقت ده علشان تقوللي إنك عاوز تنام. ما تنام يا أفندي. ولا عاوزني أنزل أنيمك.
* يا سيدي مش القصد. بس الدق… الدق نازل يخبط في نافوخي زي المطرقة… وأنا عندي شغل من النجمة.
= بنعمل كفته يا أفندي عقبال عندك.
* كفته!! كفته الساعة اتنين بعد نص الليل.
= والله أنا حر… دا بيتي وأنا حر. أعمل كفته الساعة اتنين الساعة أربعة أنا حر.
* أيوه ماهي دي مش أصول… الناس بدها تنام برضه.
= أنت هتعلمني الأصول يا مشخصاتي أنت.
* من فضلك… الزم حدودك. وبعدين هو ماله المشخصاتي يا ناس… عيب عليكم اختشوا بقى.
= اختشي أنت على دمك يا أفندي لأحسن والله ما يحصل طيب.
تكرر فعل هذا الجار المشاكس وتكررت شكوى نجيب من دون فائدة، وخطر للجار أن ينتقم من نجيب فأبلغ إدارة القرعة (مكتب التجنيد) بأن في منزله شاباً متهرباً من القرعة! على الفور أرسلت إدارة القرعة مندوباً اصطحبه شيخ الحارة إلى منزل نجيب الريحاني لضبط هذا المتهرب من القرعة:
* يا سيدنا مين بس اللي قالك الكلام ده… أنا لا متهرب ولا حاجة. أنا دافع البدلية من حوالى ست سنين.
= مفيش كلام من ده. اسمك موجود قدامي أهه ولازم تسلم نفسك يوم (السبت) الساعة سبعة صباحاً وإلا هنعتبرك متهرب من القرعة… ودا هيعرضك لسين وجيم واحتمال ينضاف لهم نون.
* واشمعنى نون يعني.
= علشان النون مع السين والجيم يبقوا «سجن» يا خفيف.
* سجن إزاي؟ أنت هتصدق الراجل الخرفان ده؟ أنتو أكيد غلطانين.
= سلم نفسك وبعدين نشوف موضوع الغلط ده.
ذهب نجيب الريحاني في الموعد المحدد إلى الفرز العام، مع من يتم توقيع الكشف الطبي عليهم لإلحاقهم بالتجنيد، ذهب وهو على يقين أن ثمة خطأ ما، وكان عليه أن يقدم البرهان القاطع أن والدته دفعت «البدلية» له لإعفائه من أداء الخدمة العسكرية، وأن ما حدث هو بلاغ كيدي من ذلك الجار.
بلغ نجيب «إدارة القرعة» في السابعة من صباح أول أغسطس 1916، ليجد المكان مزدحماً بشكل مبالغ فيه، ويبدو أن شمس أغسطس تعلن عن وجودها منذ اليوم الأول، فانتحى جانباً يحتمي من حرارة الشمس الملتهبة حتى يخف هذا الزحام ويستطيع أن يتفاهم مع أولي الأمر أو قائد إدارة القرعة، فهو ليس ممن ينادون على أسمائهم ويتقدمون لتوقيع الكشف عليهم.
وفجأة وجد نجيب الجندي الذي يقف على باب الإدارة ينظر في ورقة بين يديه وينادي بصوت مرتفع:
= نجيب الريحان… نجيب الريحان.
* أفندم؟
= ما ترد على طول يا نفر.
* أيوه يا أمباشى… بس أنا اسمي نجيب الريحاني مش الـ…
= أنت هتحكي حدوته… فوت امشي ع الفرز… فوت.
سحبه الجندي من يده إلى إحدى الغرف وطرق على بابها طرقاً خفيفاً، وظن نجيب أن هذه الغرفة التي يجتمع فيها مجلس القرعة المكون من عدد من كبار الضباط الذين سينظرون في أمره، ويحددون إذا ما كان قد دفع بالفعل «البدلية» أم سيدخل الفرز ويتم توقيع الكشف الطبي عليه، ومنه إلى معسكر التدريب، غير أن ما أثار دهشة نجيب ما رأه داخل الغرفة.
خمسة مشايخ من الأزهر الشريف في لباسهم الأزهري يجلسون على طاولة كبيرة في مواجهة الداخل إلى الغرفة التي قذفه إليها الجندي وانصرف:
* السلام عليكم.
= عليكم السلام… اجلس يا بني.
- اقرأ الربع الأخير من سورة الأعراف.
* أفندم؟!
= ألم تسمع ما قاله لك؟
* سمعت يا فضيلة الشيخ. لكن أنا…
- أنت ماذا؟ إذا لم تكن تحفظ الأعراف فاتلُ إذن سورة فاطر.
* فضيلتك أنا مش حافظ القرآن الكريم لأني أنا…
= أنت إيه؟ كيف تدعي في الأوراق الرسمية أنك من حفظة القرآن الكريم وتطلب الإعفاء من الجهادية؟
* يا فضيلة الشيخ أنا لم أدع ولم أطلب الإعفاء لأني حافظ للقرآن الكريم.
= كيف وهو مثبت أمامي في أوراقك تلك؟ ألست بخيت الريحان؟
* ماهو ده اللي عاوز أقوله من بدري. أنا فضيلتك اسمي نجيب أنطون إلياس ريحاني وسبق ودفعت البدلية من ست سنين!
= أنطون إلياس. عذرا يا بني. يبدو أنك الشخص غير المقصود. تفضل يا بني… تستطيع أن تنصرف مصحوباً بالسلامة.
خرج نجيب وهو لا يصدق أن هذا الخطأ الذي كان يمكن أن يكلفه الالتحاق بالجندية لمدة أربع سنوات، قد مر بسلام، بعدما راجع أوراقه في مكتب شؤون الأفراد وتأكد له ولإدارة القرعة أن نجيب الريحاني قد دفع البدلية، وعنها قد تم إعفاؤه من الخدمة العسكرية، باعتباره مواطناً مصرياً.
(البقية في الحلقة المقبلة)
أمام المرآة
وسط هذا النجاح المتزايد وقف الريحاني أمام نفسه في المرآة وراح يحدثها:
* ياااه الحمد لله… معقول؟! معقول اللي أنا فيه ده. فلوس ونجاح وكل أسبوع روايه أنقح من التانية. لا لا دا أنت عديت يا واد يا أبو الأنجاب… لا ولسه!!
لا… عندك… اثبت يا نجيب. أوعى تخلي اللي بيحصل ده يلحس دماغك ويغيرك ولا يركبك الغرور وتاخد في نفسك قلم… أيوه يا عم نجيب الغرور بداية الفشل اللهم ما أحفظنا. أيوه مش لازم تتغر… أنا من النهارده لازم أتغير للأحسن… لازم حياتي كلها تتغير… من النهارده مفيش سهر ولا سرمحه… من النهارده فيه التزام… من البيت للكباريه ومن الكباريه للبيت… على رأي أخواتنا الراقصات الشريفات!
قرر نجيب منذ هذه اللحظة وقف كل أوقاته على العمل وحده، ما إن ينتهي من عمله في المسرح ليلاً حتى يعود إلى منزله مباشرة بصحبة شقيقه جورج الذي أصبح يرافقه ولا يفارقه إلا عند النوم، ثم يخرجان معاً في الثامنة صباحاً إلى المسرح لعمل البروفات والتجهيزات اللازمة لعرض الليلة، أو لكتابة جزء من رواية جديدة، حيث يتحتم تقديم رواية جديدة كل أسبوع، فأصبح نجيب رجلاً بكل معنى الكلمة في المثل والأخلاق والالتزام اليومي بعمله منذ الصباح حتى المساء، لدرجة أنه أثار دهشة والدته بهذا السلوك الجديد، غير أنها أخفت إعجابها هذا بحياته الجديدة… لأنه لا يزال يمتهن التمثيل. على رغم حزن نجيب من ذلك إلا أنه يلتمس لها العذر، فهي جزء من هذا المجتمع الذي لا يزال ينظر إلى التمثيل على اعتبار أنه من المهن الدنيا التي لا يمتهنها إلا من ليس لهم عائلات كبرى وقاع المجتمع. بل إن بعضهم يتعامل مع «الأرتيست» أو «المشخصاتية» باعتبارهم «وباء» لا بد من أن يفروا منه، حتى رأى وسمع نجيب ما أثلج صدره وأشعره بقيمة ما يفعله، وبأمل كبير في قدرته على تغيير هذه النظرة المتدنية إلى الفن والفنانين.

شارك هذه المقالة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
2, 10:31 PM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 16 : نجيب الريحاني… كشكش بك

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 3, August 2012 :: الساعه 8:01 pm | تصغير الخط | تكبير الخط


رغم الطريقة المهينة التي خرج بها نجيب الريحاني من فرقة «الكوميدي العربي» برئاسة عزيز عيد، ورغم النجاح الذي أحرزه نجيب في الفرقة، فإن عزيز رفض حقاً أصيلاً لنجيب بكتابة اسمه على إعلان الفرقة على واجهة التياترو، ووضعه بين خيارين كلاهما مر، إما القبول بالأمر الواقع والرضوخ لما يفرضه عزيز من صرامة في التعامل، أو أن يغادر الفرقة غير مأسوف عليه.
لم يجد عزيز عيد إلا كل ترحيب بانضمامه كممثل إلى الفرقة التي كونها الريحاني في تياترو «الأبيه دي روز»، واعتباره عضواً أصيلاً في الفرقة، لكن يبدو أن عزيز كان له رأي آخر، حتى عندما انتقل كفرد يشارك في فرقة على رأسها نجيب الريحاني، فهو لا يرضى أن يكون في مكان لا يكون هو الأول فيه!
فلم يكن النجاح الذي بلغه نجيب الريحاني وتياترو «الأبيه دي روز» ليمر مرور الكرام على الكثيرين، وليس عزيز عيد وحده، ممن يضعون أيديهم في «اللعبة» نفسها، وكما أصبح لتياترو «الأبيه دي روز» حساد، كثر أيضاً حساد نجيب الريحاني، ووجد بعضهم أن المدخل للقضاء على هذا النجاح، ليس سوى الوقيعة بينه وبين صاحب تياترو «الأبيه دي روز» لذلك بدأوا يعكرون الجو بينه وبين الخواجة «روزاتي»، وراحوا يتلمسون أسباب الشحناء بينهما، باذلين في ذلك جهودًا غير محمودة، إلى أن وقفوا على ناحية الضعف في «روزاتي»، فضربوا على وتر حساس استطاعوا من خلاله أن يتغلغلوا إلى دخيلة الرجل.
لم تكن مدة التعاقد بين نجيب وتياترو «الأبيه دي روز» قد أنتهت بعد، وكان هناك شرط جزائي بين الطرفين، يقضي بأن من يخل بالتعاقد أو يسعى إلى فسخه يدفع مائة جنيه للآخر. مع ذلك، قرر نجيب ترك التياترو بعد مهلة أسبوع كما طلب من صاحب التياترو، كي يجد في أثنائه من يحل محله في مسرحه.
تقدير مستحق
ما حمل نجيب على اتخاذ هذا القرار أنه قد استشعر بوادر غير طيبة من ناحية الخواجة «روزاتي» وأن أعضاء جدداً في الفرقة استطاعوا في وقت قصير أن ينجحوا في الوقيعة بينهما، وهو ما دفع نجيب إلى الاستجابة لمفاوضات ألح فيها عليه الخواجة «ديموكنجس» الذي استأجر تياترو «الرنيسانس» في شارع «بولاق» (شارع 26 يوليو الآن) للدخول معه في اتفاق جديد، وبضعف ما يتقاضاه نجيب في تياترو «الأبيه دي روز» غير أن نجيب رفض وبإصرار مجرد سماع الرقم الذي سيتقاضاه من مدير «الرنيسانس» على رغم تلميحات الرجل بأن الأجر سيكون أضعاف الرقم الذي يتقاضاه الآن، وأبدى نجيب استعداده لأن يقبل بزيادة قدرها ثلاثة جنيهات شهرياً وليس مضاعفة أجره في «الأبيه دي روز»، إلا أن «روزاتي» رفض رفضاً قاطعاً الزيادة ولو قرشاً، ورحب بمغادرة نجيب التياترو على أمل بأن يصنع غيره، كما أوحى له بعض من رحب نجيب بوجودهم كأعضاء جدد في فرقته.
وجد نجيب الطريق مسدوداً أمام أي تفاوض أو تفاهم مع «روزاتي» فقرر قبول التفاوض الذي ألح فيه كثيراً الخواجة «ديموكنجس»، ووقع التعاقد الجديد معه على العمل لديه في تياترو «الرنيسانس» مقابل أجر شهري قدره مائة وعشرون جنيها!
لم يصدق نجيب الرقم المكتوب في العقد، لدرجة أنه ظن أن الأجر سنوي وليس شهرياً، فقطع الخواجة ديموكنجس كل شك داخله بأن ناوله مقدم أجر نصف شهر، أي ستين جنيهاً، عندئذ فقط أدرك الريحاني أن المبلغ صحيح تماماً، كما أدرك أن قيمته كفنان ارتفعت إلى هذه القامة.
قبل أن يصعد نجيب الريحاني إلى خشبة مسرح الرنيسانس وجد أربعة من أعضاء فرقته في «الأبيه دي روز» يدخلون عليه التياترو، معلنين التأييد التام لكشكش بك أينما ذهب، وهم الكاتب أمين صدقي، ستيفان روستي، وعبد اللطيف المصري، ولحق بهم عبد اللطيف جمجوم، ليكونوا قوام فرقة الريحاني الجديدة على «مسرح الرنيسانس».
نزاع على كشكش
لم يستطع من سبق ووعد الخواجة «روزاتي» خيراً مقابل التخلي عن نجيب الريحاني الوفاء بوعده، فوجد نفسه وحيداً في مسرح «الأبيه دي روز» لم يجر سوى الخراب والخسارة للخواجة «روزاتي»، الذي راح يعض بنان الندم على ما جره إليه دس الدساسين وأكاذيب المنافقين. غير أن الندم لم يعد ينفع، فلم يجد أمامه سوى اللجوء إلى القضاء لتعطيل مسيرة الريحاني.
أقام «روزاتي» دعوى قضائية أمام «المحكمة المختلطة» التي تنظر في القضايا المقامة بين الأجانب والمصريين، ووجد نجيب الريحاني نفسه أمام القضاء متهماً بسرقة شخصية «كشكش بك» باعتبار «روزاتي» صاحب الشخصية، وصاحب التياترو الذي ظهرت عليه الشخصية للمرة الأولى!
أخذت القضية دوراً كبيراً في ساحة المحكمة، فاستمرت ما يزيد على الشهر، قدم خلاله الريحاني ما يثبت أنه صاحب الشخصية ومبتكرها، من نصوص مكتوبة بخط يده، إضافة إلى شهادة الكاتب أمين صدقي بأن الريحاني قدم له الشخصية باعتباره مبتكرها، وكان ذلك بحضور المسيو «روزاتي».
بعد مرافعات ومداولات صدر الحكم، يقضي برفض طلبات المدعي «روزاتي» مع إلزامه بدفع مبلغ المائة جنيه المنصوص عليها في العقد المحرر بين الريحاني وبين المسيو «روزاتي»، وزاد هذا الحكم أن سجل للريحاني في حيثياته شخصيته الفنية «كشكش بك» بصفته أول مبتكر لها، وأول مؤلف استعملها.
أسقط في يد «روزاتي»، حيث كتب الحكم نهاية ملهى «أبيه دي روز»، غير أنه لم يستسلم، واقترح عليه من كان سبباً في نهاية مسرحه أن يحشد عدداً من النجوم الكبار، عله يضرب بهم نجيب الريحاني وشخصية «كشكش بك»، وراحوا يستعدون للافتتاح الجديد.
ما إن حصل نجيب الريحاني على حقه حتى بدأ التفرغ لعمله مع فرقته التي ضم لها عدداً آخر من الممثلين، وأنتهى أمين صدقي من كتابة الرواية الجديدة التي سيفتتحون بها تياترو «الرنيسانس»، وجلس الجميع فوق خشبة المسرح يبحثون عن اسم يجذب الجمهور ويكون لافتاً، وهنا اقترح ستيفان روستي عليهم أن يطلقوا على الرواية الجديدة اسم «ابقى قابلني» نكاية في الخواجة «روزاتي» لجعل الاسم أداة لإغاظة خصمهم الذي رفع دعوى في المحكمة، وما كان يريد أن يفعله بالريحاني وبشخصية «كشكش بك» فضج الجميع بالضحك… ووافقوا على الاسم.
جاء هذا التقليد كبداية لاكتشاف جديد في عالم التمثيل، وهو مراعاة «السخرية» و»الكيد» عبر أسماء الروايات المسرحية، باستعمال اصطلاحات وأمثال يذهب الآخر في تفسيرها مذاهب شتى، ويطبقونها على ما يكونون فيه من حالة نفسية، لينتشر هذا «الاكتشاف» الذي ابتدعته فرقة نجيب الريحاني أنتشاراً سريعاً، حتى صار قاعدة، عند غالبية الفرق المسرحية عند اختيار أسماء رواياتها، خصوصاً تلك التي يجمع بينها شارع واحد، أو منطقة واحدة.
وجاءت ليلة الافتتاح، وفوجئ نجيب بالخواجة «ديموكنجس» ينشر هذا الإعلان بهذه الصيغة، يوم الأحد 17 ديسمبر 1917 في جريدة «الأهرام»:
يوم يتذكره الجمهور
فقد آن هذا اليوم، الاثنين 18 ديسمبر 1916، ففي منتصف الساعة العاشرة مساء، سيمثل لأول مرة «كشكش بيه» وهو الممثل البارع الطائر الصيت «نجيب الريحاني» مع جوقه المشهور رواية «ابقى قابلني!» في «تياترو الرنيسانس» بشارع بولاق، حيث سيسابق الجميع إلى مشاهدة اللعب اللطيف، مع التأكيد أنهم سيمضون فيه ليلة من أجمل لياليهم.
يمكننا من الأول أن نؤكد أن هذه الرواية هي في جميع أدوارها قابلة لحضور العائلات والسيدات، ولا يفوتنا أن نشكر إدارة «تياترو الرنيسانس» لتقديمها هذه الرواية إلى جمهور سكان القاهرة الذين سيحضرونها جميعاً.
في يوم 18 ديسمبر بدأت مرحلة جديدة من حياة نجيب الريحاني، جديدة في كل شيء. حتى إنه طلب من أمين أن يمتد زمن عرض المسرحية إلى ثلاث ساعات، بعدما بدأ في «الأبيه دي روز» بعشرين دقيقة، وأنتهى بأربعين دقيقة، فاتجه أمين صدقي للمرة الأولى إلى كتابة المسرحية ذات الفصلين بدلاً من الفصل الواحد، ما أدى إلى اتساع مساحة الأدوار كافة، وليس مساحة دور «كشكش» فحسب، لتكون «أبقى قابلني» أول مسرحية يقدمها الريحاني وفرقته من فصلين.
قدمت المسرحية، واستمر عرضها لمدة شهر كامل، من دون أن يقل إقبال الجمهور أو ينقص إيراد الشباك، بل زاد لدرجة أن صافي ربح الخواجة «ديموكنجس» من الإيراد بعد دفع إيجار التياترو والكهرباء والمصاريف، بلغ «ألفا وتسعين جنيهاً»، ما حمل «المسيو ديموكنجس» على تمام الثقة بأن الفرقة الجديدة بقيادة الريحاني تسير إلى الأمام، وبأنه كان على حق حين رغب في الاتفاق معه، فقد تتبع الجمهور خطى «كشكش بك»، وتضاعف الإقبال عن ذي قبل وكتب الله له التوفيق.
دأب نجيب الريحاني كل ليلة وقبل الذهاب إلى مسرحه أن يمر على مسارح عماد الدين ومحيط شارع «بولاق»، ليتفقد أسماء الروايات المعروضة، وما إن عرج على شارع «الألفي» فإذا به يجد أمامه روز اليوسف وبصحبتها صديق نجع حمادي «قندس» أو المهندس محمد عبد القدوس، صافح روز اليوسف، وارتمى في أحضان محمد عبد القدوس:
* يا ابن الإيه قندس… معقولة إيه الصدفة الجميلة دي؟
ـ ياه… نجيب الريحاني. حبيب قلبي.
* إزيك يا روز… عاملة إيه؟
* إزيك يا نجيب. قصدي يا «كشكش بيه»… سامعه بأخبارك وفرحت جداً لنجاحك.
* أنت فين؟ وفين أراضيك؟ وإيه إللي لم الشامي ع المغربي؟
= أنتو تعرفوا بعض على كده.
* إلا نعرف بعض؟ قندس أجمل صحبة من أيام ما كنت في نجع حمادي. بس ماحدش جاوبني… إيه إللي لم الشامي ع المغربي؟
ـ أنا أقولك يا سيدي دي حكاية طويلة. من بعد ما رجعت من نجع حمادي اشتغلت في الطرق والكباري. وأنت عارف أني هاوي فن ومرسح، وباعتباري أهلاوي صميم وعضو في النادي الأهلي شاركت في الحفل السنوي إللي عمله النادي من كام شهر… ولقيت نفسي في الحفل قدام أختك روز. ماقدرتش أنام إلليل، عنها ورحت متقدم لها وماضيعناش وقت أتجوزنا من أربع أشهر… وعنها.
* وعنها إيه؟
= ما تكمل يا قندس لنجيب بقيت الحكاية… وعنها والسيد الوالد اتبرأ منه لأنه اتجوز واحدة أرتيست!
* لسه فيه ناس بتفكر بالطريقة دي في القرن العشرين؟
ـ وأكتر من كده… دا راح يحاربني في شغلي علشان يضيق الدنيا عليا لحد ما استقلت من الطرق والكباري.
* الله!! وبتعمل إيه دلوقت.
ـ لا ماخلاص صاحبك بقى ممثل محترف. أنا دلوقت بقدم فصل هزلي في جوق جورج أبيض… وروز بتشتغل معاه رواية.
* دا النهاردة إجازة جورج… خلاص… يبقى أنتو معزومين عند «كشكش بيه» إلليلة في «الرنيسانس» لازم نحتفل بيكم.
عرض الريحاني على روز اليوسف ومحمد عبد القدوس الانضمام إلى فرقته، غير أنهما كانا مرتبطين بعقد مع فرقة «جورج أبيض» ومع ذلك كانا سعيدين، ليس فحسب لأن نجيب أصبح صاحب فرقة خاصة به، ولكن الأهم هو هذا النجاح الذي شاهداه في مسرحه.
تراشق مسرحي
في منتصف يناير من عام 1917، بدأ الريحاني الاستعداد للرواية الثانية على مسرح «الرنيسانس»، ولم يشأ أن يستمر في أسلوب السخرية في أسماء مسرحياته، ووجد أنه الأفضل أن يكرس ملكيته لشخصية «كشكش بك» كي لا يفكر أحد، سواء من أصحاب المسارح أو أي من الممثلين أو المؤلفين، في السطو على الشخصية، فأطلق على روايته الثانية في «الرنيسانس» اسم «كشكش بك في باريس».
كتب أمين صدقي المسرحية في فصلين، فبدت أكثر المسرحيات إحكاماً عما سبق وقدمها أمين صدقي والريحاني معاً، في شكل أقرب إلى الكوميديا «الارستوفانية» في تركيبتها. كان الفصل الأول عبارة عن «نكتة» يتم تقديمها على مرتين بطريقة «سوء الفهم»، حيث يقوم كشكش بك بالاستعداد للسفر ومعه زوجته وحماته «أم شولح» وابنها «شولح» وشيخ الخفر «زعرب»، لكن لدى كل من «كشكش» و{أم شولح» بعض الترتيبات المتأخرة التي يريد كل منهما إنهاءها قبل سفره، فلدى «كشكش» فتاة يونانية جميلة تعمل خادمة لا بد من أن «يبيعها» قبل السفر، ولدى «أم شولح» «أنثى خنزير» تريد أن تبيعها أيضاً، وعندما يصل تاجر الخنازير يظنه «كشكش» من جاء ليأخذ الفتاة فيظل يمتدح صفاتها وأخلاقها وجمالها، ثم عندما يأتي من يأخذ الفتاة تظنه «أم شولح» من جاء ليشتري «الخنزير». أما الفصل الثاني فيكون مؤامرة تدور أحداثها في ملهى يقع في حي «مونتمارتر» في باريس.
حققت الرواية نجاحاً أحدث دوياً كبيراً، لدرجة أن اسم «كشكش بك» أخذ ينتشر بين الطبقات كافة، ويسري فيها مسرى الكهرباء، حتى أصبح يتردد على كل لسان في البيوت الشعبية قبل القصور والميادين. فأنتشر في الشوارع والحواري والأزقة، ولم يعد أحد في مصر كلها، قاصيها ودانيها، لم يردد اسم «كشكش بك»، بل ويبتسم حين يطرق سمعه.
كما لفت اسم «عثمان عبد الباسط بربري مصر الوحيد» نظر نجيب الريحاني، وراح يتابعه عن بعد، لفت في المقابل نجاح «كشكش بك» علي الكسار وراح يفكر في أسبابه، فهو يقدم شخصية ثابتة مثلما يقدم الريحاني شخصية ثابتة، وإن كان عثمان يمثل طائفة «الخدم» الذين غالبًا ما يتحدثون باللهجة النوبية في أقصى جنوب مصر، في حين أن «كشكش» يمثل الطبقة الثرية، طبقة العمد والباكوات، وإن كان يجمع بينهما الطيبة والمكر في آن.
لفت نجاح «كشكش بك في باريس» نظر علي الكسار، فقرر وبسرعة أن يدخل «الخادم عثمان» السباق مع العمدة، وبينما قدم الريحاني روايته الثالثة على مسرح «الرنيسانس» بعنوان «أحلام كشكش بك» أطلق علي الكسار مسرحية «البربري في باريس» قدم خلالها رؤية ماذا سيفعل «الخادم البربري» الذي يتحدث باللهجة النوبية عندما يذهب إلى باريس، من خلال اعتماد المفردات الشعبية والفقر والجوع، على عكس «كشكش» الذي يرتاد الملاهي ويجري خلف الحسناوات. وعلى رغم نجاح المسرحية بشكل لافت، إلا أنها لم تحقق ما حققته «كشكش بك في باريس»، ولم تستمر أكثر من أسبوعين، فأراد علي الكسار استكمال رحلة «عثمان» في أوروبا، وقدم «البربري في مونت كارلو» استعرض خلالها مواقف جديدة لعثمان عبد الباسط من خلال رحلته في «مونت كارلو»!
لم يلفت نجاح علي الكسار الريحاني، بقدر ما أثار انتباهه السير على خطاه، خصوصاً في ما يخص رحلة «كشكش في باريس»، فأراد الابتعاد عن الانزلاق في هذا الطريق وقدم رحلة جديدة «لكشكش بك» في دولة أوروبية جديدة، بل فاجأ الجميع بأن قدم مسرحية بعنوان «وداعا كشكش» الأمر الذي لفت الجمهور فتهافت على المسرحية ظناً منه أنها ستكون رواية كشكش الأخيرة، فحققت نجاحاً غير مسبوق. لكن هذا التصرف وضع علي الكسار في حيرة، فقدم رواية بعنوان «البربري الفيلسوف»، ففكر الريحاني في توصيل رسالة مهمة إلى الكسار يؤكد له عدم اعتماده على «كشكش» فحسب وقدم في أبريل من عام 1917 رواية «وصية كشكش»!
(البقية في العدد المقبل)
مفاتحة
أحس نجيب أن العلاقة بينه وبين «روزاتي» بدأت تتراخى من ناحية الأخير، وأن الدسائس وجدت طريقها إلى قلبه، فلم يتوان في مفاتحته في الأمر والوقوف على أسباب التغير من ناحيته:
= أهلا نجيب أفندي… اتفضل.
* ياه… من فترة طويلة ماقلتليش يا نجيب أفندي ويمكن دا بيأكد إحساسي.
= إحساس إيه؟
* إنك اتغيرت يا خواجة.
= يعني إيه اتغيرت؟ شايفني ماشي على الحيط؟
* لا مش القصد. بس أنا حاسس إنك اتغيرت عن الأول.
= بلاش رومانسية نجيب أفندي… الشغل مافهوش مشاعر.
* مين قال؟ مفيش حاجة ممكن تنجح من غير مشاعر.
= مش مهم… المهم إنك تعرف إن كل شيء زي ما كان عليه لم يتغير شيء.
* طب يا سيدي مصدقك. وعلشان تبقى النوايا صافية… أنا طالب زيادة بسيطة.
= إيه زيادة!! زيادة إيه؟
* أنا شايف بسم الله ماشاء الله الإيراد كل يوم بيزيد… ومن حقي إني كمان أزيد.
= أنا مابحبش الطريقة دي نجيب أفندي.
* طريقة إيه؟ دا كل إللي أنا طالبه عشرة صاغ زيادة في اليوم… يعني تلاتة جنيه في الشهر.
= ولو أنا مش موافق؟
* يبقى ظلم. وأنا ماحبش إنك تكون ظالم.
= أنا عمري ما كنت ظالم… وماتنساش إني إديتك الفرصة علشان توصل لمكانة عمرك ما كنت تحلم بيها.
* مش ناسي. بس أنا كمان عملتلك نجاح عمرك ما اتخيلته.
= أظن أنك اشتغلت عندي وأنا ناجح وأنت شفت بنفسك.
* أيوه ناجح… بس كان التياترو بيعمل ستة سبعة جنيه في اليوم. مش أربعين جنيه في إلليلة.
= دا حقي. وأنا السبب في النجاح ده وممكن زي ما عملتك أعمل غيرك. وأحقق بيه نجاح أكتر.
* أنا موافق وخلينا نشوف. وأنا عن نفسي هاستنى النجم الجديد إللي أنت هاتعمله… قدامك أسبوع من النهاردة تشوف البديل إللي هاتصنعه.
= أنا أكبر من أي تحدي. نجيب أفندي… الباب إللي دخلت منه لسه مفتوح.




الجريدة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
05-08-2012, 05:30 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 17 : نجيب الريحاني… أحمر شفايف

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 5, August 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط


تعمد نجيب الريحاني أن تحمل الرواية الرابعة له في تياترو «الرنيسانس» عنوان «وصية كشكش بك» ليس بسبب ما فعله علي الكسار ومحاولة دخوله في منافسة مع الريحاني، لكن لأن الريحاني أراد أن يقف مع نفسه ويعيد حساباته، خصوصاً أن هذه الرواية التي تنتهي في مايو، ستكون هي الأخيرة على خشبة مسرح «الرنيساس» في شارع بولاق (26 يوليو).
في مايو عام 1917، انتهت مدة التعاقد بين الخواجة «ديموكنجس» ومالك تياترو «الرنيساس»، وفكر ديموكنجس في الدخول في تجربة جديدة اطلع عليها شريكه الفني وصاحب نجاحاته نجيب الريحاني:
= شوف نجيب أفندي. بعد يومين ينتهي تعاقد مع مسيو برناسوس صاحب تياترو «رنيسانس» وأنا مش فضلتوا تجديد تعاقد.
* مفهوم مفهوم. بدك تنقل على تياترو تاني يا خواجة.
= لا خبيبي. أنا مش ينقل في تياترو تاني. أنا فكرتو في واخد فكرة شيطاني.
* فكرة شيطاني!! مش بعيدة عليك يا خواجة قول.
= أنا فكرتو ليه اخنا نأجر تياترو. ليه إخنا مش يشتري تياترو.
* أيوه بس على حد علمي مفيش تياترو في وسط البلد معروض للبيع علشان تشتريه… ولا حد عنده نيه للبيع.
= لا لا خبيبي. فيه تفكير جديد… أنت ييجي مبسوط منه كتير.
رأى الخواجة «ديموكنجس» بثاقب بصره أن يستقل بمسرح جديد يكون ملكاً خاصاً به، لأن قيمة الإيجار الذي يدفعه كأنت كبيرة جداً، وراح يبحث عن المكان الذي يصلح لهذه المهمة، فوقع اختياره على «مقهى» في شارع عماد الدين، مقام على قطعة من الأرض يمتلكها البنك العقاري المصري، بعد المعاينة اللازمة اتفقوا على شرائها وإقامة مسرح مكانها، وقرر {ديموكنجس» أن يبدأ العمل فوراً في الهدم والبناء، وقدرت المدة اللازمة لذلك بأربعة أشهر، ستتعطل الفرقة فيها عن العمل.
مسرح خاص
لم تكن لنجيب الريحاني والفرقة خلال هذه الفترة وظيفة سوى الجلوس على المقهى، وكانت أربعة أشهر كافية لأن تستنزف كل ما ادخروه ليكفيهم شظف العيش، ليس أعضاء الفرقة فحسب، بل إن بناء التياترو الجديد استنزف أيضاً كل ما ادخره مسيو ديموكنجس، من النجاحات التي حققها مع نجيب الريحاني، لدرجة أن ما لديه نضب قبل أن ينتهي العمل ويكتمل بناء التياترو، فاضطر نجيب إلى أن يمده بما بقي معه من «شقا العمر» حتى أصبح أيضاً خالي الوفاض… لتعود أيام البؤس والشقاء تعم الجميع.
انتهت الأربعة أشهر، وإذا بهم أمام مسرح كامل البناء وإن كان من غير سقف، حيث انتهى كل قرش كان معهم جميعاً، لكن أعضاء الفرقة والريحاني والخواجة ديموكنجس أجمعوا على استئناف العمل والاكتفاء بتغطية السقف بالقماش، ووضع مقاعد مصنوعة من «قش رخيص» ولم يكن ذلك كله مهماً، فالمهم أن تدور العجلة، وحينها يتم وضع السقف اللازم، و{كراسي منجدة»!
جاء دور اختيار الاسم الذي سيتم إطلاقه على المسرح الجديد، ففكر نجيب في اختياره على أن يكون معروفاً للمصريين والأجانب على حد سواء، لأنه لاحظ، منذ أن كانوا يقدمون عروضهم في «الرنيسانس» أن عدداً كبيراً من الأجانب الموجودين في مصر بدأوا يتهافتون عليه «كزبائن» مستديمين لفرقة الريحاني، فأصبح الإقبال موزعاً بين المصريين والأجانب على حد سواء، لذا وقع اختيار نجيب على اسم «» لإطلاقه على التياترو الجديد، وهو اسم أقرب إلى الفرانكو آراب، حيث يجمع بين كلمة مصر باللاتيني ويميل نطق الاسم إلى العربية، وإن كان الأهم هو أن افتتاح «الإجيبسيانة» كتب بداية تاريخ جديد لشارع عماد الدين، ولم يمر وقت طويل حتى أصبح اسم «الإيجبسيانة» يطغى على اسم الشارع، لامتداد سمعته واتساع نطاق شهرته التي تسبب فيها الريحاني.
جمع نجيب الريحاني الفرقة التي تعطلت أكثر من أربعة أشهر، بعدما انتهى مع أمين صدقي من أولى الروايات لتياترو «الإجيبسيانة»، والتي اختارا لها عنوان رواية «أم أحمد»، وروعي فيها للمرة الأولى، التسلسل المنطقي للأحداث التي تقدم في فصلين، يحتوي كل فصل على أغنيتين، وتدور أحداثها في أجواء «ألف ليلة وليلة» بشكل أقرب إلى العصرية، حول الشخصية التقليدية «كشكش بك» الذي تخلى عن دور «العمدة» التقليدي، ليصبح «كاتباً بسيطاً» وتحولت حماته من «أم شولح» إلى «أم أحمد» غير أنها لم تعد هنا حماته، إلا أنها تحمل المواصفات نفسها كشخصية مثيرة للمشاكل، وعهد الريحاني بتجسيدها إلى ممثل انضم حديثاً إلى الفرقة اسمه حسن إبراهيم.
أما بقية الأدوار، فكانت شبه ثابتة لمن يؤدونها. تخصص ستيفان روستي في دور الخواجة، وكلود ريكانو في دور «الرجل الشامي» وعبد اللطيف المصري في دور «زعرب» تابع كشكش بك، ثم انضم إليهم ممثل شاب جديد اسمه حسين شفيق، ترك مدرسة الحربية في أول إجازة له منها بسبب حبه للفن، وراح يعمل دون علم أسرته واختار لنفسه اسم «حسين رياض».
رحيل البلبل
في يوم 17 سبتمبر عام 1917، تم افتتاح مسرح الإجيبسيانة برواية «أم أحمد» لتكون فاتحة خير على الفرقة، حيث أقبل عليها الجمهور بشكل كبير، لدرجة أن شباك التذاكر أغلق في الليلة الأولى قبل موعد رفع الستار بثلاث ساعات، واستمر هذا الإقبال في الليالي التالية، وإن كانت التذاكر تنفد قبل رفع الستار بأكثر من ساعة، في الليالي التالية.
شعر نجيب الريحاني بأنه يطير في سماء الفن، ولا يمشي على الأرض، بسبب النجاح الذي حققه، وإقبال الجمهور عليه بهذا الشكل غير المسبوق، وبينما يحتفل مع أعضاء الفرقة ببداية نجاح الرواية الجديدة «دقة بدقة» حتى صدم بخبر أليم!
استيقظ الشعب المصري صباح الخميس 4 أكتوبر 1917 على خبر صادم، فقد انتقلت روح أحد أكبر وأهم فناني المحروسة إلى بارئها، وانطفأ نجم كان منيراً في سماء مصر، وسراجاً وهاجاً يتلألأ طويلاً فوق منائر الفن، سكن الصوت السماوي الحنون، وانتشر الخبر وضرب الحزن جميع الناس، وخيمت الرهبة على شعب مصر وعمه الأسى والحزن.
مات الشيخ سلامة حجازي، تلاشت تلك الموسيقى الحانية وارتفع أثرها، وتحطم مزمار القدر الذي أسبغت عليه الطبيعة روائع وبدائع النغم.
مات الرجل الذي جزع لفقده خصومه قبل أصدقائه، إذ إن الحادث عام جلل، اشترك فيه الجميع بتوديعهم للراحل إلى مقر الأبدية ومثوى الذاهبين، فقد فزعت كل مصر للخطب، وتخاطف نعشه الآلاف من المشيعين، وهم يودعون جثمانه في يوم الجمعة 5 أكتوبر 1917، إلى مقره الأخير في مدافن السيدة نفيسة.
رأى نجيب الريحاني ضرورة مشاركة الشعب المصري في مصابه الجلل، بتقديم ولو شيء بسيط لأجل أستاذه الكبير الذي عمل معه يوماً في فرقة «أبيض وحجازي»، وأن الواجب يدعوه إلى إعلان الحداد العام، وتعطيل العمل في المسرح ولو ليلة واحدة، غير أن مسيو ديموكنجس رفض هذا الرأي وتلك الرغبة التي تحولت إلى مطلب جماعي من كل أعضاء الفرقة:
= خبيبي أنا حبيتو سيخ سلامة حجازي تمام، لكن ليه أنت يعطل جوقة؟ كفاية دقيقة خداد.
* أيوه يا مسيو ديموكنجس دا الشيخ سلامة حجازي… عارف يعني إيه سلامة حجازي بالنسبة للمصريين؟
= خبيبي أنا يعرف يعني إيه تعطيل تياترو بالنسبة لديموكنجس… يعني بيتو أنا جيتو خراب. خبيبي أنا مافي فلوس… أنا واحد مسكين.
* أنت فعلا مسكين… لأنك ما بتفكرش غير في الفلوس وبس. عموماً، أنا قلت اللي عندي ومش هشتغل النهاردة ويجرى اللي يجرى.
= مسيو نجيب… أنت مس يحب ديموكنجس.
* لا. أنا زي كل المصريين… بحب الشيخ سلامة حجازي.
= مسيو نجيب أنا مس يوافق… أنتي ليه عملتو سبطه.
انتهى هذا التضارب في الرأي بانسحاب نجيب الريحاني من الفرقة نهائياً، مصراً على التضحية بعمله ونجاحاته الكبيرة، بسبب موقف الخواجة ديموكنجس من رحيل الشيخ سلامة حجازي، فترك التياترو وانفصل عن الفرقة بصرف النظر عن النتيجة.
انفصال… وعودة بشروط
جلس الخواجة «ديموكنجس» لا يعرف ماذا يفعل حيال المأزق الذي وضعه فيه نجيب، فحاول أن يسوق إليه بعض الأصدقاء المقربين منه لإثنائه عن قراره، غير أنه رفض، فلم يكن أمام الخواجة ديموكنجس سوى أن يسند الدور الذي كان يؤديه نجيب الريحاني في مسرحية «دقة بدقة» إلى أحدث أعضاء الفرقة، حسين رياض.
لم يمر سوى ثلاثة أيام وبدأ العد التنازلي لانصراف الجمهور عن المسرحية، ومسرح «الإجيبسيانة» ومع بلوغ الرواية ليلتها الخامسة من دون الريحاني، تدهورت الفرقة وانفض الناس من حولها، وأمام الخسائر المتتالية، اضطر الخواجة «ديموكنجس» إلى إغلاق مسرحه والعودة إلى الدخول في مفاوضات جديدة مع نجيب الريحاني.
بعد إلحاح جميع أعضاء الفرقة، وفي مقدمهم حسين رياض، وافق نجيب الريحاني من حيث المبدأ على العودة إلى الفرقة، غير أنه أرجأ الموافقة النهائية إلى حين الجلوس مع الخواجة ديموكنجس، لأن لديه شروطاً جديدة لا بد من أن يسمعها الخواجة، فمن المؤكد أن ثمة فرقاً بين مرحلة ما قبل رحيل الشيخ سلامة حجازي، ومرحلة ما بعد رحيل الشيخ:
* شوف يا خواجة صحيح أنا ممنون لك كتير لأنك متمسك بيا… بس فيه حاجات مهمة لازم نتفق عليها.
= خبيبي أنا يوافق على كل سروط. كمان أنا زودتو ماهية بتاع أنت خليتو متين جنيه في السهر.
* مش القصد يا خواجة… الحكاية مش فلوس وبس. أنت بتتعامل مع الأرتيست كأنك بتتعامل مع عمال تراحيل ودا مش منطق.
= مسيو نجيب أنت يعرف أنا صرفت كل فرانك في جيبي علسان تياترو. يعني أنا…
* عارف يا خواجة ومتنساش أني أنا كمان دفعت كل اللي حيلتي. علشان كده أنا عندي اقتراح هيريحك ويريحنا… لأن الفرقة محتاجة أرتيست يتعامل معاهم. علشان كده أنت هتيجي التياترو تقعد زي الباشا تشرب كل اللي أنت عايزه على حسابي وتتفرج زي الجمهور… بس مالكش دعوة بالتياترو ولا بالإدارة.
= طب وأنا يتعب ليه. ما أنا ياخد كاتينا وسافرتوا وأنتو ياخدو تياترو!
* أنا ما كملتش كلامي يا خواجة… أنت هتقعد مالكش دعوى بحاجة وتاخد 30 المية صافيين من الإيراد كل يوم، وماتتعبش نفسك بأي حاجة، وإحنا هنبقى ملزمين بكل شيء، من كهربا وميه وأجور أرتيست وعمال وكل حاجة.
فكر الخواجة ديموكنجس في عرض نجيب الريحاني، ثم هزّ رأسه بالموافقة، وكتب مع الريحاني عقداً جديداً بهذه الشروط، على أن يكون للريحاني الحق في الإدارة وتعيين ممثلين جدد أو الاستغناء عن بعضهم، وتحديد أجورهم… ليبدأ من هذه اللحظة تاريخ جديد في حياته كمدير لفرقة مسرحية للمرة الأولى.
استلم نجيب الإدارة وبدأ بجرد «الخزينة» فإذا بها لا تحوي غير 50 جنيهاً، ومع ذلك قبل التحدي، وعرض الأمر على أعضاء الفرقة، وأعطى لكل منهم حرية اختيار البقاء والاستمرار والإصرار على النجاح أو الرحيل، فقبل الممثلون بارتياح كبير أن يعملوا تحت إدارته، وبدأوا فوراً في الاستعداد لرواية جديدة باسم «حماتك تحبك» كتبها أمين صدقي.
قبل أن يمر أسبوع نجح نجيب في استعادة الجمهور الذي هجر مسرح «الاجيبسيانة» لتستمر الرواية لأكثر من شهر بنجاح كبير، فقدموا بعدها رواية «حلق حوش» تأليف أمين صدقي، واستمر عرضها أكثر من شهر أيضاً، وإن كان الإقبال لم يكن كما تعوده الريحاني.
جناب المدير
بعد شهرين، وفي نهاية ديسمبر 1917، عاد الريحاني إلى جرد الخزانة للاطمئنان على حالة الاحتياطي، فكانت المفاجأة أنه وجد في الخزانة 50 جنيها بلا زيادة ولا نقصان، أي أنه استطاع موازنة الميزانية بأن جعل الإيرادات مساوية للمصروفات، ليس أكثر!
فكر طويلاً في طرق الإصلاح، وأسباب ابتعاد جزء كبير من جمهوره وانصرافه إلى «كازينو دي باري» المجاور الذي تديره مدام مارسيل لانجلو حيث يقدم علي الكسار عروضه. فاكتشف أن الأشهر الأربعة التي غاب فيها وفرقته عن الساحة الفنية، خلال بناء مسرح «الإجيبسانة» كانت فرصة كبيرة ليحتل علي الكسار بمفرده المساحة التي كان يتقاسمها معه، فزاد الإقبال عليه وأصبح تياترو «دي باري» يشهد إقبالاً يومياً غير طبيعي.
سمع نجيب أن فرقة فرنسية تزور مصر وتقدم عروضها على مسرح «الكورسال» المجاور لهم في شارع عماد الدين، ففكر أن يزور هذه الفرقة ويشاهد عروضها، عله يجد من أفرادها ما يمكنه الاستعانة به في الرواية الجديدة «حمار وحلاوة»، فلم يكذب الخبر، وتوجه فوراً إلى مسرح «الكورسال» ليشاهد عرض الفرقة الفرنسية.
جلس نجيب يشاهد العرض، وإذ بعينه تقعان على إحدى فتيات الفرقة لا تفارقها، تذهب معها أينما تحركت فوق خشبة المسرح، فتاة جميلة، شعر أصفر، عينان ملونتان، قوام ممشوق، عمرها لا يزيد على 18 عاماً.
انتهى العرض، غير أن الريحاني ظل مكانه لم يخرج مع الجمهور، بل اتجه إلى باب دخول الممثلين، وطلب مشاهدة الفتاة التي أدلى بمواصفاتها للحارس الذي يقف على الباب:
= فاهم يا أستاذ والله… بس حضرتك مش واخد بالك، دول كلهم شعرهم أصفر وكلهم عنيهم خضر وزرق. اطلعها إزاي من وسطهم؟
* اللي كأنت لابسه فستان أحمر.
= يا أستاذ ما كلهم لابسـ…
* لا أوعى تقوللي كلهم لابسين أحمر… ماكنش فيه غيرها. بس يظهر أنت اللي مش مركز… أمسك بس العشرة صاغ دي يمكن تفتكر.
= آااه… طب مش تقوللي الآنسة لوسيين.
* هي بسلامتها اسمها لوسيين. أشهد أن لا إله إلا الله… طب أديها خبر أني عاوزها.
= لا يا أستاذ… إحنا كباريه محترم ماعندناش الكلام ده.
* كلام إيه يا أخينا. أنا عاوزها في شغل.
خرجت لوسيين لمقابلة الريحاني وهي في حيرة ودهشة، من يكون هذا الرجل، وماذا يريد منها. فقد ظنت في بداية الأمر أنه أحد المعجبين جاء ليصافحها، غير أنه طلب منها أن تسير معه قليلاً أو أن يجلسا معاً في أحد الكازينوهات القريبة من المسرح، لأنه يريدها في أمر مهم، فاضطرت إلى أن توافقه كي تعرف ماذا يريد، وقد زاد من سهولة التفاهم أنه يتحدث لغتها الفرنسية بطلاقة.
سار الريحاني إلى جانب لوسيين في طريقهما إلى أحد الكازينوهات القريبة وهو يشعر بحرج شديد، لمجرد أنه يسير إلى جوار سيدة في الشارع، ففكر أن يسبقها بخطوات فاستوقفته وهي ثائرة:
= بردون مسيو… أنا لازم أمشي.
* ما إحنا ماشيين أهوه.
= لا أنا لازم ارجع بنسيون… أنت رجل لا يعرف كيف يعامل النساء!!
(البقية الحلقة المقبلة)
الجمهور عايز يفرفش
قرر نجيب أن يوقف عرض رواية «حلق حوش» على مسرح «الإجيبسانة» لمدة ليلة يذهب فيها بنفسه ليشاهد ما الذي يقدمه علي الكسار ويجعل الجمهور يتهافت على مسرحه. عمد إلى التنكر وإخفاء شخصيته، باعتباره فناناً معروفاً وقد يتعرف إليه الجمهور بل وسيكتشفه علي الكسار والعاملون في المسرح. اشترى تذكرة دخول التياترو كغيره من المتفرجين ليشاهد العرض.
قضى الريحاني ليلة (كمتفرج) فأدهشه ما رآه، فالرواية عبارة عن «استعراض» راقص من بعض الفتيات الفرنسيات الموجودات في مصر، والتي تفرض وجودهن مدام مارسيل، وتتخلل الاستعراض بضعة مواقف فكاهية يؤديها علي الكسار باعتباره البربري النوبي «عثمان عبد الباسط»… ليس أكثر من ذلك!
رأى الريحاني أن هذه الاستعراضات لا تحوي موضوعاً ما ولا معاني خاصة، بل تعتمد على فخامة المناظر وثراء ملابس الاستعراض و»تابلوهات» الرقص.
خرج الريحاني من التياترو بعد انقضاء الليلة وراح يمشي وحيداً يفكر ويحدث نفسه فيما رآه:
يا لله إيه اللي أنا شايفه دا!! بقى هي الحكاية كدا… والكلام دا يبسط الجمهور. طب أنا بتعب نفسي ليه وبنقعد نفكر أنا وأمين صدقي في الرواية وحبكتها ونشغل مخنا ليل ونهار وندور عن مغزى للرواية واللي بتتكلم عنه علشان الجمهور يخرج بفايدة… وآتاري إحنا في وادي والجمهور في وادي تاني… الناس مش عاوزه تشغل دماغها عاوزين ينبسطوا ويفرفشوا شوية وخلاص. شوية رقص على شوية ضحك والسلام عليكم… وعليكم السلام!
بعد السهرة التي أمضاها الريحاني مع علي الكسار وفرقته، فكر في رواية استعراضيه، غير أنه رأى أن يكون العنصر المصري فيها هو الغالب على العنصر الأفرنجي، واطلع أمين صدقي على هذه النية. في الحال، وضعا الهيكل الرئيس لرواية جديدة بهذا المضمون الاستعراضي الراقص، أطلقا عليه اسم «حمار وحلاوة»، وبدأ أمين صدقي في وضع الأغاني على أوزان موسيقية مطروقة، بينما وضع نجيب كل همه في ترتيب المناظر، واختيار أشكال وألوان الستائر. والأهم هو إمداد الفرقة بما ينقصها من عناصر الرقص والغناء.

شارك هذه المقالة


الجريدة
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
06-08-2012, 03:43 AM
البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,772

icon1.gif

الفيلسوف الضاحك 18 : نجيب الريحاني… غزل البنات

كتب: القاهرة - ماهر زهدي نشر في 6, August 2012 :: الساعه 12:01 am | تصغير الخط | تكبير الخط


فهم نجيب سبب ثورة «لوسيين» وغضبها، وهو أنه راح يسبقها بخطواته ولا يسير بجوارها، وهو ما ترفضه «لوسيين» وتعتبره انتقاصا من قدرها كأنثى، فشرح لها موقفه، والعادات والتقاليد التي تحكم المصريين والعرب عموماً، وهذا لا يعني أي انتقاص من قدر الأنثى، بل هي مكرمة أكثر من اللازم، وأن هذه العادات والتقاليد تحفظ لها قدرها وكيانها حتى لا يحدث ما يخدش حياءها أو يمس كرامتها.
تفهمت لوسيين الموقف ووافقت على أن تجلس مع نجيب في أحد «الكازينوهات».
جلس نجيب الريحاني مع الراقصة الفرنسية لوسيين في أحد الكازينوهات في شارع «بولاق»:
* اسمي نجيب الريحاني. بشتغل أرتيست… والحقيقة وبمنتهى التواضع، تقدري تقولي إني أرتيست معروف شوية… وكمان مدير فرقة هنا في مسرح الإجيبسيانة.
= وأنا اسمي لوسي دي فرناي لكن واضح مسيو نجيب إنك فرنسي.
* أنا!! طب لما أنا ابقى فرنسي… تبقي أنت على كده نازله من القمر. بذمتك دي سحنة فرنسي… أنا يا ستي مصري… عربي يعني.
= برافو… أنت تتحدث الفرنسية بطلاقة.
* هوهووو أنت شفتي حاجة.
= اتفضل مسيو نجيب قل ما عندك.
* بقى زي ما قلت لحضرتك أنا أرتيست ومدير فرقة… وإحنا بنعمل رواية جديدة اسمها «حمار وحلاوة».
= أنا إيه علاقتي بالموضوع؟
* ماهو دا الموضوع اللي بكلمك علشانه… أنا بعرض عليكي تشتغلي معانا.
= بريما.
* بريما!! دي كلمة بالألماني معناها ممتاز… أنت فرنسية ولا ألمانية؟
= تقدر تقول نص ونص… أمي ألمانية ووالدي فرنسي… ولدت في ألمانيا وعشت عمري في فرنسا لكن قولي هشتغل إيه؟
* هتشتغلي أرتيست طبعاً.
= أنتو بتعملوا روايات هنا في مصر بالفرنسية؟
* أيوه… بس الرواية اللي بعملها بالعربي.
= مسيو نجيب أنا لا أعرف بالعربي سوى كلمة «شكرا».
* عال عال أوي… يبقى اتفقنا.
= نو… بردون مسيو نجيب. هذا العمل لا يناسبني.. .ستنتهي عروض فرقتنا بعد خمسة أيام وسنغادر بعدها مصر إلى فرنسا.
* مفيش نو… أنت اشتغلتي خلاص.
على رغم أنتهاء اللقاء الأول بينهما من دون أن يحصل على موافقتها بالعمل معه، إلا أن الريحاني لم ييأس. راح يطارد الراقصة، صباحاً في الفندق الذي تنزل فيه مع أعضاء الفرقة في شارع عماد الدين، وليلاً في مسرح «الكورسال» وتحاول لوسيين في كل مرة أن تتهرب منه وتتحاشى مقابلته، ليس لسبب في شخص نجيب إنما خوفاً من أن تضعف أمامه وتضطر إلى أن توافق. وعندما فشل في مقابلتها، أرسل إليها باقة ورد على الفندق ومعها بطاقة شخصية له وكتب عليها عبارة واحدة بالفرنسية: البروفة يوم الأحد الساعة 12 ظهراً… سأكون في انتظارك.. نجيب الريحاني.
في الموعد المحدد وجدت لوسيين نفسها أمام باب تياترو «الإجيبسيانة» تقف حائرة مترددة، لا تعرف هل تدخل أم تنصرف؟ حتى لمحها نجيب فخرج بسرعة وأدخلها إلى المسرح، وقدمها بكل شموخ إلى بقية أعضاء الفرقة، الذين انقسموا بين مرحب بها ومستاء من وجودها، خصوصاً النساء من بين أعضاء الفرقة، اللاتي يرين أنهن أحق بالريحاني من أي فتاة أجنبية، ولم يشغل ذلك نجيب، وراح يرحب بأحدث أعضاء الفرقة:
* ما تتصوريش أنا فرحان أد إيه أنك جيتي.
= أنا نفسي مش عارفة جيت إزاي؟
* بس أنا عارف… وكنت واثق إنك جايه!
اندهشت لوسيين من جرأة نجيب وإصراره على عملها معه، بل لهذه الثقة التي يتحدث بها، لدرجة أنها فوجئت به يضع يده على كتفها ويصحبها معه إلى البروفة، فنظرت إليه بدهشة وأزاحت يده من فوق كتفها بقوة واندفعت تجري إلى الخارج، فجرى خلفها واعتذر لها… وبدأت البروفة باعتبارها أحدث أعضاء الفرقة.
راحت لوسيين، أو «لوسي» كما أصبح يناديها الريحاني، تندمج في بروفات رواية «حمار وحلاوة»، وقررت البقاء في مصر وعدم السفر مع فرقتها التي غادرت مصر بعد الإعلان عن انتهاء الحرب العالمية الأولى، ووقوع مصر تحت وطأة الاحتلال الإنكليزي رسمياً.
انتهت البروفات، وتم الإعلان عن رفع الستارة عن رواية «حمار وحلاوة» في نهاية يناير 1918، والتي كانت تدور أحداثها حول «كشكش بك» وصديقه «الشيخ ينسون» اللذين يقعان تحت تأثير المخدر، فيتوهم «كشكش بك» أنه أصبح ملك البلاد، ويتوهم «الشيخ ينسون» أنه أصبح رئيس الوزراء، ويدعوان طوائف الشعب إلى سماع شكواهم. وتبدأ الطوائف كافة في التوافد عليهما لتقديم شكواهم وما فعلته بهم الحرب، فيستمعون إلى شكاوى التجار والسقائين والبنائين والجزارين، وغيرهم من أبناء الشعب الذين يظهرون سخطهم على ارتفاع الأسعار… فيعدهم الملك كشكش، ورئيس وزرائه ينسون بالنظر في شكواهم… لكنهم يفيقون من المخدر.
قدمت لوسي خلال العرض استعراضاً راقصاً، نال استحسان نجيب الريحاني وبقية أعضاء الفرقة قبل الجماهير، باستثناء البطلة الأولى في الفرقة سرينا إبراهيم التي لاحظت اهتمام نجيب المبالغ فيه بالفنانة الجديدة. بل إن نجاحها زاد الأمور تعقيداً وحرك غيرة سرينا التي كأنت تمني نفسها بحب نجيب، غير أنه لم يكن يشعر تجاهها سوى بمشاعر الزمالة والأخوة.
أول حب
انتهزت سرينا فرصة احتفال الريحاني ولوسي بالنجاح مع بقية أفراد الفرقة، حتى تسللت إلى حجرة لوسي ومزقت الفستان الذي تؤدي به فقرتها الاستعراضية في الرواية، وتركته وخرجت لتحتفل معهم، ظناً منها أن أحداً لم يشاهد ما قامت به.
في اليوم التالي، وجدت لوسي ما حدث للفستان فجلست تبكي وهي تعرف بإحساسها من وراء ذلك، غير أنها ليس لديها دليل. وما إن دخل عليها الريحاني ليطمئن على الاستعدادات النهائية قبل رفع الستارة حتى وجدها على هذه الحالة، فبادر بسؤال عامل الملابس والأكسسوارات الذي أكد له أنه رأى السيدة سرينا تخرج من حجرة لوسي في الأمس خلال احتفالهم بعد العرض.
أنقذ الريحاني الموقف وقدمت لوسي استعراضها في الرواية، غير أنها فوجئت بالريحاني بعد العرض يدعوها إلى تناول العشاء معه، فوافقت فوراً.
اصطحب الريحاني لوسي للعشاء في أفخم مطعم في منطقة «الأزبكية» وهو مطعم «سأنتي»، وهناك وقبل تناول العشاء أخرج الريحاني «علبة قطيفة حمراء» وأخرج منها خاتماً وقدمه هدية للوسي:
* ممكن تقبلي الهدية المتواضعة دي؟
= أوه… مش ممكن تري جأنتي. تري شيك… مرسيه نجيب.
* لوسي. أنا… أنا بحبك وأمرك لله.
= ياااه أخيرا قلتها… عارف لو ماكنتش قلتها النهارده أنا كنت ناويه أبعد وأسيب الفرقة… لأني مش ممكن كنت هقدر أتعذب طول الوقت وأنت مش حاسس لأني أنا كمان بحبك… بحبك نجيب.
اكتشف الريحاني أن الأحاسيس الجديدة لدى لوسي انعكست بشكل كبير على أدائها مع الفرقة، فكانت تزداد تألقاً كل يوم وفي الوقت نفسه تزداد غيرة البطلة الأولى سرينا إبراهيم، التي لم تكتف بما تفعله وحدها مع لوسي فراحت تقلب أعضاء الفرقة عليها، ونجحت مع البعض فيما لم تستطع أن تؤثر على البعض الآخر.
شعر نجيب بأن النجاح الذي فقده خلال الفترة السابقة بدأ يعود إليه، فعلى رغم أن إيراد الليلة الأولى جاء مخيباً لآماله، حيث لم يزد على 35 جنيهاً، غير أنه شعر بالرضا والاستحسان العام الذي قوبلت به الرواية من الجمهور، فبدأ الإقبال يتزايد يوماً بعد آخر، لدرجة أن الريحاني قام بتسوية حسابات الفرقة في نهاية الشهر، وبعد أن تقاضى الخواجة ديموكنجس نصيبه، ودفع فواتير الكهرباء والمياه والأجور، وجد أن الصفر الذي كان يخيم على الخزانة قد قفز إلى 400 جنيه!
لم يكن النجاح مقصوراً على الناحية المادية، بل ثمة نجاح أدبي آخر، ملأ نفس الريحاني سروراً، وشعر في هذا اليوم بأنه أصبح قامة كبيرة في المجتمع، يفخر به الجميع، دخل قلب نجيب هذا الإحساس بسبب الزائر الذي لم يكن يخطر له على بال في هذا الوقت، عندما دخل عليه حارس باب التياترو يخبره بمن يريد أن يقابله:
* ادخل.
= السلام والتحية على صاحب السعادة والطلعة البهية.
* مين؟ أنا مش مصدق عنيا… أستاذي ومعلمي سيدنا الشيخ بحر.
= هو بعينه وبجبته وقفطانه وعمامته البيضاء… والله زمان وحشتني يا فتى. ولا بلاش فتى دي دلوقت… خليها يا سي نجيب أفندي.
* أنت بتقول إيه؟ إيدك أبوسها يا سيدنا أنا مش ممكن أنسى فضلك بعد ربنا.
= استغفر الله يا بني. فلكل مجتهد نصيب… وأنا والله… بعقد الهاء… تنبأت لك منذ طفولتك بهذا المستقبل الباهر. فمنذ طفولتك وأنت تظهر براعة في الأناشيد والمحفوظات والخطابة. وآديك أهه بسم الله ماشاء الله… ملء السمع والبصر.
* الخير على قدوم الواردين… تعرف يا سيدنا… النهارده لقيت إن إيراد الشهر دا أكتر من ربعميت جنيه…
= بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله… اللهم زد وبارك.
* طب تصدق يا سيدنا أقسم لك بالله وأنا صادق في حلفاني إن مجيتك النهارده فرحتني أكتر من لو كان أربع تلاف جنيه في ليلة واحدة.
= وأنا رأسي اليوم طالت السماء بعد مشاهدة تلميذي النجيب في هذه المكانة المرموقة… دعني الآن انصرف وأنا في فمي حلاوة هذا اللقاء.
* لا هو مين… مش ممكن تمشي قبل ما يكون في بقك حلاوة الكباب وفتة بالكوارع ولحمة الرأس… لازم تكون عشوة ملوكي عند أشهر كبابجي في سيدنا الحسين على شرف أستاذي.
نصف النجاح
شعر نجيب الريحاني بأنه ملك الدنيا وما عليها، ليس فحسب لنجاحه الذي لم يسبقه إليه أحد، ولا للأموال التي يجنيها من نجاحاته، بل بشهادة أستاذه الشيخ بحر، ما جعله يرفع أجور العاملين في الفرقة. إلا أن مؤلف الفرقة وكاتب أزجالها أمين صدقي رفض الزيادة التي وضعها له الريحاني، فبعد أن كان يتقاضى 60 جنيهاً في الشهر، رفعها الريحاني إلى 80 جنيهاً، ومع ذلك رفض أمين صدقي الزيادة، ما أثار دهشة الريحاني وراح يعرف منه السبب:
* يعني إيه مش لازماك الزيادة يا أستاذ أمين؟
= أيوه مش لازماني… لما سيادتك تزودني زيي زي أي واحد في الفرقة تبقى مش لازماني.
* مين قال إنك زيك زي أي واحد؟ أولاً أنت زدت عشرين جنيه مرة واحدة وأحسن واحد في الفرقة زاد خمسة جنيه.
= مش دا اللي أقصده يا نجيب أفندي.
* أنت بتتكلم بالألغاز ماتوضح كلامك يا سي أمين وتقوللي فيه إيه؟
= فيه إن المفروض أبقى شريك في النجاح ده.
* ومين قال إنك مش شريك؟ لا دا مش أنا وأنت بس… أصغر ممثل في الفرقة شريك في النجاح اللي إحنا فيه.
= أنا ماقصدش أني أبقى شريك بالكلام ولا بالمدح. أنا أقصد أبقى شريك في الإيراد.
* وعاوز تبقى شريك إزاي وبنسبة أد إيه؟
= إحنا بنعمل كل حاجة سوا فالمفروض أبقى شريكك بالنص.
* النص!! كده مرة واحدة… طب إزاي؟
= زي الناس.
* أيوه بس أنا دفعت اللي ورايا واللي قدامي علشان أساهم مع الخواجة ديموكنجس في التياترو ده. وأنا اللي بخرج وبمثل وشايل الفرقة على أكتافي وبتابع بتوع الديكور والملابس، وبعمل البروفات بالنهار وبقدم العروض بالليل، وبعمل الاتفاق مع كل الناس وشايل هم الكبير والصغير. ومش بس كده، أنا كمان بديلك أفكار المسرحيات والشخصيات، وبحط معاك الخطوط العريضة للرواية، وبعدها تقعد أنت تكتب… عاوز تدي كل اللي قلت عليه ده النص… وأنت علشان بتكتب الرواية تاخد النص؟!
= شوف يا أستاذ نجيب أنا معنديش كلام تاني.
* بس عندي بقى يا أمين علشان أنا باقي عليك ومش عاوز أخسرك. أنا هزودك كمان عشرين جنيه. يعني من الشهر ده هتبقى ماهيتك ميت جنيه.
= ماتتعبش نفسك. يا إما شريك بالنص… يا إما كل واحد يروح من طريق.
* فكر يا أمين… قبل ما تتسرع وماتردش دلوقت… روح وفكر في الكلام دا ورد عليا بكره بعده… وقت ما تنتهي من التفكير وتاخد قرار.
أنتهى أمين صدقي إلى قرار التمسك برأيه لدرجة أنه رفض كتابة الرواية الثانية، وقرر ترك الفرقة من دون إعطاء مهلة للريحاني للبحث عن مؤلف آخر، أو حتى من دون أن يترك عملاً احتياطيًا تستعين به الفرقة في عرضها التالي، ما جعل نجيب يقرر استمرار عرض «حمار وحلاوة» بلا توقف، حتى لو تدنت الإيرادات، إلى حين الاستعانة بكاتب جديد، أو رواية تصلح للفرقة.
زجال بالإنابة
اضطر نجيب إلى البحث عن شخص آخر يقوم بمهمة الكتابة ووضع الأزجال، وراح يعلن عن ذلك لكل أفراد الفرقة، لعل أحدهم يعرف من يقوم بهذا الدور، فتقدم فعلاً من يعرضون أعمالهم لأداء هذا العمل. أعجب الريحاني بأعمال اثنين منهم، وهما حسني رحمي المحامي وإميل عصاعيصو، وكتبا فعلاً عدداً من الأزجال والمواقف، وعلى رغم إعجاب الريحاني بهما، إلا أن ما قدماه لم يكن ما يريده ويبحث عنه، حتى جاءه جورج شفتش زميله القديم منذ أن كان يعمل في البنك الزراعي:
* أنت بتكتب أزجال شعرية ياخواجة جورج فعلا.
= أمال! نجيب أفندي أنا غاوي أزجال وأشعار قديم.
* أيوه. ماهو غاوي شيء وكونك تكتب شيء تاني!
= يا أستاذ بقولك بكتب… بكتب… وبعدين يا أخي ما تجرب.
* على رأيك. إحنا خسرانين حاجة. حيث كده شوف يا سيدي أنا عاوز مقطوعة زجلية تقولها طايفة المرابين. اللي بيطلعوا فلوس بالفايظ والعياذ بالله.
= بس كده؟ بسيطة… بكرة تكون عندك.
لم يكذب الرجل خبراً. في اليوم التالي، جاء جورج، وقدم للريحاني زجلاً متميزاً وكوميديا في معانيه، أعجب الريحاني بشكل كبير:
* قوللي يا خواجة جورج؟ أنت اللي كاتب الأزجال دي؟
= أيوه ليه فيه حاجة؟
* دا فيه حاجات! دا أنت لقطة… دا أنت هايل… دا أنا لازم أعمل معاك كنتراتو. بس بعد إذنك يا خواجة بدون تكليف، تنده لأخويا جورج من الأوضه اللي جنبي وقوله نجيب بيقولك تعالى وهات معاك كنتراتو.
لم يكد يغادر الخواجة جورج حجرة نجيب حتى دخل صديقه تيمور مهنى، وكشف حقيقة الخواجة جورج وأزجاله:
* أنت بتقول إيه يا تيمور.
= اللي أنت سمعته ده. مش جورج اللي كاتب الكلام دا.
* يعني سارقه؟
= مش بالظبط كده!
* هو يعني إيه اللي مش بالظبط. يا إما سارقه أو مش سارقه.
= الأزجال دي بتاعة شاب صديق جورج شفتش.. والشاب دا مش لاقي فرصة.. فاتفق مع جورج بعقد بينهم وبين بعض إنه يكتب وجورج يوزع الأزجال ويبيعها والتمن بالنص
* يا ابن الإيه يا جورج… وجاي وراسم عليّ الإبداع وإنه ممكن وممكن. لأ وإيه طلبت منه زجل بمواصفات معينة إمبارح جابه النهاره. وأنا اللي كنت همضي معاه كنتراتو. بس الجدع اللي كاتب الكلام ده هايل مايتسبش.
= أنا أقدر أجيبهولك بكره.
* لو تقدر تجيبه النهارده يبقى كويس أوي.
البقية في الحلقة المقبلة
فرنسية… بنت بلد
يوماً بعد يوم أصبح نجيب ولوسي صديقين، وزاد اقترابهما خلال وقت قصير. غير أن أهم ما لفت انتباهه انتظامها الشديد والتزامها بمواعيد البروفات، ربما أكثر من أعضاء الفرقة الأساسيين. غير أن المشكلة التي باتت تؤرق الجميع هي عدم وجود ما ينفقون منه، فقد أنفق الريحاني على الديكورات والملابس كل ما معه، بل وكل الاحتياطي الموجود في خزانة التياترو الذي تحول من رقم الخمسين إلى الصفر.
في إحدى الليالي وقبل افتتاح المسرحية، أعلن مسرح «الكورسال» عن عرض استعراضي فرنسي جديد، ألحت لوسي على نجيب أن يذهبا لمشاهدته، غير أن نجيب لم يكن يملك في هذه الليلة غير 12 قرشاً، فاتفق معها على أن يأخذا مقعدين في أعلى التياترو، وكان ثمن التذكرة خمسة قروش، فدفع عشرة قروش ولم يبق معه إلا قرشان. فجأة، أعلنت لوسي أنها لم تعد تحتمل الجوع، ووقف الريحاني كمن سقط من طائرة، لا يعرف كيف يتصرف، فلم يعتد أن يطلب مساعدة من أحد، وشعرت لوسي بما فيه نجيب من حرج، فهداها تفكيرها إلى خطة قررت تنفيذها.
قادت لوسي الريحاني إلى مقهى قريب بعد مشاهدة العرض، وهناك طلبت كوباً من الشاي، وشربته من دون أن تضع فيه السكر، ثم فتحت حقيبتها ووضعت فيها جميع قطع السكر، بينما ينظر إليها الريحاني في دهشة من دون أن يفهم ماذا تفعل:
* إيه دا؟ أنا مش فاهم إيه اللي أنت عملتيه ده؟
= أقولك… أنا عندي في حجرتي بالبنسيون خبز وبعض الشاي، ولكن ليس لدي سكر، فما المانع أن نذهب إلى هناك نقوم بإعداد شاي ومعنا الآن السكر، ونتناول عشا فاخر… شاي مع الخبز؟!
* مش ممكن!! أنا حاسس أنك بقيتي فعلا واحدة مننا.
= يعني إيه واحدة مننا؟
* يعني حاسس أنك بقيتي بنت مصرية جدعة.

شارك هذه المقالة
 
أعلى