عروض موجزه لمحتويات كتب متنوعه

السيب

Active Member
طاقم الإدارة
21-02-2010, 05:12 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif
عروض موجزه لمحتويات كتب متنوعه
عروض موجزه لمحتويات كتب متنوعه
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
21-02-2010, 05:14 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

Pictures%5C2010%5C01%5C03%5Cbdae9b43-12f5-45e3-bac7-3c81c5e006af.jpg



الباحث حسن رمضان يُشرِّح الفكر المتطرف ويشخِّص أسبابه:
المتطرفون يرفضون الآخر المخالف لمعتقداتهم ولا يعرفون إلا لغة العنف

• غلاف كتاب «تشريح الفكر السلفي المتطرف»
• غلاف كتاب «تشريح الفكر السلفي المتطرف»
كتب محمد توفيق:
الفكر المتطرف ساهم في صنعه وبروزه بعض الدول الغربية، ذات المصالح الاستعمارية بشقيها السياسي والاقتصادي، ثم اكتوت بناره لاحقاً. هذا ما اكده الباحث حسن محسن رمضان، في كتابه «تشريح الفكر السلفي المتطرف» الصادر أخيراً عن دار الحصاد السورية للنشر والتوزيع.

الكتاب الذي يقع في 656 صفحة من القطع المتوسط يبحث في 3 فصول المنهج العام للفكر السلفي المتطرف ويسلط الضوء عل‍ى افكار مجموعة من الشخصيات التي تبنت الفكر الجهادي وذاع صيتها في العالم كله حتى باتت تخشاهم قوى عالمية كالولايات المتحدة الاميركية، وعلى رأس هؤلاء اسامة بن لادن وايمن الظواهري وابو مصعب الزرقاوي وابو قتادة الفلسطيني وغيرهم.

متطرفون عالميون
ويخلص المؤلف الى «ان مسألة التطرف الاسلامي أصبحت تحتل موقعا بارزا في وعي الانسان على مستوى العالم كله، فأصبح من النادر ان نصادف انسانا مهما كان بلده نائيا عن الدول الاسلامية الا ولديه مخزون معرفي من نوع ما - بغض النظر عن دقته من عدمه -عن الإسلام ومتطرفيه ومجاهديه».
ويشير الباحث إلى ان الامر ليس صراع اديان كما يحلو للبعض ان يصوره، وان كان هو كذلك من وجهة نظر المتطرفين في احد محاوره، ولكنه صراع بقاء وتصفية من جانب بعض المجتمعات، والتي اصبح بعض افرادها لا يفرقون بين الاسلام والمسلمين من جهة، والاسلام والمتطرفين من جهة أخرى.
وفي معرض تحليله لعوامل التطرف ومسبباته يرى الباحث ان الدول الاستعمارية -في وقت من الاوقات- دعمت الجماعات السلفية المتطرفة بالمال والسلاح كما حدث في المواجهة بين الكتلتين المتصارعتين ابان الاحتلال السوفيتي لافغانستان، ولا ننكر ايضا دور الدكتاتوريات والنزعات الرسمية التسلطية والقمع وكبت الحريات والمعتقلات وانعدام الوسائل السلمية للمعارضة وابداء الرأي في بعض الدول العربية والاسلامية مما ساهم في بروز حالة التطرف وانتشارها، اضافة الى الفقر وقلة فرص العمل والتباين الشديد بين الاقلية الثرية المتسلطة والاغلبية الفقيرة المسحوقة.

فتاوى
ويعرج الباحث على بعض الفتاوى الفقهية السلفية المتشددة التي تدعو الى رفض الآخر المخالف في العقيدة، وهذا الرفض يترجم الى عنف وتصادم، وللاسف الشديد فان الحراك الفقهي الإسلامي الحديث يبدو غير معني او مهتم بهذه القضايا ويتحاشى الكلام والبحث في قضية العنف الا من جانب العموميات.

أسامة بن لادن
ويفرد الباحث جانبا كبيرا من البحث للحديث عن أسامة بن لادن ونظرائه الذين يحملون الفكر المتشدد نفسه، انتهاء باختفائه في مكان ما على الحدود الباكستانية الافغانية بعد الغزو الاميركي لافغانستان وسقوط نظام طالبان.
وقال المؤلف: من النادر اليوم ان نجد شخصاً لم يسمع بأسامة بن لادن، او لم يربطه بطريقة او بأخرى بالعنف الاسلامي. فمنذ ان ارتبط اسمه بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، تولى الاعلام الغربي على العموم، والاميركي على الخصوص، عملية الربط بين اسم اسامة بن لادن وبين الارهاب بشكل عام.
هذه «الماكينة» الاعلامية التي لا تفتر ليل نهار تردد على مسمع ومرأى الناس في كل مكان اسم وصورة اسامة بعمامته البيضاء، جعلت من اسمه وصورته عَلَمين يدلان على اشياء متعددة تختلف باختلاف الثقافات والبيئات. ولكنها نجحت ايضاً في جعل المواطنين في بعض الدول البعيدة عن الشرق الاوسط، والولايات المتحدة يعرفون اسامة بن لادن وعلى ما يدل اسمه عليه، وفي الوقت الذي لا يتذكرون فيه اسم الرئيس الاميركي ويخطئون في اسم رئيس وزرائهم يذكرون بن لادن، بل ان استطلاعا للرأي في باكستان في نهاية صيف 2007 اظهر ان تأييد الباكستانيين لاسامة بن لادن يفوق تأييدهم لرئيس بلادهم آنذاك (برويز مشرف) بنسبة ثمانية في المائة.
فأسامة بن لادن، ولا شك، في جزئية مهمة منه، هو ظاهرة اعلامية صنعتها المؤسسة نفسها التي تعاديه وتلاحقه وتريد قتله.

أيمن الظواهري
ثم تحدث المؤلف عن الدكتور ايمن الظواهري وهو الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، والساعد الأيمن لأسامة بن لادن كما يراه الغرب بعد احداث الهجوم على نيويورك وواشنطن. وهو الرجل الذي يتوقع الجميع ظهوره على العناوين الرئيسية في الصحف ونشرات الاخبار مهدداً ومتوعداً بالمزيد، رافعاً اصبعه الى اعلى، كلما قامت جماعة اسلامية متطرفة في شرق الارض او غربها بعملية مسلحة. كما انه يظهر في تسجيل مرئي او صوتي كلما جدّ جديد على الساحة السياسية، فهو يظهر منتقداً الحفريات التي يقوم بها اليهود في القدس وتحت المسجد الأقصى، ويظهر ليؤكد للناس أن «لبنان ثغر من ثغور المسلمين»، كما يظهر منتقداً الرئيس الاميركي الجديد باراك اوباما بعد ايام قليلة من توليه الرئاسة بسبب «ارتداده» عن جذوره الاسلامية ومحذراً اياه من ارسال المزيد من الجنود الى افغانستان. فأيمن الظواهري يستغل كل فرصة كما يبدو حتى يخرج للناس برسالة جماعة القاعدة الاعلامية. تلك الرسالة التي عمل من اجلها الظواهري منذ اكثر من اربعين سنة ولا يزال ينتظر ان تثمر.
وأفرد المؤلف عرضاً مطولاً لآراء ذوي الفكر الجهادي، ومن ذلك ما كتبه د. عبدالله عزام منظّر المجاهدين الأفغان وأهم شخصية جهادية حتى مقتله، يقول في كتابه عن الجهاد ما نصه:
ان القتال في هذا الدين الحنيف لازالة العقبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أمام الدعوة الاسلاية. بل تستطيع أن تقول أن وظيفة الجهاد (القتال) هو تحطيم الحواجز التي تقف دون نشر هذا الدين في ربوع العالمين. فإن قبل الناس هذا الدين فلا حاجة لاشهار السيف ولا اراقة الدماء ولا اتلاف منشآت وأموال، لأن هذا الدين جاء للاصلاح والاعمار لا للاتلاف والدمار (..) فإذا لم نستطع تبليغ الدعوة الا بقتال الأنظمة السياسية والسلطات القائمة قاتلناهم لأنهم يحولون بيننا وبين تبليغ الناس.
فإذا وقفت أمامنا القوة السياسية وأصحاب الأموال وتجمعات القبائل، اضططرنا لمواجهتهم بالسلاح حتى يستسلموا لهذا الدين ويفتحوا الطريق بيننا وبين الشعوب التي أمرنا بإنقاذها.
وقال في موضع آخر من الكتاب نفسه «ان لم نستطع الوصول الى الطواغيت المتألهة في الأرض الا بقتل الذرية وقطع الأشجار وتدمير المنشآت، فلا بأس، لأن هذه اضطررنا اليها اضطراراً ولم يكن مقصوداً لنا ولا هدفاً».

قتل الأبرياء
هذا هو باختصار الموقف السلفي المتطرف من مسألة القتال داخل المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، والباقي هو تفاصيل وتفريعات للقضية الأساسية وللموقف المبدئي.
فالمسألة من وجهة نظر هذه الجماعات هي مسألة مهمة مقدسة قد ألقيت على كاهلهم ولن يرقى الى أهميتها بشر ولا جماد. فعندما كتب أبو عبدالرحمن أمين، أمير الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر، أن «أحق الناس بالمال المجاهدون في سبيل الله حتى تتحقق الكفاية ولو مات الرضع والأطفال والجيّع».

آراء المفكرين
واستعرض المؤلف آراء بعض المفكرين حول الفكر السلفي المتطرف، ومن ذلك ما كتبه الدكتور فرج فودة في كتابه «الحقيقة الغائبة»عن تواجد التطرف حتى في التاريخ الاسلامي الأول. فالنزعة التكفيرية تبدو وكأنها تسيطر على ذهن المتطرف حتى يغدو معها مقتنعاً تمام الاقتناع بأن ايمانه، كعقائد ومفاهيم وممارسات، هو المقياس الرئيسي الذي يجب أن يقاس به مدى اسلام أو كفر الآخر. تلك النزعة تبدو وكأنها تتكرر في التاريخ وبسبب المنهج بالدرجة الأولى

القبس
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
23-02-2010, 11:37 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

أوراق السادات تحكي:
طريق الجليد بين موسكو والقاهرة

القاهرة ـ صبحي موسى :
لم يكن السادات واحداً من الرؤساء أو الملوك العابرين في العالم، لكنه كان نقطة تحول كبرى في تاريخ مصر الحديث، وربما المنطقة العربية ككل، ومن ثم فلكل ورقة من أوراقه أهميتها البالغة، اذ أنها وثيقة سياسية على عصر تحول فيه العرب من الهزيمة الى النصر، ومن الحرب الى السلام، ومن الاشتراكية أو الناصرية الى الانفتاح، ومن المعسكر الشرقي الى الغربي، ومن الحلم بالقومية العربية الى سقوط المقولات الكبرى، وظهور الانتماءات والنعرات الوطنية، فكان السادات بما له وما عليه لغزاً سوف يتوقف التاريخ أمامه طويلاً ـ حسبما يقول ـ لمعرفة حله، لكن هل ينبني التاريخ على الأهواء والرغبات، أم أنه يقوم على الفعل ورد الفعل وما بينهما من جدل مهما كان صغيراً ؟ فيما يبدو أن هذا السؤال كان الشرارة الأولى التي انطلق منها بطل الحرب والسلام كي يكتب مذكراته من أجل التاريخ أو الأجيال القادمة حسبما يقول.

يمكننا القول أن الكتاب الصادر أخيراعن دار المعارف بعنوان «من أوراق السادات « واسم الكاتب الشهير « أنيس منصور « هو محض حلقات سجلها السادات وفرغها منصور ـ متدخلاً أحياناً ـ كي يدشن بها انطلاق الأعداد الأولى لمجلة أكتوبر، اذ أننا يمكننا النظر اليه على أنه ثلاثة أجزاء، الأول منها دراسة أو مذكرة دفاع عكف السادات بعناية شديدة على كتابتها بنفسه، محاولاً أن يجيب عن السؤال الصعب وهو لماذا وكيف تم التحول من المعسكر الشرقي الى المعسكر الغربي ان جاز التعبير؟، أما الجزء الثاني فهو شهادة على ما عرف باسم ثورة التصحيح، حيث تخلص من مراكز القوى وأخرج الخبراء السوفيت وتوج كل هذا بالعبور ثم السلام، وتجيء مذكراته بدءاً من دخوله الجيش حتى وصوله الى أن يكون خليفة لعبد الناصر، رغم أن الكتاب ليس سوى 26 فصلاً متوالية، لكن الموضوعات وتقنيات الرصد من الشفاهية الى الكتابية هي التي توحي بهذا تذهب بنا الى هذا التقسيم، حيث كتب السادات الأول، وسجل منصور الثاني والثالث، لكنه تدخل كتابياً في ضبط الثاني وترك الثالث كما أملاه صاحبه، ولا نعرف ما الذي يعنيه أن يحمل الكتاب هذا الاسم «من أوراق السادات» وعليه اسم أنيس منصور الذي قام بتحرير بعض أجزاء العمل وكتابة مقدمة صحفية له؟

الروس والنظام المصري
كان الهم الأول للسادات في هذه الأوراق هو توضيح لماذا قطع علاقاته بالروس وصافح الأميركان، ويبدو أن هذا السؤال كان مثاراً بقوة في السنوات التي تلت الحرب؟، ويبدو أنه كانت في نية السادات أن يضع لهذا الجزء الذي يمثل كتاباً منفصلاً بذاته عنواناً واضحاً وهو طريق الجليد من موسكو الى القاهرة، ومن ثم أفرط في ذلك الوصف المجازي لهذا الطريق الذي يمثل العلاقات الروسية المصرية، تلك التي بدأت بصفقة السلاح الروسية من تشيكوسلوفاكيا عام 55، ثم نشطت مع رفض الغرب تمويل مشروع السد العالي، فقررت روسيا بتدخل من الزعيم الصيني شوان لاي تمويل المشروع، ومع هذا النشاط بدا أن مصر في طريقها للايمان بالشيوعية، خاصة في ظل ما أسماه السادات بمركسة ميثاق العمل الوطني الذي صدر عام 1962.
لكن السادات ذهب في أوراقه الى أن الطريق بين مصر وموسكو لم يكن على هذا النحو، اذا أنه كان مليئاً بالضباب، وكثيراً ما تساقط الجليد عليه كالجبال، وربما السبب في ذلك أن عبد الناصر لم يكن شيوعياً، وأدخل الشيوعيين السجنون عام 59، فغضب السوفيت، وازاد الجليد تراكماً بدخول مصر في وحدة مع سوريا، اذ أن الروس غير مؤمنين الا بوحدة الطبقة العاملة، ويرون الوحدة على اسس قومية نوعاً من التخلف وعودة بالبشرية الى الوراء، فخاب أملهم في عبد الناصر الذي طالبهم بدعم الثورة العراقية، لكنهم اكتفوا بمظاهرة عسكرية على الحدود التركية، لأن عبد السلام عارف لم يكن شيوعياً، لكنهم مع ظهور عبد الكريم قاسم على المشهد دعموه بكل ما لديهم، وأخذوا يدعمون العراق وعدداً من الدول العربية الأخرى تعويضاً عن خيبة أملهم في مصر وسوريا، ولم يهدا لهم بال حتى سقطت الوحدة، ومع مجيء حافظ الأسد اصبحت العلاقات الروسية السورية اقوى عشرات المرات منها بين مصر وروسيا.

في انتظار السلاح
وذهب السادات الى أنه ليست لديه الرغبة في فضح كل ما جرى بين ناصر والروس، لكنه رصد العديد من اللقاءات بين الطرفين، موضحاً أن الروس لم يرغبوا في جعل ميزان القوى يتساوى بين مصر واسرائيل، ومن ثم لم يفوا بوعودهم كلما طلب ناصر السلاح، حتى أنه حين طلب سلاحاً يعوض به ما فقدته مصر في 67، جاءه ما كان قد طلبه عقب العدوان الثلاثي، وهو سلاح من ايام الحرب العالمية، في حين أنهم كانوا يستجيبون في غضون أيام لطلبات سوريا، وبكميات كبيرة، ولكن بنوعيات مختلفة عن التي طلبوها، وذهب السادات الى أن الأمور ازدادت سوءاً عقب النكسة، فصواريخ سام 3 لم تأت الا بعدما أبلغهم ناصر عام 1970 بأنه سيقبل مبادرة وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز، والداعية لوقف اطلاق النار أو ما سمي بحرب الاستنزاف، ولم يتحسن الموقف الا بعدما تدخل تيتو الذي انفجر ناصر أمامه غضباً، وكاد أن يبكي أمام عينيه، فقد عرض عليهم ناصر الصداقة ورفضواها، ثم وافقوا بعد عذاب على أن يقوموا بالدفاع عن الأجواء المصرية، ثم عادوا في المساء ليبلغوه برفضهم لهذا الأمر، ولا رادع لليهود بدءاً من القنطرة شرق حتى اسوان في الجنوب، والروس لا يردون عليه بغير: القادة الآن يصطافون في القرم وحين يعودون سوف نبلغهم، واذا عادوا قالوا سوف نفكر، سوف نرى، وكلما احتد ناصر أتوا بقائمة طويلة من السلاح وقالوا وافق الكرملين على منحكم هذه، وفي كل مرة يطول الانتظار، والسلاح لا يأت، ومصر ليس بها منصة صواريخ واحدة، وكلما تحدث ناصر عن الحرب قالوا أن الحرب مريرة، وأنهم يخافون على المصريين منها، وأننا لم نتدرب بشكل كاف بعد على استخدام الأسلحة الحديثة، وعشرات الرحلات والزيارات تنتهي الى أنه لا بد من الرضا بالأمر الواقع.

المواجهة وحيدا
ومع تولي السادات السلطة اصبح الأمر أكثر تعقيداً، لأنه ليس رجلهم، وكل ما يرغبون فيه هو الوقت حتى يصل أحد رجالهم الى السلطة، فقد أفرزت سنوات وزارة علي صبري العديد من الرجال ومراكز القوى، وكان صبري رجلهم الأول، لكن مع اقالته فقدت روسيا الكثير، وتوالى الفقد مع الخلاص من مراكز القوى، ومن ثم لم يكن امامهم غير أن يحاصروا مصر، فدبروا انقلاباً على الرئيس السوداني جعفر نميري، ولكن السادات ساعد النميري على العودة الى السلطة، فاعتبره الروس تدخلاً في شؤونهم الداخلية، وأصبحت العلاقات في درجة الصفر، مع اعلان عام 1971 عام الحسم، إذ تركوه يغطي نفسه وحده في مواجهة الرأي العام والعنجهية الاسرائيلية، ومع انتهاء الحرب الهندية الباكستانية، وخروج الهند حايفة الروس منتصرة شعر الأميركان بضرورة عقد وفاق ودي مع الروس، ورأى السادات أن روسيا يمكنها جعل أميركا ـ من خلال هذا الوفاق ـ أن تضغط على اسرائيل لترك الأراضي المحتلة، ورأى السوفييت أن هذه فرصتهم ليثبتوا للأميركان قوتهم في المنطقة، فاتفقوا مع السادات على عمل تظاهرة بأحدث انواع الطيران الروسي على الأرض المحتلة، وعقدوا مع مصر معاهدة الصداقة التي رفضوها حين طلبها عبد الناصر، وقام السادات تأكيداً على أواصر الود بمنح القادة الروس عدداً من الأوسمة، لكن بيان الوفاق الودي بين البلدين لم يحمل غير عبارة تقول أن كلا البلدين يؤيدان قرار مجلس الأمن رقم 242، فعاد الجليد من جديد، السادات يتصل والروس في القرم، والأسلحة لا تجيء، والمنطقة على صفيح ساخن،
مع قيام حرب أكتوبر تغير الموقف، وجاءت الرسائل السوفييتية عاجلة دائماً، وجميعها لا يخرج عن طلب وقف اطلاق النار، والسادات يرفض، حتى تدخلت أميركا في الحرب، وأنزلت دباباتها من الطيران الى ساحة القتال، فأعلن السادات أنه قادر على حرب اسرائيل، لكنه لن يحارب أميركا، والروس يشاهدون ولا يتحركون، حتى أن السادات حين أبلغهم بقرار الحرب وطلب شحنات أسلحة لم يردوا عليه، وحين جاء عام 74 بالانفتاح، سواء الاقتصادي أو الملاحي في قناة السويس، ويأخذ الروس طريقهم في تأليب الدول العربية على مصر، فيرد السادات بانهاء اتفاقية الصداقة بين مصر وروسيا.

بين العرب وأمريكا
رغم أن ما يقارب النصف الأول من الكتاب كان مخصصاً للحديث عن طريق الجليد بين موسكو والقاهرة، فان السادات رصد على جانبي هذا الطريق علاقات القاهرة بواشنطن وبعض الدول العربية، فقد بدأت العلاقات مع أميركا منذ اللحظات الأولى للثورة في مواجهة الوجود الانكليزي، وكان متوقعاً أن تزداد العلاقات قوة لولا أن ناصر اختار ما سمي بعدم الانحياز الايجابي، فرفضت أميركا وبريطانيا مده بالسلاح عام 55، بينما وافق الدب الروسي على ذلك في سبتمبر من العام نفسه، ومع كسر روسيا لاحتكار السلاح توترت العلاقات، ونصح وزير الخارجية الأميركي روجر دالاس بلاده بالا تمول السد العالي لأن مصر بلد مفلس، فأمم ناصر القناة، وجاء العدوان الثلاثي الذي استغلته كلتا القوتين العظميين في اعلان نهاية القرن الفرنسي البريطاني لمصلحة المعسكرين الغربي والشرقي، ومع رفض أميركا مد مصر بالقمح عقب العدوان الثلاثي وموافقة روسيا على ذلك توارت أميركا وظهرت روسيا، لكن ناصر لم يكن شيوعياً ولا راغباً في الشيوعية، ومن ثم ما لبث الجليد أن تساقط على الطريق، وتوالت عبارات : سنرى، وافق الكرملن على هذه القائمة، القادة في القرم، ولا شيء أكثر.
أما العلاقات العربية فقد تجسدت في الثورات الوليدة التي وقفت مصر معها، أملاً في قيام ماكان يحلم به عبد الناصر وهو الاتحاد على أساس القومية العربية، لكن القوتين العظميين ماكان لهما أن تسمحا لشيء من هذا بأن يحدث، اذ رأت كل منهما أنه يضر بمصالحها في المنطقة، فضلاً عن أنه يكسر توازن القوى بين العرب واسرائيل، ومن ثم انتهى الأمر بعد حرب اكتوبر وبدء محادثات السلام أن قاطعت الكثير من الدول العربية مصر، رغم أن هذه الدول وقفت معها مواقف مشهودة عقب الهزيمة، فقد دفع فيصل في مؤتمر الخرطوم لعبد الناصر كي يعوض ما فقده في الحرب خمسين مليون دولار، ودفعت الكويت خمسة وخمسين مليونا، ودفع آخرون باشكال عديدة كالسلاح والقمح وغيره، واتخذت السعودية وغيرها من دول الخيلج من تلقاء أنفسها موقفاً مشرفاً بقطع البترول، لكن الأمر تغير عقب الحرب، ومثلما شوهت روسيا موقف مصر من السلام، أزكت أميركا روح الفرقة، وانتهت الأمور نهايات جعلت مصر تتخذ مسارها نحو الغرب أكثر فأكثر، وكان السادات بطل كل هذه التحولات، سواء برغبته أو رغماً عنه، ويبدو أن هذا ما أراد توضيحه عبر هذه الشهادة التي وضعها للأجيال القادمة حسب قوله، تلك الأجيال التي مازالت تختلف على مواقفه سواء بالرفض أو الايجاب.

الكتاب في سطور

الكتاب: من أوراق السادات
المؤلف: محمد أنور السادات
تقديم: انيس منصور
الناشر : دار المعارف
القطع: كبير
عدد الصفحات: 510

Pictures%5C2010%5C02%5C02%5Ce56066b2-f66c-4102-bdee-dec6573dd131.jpg



رحلة الجاسوسية والغدر
الكولونيل ليشمان.. والدرب الطويل إلى بغداد

مهاب نصر
«أخبرني خادمي الفارسي بأن أعرابيا بالباب يود أن يراني، وما لبث أن دخل عليّ بدوي طويل القامة شديد الشحوب قذر المنظر تماما فحياني وقال: هل لديك شيء آكله؟.. وأخيرا وجدته في المطبخ يجلس مع رفيق له أمام صحن كبير من الرز يأكل منه بشراهة مستخدما في ذلك أصابعه وفقا لطريقة العرب في تناول الطعام».

لم يكن هذا الشخص الذي تحكي عنه الفقرة سوى الكولونيل والجاسوس الإنكليزي ليشمان الذي جاب أرجاء الجزيرة العربية والعراق ومنطقة دير الزور وغيرها متشربا عادات وتقاليد المنطقة، ومتقربا من سادة بعض قبائلها في لحظة كانت المنطقة العربية تخضع فيها للأطماع الاستعمارية من أجل اقتسام تركة الرجل المريض «الدولة العثمانية» من جهة، والتحكم في طريق مستعمراتها «خاصة بريطانيا» في شرق آسيا، كما أن تدفق النفط في منطقة عبدان حيث قامت المصافي ومدت الأنابيب جعل «قطرة البترول تساوي قطرة الدم»، في ذلك الوقت من مطالع القرن العشرين إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بقليل كانت جولات هذا الجاسوس، وكان دوره الخطير في أحداث المنطقة وبعض الجهات التي شهدت مقاومة للاستعمار مثل دير الزور، وقبائل البوكمال، وهو ما يتناوله كتاب «الكولونيل ليشمان والدرب الطويل إلى بغداد» الصادر أخيرا لمؤلفه أسعد الفارس .
يقول المؤلف عن أسباب تأليف الكتاب «يعود اهتمامي بهذا الرجل إلى مطلع الخمسينات من القرن العشرين، عندما كانت القصص تروى والأشعار تنشد عن الإنكليزي نجيمان أو ليشمان بين أهلنا من عرب الفرات ومما يؤسف له جهلنا بتاريخ هذا الرجل الذي فعل الأفاعيل في المنطقة فقد كان المحارب والعدو اللدود الذي استخدم الطيران ليقصف ديار أهل الفرات لأول مرة في تاريخ الجيش البريطاني في المنطقة، فجل ما كان يكتب عنه كونه المسكين الذي كان يبيع الفرارات في مدينة البوكمال السورية وينام في المساجد، والذي اكتشف فيما بعد أنه جاسوس بريطاني ولذا بذلت جهودا كبيرة لجمع كثير من المعلومات عن ليشمان وعن تاريخ الحرب التي خاضها الجيش البريطاني في المنطقة العربية عام 1914-1920».
بداية الرحلة
تنقل ليشمان أثناء خدمته بين عدة مناطق أكسبته خبراته الجاسوسية وأهم محطاته كانت جنوب افريقيا حيث أرسلته بريطانيا إلى جبهة الحرب هناك فتعلم من أسلوب الحرب القذرة، ثم التحق بالجيش المرابط في الهند، وأخيرا رافق ليشمان الجيش البريطاني في حملته على العراق في الحرب العالمية الأولى وبقي يعمل هناك ويؤدي مهامه حتى قتل في خان النقطة قرب الفالوجة في العراق عام 1920.
ويوجز المؤلف تاريخ ليشمان في ثلاث محطات أساسية:
مرحلة التطوع في الجيش البريطاني 1898 والخدمة في جنوب افريقيا والهند والتحاقه بالجيش البريطاني الذي غزا العراق من الجنوب عام 1914
ثم مرحلة الترحال والتجسس التي شملت مناطق التبت وكشمير وطريق العودة من الهند عبر الشرق الأوسط والرحلات الاستكشافية في الوطن العربي مرة ما بين عامي 1909-1910، وأخرى عام 1912.
وتأتي المرحلة الأخيرة التي انتهت بمقتله في الفالوجة متناولة الخلاف بين ليشمان والشيخ الضاري بن محمود شيخ قبيلة الزوبع في الفلوجة.
مطارد من الثوار
يحكي المؤلف عن الشخصية الماكرة لليشمان الذي كان يجوب البادية كدرويش بائس يأوي إلى خيام العرب ضيفا فلا يسألونه عن هويته ثم يعود من رحلته التجسسية ليقود مفارز الشبانة والعملاء للإغارة على الأماكن التي كانت تستضيفه ويتعقب المعادين لبريطانيا حتى كشف أمره فصار هدفا للثوار إلى أن أدركه الموت.
تولى ليشمان الحكم العسكري لولاية الموصل حيث أعلن عن فشله السياسي قائلا «لست متأكدا من أنني أمثل ضابطا سياسيا نموذجيا، ذلك لأن وسائلي كانت فظة جدا» ، فمع الأكراد مثلا دفع مجموعات من الجيش لمهاجمة القرى، وفرض الغرامات وقتل شيوخ القبائل مما زاد حدة الثورة عليه.
وكان لليشمان دوره في الحرب على أهل البوكمال حيث جمع المعلومات عن الثوار الذين يحركون العشائر للمقاومة ثم قام بجيشه ليشن هجوما على قرية الغبرة ، ثم امتد طغيانه ليشمل كل القرى التي يفترض فيها وجود الثوار ويحرق أراضي المزارعين ويسوق الماشية ويدمر بحسب اعترافه كل ما يستطيع أن يراه.
اعتمد المؤلف في تأليفه على المصادر التي تحدثت عن ليشمان ككل لا يتجزأ، وبحسب قوله فقد اختصر من جوانب السيرة بينما استرسل في تحركاته عبر أحداث الوطن العربي في العراق وسوريا وشمال الجزيرة العربية» وخصوصا الحرب المدمرة في لواء دير الزور في سوريا، وهي الثورة التي توصف بالثورة المنسية في التاريخ».
يبرز الكتاب من ثم الآلية الغادرة التي تعاطى بها الاستعمار مع المنطقة العربية بينما كان أهلها واقعين بين نفوذ يتراجع للدولة العثمانية، وانقلاب يقترب في موازين العالم مع الجيوش الأوروبية التي أعادت تقسيم المنطقة وتفكيكها. ومن ثم يسقط هذه الأحداث على ما عانته وتعانيه المنطقة العربية حاليا من انقسامات وقضايا سببها الاستعمار.

149576_2222222-getImage_small.jpg


إيران تستيقظ
لشيرين عبادي...
مذكرات الثورة التي تأكل أبناءها

الجريده

صدر أخيراً عن دار الساقي كتاب «إيران تستيقظ: مذكرات الثورة والأمل» للكاتبة والناشطة الإيرانية شيرين عبادي (ترجمة حسام عيتاني) التي كرست حياتها من أجل حقوق الإنسان وفازت بجائزة نوبل للسلام في العام 2003، وهي محامية وقاضية تجاوز صدى صوتها حدود إيران.

تؤكد عبادي أن ما روته في هذا الكتاب حصيلة تذكّر شخصي لعدد كبير من الحالات والأحداث والوقائع التي أثرت في حياتها، وليس مذكرات سياسية، ولم تحاول فيه تقديم نقد سياسي لكيفية وقوع أحداث معينة أو لأسبابها. فحالات كثيرة وصفتها تستحق معالجة أوسع بكثير مما حظيت به في الكتاب، حسب رأيها، وتتمنى أن تتمكن مستقبلاً من تخصيص كتب أخرى تتناولها من زاوية تحليلية أعمق.

تعتقد عبادي بأن الكلمة الأداة الأقوى لحماية أنفسنا من طغاة العصر ومن تقاليدنا على السواء. ومع أن الكلمات أسلحة مسالمة، إلا أن عبادي تعرّضت في الأعوام الخمسة عشر الماضية للمضايقة والتهديد وسُجنت في سياق الدفاع عن حقوق الإنسان وضحايا العنف في إيران. من هنا، تؤكد أنها أرادت كتابة مذكراتها، لتتحدث من وجهة نظر امرأة تعرّضت للتهميش من الثورة الإسلامية لكنها ظلت في إيران لتحفر لنفسها دوراً مهنياً وسياسياً في الحكم الديني الناشئ الذي يحظّر ذلك. كذلك، أرادت تصوير كيف تتغير إيران، وهو تغيير يحل على الجمهورية الإسلامية بطرق بطيئة وماكرة ويمكن بسهولة عدم ملاحظتها، وتقديم كتاب يصحّح صورة الإسلام النمطية في الغرب، خصوصاً صورة النساء المسلمات بصفتهن كائنات خانعة بائسة.

تروي عبادي سيرة حياتها منذ ولادتها في العام 1947 في العاصمة الإيرانية طهران في بيت متواضع، وقصة تعليمها ونجاحاتها المهنية المبكرة في أواسط السبعينات كأفضل قاضية في إيران. كذلك تتحدث عن مثل الثورة الإسلامية العليا وعن خيبة أملها حيال الوجهة التي اتخذتها إيران منذ ذلك الحين في ظل توجيهات رجال الدين المتشدّدين. وتروي أيضاً كيف خُفضت رتبتها إلى موظفة إدارية في المحكمة التي كانت تترأسها ذات يوم، بعدما أعلنت السلطات الدينية أن النساء غير مؤهلات للعمل كقضاة.

تتذكر عبادي أيام انتصار الثورة الإسلامية الأولى، حيث كانت «الدعوة» إلى وضع غطاء الرأس أول تحذير من أن الثورة قد تأكل أخواتها. فبعد أيام قليلة فقط من الانتصار عُيّن رجل يدعى فتح الله بني صدر كمشرف موقت على وزارة العدل، فاختارت مجموعة من الموظفين والقضاة بمن فيهم عبادي، التوجه إلى مكتبه وتهنئته، وبعد تبادل التحيات الحارة والتهاني الوردية، وقعت عينا بني صدر عليها فاعتقدت أنه سيشكرها، أو أنه سيعبّر عن أهمية ما يعنيه التزام قاضية أنثى مثلها بالوقوف إلى جانب الثورة، غير أنه بدلاً من ذلك خاطبها قائلاً: «ألا تعتقدين أنه انطلاقاً من الاحترام لقائدنا المحبوب الإمام الخميني الذي أنعم على إيران بعودته، من الأفضل أن تغطي شعرك؟». أحست عبادي بالارتعاش، فبعد انتفاضة شعبية عظيمة استبدلت ملكية تعود إلى العصور القديمة بجمهورية حديثة، ها هو المشرف الجديد على العدالة يتحدث عن الشعر. فجاوبته عبادي: «لم أضع غطاء الرأس في حياتي قط، وسيكون من النفاق أن أبدأ ذلك الآن». فقال بني صدر وكأنه حلّ ببساطة معضلتها: «إذاً لا تكوني منافقة وضعيه عن إيمان».

نوبل

في ما يخصّ جائزة نوبل للسلام، تؤكد عبادي أنها كانت طوال الجزء الأكبر من حياتها كراشدة عرضة للهجوم بسبب مقاربة كانت مؤمنة بها وهي أن تفسير الإسلام المتناغم مع المساواة والديمقراطية تعبير أصيل عن الإيمان، وليس الدين هو ما يعيق المرأة، بل الإملاءات الانتقائية التي يقوم بها الذين يتمنّون عزل النساء في العالم. ولهذا السبب كانت عبادي عرضة للتهديدات من أولئك الذين يدينونها في إيران ككافرة لتجرّؤها على القول إن بوسع الإسلام النظر إلى الأمام. كذلك أدينت خارج بلادها من منتقدي الجمهورية الإسلامية العلمانيين الذين لا تقل مواقفهم جموداً عقائدياً عن مواقف السابقين. تتابع عبادي بأنها وعلى مر أعوام اتُّهمت بأنها لا تستوعب روح الديمقراطية الحقيقية إذا ما كان في وسعها الادعاء بأن الحرية وحقوق الإنسان ليستا بالضرورة على تناقض مع الإسلام. وعندما سمعت أن بيان فوزها بالجائزة يُقرأ بصوت مرتفع، وسمعت أن دينها يذكر خصوصاً بالاقتران مع الدفاع عن حقوق الإيرانيين، علمت في تلك اللحظة ما الذي يجري الاعتراف به: الإيمان بتأويل إيجابي للإسلام وقدرة هذا الإيمان على مساعدة الإيرانيين الذين يطمحون إلى تغيير بلادهم تغييراً سلمياً.

تلفت عبادي في مذكراتها هذه، إلى أن التعويل كثيراً على الحوار السياسي يبدو إفراطاً في التفاؤل، إذا ما أخذنا في الاعتبار البرزخ الموجود بين توقعات الغرب من إيران وميل النظام الإيراني للتوصّل إلى حلول وسط. كذلك، تركّز على العملية السياسية ليس لأنها تتصور إعادة تصميم علاقة جديدة حول مائدة التفاوض في أي وقت قريب بل لأنها لا ترى أي خيار بديل. فينبغي لإيران من جهتها الانتقال سلمياً نحو حكم ديمقراطي يمثّل إرادة أكثرية الإيرانيين. فبين الثورة اليافعة جداً وأعوام الحرب الثمانية، تعب الإيرانيون من سفك الدماء ومن العنف. وكثر هم المستعدون للذهاب إلى السجن أو المجازفة بحيواتهم دفاعاً عن معارضتهم، لكن عبادي لا ترى إيران اليوم كبلد شعبه جاهز لحمل السلاح ضد حكومته.

حقوق الإنسان

تشير عبادي إلى أنه أمام الغرب اليوم خيار هو استخدام الدبلوماسية للضغط على إيران لتغيير سلوكها، من سجل حقوق الإنسان في داخل البلاد إلى طبيعة برنامجها للطاقة النووية. فإبقاء التهديد بتغيير النظام بالقوة العسكرية كخيار مطروح لدى البعض في العالم الغربي يعرّض كل الجهود التي بذلها الإيرانيون المؤيدون للديمقراطية في الأعوام الأخيرة للخطر. وذلك لأن التهديد بالقوة العسكرية يعطي النظام ذريعة لتوجيه الضربات إلى المعارضة الشرعية ولزعزعة المجتمع المدني الوليد الذي يتشكّل ببطء داخل إيران، ويجعل الإيرانيين يتجاوزون استياءهم تجاه النظام ويحتشدون وراء قادتهم غير الشعبيين بسبب النزعة القومية الدفاعية. من هنا تعتقد عبادي بأنه ما من سيناريو أكثر إثارة للقلق وما من تحوّل داخلي أخطر من ذاك الذي يحدثه الغرب من خلال تصوّره لقدرته على جلب الديمقراطية إلى إيران إما عبر الجبروت العسكري وإما عبر إثارة تمرّد عنيف.

أما عن حقوق الإنسان فترى عبادي أن الأهم الآن هو أن يبقي الغرب سجل إيران في مجال حقوق الإنسان في مركز الضوء، بعدما كشف النظام الإسلامي عن حساسيته حيال نقد كهذا. وقد تتمسّك إيران بقوة بحقّها في الطاقة النووية، حتى لو أدى ذلك إلى تحمّلها عقوبات دولية، لكن أكثر صانعي السياسة عقلانية يرون أن سجلاً ملطّخاً لحقوق الإنسان هو بمثابة جرح تتسبّب به إيران لنفسها ويضعف قوتها التفاوضية. وإذا ما تحقق رجال الدين الذين يتولون السلطة من أن وراء الأفق ضربات عسكرية وليس حلاً تفاوضياً، فسيعتبرون أنه ما من حافز وما من مصداقية توافرت لهم بسبب حمايتهم حقوق مواطنيهم. وتعتقد عبادي أيضاً بأن الضغط الأجنبي مفيد، لكن يجب أن يكون صنفاً مناسباً من الضغط، موجهاً نحو هدف معين وله غاية. ففي النهاية، أنتجت الثورة الإسلامية معارضتها، وليس الأقل أهمية فيها جماعة كبيرة من النساء المتعلمات والواعيات اللواتي يصارعن من أجل حقوقهن، ولتغيير بلدهن من دون أن يعيقهن شيء.

تعبّر عبادي عن يقينها بأن ثمن تغيير إيران سلمياً هو تضحية من أجل هدف أسمى. فأشخاص مثلها ومثل المعارضين الذين تمثّلهم سيسقطون على الطريق، وهذا أمر واقع بسيط. فقد تصاعدت التهديدات ضد حياتها منذ تلقت جائزة نوبل للسلام، وعينت الحكومة الإيرانية حراساً شخصيين يلازمونها أربعاً وعشرين ساعة لحمايتها. وتعتبر الكاتبة أن هذا الترتيب غير مريح في أحسن الأحوال. فثمة أوقات تشعر فيها بالخطر أكثر من أوقات أخرى، وثمة لحظات يصبح فيها المناخ السياسي في طهران متوتراً إلى الحد الذي يصبح فيه الكلام همساً ويصبح الخوف حتى من الهواء تقريباً.

Pictures%5C2010%5C03%5C02%5C8780f580-3b62-46ef-8c05-f7413dd925ad_main.jpg


كتاب ضم صوراً وخرائط لمسيرتها:
رحلة هروب المتنبي من الفسطاط إلى الكوفة

مهاب نصر
لم تكن رحلة هروب المتنبي من الفسطاط (مصر) إلى الكوفة (العراق) فرارا من كافور الأخشيدي وما مارسه خلالها من صنوف التعمية والتمويه، إضافة إلى الإعداد المسبق، فريدة في حياته المضطربة القلقة، فهو الشاعر الباحث عن الإمارة والفرادة في أزمنة السقوط الذي ظل يتردد على أبواب العواصم التي تمخضت عن تفكك الخلافة العباسية، باحثا عن بطولة يتماهى فيها مثلما كان حاله مع سيف الدولة. لهذا من الطبيعي أن نعلم أن رحلات المتنبي بدأت منذ طفولته مع والده عندما أخذه معه إلى قبيلة بني كلب في شمال المملكة العربية السعودية.
والمتنبي هو القائل عن نفسه:
فما أزمعت في أرض مقاما
ولا أزمعت عن أرض زوالا
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها يمينا أو شمالا
ومع هذا تظل رحلة فراره الأخير من كافور ثم مقتله بمفارقة شهيرة بعد أن اجتمعت عليه العداوات وتألب عليه الخصوم وصار مطاردا ومطلوبا هي الرحلة الأشهر. وهي الموضوع الأساسي للكتاب الصادر أخيرا في طبعته الثانية بعنوان «قصة هروب المتنبي ورحلته من الفسطاط إلى الكوفة» لمؤلفه فرحان عبدالله أحمد الفرحان الذي أضاف إلى الطبعة الجديدة بعض المعلومات من مصادر جديدة توافرت لديه. ومر المؤلف بالطرق ذاتها التي مر بها المتنبي مسجلا بالصورة بعض نقاط العبور التي مر بها المتنبي.
يضع المؤلف تمهيدا يوضح فيه الأسباب التي دفعت المتنبي إلى المغادرة السرية من الفسطاط حيث كان كافور الطامع في مدح الشاعر الكبير قد وضع عليه العيون والجواسيس ساجنا إياه بطريق غير مباشرة، بينما كان في الوقت نفسه يرفض تحقيق مآرب الشاعر الطامع في منصب أو إمارة، ومن ثم رتب أبو الطيب أموره بما يتوافق مع هذا الواقع المحبط.
عيد بأية حال؟
كان المتنبي يعرف ما أحاطه به كافور - كما يذكر مؤلف الكتاب - من سياج أمني، ولذلك أعد عدة السفر ووضعها في مكان بعيد واحتال حتى يبدو وكأنه في فراشه ليلة الفرار وسار من طرق غير مألوفة بعد أن سلم رسالة لشخص من جلساء كافور يدعى الفرغاني أوصاه أن يعطيها إياه بمناسبة عيد الأضحى متعللا بعدم قدرته على الحضور بنفسه للتهنئة بسبب اعتلال أصابه. وهكذا تقع في يد كافور القصيدة الموجعة والأكثر شهرة في الهجاء والتي يستهلها المتنبي :
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيد دونها بيد
وفي القصيدة يهجو أبو الطيب كافورا هجاء صريحا مقذعا:
صار الخصي إمام الآبقين بها
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
سيرة قلقة
يستعرض المؤلف في الفصلين الأول والثاني سيرة المتنبي وطبيعة الخارطة السياسية في زمنه: «ترعرع المتنبي والبلاد الإسلامية مسرح للفتن والثورات والدعوات من شتى أنواع العناصر والمذاهب، وكان طموحا فدعا لنفسه بين القبائل الضاربة في بادية الشام». لكن طموح المتنبي للرئاسة لم يتوقف عند حد، حتى اتصل بسيف الدولة، غير أن المكائد ودس الحاسدين ألقيا به بعيدا حتى أوصلاه إلى أبواب كافور الأخشيدي. وقد دفع طلب المعالي المتنبي إلى المدح والهجاء، غير أنه امتاز في مدحه كما يذكر المؤلف في الفصل الرابع بأنه يسبغ على الممدوح «صفات الرجل الكامل التي يرى المتنبي أكثرها متوافرا فيه هو نفسه»، ومن ثم جاء مدحه قويا ملتبسا بنبرة ذاتية عالية. غير أن المؤلف يرى أن مدائح المتنبي لكافور جاءت من جهة أخرى قوية من حيث الفن والإحكام الأسلوبي وكأن ذلك تعويض عن كذب العاطفة التي كتبت بها هذه المدائح.
رحلة الهروب
في الفصل الخامس من الكتاب يورد المؤلف تفصيليا رحلة الهروب الأخير حيث اختار المتنبي من الطرق «أقصرها وأكثرها خطرا لبعدها عن النقاط المأهولة التي تقيم فيها حاميات مصرية، وعن المحاور التي تجوبها دوريات رجال كافور». واستغرقت رحلته 104 أيام، وكان قد خرج من الفسطاط ليلة عيد الأضحى. ويتبع المؤلف الفصل الخاص بالهروب بملاحق تتضمن مقالات لأحد الباحثين الذين تناولوا الموضوع ذاته، وهو الباحث أحمد رمزي بك. وأشار المؤلف إلى المستشرق الويس موسيل الذي يعد «أول من بحث عن رحلة المتنبي من الفسطاط إلى الكوفة» ورحلاته التي قام بها متتبعا مسار أبي الطيب.
وقد خلد المتنبي الأماكن التي مر بها في قصائده مثلما كان يفعل الشاعر الجاهلي من قبل.
ولا يختتم المؤلف كتابه المتنوع من دون أن يعرض لموقف أبي العلاء المعري من المتنبي، حيث وضع عنه كتابين في شرح قصائده الأول هو «اللامع العزيزي»، والثاني هو كتاب «معجز أحمد»، وهو ما يبرز إعجاب «رهين المحبسين» بشعر أبي الطيب.
وربما كان أطرف ما في الكتاب هو تلك الخرائط التي يقدمها المؤلف شاهدا على رحلة الشاعر وتوثيقا جغرافيا لتجربة القلق والبحث. وهي خرائط تعيدنا إلى ما كان يعانية العالم الإسلامي من تمزق وانفلات، وإلى حيرة الشاعر والفنان الباحث عن بطولة خاصة في أزمنة انهيار البطولة.

القبس

كتب أجنبية
«ملاذٌ آمن».. هاري ترومان وتأسيس «دولة» إسرائيل

طرحت الأسواق مؤخرا كتابا مثيرا للجدل ومهما للغاية حول أبعاد «العلاقة التاريخية» بين الولايات المتحدة واسرائيل، مستعرضا بشكل تفصيلي دور الرئيس الأميركي هاري ترومان في تأسيس ودعم «دولة» اسرائيل وجعلها من صلب السياسة الخارجية والأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية!!
ويعود بنا الكاتبان آليس ورونالد رادوش إلى تاريخ 14 مايو 1948، حيث أصبحت الولايات المتحدة الأميركية، تحت قيادة الرئيس هاري ترومان، أول أمة ودولة تعترف بدولة إسرائيل، وذلك بعد دقائق قليلة من اعلان سيطرتها على القدس!!
الأكثر تعقيدا
ولكن، يكشف الكاتبان، انه بينما كانت هذه النتيجة متوقعة سلفا بان أميركا سوف ترحب بتشكيل هذه الدولة الجديدة، فإن الرئيس هاري ترومان أقر في السنوات الأخيرة من ولايته انه برغم من يعتبر قراره الاعتراف بدولة اسرائيل انه من أكثر اللحظات فخرا له، إلى انه لم يكن هناك موضوع «أكثر جدلية أو أكثر تعقيدا من مشكلة إسرائيل». وكان قد أخبر مستشاريه المقربين بان هذه المحاولات لحل موضوع «الوطن اليهودي» قد خلفه في حالة من «تعب المعركة السياسية».
ضغط اللوبيات
واعتمادا على مادة ارشيفية لم يسبق أبدا ان تم استخدامها، فإن كتاب «الملاذ الامن» يعد السرد الأكمل حتى اليوم عن الأحداث التي أدت إلى اعتراف أميركا بإسرائيل. ويكشف كل من آليس ورونالد رادوش الضغوط القومية والعالمية التي تحملها ترومان من الناس، بما في ذلك جماعة الضغط واللوبيات الموالية لليهود في العالم، وبعض المستشارين الرئيسيين في البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، وكذلك من البريطانيين وممثلي الأمم المتحدة الجدد الذي تركوا أثارهم على الطرفين وأدوا إلى قرار ترومان.
ويروي الكتابان بطريقة مشوقة، لحظة بلحظة اعادة تشكيل هذه الدروب المتقاطعة في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية والسياسات الشرق أوسطية. والكتاب بمجمله يتمحور حول ذكر دور الرئيس الأميركي هاري ترومان بالتفصيل في تجزئة وتقسيم فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل. وعلى الرغم من ان مؤلفي الكتاب يبدوان متعاطفين مع القضية الصهيونية وترومان، فإنهما يشيران بالتفصيل إلى مواقف وأعمال «الإرهاب الصهيوني» في فلسطين.
ويوثق الكاتبان بالشواهد تأثير جماعات الضغط واللوبيات غير الاعتيادية من قبل المجموعات اليهودية على الادارة والكونغرس، ويصوران خليط الحوافز الذي شكل سياسة ترومان وخياره باتجاه تطوير الأزمة.
رفض هجرة كبيرة
ويصف الكاتبان دوافع ترومان بان تكون أميركا أول دولة تعترف بإسرائيل بانها مزيج من عدة عوامل منها: تعاطفه الشخصي القوي مع القضية اليهودية، إساءة لمأزق اليهود اللاجئين في أعقاب الهولوكوست، وإدراكه بان عامة الشعب الأميركي سوف يقاوم أي هجرة كبيرة جديدة إلى الولايات المتحدة من أوروبا، وأعتقاده بان وزارة الخارجية كانت تبالغ في مخاطر سياسة منحازة لليهود في الشرق الأوسط، وإحساسه بانه يتعين على المملكة المتحدة ان تلتزم بالتزاماتها السابقة حول وعد بلفور، كل هذه الأمور والأفكار يبدو انها قد دارت في ذهن ترومان حسب الوثائق والمراسلات والأحاديث التي يرويها الكتاب.
ويجادل المؤلفان في انه يبدو ان حسابات ترومان السياسية حول هذا الموضوع لم تكن للحصول على مكاسب بقدر ما كانت لتجنب الخسائر، إذ ان أي اشارة للتردد في دعمه «للدولة العبرية» سيجلب له التهديد من كل من اليسار واليمين وسيسقطه وحزبه من الرهانات السياسية في واشنطن وما وراءها. وفي حال كانت سياسته للفوز بتصويت اليهود، قد فشلت، فقد تأهل ترومان بأعجوبة في انتخابات 1948 من دون أصوات الناخبين من نيويورك وبنسلفانيا.



القبس

10712_4-hipr-14_small.jpg


الدين والدهماء والدم
محمود شريح

تأليف: صقر أبو فخر

عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر

صقر أبو فخر المؤرخ والبحّاثة في جديده «الدين والدهماء والدم: العرب واستعصاء الحداثة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007 في 287 صفحة من القطع الكبير) يشنّ حملة شعواء وبلا هوادة على الموروث والشائع. يسجّل مثلاً أنه منذ 800 سنة تبدّدت الحضارة العربية ويكاد العرب اليوم أن يتبدّدوا هباء، وأنهم ما زالوا يتفاخرون بالقول: لولا العرب لهلكت أوروبا وظلت في ظلام العصور الوسطى.

يلحّ أبو فخر على أنه من الضروري تبديد هذه الخرافة كي يستقيم التفكير وحتى تكفّ الخرافة عن أن تصبح البديل من التاريخ، وكعيادة في هذا كلّه أن العقل لدى الغرب هو الإدراك، أي ادراك قوانين الوجود ثم تسخيرها لمصلحة الكائن العاقل، وهو، في هذا المعنى، غير منفصل عن الكائن وله طبيعة شبه عادية. وهنا، في هذا الافتراق، ربما نعثر على معضلة التقدم والتخلّف التي خضعت لها المنطقة العربية بأسرها منذ نحو 800 عام فصاعداً.

الخلافة

وحول مسألة العلمانية والخلافة يرى أبو فخر أن العالم العربي يمرّ الآن بأزمة تشبه، في بعض وجوهها، الأزمة التي مرّت بها أوروبا في القرن الثامن عشر، وهي أزمة تتمثّل في التنافر بين قوى راكدة تريد أن تبقى متشبّثة بالأفكار التقليدية التي ورثتها منذ مئات السنين، وقوى ترغب في الانخراط في سياق العلم ومكتشفاته ومنتجاته ومنظوماته العقلية حتى ولو تناقضت هذه المكتشفات مع «اليقينيات» الدينية الموروثة، ويضيف أبو فخر: «لنتذكّر البابا بيوس التاسع وتصريحاته في سنة 1864 التي دان فيها حرية الضمير وفصل الدولة عن الكنيسة والفلسفات العقلانية؛ أليست هذه القضايا هي ما يدينها رجال الدين المسلمون اليوم؟» (ص23).

طه حسين

وحول فداحة الواقع العربي يرى المؤلّف أن اضطرارنا اليوم، ويا للأسف، الى مواجهة تيارات القرون الوسطى في القرن الحادي والعشرين بالعودة الى طه حسين يشكّل، في حد ذاته، أكبر برهان عن مدى التأخير المريع للفكر العربي، ويضيف أبو فخر: «المسائل العاصفة التي أثارها طه حسين والتنويريون العرب كان ينبغي أن تكون حُسمت منذ زمن بعيد. وأخشى أن تصبح النوعة الماضوية، أي استعادة الماضي ولو بطريقة نقدية، استلاباً فكرياً، وهي دليل، في أي حال، على خواء الحاضر الذي ليس خاوياً تماماً» (ص47).

ويلاحظ صقر أبو فخر أن واحدة من علامات الانحدار التي تعصف بمجتمعاتنا العربية هي الانحسار في دور العلم والفكر وازدياد دور الدعاة والفقهاء ورجال الدين، ولو أن المجتمعات العربية تتقدم «لكانت حجّتنا ضعيفة في هذه الحال. لكن الدول العربية، والإسلامية استطراداً، هي أسطع برهان عن أنها الأسوأ في حقول العلم والمعرفة والتقدم الاجتماعي والتنمية الإنسانية، وفي مجال الحريات وحقوق الإنسان والأخلاق واحترام الفرد والجماعات وعدم اضطهاد الآخرين من أتباع الديانات الأخرى» (ص 73). في «ساتر يا رب»

هذه بعض محاور كتاب صقر أبو فخر «الدين والدهماء والدم» وهي محاور كثيرة تثير جدلاً وتساؤلاً. إنه كتاب جريء لمؤلف جريء.

العالم العربي يمرّ الآن بأزمة تشبه، في بعض وجوهها، الأزمة التي مرّت بها أوروبا في القرن الثامن عشر، وهي أزمة تتمثّل في التنافر بين قوى راكدة تريد أن تبقى متشبّثة بالأفكار التقليدية التي ورثتها منذ مئات السنين، وقوى ترغب في الانخراط في سياق العلم ومكتشفاته ومنتجاته ومنظوماته العقلية حتى ولو تناقضت هذه المكتشفات مع “اليقينيات” الدينية الموروثة.

38391_g1_small.jpg


ولاية الدولة ودولة الفقيه

الجريده

تأليف: السيد علي

الأمين الناشر: سلسلة هيا بنا

يناقش السيد علي الأمين في كتابه «ولاية الدولة ودولة الفقيه» الصادر لدى سلسلة «هيا بنا» ولاية الفقيه ويرد القارئ إلى جذورها التاريخية في الماضي البعيد والقريب منه راسماً للشيعة الأطر التي تكمن فيها مصلحتهم بادءاًً بالاختلافات التي نشأت بين العلماء الشيعة حول علاقتهم بالدولة في عصر الغيبة.

يقول الأمين ان الآراء اختلفت في هذا المجال. فمنهم من ذهب إلى عدم جواز التعامل معها بصفتها غاصبة للحق من أهله الشرعيين، وقائمة على الظلم والجور. ومنهم من ذهب إلى شرعيتها وإلى ضرورة المشاركة فيها وإقامة العلاقات معها، حفظاً للنظام العام وتحقيقاً لمصالح الناس، ودفعاً للأضرار والمفاسد، ويعود هذا النزاع برأي الأمين إلى أوائل القرن الماضي، عندما طالبت بعض الجماعات الدينية والاجتماعية في ايران بإدخال إصلاحات على النظام الملكي آنذاك. ووقف في وجه تلك الحركة الإصلاحية بعض العلماء الذين أصبحوا من حيث لا يدرون أو يدرون من المؤيدين للاستبداد والرافضين للإصلاح من خلال النظرة السلبية إلى الدولة والسلطة، وما يتفرع عنهما، واستندوا في ذلك إلى القول بعدم جدوى استبدال ظالم بآخر وبقيت هذه الشبهة مستحكمة في أذهان الكثيرين في زماننا. ومرد هذه الشبهة عائد إلى بعض المصطلحات التي تدرس في علم الفقه، حيث يطلق على الفقيه الجامع للشرائط بأنه الحاكم الشرعي، بحيث يفهم أن كل حاكم سواه هو غاصب للسلطة، فاقد للشرعية، مع أن المقصود من مصطلح الحاكم الشرعي ناظر إلى أهلية إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، وليس ناظراً إلى الحكومة الفعلية والسلطة السياسية المنبثقة عن نظام سياسي مدني وغير مدني.

ويستند السيد الأمين في تعريفه هذا إلى الحاكم الشرعي على ما أشار إليه الإمام علي في جوابه عن شبهة الخوارج وشعارهم عندما قالوا: «ليس لك الحكم يا علي، الحكم لله» فقال كلمة حق يراد بها باطل، نعم لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله وإنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمّن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر.

وبذلك يقول السيد الامين إن الإمام علي أبطل هذه الشبهة المؤدية إلى الفراغ القاتل وانهيار الدولة التي لا بد للمجتمع من قيامها ، ووجوب العمل فيها على الموالي والمعارض، مع غضّ النظر عن الرفض والقبول والإيمان والكفر بهذه الإمرة والحاكمية، حفظاً لضرورات انتظام المجتمعات واستمرارها واستقرارها.

يستشهد السيد الأمين بأقوال للإمام علي ولبعض الفقهاء في مسألة التعريف بالسلطة والإمرة والولاية، الذين جردوها من الأوصاف الدينية، وعرفوها من خلال دورها المدني في حياة المجتمع الإنساني بقولهم: «إنها إقامة وظائف لازمة لرعاية المصلحة العامة «قائمة على حالة تعاقدية ناشئة عن التوافق والتراضي بين الأفراد والمجتمعات، على صيغة من صيغ الحكم وشكل من أشكال الإدارة التي تحفظ بها الأمانة، وهي ليست بطبيعة الحال من باب الإلزام الديني والتكليف الإلهي.

ولاية سياسية

وهذا المعنى التعاقدي لنشوء الولاية وفقاً للأصل المتقدم يتفق مع الاتجاه الفقهي الرافض لثبوت ولاية سياسية للفقيه خارج تلك الحالة التعاقدية، فإذا أصبح طرفاً فيها لانتهاء السلطة إليه، بسبب من الأسباب، كما لو وقع عليه الاختيار لحكم البلاد، ثبتت له تلك الولاية حينئذٍ بوصفه حاكماً ووالياً لا بوصفه فقيهاً.

لا تكون هذه الولاية خارجة عن كونها طوراً بشرياً من أطوار الولاية تخضع لموازين النقد والاعتراض واعتبارات التغيير والتطوير، ولا تتمتع بحق إلهي يخرجها عن دائرة الخطأ والحساب كما قال الإمام علي في كلام له موجّه إلى الرعيّة قائلاً: «ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطىء ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني».

ثورة الخميني

أما كيف انتقلت ولاية الفقيه من منطلقاتها الحقوقية والدينية إلى الإطار السياسي البحت، فيعود برأيه ذلك إلى زمن انتصار ثورة الخميني في إيران». لذلك يبدأ السيد الأمين بوصف التعريفات المعمول بها لولاية الفقيه بنظر الفقهاء أنها قامت أصلاً كولاية على المحتاجين إليها ممن فقدوا الأولياء والأهلية الشرعية لإتمام معاملاتهم الشخصية وليس للولاية عليهم في آرائهم وأفكارهم السياسية والحياتية الأخرى. فضلاً عن الولاية على غيرهم من واجدي الأهلية والشخصية الحقوقية الكاملة.

يذكر الامين بما جاء في كلمات الفقهاء أن الفقيه هو ولي الغائب والصغير والذي لا وليّ له، وأنه ولي الممتنع عن أداء الحق والدين وما شاكل ذلك، وهذا يعني أن الولاية التي بحثوا عنها ليست ولاية على عموم الناس، إنما هي على تقدير ثبوتها، ولاية على الذين لا أولياء لهم.

قفزت هذه المسألة العلمية الفقهية إلى واجهة البحث السياسي وتجاوزت حدودها الأنفة الذكر كما يقول السيد الأمين بعد وصول الإمام الخميني إلى سدة الحكم في إيران، باعتباره فقيهاً ومرجعاً دينياً، وقد استلزم وصوله إلى السلطة والحكم الكثير من التعريفات التي تجاوزت الولاية فيها حدود الولاية المعروفة والثابتة في الأحوال الشخصية إلى التصرف في الدماء والأموال، وهي تصرفات تعتبر حسب الذهنية العامة عند الشيعة وبحسب السائد الفقهي، من صلاحيات النبي والإمام المعصوم أو المأذون من قبلهما، فالسعي للإمساك بالسلطة السياسية الذي يؤدي إلى إزهاق النفوس وإتلاف الأموال ومصادرتها في عصر غيبة الإمام يحتاج إلى المبرّر الشرعي المستند إلى أدلة شرعية من الكتاب والسنة.

يحاجج السيد الأمين هذا التجاوز الذي قامت به السلطة الحاكمة في إيران الخميني بإعادة التذكير بدور الرسل والأنبياء كما هو معروف عند أهل الملل والأديان والكتب السماوية كلّها. إن الهدف الأساسي الذي يسعى الانبياء لتحقيقه في المجتمعات البشرية لم يكن بالدرجة الأولى مشروعاً سياسياً، هادفاً إلى إقامة نظام سياسي، وتسلّم السلطة فيه، وإنما كان الهدف الأساسي والأولي من بعثة الأنبياء وإرسال الرسل التربية والتعليم للناس، حاملين لهم دعوة الإيمان ورسالة الهداية والإرشاد إلى سواء السبيل وإقامة الحجة عليهم بإظهار الحق وبيان الطريق القويم والصراط المستقيم الذي لا عوج فيه.

مصلحة الشيعة

ينهي السيد الأمين كتابه في البحث عن دور الشيعة في أوطانهم. والموقف الذي يجب أن يتخذوه من مسألة ولاية الفقيه، فيقول إنه ليس من مصلحة الشيعة أن يكونوا خارج إطار المسلمين عامة أو أن يكون لهم مشروعهم الخاص في أوطانهم أينما وجدوا. ويعتبر أن نظرية ولاية الفقيه، قد تأثرت بمسألة الخلافة بعد رسول الله، وبمن يملأ فراغ السلطة والقيادة بعد وفاته، وقد أجمع علماء الشيعة على أن الإمام علي هو الأولى بالحكم وصاحب الحق بالخلافة اعتماداً على النصوص المتواترة والواردة عن رسول الله فالأولى هو الأفضل، وإن كانت في بعض جوانبها مرتبطة فكرياً بالبحث في النصوص الشرعية إلا أنها من الناحية العملية أصبحت بحثاً يشبه البحث التاريخي. ولم يعد لها من هذه الناحية تأثير في عصر الدول الحديثة والمجتمعات والشعوب المتعدّدة الأديان والمذاهب والطوائف المتشاركة مع بعضها في الحكم وإنتاج السلطة. معيداً المسألة إلى التمييز في موقفه الرافض لولاية الفقيه عبر قوله أن أولوية الإمام علي بالحكم شيء وأولوية الشيعي بالحكم شيء آخر. فالشيعي وغيره في مسألة الحكم على حدّ سواء، فهما من عائلة واحدة ومن وطن واحد، والشرعية يستمدّها الحاكم من تجسيده للعدالة في البلاد والعباد، وليس من خلال انتمائه المذهبي أو الديني .


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 24-11-2010، الساعة 06:26 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
27-02-2010, 04:11 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

ساره


تأليف : عباس محمود العقاد
عدد الصفحات : 164
المقاس : 20 × 14
ISBN : 977-14-0917-4
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
06-03-2010, 01:24 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

38853_salah-issacmyk.jpg


ملفّات أحمد فؤاد نجم
صعلوك في مواجهة النظام


صدر لدى دار «الشروق» في القاهرة كتاب «شاعر تكدير الأمن العام». الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم. «دراسة ووثائق» لصلاح عيسى الذي يعتبر أن نجم ظلّ حريصاً على دور «الشاعر المحرض» الرافض للانضمام لأيّ تنظيم وهو ما كان نجم يصرّ عليه في التحقيقات كلما تعرض لتجربة الاعتقال المتكررة بسبب قصائده. يطل صلاح عيسى بأسلوبه الرشيق على الملفات القضائية لنجم مستعيناً بالمصادر الرسمية والصحف ليأخذنا في رحلة صحفية شائقة.

يتناول في الجزء الأول منها تاريخ ما يسمّى «بالجرائم التعبيرية» مثل الشعر والأغاني والأفلام والمسرحيات والقصص، وما تعرض له الفنانون في مصر في العصر الحديث يرصد المؤلف 12 قضية في وثائق التاريخ المصري المعاصر تضم أوراقاً قضائية «تتخذ من الابداع الأدبي والفني والفكري جسماً وحيداً للجريمة» أولها قصيدة لمصطفى لطفي المنفلوطي (1866-1924) اعتبرت طعناً في الذات الخديوية حيث استقبل بها الخديو عباس حلمي الثاني (حكم بين عامي 1892-1914) حين عاد من مصيفه بالآستانة عام 1897 وسجن المنفلوطي بسببها لمدة عام. ثم تتوالى قضية بيرم التونسي وطه حسين ويوسف شاهين. ثم يعرض قصة نجم غير العادية بتفاصيلها الممتعة. وما تعرض له هذا الشاعر المعارض من مضايقات وحملات من السلطة أدت الى التحقيق معه أكثر من مرة.

منظمات شيوعية

والمعروف ان أحمد فؤاد نجم كان حريصاً على استقلاله كشاعر شعبي وأنه «رفض كل محاولات المنظمات الشيوعية لضمه لعضويتها لكي يكون صوتاً لها» وهو ما تسبب في توتر العلاقات بينه وبين هذه المنظمات. ويعد نجم الملقب بـ{الفاجومي» من أبرز شعراء القصيدة ذات الطابع السياسي. شكّل نجم مع الملحن الشيخ إمام (1918-1995) ثنائياً منذ الستينات وقد أزعجت قصائده السلطات المصرية وأدت الى اعتقالهما في عهدي الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات.

يستند صلاح عيسى في قضية نجم الى الأوراق القضائية متمثلة في تحقيقات النيابة العامة مع الشاعر بسبب «ما يوصف بأن قصائده المناهضة» في أعوام 1972 و1973 و1974 و1975 و1977 والتي انتهت بتقديمه في العام الأخير الى محاكمة عسكرية حكمت عليه بالسجن سنة لتأليفه قصيدة «بيان هام» التي تتضمن «الاسم الكودي للرئيس (السادات)... (هي) واحدة من عيون الشعر السياسي العربي وأنفذها رؤية وتحليلا لظاهرة الحكم السلطوي الديماغوجي» حيث تتناول القصيدة بياناً مهماً يلقيه زعيم الدولة شحاته المعسل من العاصمة «شقلبان» والمعسل في مصر هو التبغ المستخدم في تدخين النرجيلة وهو اشارة الى حالة السكر التي يعانيها زعيم الدولة بطل القصيدة.

يقول عيسى إن محاكمة نجم بسبب قصيدته «بيان هام» التي كان يقلد فيها السادات أثناء إلقائها فيُضحك الحاضرين لم تستغرق أمام المحكمة العسكرية سوى أسبوع، وصدر الحكم يوم 25 آذار 1978 بحبسه سنة مع الشغل والنفاذ بعد أن أدين بتهمتي إهانة رئيس الجمهورية وإثارة الفتن. وظل نجم هارباً من تنفيذ الحكم أكثر من ثلاث سنوات الى أن قبض عليه أثناء حملة طالت مثقفين وصحفيين في أيلول 1981.

ثقافة الهامش

و{جيل» أحمد فؤاد نجم والمغنّي الشيخ إمام عنوان مرحلة عصيبة. فهما أقاما في هامش الثقافة الرسميّة، وشبه الرسميّة، إلاّ أنهما أسّسا إحدى اللحظات القليلة عربيّاً حيث الهامش ينافس المتن في فعاليّته ويفوقه، حتماً، شباباً وحيويّة. ولأن «الثنائي» نجم _ امام كان ناقماً على التقاليد ولم يكن بعيداً عن الجماهير، فالسلطة الناصريّة اعتقلت الشيخ إمام، ذات مرّة عام 1969، على غنائه، واعتقلت الاثنين، مرّة أخرى، بذريعة تعاطيهما المخدّرات! وكان هذا المسّ بالمحرّم الاجتماعيّ مما يوسّع دائرة الانجذاب الشبابيّ إليهما. يرى صلاح عيسى في كتابه أن نجم ظل متمسكا باستقلاله كشاعر شعبي وأنه «رفض كل محاولات المنظمات الشيوعية لضمه لعضويتها لكي يكون صوتاً لها» وهو ما تسبب في توتر العلاقات بينه وبين هذه المنظمات.

كان الثنائي «نجم _ إمام» «متمردَين» في كل مرحلة. فأحمد فؤاد نجم الذي أصبحت التلفزيونات تأتي الى باب بيته للقائه في التسعينات، طًرد من على باب التلفزيون المصري في السبعينات، والشيخ امام انطلق بعد ذلك إلى مصر بصحبة عمه ليدرس في الجمعية الشرعية أصول التجويد القرآني على يد الشيخ محمد رفعت. لكنه طرد من الجمعية بعد ما ضبط متلبساً يستمع إلى تلاوة للشيخ محمد رفعت عبر المذياع في أحد مقاهي القاهرة. وبعدها عاش حياة التشرد، ينام ليلاً في المساجد، وفي النهار يقرأ في البيوت والمقاهي وفي حفلات خاصة متنقلاً في أحياء القاهرة الفقيرة إلى أن وصل إلى حارة الغورية إذ التقى هناك بكبار شيوخ الطرب آنذاك فتعلم على يد الشيخ درويش الحريري العزف على آلة العود. بعد لقائه أحمد فؤاد نجم شكلا ثنائياً وأنجزا الأغاني السياسية الانتقادية. بذلك مارس الشيخ إمام التمرد فناً ومسرحاً، شهدت له سجون القاهرة آنذاك، فهو لا يلبث أن يخرج من السجن حتى يعود إليه هو ورفاقه مشكلين من الزنزانة الصغيرة أغنيات معبرة:

اتجمعوا العشاق في سجن القلعة

اتجمعوا العشاق في باب النصر

اتجمعوا العشاق في الزنزانة

مهما يطول السجن مهما يطول القهر

مهما يطول السجن في السجانة

مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر.

انتهى نجم نجماً في الفضائيات العربية، لم يعد شعره غواية الجمهور بل طلاته وسخريته وشتائمه لهذه وذاك.

نبذة

ولد نجم عام 1929 في إحدى قرى محافظة الشرقية شمال البلاد وبعد وفاة أبيه قررت الأسرة إلحاقه بملجأ خيري للأطفال اليتامى والفقراء، يوفر لهم الإقامة ومبادئ التعليم والتدريب على بعض الحِرَف.

يقول المؤلف إن نجم ظل بالملجأ تسع سنوات ثم عمل ببعض المهن إلى أن عيّن بوزارة المواصلات ثم قبض عليه عام 1960 بتهمة الاشتراك مع زميل له في تزوير أوراق حكومية.

في فترة السجن تعرف نجم على كتاب شيوعيين ممن اعتقلهم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر عام 1959 واستمع نجم منهم إلى قصائد لشاعر العامية المصرية البارز فؤاد حداد الذي كان في معتقل آخر.

وقد لفتت موهبة نجم انتباه ضباط السجن فشجعوه ونظموا له أمسيات شعرية ونشرت قصائده في مجلة كانت تصدرها مصلحة السجون قبل أن تكون مادة لديوانه الأول «من الحياة والسجن». وعاد إلى الواجهة في السنوات الأخيرة حين كتب قصائد ساخرة منها «ألف سلامة لضهر سيادتك» بعد أن أغشي على الرئيس المصري حسني مبارك أثناء إلقائه كلمة في مجلس الشعب في نوفمبر عام 2003.

وفي نهاية أغسطس الماضي اختارت المجموعة العربية في النداء العالمي من أجل مكافحة الفقر نجم ليكون ناطقا في المحافل الدولية باسم فقراء العالم العربي، وسفيراً لفقراء العالم إلى جانب الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا.

الجريده

Pictures%5C2010%5C03%5C09%5Cebdb2a29-9578-4d2a-8ac7-dc1ec159de16_main.jpg



كتاب يتناول تعايش الطوائف في ظل الدولة العثمانية
نصارى القدس من النشأة حتى نهاية القرن التاسع عشر

سعى الباحث د. أحمد إبراهيم القضاة في كتابه «نصارى القدس» الصادر أخيراً، بالتعاون بين مركز دراسات الوحدة العربية والهيئة المصرية العامة للكتاب، إلى تقديم خريطة شاملة للجماعات المسيحية التي استوطنت مدينة القدس، متتبعاً تاريخها منذ نشأتها القديمة حتى نهاية القرن التاسع عشر، معتمداً على الوثائق التي توافرت له عن المسيحيين في ظل الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر، راصداً في كتابه ـ البالغ 320 صفحة من القطع الكبير ـ

تسعة طوائف مسيحية اعترفت بها السلطنة العثمانية، وفي مقدمتها الروم الأرثوذكس الذين كانت تعد كنيستهم أسمى الكنائس، نظراً لعدد التابعين لها ـ أكثر من عشرة ملايين من رعايا الدولة العثمانية ـ ولما منحته روسيا لها من حماية، ولانتشارها في مدينة القدس من قبل مجيء الفتح الإسلامي، ومن ثم فقد حظيت ببطريرك ينتخب من بين أعضاء الطائفة، ويصدق عليه بمرسوم سلطاني، ثم تليها طائفة الروم الكاثوليك التي انشقت عن الأرثوذكس عام 1724، فاضطهدهم الأرثوذكس والدولة العثمانية التي ما كانت تعترف بالطوائف المنشقة عن أصول لها، فضلاً عن اعتبارها الأرثوذكس مواطنين عثمانيين بموجب المرسوم الصادر من محمد الفاتح عام 1454، الذي أعطى الحرية الدينية لطوائف السلطنة وأقر لها حرية اختيار رئيسها، بينما كان الكاثوليك قلة وفي أغلبهم من رعايا الدول الأجنبية رغم أنها سورية المنشأ، وظلت هذه الطائفة غير معترف بها حتى تدخلت حكومتا فرنسا والنمسا لدى السلطان محمود الثاني عام 1833، فأصبح البطريرك الكاثوليكي يعين بموجب مرسوم براءة من السلطان العثماني، أما طائفة الأرمن فهي أقدم بكثير، إذ اعترف بها العثمانيون كملّة عام 1461، وذهب القضاة إلى أن هذه الطائفة من أكثر الطوائف الدينية اعتدالاً وغنى، نظراً لعمل التابعين لها في التجارة، وقد كانت إلى فترة طويلة تضم في جنباتها الطوائف المسيحية غير المعترف بها كالأرمن والأحباش والقبط والسريان، وكان يعين لها بطريركان، أحدهما في الأستانة ويمثل مركز القوة لانتشار الثقل الأرمني في كردستان، والثاني في القدس ويتبعه الأرمن الذين في حلب والقدس وغزة ونابلس وطرابلس، ورغم الاستقلال الإداري الذي كان يتمتع به الأخير غير أنه لم يكن يعين إلا بعد موافقة بطريرك الاستانة.
طائفة اللاتين
وتعود نشأة طائفة اللاتين إلى الوجود الصليبي في القدس في العصور الوسطى، حيث بقيت منهم بعض الأعداد التي استوطنت القدس والمدن التي كانت محتلة من قبلهم في الشام، فقامت هذه الأعداد على خدمة الحجيج القادمين من أوروبا، وحراسة الأماكن المقدسة التي عهد إليهم بها، و اعترف بهم المماليك كملة مستقلة عام 1342م، لكنها ظلت محرومة من وجود بطريرك لها في القدس حتى عام 1847، حين نصب البابا بيوس التاسع الأنبا يوسف فاليركا بطريركاً لكرسي أورشليم، وجاء هذا التعيين بعد سيطرة محمد علي على الشام، وإتاحته الحرية الدينية لشتى الطوائف بها، فضلاً عن النشاط الواسع الذي أحدثه الوجود البروتستانتي في القدس، فقد ظهرت لأول مرة الأسقفية الإنغليكانية عام 1841، مما جعل اللاتين يطالبون بإعادة التوازن مع النشاط البروتستانتي الغربي واليوناني الأرثوذكسي في المدينة، وقد تكونت البطريركية اللاتينية في ذلك الوقت من أربعة آلاف نسمة، وثماني كنائس في القدس والناصرية وبيت لحم ويافا وعكا وحيفا والرملة وعين كرم، ودير واحد في تراسانطة، وهؤلاء الرعايا في أغلبهم من أصول ليست مقدسية.
الأقباط أقدم الطوائف
أما طائفة الأقباط فهي من أقدم الطوائف، إذ قدمت إلى القدس عام 335 م لتدشين افتتاح كنيسة القيامة التي أقامتها الملكة هيلانة، وقد جاءت في معيتهم طائفتا الأحباش والسريان اللتان كانتا تتبعان الكنيسة القبطية في الإسكندرية، ونظراً لقلة عدد رعايا هذه الطوائف الثلاث فقد كانوا يعيشون في كنف الأرمن الأكثر عدداً وثراء في دير السلطان، ولم تتحسن الحالة الاقتصادية للأقباط إلا مع الحكم المصري للشام، فبنى القبط عام 1839 على يد الأنبا إبراهام خان القبط بمحلة النصارى، وجعلوا ما فوقه ديراً لزائري القدس من الأقباط، لكن الأحباش كانت حالتهم أكثر سوءاً، ولم تتحسن إلا في نهاية القرن التاسع عشر حين تولى أمرهم جريس أفندي الذي اتصل بنجاشي الحبشة يوحنا، فأرسل له الأموال اللازمة لسد حاجاتهم وشراء قطعة أرض خارج أسوار القدس، فبنوا عليها كنيسة الأحباش، في حين توزع السريان عام 1662 ما بين أرثوذكس وكاثوليك، فإن كنيستهم بقيت تابعة للأرثوذكس، وفشلت كل المحاولات المتعاطفة من قبل البطاركة الأرمن معهم في إقناع السلطان العثماني بإصدار مرسوم براءة خاص بهم . أما الموارنة فهم ينسبون إلى القديس مار مارون المولود عام 410 م في سوريا، ولم تكن طائفتهم، وفق ما تقول الوثائق، ذات تعداد كبير في القدس، حتى اندلعت فتنة 1860 في لبنان، فتوافدت أعداد منهم إلى المدينة، وقد حاول مار يوحنا في نهاية القرن التاسع عشر إقامة بطريركية خاصة بهم، فاشترى محلاً واسعاً على جبل صهيون بالقرب من برج داوود وبنى عليه مقراً، غير أن السلطنة العثمانية لم تمنحه صك براءة الملة، ومن ثم لم تعتمد تعيينه بطريركاً من قبلها .
البروتستانت و التبشير
وأوضحت الوثائق التي اعتمد عليها القضاة أن بداية ظهور طائفة البروتستانت تعود إلى عام 1820 حين قاموا بأولى عملياتهم التبشيرية في القدس، لكن الدولة العثمانية اعترضت على هذا النشاط، جعلت عقوبة من يدخل من المسلمين في دين النصارى الإعدام، فظل البروتستانت مضطهدين من قبل العثمانيين والطوائف المسيحية الأخرى حتى أتاح محمد علي الحرية لشتى الجماعات الدينية، فهيأ المناخ لعودة التبشير البروتستانتي، ويبدو أن أوروبا كلها كانت منشغلة بهذا الأمر، فلم تمض عشر سنوات ـ 1941 ـ حتى تفاوض ملك بروسيا فريدريك فيلهلم الرابع وملكة بريطانيا ورئيس أساقفة كانتربري وليام هاولي على تأسيس أسقفية بروتستانتية مشتركة في القدس، وتم اختيار المبشر سولومون ألكسندر ليكون أسقفاً على هذه المطرانية عام 1845، وانصب اهتمام سولومون على بناء كنيسة بروتستانتية على جبل صهيون، وبعد حصوله على الإذن بذلك مارست بريطانيا وبروسيا ضغوطهما على السلطان العثماني كي يصدر مرسوماً بالاعتراف بالملة البروتستانتية، وبالفعل صدر المرسوم في أكتوبر 1850، ولأن البروتستانت منقسمون منذ البدء إلى جماعات وقوميات ولغات متمايزة،
تعايش الملل
وذهب القضاة إلى أن شتى الطوائف تمتعت بإدارة شؤونها المدنية والدينية وفق نظام الملل العثماني، وأن الزواج كان يتم بين أبناء الملة الواحدة، ونادراً ما حدث تزاوج بين الأرثوذكس واللاتين بسبب العداء المذهبي بينهما، وكان الزواج على مرحلتين، الأولى هي الخطوبة، وكانت تتم بحضور الكاهن وتستمر لسنوات، والثانية هي الزواج ويتم بحضور الكاهن، وكانت الأفراح تمتد إلى ثلاثة أيام من الاحتفالات، حتى غضب المسلمون من ذلك فصدر مرسوم سلطاني بمنع احتفالات الزواج لدى المسلمين والنصارى معاً، ويختلف المهر من ملة الى أخرى، ويعد الطلاق محرماً في شتى الملل، ولا يحدث إلا في حالات الزنى أو تغيير الملة، كما يعد الزواج للمرة الثانية محرماً، ولا يحدث إلا في حالة الطلاق أو الموت، وقد اقتصر زي النصارى على اللونين الأزرق والأسود، ثم ألزمت الدولة العثمانية شتى موظفيها ـ ما عدا رجال الدين ـ المسلمين والمسيحيين بارتداء الطربوش، فحدث نوع من التقارب في الزي بين المسلمين والمسيحيين، ولم يسمح للنصارى بامتلاك الرقيق إلا بعد دخول محمد علي الشام، وصدور خطة التنظيمات الخيرية عام 1856، وقد أنشا المصريون مجلساً للشورى في كل مدينة يزيد تعداد أهلها على ألفي نسمة، واشترطوا أن يمثل فيه كل أبناء الطوائف الدينية، كما اعتمدوا نظام المختار الذي تختاره الدولة لإبلاغ أهل ملته في القرية التابع لها بالقوانين، وأقيم مجلس اختيارية في كل قرية، وكان لاختيارية النصارى مجلس خاص بهم، ومن ثم فقد اندرج النصارى في الجهاز الإداري.

القبس

150785_ssssss_small.jpg







السنّة والإصلاح... نقد بميزان العقل
بيروت - عبدالله أحمد

صدرت حديثاً عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» وعن «منشورات الاختلاف» و{دار الأمان» رؤية نقدية لكتاب عبد الله العروي «السنة والإصلاح» للكاتبين عبد السلام محمد البكاري والصديق محمد بو علام ضمن الحلقة الثانية من سلسلة أحاديث وقضايا.

في مقدمة الكتاب يؤكد المؤلفان أن «السنة والإصلاح» للدكتور عبد الله العروي يستدعي نقداً عميقاً للافتراءات والشبه التي تضمنها، والتي حاول من خلالها تقديم السنة المحمدية في صورة مخالفة لصورتها الحقيقية، وقصد التشكيك فيها وتوهين مكانتها في العقول والنفوس. ويتوخى المؤلفان في هذا النقد وزن أقوال العروي بميزان العقل والنقل معاً. كذلك يرجعان إلى التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية مقتبسين من صفحاتهما دلائل واقعية خالدة تفند ما ذهب إليه العروي في كتابه.

يلخص الكاتبان أهم ما احتواه كتابهما من مواضيع تتطلب النقد، فقد سعيا في الفصل الأول من الباب الأول إلى بيان مصادر افتراءات العروي ومنطلقاتها وغاياتها. ويناقشان في الفصل الثاني تصور العروي لعلاقة الوحي بالعقل، ومعرفة الله، والصفات الإلهية، وقضية الإيمان والعلم الحديث، والعلوم الإنسانية الإسلامية والترابط العضوي بين الكون والمجتمع والأخلاق، مبينين خطر التفلسف في غير محله، ومؤكدين حاجة الإنسانية إلى الرسالات السماوية.

أما في الفصل الأول من الباب الثاني، فيدحض المؤلفان جانباً توهمات المؤلف حول قصة سيدنا إبراهيم، مبينين قوة يقين هذا النبي الكريم، وحقيقة نبوّته ورسالته، وميزة القصص الحق، وغلبة الخيال على تصورات العروي، وأن قصة إبراهيم ليست امتداداً للثقافة الهلستينية كما زعم مبرزين قيمة الطموح العلمي والعملي في الإسلام. أما في الفصل الثاني فيؤكد البكاري وبو علام بطلان القول بالحلول والتجسد، ويبينان حقائق التوحيد وأباطيل التجسيد، ووحدة الرسالات والنبوات، وأن الله تعالى ليس كلمة، وأن تجربة مدعي التثليث والبنوة لله ليست هي تجربة الموحدين، وأن عقيدة التوحيد لا تنشأ عنها الشبهات، والفرق بين الإسلام، واليهود والنصرانية المحرفتين، والمفاصلة التامة بين الإسلام وأديان الشرك.

هدى الله

في الفصل الأول من الباب الثالث يذكر الكاتبان بمنهج الذين هدى الله وأمر نبيه بالاقتداء بهم، ويؤكدان أن القرآن الكريم كتاب مبين لا ألغاز فيه ولا غموض، ويوضحان في الفصل الثاني أن القرآن ليس نسخة جاءت من الثقافة الهلستينية، كذلك يبرزان مقاصد الإسلام، وعقيدة أمة التوحيد، وخلو القرآن الكريم من أي شبهة وأن أهل السنة والجماعة أبعد الفرق عن الهوى، وأن المسيحية المحرفة غير مقبولة عقلاً ونقلاً وذوقاً. ويؤكدان في الفصل الثالث تكريم الإسلام للمرأة، وأن القرآن الكريم محفوظ ومعجزة خالدة، وأنه مبين مصدراً ورسالة ومقاصد ونظماً، وأن الإسلام ليس قراءة لشعب دونت في نص مضبوط.

أما في الفصل الأول من الباب الرابع فيكشف المؤلفان استخدام حيل التضليل والافتراء، ويفندان نسبة القرآن الكريم إلى الأساطير، ويبينان أن التوحيد ليس انصهاراً للوثنية كما توهم العروي وأن الإسلام هو الذي نقل العرب من الجاهلية إلى الإيمان والتوحيد، والختان سنة مؤكدة من سنن الفطرة وشعار الإسلام، ويوضحان أن الاستبداد لم يكن مقابلاً للتوحيد وأن ترتيب السور توفيقي حكيم بليغ معجز. كذلك يؤكدان انسجام الأسلوب القرآني، ووحدة القرآن العضوية، وأن الذين يعلمون والذين لا يعلمون لا يستوون، وأن فاتحة القرآن هي سورة الحمد. ويفندان في الفصل الثالث، دعوة العروي إلى قراءة القرآن الكريم بحسب تسلسل غامض،. ويبينان مجازفته وبعده عن الدقة العلمية ويذكران بحقيقة أن لله الأسماء الحسنى، وأن النبي محمد لم يأت بهذه الأسماء من عنده، وأن المسؤولية فردية وجماعية في التصور الإسلامي، داحضين ما افتراه العروي على الرسول الكريم.

في الفصل الرابع من الباب الرابع، يبين المؤلفان أن نسبة القرآن الكريم إلى النبي من تضليل المستشرقين وأذنابهم، ويقدمان صورة حال عن العرب في الجاهلية، ويتحدثان عن الإعجاز الكوني والإعجاز القرآني، كاشفين عن السؤال الخفي في خطاب المؤلف، مبرزين الفرق بين الحياد والنفاق، وأن الهجرة كانت بأمر الله ولتحقيق مراده، مذكرين بأسباب دعوة النبي إلى مكة. كذلك يوضحان ألا أثر للزمن في القرآن الكريم بل هو المحيط بالزمن والتاريخ، وأن الخطاب القرآني مصدر الهداية، مفندين التفسير التاريخي المادي، مبينين ألا أحد يعلم الساعة إلا الله، إضافة إلى ذلك يردان على اتهامات العروي للصحابة، ويناقشان النظرة التطورية التاريخانية ونتائجها الخاطئة، ويبرزان تماسك الدولة الإسلامية وأسسها وواقعية أحكام الشريعة الإسلامية وصلاحيتها، ويختمان الفصل بالحديث عن بعض مكارم الرسول محمد.

السنة

يؤكد البكاري وبو علام في الفصل الثاني من الباب الخامس أن مصادر الدين الإسلامي، أي القرآن الكريم والسنة والسيرة النبويتين، إضافة إلى الفقه الإسلامي مصادر موثوقة محفوظة، ويكشفان في الفصل الثالث عن فشل محاولات توهين مكانة السنة. كذلك يبرزان قيمة المصالح المرسلة في الإسلام، وقمة التحري والنزاهة والأمانة لدى علماء الحديث، وأن أصل عقيدة أهل السنة والجماعة هو مشكاة النبوة، وأن مذهب الخوارج ليس هو العلاج كما توهم العروي، بل مذهب أهل السنة والجماعة هو الحل المناسب لمآزق العصر، وأن الإسلام ليس إنشاء جماعة معينة، مبرزين، في الختام، إمكان الإجماع في نفسه.

أما في الفصل الأول من الباب السادس، يفند البكاري وبو علام دعوى رجوع القرآن الكريم إلى الوضع الهلستيني، ويؤكدان أن قوة السنة النبوية ذاتية، ويوضحان في الفصل الثاني أن الوسطية والاعتدال من جواهر الإسلام، ولم يملهما أسياد مكة، ويدحضان اتهام العروي لعلماء الحديث باستمالة الحكام، كاشفين مجدداً عن الأصول الاستشراقية لمزاعمه، ومؤكدين علاقة فكر الإسلام بالواقع، مبينين الفرق بين موقفي المعتزلة والحنابلة، وكيف جمع الإمامان مالك وأبو حنيفة بين الرأي والحديث، وبعد ذلك ينبه الكاتبان إلى أن الأحاديث النبوية لم تتكاثر نتيجة لحوادث الحياة بعد الرسول، كما زعم المؤلف، وتحدثا عن الإمام أحمد بن حنبل ومسنده، نافيين أي تناقض بين السنة والتطور، مع الإشارة إلى جذور التحامل على السنة. كذلك يشيران، في الفصل الثالث، إلى حرية الفكر وفضيلة الحوار والاجتهاد في الإسلام، وحرية القاضي وصلاحياته، موضحين أن تحكيم النص الشرعي لا يؤدي إلى تراجع العقل، إضافة إلى إبرازهما موقف ابن حزم، ونظرية المعرفة الإسلامية وتكامل العلوم النافعة، وأن العلم يزيد وينقص وكذلك الإيمان، وأن العلم في الإسلام رواية ودراية.

في الفصل الأول من الباب السابع يذكر الكاتبان بأن الافتراء على أهل السنة لن يجدي الحداثيين، ويسجلان اعتراف المؤلف بصحة منهج السنة رغماً عنه، ويفندان ما ادعاه الأخباريون من أكاذيب حول النبي إدريس، ويبرزان قيمة علم المناظرة في الإسلام، وأن الصوفية الأبرار أحرص الناس على اتباع السنة، وأن أصل الهزائم الإعراض عنها، وفهم الإنسان للقرآن الكريم لا يمكن أن يتجاوز المدرسة السنية. كذلك يوضحان موقف أهل السنة من الفرق الضالة، فيما يبينان، في الفصل الثاني، ألا علاقة بين عقيدة التوحيد واسبداد الحاكم، داحضين أوهام التفسير التاريخاني، ومؤكدين أن المساواة في الإسلام واقع لا مجرد شعار، مبرزين موقف السنة من الأمية، وأن ليس كل جديد بدعة، مفندين افتراءات أخرى على الصوفية.

يؤكد الكاتبان أيضاً أن عقل السنة يقظ مجتهد مستبصر، وأنها خطاب وسلوك، ويتحدثان ختاماً عن علم النفس الإسلامي، مبينين في الفصل الثالث حقوق المرأة في الإسلام، وأن حديث السنة الصحيحة عن الماضي والمستقبل حق، وأنها ليست تكوناً مستمراً كما ادعى المؤلف، وأنها تشجع على البحث العلمي وتدعو إلى التفكر. كذلك يتحدثان عن إعجاز السنة العلمي، داحضين تصور العروي للوحي والرسول، مبرزين الحجة البالغة للإسلام والسنة، والعلاقة بين الاستعمارين القديم والجديد، ويدحضان في الختام محاولة العروي البائسة لتسويغ العلمانية، مؤكدين أن السنة النبوية هدفها إسعاد البشرية.

سيوران في تاريخ ويوتوبيا...
الأيديولوجيّات تختلق فراديس في الزمن
بيروت - محمد الحجيري

150631_tarikh.jpg


في ترجمته كتاب «تاريخ ويوتوبيا» للفيسلوف الفرنسي أميل سيوران، اختار المترجم التونسي آدم فتحي أن ينقل إلينا «جنساً أدبياً» جديداً كان سيوران أول من دعا إليه ودافع عنه. ولقي هذا الجنس بعد ذلك شهرة كبيرة مع كتّاب فرنسيين كبار، أمثال موريس بلانشو وجورج بيروس.

يضم «تاريخ ويوتوبيا» مقالات مطولة سيوران فيها أقرب الى المؤرخ منه الى الفيلسوف، فيبحث عن الدوافع الخفية وراء مختلف الأنظمة السياسية، معتبراً أن الأيديولوجيات تختلق فراديس في الزمن، ويكون موقعها إما في الماضي (النشأة) أو في المستقبل، ذلك بحسب الرغبة في الدعوة إلى الحنين إلى الماضي، أو إلى عبادة التقدم.

«تاريخ ويوتوبيا» بحسب ما كتب أيمن حسن في المقدمة أكبر كتب سيوران نظاماً ونسقية في بنيته الفكرية والأسلوبية، «يطرح قضايا حالية» هي قضايا علاقتنا مع التاريخ، تاريخنا، في تبلوره وسيره جنباً الى جنب مع اليوتوبيا، أي أحلامنا وكوابيسنا معاً، التي ما استطعنا بعد رؤيتها بشيء من التروي والنضج في الفكر والقول والعمل على حد سواء. والتأريخ بالنسبة إلى سيوران نقيض الأخلاق. وإذا بدأنا بالإيغال فيه والاستغراق بالتفكير يكون أمراً غير ممكن تماماً ألا نقع في التشاؤم. فالمؤرخ – المتفائل هو النقيض أساساً. ومثل هذا الشخص أعجز عن تصوره. بالنسبة إليه التأريخ نظام نظري اكتشفه في وقت متأخر جداً، وفي شبابه منعه كبرياؤه المفرط من أن يقرأ المؤرخين. فحينها قرأ الفلاسفة فحسب ثم تركهم وأخذ يقرأ الشعراء. وفي عمر الأربعين اكتشف التأريخ الذي لم يعرفه سابقاً، فأصابه الفزع. كان ذلك أحد أكبر درس للكلبية استطاع تصوره. رؤياه للأشياء كانت دوماً، غير مسرّة، لكن عند اكتشاف التأريخ طرد الأوهام كافة.

وإذا كان «تاريخ ويوتوبيا» ينتمي الى جنس الفكر أو المقالة الفكرية، فإن كتابة سيوران تتجاوز هذه المنظومة أو تتحرر منها، لتثبت وََهنَ النظريات كافة الخاصة بالأجناس الأدبية. فـ{الكتابة هنا كتابة فحسب. كتابة تنسلخ عن الأجناس كي تصير ماهيتها، ماهية ذاتها تحديداً، أي فعلاً شمولياً إن نمّ عن شيء فعن إيمان عميق بعبثية كل شيء، حتى الكتابة ذاتها». سيوران الذي قرأنا للمرة الأولى عبر كتابه «توقيعات» بترجمة صعبة الفهم صدرت عن «دار الجديد» في بيروت، قرأنا له كتاباً عن «دار الجمل» بعنوان «المياه كلها بلون الغرق»، وحديثاً نشر أحد المواقع الثقافية ترجمات لبعض شذراته وحوارات معه تبين أقنعته في الكتابة، بل هذيانه في كتابة الشذرات والمقاطع الفلسفية، فسيوران دأب على الكتابة والنشر طوال حياته في ما لا يدع مجالاً للشك في حرصه على الحضور إلا أنه كان يريد حضورا خالياً من الضجيج والمعمعة، ظل حريصاً على الإقامة في الظل بعيداً عن الإعلام ولعله كان أسعد حالاً طوال الثلاثين سنة التي ظلت كتبه خلالها تطبع في نسخ محدودة لتعتني بها قلة من النقاد والمعجبين، فهو رأى أن «النسيان لا يطاول إلا الكتاب الذين «فهموا» والذين لم يعرفوا كيف يضمنون «سوء فهم» الآخرين لهم». إلا أن شهرته تضاعفت بعد صدور «رسالة في التحلل»، ضمن سلسلة كتاب «الجيب» ونقل أعماله الى الإنكليزية والألمانية عند منحه جائزة «بول موران» عام 1988، فاضطر الى رفضها لأن التكريم لا يعني له إلا شيئاً واحدا ظل طوال حياته يعتبره منافياً للقدر اللائق بكاتب مثله، وقال متحدثاً عن بورخيس: «لا عقوبة أشد من التكريس، ما إن يصبح الكاتب مرجع الجميع حتى يتعذر الرجوع إليه خشية أن نزيد حشد المعجبين به أي خشية أن نزيد أعدائه». ‏

اللافت في «تاريخ ويوتوبيا» المترجم حديثاً الأسلوب الذي اعتمده سيوران والنسقية في توليف الأفكار وترتيبها وحشدها، وهو لا يبتعد كثيراً عن أسلوب الشذرات الذي اشتهر به سيوران. والحال أن نتاج سيوران في معظمه على شكل مصنفات شذرية مقطعية تدور حول عدد من المسائل الرئيسة، بل الاستحواذية، ذلك في تأملات متقطعة تأتي تارة على صيغة أفكار مبعثرة وطوراً كملاحظات عابرة مصاغة في جمل مقطعية. يبدو أحياناً أن هذه الخواطر السريعة آتية من بعيد، أبعد من الكتابة ذاتها، فتتجلى كـ{ومضات وعي»، وما على الكاتب سوى نقلها إلى الورق كما، بحسب فابريس زيمر في كتابه «سيوران، رحلة في أعماق الأنا».

ذكر سيوران: «أكتب الشذرة ليتسنى لي التناقض مع نفسي. التناقض جزء لا يتجزأ من طبيعتي، وطبيعة الناس كلهم». إن كانت الشذرة السيورانية لا تهدف إلى أي استنتاج أو اقناع، فإنها تطلق من حين إلى آخر وميضاً من الصفاء يبدو العالم فيه فاقداً لكل معنى. كتابة تحمل تأملاً حول نزوات صاحبها المتقلّبة التي لا تهدأ على حال.

منطلق سيوران عند اللجوء إلى الشذرات ابتعاده عن كل أسلوب في إقناع القارئ، معتمداً على الأدلة والبراهين وغير ذلك من المعدات المعروفة. إذ أخذ بنهج الشذرة كطرح مكثف لتأملاته ومواقفه الفلسفية. وإذا كانت أقواله قائمة على المفارقة فالأمر يرجع الى موقفه المشبع باليأس الوجودي إزاء الإشكاليات الأساسية كالوجود والأنا والآخر. وقد يكون مردّ أخذه بنهج القول المأثور شكه العميق بالكلمة ذاتها. فقد أوضح ذات مرة: «لماذا كل صمت هو شيء مقدّس؟ لأن الكلمة هي، عادة، مع استثناء لحظات متميزة تماماً، هي تدنيس». واعتبر أن الشيء الوحيد الذي يرفع الإنسان فوق الحيوان هو الكلمة، إلا أنها من جهة أخرى تضعه غالباً تحت مرتبة الحيوان.

إلى جانب الشذرات، أعمال سيوران ذات نهج قائم على المقطعية أي تجنب الأخذ بنهج البحث والدراسة، ما أبعده عن التقاليد المتبعة لدى الفلاسفة الذين كان يكنّ لهم النفور بل الاحتقار.

فكر سيوران دوماً في ترك الكتابة جانباً، أو الإقلال منها إلى أبعد حد، لكنه، في كل مرة، كان ينساق وراء اللعبة. كانت الكتابة بالنسبة إليه استجابة لضرورة ما وطريقة للتخلص من نفسه، واختصاراً للأشياء كلها، «ما إن نكتب شيئاً حتى يكون قد فقد سحره، صار بلا معنى، لقد قتلنا الشيء كما قتلنا ذواتنا، كانت للكتابة وظيفة ما، عكس الآن». إذ لاحظ أن الذين لا يكتبون لديهم منابع أكثر من الذين يكتبون، لأنهم يحتفظون لأنفسهم بكل شيء. أن تكتب، معناه أن تفرغ نفسك من أجمل ما فيها. من يكتب إذاً شخص يفرغ نفسه، وهو في نهاية المطاف، يصير عدماً، هكذا فالكتاب عديمو الأهمية، يعتقد سيوران أنهم أفرغوا حتى من كينونتهم وصاروا أشباحاً، إنهم أناس بارزون جداً، لكن من غير كينونة.

أمام الفلسفة والفكر، يختار سيوران الشعر والموسيقى. بل قال إنه «من الأفضل أن يكون المرء مؤلف أوبريت على أن يكون صاحب ستة كتب في لغة لا يفهمها أحد...». سيوران مثل الشاعر يخاتل شكوكه ليتعاطى الكلمة ويحوّل اللاواقع إلى واقع صيغي. الشاعر؟ «هذا الوحش الذي يراود خلاصه عبر الكلمة والذي يملأ خواء الكون برهن الخواء تحديداً»، لكن هذا الفراغ ملأته الموسيقى، الحياة بلا موسيقى حماقة حقيقية. فإننا لسنا بحاجة الى الكتابة ما دمنا لا نستطيع التعبير بالكلمات عن إحساس ذي طابع موسيقي.

نبذة

ولد أميل ميشال سيوران في 8 أبريل (نيسان) عام 1911 في رازيناري، قرية في مقاطعة ترانسلفانيا الرومانية، من أب قس أرثوذوكسي، وعرف منذ طفولته بحبه العزلة والتنزه في الجبال المحيطة بقريته. التحق عام 1920 بالمدرسة الثانوية في مدينة سيبيو المجاورة. وأمضى الأعوام بين 1928 و1932 في جامعة بوخارست حيث حصل على دبلوم حول الفيلسوف برغسون. وتحدث سيوران عن حالات من الأرق واليأس لازمته خلال هذه المرحلة فأوحت إليه بكتابه الأول الذي ألفه عام 1932 ونشر عام 1934 بعنوان «على ذرى اليأس «ثم أعقبته عناوين أخرى مثل «كتاب الخدع» و{دموع وقديسون».

خلال العام الدراسي 1934 - 1935 حصل على منحة دراسية في ألمانيا لإعداد أطروحة في الفلسفة لكنه لم يفعل شيئاً ومر بمرحلة عقم في حياته لم تميزها سوى رحلة الى باريس لمدة شهر قرر إثرها الإقامة في فرنسا. فعاد الى رومانيا وعمل على تحقيق هذا الهدف. هناك حصل على منحة من المعهد الفرنسي في بوخارست للتدريس في باريس التي وصل اليها عام 1937. وخلال الأعوام الأولى من إقامته وضع كتاب «غروب الأفكار» ونشره بالرومانية في سيبيو.

الجريده

العرب في المحرقة النازية ــ ضحايا منسيون
سليمان بختي

13248_2-hipr-30_small.jpg


تأليف: غرهرد هُب

عن دار قدمس

يطرح هذا الكتاب قضية جديرة بالتحقق والاعتبار والانتباه. وضعه الباحث الألماني غرهرد هُب تحت عنوان «العرب في المحرقة النازية ــ ضحايا منسيون!؟» ونقله الى العربية محمد جديد. يعرض المؤلف النتائج الأولى لأبحاثه حول فئة من الضحايا هي فئة المعتقلين العرب في معسكرات الاعتقال النازية الألمانية بين عامي 1939 و1945 ويمكن مقارنة هذا العدد من هؤلاء المعتقلين بعدد المعتقلين المنتمين الى الأمم الصغيرة، وإن لم تكن آلامهم أقل شأناً أو أقل معاناة من آلام الملايين من المعتقلين الآخرين من غير اليهود. فالعرب لم يكونوا من المعتقلين المتمتعين بالامتيازات، لكنهم كانوا من ضحايا النازية «المنسيين» آنذاك ومن جملة ما أدى اليه ذلك أن ثمة حديثاً اليوم عن المقترفين أو المذنبين من العرب. ليس ما يبعث على العجب أن التأريخ العربي وغير العربي هو في صدد العلاقات العربية ــ الالمانية بين 1933 و1945 ولعلّ المناقشات التي تثار حول علاقة العرب بالنازية أو النازية الجديدة والمحرقة يغلب عليها الحديث عن المذنبين الذين نشروا تجاربهم وعلاقاتهم مع النازية في مذكرات أو سير ذاتية.

الواقع أن الباحث يذكر في كتابه الذين تعاونوا مع النازية بصفة سياسيين وعسكريين ورجال دعاية وهم: أمين الحسيني، رشيد عالي الكيلاني، يونس البحري، يوسف الرويسي، مصطفى بشير، كامل مروه، كمال الدين الآل، منير الريس، محمود حسين العرابي، فوزي القاوقجي، ابراهيم الراوي، صلاح الدين الصباغ، كمال عجمان حداد، ناجي أوقات، محمد عزت دروزه، فاضل أرسلان، نبيه وعادل العامة، أنطون سعادة، عبد الخالق طريز، محمد حسن الوزاني، محمد المكي النغيري، عبد الهادي بو غالب. والجدير ذكره انه في ما يخص انطون سعادة يؤكد الباحث جان دايه في كتابه (سعادة والنازية) (2005 ــ طبقة ثانية) عدم وجود أي علاقة لسعادة مع النازية بعد مراجعة وثائق الخارجية الألمانية من دون أن ينفي لقاءات سعادة مع بعض المسؤولين الألمان إثر زيارته لألمانيا في العام 1938.

لكن هذه العلاقات لا تقطع مع ضرورة إعادة تركيب ألوان المشاهدات والتجارب المتصلة بضحايا النازية من العرب، والتي تعد بالنظر الى هذا مطلباً من مطالب الانسانية ومساهمة في كتابة جديدة لتاريخ العلاقات العربية الألمانية بين 1933 و1945 ولو على نحو جزئي.

صناعة الهولوكوست

من هنا يعيد هذا الكتاب تعريف الألمان والعرب والعالم بحقيقة أن العرب، مسلمين ومسيحيين، كانوا أيضاً من ضحايا الإجرام النازي، وبالتالي يجب إخراج هذه الحقيقة من العتمة الى الضوء وإلى ساحة التاريخ وإنهاء عملية احتكار دور الضحية من قبل اليهود ووضع حد لصناعة الهولوكوست وابتزاز العالم. كذلك تعريف الناس بخطر الفكر العنصري الإرهابي الذي لا يستثني أحداً من اجرامه.

إذا كان المؤلف ينطلق من تساؤله الصريح حول عدم إيلاء ضحايا النازية والفاشية من العرب أهمية في كتابة التاريخ العربي وغير العربي من ناحية والاهتمام المكثف بتعاون السياسيين العرب مع النازية والفاشية من ناحية ثانية فإن ذلك يشير الى تواطؤ مريب، علماً أن المؤلف يعتبر أن معاداة السامية لم تسق عربياً الى غرفة غاز ألمانية بل ان العنصرية والإرهاب هما ما دفع العرب وسواهم الى ذلك المصير!

الذاكرة الجماعية

لكن السؤال هو: من هم هؤلاء العرب الذين غيبوا ولم تذكرهم اللوائح ولم يلتفت اليهم التاريخ؟ مع أن الباحث يجدهم في بحثه الجاد الدؤوب وتقميشه رغم التمويه، فمعظمهم صُنف تحت بند التبعية الفرنسية والإيطالية والإسبانية وشعوب المستعمرات. هذا الترميز أوقعهم في التغييب والنسيان. لكن بعد تحطيم هذا الترميز الاستعماري والتماس التفاصيل وكشف البيانات نجد اسماءهم وأماكن ولادتهم وعاداتهم وحتى يصل العدد الى ألف معتقل عربي على الأقل. معظم المعتقلين هم من شمال افريقيا. لكن المؤلم في هذه القضية أن هؤلاء الضحايا لا يجدون، حتى اليوم، مكاناً لهم، لا في الذاكرة الجماعية ولا في ذاكرة شعوبهم ولا في حالات رد الاعتبار. تحوّلوا الى نوع من الضحايا المنسية المجهولة «ضحايا الآخرين». يتناول الكاتب في بحثه 945 معتقلاً عربياً باسمائهم ووفق توزعهم في معسكرات الاعتقال، والعدد الأكبر من الجزائر (248) والأقل من لبنان (1).

ويميز المؤلف ستة أسباب لتحويل هؤلاء الى معسكرات الاعتقال:

1- للمشاركة في كفاح المقاومة ضد النازيين ولا سيما فرنسا.

2- المشاركة في الحرب الإسبانية الى جانب الجمهوريين.

3- كان كثير من المعتقلين من العمال الأجانب وعمال السخرة السابقين ومن اتباع منظمة تودت أسرى حرب.

4- كان بعض المعتقلين موجودين في المعتقلات بسبب التصرف الذي ينطوي على انتهاك القانون في ما يتعلق بتوجيهات الدولة في المعسكر.

5- الانتماء الى اليهودية وكان بين نزلاء معسكرات الاعتقال من العرب أناس كثيرون يشار الى سبب اعتقالهم بكونهم يهوداً جيء بهم الى معسكرات الاعتقال لأسباب عنصرية.

6- كانت الأغلبية الكبيرة من المعتقلين من العمال المدنيين السالفين، ومن أسرى الحرب من الرايخ، ومن المناطق المحتلة، وكان يزج بهم في المعسكرات من عمليات التمشيط والتطهير.

المحرقة والتسييس

يحمل هذا الكتاب قضية ويفتح موضوعه الباب لإعادة النظر في التاريخ على ضوء معلومات جديدة حقيقية كشف عنها بعد مراجعة محفوظات الدولة النمسوية في فيينا ولايبزغ، وولاية برندنبورغ/ بوتسدام، ومراجعة الوثائق الألمانية المتوافرة في الوزارات الألمانية المتعلقة بهذا الشأن. وهو محاولة لرفع الاحتكار عن قضية المحرقة وإنقاذها من المتاجرة والمصانعة والتسييس.

وللوصول الى العدالة التاريخية وإعادة النظر في وقائع تاريخنا الإنسانية ومصائر أبناء العرب في العالم. وكي لا يصير تاريخ بلادنا تاريخاً منسياً وشبيهاً بمصير العرب في المحرقة النازية.

إستهداف إيران
ميشال مراد

14338_8--hipr-36_small.jpg


تأليف: سكوت ريتر

ترجمة: أمين الأيوبي

عن الدار العربية للعلوم

لا شك في أن الملف النووي الإيراني من أخطر الملفات التي واجهت العالم عبر تاريخه، أزمة تجرى اليوم بشأنها لقاءات بين كبار الممثلين لسياسة الاتحاد الأوروبي وكبار المفاوضين الإيرانيين وسط رفض طهران تعليق نشاطات نخصيب اليورانيوم.

اتهم الأميركيون إيران منذ 20 عاماً، بأنها ستمتلك قنبلة نووية في العام المقبل. هم الذين لا يجدون حلاً سوى لجم إيران ومنعها من استكمال أي نشاط حتى لو كان محدوداً، علماً أنّ ما من بند في معاهدة عدم انتشار السلاح يشير إلى موجبات مماثلة.

عايش سكوت ريتر مؤلف كتاب «استهداف ايران» فترة طويلة هذه المعاناة. فهو كان أحد كبار مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة في العراق في الفترة الواقعة بين عامي 1991 و1998، وكان خدم قبل عمله مع الأمم المتحدة، ضابطاً في مشاة البحرية الأميركية ومستشاراً للجنرال نورمان شوارزكوف في شؤون الصواريخ البالستية أثناء حرب الخليج الأولى.

في هذا الكتاب يروي سكوت ريتر قصة تحدّيه للسلطة الأميركية في الفترة التي سبقت غزو العراق وكشفه الأكاذيب التي نشرتها ادارة بوش والقسم الأكبر من وسائل الإعلام حول أسلحة الدمار الشامل العراقية.

غداة الفشل التام في السيطرة العسكرية والسياسية على العراق ثبتت صحة اتهام المؤلف بأن هذا التبرير لم يكن إلاّ ذريعة أطلقها الحكم الأميركي بهدف إطاحة صدام حسين والاستيلاء على النفط والإمساك بالمنطقة.

محور الشر

يقول سكوت ريتر إن البيت الأبيض وحلفاءه المحافظين يحبكون اليوم السيناريو نفسه ويطلقون التحذيرات عن برنامج ايراني مزعوم لصنع أسلحة نووية. ما يدعم هذه التحذيرات في بعض نواحيها تصاريح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي غالباً ما يهاجم إسرائيل والغرب بشراسة في خطبه زاعماً أن الإبادة الجماعية التي تدعيها إسرائيل بحق شعبها ليست أكثر من أسطورة وهميّة.

منذ مطلع العام 2002 صاغ الرئيس بوش في خطابه عبارة «محور الشرّ» للمرة الأولى بطريقة علنية، وكان يشير بذلك الى العراق وإيران وكوريا الشمالية. قال: «إن دولاً كهذه وحلفاءها الإرهابيين يشكلون محور شرّ يتسلح من أجل تهديد السلم العالمي. وبسعيها الى امتلاك أسلحة الدمار الشامل تشكل هذه الأنظمة خطراً داهماً ومتنامياً، كما يمكنها توفير هذه الأسلحة للإرهابيين لتصبح في أيديهم وسائل تضاهي كراهيتهم فيستطيعون شنّ هجمات على حلفائنا أو محاولة ابتزاز الولايات المتحدة. وفي أيّ من هذه الحالات سيكون ثمن اللامبالاة كارثيّاً». أعطى بوش نفسه حق اقتلاع الشر الذي بات يهدد العالم بنظره، وأوّل هدف له سيكون صدام، ومن بعده دور إيران.

باتت المواءمة أمراً واقعاً وأصبحت ايران عضواً مؤسساً في محور الشرّ الذي وصفه جورج بوش. تمّ ربط إيران والعراق باستراتيجية عامة للأمن القومي لادارة بوش تمحورت حول تغيير إقليمي للأنظمة في الشرق الأوسط وتبني فكرة تنفيذ عمليات عسكرية استباقية أحادية الجانب بوصفها الآلية الرئيسية لتنفيذ هذه الاستراتيجية.

في ذلك الوقت شعر المواطن الإيراني علي رضا جعفر زادة، مسؤول الارتباط الرئيسي لدى الكونغرس والمتحدث الصحافي باسم المكتب التمثيلي للبرلمان الإيراني في المنفى والمجلس الوطني للمقاومة في إيران، بأن الوقت حان لتغيير جذري في النظام الإيراني فدعا «لجنة إيران الديمقراطية» المرتبطة مباشرة بإسرائيل ومنظمة «مجاهدي خلق» الى الضغط على الولايات المتحدة لتشمل حربها على العراق الجمهورية الإيرانية أيضاً، وتلك كانت حال حكومة أرييل شارون ففي حين لم تكن إسرائيل لتذرف الدموع على اسقاط نظام صدام سرى اعتقاد واسع أن على الولايات المتحدة أن تتهيأ بعد غزو العراق لاكمال مهمتها من المنظار الإسرائيلي أي تغيير النظام في كل من سوريا وإيران وضرب حزب الله في لبنان وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها حماس في فلسطين.

تقاسم أرييل شارون ووزير دفاعه بن أليعازر مع نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الخوف من برنامج التسلح النووي الإيراني واعتقادهم أن ايران ستمتلك أسلحة نووية بحلول العام 2005. تزايد هذا الشعور عندما أثار الرئيس بوش مسألة بناء مفاعل نووي في بوشهر مع الرئيس بوتين. لكن الروس فاجأوا الجميع بالتوقيع على اتفاق مع الايرانيين يقضي ببناء خمس منشآت نووية إضافية لتوليد الطاقة في ايران. ورغم احتجاج الولايات المتحدة الشديد فإن الروس مضوا قدماً في تنفيذها ضمن خطة تعاون مع الإيرانيين تمتد الى عشرة أعوام.

وعاد جعفر زادة ليكشف عن العديد من البرامج النووية السريّة التي يجري العمل عليها من دون معرفة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأكثرها أهمية منشأة ناتانز النووية ومنشأة آراك التي تقع في وسط إيران. تحوّلت هذه المعلومات التي أفضى بها الى أزمة عالمية هددت في صيف 2006 بدفع العالم الى شفير الهاوية.

إقتراحات إيرانية

بناء على هذه المعلومات غير المؤكدة وعلى مزاعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة بأن كل نشاط تقوم به ايران وله علاقة بمواد نووية، سواء أكان لأغراض سلمية أم لا، فإنه يدخل في سياق برنامج لإنتاج أسلحة نووية، وسعت السلطة الحاكمة في أميركا نطاق حملتها ضدّ إيران وشرعت ادارة بوش تبذل قصارى جهدها لنقل تركيز أي مواجهة وشيكة مع ايران الى معادلة تضعها في مواجهة العالم كله.
يقول سكوت ريتر إن ايران كانت تسعى الى حمل الولايات المتحدة على الدخول في حوار مباشر في أعقاب الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 إلى حدّ أنها اقترحت عبر وسيط سويسري التوصل الى سلام دائم مع اسرائيل يرتكز على اعلان بيروت 2002، كما اقترحت قطع الأموال عن حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية والسعي الى وقف الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين داخل حدود العام 1967، ووافقت ايضاً على صيغة خاصة بأعمال التفتيش عن الأسلحة النووية وموادها، لكن ادارة بوش لم ترد على المبادرة الإيرانية لأن سياستها الأساسية تهدف الى تغيير النظام في ايران لا التفاوض معه والسماح باستمرار وجوده.
«استهداف ايران» تقويم استخباراتي قومي أعدّه المؤلف وتوصل من خلاله الى خلاصة مفادها أن التاريخ يعيد نفسه. فأوجه الشبه التي سلكتها الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا وروسيا والأمم المتحدة في غزو العراق هي نفسها التي تسكلها اليوم لدخول حرب مع إيران. الوقت ليس متأخراً لكي تغيّر أميركا المسار الذي انتهجته منذ عدة سنين، لكن هذا التغيير في المسار يتطلب مشاركة من المواطنين الأميركيين ورفض لسياسة بوش وإدارته، كما يتطلب اعادة انعاش الكونغرس بدم جديد وتطلعات إيجابية بعيدة عن العجرفة والفوقية في إملاء طريقة للتعايش على ستة مليارات من البشر!

تذوّق

لم تكن المشكلة الرئيسية في اتفاق باريس تكمن في التفاصيل التي تتحدث عن واجبات ايران المتعلقة بتعليق برامج التخصيب، وإنما في مدة هذا التعليق. فقد اعترف اتفاق باريس بأن التعليق الإيراني غير ملزم، وموقت، وطوعي. لكن ما فشل في التصدي له كان الموقف الإيراني من أن تعليق نشاطات التخصيب سيستمر لفترة طويلة وحسب. فقد أعلن رئيس مصلحة تشخيص النظام، الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، عن موقف ايران بشأن تحديد المدة التي يمكن توقعها لأي تعليق لنشاطات التخصيب، قائلاً: «أنا لا أعتقد بأنه ينبغي أن يزيد سقف هذه المدة عن ستة شهور لكي نثبت لهم بأن إيران لا تسعى الى تطبيقات عسكرية».

أوضحت إسرائيل والولايات المتحدة خطوطهما الحمراء المتعلقة بالطموحات النووية الإيرانية: لا تخصيب. ولكن كان لدى إيران خطوطها الحمراء الخاصة بها، كما أشار المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي صرح بأن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تتخلى عن نشاطاتها النووية بالتأكيد».

كان اتفاق باريس مجرد تدبير موقت من المحتم أن يلاقي الفشل ما لم تكن إيران أو الولايات المتحدة (وإسرائيل) على استعداد لتغيير موقفها. وهذا ما يفسر، أكثر من أي شيء آخر، الموقف الذي اتخذته إدارة بوش عشية التوقيع على اتفاق باريس وصدور التقرير الإيجابي للوكالة الدولية، حيث عبرت الولايات المتحدة عن دعمها الحذر لمبادرة الترويكا الأوروبية.

بذلت الولايات المتحدة جهداً في ديسمبر/ كانون الأول 2004 من أجل زيادة فاعلية محاولاتها لإحالة الملف الإيراني الى مجلس الأمن عندما شرعت في جهود لحرمان البرادعي من الحصول على ولاية ثالثة على التوالي. حقق البرادعي لنفسه سمعة طيبة لنزاهته وشدته في تعامله لا في القضيتين العرا قية والكورية الشمالية وحسب، بل وفي الوقوف في وجه الولايات المتحدة في مسألة البرنامج النووي العراقي. وعندما واجهت الولايات المتحدة صعوبة في بثّ الحماسة حتى في أقرب حلفائها للتخلص من البرادعي، قام جون بولتون شخصياً بخطوة غير عادية عندما أمر وراجع بنفسه الاتصالات التي تم اعتراضها والتي دارت بين البرادعي وغيرْ في مسعى للعثور على دليل يثبت ارتكاب عمل خاطئ. لم يتم اكتشاف شيء، وتم تثبيت البرادعي في منصبه للمرة الثالثة بدون مشكلات. ولكن الشعور بالكراهية استمر بين المدير العام للوكالة الدولية والولايات المتحدة.

151545_untitled_small.jpg



السيميولوجيا الاجتماعية لمحسن بوعزيزي... سلطة العلامة والرمز
بيروت - عبدالله أحمد

صدر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية كتاب «السيميولوجيا الاجتماعية» للدكتور محسن بوعزيزي، ويندرج في مجالات العلامة الاجتماعية، التي تتحرك في الوسط الاجتماعي، وما تحمله من مؤثرات ومؤشرات، كذلك يرصد حركة هذه العلامة في حلّها وترحالها، ضمن عالم سوسيو- ثقافي وتاريخي معين. هذا الطموح يدفع باتجاه التشريع العلمي لمقاربة سيميو- سوسيولوجية، لا تكتفي ببناء نسق العلامات فحسب، بل تربطه بالسياقات الاجتماعية التي أنتجته.

ينبّه الكتاب إلى ما يتضمّن عالمنا الاجتماعي من أنسجة رمزية تضجّ بعلاماتها، في المدينة والشارع والتسميات والرصيف والسيارة، هكذا فإن السيميولوجيا التي تضمنها فوق لسانية، تتجاوز حدود اللغة لتلازم الظواهر الاجتماعية بحثاً عن نصياتها.

كذلك، يعتني بالتعبيرات اللسانية، وغير اللسانية، التي تسكن مجالاتنا وأمكنتنا الاجتماعية. ويحاول رؤية ما لا يُرى عادة من نصيات وأنسجة رمزية يصعب الإمساك بخيوطها من دون مقاربة تسمح بالتنافذ بين السيميولوجيا والسوسيولوجيا، ضمن حقل منهجي ومعرفي واحد، وما كان ليدرك هذا المنال، فيبني ما يسميه «النص الاجتماعي» لو كان اكتفى بهذه المقاربة من دون تلك.

يراهن المؤلف على البحث في منطقة التقاطع، نظرياً وتطبيقياً، بين حقلين معرفيين، ظلا متباعدين على الأقل في سوسيولوجيّتنا العربية. وقد تمكّن هذا التداخل من تحقيق مكسبين؛ الأول، إفساح المجال أمام السوسيولوجي ليبني نصه الاجتماعي من غير المكتوب، كأن ينسج مثلاً من المطارات أو من الفضاءات التجارية الكبرى نصاً اجتماعياً، كما تعامل سيغموند فرويد مع الأحلام أو نيتشه مع إرادة القوة. أما الثاني، فيتتبع العلامة في «حلها وترحالها»، وما يطرأ عليها من تحوّل دلالي حينما تتمثل في السياق الاجتماعي، فتعود محمّلة بمعانٍ مختلفة فرضها المستعمل وجغرافيته وأوضاعه الاقتصادية. كذلك، يتعلق الأمر في هذه المحاولة النظرية والتطبيقية بتليين الحقل الاجتماعي وتلطيفه بعدم الاكتفاء بالبنى الاجتماعية، أو بما هو جلي ظاهر تعلقاً بما هو خفي كامن، يسمح بمراودة الأنسجة التي توجد بعيداً في ثنايا الظواهر الاجتماعية، من دون أن يرى رموزها وعلاماتها، وما يتآلف بينها من أنظمة وبنى تكون وليدة أوضاعها وظروفها وخصوصياتها.

يقترح الكاتب تناول الظاهرة الاجتماعية تناولاً علامياً، ينتقل بنا من العلامة اللسانية إلى العلامة الاجتماعية. هذا الانتقال، يشرّع إمكان التزحلق من المجال الاجتماعي إلى المجال الاجتماعي الرمزي، تساعد على بلوغه المقاربة السيميوسوسيولوجية، بما فيها من بحث في منطقة التقاطع بين السيمولوجيا والسوسيولوجيا. وهذه الرؤية المنهجية، حسب بوعزيزي، تجعل الباحث يقظاً إلى ما يحيط بنا من نصيات اجتماعية نسكنها وتسكننا من دون تعيين مختلف العلاقات القائمة بين عناصرها. فلا يراها نصاً، بل عناصر متفرقة لا رابط بينها. واليقظة ترد الباحث قلقاً، متأهباً، تأهباً يحوّله قارئاً لما يراه وما لا يراه من علامات ظاهرة وخفية، فيتورط في دروب جديدة، ومسالك وعرة، ولكنها مثيرة، ما كان له أن يتقاطع معها من دون نهج علمي ينطلق من تجليات «الاجتماعي» ليعانق ما فيه من كمون.

وصف

يعتقد بو عزيزي، بأن الباحث سيفاجأ بمكائد العلامة إذا تلبسته، وهي تلغي التاريخي فيها لتُصعد الطبيعي. وهذا الهاجس سكن رولان بارت طويلاً، خصوصاً في «ميثولوجيات» حين كشف مناورات البرجوازية الصغيرة الفرنسية في جهدها الدؤوب للاختفاء خلف الطبيعة. وذلك أيضاً همّ معرفي حاضر في جلّ ما أنتجه كلود ليفي ستروس، حين تعلّق بتتبّع الرمز والإمساك بـ{البنية الأم» في القرابة والأسطورة والطبخ. فمسألة العلامة والرمز مبنية في أنساق، مسألة، لم تحتل إلى حدّ الآن، حيّزها الكافي في سوسيولوجية المجتمعات العربية. فتوقّفت بذلك بحوثها عند الوصف والتوصيف من دون تبلغ ، إلا في القليل منها، مستوى بناء النماذج وتتبع الكامن في ظواهره.

يرى المؤلف أن العلامة والرمز سلطة تتوسط التبادلات الاجتماعية، وتتدخل في التصنيف الاجتماعي وما فيه من تراتبيات. هذه السلطة التي طالما اقترنت بالدولة، حاضرة أيضاً في علامات المدينة بأرصفتها وشوارعها، بما فيها من صراع ومنافسة على افتكاك المجال. وفي هذه اللغة توزّع البلاغة تراتبياً بحسب الفقر والغنى، وينتشر فيها الخطأ والصواب، بحسب نبل الحي السكني أو هامشيته. وهذه العلامة-السلطة تتطلب من الباحث مكابدة، وهو يقتفي أثرها في حركة جولانها في المجال لتقوي طرفاً ما حيناً، وتقهر طرفاً حيناً آخر، فتشكّل حالة من الخضوع والسلطة يمتزجان بلا هوادة: سلطة المنتج وخضوع المستهلك، في الموضة والإشهار والصورة والمعمار. ولا مجال لقهر هذه السلطة إلا بكشف ألاعيب العلامة، وهي تخفي بعدها الإكراهي وسحريتها الداعية إلى الطاعة. وعلى الباحث السوسيولوجي، قبل غيره، أن يأخذ على عاتقه بلوغ مثل هذه العلامات مبنية في أنساق لها سياقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية، تغطية للفجوة التي حصلت في ما أنتج من أعمال عربية، أهملت أو أسقطت من الحسبان مسألة الرمز والعلامة، بما فيها من لف ودوران وارتداد.

الصورة

يتساءل الكاتب: ألا يعد مثل هذا المزج أو التداخل بين سيميولوجيا هدفها علم العلامات وسوسيولوجيا تعنى بفهم الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها، ضرباً من التعسف والعلاقة القهرية؟ ثم ينفي هذا الكلام بشدة، لأن الأمر هنا يتعلق بعلامة غير لسانية، في سياق كرّس أنظمة من التواصل غير مألوفة، كالصورة والإشهار والتلفزة، والأنظمة الإشارية الحركية، تلك التي رسم بعض عناصرها السيميولوجي الإيطالي إمبرتو إيكو، في تتبعه لمنطق الإشارة الإيمائية. يتابع بو عزيزي بأن لهذه الإشارات أهميتها في الحياة الاجتماعية، إذ تستعمل بديلاً للكلام من قبيل الإشارات الجنسية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن العلامة ليست بمعزل عن سياقات إنتاجها، بل هي بناء اجتماعي ذات عمق تاريخي ما كان لها أن تكون لولا سيرورة من النشوء والتطور. كذلك، ضيّع ربطها، تقليدياً، بأفق العبارة، على المهتمين بها فرصة البحث في علاقتها بالسياق بمختلف أبعاده، فلم يروها خارج اللغة، منتشرة في حقول اجتماعية عدة. ولو حدث ذلك، لأدركنا بعدها الهرمي التراتبي، وقدرتها على التدخل في تصنيف البشر والأمكنة والأزمنة. إنها العلامة الممتدة في أفقها الاجتماعي، وليست العلامة المتقلّصة في باب العبارة. وقد حاول هذا الكتاب ترصّدها في مناطق غير مألوفة، في زوايا قصية، كالشارع والرصيف ومعمار المدينة، والإشهار وصوره وألوانه وبلاغته وإخفاقاته التبليغية، دفاعاً عن الملكية وترويجاً للسلعة.

يضيف بوعزيزي بأن هذه العلامة المرتبطة بالشبكة الاجتماعية، وما لها من قدرة على الحركة والتلاعب في اللغة والكلام، بحسب طاقتها الحجاجية، قليلة الخضوع للضوابط، وتعطي لنفسها الحق في ما يجوز وما لا يجوز، بصرف النظر عن القاعدة. وهكذا تتكسر العلاقة بين الدال والمدلول، وتتصرف في الخطأ والصواب، حتى أن الخطأ يتحول أحياناً إلى كفاءة استثمارية ترويجية للسلعة أو للفكرة أو للشيء. المهم في هذا كله، بلوغ الغرض، حتى إذا ما اقتضى الأمر التضحية بمعاني الانتماء والهوية والمواطنة والوطن، وكل ما هو عام مشترك بيننا. المهم، في نهاية الأمر، الإيقاع بالمتلقي، المستهلك أم المار، في دائرة السحر. وهذا معنى ذرائعية العلامة.

تجانس

يؤكد بوعزيزي أن العلامة التي يتتبعها هذا الكتاب ويدعو إلى مطاردتها، ليست معزولة، بل ترتبط بسيرورة اجتماعية وبسياقات إنتاجها. وهي بهذا تدخل وتتدخل في التصنيف الاجتماعي. فلكل طبقة أو فئة أو جغرافية اجتماعية علاماتها الخاصة. وتلك العلامات إذا وُضعت في غير سياقاتها تتغير. وهنا يمكنه افتراض علاقة «التجانس» بين مستويات الدلالة والمستويات الاجتماعية.

كذلك يشدد بوعزيزي على الرغبة من خلال تعلّقنا بالعلامات الاجتماعية، وهي تتجول في الأطلس الاجتماعي، فتختلف أوضاعه، استراق النظر إلى ما لا يرى عادة من أبعاد رمزية كامنة في الظواهر الاجتماعية. هذه الأبعاد لا سلطان لنا عليها من دون مقاربة سيميوسوسيولوجية تراود العلامة في ارتباطها بالأصول الاجتماعية التي أنتجتها. وهنا يكف نسق العلامات عن كونه نسقاً موصداً مكتفياً بذاته، لينفتح على السياق.


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 24-11-2010، الساعة 06:33 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
16-03-2010, 08:35 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

Pictures%5C2010%5C03%5C16%5C3b724c0d-dd24-4837-94d7-ce812f65102d_main.jpg



قراءة مغربية لسلامة موسى:
خطاب نهضوي يتوسل التغريب!

جهاد فاضل
يقول الباحث المغربي الدكتور كمال عبداللطيف في كتابه سلامة موسى واشكالية النهضة (رؤية للنشر والتوزيع) ان مغالاة سلامة موسى في الدعوة الى النزعة الفرعونية، ودعوته في بعض مراحل حياته الى الاخذ بالاحرف اللاتينية، تشكل في نظر خصومه امثلة واضحة على تهوره الفكري ونزوعه المطلق للتوحد مع حاضر الغرب. الا ان هذه الدعوات بنظر الباحث لا تشكل الا لحظات مؤقتة في مسيرته الثقافية.

انها لحظات اندفاع تعكس هموم وقلق مثقف ينتمي الى اقلية مقهورة، اي الى وسط اجتماعي محافظ ومغال في تمسكه بتقاليده، بالاضافة الى ذلك فان سلامة موسى تخلى عن كل هذه الدعوات في فترات لاحقة من حياته.
ويضيف الباحث ان الانتماء الطائفي لسلامة موسى كان واحدا من العناصر التي تقف خلف نشاطه الثقافي، وذلك لان التشبث بالفكر العلماني والدعوة الى الاشتراكية يشكلان في نظره وسائل تساعد على تحقيق مجتمع يكفل ازاحة كل الفوارق والعوائق الاجتماعية الناشئة بسبب التناقضات الاجتماعية والسياسية والدينية.
اما الهوية الواحدة للمجتمع فلا تحقق في نظره الا في مجتمع لا يعطي اي اعتبار للعامل الديني، حيث يصبح الجذر البشري هو الموحد الاول والاخير.
خطاب نهضوي متغرب
وكان من الطبيعي لمن دعا الى الفرعونية ان يدعو الى القومية المصرية، وان يتحمس لنموذج النهضة الغربية. لقد سعى الى صياغة خطاب نهضوي متغرب يقرر ان المعاصرة الحقة للشعوب العربية تقتضي الالتزام بمبادئ وقيم الحضارة الغربية. لقد دعا الى ما كان طه حسين قد دعا اليه في فترات كثيرة من حياته. في «مستقبل الثقافة في مصر» يقول طه حسين: «نحن مدفوعون الى الحياة الحديثة دفعا عنيفا، تدفعنا اليها عقولنا وطبائعنا وأمزجتنا التي لا تختلف في جوهرها قليلا اوكثيرا منذ العهود القديمة جدا عن عقول الاوروبيين وطبائعهم وامزجتهم. علينا ان نتعلم كما يتعلم الاوروبي، لنشعر كما يشعر الاوروبي، ولنحكم كما يحكم الاوروبي، ثم لنعمل كما يعمل، ونصرف الحياة كما نصوغها».
كان سلامة موسى هاربا من التراث العربي الاسلامي الى الغرب وفكره العلماني الليبرالي. اطروحته المركزية هي دعوته الى التغريب، الى تمثل وسلوك الآخر: الغرب، كوسيلة ضرورية لتحقيق النهضة المرتجاة. فخطابه: النهضوي اذن خطاب تغريب، ومن هنا فانه يشكل خطاب الثقافة الليبرالية العربية المعاصرة.
ويقول الباحث ان التنوير العقلاني هو الميزة الاساسية في الخطاب النهضوي لسلامة موسى، لا تفهم الا في دلالتها التاريخية والنظرية الغربية، وذلك لان سلامة موسى يستعين بالتاريخ الغربي في فهم الحاضر العربي، وبحث في الصيرورة التاريخية العربية عن الأدوات المناسبة لتحويل تاريخي نهضوي حتمي. وبمقدار تمجيد المثقف السلفي للماضي، بمجد سلامة موسى الغرب تاريخا وثقافة وسلوكا.
تجاوز السلفية
كان سلامة موسى قارئا مدمنا للانتاج النظري الغربي المعاصر في مختلف مجالاته، لهذا كتب عن الداروينية والفرويدية والسارترية، وانتقد المنحى السلفي في التعامل مع الماضي، صحيح انه تعامل مع هذه المعطيات المعرفية تعاملا سطحيا بسيطا، الا انه لم يخرج عن الاهداف التي رسمها لمشروعه التنويري الموصل الى فهم جديد للطبيعة الانسانية، اي الى فهم مناهض ومتجاوز للفهم السلفي المحافظ، ان تمثله للثقافة والتاريخ الاوروبيين كان يدفعه الى اسقاط اهتمامات النهضة الأوروبية على الواقع المصري، ولم تكن اسقاطاته نابعة عن فحص تاريخي لصيرورة التاريخ الغربي والتاريخ العربي، بقدر ما كانت دعوة تقريرية مجردة، لقد اغفل التاريخ واكتفى باضفاء روح نهضوية على المجلات التي أسسها او عمل فيها، لقد خصص بعض صفحات مجلته «كل شيء والدنيا» لتقديم بعض لوحات رسامي عصر النهضة الاوروبية.
ولم يؤمن بهوية عربية او اسلامية خالصة، ويلمس المرء وراء خطابه دفاعا مستميتا عن وحدة التاريخ الانساني، ووحدة المعرفة الانسانية، لقد انتج خطابا مناهضا للفكر الغيبي السافر، حيث بلور مفاهيم العلم والعقلانية من منظور ليبرالي، وبمقدار ما شكل الماضي بعدا مركزيا في الخطاب السلفي شكل الطموح الانساني بعدا مركزيا في الدعوة الليبرالية. تتجلى النزعة الانسانية في بعض جوانب خطابه كبديل لواقعية انتمائه الى اقلية محاصرة والى مجتمع متأخر ومقهور، ومن هنا رومانسية هذه الدعوة وتمركزه الكلي على التجربة الغربية والعقل الغربي والتقنية الغربية، حيث لا خلاص للعالم الا عند خضوعه لهذا العقل التاريخي الشامل.
ويتصور النهضة كوسيلة خلاص للانسان من التقاليد والغيبيات. وهو في هذا السياق يحدد منظور النهضة الاوروبية كمعيار ثابت لكل نهضة ممكنة، يقول سلامة موسى معرفا النهضة: «انها تحرير الشخصية البشرية من التقاليد والغيبيات، انها اقبال على العلم التجريبي، وانها فصل الدين عن الدولة، انها دعوة للانسان كي يأخذ مصيره ويتسلط على القدر بدلا من ان يخضع للقدر»،
ثقافة صحفية
يتعرف سلامة موسى في بعض مراحل حياته على تجارب ومعارض اجنبية كثيرة، يتعرف على سبيل المثال على غاندي وتجربة التحرر الوطني الهندية، وعبر مواقفه نشعر اننا امام مثقف غزير القراءة مغرم بالكتاب، الا ان قراءته في بعض مراحل حياته تصبح جزءا من متطلبات عمله الصحفي، اي لا يوحدها اي رابط في منطلقاته الفكرية الرئيسية صحيح ان هذه القراءات تحدد افاقه الثقافية كما توضح معالم رؤيته العامة، الا ان انعدام وحدتها سيترك اثاره الواضحة على خطابه منذ بداية انتاجه سنة 1909 حيث نشر «مقدمة السوبرمان» الى سنة وفاته 1958.
ويُعجب حينا بنيتشه ولكن هذا الاعجاب يتقلص مع الزمن، خصوصا عندما سيتعلم جوانب اخرى‍ من الفكر الاجتماعي والسياسي والنفسي عن طريق ماركس وفرويد وويلز، انه يسمي نيتشه «بفتنة الشباب» وقد فهمه بصورة مبسطة، ومع انه من دعاة الالتحاق بالغرب، فاننا نعثر في ممارسته الفكرية على صور متعددة لمناهضة غرب الاستعمار، دعا الى تقليد تجربة غاندي التحررية في الهند، واسس سنة 1930 جمعية المصري للمصري، وكان هدفها نشر الوعي بضرورة تشجيع الصناعات الوطنية كوسيلة من وسائل مناهضة الاستعمار، «اساس الاستعمار والتدخل الانكليزي والمحاكم المختلطة والامتيازات هو اساس اقتصادي فلنعالجه بالوسائل الاقتصادية فنقصر معاملتنا على المصريين، وليكن المصري للمصري».
ويرى الباحث ان مشروع سلامة موسى اصبح يدرج في تصوراتنا الراهنة ضمن ما يسمى بلحظة المقايسة او المماثلة، الا ان موجة التقليد بصورة مكثفة في الحاضر العربي تجعلنا نتبين اهمية مشروع سلامة موسى، كما تجعلنا نزداد اقتناعا باهمية تعزيز دوائر الوعي النقدي المسلح بمقدمات الفكر التاريخي، لعلنا نتمكن من بناء الدعائم النظرية التي يمكن ان تساهم في وقف مسلسل العودات التي لا تعي اهمية التجاوز والنفي في بناء لحظات التاريخ، ولا تعي اهمية الوعي المتجدد في تطوير الذات واعادة بنائها، ضمن هذا الافق تظل الحاجة ماسة الى خطاب سلامة موسى، والى اهمية تطوير هذا الخطاب بمزيد من الالحاح ع‍لى استيعاب مقومات الحداثة والتاريخ وهي المقدمات الصانعة لكثير من ملامح الفكر المعاصر.

القبس

Pictures%5C2010%5C03%5C16%5Cecfaee5b-7c5f-433d-8d77-9fd9067764ef_main.jpg



صبحي موسى
ذهب الناقد المصري د. صلاح السروي إلى أن الإشكاليات التي واجهتها قصيدة النثر نتجت عن عدم دقة المصطلح وغياب المفاهيم الأولية التي تميز بين الشعر والنثر، ومن ثم فقد حاول في كتابه «قصيدة النثر ـ إشكاليات النوع وجماليات التشكيل» الصادر مؤخراً عن دار «نفرو» للنشر، إعادة التعريف بتلك المفاهيم، وذلك من خلال تتبعه لمقولات المدارس النقدية سواء الحديثة أو القديمة في تعريفها للشعر وتميزه عن النثر، موضحاً أن كلاً من النثر والشعر يشتركان في جوهر واحد يتمثل في اعتمادهما على اللغة كتشكيل جمالي، فضلاً عن أن كلاهما يعد نشاطا إنسانيا يعكس بشكل معين حركة التاريخ والمجتمع في زمن ما، ومن ثم فالأدب عموماً يعتمد على جانبين، الأول يعتني باللغة وماهيتها، والثاني يتعامل مع الواقع من حيث الوظيفة.

اللغة حسبما عرفها جان كوين هي تلك الحقيقة المتناقضة الغامضة التي تنكشف من خلال عناصر ليست لغوية في ذاتها، ومن ثم فهي ـ حسب تعريف دي سوسير ـ دال ومدلول، أو التعبير والمحتوى حسبما يقول جيلمسليف، وهكذا فإنها تقوم على عنصرين هما الشكل الذي يبرزه التعبير، والمعنى الذي ينتج عن علاقة اللغة كدال بالواقع كمدلول.
حدود الشعر
وذهب السروي إلى أن الشكلانيين الروس هم أول من أشار إلى التناقض بين الشعر والنثر في الأدبيات الحديثة، فقد درجت الأدبيات القديمة على أن الشعر هو معادل كلمة أدب الآن، ومن ثم فقد كان ينقسم إلى شعر المحاكاة ويعنى بالشكل القصصي، والشعر الغنائي وعني بالتعبير عن الذات والوجود، ومن ثم فقد أطلق بوالو مسمى «قصائد النثر» على الأعمال الروائية، وفشلت ناتالي ساروت وأراجون وغيرهما في الوصول إلى حدود فاصلة بين الشعر والنثر، بينما ذهب حسن ناظم في «مفاهيم الشعرية» إلى ان محاولة العثور على تمييز موضوعي مقنع بين الشعر والنثر سوف ينطوي على كثير من المصادرات، خاصة في ظل ظهور تيارات شعرية جديدة تكرس لميوعة الحدود بينهما عبر إلغاء القوافي والوزن.
اللغة والايقاع
وفي محاولة من السروي للخروج من هذا المأزق فقد افترض أن عملية تقسيم الأبنية اللغوية ذات الهدف الجمالي (شعر/نثر) تقوم على العلاقات الخاصة باللغة ووجود إيقاع يحكم عملية تتابع هذه اللغة، ذاهباً إلى أن وظيفة اللغة في الشعر وظيفة جمالية بالأساس تشبه الرقص، بينما وجودها في النثر فله وظيفة مادية حيادية تشبه المشي حسبما قال بول فاليري، مما حدا بمشيل ريفاتير أن يعرف القصيدة بأنها شيء يريد أن يقول شيئاً ويعني شيئاً آخر، وذهب السروي إلى أن الشكلانيين الروس حاول التمييز بين النثر والشعر من خلال ما أسموه بالخواص الثانوية، ومنها أن الكلمة في اللغة الشعرية تتمتع بقيمة مستقلة في ذاتها، وليست مجرد رسالة أو بديل عن شيء متجسد في الواقع، ومن ثم فاللغة الشعرية تتمتع بما أسموه بالغياب الظاهري للدلالة، ورفض الروس حصر الشعر في لغة الخيال، مؤكدين على طريقة توظيف الخيال، إذ أن الصورة الشعرية ليست أداة للشرح والتوضيح كما هي في النثر. لكن د. صلاح فضل رفض ما ذهبت إليه النظرية الشكلانية، معتبراً أنها حولت النظر من استخدام الصورة في الشعر إلى وظيفة الشعر، مما يجعل القصيدة في جوهرها لديهم مقاومة ـ بالمعنى السلبي ـ لطزاجة الوجود، في حين أن الشاعر دائماً ما يعمد إلى كسر القوالب اللغوية ليجبر القارئ على تجديد تلقيه للأشياء من خلال إحداثه تحويلاً للمجاز.
الموسيقى الداخلية
أما العنصر الثاني الذي اعتمده السروي في التفريق بين النثر والشعر ـ وهو الإيقاع ـ فقد أوضح من خلاله مدى الخلط بين فكرة العروض الشعري القديم، والتتابع والتجانس اللغوي في النص الحديث، بما يسمح بظهور ما سمي بالموسيقى الداخلية، دون الاستعانة بقوالب محددة سلفاً يصوغ عليها الشاعر فكرته ليعطي نصه قدراً من الجمال الموسيقي، فالطريقة الأدبية حسبما يقول يوري لوتمان لم تعد عنصراً مادياً في النص، لكنها موقف محدد من العالم والأشياء، ومن ثم ذهب السروي إلى أن الشكل البنائي المحدد لم يعد مجرد وعاء يستقبل الروح الهائمة للشعر، إذ أن وجود أو غياب هذا الشكل هو حصيلة موقف ثقافي ومعرفي لدى الشاعر ذاته، ومن ثم فالوزن ليس شرطاً لوجود الشعرية أو غيابها، لكنه دليل على شرطية وجود الموسيقى في لغة الشعر، هذه التي تنتج من الوعي الغائب الحاضر باللغة في علاقاتها الثنائية بالأجواء الشعرية حسبما تقول خالدة سعيد.
وقد قسم السروي كتابه إلى ثلاثة أقسام، الأول نظري تحدث فيه عن إشكالية المصطلح وماهية الشعر والفروق بينه وبين النثر، والثاني رصد فيه جماليات التشكيل في قصيدة النثر عبر ما أسماه بالاختزال اللغوي والكثافة البلورية، وسعي البناء المشهدي لتحقيق المفارقة المدهشة، والميل إلى التوسل بالمتوقع وصولاً إلى اللامتوقع، والاحتفاء بالجسد وحاجاته البيولوجية، والنزعة نحو الاعتراف لتحقيق الصدمة الأخلاقية، والتمحور حول الذات باعتبارها حدود العالم. أما الجزء الثالث من الكتاب فقد قدم فيه عدداً من المقالات التطبيقية على دواوين «حمامة على بنت جبيل» لحلمي سالم، «كأنني أريد» لغادة نبيل، «فوق كف امرأة» لفاطمة ناعوت، «تحريك الأيد» لعيد عبد الحليم.
ويمكننا القول انه رغم أهمية الجزء النظري من الكتاب، غير أن الجزأين التاليين جاءا أضعف من المتوقع، فأغلب سمات التشكيل التي رصدها السروي تشترك فيها المدارس الشعرية الأخرى، كما أنها في أغلبها تعد سمات فكرية في الكتابة وليس انحرافات فنية وأدائية تميز مدرسة عن أخرى، أما الجانب التطبيقي فقد بدت فيه اختيارات السروي كما لو أنها جاءت بتكليف من أمانة حزب التجمع في القاهرة.

«تمر الأصابع»: ثورة الأنا بين إرث الماضي وثأر الحاضر

محسن الرملي
محسن الرملي
فهد توفيق الهندال(*)
«ما كنت لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لولا تشجيع أبي لي وهو يحلق شعر رأسي في مرقصة المدريدي قائلا: «اكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث.. هذا العالم جايف». ص 7
بهذه العبارة السردية، يبدأ سارد الرواية (سليم) أولى جمل استهلالها بعد عنوانها ذي دلالة شعرية (تمر الأصابع)، ليلحقها بإهداء ذاتي والمحدد جغرافيا من قبل الكاتب إلى العراق واسبانيا، فالأول «مهد الطفولة ومهد الحضارات «والثاني» محطتي للسلام بعد طريق طويل مكتظ بالحروب» ص 5، بما يوحي التوظيف المقصود من الكاتب في عنونة الرواية التي تؤدي دورا ايحائيا /وصفيا - بحسب مفهوم جينيت – يربط المتلقي بالعمل وفق عقـد شعري تمثل بسمة العنوان الرمزية، ثم تحديد الإهداء الذي سيؤدي وظيفتين: دلالية لمن يرتبط بهذين الموقعين وفق علاقات عديدة، وتداولية لمضمون العمل إنسانيا وثقافيا مع كل من تقع بين أصابعه هذه الرواية، مما سيفتح آفاق التلاقي مع العالم الروائي للعمل، وتلاقيه مع سياق عام تدور فيها أعمال لها رمزية واحدة، مع تعدد الأساليب والرؤى.
جدلية الماضي والحاضر
فتمر الأصابع ليس العمل الوحيد الذي يحكي تلك العلاقة بين الإنسان والوطن، الماضي والمستقبل في غربة الحاضر السارد. ولعل الإهداء، كان مفتاحا لجغرافية السرد المتراوح بين العراق واسبانيا. ليتمثل الحاضر كجدلية بين الأمس والغد، وقد تمثل الأمس وزمنه الماضوي بشخصية الجد مطلق، والحاضر بالأب نوح، والمستقبل بالابن سليم. فشخصـية الجد ومن دلالة اسمها يمثل ذلك الارث المقـدس بكل أطيافه: الدينية، الاجتماعية، الأخلاقية، والسياسية. وقد تجسد ذلك كله في حضور الجد كشيخ عشيرة، وكبير العائلة التي ينعـم على الجميع ببركاته، بدءا باختياره لأسماء المواليد من أبنائه وكل المنتسبين له، مما ولّد لدى الجميع قناعة تامة بـ«ان الله هو الذي اختار أسماءكم وليس أنا» بحسب قول الجد، ص 29. إضافة إلى تأثر الجد سابقا في صباه بمقولة رجل الدين وقبلة حكمته ملا عبدالحميد لبعد أنت عالجه من عراك مع كلب اعترض طريقه – الجد - في صغره أثناء توجهه للمسجد، وقد هزم الكلب بعضة هي رد ودفاع عن نفسه، مما جعل شيخه الملا يكرم عليه بلف ساقه المجروحه بعمامتـه، ثم وهبه حفنة من التمر مع مقولته التي بقيت ترن بذهنية الجد: «إذا نبح عليك الكلب فلا تنبح عليه، ولكن إذا عضك فعضّه» ص 9. لتصبح هذه المقولة العابرة شعار ثورة الجد لاحقا ضد انتهاك حرمتهم وكرامتهم، مما جلب على المنطقة وأهلها غضب السلطة وسخطها بقتل واعتقال الكثير منهم، وتغيير اسمهم من (المطلق) إلى (القشامر)، ليقرر الجد الرحيل من منطقتهم بعد ذل السلطة والاسم الذي أصر – الجد - على أن يكون اسم منطقتهم الجديدة، رغبة ببقاء هاجس الثأر، ليتغذى أكثر على الإرث المقدس والذي اقتبس على هيئـة شخصية الجد، فيزداد نوح خضوعا لأبيه مطلق، ويقسم له بأخذ الثأر.
جيل جديد
وبرغم الحضور المقدس للجد، لكن أبناء الجيل الجديد بدأوا يتمردون قليلا على ناموسه، كسخريتهم من اسم أحدهم (صراط)، والعلاقة السرية بين (سليم) وابنة عمه (عالية)، كذلك في تغير حال الأب (نوح) بعد خروجه من العراق إلى اسبانيا، الذي اعتقده سليم ثورة على إرثه الإيماني والأخلاقي، برغم بقاء رصاصة واحدة في ميدالية مفاتيحه - الأب - وهي التي بقيت من ثلاث رصاصات انتزعها نوح من مسدس ذلك الشاب الذي اعتدى على كرامتهم وكان سببا في نكستهم وهوانهم. لتبقى أسئلة سليم حول ثورة الأب الظاهرية محاصرة له، وهو يستذكر بالسرد اللاحق أحداث قريتهم، وقسم والده لجده بأنه سيثأر من النظام بأكمله الذي أذلهم ونفاهم عن كرامتهم، وتحقيق حلم الجد بتغيير اسم القرية القشامر إلى الكرامة.
في حين نجد المسافة قصيرة بين سليم ووالده «نوح» والعلاقة الحميمية بين الاثنين خلاف علاقة نوح الخاضعة لوالده/الجد «مطلق»، بما يوحي بقوة العلاقة بين الحاضر والمستقبل، في عالم جديد يمثل أملا وسلاما بعد طريق شائك مليء بالحروب والعداوات والمأساة على الجانب الشخصي لسليم ولو أنه احتفظ في ذاكرة المكان الجديد/اسبانيا صور العراق.. الحضارات، التاريخ، الطبيعة، المكان الأول، والذكريات والطفولة، وهو ما كان سببا في تغيّر الموقف بين الاثنين عندما تفجر غضب الأب من صور تمثل له ماضيه عندما نهر سليم: «كنت أظن أنك أعقل من هذا.. وألا تقع في الحنين المَرَضي الذي يقع فيه جل المغتربين حين يصورون لأنفسهم أن كل شيء جميل في بلادهم التي غادروها.. بما في ذلك الخراب والمزابل..» ص 149. ليشهد الموقف حوارا بين الاثنين، ينطلق فيه الأب من كراهية ماض لم يصنعه أو يختاره، بل صنعه الآخرون (الطاغية / الجد) - وإن لم ينطق صراحة باسم الثاني. وانطلاقة رفض الأب لهذا الماضي، قابلهـا رفض الابن/سليم لانهيار الصورة الجميلة التي يمثلها له الوطن وكائناته الجميلة، أهمها عشق الطفولة عالية، ليرد بسرد مختصر عن ذهول محبوس من تغير حالة الأب، ليقتحم ثورة الأب الغاضبة من الماضي بثورة على سوداوية الماضي وخديعة الحاضر: «تخدع أمي وتهجر عائلتك، وتخدع روسا وتستغلها، ثم هذا الانقلاب الراديكالي على كل إرثك الشخصي والأخلاقي والديني.. كل ذلك من أجل هدف سخيف!؟» ص 150.
فيدخل الاثنان في خلاف حول رؤية كل منهما للعالم المحيط بهما، وموقفه مما يحدث في وطنهم المنسي، كما في نبرة سخط الأب: «أين هي حضارة وقوانين هذا العالم الحقير، الجايف، المنافق، النذل؟.. وهو يرانا نساق كالخراف إلى المجزرة بلا ذنب..» ص 151.
ثورة كامنة
رغم هذا الاختلاف بين جيلي اليوم والغد حول إرث الماضي، وثأر الخاضر، فإن نتيجة المعادلة بقيت ثورة كامنة في داخلية الأب الذي وإن أبدى تسامحه مع نفسه، إلا أنه لم ينس ثأره مع الماضي وإرثه المقدس وصوره المستعبدة، وما مثّله من اذلال له، ليحقق رؤيته وثورته الكاملة ليس على المستوى الشخصي، بل بصورة واسعة شاملة وابعد من ذلك. وهو ما يختلف فيه سليم مع والده، وقد قرر العيش بسلام وهدوء مع فاطمة.
بقي أن نشير إلى أن الروائي العراقي محسن الرملي، استطاع في عنوان رواية «تمر الأصابع» أن يضع في ذهنيتنا دلالة ورمزية العلاقة بين التمر والأصابع، وهو ما يمكن أن نفسره بأن التمر يمثل الحلاوة التي تسكن جانبا جميلا فينا، ونريد نتذوقـه.. نسكر به حسا وإحساسا، ليس في ذكريات الماضي، بل ولحظات الحاضر والمستقبل، شريطة أن تكون بصنعنا، وبأصابعنا!
ربما خرجت الرواية من قائمة البوكر القصيرة لهذا العام، إلا أنها لم تخرج من قائمة الملتقى العربي القصيرة أيضا، والمقتصرة على أعمال أدبية ذات حضور سردي استثنائي ولغة فنية متعددة المستويات، مفتوحة العوالم، قادرة على خلق جادات أدبية وفكرية جديدة، تحرك الساكن والساكت فينا حول مشهد العالم أمامنا.
ــــ تمر الأصابع: محسن الرملي، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف 2009.
القبس

تمزج بين الفارسية والإنكليزية وشيء من السواحلية
اللهجة الكويتية... مفردات ذات أصول عربيّة
شروق الكندري

سجل الباحث خالد عبد القادر الرشيد كلمات كويتية تلاشت مع الزمن، وأحياها للأجيال القادمة التي اختلطت لهجاتها بكلمات دخيلة أصبحت أحد رموز التقدم الحضاري باستعمالها! الكتاب بعنوان {موسوعة اللهجة الكويتية}، بحث وإعداد الرشيد وتقديمه، ومراجعة خالد سالم محمد.

في تقديمه للكتاب، أشار خالد سالم محمد إلى أن اللهجة الكويتية تمتاز بخصائص هي من أساسيات اللغة مثل التصغير، والتخفيف، وأن أكثر من 85% من المفردات الكويتية ذات أصول فصيحة، مشيراً إلى أنه تناول الكتابة عن المفردات الكويتية ذات الأصول العربية أساتذة أفاضل قدموا لنا خلال مؤلفاتهم شرحاً وافياً لكثير منها، أمثال د. يعقوب الغنيم والأستاذ عبد الله خلف والأستاذ أيوب حسين والأستاذ إبراهيم عبد الرحيم العوضي، وأخيراً الأستاذ عبد الله الخضري. ولعل أولى هذه الكتابات ما نشره مؤرخ الكويت الأول الشيخ عبد العزيز الرشيد عن المفردات الكويتية ذات الأصول العربية في مجلة {الكويت} الصادرة عام 1928.

أما عن المفردات الأجنبية في اللهجة الكويتية، فهي تشكّل حوالى 15% من الأخيرة. ومن خلال تتبع هذه المفردات في لهجة ما يستشف الباحث مدى علاقة تلك الدولة بجيرانها وبالدول التي تتعامل معها تجارياً واجتماعياً على مدى تاريخها. فاللهجة الكويتية تتخللها مفردات أجنبية كثيرة بحكم علاقتها التجارية قديماً مع جيرانها ومع الدول الأخرى البعيدة كباكستان والهند وشرقي أفريقيا. إضافة إلى أنه من خلال قربها من إيران وعلاقتها التجارية أخذت كلمات فارسية كثيرة، من بينها {إشخانته} وهي مركبة من قسمين أيش + خانته، أيش اسم أو اداة استفهام باللهجة، وخانة هو المكان. وهذا التركيب يعني: لا فائدة ترجى من الفرد، أو من الموضوع وأيش = أي شي وقد قيل في المثل: {اشخانته الرفيج اللي ما يوقف مع رفيجة} وهي فارسية. كذلك شاع في الكويت بعض المفردات التركية لقرب البلدين من بعضهما، وأيضاً لمرور الحجاج الأتراك قديماً بالكويت ومكوثهم فيها لأيام عدة.

أما اللغة الإنكليزية، فدخلت إلى الكويت أولاً عن طريق الإرسالية الأميركية مع افتتاح المستشفى الأميركي وشركة نفط الكويت، كذلك مع التجار وربابنة السفن وبحارتها الذين كانوا يمضون أياماً عدة في موانئ الهند حيث كان الهنود يتحدثون الإنكليزية إضافة إلى لغتهم الأصلية ومن كلمات مستخدمة محلياً من بينها {دريول} (إنكليزية) وهي تطلق على سائق السيارة أو الشاحنة.

الأمر نفسه بالنسبة إلى اللغة السواحلية التي يتواجد بعض مفرداتها في اللهجة الكويتية القديمة نظراً إلى اتصال الكويت بالساحل الشرقي الأفريقي عبر التجارة البحرية التي استمرت طويلاً. وثمة مفردات إيطالية دخلت قديماً إلى اللهجة الكويتية عن طريق الأتراك، ومن بينها غرابية، سكربيل، أسلكة، بنديرة، تركيت. دخلت هذه المفردات بمسمياتها وجرت على ألسنة الناس منذ ذلك الحين. وبما أن المفردات الإيطالية تحتوي على مصطلحات كثيرة تتعلّق بالمال والأعمال، أخذنا عنها بعض المسميات الحديثة مثل: رصيد، بورصة، فاتورة، فترينة، وكمبيالة. أما اللغة الفرنسية فمعروف عنها إنها لغة الزينة والعطور والمستحضرات الطبية والعلمية، والملابس، والديكور والأثاث، ودخل معظم مفرداتها إلى اللهجة الكويتية منذ منتصف القرن الماضي نظراً إلى توسع التجارة مع الدول الأوروبية عموماً. كذلك دخلت كلمات إلى اللهجة الكويتية وهي من لغات ولهجات قديمة جداً مثل الآرامية والسريانية والسنسكريتية، الهندية القديمة، لكنها كلمات قليلة جداً، لأن غالبية المصطلحات القديمة سواء كانت أجنبية أو ذات أصول عربية التي كان يتحدث بها القدماء بدأت تنحسر شيئاً فشيئاً عن حياتنا الحاضرة، وظهرت عوضاً عنها كلمات حديثة تناسب الحياة العصرية والمخترعات الحديثة. فاللهجة العامية تتغير بسرعة وهي مفتوحة لكل مفردة حديثة، وبمجرد أن يرددها الإنسان تصبح بعد فترة وجيزة كلمة عادية مستساغة.

- رفلة، {خبز خبزتيه يا الرفلة أكليه}: الرفلة تعني الخرقاء من النساء التي لا تحسن تصرفاً ولا تدبر بيتاً. وفي اللغة:

- رفل كنصر وفرح: خرق باللباس وكل عمل، وهو أرفل ورفل، وهي رفلاء. وامرأة رفلة، كفرحة، وبكسرتين: قبيحة. ورفل رفلا ورفلانا.

- روشنة: هي فتحة في جدار الغرفة قد تكون مربعة أو مستطيلة الشكل تستعمل لوضع أدوات الزينة وغيرها من الحاجات وقد تتألف من طابقين قد تزخرف بإحاطتها ببرواز.

- طنقر: تعني اشتاط غضباً وتقول فلان امطنقر اليوم وفلانة امطنقرة والجميع امطنقرين.

الجريده

محمّد شفيق شيّا في كمال جنبلاط... لزمن آخر!
تحت عباءة السياسة مؤمن وفيلسوف وشاعر
بيروت - قزحيا ساسين

152053_kamal_small.jpg


كثيرون هم رجال السياسة غير أنّ قليلين منهم يتمتّعون بفكر وثقافة ورؤية. وممّا لا شكّ فيه أنّ عظماء السياسة فكراً ورقياً إنسانياً لا ينصفون بالقدر الكافي في زمان حياتهم لأنّ للسياسة غباراً يحجب جزءاً كبيراً من شخصيّة السياسي التي تتقدّم على شخصيّة المفكّر فيه. والسياسة تأتي على حساب الفكر في صاحبها مهما بلغ من الوعي لحضوره الفكريّ باعتبارها نشاطاً يومياً كثيفاً ولها ما لها من قدرة على مصادرة الوقت، وربّما لأسباب بسيطة وتافهة، وتحديداً في المجتمع اللبناني والمجتمعات الشرقيّة.

كمال جنبلاط الزعيم الدرزيّ اللبناني شخصيّة فريدة وموصوفة بالتميّز السياسي والأدبيّ. وأثبتت حضورها السياسيّ سحابة زمن طويل، لكنّ الجوانب الأدبيّة والفكريّة فيها لا تأخذ حقّها ولو أنّها كانت ملحوظة الوجود. فجنبلاط عاش السياسة اللبنانيّة في العمق وأثّر وتأثّر على المستوى السياسيّ اللبناني، كذلك كان حاضرًا وفاعلاً في السياسة الإقليميّة والدوليّة، ما يعني أنه لم يستطع الانتباه كثيرًا الى المفكّر الذي فيه، وحاول المعجبون به والمتأثّرون بفكره وسياسته إنصافه بعد موته وفي هذا السياق ـ إذا جاز التعبير، يندرج كتاب «كمال جنبلاط ... لزمن آخر!» لمؤلّفه محمّد شفيق شيّا.

سعى شيّا إلى الإحاطة بجنبلاط سياسة ودينًا وفلسفة وشعرًا، معلنًا أن كتابه يأتي بجديد جنبلاطيّ من خلال نتائج جديدة تشمل مختلف أجزاء فكر جنبلاط ونضاله السياسيّ. أمّا منهجيّة العمل فقامت على استنطاق النصوص مباشرة لتترجم الخطوة التالية بالتحليل التكامليّ وصولاً إلى استخراج الأفكار ومقارنتها، ويتّضح: «ما بات مبرّرًا تسميته: فلسفة كمال جنبلاط»... وعلّل المؤلّف كتابه عن جنبلاط، اليوم، بأنه لا يزال حاجة ماسّة مُثُلاً وأفكارًا، لبنانيًّا وعربيًّا... إذ برأي شيّا: «لا يزال إلغاء الطائفيّة السياسيّة هو الحلّ. ولا تزال العلمنة هي الحلّ. والاشتراكيّة الديمقراطيّة لا تزال كذلك هي الحلّ...» إضافة إلى العروبة الحضاريّة التي ترفض التعصّب والاستبداد.

رصد شيّا المؤثّرات في شخصيّة كمال جنبلاط فوجدها كثيرة، منها فكر هيغل وماركس ولينين وسان سيمون وغاندي ونهرو وماو وهوشي وفيلي براندت... وجنبلاط هو المتأثّر بثورة أكتوبر، وكلّ حركات التحرير الوطني، والثورة الجزائريّة، والمقاومة الفيتناميّة، وثورة فلسطين، والمقاومة الوطنية اللبنانيّة... ويربط شيّا بين جيفارا وجنبلاط شهيدًا: «هذا هو وجه جيفارا في استشهاد جنبلاط: جيفارا الذي يترك السلطة ويقاتل التنّين وهو مدرك سلفًا النهاية التي تنتظره! أم هو انتحار على طريقة سقراط كي لا يرى الانهيار الجاري، والذي يكاد يكتمل؟».

في السادسة والعشرين من عمره، ونتيجة موت عمّه المفاجئ النائب والوزير حكمت جنبلاط اضطلع الشابّ كمال بالمسؤوليّة الكبيرة، سنة 1943، واغتيل صباح السادس عشر من مارس (آذار) سنة 1972، ما يعني أنّه عاش سياسيًّا وفكريًا أربعًا وثلاثين سنة مميّزة وحافلة بالأحداث. وانطلق جنبلاط زعيمًا درزيًّا فلبنانيًّا فعربيًّا بشكل لافت. وممّا ميّز شخصيّته كثير من الرصانة والجدّية، وثقافة واسعة على عمق، واستقلاليّة في اللحظات الحرجة، وشجاعة في الرّفض وفي الإعلان، والتزام صلب لا سيّما بمحاربة الفساد والعمل للإصلاح...

واستجابة للتحدّيات والتغيّرات، وتأسيسًا لمواجهة أكثر فاعليّة أسّس جنبلاط الحزب التقدّمي الاشتراكي سنة 1949 بهدف التغيير فكريًّا وسياسيًّا. وقد خاض الحزب مواجهات مع الدولة اللبنانيّة متمثّلة بالسلطة وسقط له شهداء في مهرجانات رأس بيروت والباروك ودير القمر....

في المجال الإصلاحي بدأ جنبلاط بنفسه فوزّع ما ورثه من الأراضي على من استثمرها واستأجرها فحظي بالاحترام والتميّز لدى الشّعب وهو المطالب بألا تكون الدولة اللبنانيّة ملك زعماء الطوائف والإقطاعيّين. ويمكن اعتبار أربعينات القرن العشرين وخمسيناته زمن كمال جنبلاط الإصلاحي، والستينات والسبعينات زمنه الثوريّ. ومن خلال وجود جنبلاط في السلطة ساهم في كثير من الإصلاحات، فبصفته وزيرًا للداخليّة تجاهل قانون الجمعيّات العثماني ورخّص لمئات الأندية والجمعيّات الأهليّة والمدنيّة...

يعتبر المؤلّف شيّا، في أحداث 1976-1975 أنّ كمال جنبلاط واجه خيانات كثيرة أسماها جنبلاط «المؤامرة»، وهو الذي عرف بعد دخول السوريّين إلى لبنان واشتعال الحرب أنّ «الممسكين الحقيقيّين بزمام الأمور هم غير المتقاتلين على المسرح»، إنما هم غير لبنانيين، وتحديدًا، هم القيادة الفلسطينية والسوريون والإسرائيليّون والأميركيون... ودائمًا، وبحسب شيّا، بلغت المؤامرة ذروتها باغتيال كمال جنبلاط القائل: «أموت ولا أموت فلا أبالي/ فهذا العمر من نسج الخيال».

ناضل جنبلاط المفكّر السياسيّ من أجل الفكر التقدميّ المنفتح المؤمن بالآخر وبالعلم وبالديمقراطيّة وبالعمل الحزبي وبمفهومه الحقيقيّ، وسعى إلى إنسان غير مرتهن ماديًّا أو سياسيًّا أو دينيًّا ، وكان له رأيه الصريح في الحاكم والقائد من خلال صفات أوردها صريحة ومحرجة . ورأى أنّ السياسة هي لخدمة الإنسان الذي هو دائمًا أوّلاً وليس العكس. أمّا بالنسبة إلى العروية فقد أرادها منفتحة، متحرّرة، ترتكز إلى المفاهيم التي ينادي بها جهرًا وبكلّ التزام.

وتطول حكاية جنبلاط مع الدين غير أنّها تُختصر بأن المسالك تتعدّد ويبقى الدّين واحدًا. وجدير بالذكر أنّه بحث في إمكان التلاقي المسيحي ـ الإسلامي على أساس المشاركة في التاريخ، وفي المصير وفي الجوهر، ووجد التوحيد جوهر الدّين. وما ميّز فكر جنبلاط الديني تمرّس صاحبه بمناهج العلم والفلسفة.

يرى شيّا أن جنبلاط: «فيلسوف الحرّية بامتياز»، الحرّية التي لا تصنع الإنسان منفردة إنّما من دونها لا يدرك إنسانيّته. ويقول جنبلاط: «قضيّة الحريّة... هي قضيّة الإنسان منذ أن وجد، تستقطبه ثمّ لا يلبث أن يستولي عليها، ثمّ يرهقها ويقيّدها أو يعبث بها، أو لا يقدرها حقّ قدرها»... والحرّية بالمفهوم الجنبلاطيّ لا تتحدّد بذاتها فحسب، إنّما من خلال علاقتها بالمفاهيم والأوضاع الأخرى، وهي نظريًّا وجه من وجوه المعرفة: «الحرّية معرفة، معرفة حقيقة هذا الوجود في الجملة والتفصيل»، ما يعني أنّ المعرفة تتعادل والحرّية وجودًا. وجنبلاط ديالكتيكيّ الفلسفة أيضًا، ويجد الديالكتيك: «حركة، أو عمليّة، أو طريقة، أو آلة في النظر والتفكير، وليس مذهبًا جامدًا أو معتقدًا أو نظريّة مجرّدة»...

ولكمال جنبلاط مع القصيدة علاقة وطيدة، والشّعر لديه ضوء الحقيقة، وليس فنًّا للفنّ، إنما هو التزام بالإنسان... ويرى جنبلاط أنّ: «الشعر، أفضل الشّعر، هو الذي يلقي نورًا على كينونة الحياة، أي على الحقيقة والجمال. والجمال شعشعة الحقيقة ووجهها المختبئ فينا»... وله في الشّعر ديوانان: «فرح»، و{آنندا ـ السلام». يتّصف الشعر الجنبلاطي بالرمزيّة العميقة ويعكس بنية صاحبه الفكريّة وهمّه الوجودي والإنساني، ومن قصائده في ديوان «فرح»: «أبيتُ فوق السحاب / فموطني في الغيوم / وكم حكى وما جرى / أطياف حلم يهيم / وفوق بيتي العتيق / بنيتُ بيت الحرم / وينسى الحجاب الرقيق / ويجتاز سور العدم / فينسى المسافر / وينسى الطريق / ويستحمّ في النّور / بعد القمم / ويستحمّ النّور / في النّور / بعد القمم».

«كمال جنبلاط ... لزمن آخر» كتاب يقدّم رجلاً متميّزًا باتساع وشموليّة، وهو أكثر من سيرة لأنّه لم يكتفِ بالسّرد، وأقلّ من كتاب تاريخ لأنّه لم يستطع الإحاطة بكلّ الأحداث الجنبلاطيّة وعلى المستويات كافة، لكنّه يجمع بين السيرة والتاريخ والدراسة، وهوى كاتبه الجنبلاطيّ لا ينفصل عن النصّ.

بيروت 1982
تأليف: غسان شبارو
عن الدار العربية للعلوم
18541_beirut-cmyk3_small.jpg

ميشال مراد

إنه 4 حزيران، يوم اخترقت الطائرات الحربية الإسرائيلية أجواء العاصمة بيروت. طلاب الجامعات يناقشون أساتذتهم والرجال يقومون بأعمالهم والنساء منهمكات في منازلهن. وإذا بدويّ الانجفارات يمزِّق السماء ويتصاعد الدخان الأسود فوق المدينة الرياضية والجامعة العربية وحيّ الفاكهاني.

لم تكن أهداف إسرائيل أهدافاً عسكرّية كما تدّعي دائماً، بل أصابت في غاراتها المدنيين الآمنين حتى باتت المستشفيات شبيهة بالمسالخ البشرية.

عايش غسان شبارو هذه المأساة من بدايتها وعانى مع مواطنيه أهوالها على البشر والحجر فانكبّ يروي تفاصيلها في إطار خيالي يتفاعل أبطاله ويتماهون مع الواقع. فالحوادث موثّقة وكان لها تأثير كبير على مسار تاريخ لبنان الحديث خلال الغزو الإسرائيلي له واقتحامه العاصمة وحصاره لها في العام 1982، أمّا الأبطال والشخصيات فهم افتراضيون، أسماؤهم من نسج الخيال.

لوحة الحرب

تنطلق الرواية من مقاعد طلاب الجامعة الأميركية في بيروت ولا يخفى كم لهذا الخيار من رموز على الصعيد الوطني. ففي الجامعات تنشأ مراكز البحوث وفي ملاعبها تتكوّن التظاهرات وفي أروقتها تتمخض الثورات. وتتشعّب الرواية فتدخل أروقة المنازل وغرفها والمجالات والملاجئ الضيّقة.

يتنقل غسان شبارو باسلوب رشيق من مشهد الى آخر فتكتمل لوحة الحرب بمآسيها وبطولاتها وتترابط موضوعاتها المختلفة بحبكة متينة على بساطة في التعبير وقدرة في تجسيد المشاعر المكنونة. وهو إلى ذلك يضمّن النص بعض المبادئ والمواقف التي يصرّ على إبرازها فالبروفسور شومان الاستاذ في الجامعة الأميركية صاحب مبدأ ولا يدخن السجائر الأميركية منذ أن أعلنت الجامعة العربية عن مقاطعة البضائع الأميركية في العام 1967 إثر هزيمة حزيران، رغم أنه سكن في أميركا لسنوات عديدة وتزوج من أميركية وحصل على جواز سفر أميركي.

نلمس أيضاً مشاعر المؤلف النبيلة حيال التعايش بين الطوائف المحمدية والمسيحية. يصف النواحي الإيجابية والإنسانية في علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض وبخاصة أولئك الناس الطيبين الذين يقطنون البناية عينها أو الشارع نفسه وربطت بين أبنائهم صلات المودة والصداقة.

ترتكز الرواية على محور مهم من محاور تلك الحرب الطاحنة هو تطوير صاروخ سام 7 الذي يطلق عن الكتف وتستخدمه المقاومة الفلسطينية. أظهر هذا الصاروخ عدم فاعليته لأنّ الإسرائيليين ابتدعوا البالونات الحرارية التي تجذب صواريخ سام اليها فتُشتت مسار الصواريخ فتنفجر في الجو بعيداً عن الطائرات المستهدفة أو تسقط حطاماً على الأرض.

كان البروفسور شومان يشاهد الطائرات الحربية الإسرائيلية تطير على ارتفاعات منخفضة جداً الى درجة أنه كان يمكن مشاهدة رأس الطيّار من قمرته وكذلك النجمة السداسية المرسومة عليها، ما جعل الطيارين يتجرأون على استخدام رشاشاتهم الثقيلة من عيار 800 ملم لإرهاب السكان المدنيين المتنقلين في سياراتهم في منطقة الروشة.

وكان البروفسور يتألم أشدّ الألم لدى رؤية الأجساد تتكتل على بعضها بعضاً في ملاجئ الأبنية وتفوح منها الروائح، بينما يرتفع بكاء الأطفال ممزوجاً بصوت انفجار القذائف المثير للأعصاب.

تعرّف البروفسور سامي شومان الى زوجته جولي خلال دراسته في كلية ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة وكانت زميلته في الاختصاص. أعجب بانسانيتها ودفاعها عن حقوق الإنسان الذي كان همّاً مشتركاً بينهما فأنجبت له ثلاث فتيات تدعى كبيرتهن رنا.

في تلك المعركة غير المتكافئة انصرف البروفسور للبحث عن دور له يدعم المقاومة الفلسطينية في تصدّيها للهجوم الغادر الذي يبغي تصفيتها وتهجيرها من لبنان فوجد غايته في العمل على تطوير مواصفات الصاروخ سام 7 لتمكينه من تعطيل أجهزة الإنذار والتشتيت العاملة على الطائرات الحربية الإسرائيلية فتسهل بذلك إصابتها.

شهب اللهب

رأى البروفسور في تلميذه راشد المساعد النجيب لتحقيق هذا الإنجاز فأوكل إليه مهمّات عديدة كان يقوم بها بحمية واندفاع، شرح له أن الهدف من أبحاثه جعل الصواريخ تتقصّى حرارة الأشعة ما فوق البنفسجية من مصدرين في الطائرات: بدن الطائرة من جرّاء احتكاكها بالهواء، ومن شهب اللهب الصادر عن عادم الطائرة، وفي هذا الحالة لن يستشعر الصاروخ حرارة الأشعة ما تحت الحمراء الصادرة عن البالونات الحرارية المضلّلة فيصيب الطائرة نفسها ويفجرّها.

في حين كان البروفسور منهمكاً يبحث في تلال الكتب والمراجع عن كيفية الوصول الى نتيجة مرضية، كان العدو يتقدم متجاوزاً مدينة صيدا الى الدامور حيث كمنت المقاومة فجرت معركة صاخبة بين الدبابات الإسرائيلية ودبابات جيش التحرير الفلسطيني الأثرية أسفرت عن كارثة عسكرية.

بشير الجميل

في الناحية السياسية ركّز غسان شبارو على اللقاءات والاتصالات التي كان يجريها بشير الجميل وأعوانه مع القوات الإسرائيلية ومع المسؤولين الأميركيين وبعض الجهات العربية. ولفت الى عدم تحرك أي دولة عربية في وقت كانت اسرائيل احتلت أكثر من ربع مساحة لبنان.

أصبح المحتلّ في ضواحي العاصمة بينما كانت صواريخ بوارجه الحربية تعاقب بيروت الغربية لصمودها ودفاعها عن كرامتها، وكان أحد أهدافه الرئيسية ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان.

في حين كان البروفسور شومان يجري مع راشد التطوير اللازم لصاروخ سام، كانت علاقة الصداقة بين الطالب ورنا ابنة البروفسور تحوّلت الى حبّ عذريّ بريء. وبعد أن انتهيا من وصل آلية التفجير وتأكدا من عمل نظام التوقيت فيه انصرفت رنا الى رسم كنار عليه بينما جلس البروفسور وراشد جنباً الى جنب يضعان النقاط الأساسية على طاقم إطلاق الصاروخ والطريقة الأسلم لضمان استخدامه في إصابة الهدف.

وبعد أيام معدودات نقلت وسائل الاعلام خبر إصابة طائرة فانتوم إسرائيلية بصاروخ سام أطلقه أحد المقاومين في سهل البقاع.

لم يهنأ البروفسور شومان وعائلته بهذا النصر، ففي اليوم التالي اشتعلت بيروت من جرّاء القصف البري والبحري، وكان راشد على وشك الخروج عندما استوقفه أحد أصدقائه طالباً إليه التريث قليلاً ليهدأ القصف ولو اضطر الى التأخر عن موعده مع البروفسور.

كانت الاستخبارات الإسرائيلية علمت أن أحد المسؤولين عن اسقاط طائرة الفانتوم يسكن عمارة في شارع اسكندر في منطقة الروشة فأرسلت طائرة 15 F لتطلق صاروخين على البناء الذي انهار معظمه وتحوّل الى تلّ من الحجارة والرمال والأخشاب والأثاث. وعندما وصل راشد على دراجته وقف مرتعباً، خائر القوى، وشرع يبحث في الركام عن أثر ما فإذا به يسمع صوت الكنار الذي أهداه إلى رنا يوم عيد ميلادها.

ازداد الضغط العسكري على العاصمة بوسائله المرعبة وتعدّدت الاتصالات والمخارج لانتخاب بشير الجميل المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية، بينما كانت القيادة الفلسطينية تعيش بشخصيتين متناقضتين تدعو إحداها المقاتلين الى الصمود والأخرى تفاوض فيليب حبيب بطريقة غير مباشرة على الرحيل من لبنان. لكن الخيار الثاني كان الأرجح فتمّ ترحيل الكوادر الفلسطينية عبر بوابة المرفأ.

إنفجار

علمت الاستخبارات الإسرائيلية بالعملية التي يعدّها الحزب القومي الاجتماعي لاغتيال بشير الجميل بعدما انتخب رئيساً للجمهورية لكنها لم تقم بأي محاولة أو تحرك لمواجهة الوضع. وفي 14 أيلول 1982 اغتيل بشير في الانفجار الذي حصل في بيت كتائب الأشرفية عندما كان يحثّ قيادة حزبه على دعم السلطة الشرعية وقواها على الأرض، وتبعت ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا.

عمّ هذا النبأ جميع الدول وقامت التظاهرات في المدن فاضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى سحب جيوشها من لبنان. غير أن راشد وبعض المجموعات الفدائية لن يدعوا الإسرائيليين ينسحبون بسهولة بل سيلحقون بهم حتى الحدود الجنوبية.

تذوّق

سحابة من الكآبة كانت تلفّ مقهى «ابو عفيف» حيث جلس راشد متورم العينين من الأرق وقد أطلق لحيته، ممسكاً ثمرة تين بين أصابعه المضمّدة، وهو يطعم كنار رنا عبر أسلاك القفص الذي وضعه على الطاولة. إلى جانبه جلست مدام ناديا محاولةً التخفيف عنه. روت له كيف أصاب القناص زوجها في رأسه قبل سبع سنوات وبقي ينزف وينازع لأكثر من خمس ساعات وهو يسبح بدمائه حتى أسلم الروح. ولم يستطع أحد سحبه عن قارعة الطريق لمدة يومين، بسبب عنف الاشتباكات بين المنطقتين الشرقية والغربية. بينما بقيت هي طوال هذين اليومين بلا طعام أو نوم، وهي مختبئة وراء حائط في بناية مقابلة تراقبه باكية ومنتظرة هدنة لوقف إطلاق النار لسحب جثته، بينما كانت القطط والجرذان والذباب تحاول نهش جسمه، وهي ترشقها بالحصى محاولة إبعادها عنه.

مسحت مدام ناديا دموعها المتجددة قائلة: إنه قدرنا، يجب أن نؤمن بأن كل ما يحصل لنا مقدر، وكل مقدر وراءه عبرة لبني البشر.

لمن هذا الكنار الجميل؟ سأل «رويتر» وهو يجلس الى الطاولة: ولماذا تركت شعر ذقنك ينمو بهذا الشكل يا راشد؟

إنها قصة طويلة. أجابته مدام ناديا.

خير إن شاء الله؟

روى راشد لهما ولجمال وعلي اللذين انضمّا إليهم كيف فجرت الصواريخ الإسرائيلية مبنى سكن البروفسور وهدمته بينما كان هو في طريقه لمقابلته، وكيف اكتشف جثته وجثث عائلته، وكيف ساعد في وضعهم في ثلاجة المستشفى بانتظار أن يتعرف عليهم أحد أفراد عائلتهم.

وماذا حصل لأصابعك؟ سأل جمال.

لقد جرحتها وأنا أبحث في الحطام، كما أن عيناي تقرحتا من الغبار والرمال والدخان... والدموع التي ملأتهما.

رحمة الله عليهم جميعاً. ولكن للأمانة يا راشد فإن ذقنك هذه لا تعجبني! بادره «رويتر» محاولاً ترطيب الأجواء.

ما رأيك يا راشد لو قمنا بطباعة صور للشهداء في المطبعة التي يعمل فيها علي ونلصقها على جدران الشوارع؟

لا، لا داعي لهذا، فالبروفسور رحمة الله عليه، لم يكن يحب هذه التصرفات.

تمنى راشد لو كان باستطاعته أن يخبر الجميع عن الإنجاز الذي حققه البروفسور والذي يستأهل بحق تكريماً أكثر من طباعة صور له. ولكن للأسف فإنه مضطر لكبت هذه المعلومات كي لا يعرض نفسه للخطر، فجواسيس إسرائيل في كل مكان، فمن كان يظن أن تصل ذراعهم الى البروفسور؟

لعنة القصر
ميشال مراد

39367_gassan-charbel-cmyjk_small.jpg


تأليف: غسان شربل

الناشر: رياض الريس للكتب والنشر

تبيّن للناشر رياض نجيب الرئيس أنّ كتاب «ذاكرة الاستخبارات» الذي حاور فيه الصحافي غسان شربل الضباط الأربعة الموقوفين حالياً بانتظار نتائج تحقيق المحكمة الدولية قد لاقى رواجاً لدى القرّاء، فألحّ على واضعه إعداد كتاب جديد يحظى بالإقبال عينه.

عاد غسان شربل الى ملفاته الغزيرة يبحث في طيّاتها عمّا يهديه الى رابط يجمع بين أحداث وقعت أو شخصيات التقاها وحاورها، فاستوقفته أسماء أربعة أصابتها «لعنة القصر» أو لعبته وهم الرؤساء الياس الهراوي ونبيه بري ورفيق الحريري وميشال عون.

لملم الصحافي حواراته ونسّقها بدون اخضاعها لأية عملية تحديث أو تشذيب تاركاً مهمة المقارنة والاستنتاج للقارئ، ثم دفعها الى الدار التي أصدرتها تحت عنوان «لعنة القصر».

هي اللعنة التي استهلّت ضربتها بالرئيس المنتخب بشير الجميل في العام 1982 فأطاحت بمشروعه قبل توليه مهماته. وهي اللعنة عينها التي تدخلت ثانية في يوم ذكرى استقلال لبنان لتطيح بالرئيس رينيه معوض وتبعثر أشلاءه في كل صوبٍ وناحية.

وبعد يومين من هذه الفاجعة تلقى السياسيون كلمة السرّ من الشقيقة سورية وإذا بالنائب الياس الهراوي الطامح الى الرئاسة بكل قواه يقسم اليمين في بلدة شتورا رئيساً لجمهورية فاقدة السيادة.

لم يختر غسان شربل عنوان كتابه عبثاً. فهو يعتبر أن «لعنة القصر» التي أودت ببشير الجميل واغتالت رينيه معوّض غيّرت تفسير الطائف ومصير الجمهورية ومصائر كثيرين. فهي جعلت من الهراوي رئيساً للجمهورية، وهي التي ضربت العماد عون بعد ترؤسه حكومة العسكريين على يد قوات سورية وأخرى تابعة للجيش اللبناني واضطرته الى اللجوء الى السفارة الفرنسية ومنها الى المنفى. وبعد خمودٍ تحت الرّماد تحرّكت فجأةً فأصاب زلزالها الرئيس رفيق الحريري فاختلت التوازنات القائمة وتمّ انسحاب الجيش السوري من الأراضي اللبنانية، وخرج الحكيم على أثرها من سجنه وعاد الجنرال من منفاه إلى وطنه.

الرئيس اللاذع

بعد مقدّمة مشوِّقة يستهلّ غسان شربل كتابه بالحوار الذي أجراه مع الرئيس الهراوي على دفعات عدة. لقد أثار شهيّته إخراج رئيسٍ سابق عن صمته، رئيسٍ تميّز بجرأته وصراحته وانتقاداته العفوية اللاذعة التي يصعب أحياناً سردها على الورق. والهراوي هو صاحب أول عهد رئاسي بعد اتفاق الطائف، وكان عليه استرجاع قصر الرئاسة من الجنرال ميشال عون ففعل بعد قرار صعب ومؤلم دعمته سورية وشاركت في تنفيذه.

توقّف الصحافيّ مع الرئيس الهراوي عند محطات كثيرة، وسأله عن الاتهامات التي وُجِّهت الى عهده، فراحت الإجابات تسلِّط الضوء على الحوار وتغنيه. ولا بدّ من التذكير في هذا المجال أنه بقدر ما يكون السؤال ذكياً وفي موقعه المناسب، فإنّ الإجابة عنه ستأتي وافية.

لم يتنكر الهراوي لأيّ اتهام وجِّه إليه معترفاً أنّ أمين الجميل لم يبذل جهداً لتسهيل خلفٍ له لأنه كان يحلم بالتمديد سنتين وأنه لم يوافق على ما أقرّ في الطائف لكنّ هاجس إعادة الشرعية ووقف القتال وتوحيد البلد كانت له الأولوية. وعن قرار إزاحة الجنرال عون عن القصر قال إنه لا يخجل أبداً في اتخاذه بتكليف العماد لحود وضع حدٍّ للتمرّد.

أخبر الهراوي قصة سمير جعجع قائد «القوات اللبنانية» وتشجيعه له على مغادرة لبنان فلم يقبل. ثم تبيّن بعد التحقيق في تفجير كنيسة «سيدة النجاة» أنّ جعجع هو الذي دبّر اغتيال داني شمعون.

ولم يكتفِ بهذ القدر بل استرسل في إبداء رأيه بالرئيس حسين الحسيني الذي اتهمه بأن إيقاظه مرسوم تعويضات الموظفين بعد سنة كان أحد الأسباب الرئيسة للكارثة المالية التي ضربت البلد.

الاستاذ نبيه

تسلّل غسان شربل الى ذاكرة الاستاذ نبيه بري الذي بدأ نجمه يلمع منذ جلس الى جوار الإمام موسى الصدر ثم أطلق عملية المقاومة ضد إسرائيل.

انصبّت أولوية الحوار على الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 الذي وصل الى مشارف بيروت وعلى إثره سقطت جميع الإشكالات التي كانت قائمة بين «أمل» من جهة والمقاومة الفلسطينية و»الحركة الوطنيّة» من جهة أخرى. وخلالها ألف الرئيس سركيس هيئة الانقاذ الوطني التي اجتمعت في القصر وكان عمادها بشير الجميل ونبيه بري ووليد جنبلاط وفيها اتهم وليد بشير الجميل قائلاً: «أنت متعامل مع العدو» فردّ بشير» وأنت استقبلت شمعون بيريز». وكانت إحدى نتائج الاجتياح خروج أبو عمار والمسلحين الفلسطينيين من لبنان بحراً وإعلان الطلاق بينه وبين دمشق التي خسرت ما يعادل 12 ألف شهيد في المعارك التي خاضتها.

عقد الثمانينيات كان مشتعلاً بالأحداث، وفي محطتين منها أدّى بري دوراً فاعلاً طبع فيه بصماته. الحدث الأول هو الحركة التي حصلت في 6 شباط 1984 عندما استخدم الجيش في هجومه على الضاحية 12 ألف جندي واحتل المنطقة بكاملها. وعندما أراد الدخول إلى بيروت الغربية في مرحلة ثانية أطبق شباب حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي عليه وتمّت السيطرة نهائياً على المنطقتين، وتغيّرت بذلك موازين القوى في العاصمة وفي البلاد كلّها.

يفتخر برّي بأن حركة «أمل» هي رأس الحربة في مقاومة العدوّ الإسرائيلي، وأن أكثر قادة «حزب الله» الحاليين جاءوا من «أمل». فالأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله كان مسؤولاً في «أمل» في بلدة البازورية، والسيد ابراهيم الأمين رئيس كتلة الوفاء للمقاومة كان عضواً في إقليم البقاع، والنائب السابق علي عمار كان عضواً في المكتب السياسي.

زمن الحريري

قطب سياسيّ واقتصاديّ نادراً ما تجود به البلد هو رفيق الحريري. كان يحلم بعد اعادة إعمار بيروت بإعادة إعمار المعادلة اللبنانية انطلاقاً من اتفاق الطائف. ولم يكن يتوقع اغتياله لأن هذا القرار كبير وخطير ومكلف ولا يمكن أن يتخذه شخص عاقل. ولكن هل الذي اتخذ القرار هو شخص أم مجموعة أم حزب أم دولة أم منظمة؟

حوارات عدة أجراها غسان شربل مع الرئيس رفيق الحريري بدأها في سردينيا العام 1999، وكان آخرها في بيروت قبل أسابيع من اغتياله، على أمل استكمالها لاحقاً في خلوة في قصره الجبلي في فقرا شرط موافقته المسبقة على توقيت نشرها.

كان لرفيق الحريري بصمات في كل المحطات، من إلغاء اتفاق 17 أيار اللبناني ـ الإسرائيلي الى «الاتفاق الثلاثي» بين الميليشيات الكبرى وصولاً الى مؤتمر جنيف ولوزان وعهد الحكومتين واتفاق الطائف، ونفى أن تكون له أية علاقة بقرار مجلس الأمن الرقم 1559 معتبراً أنّ تفادي القرار كان ممكناً حتى آخر لحظة.

تحدّث الحريري في لقاءاته عن علاقته بالرئيس لحود وعن رفضه أن يكون رئيساً في عهده. وتحدّث أيضاً عن علاقته بالرئيس حافظ الأسد الذي التقاه أكثر من 50 مرة. وحكى عن علاقته بالملك الراحل فهد بن عبد العزيز وبعض الذكريات في مجلسه.

ويروي الحريري أيضاً قصة نشأته وسلوكه دروب النجاح والثروة والمبادئ التي انطلق منها في عمله السياسي، فيقول: «أحياناً لا أكاد أصدّق أنّ رفيق الحريري الذي انطلق من الصفر تمكن من الوصول الى ما يتخطى أحلامه»، ولم يصدّق اللبنانيون أيضاً أنّ الشهادة ستكون نهاية حلم الحريري.

«لعنة القصر» كتاب فيه من التوثيق ما يجعله مرجعاً للاطلاع على مراحل هامة من حقبة الأحداث التي زعزعت كيان الوطن اللبناني، وفيه من التشويق والإثارة ما يجعلنا نتبحّر بخلفيات القرارات وذهنيات الرجال الذين اتخذوها أو شاركوا بها.

العماد المنفيّ

غادر الرئيس أمين الجميل قصر بعبدا ليلة 22 أيلول تاركاً المكان في عهدة رئيس حكومة العسكريين العماد ميشال عون إزاء حكومة الرئيس الحص التي اعتبرت نفسها حكومة لبنان الشرعية. وأزيح العماد عن القصر بعملية عسكرية تمّ بعدها نفيه الى فرنسا.

رغب غسان شربل في إنعاش ذاكرة الجنرال فذهب إليه في منفاه في لاهوت ميزون، وإذا بعزيمة الجنرال لا تزال متقدة والرغبة في العودة الى الوطن تشتعل في صدره.

تذكر العماد طفولته في حارة حريك في بيئة متعددة الانتماءات الطائفية، ورفضه للمجتمع السياسي وألاعيبه مما وضعه على درب المؤسسة العسكرية التي تتمتع بالاستقلال. وتحدّث عن تدرجه في الجيش واعتراضاته التي كان يرفعها الى القيادة عندما يشعر بضعف قراراتها أو خطئها.

يستعيد عون في رحلة الذاكرة ثلاثة مشاهد صنعت علاقته بالوطن ومتنتها وهي: «حين دخل الجنود الأستراليون خلال الحرب العالمية الثانية منزلنا وطردونا وناموا في أسرتنا، ويوم تظاهرنا من أجل الاستقلال في 1943، ويوم رأيت الفلسطينيين يصلون كلاجئين في حالة مؤلمة في 1948... وهذه المشاهد علّمتني التشبث بالأرض ورفض أي تفريط بالسيادة. هذه ثوابت لديّ لا تقبل الاجتهاد».

عبّر العماد في الحوارات معه عن مواقف مبدئية، «فلبنان لا يحكم من دمشق ولا يحكم من بيروت ضد دمشق» وهو لم يعتدِ على سورية في أرضها بل شن حرب التحرير عليها في لبنان، ولو أراد أن يصبح رئيساً بشروطها لتحقق الأمر بسهولة. أما الأميركيون فقد اتبعوا سياسة إرضاء إسرائيل وسورية على حساب البلد الصغير الذي اعترض على هذه اللعبة. كما أكد أن اتفاق الطائف انعكس سلباً على وضع المسيحيين في لبنان.

الجريده


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 24-11-2010، الساعة 06:36 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
22-03-2010, 01:09 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

عزلة الأحبّة...
هل يتغلّب الحب على الوحدة؟
بيروت - سليمى شاهين

ما أقسى الشعور بالعزلة حتى عندما تكون بقرب الحبيب! إنها حالة استثنائيّة فريدة يتطرّق إليها الكاتب باولو جيوردانو في كتابه «عزلة الأحبّة» الصادر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون». رواية مؤثرة تتقصّى مصير صديقين جمعتهما طفولة مأساوية، وتطرح تأملات وأسئلة في الوحدة والحب وقسوة الانعزال.

لم ترغب أليس يومًا في التزلّج على الثلج، ومع ذلك فإنّ والدها لم يترك لها الخيار لأنه يودّ رؤيتها في طليعة المتزلجين الذين ينالون النجوم والأوسمة منذ نعومة أظافرهم. ولم يكن في مقدورها أن ترفض أوامر والدها المتعدّدة: شرب الحليب صباحًا واختيار الألبسة الرياضيّة الثقيلة والتدرّب الشاق عند طلوع الشمس.

وفي ذلك النهار المشؤوم الذي تحضّر الجميع فيه للمباراة، صعدوا إلى قمّة الجبل للانطلاق نزولاً على زلاجاتهم. كان الضباب منتشرًا بكثافة، وشعرت أليس بحاجتها للذهاب إلى الخلاء، فانتحت جانبًا بين أكوام الثلج لتؤدي حاجتها، وإذا بها تنقلب على ظهرها.

حاولت أليس الصراخ طلبًا للمساعدة لكن صوتها الواهن ضاع في الضباب، وكانت قد بدأت تفقد الإحساس في أصابعها التي غدت زرقاء، ومن ثمّ ذراعيها وساقيها، وتخيّلت قلبها يضخ بجهد أكبر للاحتفاظ بما تبقى من دفء في جسدها.

كانت قد بدأت تفقد التركيز في الوقت الذي شرعت أشعة الشمس تختفي وراء الجبال رويدًا رويدًا ويتّشح الضباب بالسواد.

وفي مكان آخر من الزمن نفسه، كان توأمان صغيران يلاعبان أباهما. ميشيلا الصغيرة المعوّقة التي لا تستطيع الكلام ولا التركيز على الأشياء، وأخوها ماتيا الذي اكتشف بنفسه أن شقيقته تعاني من خطب ما عندما رفض جميع رفاق الصف الجلوس إلى جانبها، فطلب من المدرّسة أن تختاره ليكون بالقرب منها، وعمّ الارتياح أجواء الغرفة.

بعد أيام دُعي التوأمان إلى حفلة ميلاد رفيقهما ريكاردو، ففرحت الأمّ كثيرًا لأنها المرّة الأولى التي ستذهب فيها ميشيلا لحضور حفلة، لكن ماتيا أخذ يفكر بما ستقوم به أخته من أعمال ساذجة وغبيّة ستثير ضحك الجميع واستياءهم.

على امتداد الطريق في اتجاه منزل ريكاردو كانت أفكار ماتيا تتجه نحو مكانٍ آخر، فأمسك بيد أخته وسار بها إلى المنتزه. وعندما وصلا النهر، طلب منها أن تلعب وحدها ريثما يعود من الحفلة ظانًا أنها لن تخبر والديه بالأمر.

كانت الحفلة في أوجها عندما دخلت والدة ريكاردو الغرفة المظلمة مع قالب الحلوى المغطى بشموع مضاءة، وبدأ الجميع بالتصفيق والغناء، فهبّ ماتيا من مكانه وغادر الغرفة مسرعًا. دخل المنتزه العام متجهًا حيث كانت ميشيلا تجلس منذ ساعات قليلة فلم يجد أحدًا. شرع يناديها بأعلى صوته فلم يسمع جوابًا. ركض يبحث بين جذوع الأشجار علّها تكون مختبئة فضاعت جهوده سدًى. هرع إلى ضفة النهر حيث كانا يلعبان مع والدهما فمرّت في مخيلته صورة ميشيلا تحمل لعبتها وهي تنزلق ببطء إلى داخل الماء. وبعد شعوره بالإرهاق، جلس على بعد قدمين من الضفّة ينتظر ظهور شقيقته على صفحة المياه البرّاقة، فغابت الصور من ذاكرته وأخذت معها الأسماء وكل ما يربطه بالمكان.

وينتقل المؤلف من لوحة إلى أخرى في عالم أليس التي أُنقذت وهي على شفير الهلاك. لكنها لم تعد تلك الفتاة الضحوك بعد ذلك الحادث الرهيب الذي تعرّضت له بسبب تصرفات والدها المتعسّف، إذ أُصيبت بمرض فقدان الشهيّة وأصبح ذكر الطعام يصيبها بالغثيان.

أمّا ماتيا الذي فقد أخته إلى الأبد عندما تركها وحيدة في المنتزه وغاب جسدها الطريّ في أحضان المياه العذبة، فإنه تحوّل إلى فتى يبحث عن كل أداة يستطيع أن يجرح بها نفسه، فتى حساس الطبع، حادّ الذكاء، يجد في أذيّة نفسه ما يريحه من معاناة الضمير.

وتشاء الصدف أن تنتمي أليس إلى المدرسة عينها التي يذهب ماتيا إليها. وكانت الإشاعات قد بدأت تنتشر عن الفتى المضطرب العقل الذي يربط يده بضمادة لأنه طعنها بسكين. وفي هذا الجوّ الذي لم يكن ماتيا يستسيغه أبدًا تعرّف إلى أليس التي حاولت التقرّب منه واكتساب ودّه. شاب مضمّد اليد، تحمل ذراعاه آثار الندوب والجراح، وفتاة أمست عرجاء بسبب الصقيع الذي جمّد الدم في عروقها عندما ضاعت فوق الثلوج.

كانت سنوات المدرسة المتوسطة جرحًا مفتوحًا بدا لماتيا وأليس أنه لن يندمل أبدًا. لقد أمضيا السنوات في حالة حبس الأنفاس. هو يرفض العالم متعلقًا بذكرى أخته التوأم التي تسبّب بموتها، وهي تشعر أنها مرفوضة من العالم للعاهة التي أصابتها كما تحمل في أعماقها لومًا شديدًا لوالدها. لقد بنيا صداقة ناقصة وغير متماثلة شابتها غيابات طويلة والكثير من الصمت.

وعلى مرّ الزمن التأم جرح المراهقة، لكن شعور الصديقين بالوحدة والضياع لم يكن كافيًا للمس أحدهما الآخر والاقتراب روحيًا من بعضهما البعض، فانصرف ماتيا كليًا إلى شغفه بالأعداد وحملته الرياضيات إلى الزوايا الأكثر بعدًا وفتنةً في الفكر البشري، فتخرّج من جامعته بتفوّق لفت الأنظار.

أراد المؤلف أن يحدث صدمة في مسار روايته لتتشعّب درب الاثنين، فبعث إلى ماتيا برسالة تعلمه أنه حاز منحة تخصص لأربع سنوات في إحدى أهمّ الجامعات، وجعل أليس تلتقي بطبيب وسيم حرّك في كيانها مشاعر الإعجاب فغدت على ثقة في أن ما يمكن العثور عليه مع صديقها الجديد هو حب أكبر من الحب الذي لقيته يومًا!

هل تحقّقت أمنية أليس في حياتها الجديدة؟ وهل تخلّص ماتيا من عقدة الذنب التي لازمته مدى شبابه بانصرافه الى حقل الرياضيات؟ تأملات وأسئلة في الوحدة والانسحاق والحب تطرحها رواية «عزلة الأحبة» التي تدور حول محور واحد: «هل يمكن لأحدنا أن يكون كيانًا منعزلاً وهو في حالة حب»؟.

الجريده

152335_karl-rove_small.jpg



Courage and Consequence
...شجاعة بوش الإبن
ديفيد شريبمان

ما طبيعة مذكّرات تحمل اسم Courage and Consequence؟ ذلك هو عنوان كتاب كارل روف الجديد، وقد يستخلص متصفّحو متاجر الكتب بسهولة أن الشجاعة والعاقبة اللتين يشير إليهما روف يتعلّقان به.

يستحيل معرفة نوايا روف، لكن دعونا لا نحكم عليه قبل التأكّد منها. ففي النهاية، يتمثل الموضوع السائد في هذا الكتاب في شجاعة الرئيس الأميركي السابق جورح بوش الإبن وعاقبته.

بغض النظر عن العنوان العريض لهذا الكتاب، الذي يذكّر على نحو غريب بروديارد كيبلينغ الذي نشر كتاب Captains Courageous خلال عهد الرئيس ويليام ماكينلي الذي يكنّ له روف إعجاباً كبيراً، تتحدّث المذكّرات عن حياة أميركية لافتة وتعرض بالتالي قصّة أميركية لافتة.

فتطرّق إلى الطفولة المعقّدة؛ الحركات الفكرية والعقائدية الأولى؛ الفرص التي يصادفها الشبان لدى الشخصيات التي اشتهرت بسرعة، بمن فيهم الخبير الاستراتيجي اللاحق، لي أتواتر ورئيسان لاحقان يُدعيان جورج بوش؛ الحظ والذكاء في اكتشاف أن بوش الإبن كان أكثر حظاً وذكاءً مما ظّن معظم من في وسطه؛ حملة لامعة في تكساس ضد حاكمة نموذجية تُدعى آن ريتشارد أعقبتها انتخابات جريئة في العام 2000؛ وبالطبع آلاف الساعات الحافلة في خلال السنوات الثماني في البيت الأبيض.

تضمّ هذه القصّة بطلين، هما روف وبوش، ويتمحور جزء كبير من هذا الكتاب حول اكتشاف، لا بل شرح، أساليب جورج بوش الإبن التي تُلخّص كما يلي: لم يكن كسولاً. لم يكن محدوداً فكرياً. لم يطلب من الأميركيين التسوّق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لم يجز التعذيب. لم يغزُ العراق لإنهاء المهمة التي بدأها والده.

وفقاً لهذه الرؤية، فإن الرئيس الأميركي الثالث والأربعين رجل طيّب وبسيط قُلّل من شأنه، بحسب تعبير بوش المفضّل، وأسيء فهمه بين الديمقراطيين والصحافة.

من ثم يأتي دور البطل الآخر في هذا الكتاب. يرى روف نفسه رجل فكر من جهة، ورجل عقيدة من جهة أخرى، ومُشرّباً بالمبادئ المحافظة ومتمرّساً في المنطق الحكيم. يبدو هذا التقييم في العموم عادلاً. مما لا شك فيه أنه مُصارع سياسي، وسيجد ذوو السلوك الضاري من المحافظين بين صفحات هذا الكتاب مواد دسمة كثيرة ستروق لهم.

فالديمقراطيون، مثلاً، «غير أخلاقيين» في مسألة التجارة، وتعاملهم مع المرشّحين الجمهوريين لمنصب قضاة كان «مريعاً». أمّا سلوكهم خلال إنشاء وزارة الأمن الوطني فشكّل «مثالاً غير متحضّر عن الحزبية». وبخصوص العراق، «أوشك الديمقراطيون بشكل خطير على تشجيع الهزيمة».

نجد في هذا الكتاب أيضاً مظاهر ازدراء كثيرة بمنافسي روف، إذ يتّهم آل غور بـ{عرض نفاق مثير للشفقة»، النعت المفضّل لديه. وبعد تسع صفحات، يشن هجوماً آخر على آل غور والأعضاء في مجلس الشيوخ هاري ريد، جون ف. كيري، وإدوارد م. كينيدي.

مع ذلك، لا يستثني روف نفسه من هذا الهجوم. فيقرّ بأخطاء كثيرة، منها السماح لبوش بالطيران فوق نيو أورليانز خلال كارثة كاترينا، والإغفال عن حساسية اختيار بوش لهارييت مايرز للمحكمة العليا، والسماح بشيوع الحديث عن كذب بوش بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق.

يكتب روف: «نظراً إلى انشغالي بالحملة المقبلة وضغوط الجدول اليومي في الجناح الغربي، لم أدرك مدى الضرر الذي سببه هذا الغزو».

في المقابل، يحشو روف مذكّراته بمعلومات كثيرة حول الشؤون الداخلية، لا سيما القصة المثيرة للاهتمام بشأن حالة الفريق الرئاسي الفكرية في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتحرّكاته. وإن كنت ترغب في الاطّلاع مجدداً على قصّة التقدم الذي أحرزه بوش في كارولاينا الجنوبية خلال الحملة الانتخابية في العام 2000، وانكشاف عملية اعتقاله في كينيبانكبورت في العام 1976 بسبب القيادة تحت تأثير الكحول، والقصة الغامضة عن بعثة جو ويلسون إلى النيجر، عندئذ سيوفّر لك روف ساعات كثيرة من القراءة الممتعة.

لكن عليك القراءة مع أخذ التحذير التالي في الاعتبار: لئلا تعتقد بأنك ستستمتع بالفصل 24 المعنون «الأدوية والزواج»، دعني أفسد عليك متعتك وأخبرك بأنه عبارة عن سرد مبهر لكيفية نشوء برنامج بوش بشأن الأدوية الموصوفة وسياسته تجاه زواج المثليين. ففي النهاية، إنها مذكرات سياسية تتضمن المباهج وخيبات الأمل كافة التي يوفّرها هذا النوع من الكتب المتصنّعة والتي تخدم المصلحة الذاتية.


الجريده

الليبرالية وحدود العدالة لمايكل ساندل...
الضرورة الأخلاقيّة والدينيّة في الممارسة السياسيّة
بيروت - عبدالله أحمد

152500_thumb_liberalism20and20th_small.jpg


صدر حديثاً عن {المنظمة العربية للترجمة} بدعم من {مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم} وتوزيع {مركز دراسات الوحدة العربية} كتاب {الليبرالية وحدود العدالة} للكاتب الأميركي مايكل ساندل (ترجمة: محمد هناد).

يقدم المجتمع الليبرالي نفسه على أنه لا يسعى إلى فرض نمط وحيد للحياة، بل يترك مواطنيه أحراراً إلى أقصى حد ممكن في اختيار القيم التي ترضيهم. لذلك، نجد أن هذا المجتمع يحتاج إلى مبادئ تتوخى العدالة من دون فرض رؤية مسبقة للحياة الخيّرة. ومع ذلك هل يمكن إيجاد مثل هذه المبادئ؟ في حالة الإجابة بالنفي، ما هي الآثار المترتبة على ذلك بالنسبة إلى العدالة كمثل أخلاقي وسياسي؟ يعالج مايكل ساندل مثل هذا النوع من الأسئلة الذي يحتوي على نقد عميق لليبرالية في عصرنا. ويرجع ساندل هذه الليبرالية إلى التقليد الكنتي، مركزاً على أهم أشكال التغير عنها في عصرنا.

في مقدمته، يرى محمد هناد أن الكتاب يتصل بمسائل شكلت، في الثمانينات من القرن الماضي، موضوع نقاش واسع في الولايات المتحدة بين ما سمي آنذاك بالليبراليين والجماعاتيين حول ذات الفرد، من حيث جوهره ومن حيث مدى تحدد وجوده بمختلف الروابط الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة، وعلاقة هذه الروابط بمسائل مثل المساواة والحرية والعدالة التوزيعية.

قسم ساندل كتابه إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة وفصل ختامي. في المقدمة يذكر الكاتب بنظريات فلاسفة كبار بشأن مفاهيم جوهرية، مثل العدالة والحق والخير، لا سيما أرسطو، والفيلسوف الإسكوتلندي هيوم والفيلسوف الألماني كنط. أما الفصول الأربعة، فقد تضمن كل منها جملة من المسائل المحورية.

في الفصل الأول، يتعرض ساندل لمفهومي العدالة والذات الأخلاقية، من خلال الطعن في مسألة أسبقية الحق المطلقة على الخير (أي مسلمات العقل على مسلمات المنفعة)، باعتبار العدالة {قيمة القيم} لدى رولز، مبيناً طابع هذه الأسبقية الاعتباطي ما دمنا بحاجة إلى طريقة مضمونة في ربط العدالة بالمبادئ السابقة عليها. لذلك ينتقد ساندل رولز في محاولة إقامته ليبرالية من دون ميتافيزيقيا، مستنداً في ذلك إلى فكرة {الوضع الأصلي} لديه ليثبت أنه لم يستطع التخلص من الميتافيزيقيا الكنطية على الرغم من محاولته هذه. أما المسائل الأخرى التي يتناولها هذا الفصل، فهي تتمحور حول مفهوم الذات من حيث استقلاليتها وأسبقيتها على حيازاتها، من قيم وغايات يجب ألا تتداخل معها وإلا فقدت ماهيتها. كما يتناول ساندل أيضاً في نهاية الفصل إشكالية {الفردانية ومزاعم الجماعة}، ليشير إلى استحالة ما يسميه رولز بـ{اللامبالاة} في الوضع الأصلي.

تفاوت اجتماعي

في الفصل الثاني، يتناول ساندل نظرية رولز في الشخص ونظريته في العدالة {كي لا نرى إذا ما كانتا متفقتين}، لأنه من الصعب، كما يقول، أن نعتبر العدالة أولية ونقر، في الوقت ذاته، بمبدأ الفرق الذي يجعل رولز لا ينكر التفاوت الاجتماعي من حيث المبدأ، شريطة أن يكون في مصلحة من هم أقل حظاً في المجتمع. ولتوضيح ذلك، يتناول ساندل جملة مسائل رئيسية ذات الصلة، مثل الحيازة والاستحقاق في سياق العدالة التوزيعية، مقابلاً بين نظرية رولز {القائل بنظرية الرفاه العام}، ونظريات غيره في هذا الشأن، لا سيما نظرية نوزيك {الليبرالي المحافظ} المعارضة، وذلك نظراً إلى كون هذين المفكرين {حددا في ما بينهما أوضح البدائل التي قد توفرها الأجندة السياسية الأميركية حالياً، على الأقل في ما يخص المسائل المتصلة بالعدالة التوزيعية}.

في تناوله مسألة حيازات الفرد، ينطلق المؤلف من التمييز بين فكرتي {الاستحقاق} و{التخويل} لمناقشة مدى أهلية الفرد لما يحوز: هل هو مالك لما يحوز أو حارس له أو مؤتمن عليه؟ لأن رولز يعتبر أن جميع الحيازات، بما في ذلك الطبيعية منها، تحصل بصورة اعتباطية وليس لصاحبها فضل فيها، ما يجعلها، جوهرياً، حيازات مشتركة في سياق الوضع الأصلي المفضي إلى العقد الاجتماعي.

مسألة العقد الاجتماعي هذا، كما يتصوره رولز، هي التي يتناولها ساندل في الفصل الثالث من كتابه، للنظر في مدى قابليته للتبرير بوصفه عقداً تسعى الأطراف بفضله إلى الاهتداء إلى مبادئ العدالة العامة عن طريق التداول، أي مبادئ {من المفروض أن يتقبلها أشخاص أحرار وعقلانيون، حريصون على خدمة مصالحهم الخاصة في وضع أصلي قائم على المساواة} كما يقول رولز، غير أن ساندل يشير إلى أنه ينبغي ألا ننسى أن هذا العقد ما هو سوى عقد افتراضي أصلاً، أي عقد لا تكمن صحته في بنوده، كما هي الحال في العقود العادية، بل في الفكرة التي تفيد بأن هذه البنود هي التي كان سيقع عليها الاتفاق في ظل الشروط الافتراضية المطلوبة. هكذا، يخلص مايكل ساندل إلى القول أن فهم الوضع الأصلي المفضي إلى العقد لا يتصل بما يقرره بعض الأطراف بل بما يكشفه. فما يجري في الوضع الأصلي ليس عقداً، بل هو بروز وعي ذاتي لدى كائن إنساني من حيث علاقته بغيره.

العدالة والخير

في الفصل الرابع، يتناول مايكل ساندل مسألة {العدالة والخير} من حيث أسبقية الأولى على الثاني لدى رولز، مستعملاً في ذلك حجة دوركين مصلحة ما يعرف بـ{التمييز الإيجابي} وتطبيقه في مجال التسجيل الجامعي في فائدة من هم أقل حظاً (المواطنون السود خصوصاً) في المجتمع الأميركي. في هذا الشأن، يدرج المؤلف ردين افتراضيين طريفين توجههما الجامعة إلى طالبين يريدان التسجيل في كلية الطب أو القانون بها (نظراً إلى القيمة التي تحظى بها هاتان الكليتان)، أحدهما بالرفض والآخر بالقبول، مع شرح الأسباب {حاجة المجتمع}، أي بالمصادفة. في الرد الأول، تقوم الحجة على تصادف قدوم الطلب} مع قلة حاجة المجتمع إلى الخصال التي تعرضها عليه' على رغم الاعتراف بقيمة هذه الخصال، أما في الرد الثاني، فإنها تقوم على تأكيد عدم فضل الطالب المحظوظ ما دام هذا الفضل يعود إلى المصادفة. يتخذ المؤلف من هذين الردين وسيلة لإبراز الصعوبات الجمة التي تطرحها العلاقة بين الاستحقاق، العدالة والخير.

أما في الخلاصة، فينتهي المؤلف إلى أن سعي الليبرالية المفرط إلى احترام المسافة الفاصلة بين الأنا وغاياته وحيازاته تجعله خارج نطاق السياسة. في رأيه، من شأن مثل هذا الموقف إغفال {روح الحنو في السياسة وما تتيحه من إمكانات جمة}. كذلك لا يأخذ بعين الاعتبار الأخطار المحدقة متى انحرفت السياسة، مضيفاً أنه متى صلح حال السياسة استطعنا أن نعرف معاً {خيراً لا نستطيع معرفته بمفردنا}.

يخصص ساندل فصلاً ختامياً للرد على {ليبرالية رولز السياسية}، كما جاءت في كتاب متأخر لهذا الأخير بعنوان الليبرالية السياسية، صدر عام 1993. يتناول المؤلف في هذا الفصل القول بضرورة عدم الأخذ بالاعتبار القناعات الأخلاقية والدينية في الممارسات السياسية، مبيناً وجوب محاورة الناس فيها والاهتمام بها، بل وتحديها أحياناً، لا سيما إذا كانت هذه القناعات ذات الصلة بقضايا سياسية مهمة.

ينهي مايكل ساندل فصله الختامي وكتابه بموقف جدير بالانتباه، إذ يقول: {غير الاحترام الحاصل بفضل التداول والاهتمام المتبادل بقيم الغير عوض اللامبالاة بها يتيح عقلاً عمومياً أوسع مما تتيحه الليبرالية، كذلك يناسب مُثل المجتمع التعددي أكثر}. ولما كانت خلافاتنا الأخلاقية والدينية انعكاساً لتعدد صور الخير البشري في نهاية الأمر، فإن نمط الاحترام القائم على التداول سيسمح لنا، أكثر من غيره، بتقدير صور الخير المتجلية في اختلاف حيواتنا.

على رغم ذلك، لا بد من لفت الانتباه إلى أن كثيراً من ردود ساندل على رولز جاءت جدالية، بل لو دققنا النظر فيها جيداً لوجدناها غالباً، لا تنال مما قاله رولز ذاته بقدر ما تدعمه وتثريه بشكل أو بآخر.

سيوران في تاريخ ويوتوبيا...
الأيديولوجيّات تختلق فراديس في الزمن
بيروت - محمد الحجيري

في ترجمته كتاب «تاريخ ويوتوبيا» للفيسلوف الفرنسي أميل سيوران، اختار المترجم التونسي آدم فتحي أن ينقل إلينا «جنساً أدبياً» جديداً كان سيوران أول من دعا إليه ودافع عنه. ولقي هذا الجنس بعد ذلك شهرة كبيرة مع كتّاب فرنسيين كبار، أمثال موريس بلانشو وجورج بيروس.

يضم «تاريخ ويوتوبيا» مقالات مطولة سيوران فيها أقرب الى المؤرخ منه الى الفيلسوف، فيبحث عن الدوافع الخفية وراء مختلف الأنظمة السياسية، معتبراً أن الأيديولوجيات تختلق فراديس في الزمن، ويكون موقعها إما في الماضي (النشأة) أو في المستقبل، ذلك بحسب الرغبة في الدعوة إلى الحنين إلى الماضي، أو إلى عبادة التقدم.

«تاريخ ويوتوبيا» بحسب ما كتب أيمن حسن في المقدمة أكبر كتب سيوران نظاماً ونسقية في بنيته الفكرية والأسلوبية، «يطرح قضايا حالية» هي قضايا علاقتنا مع التاريخ، تاريخنا، في تبلوره وسيره جنباً الى جنب مع اليوتوبيا، أي أحلامنا وكوابيسنا معاً، التي ما استطعنا بعد رؤيتها بشيء من التروي والنضج في الفكر والقول والعمل على حد سواء. والتأريخ بالنسبة إلى سيوران نقيض الأخلاق. وإذا بدأنا بالإيغال فيه والاستغراق بالتفكير يكون أمراً غير ممكن تماماً ألا نقع في التشاؤم. فالمؤرخ – المتفائل هو النقيض أساساً. ومثل هذا الشخص أعجز عن تصوره. بالنسبة إليه التأريخ نظام نظري اكتشفه في وقت متأخر جداً، وفي شبابه منعه كبرياؤه المفرط من أن يقرأ المؤرخين. فحينها قرأ الفلاسفة فحسب ثم تركهم وأخذ يقرأ الشعراء. وفي عمر الأربعين اكتشف التأريخ الذي لم يعرفه سابقاً، فأصابه الفزع. كان ذلك أحد أكبر درس للكلبية استطاع تصوره. رؤياه للأشياء كانت دوماً، غير مسرّة، لكن عند اكتشاف التأريخ طرد الأوهام كافة.

وإذا كان «تاريخ ويوتوبيا» ينتمي الى جنس الفكر أو المقالة الفكرية، فإن كتابة سيوران تتجاوز هذه المنظومة أو تتحرر منها، لتثبت وََهنَ النظريات كافة الخاصة بالأجناس الأدبية. فـ{الكتابة هنا كتابة فحسب. كتابة تنسلخ عن الأجناس كي تصير ماهيتها، ماهية ذاتها تحديداً، أي فعلاً شمولياً إن نمّ عن شيء فعن إيمان عميق بعبثية كل شيء، حتى الكتابة ذاتها». سيوران الذي قرأنا للمرة الأولى عبر كتابه «توقيعات» بترجمة صعبة الفهم صدرت عن «دار الجديد» في بيروت، قرأنا له كتاباً عن «دار الجمل» بعنوان «المياه كلها بلون الغرق»، وحديثاً نشر أحد المواقع الثقافية ترجمات لبعض شذراته وحوارات معه تبين أقنعته في الكتابة، بل هذيانه في كتابة الشذرات والمقاطع الفلسفية، فسيوران دأب على الكتابة والنشر طوال حياته في ما لا يدع مجالاً للشك في حرصه على الحضور إلا أنه كان يريد حضورا خالياً من الضجيج والمعمعة، ظل حريصاً على الإقامة في الظل بعيداً عن الإعلام ولعله كان أسعد حالاً طوال الثلاثين سنة التي ظلت كتبه خلالها تطبع في نسخ محدودة لتعتني بها قلة من النقاد والمعجبين، فهو رأى أن «النسيان لا يطاول إلا الكتاب الذين «فهموا» والذين لم يعرفوا كيف يضمنون «سوء فهم» الآخرين لهم». إلا أن شهرته تضاعفت بعد صدور «رسالة في التحلل»، ضمن سلسلة كتاب «الجيب» ونقل أعماله الى الإنكليزية والألمانية عند منحه جائزة «بول موران» عام 1988، فاضطر الى رفضها لأن التكريم لا يعني له إلا شيئاً واحدا ظل طوال حياته يعتبره منافياً للقدر اللائق بكاتب مثله، وقال متحدثاً عن بورخيس: «لا عقوبة أشد من التكريس، ما إن يصبح الكاتب مرجع الجميع حتى يتعذر الرجوع إليه خشية أن نزيد حشد المعجبين به أي خشية أن نزيد أعدائه». ‏

اللافت في «تاريخ ويوتوبيا» المترجم حديثاً الأسلوب الذي اعتمده سيوران والنسقية في توليف الأفكار وترتيبها وحشدها، وهو لا يبتعد كثيراً عن أسلوب الشذرات الذي اشتهر به سيوران. والحال أن نتاج سيوران في معظمه على شكل مصنفات شذرية مقطعية تدور حول عدد من المسائل الرئيسة، بل الاستحواذية، ذلك في تأملات متقطعة تأتي تارة على صيغة أفكار مبعثرة وطوراً كملاحظات عابرة مصاغة في جمل مقطعية. يبدو أحياناً أن هذه الخواطر السريعة آتية من بعيد، أبعد من الكتابة ذاتها، فتتجلى كـ{ومضات وعي»، وما على الكاتب سوى نقلها إلى الورق كما، بحسب فابريس زيمر في كتابه «سيوران، رحلة في أعماق الأنا».

ذكر سيوران: «أكتب الشذرة ليتسنى لي التناقض مع نفسي. التناقض جزء لا يتجزأ من طبيعتي، وطبيعة الناس كلهم». إن كانت الشذرة السيورانية لا تهدف إلى أي استنتاج أو اقناع، فإنها تطلق من حين إلى آخر وميضاً من الصفاء يبدو العالم فيه فاقداً لكل معنى. كتابة تحمل تأملاً حول نزوات صاحبها المتقلّبة التي لا تهدأ على حال.

منطلق سيوران عند اللجوء إلى الشذرات ابتعاده عن كل أسلوب في إقناع القارئ، معتمداً على الأدلة والبراهين وغير ذلك من المعدات المعروفة. إذ أخذ بنهج الشذرة كطرح مكثف لتأملاته ومواقفه الفلسفية. وإذا كانت أقواله قائمة على المفارقة فالأمر يرجع الى موقفه المشبع باليأس الوجودي إزاء الإشكاليات الأساسية كالوجود والأنا والآخر. وقد يكون مردّ أخذه بنهج القول المأثور شكه العميق بالكلمة ذاتها. فقد أوضح ذات مرة: «لماذا كل صمت هو شيء مقدّس؟ لأن الكلمة هي، عادة، مع استثناء لحظات متميزة تماماً، هي تدنيس». واعتبر أن الشيء الوحيد الذي يرفع الإنسان فوق الحيوان هو الكلمة، إلا أنها من جهة أخرى تضعه غالباً تحت مرتبة الحيوان.

إلى جانب الشذرات، أعمال سيوران ذات نهج قائم على المقطعية أي تجنب الأخذ بنهج البحث والدراسة، ما أبعده عن التقاليد المتبعة لدى الفلاسفة الذين كان يكنّ لهم النفور بل الاحتقار.

فكر سيوران دوماً في ترك الكتابة جانباً، أو الإقلال منها إلى أبعد حد، لكنه، في كل مرة، كان ينساق وراء اللعبة. كانت الكتابة بالنسبة إليه استجابة لضرورة ما وطريقة للتخلص من نفسه، واختصاراً للأشياء كلها، «ما إن نكتب شيئاً حتى يكون قد فقد سحره، صار بلا معنى، لقد قتلنا الشيء كما قتلنا ذواتنا، كانت للكتابة وظيفة ما، عكس الآن». إذ لاحظ أن الذين لا يكتبون لديهم منابع أكثر من الذين يكتبون، لأنهم يحتفظون لأنفسهم بكل شيء. أن تكتب، معناه أن تفرغ نفسك من أجمل ما فيها. من يكتب إذاً شخص يفرغ نفسه، وهو في نهاية المطاف، يصير عدماً، هكذا فالكتاب عديمو الأهمية، يعتقد سيوران أنهم أفرغوا حتى من كينونتهم وصاروا أشباحاً، إنهم أناس بارزون جداً، لكن من غير كينونة.

أمام الفلسفة والفكر، يختار سيوران الشعر والموسيقى. بل قال إنه «من الأفضل أن يكون المرء مؤلف أوبريت على أن يكون صاحب ستة كتب في لغة لا يفهمها أحد...». سيوران مثل الشاعر يخاتل شكوكه ليتعاطى الكلمة ويحوّل اللاواقع إلى واقع صيغي. الشاعر؟ «هذا الوحش الذي يراود خلاصه عبر الكلمة والذي يملأ خواء الكون برهن الخواء تحديداً»، لكن هذا الفراغ ملأته الموسيقى، الحياة بلا موسيقى حماقة حقيقية. فإننا لسنا بحاجة الى الكتابة ما دمنا لا نستطيع التعبير بالكلمات عن إحساس ذي طابع موسيقي.

نبذة

ولد أميل ميشال سيوران في 8 أبريل (نيسان) عام 1911 في رازيناري، قرية في مقاطعة ترانسلفانيا الرومانية، من أب قس أرثوذوكسي، وعرف منذ طفولته بحبه العزلة والتنزه في الجبال المحيطة بقريته. التحق عام 1920 بالمدرسة الثانوية في مدينة سيبيو المجاورة. وأمضى الأعوام بين 1928 و1932 في جامعة بوخارست حيث حصل على دبلوم حول الفيلسوف برغسون. وتحدث سيوران عن حالات من الأرق واليأس لازمته خلال هذه المرحلة فأوحت إليه بكتابه الأول الذي ألفه عام 1932 ونشر عام 1934 بعنوان «على ذرى اليأس «ثم أعقبته عناوين أخرى مثل «كتاب الخدع» و{دموع وقديسون».

خلال العام الدراسي 1934 - 1935 حصل على منحة دراسية في ألمانيا لإعداد أطروحة في الفلسفة لكنه لم يفعل شيئاً ومر بمرحلة عقم في حياته لم تميزها سوى رحلة الى باريس لمدة شهر قرر إثرها الإقامة في فرنسا. فعاد الى رومانيا وعمل على تحقيق هذا الهدف. هناك حصل على منحة من المعهد الفرنسي في بوخارست للتدريس في باريس التي وصل اليها عام 1937. وخلال الأعوام الأولى من إقامته وضع كتاب «غروب الأفكار» ونشره بالرومانية في سيبيو.


الجريده

17997_dferere-cmyk_smaller.jpg


أصدر كتابه الجديد الساخر Mere Anarchy وودي آلن يثابر على الدعابة في مانهاتن
«إندبندنت» بالإتفاق مع «الجريدة»

17997_mere-anarch-woody-allan-cmy_smaller.jpg


أصدر وودي آلن كتابه الجديد «مجرد فوضى» بعد 27 عاماً من الانقطاع. يبدو أن هذا الكتاب استحق الانتظار. يكرّم الناقد بويد توكين أحد أهم كتّاب الفكاهة في نيويورك مقدّماً قصة قصيرة من مجموعته التي طال انتظارها.

هل وودي آلن كاتب؟ لطالما كان كذلك. إذ بدأت حياته المهنية في البرونكس عام 1952 وقت راح يرسل الدعابات إلى إيرل ويلسن الصحافي في «نيويورك بوست». بعيد ذلك، مدّ الناشر دايفد ألبر بالدعابات لقاء عشرين دولاراً أسبوعياً. هكذا بدأ يرتقي سلم المجد سريعاً إلى أن بلغ القمة لدى مشاركته في برنامج Colgate Comedy Hour في 1955. يقول بربري هوليوود الحاد الطباع كولي بيغز لعملاق الأدب المفتقر إلى المال فلاندرز ميلورم في قصة آلن This Nib for Hire: «يحتاج كل كاتب مبدع إلى تأمين قوته خوفاً من الموت قبل ابتكار تحفته الفنية».

ضاحك مانهاتن

تتجسد تحفة آلن الفنية في نصف قرن عملاً من خلال الكلمات المصوغة بإبداع مذهل. رفض آلن التخلي عن أسلوب برغمان المتقلب في السينما وشخصيته المميزة على غرار مايكل كاين وسكارلت جوهانسون، وألحانه الأميركية الساحرة. نتيجة لذلك، شمخت أفلامه تدعمها نصوصه المتقنة تماماً كارتفاع ناطحات السحاب في مدينته العزيزة مانهاتن. يشبه وودي من دون كلماته الخاصة هاربو من دون غروشو وروجرز من دون هامرشتاين. لم يقم مطلق الدعابات في الخمسينات والبائع التجاري في الستينات بإخراج أي فيلم، لكنه ما فعله للمرة الاولى عبر مزج نصه بفيلم من أصل ياباني لإخراج فيلم What’s Up, Tiger Lily عام 1966. مع ذلك يستحق شهادة تكريم كونه أحد أهمّ فكاهيي الأدب في مدينة نيويورك.

لطالما عمل آلن في مجالات البهجة على اختلافها. عام 1966، شهد بداية عمله مخرجاً لما لعب درواً في النسخة التلفزيونية الأولى من كتاب Casino Royale لمؤلفه إيان فلامينغ (مبتكر سلسلة جيمس بوند)، أطلق مسرحيّته، Don’t Drink the Water on Broadway. البارز أنه باع أوّل مشهد مسرحي هزلي لمحرري مجلّة «نيويورك». لفترة طويلة كرّست المجلة صفحات خاصّة به وبقصصه في آن. في الواقع ترسّخت قصصه الخياليّة والساخرة متعارضة بين الثقاقات والمثل العليا والرغبات الجسديّة، أي مع كل ما ارتكز عليه لكتابة نصوص أفلامه. عام 1971 نشر كتابه الأوّل Getting Evenجامعاً فيه أعمالاً متعددة. تبعه كتاب Without Feathers (1975) Side Effects (1980). أمّا كتابه الأخير الصادر بعد ربع قرن من الجفاف الذي عاناه المعجبون بكتابات آلن الكوميدي فجمع في Mere Anarchy قسماً كبيراً من كتاباته في مجلّة «نيويورك». يبرّر ذلك فترة الانتظار. تقول الممثّلة بولا بيساري المقيمة دعوى قضائيّة ضد وكلاء هوليوود في فيلم Caution Falling Moguls: «لو أتمكّن من التمتّع براحة صغيرة وأستلقي على قلوب طبقة ثابتة من المعجبين». يمكن طبقة المعجبين بآلن أن تفرح مجدّداً.

تألقه وتفرده

لطالما أخذ النقّاد على أفلام آلن خلوّها من القذارة والتنوّع أو حتّى الخطر المنتشر في منهاتن السبعينات والثمانينات على الأقلّ. آثر ان يعكس صورة جذّابة عن الأحلام البورجوازيّة. ردّاً على ذلك يعترف: «نيويورك في أفلامي هي ما أودّها أن تكون عليه». لذا ليس واقعياً أو اجتماعيّاً ما ابتكره بل عالم الضحك وأرض أحلام من الحب والخسارة والسوشي والحفلات والعروض والعلاجات. يرفرف هذا العالم المولود في مكان أبعد من شوارع المدينة الوسخة والصاخبة».

يمكن تشبيه قصصه بالأطباق اللذيذة المحيّرة. فيها تقلّب الحوادث بطريقة ابتكارية ساخرة وأسلوب أدبيّ فريد. يمكن نسب بعض عبقريته إلى مثاله الكوميدي الأعلى سيدني جوزف بيريلمان، العبقري الذي كتب أفضل نصوص فريق Marx Brothers وقصص دايمون رانيون الطريفة والشاعرية. غير أنّ لمسة آلن فريدة في مختلف كتاباته. يكتب نيتشه كتاباً عن الحمية فيتدخّل مفكّرون من الوزن الثقيل قائلين: «أطلب كما تتمنّى لأي إنسان على وجه الأرض. ماذا لو كان الرجل الجالس قربك لا يتناول صلصة الأفوكادو؟» تتركّز العينان على أغلى حلوى ترافل في العالم: «يقال أنّ غورينغ كان على وشك تناولها حين صدم بخبر انتحار هتلر. يتناول دونالد داك المحبط حبوب البروزاك وهو قلق إذ «ينتهي به الأمر قريباً في إحدى الوجبات الصينيّة».

يعتبر تحليل المشاهد التي يؤدّيها آلن بلا فائدة. مع ذلك يستحيل ألاّ ينتبه القارئ إلى ما يضيفه آلن إلى نصوص ضعيفة كتبها فكاهيّون لم ينجحوا في التقدّم إلى مستويات أكثر رقيّاً في عالم العروض. صحيح أنّ موهبة آلن قادته إلى التألّق والتفرّد في مهنته غير أن الوضع مختلف راهناً. كان آلن في الوقت عينه كاتب النصوص الكوميدية ومؤدّيها ومصحّح النص، والمخرج في آن. ابتكر لنفسه شخصيّة الرجل المثقّف الذي يعيش وسط الرجال الجاهلين في برودواي وهوليوود. بدأ هذا الرجل حياته هادئاً ومع الوقت أصبح قناع الهدوء وجه الحقيقة.

قصّة « Nanny Dearest» بقلم وودي آلن

«ما هذا الشرّ الرابض على قلوب الرجال؟ وحده الطيف يعرف». تترافق الجملة بضحكة ساخرة تتحوّل قشعريرة تسري في الظهر كلّ أحد حين كنت أجلس شاباً مبهوراً بين المنتظرين حول الهاتف في الشتاء القارص. في الواقع لم تكن لدي فكرة عمّا كان يحصل قبل عدة أسابيع ثمّ بلغني اتصال من نصفي الثاني عندما كنت أعمل في المكتب على قضيّة بورك وهار. رجف صوت المرأة الذي اعتاد أن يكون هادئاً فعرفت أنّها عاودت التدخين. أعلنت بصوت رصين: «هارفي، علينا أن نتكلّم».

«هل الأولاد بخير؟» سارعت بالردّ وأنا أتوقّع أن تقرأ على مسمعي رسالة طلب الفدية.

«بلى، بلى، لكن حاضنة الأطفال، حاضنتنا، يهوذا الخائن بشكل امرأة مبتسمة، الآنسة فلفيتا بلكناب». «ما الأمر؟ لا تقولي لي أنّ هذه البلهاء كسرت كوباً من أكواب توبي من جديد». وأتى الجواب عبر صوت كأنّه صوت شخص من القبر: «إنّها تؤلّف كتاباً عنّا».»عنّا؟»، «عن خبرتها كونها حاضنة أطفال في بارك أفنيو لعدّة سنوات».

سألت والندم يمزّقني، لأنّني لم أعر اتفاق الحفاظ على السريّة أهمية «كيف عرفت؟». «دخلت إلى غرفتها إثر ذهابها لإرجاع بعض الأغراض التي استعرتها قبل العطلة. عندما مررت قرب طاولتها جذب انتباهي فجأة دفتر لم أستطع مقاومة إلقاء نظرة إلى ما كتب: «عزيزي، الأمر محرج إلى حدّ لا يمكنك تصوّره وبخاصّة كلّ ما يتعلّق بك». تقلّصت عضلات وجهي وبدأ العرق يتصبّب من جبيني ولم أتمكّن من السيطرة عليه. أضافت الزوجة المحبوبة: «ما إن تعود إلى المنزل سوف أطردها. إنّ الأفعى تنعتني بالسافلة». «كلا! لا تطرديها. لن يمنعها الأمر من نشر كتابها بل سيدفعها إلى التعبير عن مرارة أكبر وشرّ أشدّ سوءاً». «ماذا أفعل إذاً حبيبي؟ أتدرك كيف يمكن لهذه الفضائح أن تؤثّر على أصحابنا المهمّين؟ لن نتمكّن من ارتياد الأماكن الفخمة التي اعتدنا عليها من دون أن توجّه إلينا الأنظار الثاقبة والتعليقات اللاذعة. عندما تتكلّم فلفيتا عنك تقول «رجل سخيف وساذج يضع أطفاله الضعفاء في أفضل مدارس الحضانة بينما لا يعرف كيف يتصرّف في غرفة النوم». رجوتها: «لا تقدمي على أي عمل، دعيني أتولّى الأمور العنيفة». «كن منطقيّاً عزيزي. لقد وصلت إلى الصفحة 300». وأقفلت حبيبتي الخطّ بقوّة ليبقى صوتها يطنّ في أذنيّ وكلماتها تتردّد من دون توقّف. تمارضت ثم تركت العمل باكراً، أوقفت سيّارتي جنب الطريق لأستعيد ما حصل توسّلاً للحل».

إنّ قصّتنا مع حاضنات الأطفال غاية في الإثارة بتغيّراتها المتوالية بدءاً من حاضنة سويديّة تشبه الملاكم ستانلي كتشل. كانت دقيقة جدّاً في تصرّفها. أرست التهذيب في قبيلة الصغار فكانوا يلتزمون بأوقات الطعام المحددّة وأجسامهم ملطّخة بالكدمات الغريبة. حين كشفت آلات التصوير المخفيّة في منزلنا الحاضنة وهي ترمي ابني من فوق كتفيها اتّبعت معها الطريقة ذاتها.

يبدو أنّها لم تكن معتادة أن يتدخل أحد في شؤونها فرفعتني عن الأرض ورمتني على الحائط قائلة: «لا تتدخّل في حياتي، إلاّ في حال أردت أن ينتهي بك الأمر في سرير المستشفى».

غضبت جدّاً فطردتها ولم أضطرّ الى الاستعانة إلاّ بفرقة واحدة للتدخّل السريع. تبعتها فيرونيك (حاضنة فرنسية تبلغ من العمر 19 عاماً دائمة الحركة والترغلة). مع شعرها الأشقر وساقيها المثيرتين وطولها الممشوق بدت كأنّها خارجة من فيلم إباحي، أي بعيدة عن النوع العنيف. لسوء الحظ لم تبد التزاماً بقضيّتنا ففضّلت الاستلقاء على كرسي طويل في ثيابها الداخليّة وهي تتناول الشوكولا بينما تتصفّح مجلاّت الأزياء. تأقلمت مع شخصيتها أكثر من زوجتي، حتّى أنّني حاولت إشعارها بالراحة عبر فرك ظهرها من حين إلى آخر. عندما لاحظت زوجتي أنّني بدأت أرتدي الثياب الأنيقة في المنزل وحمل الفطور إلى سرير الجميلة الصغيرة انتفضت ضدّ فيرونيك وأجبرتها على توضيب أغراضها والمغادرة.

تبعتها فلفيتا، امرأة في الثلاثين عرفت كيف تربّي الأطفال وتحترم موقعها. عاملت فلفيتا كعضو من العائلة لا كخادمة. لكن بعد اكتشافي الأخير صرت أفكّر فيها كثيراً وبخاصة في طريقة التخلص منها.

ذات يوم دخلت فلفيتا في اللحظة التي كنت أخفي فيها زجاجة اليود في خزانة المطبخ.

سألت ضاحكة: «أنت في المنزل... هل تعرّضت للطرد؟»

«أدخلي، وصلت في الوقت المناسب لتناول القهوة»

«أنت تعرف أنني لا أحتسي القهوة»

أجبت متلعثماً: «أعني الشاي»

وأردفت: «هيا تناوليه بسرعة قبل أن يبرد»

«ألا يفترض أن يكون فاتح اللون؟».

«كلاّ، إنّه نوع جديد. هيا احتسيه سريعاً».

لا أدري ما حصل بعد ذلك. ربما كنت متوتراً أو خائفاً. أظنّ أنني تناولت الكوب الخطأ. في دقائق بدأت معدتي تؤلمني ولا أتذكّر ما حصل لاحقاً. إستيقظت في المستشفى لأكتشف أن الحاضنة قدّمت استقالتها إذ لم تعد تحب العمل وستتزوج صاحب ملايين. كما قررت ألا تنشر الكتاب بسبب تحوله إلى قصّة رعب. قرّرت آنذاك ألا أفكر في توظيف أي حاضنة قبل أن تحرز تكنولوجيا الرجال الآلية تقدماً مفيداً في هذا المجال.

الجريده

153096_aaaa_small.jpg



The Ethical Journalist... دليلك الأخلاقيّ في عالم الصحافة
مايكل شافر

لو كنتَ محرراً في صحيفة، هل تعرض صورة امرأة شابة وطفل صغير يسقطان عن سلم الحريق؟ أو رجل يهوي من مركز التجارة العالمي في أحداث 11 سبتمبر؟ لو كنتَ مراسلاً يرى مشاهد محزنة أثناء إجراء تحقيق عن حياة أولاد يعيشون في المنزل نفسه مع مدمنين على المخدرات، فهل تتأثر وتندفع إلى التدخل؟ لو كنت صحافياً يكتب مدوّنة، هل تكشف عن طبعك الداخلي الساخر؟

تلف المشهد الصحافي الأخلاقي تساؤلات شائكة كثيرة، بعضها بقدم الطباعة على الآلة الكاتبة والبعض الآخر بحداثة الإنترنت. في كتاب جديد موجّه إلى طلاب الصحافة، يستند رئيس تحرير صحيفةPhiladelphia Inquirer السابق جين فورمان إلى خبرة نصف قرن في عالم الصحافة ليرسم طريقاً واضحاً عبر هذه المتاهة.

يمثل كتاب فورمان بعنوان The Ethical Journalist: Making Responsible Decisions in the Pursuit of News (منشورات Wiley-Blackwell) دليلاً عملياً للمبادئ والأخلاقيات يفيد الصحافيين الجدد والمخضرمين على حد سواء، فضلاً عن أي شخص يهتمّ بالمجال الإعلامي. ويستعين هذا الكتاب بدراسات لحالات وروايات ومقالات قصيرة ويركّز على الخبرات الحياتية الحقيقية للصحافيين الذين يعملون في الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة.

نظريات

بعد تقاعده من عمله في صحيفة The Inquirer عام 1998، درّس فورمان مادة الصحافة في جامعة ولاية بنسلفانيا حتى عام 2006، فاكتشف خلال 16 فصلاًَ أمضاها في غرفة الصفّ أن الكتب الدراسية عن أخلاقيات عالم الصحافة تميل إلى الاعتماد على النظريات وليس على الأمثلة.

يوضح فورمان: «تقول لكم الكتب المتوافرة حالياً: اكتشفوا ذلك بأنفسكم. أما أنا فأعتقد أن من حق الطلاب أن يعرفوا. يجب أن نقول لهم: إليكم المعايير المتفق عليها في هذه المهنة. هذه هي التجارب كلها، الجيدة والسيئة، التي مرّ بها الصحافيون الذين يمارسون هذه المهنة».

يستهلّ الكتاب بسرد مؤثر للمأزق الذي وقع فيه الصحافيون في صحيفة The Oregonian في بورتلاند، عندما غطوا عملية القتل الرحيم، المسموح بها بموجب قانون ولاية أوريغون، لامرأة في الثانية والستين على فراش الموت بسبب إصابتها بسرطان الرئة.

يوضح فورمان أن العاملين في صحيفة The Oregonian تساءلوا عما إذا كانت تغطيتهم هذه العملية ستؤثر على تصرفات المرأة: «هل تشعر بأنها حرّة ويمكنها تغيير رأيها؟ وبعد هذا الاهتمام كله، هل تشعر بأنها مجبرة على المضي قدماً في قرارها وأخذ الجرعة المميتة؟»

تحدث فورمان (74 عاماً) الأبيض الشعر والمنخفض الصوت، وهو جالس في مكتبه في الطابق السفلي من منزله، عن دراسة 24 حالة هي جوهر الكتاب (ثمة حالات أخرى معروضة على موقعه الإلكتروني)، تركز كل واحدة منها على مأزق أخلاقي: متى يتخطى التقرّب من المصدر الحدّ ويؤثر على موضوعية الصحافي؟ متى تعتبر الصورة أو شريط الفيديو مزعجاً لدرجة قد يسيء إلى المشاهد ويفضّل بالتالي عدم عرضه؟ متى يحين الوقت للتدخل وعدم الاكتفاء بالمراقبة؟ أصبحت دراسة الحالة شائعة جداً كوسيلة لتعليم الصحافة.

حدس أخلاقي

يعلّق روبرت شمول، مدير برنامج جون غاليفان في الصحافة، الأخلاقيات، والديمقراطيةJohn W. Gallivan Program in Journalism, Ethics and Democracy في جامعة نوتردام: «تتطلب البيئة الاخبارية الحالية، بمهلها التي لا تنتهي، أحكاماً سريعة جداً».

يتابع شمول: «يحتاج الصحافيون إلى تنمية حدس أخلاقي قوي كطلاب، فيمارسون عملهم لاحقاً بوعي أخلاقي أكبر. وتساعد دراسة الحالات في تكييف عقل الصحافيين المستقبليين وتحضيرهم لاتخاذ قرارات صائبة تحت الضغوط».

يعبّر ديفيد بوينك، بروفسور متخصص في الصحافة في جامعة إنديانا، عن تأييده الشديد لاستعمال دراسات الحالات، حتى أنه ألّف مع زميل له كتاب تدريس عنها بعنوان Making Hard Choices in Journalism Ethics: Cases and Practice سيصدر لدى دار نشر Routledge قريباً.

أشار بوينك، في مقابلة هاتفية معه، إلى أن من يُعنَون بأخلاقيات الصحافة أمضوا «وقتاً طويلاً في التركيز على التفكير والتحليل التنازلي (top-down reasoning) كوسيلة لحلّ المسائل الأخلاقية». ينبغي أن يتعلم الطلاب كيفية اتخاذ القرارات «بشكل تصاعدي (bottom up)، مركزين إلى حدّ كبير على تفاصيل الحالات».

آراء حول الصواب

لا تولّد مقاربة مماثلة حلولاً جاهزة. من هنا يرى فريد براون، كاتب سياسي متقاعد في صحيفة Denver Post ونائب رئيس لجنة الأخلاقيات في جمعية الصحافيين المحترفين أنه «حتى عندما تناقش أمراً معيناً بالتفصيل، يكوّن الناس آراء مختلفة بشأن ما كان من الصواب القيام به».

تساعد دراسة الحالات الطلاب في تعلم طرح الأسئلة الصحيحة، حسبما يشير براون، محرر كتاب عن أخلاقيات الصحافة، يتضمن 50 دراسة حالة، تخطط جمعية الصحافيين المحترفين لنشره في السنة المقبلة.

علاوة على ذلك، يوضح براون أن المسألة الأخلاقية الأساسية في عالم الصحافة ما زالت هي نفسها، «نقل القصة بشكل صحيح، وضعها في الإطار المناسب، الالتزام بالدقة والإنصاف».

يعتبر براون أن أحد أهم الدروس يتمثل في أن على الصحافيين الاعتراف بتحيزهم عند تغطية الأخبار والتخلي عنه. ويضيف: «يشير الكتاب إلى وجود تحيز في مجال الصحافة لأنها فن ذاتي، وثمة خطوات لا تُعدّ ولا تُحصى في عملية نقل الأخبار وتحريرها، لدرجة أن أي تحيِّز لدى الصحافيين قد يتسرّب إليها».

يتابع براون: «في مرحلة مبكرة من مسيرتي المهنية، كرهت أورفال فوبوس»، حاكم أركنساس العنصري، «لكن عندما غطيت أخباره، كنت منصفاً معه».

تحديات أخلاقية

يختم فورمان كتابه بفصل يتناول التحديات الأخلاقية التي ما كان أحد ليتخيلها في بداياته في عالم الصحافة في أركنساس عام 1957. يتمثل أحدها في الصعوبات المالية التي تواجهها الصحف اليوم.

تقع على عاتق الصحف، بحسب فورمان، مسؤولية أخلاقية تفرض عليها تزويد القراء بمعلومات يحتاجون إليها «لاتخاذ قرارات مرتبطة بالحكم بصفتهم مواطنين. وإذا عجزنا عن ذلك بسبب الافتقار إلى الموارد، فنكون قد أخفقنا في تنفيذ التزام أخلاقي».

في هذا الإطار، يرى فورمان أن على المنظمات الإخبارية أن تشكّل نموذج أعمال جديداً لدعم الصحافة، لكن أحداً لم يبتكر واحداً حتى الآن».

يتابع فورمان أن الإنترنت يطرح، بقدرته على نقل الأخبار «بغمضة عين»، تحدياً أخلاقياً خاصاً. وبما أنه وسيلة إعلام جديدة، يعتقد بعض الصحافيين أن القواعد القديمة لا تنطبق عليه. كذلك يعرب عن انزعاجه من السماح للعاملين في الصحف بكتابة مدوّنات غير محررة للقرّاء عبر الإنترنت.

بحماسة مبررة تكاد تكون أقرب إلى الشتم، يكمل فورمان مشيراً إلى مقته لهذه الممارسة، ويضيف: «قرأت حججاً كتبها أشخاص أذكياء مفادها: دعونا نترك القراء يتولون مهمة التحرير. فإذا كتبنا شيئاً خاطئاً، يتصلون بنا، فنتأكد من الأمر ونصححه. وهذا سيئ حقاً لأن الضرر قد يحصل بسبب نشر معلومات خاطئة عبر الإنترنت».

يختم فورمان حديثه بالقول إن أساليب نقل المعلومات قد تتغير، من الإنترنت والصحافة المكتوبة إلى القنوات الفضائية والبث الإذاعي، لكن التحدّيات الأخلاقية تستمر.
الجريده

Pictures%5C2010%5C03%5C29%5Ced21c5fd-9441-4292-aa00-c27b7636db44_main.jpg



إصدارات جديدة
ترجمتها فاطمة ناعوت
نصف شمس صفراء .. بالعربية

غلاف الرواية
غلاف الرواية
عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب؛ صدرت رواية «نصف شمس صفراء» في ثوبها العربي بترجمة الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت. الرواية كتبتها بالإنكليزية الكاتبةُ النيجيرية الشابّة تشيماماندا نجوزي أديتشي، وفازت بجائزة الأورانج البريطانية الرفيعة عام 2004.
تقع الروايةُ في أكثر من 600 صفحة من القطع الكبير، وتحكي عن علاقة حبٍّ ناضجة، بين بروفيسور في جامعة نيجيريا، ومثقفة شابة جميلة تنتمي إلى طبقة الأثرياء الجدد في نيجيريا. نشأت قصة الحب تحت ظلال الحرب الأهلية في نيجيريا، بين عامي 1967 و1970، تلك التي اندلعت فيها الصراعات البيافرية في محاولة من قبائل الإيبو الاستقلال وتكوين دولة، علمُها «نصف شمس صفراء»، رمزا للتحرر والخروج من ظلامية النظام الفاشي المحافظ الذي كان يحكم نيجيريا آنذاك. ورغم تصوير الرواية المجازرَ والانتهاكات. البشريةَ العنيفة التي مورست على تلك القبائل المسالمة، فإن الروائية نجحت في الخروج بها من الحسّ التراجيديّ، عبر سرد.ها الوقائعَ على لسان طفل أسود صغير «آجوو»، بطل الرواية، الذي يخدم في بيت البروفيسور أودينيبو.
سحر الجنوب
تحمل الرواية فيضا من أجواء الجنوب الأفريقي الساحر بطقوسه الغرائبية وشعائره الغريبة على القارئ العربي، بيد أن المترجمةَ نجحت في نقلها إلى اللسان العربي بلغة شعرية رفيعة، تجعل القارئ يتوحَّد مع أحداثها، مع الحفاظ على أجواء القارة السمراء الفاتنة، كما صرّحت بذلك د. سهير المصادفة، رئيسة تحرير السلسلة. خمسةُ أبطال رئيسيون تدور حولهم الرواية: «أودينيبو»، أستاذ الجامعة الثوريّ ابن البورجوازية الوسطى، «أولانا»، المثقفة التي تنتمي إلى أبوين من طبقة الأثرياء الانفتاحيين، وتوأمتها «كاينين» نقيضُ أولانا، سيدة الأعمال التي تهوى جمع المال، ووقعت في هوى البريطاني ريتشارد تشرشل المتعاطف مع قضية السود، سوى أنه في النهاية سيكتشف أنه غير متورط بما يكفي في قضيتهم، بسبب بشرته البيضاء وعينيه الزرقاوين وشعره الناعم، فيترك الكتاب الذي بدأه بعنوان: «كان العالم صامتا ونحن نموت»، ليكمله الصبيّ الأسود آجوو، الذي تدور معظم أحداث الرواية على لسانه، ومن خلال عينيه اللتين ترصدان أهوال الحرب والمجازر.
يذكر أن «نصف شمس صفراء» هو الكتاب السادس بين ترجمات فاطمة ناعوت، فقد سبق وأصدرت عديدا من الأنطولوجيات الشعرية والقصصية من عيون الأدب الإنكليزيّ والأميركي منها: مشجوج بفأس، قتل الأرانب، المشي بالمقلوب، وكتابان عن فرجيينيا وولف: جيوب مثقلة بالحجارة، وأثر على الحائط، اللذان صدرا أخيرا عن المركز القومي للترجمة.


القبس

أمين ألبرت الريحاني في صهيل الأغاني الحائرة...
لقاء الفلسفة والشّعر على شرفة القصيدة
بيروت - قزحيا ساسين

153251_Book_small.jpg


هاجسُ الصوت يسكن الشّعراء. فهم يذهبون إلى أقاصي الوجد ويتسلقون شجر الحزن الشاهق طمعًا بفاكهة الألم التي تتضامن بسُكَّرها الموجوع مع احتجاجهم العميق على الوجود الذي يحاولون إعادة صياغته بكلمات يستعيرونها من اللغة فتصبح لهم مُلكًا شرعيًّا بعدما يصبغونها بأرجوان توقهم إلى الإقامة الدائمة في جُزُر الدهشة والجمال.

في مقدّمة ديوانه {صهيل الأغاني الحائرة} وتحت عنوان {عند العتبة}، يحاول الشاعر أمين ألبرت الريحاني مقاربة للكتابة: {الكتابة حفرٌ في صخر الكلمات، تلوين على خامة البياض، ومطاردة ألحان تسمعها خلف أصداء الصمت}. وبما أنّ الكتابة تمارَس كالجنس، بحسب رأيه، فالتعاطي مع الكلمة مضاجعة ذات وقت يطول على متعة في إقامة مراسم الزواج الأبدي بين بياض الورق والألوان، وفي تعقُّب فراشات ذات أجنحة مُمَوسَقة ترفّ في ظلال أسوار الصّمت. ولا يخفي الريحاني أنّ الكتابة تحيل بين صاحبها والشيخوخة، وأنّها مجاز الحياة والروح قبل أن تكون لائذة بمجاز اللغة وبيانها. والشِّعر اكتشاف للعالم مثلما النّقد اكتشاف للشِّعر، و{الشّعر إغواء وإثارة جنسيّة للّغة. الشّعر سرير المفردات الغواني}. هكذا يلتحم الشاعر باللغة، يقصدها أنثى، يضاجعها بهدف الإنجاب. الإنجاب بحدّ ذاته هو المتعة المقصودة، إنجاب النصّ الذي يعيد بناء العالم. وينهي الريحاني مقدّمته معلنًا أنّه أخذ من نسغ الشّعر، واستوحى قامة الفلسفة، واستعان بإكسير النّقد في بوحه الشّعريّ، ما يعني أنّه يكتب بذاته مجتمعة، فهو صاحب الفلسفة والنّقد والشّعر، ويريد نصّه ذا أقانيم ثلاثة، وتكمن خطورة هذا الرأي في خشية صعوبة العدل بين الشّعر والفلسفة والنّقد في ساحة القصيدة.

قصيدة {الباب} هي الباب الذي يفضي إلى الديوان، وفيها يركّز الريحاني على بُعد الباب الرمزي الذي أخذه من الخشب والحديد إلى ماهيّة أرحب وأطول عمرًا: {الباب انتقال من قشرة الوجود إلى لبّ الثمرة الآتية/... الباب حوار بين زمن حاضر وزمن منتظر}. ويلاحَظ أنّ {باب} الشاعر هو إصرار على العبور {من... إلى}، في ظلّ تكثيف معنويّ يطغى على الصورة الشّعرية التي تبدو عالقة بين مطرقة العقل وسندان العاطفة، فهي تشعر بالضّيق وتريد مجالاً أوسع، بعيدًا من الشّرح والتشريح اللذين يقبلهما النثر بصعوبة، فكيف الحال مع الشّعر إذًا؟!

ضغط فكري

مع نصّ {إيقاعات الهشيم} يتّضح الاتجاه نحو القصيدة أكثر، فينسحب الضغط الفكريّ لصالح النّبض الشعريّ. فها هي أحلام الأرض المحروقة: {تتبرّج، تتوهّج لموعد يتيم مع الحقيقة./ تُخفي عرشها تحت إبطها،/ وتُوَلّي كلصّ عتيق}... يجسّد الشاعر في هذه القصيدة ألمًا وجوديًّا لافتًا، ويقف في حضرة الفجيعة واصفًا انهيار أبراج الأحلام، محاصرًا بـ{جدران القهر الأبديّ}، ممعنًا في تصوير المأساة: {نمضغ الزمن القاسي / طحينًا زجاجيًّا / نطعمه أفواه الأطفال}. فالحياة أمست استحالة، حين رغيف الأطفال زجاج مطحون، غير أنّ الشاعر وصف ولم يرثِ، أعلن الفجيعة ولم يعلن النهاية، ونادى أبناء الأرض المحروقة استعدادًا لزمن آخر هو زمن الحياة بامتياز: {وملْحُنا الفاسد القديم/ استبدلناه بملح جديد/ وحلم جديد/ من أجل أرض لا تبيد}. أمّا على مستوى الشكل الشعري، فالريحاني، في هذا النصّ ومعظم نصوص المجموعة، يبتعد عن أداء قصيدة التفعيلة، غير أنّه يحنّ إليها كثيرًا من خلال ولعه بالتقفية، واعتماد الأنساق الجمليّة بشكل كثيف يوحي برغبته في الوزن، ولا شكّ في أنّ التفقية في القصيدة الحرّة المتفلّتة من كلّ نظام موسيقيّ هي شكل من أشكال السّجع، وفي المعنى الدقيق للكلمة، هي قيدٌ للنصّ وعدوّ.

من قصيدة إلى أخرى، ينتقل الريحاني حاملاً همّ شعب وقضيّة، وفي قصيدة {الجراح الهرمة} يعلن هزيمة التنِّين الذي: {طرق أبواب المصحّات/ رجم البيوت الزجاجية...}، ويراهن على ذي النّصال المنكسرة الماشي على رؤوس الأيّام: {يشعل بجِلْده عود الكبريت/ يرسم بقدميه خطوطًا ناريّة...}، فبلاد الشّاعر تتألم ولا تموت، تصلب على موج مجنون ولا تغرق، تميل أبراجها ولا تهوي: {منذ دهور تدور بلادي / تدور ولا يصيبها الدّوار / ودليلها نجم بعيد لا يغيب}. لا يتعب الريحاني من الأمل، ويواصل التمسّك بحبال الرجاء مستصغرًا عزيمة العاصفة، مؤمنًا بأن لكلّ تنّين رمحًا واصلاً إلى صدره لا محالة...

وطن جريح

إلى المرأة يبحر الشاعر حاملاً على ظهره وطنه الجريح ويعتذر عن الكلمات التي لا تتّسع للحبّ في زمن مخصّص لهمّ الأوطان: {بأيّ حبر تريدينني أن أكتب يا امرأة؟}، فالوطن يضرب عميقًا في الريحاني لأنّ ثلوج بلاده تغلي من الحريق، ولأنّ الموت محمول على أجنحة طيور مهاجرة فالموج متحجّر، والشجر ميت، والأرض في العيون رماد... لكنّه يعود ويوسّع مكانًا لها على شرفة القصيدة ويعترف: {أكتب لكِ حبًّا أرجوانيًّا / وأستحمّ بمياه الذكريات}. ولأجلها يحبّ بيروت ويبعد اليباس عن يده بالقطاف من أغصان لغة عاشقة: {كيف لا أهوى بيروت/ وبيروت دليلي إليك.../ كيف تيبس يدي/ وتكفّ عن قطف لغة مزهوّة/ أجمع عبيرها بين يديكِ}. وأنثى الشاعر في {صهيل الأغاني الحائرة} هي دائمًا بنت الأمس، والأمس البعيد، يجدّد لها الحبّ مع كلّ إطلالة شمس ويكتفي بها امرأة تختصر بحضورها كلّ النساء: {منذ ثلاثين عامًا/ وأنا أكتب الصفحة الأولى/ من قصّة حبّ قصيرة / أجمع لها خرائط اللغات}. وفي غزله يقترب الريحاني من مناخ نزار قبّاني ويتخلّى عن رمزيّته العميقة ذات الظلال القابلة لأكثر من تأويل، ويسلك طريق الوضوح في التّعبير عن مخبّآت القلب: {هل تعلمين/ أنّني منذ ثلاثين عامًا/ بدأت حديثي معك/ وما زلتُ في السطر الأوّل/ من سفْر التكوين}. وتحت قرميد المرأة يبوح بعفويّة طفل ليس له مع الفلسفة والنقد أيّ حكاية، ويكرّس عيني حبيبته وطنًا بديلاً لا تهزّه رياح: {ورحت أجمع من أهدابك/ ظلالاً أحمي بها أوطاني}، ويختصر هوايته ومهنته بـ{جمع أسرار وجهك الحزين}...

ولافتٌ حضور الطبيعة في قصائد الديوان الأخيرة، حيث يحضر {صنّين} أميرًا: {قبيل المساء/ يرتدي صنّين حلّته الأرجوانيّة...}، غير أنّ حزن الريحاني يمتدّ على مساحة الديوان وله من زند كلّ كلمة وسادة. فالألوان تحتشد في المشهد الصنِّيني: {ألوان الروح الحزينة/ وألوان الكآبة المكابرة}...

{صهيل الأغاني الحائرة} كتاب عميق الحبر على وجع وجمال، ولأنّ هاجس التقفية يظهره معظم النصوص ليت أمين ألبرت الريحاني اعتمد قصيدة التفعيلة، أو حرّر جمله من القوافي بشكل


22-03-2010, 01:11 AM
[URL='http://www.aswaqnet.net/member.php?u=191']justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,973

icon1.gif

152335_karl-rove_small.jpg



Courage and Consequence
...شجاعة بوش الإبن
ديفيد شريبمان

ما طبيعة مذكّرات تحمل اسم Courage and Consequence؟ ذلك هو عنوان كتاب كارل روف الجديد، وقد يستخلص متصفّحو متاجر الكتب بسهولة أن الشجاعة والعاقبة اللتين يشير إليهما روف يتعلّقان به.

يستحيل معرفة نوايا روف، لكن دعونا لا نحكم عليه قبل التأكّد منها. ففي النهاية، يتمثل الموضوع السائد في هذا الكتاب في شجاعة الرئيس الأميركي السابق جورح بوش الإبن وعاقبته.

بغض النظر عن العنوان العريض لهذا الكتاب، الذي يذكّر على نحو غريب بروديارد كيبلينغ الذي نشر كتاب Captains Courageous خلال عهد الرئيس ويليام ماكينلي الذي يكنّ له روف إعجاباً كبيراً، تتحدّث المذكّرات عن حياة أميركية لافتة وتعرض بالتالي قصّة أميركية لافتة.

فتطرّق إلى الطفولة المعقّدة؛ الحركات الفكرية والعقائدية الأولى؛ الفرص التي يصادفها الشبان لدى الشخصيات التي اشتهرت بسرعة، بمن فيهم الخبير الاستراتيجي اللاحق، لي أتواتر ورئيسان لاحقان يُدعيان جورج بوش؛ الحظ والذكاء في اكتشاف أن بوش الإبن كان أكثر حظاً وذكاءً مما ظّن معظم من في وسطه؛ حملة لامعة في تكساس ضد حاكمة نموذجية تُدعى آن ريتشارد أعقبتها انتخابات جريئة في العام 2000؛ وبالطبع آلاف الساعات الحافلة في خلال السنوات الثماني في البيت الأبيض.

تضمّ هذه القصّة بطلين، هما روف وبوش، ويتمحور جزء كبير من هذا الكتاب حول اكتشاف، لا بل شرح، أساليب جورج بوش الإبن التي تُلخّص كما يلي: لم يكن كسولاً. لم يكن محدوداً فكرياً. لم يطلب من الأميركيين التسوّق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لم يجز التعذيب. لم يغزُ العراق لإنهاء المهمة التي بدأها والده.

وفقاً لهذه الرؤية، فإن الرئيس الأميركي الثالث والأربعين رجل طيّب وبسيط قُلّل من شأنه، بحسب تعبير بوش المفضّل، وأسيء فهمه بين الديمقراطيين والصحافة.

من ثم يأتي دور البطل الآخر في هذا الكتاب. يرى روف نفسه رجل فكر من جهة، ورجل عقيدة من جهة أخرى، ومُشرّباً بالمبادئ المحافظة ومتمرّساً في المنطق الحكيم. يبدو هذا التقييم في العموم عادلاً. مما لا شك فيه أنه مُصارع سياسي، وسيجد ذوو السلوك الضاري من المحافظين بين صفحات هذا الكتاب مواد دسمة كثيرة ستروق لهم.

فالديمقراطيون، مثلاً، «غير أخلاقيين» في مسألة التجارة، وتعاملهم مع المرشّحين الجمهوريين لمنصب قضاة كان «مريعاً». أمّا سلوكهم خلال إنشاء وزارة الأمن الوطني فشكّل «مثالاً غير متحضّر عن الحزبية». وبخصوص العراق، «أوشك الديمقراطيون بشكل خطير على تشجيع الهزيمة».

نجد في هذا الكتاب أيضاً مظاهر ازدراء كثيرة بمنافسي روف، إذ يتّهم آل غور بـ{عرض نفاق مثير للشفقة»، النعت المفضّل لديه. وبعد تسع صفحات، يشن هجوماً آخر على آل غور والأعضاء في مجلس الشيوخ هاري ريد، جون ف. كيري، وإدوارد م. كينيدي.

مع ذلك، لا يستثني روف نفسه من هذا الهجوم. فيقرّ بأخطاء كثيرة، منها السماح لبوش بالطيران فوق نيو أورليانز خلال كارثة كاترينا، والإغفال عن حساسية اختيار بوش لهارييت مايرز للمحكمة العليا، والسماح بشيوع الحديث عن كذب بوش بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق.

يكتب روف: «نظراً إلى انشغالي بالحملة المقبلة وضغوط الجدول اليومي في الجناح الغربي، لم أدرك مدى الضرر الذي سببه هذا الغزو».

في المقابل، يحشو روف مذكّراته بمعلومات كثيرة حول الشؤون الداخلية، لا سيما القصة المثيرة للاهتمام بشأن حالة الفريق الرئاسي الفكرية في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتحرّكاته. وإن كنت ترغب في الاطّلاع مجدداً على قصّة التقدم الذي أحرزه بوش في كارولاينا الجنوبية خلال الحملة الانتخابية في العام 2000، وانكشاف عملية اعتقاله في كينيبانكبورت في العام 1976 بسبب القيادة تحت تأثير الكحول، والقصة الغامضة عن بعثة جو ويلسون إلى النيجر، عندئذ سيوفّر لك روف ساعات كثيرة من القراءة الممتعة.

لكن عليك القراءة مع أخذ التحذير التالي في الاعتبار: لئلا تعتقد بأنك ستستمتع بالفصل 24 المعنون «الأدوية والزواج»، دعني أفسد عليك متعتك وأخبرك بأنه عبارة عن سرد مبهر لكيفية نشوء برنامج بوش بشأن الأدوية الموصوفة وسياسته تجاه زواج المثليين. ففي النهاية، إنها مذكرات سياسية تتضمن المباهج وخيبات الأمل كافة التي يوفّرها هذا النوع من الكتب المتصنّعة والتي تخدم المصلحة الذاتية.


الجريده


التعديل الأخير تم بواسطة justice[/URL]; 24-11-2010، الساعة 06:44 PM
 
التعديل الأخير:

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
30-03-2010, 01:39 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

الإسلام المبكر لآمنة جبلاوي... بحث في الاستشراق الأنغلوسكسوني
بيروت - عبدالله أحمد

153387_22222222Scan10503_small.jpg


صدر أخيراً عن منشورات الجمل كتاب {الإسلام المبكر، الاستشراق الأنغلوسكسوني الجديد، باتريسيا كرون ومايكل كوك أنموذجاً} للباحثة آمنة جبلاوي.

تعتبر الكاتبة أن التساؤل الأول الذي قادها إلى اختيار هذا الموضوع هو كيف لنا أن نثري معرفتنا بتاريخ القرن الأول للهجرة؟ وكيف لنا أن نستفيد من قراءة مختلفة للتاريخ الإسلامي {المبكر}؟ وتعمل الباحثة في هذا الكتاب على المقاربة الأنغلوسكسونية، وهو عمل على نموذج شديد الخصوصية، فالباحثان مايكل كوك وباتريسيا كرون يمثلان تيارين داخل المدرسة الأنغلوسكسونية، وهو التيار الأشد ضراوة في نقد المصادر العربية والإسلامية.

تفيد الكاتبة بأن مايكل كوك وباتريسيا كرون يقدمان قراءة تعتمد على مصادر غير إسلامية، فتأمل من خلال ذلك بأن تقدم لنا هذه المصادر معلومات تكمل ما حصل لدينا بفضل النصوص الإسلامية أو تلغي ما اعتدنا على ترديده في ما يتعلق بهذا القرن التأسيسي. وتلاحظ من خلال تفحص أعمال هذين الباحثين اللذين اختارتهما أنموذجاً لفهم مقاربة الإسلام الأنغلوسكسونية، أن خطابهما وإن كان علمياً فهو خاضع لقوانين الخطاب.

تشير جبلاوي إلى أن مقاربة كوك وكرون للتاريخ الإسلامي انطلاقاً من تجربة القرن الأول التأسيسية تختلف عن المقاربة الفرنكوفونية، ففي كتاباتهما نجد طغياناً للبراهين والإجابات والاستدلالات. فإصرار الباحثين على اعتبار تجربة الأسلام الدينية الأولى تجربة سياسية واقتصادية وعرقية قبل أن تكون تجربة روحية، يجعلنا نلمس تقاطعاً والتقاء بينهما وبين الفكر الأصولي في مواقفه من إسلام القرن الأول، فكلاهما يكرس مقاربات وتأويلات تستعمل المعجم المفهومي نفسه وترى في الإسلام منظومة جامدة.

كذلك تلفت المؤلفة إلى أن كوك وكرون تشبثا بمنهج واحد في أعمالهما كلها، منهج مادي أركيولوجي تفطّن إلى أمور وغفل عن أخرى، ويمكن تقسيم توجهات الدراسات الإسلامية إلى ثلاث مدارس: المدرسة الألمانية اتبعت خطاً فيلولوجياً تاريخياً، والمدرسة الفرنكفونية التي اتبعت خطاً تفكيكياً مع أركون، والمدرسة الأنغلوسكسونية التي اتبعت خطاً أركيولوجياً مادياً. وخضعت الكتابات الاستشراقية الأولى لاعتبارين انفصلا أحياناً وامتزجا أحياناً أخرى، وهما الضرورة السياسية الاستعمارية والضرورية المعرفية. وعلى رغم إيجابيات هذه الكتابات التي علينا الإقرار بها، من حفظ التراث وكشف عن مصادر ومخطوطات وقع التعريف بها بفضل عمليات الترجمة. وإن كانت الرهانات السياسية بارزة في بعض الأعمال الاستشراقية التي اقترنت بالحركات الاستعمارية، خصوصاً في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد وأوائل القرن العشرين، فقد أصبحت كامنة في الكتابات اللاحقة.

الجانب العرقي

تلاحظ جبلاوي أن مايكل كوك ركز في كتاباته على الجانب العرقي في كتابه {محمد}، واعتبر أن السامية العربية سامية لقيطة وغير أصيلة بما أن أم إسماعيل، ليست إلا أمة مصرية سوداء البشرة، وخصص كوك أكثر من صفحة للتشكيك في توحيدية إسماعيل وجعل وراثة الجذور الإبراهيمية من حق إسحق وذريته فحسب. وتستغرب الكاتبة موقف كوك هذا، لأنه من المفترض أن الخطاب المعرفي المعاصر تجاوز هذه الأحكام التفاضلية. هذا الموقف العرقي من تجربة محمد التوحيدية، موقف كرره مايكل كوك بعد أن صرح به في أكثر من مناسبة في عمله المشترك مع باتريسيا كرون {هاجريزم}. يضيف الباحثان إلى نظرية {الجنس والعرق} تحليلات حول همجية العرب وخشونة حضارتهم وحول عنف الإسلام وامتزاجه بالمحددين العسكري والسياسي، ذلك من خلال {مؤسسات} الفتوحات والجزية والخلافة.

على رغم اعتماد الباحثين أسلوباً تاريخياً لا يخلو من سعي إلى توخي الموضوعية، فإنهما يتوخيان نهجاً براغماتياً تجريبياً، يغيّب معطى تعتبره جبلاوي أساسياً في كل عملية تأريخ لديانة معينة، وهو المعطى القيمي- الأخلاقي والباحثان يغيبان تماماً المسألة القيمية في حديثهما عن تاريخ القرن الأول للهجرة. فتمثل مرحلة حساسة مثل تلك التي تشكل خلالها الإسلام ديناً وثقافة، ليس بالأمر الهين، وهنا تعترف جبلاوي بأنه بقدر ما كان للاستشراق الكلاسيكي تمثلاته حول فترة النبوة والخلافة الراشدة، كان لعلماء الإسلام تمثلاتهم وخيالاتهم حول الفترة نفسها، فالقرن الأول للهجرة يحمل شحنة رمزية لا تزال مؤثرة في ضمير المسلمين الجماعي. وتعلن المؤلفة أنها في كتابها وإن كانت ستؤاخذ أحياناً كلاً من مايكل كوك وباتريسيا كرون على انسياقهما وراء بعض المصادرات والتصورات التي من شأنها أن تضعف قيمة أعمالها العلمية، فإنها تؤكد أن هذه المؤاخذات ليست هدفها في هذا العمل، بقدر ما هي محاولة متواضعة للفت الانتباه إلى تقصير المهتمين بالدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي من داخل المجتمعات الإسلامية في محاولة التعامل مع التاريخ المقدس بشيء من الجرأة الموضوعية والتجرد من تمثلات المخيال الإسلامي لفترة النشأة.

تاريخ المقدس

ترى الكاتبة أنه وعلى رغم بعض الإلغاءات والانتقائية التي نلمسها في أعمال كل من كوك وكرون، فإن شروعهما في ممارسة فكر جريء على العصر التأسيسي ومحاولتهما إعادة كتابة تاريخ المقدس، يكتسي شجاعة كبيرة. وعلى رغم إغراق هذين الباحثين في البراغماتية أيضاً، وتعلقهما الشديد بالحقيقة الأركيولوجية، فإن جبلاوي تعتقد أنهما يقدمان لنا درساً في الجرأة وطرافة مقاربة القرن الأول التاريخية نحن في أمس الحاجة إليه. تضيف المؤلفة أنه وإن كانت لنا مؤاخذات حول موقفهما من المصادر العربية، وحول بعض النتائج التاريخية التي توصلا إليه، فلا يمكن إنكار أن تطرف هذا الموقف وراديكاليته، قد يكونان رد فعل طبيعياً على جمود مقاربات وتأويلات نابعة من داخل المجتمعات الإسلامية حول العصر الذهبي أو زمن النبوة والوحي وإجابة عن تمجيد المؤرخين المسلمين وثقتهم اللامتناهية في المصادر العربية.

تتابع المؤلفة أن المصادر العربية التي تؤرخ للقرن الأول للهجرة هي نصوص تاريخية بعيدة عن رهانات عصرها، لذلك يجب إعادة قراءتها، وتفكيكها في ضوء المناهج الحديثة، لأنه من غير الممكن إقامة روابط حية مع تاريخ القرن الأول إذا لم نضطلع بمهمة القيام بمسؤولية الحداثة كاملة، بمعنى أنه يجب القيام بمهمة نقد لمصادرنا وتاريخنا التأسيسي. فأول المصادر الإسلامية المدونة تعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة أي أنها كتابات متأخرة وهي مؤلفات خضعت لغربلة من المؤسسة السنية، ما يجعلنا نعيش في المستوى الحالي الذي وصلت إليه الأبحاث والحفريات، نوعاً من الفراغ المعرفي بسبب هذا الغياب لمصادر إسلامية مدونة تعود إلى القرن الأول للهجرة، وهو غياب يرى فيه البعض بتراً تاريخياً أو نوعاً من الرقابة التي مارسها التراث الإسلامي على نفسه.

تضيف جبلاوي أن الأماكن التي عرفت الأحداث التأسيسية لا زالت تؤدي دورها كاملاً بما هي بقاع مقدسة ورموز حية للإسلام، فيبدو من الصعب أن نتوقع إمكان وقوع عمليات حفرية في هذه الأماكن، على الأمد القريب. وهذا ما يجعلنا نضطر إلى الإقرار بأن هذا الفراغ الذي يمس المصادر الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء إلى جانب المخطوطات والمادة الأركيولوجية، لا يسمح لنا بالقيام بعملية إعادة بناء لتاريخ القرن الأول للهجرة بشكل يحقق كل شروط الموضوعية التاريخية.

مخاوف

الذرائعية التي وسمت مقالة الباحثين في تاريخ الإسلام التأسيسي، جعلت كرون وكوك يطرحان أحياناً إشكاليات تفتقد إلى الوجاهة والأهمية، فتبدو تساؤلاتهما عن الماضي بعيدة كل البعد عن مصير الحضارة الإسلامية. وعلى رغم هذا التصور المفارق لقدر المسلمين الجماعي. فإن تصورهما يبدو مسكوناً برؤى ومخاوف جماعية غربية حول حاضر الإسلام، فالباحثان يقومان أحياناً بمقارنات غريبة بين نبوة محمد وادعاءات نبي{ماوري}، ينسب نفسه إلى الجذور السامية الإبراهيمية. كذلك يتحدثان في أماكن أخرى عن الأحداث السياسية المعاصرة، لمقارنتها بما حدث في القرن السابع، ويتطرقان إلى إيحاءات في شأن الثورة الإيرانية في كتاب {خليفة الله}. إذ تسعى كرون في هذا الكتاب إلى إثبات تماذج الدين الإسلامي بالمحدد السياسي، وتستقي من أحداث القرن العشرين السياسية أمثلة تدعم في رأيهما بنية العلاقة بين الدين والدولة التي تصوراها في القرن السابع للميلاد. ولا تخلو هذه الملاحظات، بحسب الكاتبة، من إسقاطات واضحة وإهمال لاختلاف ظروف التاريخ الإسلامي المقدس الخارجية من اعتداد وصلف عندما تعمد إلى إقصاء النصوص الع
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
30-03-2010, 03:19 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

هل كان البداية؟.. أم النهاية؟!
1492 العام الذي ولد فيه عالمنا وعولمتنا!


Pictures%5C2010%5C03%5C30%5Cc0af4446-e19f-4553-bbae-7f68c9447c7c.jpg


إعداد: محمد حسن
كان من المفترض ان يكون عام 1492 العام الذي ينتهي عنده التاريخ. هذا ما قاله المنجمون، والمتنبئون في أوروبا من روما إلى موسكو ممن شرعوا يعلنون نهاية العالم. بيد ان عام 1492، كما أوضح المؤلف فيليب فيرنانديز - ارميستو كان يمثل في واقع الأمر البداية وليس النهاية.
ولتوضيح ذلك ألّـف كتابه هذا الذي يمثل رحلة، ولكنها لا تشبه رحلات ماركوبولو أو غيره من الرحالة التي تذخر بالعجائب والحوادث المثيرة، وغنية بالوصف والحكايات. واقدم المؤلف هذه الرحلة في صحبة رحالة حقيقيين ونسج من خيوط تجربتهم قصة العالم في ذلك العام الذي تغيرت فيه صورة الكون. وهي رحلة طويلة كانت بدايتها في غرناطة، حيث انهارت آخر دولة اسلامية في أوروبا وانطلق بعدها إلى تيمبكتو، حيث برزت امبراطورية اسلامية جديدة في مالي. وانتقل مع المستكشفين البرتغاليين لزيارة بلاط أول ملك مسيحي في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. وأعطى لمحة لحركة النهضة التي بدأت في البروز في فلورنسا في عهد لورينزو العظيم ولروما الفاسدة في عهد الكسند بورجيا. كما يأخذنا في رحلة كريستوفر كلومبوس عبر الاطلسي إلى العالم الجديد.
وفي عام 1492 تم في الواقع تصميم أول نموذج للكرة الأرضية في نوريمبيرغ في شكل كرة من الخشب المصقول المدهون اللامع. ويعد ذلك أقدم نموذج للكرة الأرضية موجود إلى الآن. ومن شاهدوه اذهلهم جماله وألوانه. كما ادهشهم أمرٌ آخر، وهو صغر حجم النموذج الذي مكنهم من النظر إلى العالم كله، والتجول في أرجائه ببحاره وقاراته ودوله المختلفة مجتمعة في مكان واحد!
وقد جسّد نموذج الكرة الأرضية ذلك، التطلعات التي كانت تراود الرحالة في أواخر القرن الخامس عشر، واغلبيتهم ينتمون إلى الدول الأوروبية، خاصة من انطلق منهم من العالم القديم باتجاه العالم الجديد مثل كلومبوس.
الرحلة إلى الشرق
ولكن كانت هنالك طرق أخرى سلكها قادتهم إلى الشرق، حيث قام بعض الرحالة والتجار الأوروبيين برحلات إلى هناك بحثا عن البهار، والحرير ولم يكونوا يتوقعون ان يُستقبَلوا بالترحيب.
ويشير المؤلف من خلال تجربة اولئك الرحالة والتجار إلى ان الحضارات التي كانت سائدة في الهند والصين وبلاد الاسلام في ذلك الوقت، لم تكن أوروبا تمثل بالنسبة اليها مكانا يثير الكثير من الاهتمام، بل انه ينظر اليها على انها قارة بربرية يسود الدمار اغلبها. وعلى سبيل المثال فان بلاط الملك الانكليزي هنري السابع الذي كانت تطلق عليه صفة العامل «الحديث المتحضر»، كان يبدو للصينيين، وكأنه ساحة مهرجان ريفي صاخب. وعليه، فان الرحلات التي تمت في ذلك العالم اتاحت للرحالة الأوروبيين، فرصة أكثر للتعلم والكسب.
لحظة حاسمة
ففي بداية عام 1492 كانت هنالك لحظة حاسمة في تاريخ القارة الأوروبية تمثّلت في استسلام ملك غرناطة المسلم أبوعبدالله محمد الصغير أمام الملك القشتالي فيردناند الخامس. وهي اللحظة التي شكلت سقوط حكم المسلمين في الأندلس، أي نهاية الدولة المسلمة الوحيدة في أوروبا. وباتت المسيحية خلال الخمسمائة عام التالية مرتبطة ارتباطا عضويا بالقارة الأوروبية. فمنذ سقوط غرناطة وإلى اقامة دولة البانيا في عام 1925 لم تكن بالقارة أي دولة ذات أغلبية مسلمة.
ومن المجموعة الكبيرة للاحداث التاريخية المهمة التي يذخر بها الكتاب، يتضح للقارئ ان عددا كبيرا منها ناتج عن الصدفة وعدد من الأحداث غير المتوقعة، والعواقب غير المقصودة.
ويبدو التاريخ -نوعا ما- وكأنه مجموعة من اخطاء البشر. كما يسجل الكتاب كيف ان «بعض الأحداث العشوائية غير المتوقعة كانت مسؤولة عن احداث تغير ضخم». فالقضية لم تكن مرتبطة «بالتنمية» أو «التقدم» بل بعدد لا يحصى من الأحداث المتوالية التي يصفها المؤلف ارميستو بانها «هزات عشوائية» يبدو وكأنها تشكل نسقا مهما.
فالمسلمون الذين طردوا من أسبانيا استقروا في شمال افريقيا، وخلقوا بالتالي صلة في ما بين الاسلام، والأمم الأفريقية المجاورة وهي صلة قوية ووثيقة ظلت مستمرة منذئذ.
ولادة عالم جديد
ووفق هذا الكتاب، فقد تغير كل شيء في العالم في عام 1492 في ما يتعلق بالطريقة التي توزع بها السلطة والثروة في أنحاء الكرة الأرضية. والاسلوب الذي تقاسمت به الديانات والحضارات الكبرى العالم في ما بينها. وكذلك زيادة الترابط في ما بين الاقتصادات المختلفة، وهو ما بات يطلق عليه الآن صفة «العولمة».
ففي خريف هذا العام المهم، 1492، وصل كريستوفر كلومبوس إلى العالم الجديد. ويصفه المؤلف بانه شخصية مغامرة دفعته الحكايات والبطولة وليس البحث عن الذهب إلى القيام برحلته تلك. ويقول انه كان يسعى للوصول إلى الصين، ولكنه وجد نفسه بدلا من ذلك في جزر الكاريبي. ولو كان قد تمكن من الوصول إلى الصين في عام 1492 لكانت أذهلته تلك الدولة المنظمة البيروقراطية الثرية وشعبها المتعلم. وهي لم تكن تهتم بالبرابرة الذين يقيمون خارج نطاق حدودها.
ويطرح الكتاب سؤالا مهما، وهو: كيف استطاعت أوروبا التفوق على تلك الحضارات المتقدمة في تلك المرحلة؟ فهي لم تكن القارة الأكثر تطورا في مجال العلوم، مقارنة بجيرانها، كما لم تكن تلك القوة التجارية التي نعرفها الآن.
ويرى المؤلف ان بروز أوروبا وصعودها يعودان إلى فشل منافسيها في استغلال فرصهم، بينما استطاعت أوروبا بثقافتها -التي تقدر المغامرة كثيرا- تحقيق طموحاتها والتفوق على الآخرين.

- المؤلف: فيليب فيرنانديز ارميستو
- الناشر: بلومسبيري

الاصلاح الجذري: الأخلاقيات الاسلامية والتحرر


154286_2sdar_small.jpg


صدر حديثاً عن 'الشبكة العربية للأبحاث والنشر' كتاب 'الاصلاح الجذري: الأخلاقيات الاسلامية والتحرر'، تأليف طارق رمضان (أستاذ الدراسات الاسلامية المعاصرة في كلية اللاهوت في جامعة اكسفورد)، وترجمة أمين الأيوبي.

يخاطب طارق رمضان، في كتابه هذا المجتمعات الاسلامية في الشرق والغرب على السواء، ويدعوهم الى إصلاح جذري قائم على التحول، ومتسلح بالوسائل الروحية والفكرية والعلمية للتعامل مع الواقع، والإبحار في ميادين المعرفة كافة، استعداداً لمواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية والفلسفية والأخلاقية.




في هذا الصدد، يقترح رمضان ثلاث أطروحات: الأولى، إعادة النظر في طبيعة الإصلاح، والتكيف مع تطور المجتمعات والعلوم والعالم بغية الوصول الى التغيير الجذري المنشود. الثانية، إعادة النظر في جغرافية أصول الفقه ومصادره وتصنيفاته، والعمل على دمج المعارف الإنسانية والأخلاق التطبيقية، التي يمكن من خلالها تحديد غايات الإسلام السامية وأهدافه العليا. أما الثالثة، فهي العمل على تحقيق الانسجام بين علماء النصوص وعلماء الواقع من خلال الرسم الدقيق للكفاءات والتخصصات والأدوار المنوطة بهم في مختلف المجالات.

عندما تنبأ كمال جنبلاط بقتله وخاف على وليد من القتل!

Pictures%5C2010%5C04%5C06%5Cc110cc74-db9b-41d1-b594-e9d765cc5558_main.jpg


جهاد فاضل
في كتاب جديد عن زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني الراحل كمال جنبلاط يقول مؤلفه الدكتور خليل أحمد خليل، ان كمال جنبلاط كان ماضويا حاضريا يستشف مستقبله كلمح البصر. ذات يوم جاءه مُخبر يحدثه همساً عن محاولة اغتيال كميل شمعون في ساحة النجمة (المجلس النيابي في بيروت) وهو مغتبط. عبس كمال جنبلاط في وجهه وتولّى عنه: «لا تفرح بموت أحد قتلاً أو سهوا، هو ينجو وأنا أقضي قتلاً» بعدئذٍ كتب في ديوانه «فرح» قصيدة «العصفور»، واصفا كيف سيقضي العصفور البريء الى جانب دالية قريبة من طريق الخلاص، أو الموت. وعندما جرت محاولة اغتيال صديقه العميد ريمون أده بصاروخ أُطلق على بيته في جبيل، نُقل الى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث زاره كمال وهمس في أذنه: «اذهب الى فرنسا! أنت تنجو، أما أنا فلا».

وكان يقول عن أسرته آل جنبلاط: «قدرنا كالسنديان ان نموت قتلاً ونحن واقفون»! وعندما كان البعض يحثونه على تسييس ابنه وليد، كوريث وحيد مقبل لزعامته، كان يكشف هواجسه: «صدقوني يا عمّي ما بدي اياه يموت قتل»!
وقد ذهب فؤاد جنبلاط وأبو كمال جنبلاط قتلا أيضا. قُتل الأب زمن الانتداب الفرنسي، والابن أي كمال زمن الوصايات والتدخلات العربية والاعتداءات الاسرائيلية. يقول المؤلف: «يُقال ان فؤاد بك كان على صهوة جواد أبيض حين قُتل وهو مدير الشوف الفوقاني، ومقره في بعقلين، الرصاص الثائر شكيب وهّاب من الجاهلية. قيل ان ثوار 1958 استقدموه الى قصر المختارة، فقال له كمال جنبلاط: «كان ذلك خطأ غير متعمد. في الثورات يُقتل دائماً العصفور البريء. اني أسامحك، فارحل الآن بأمان ولا تجعلني أراك ثانية. لا تنس ان المقتول كان أبي، وان الح.لم قد لا يسبق دوما غضب السيف».
غابة ذئاب
وفي الحالين، يضيف المؤلف، ان مقتل الأب وإعدام الابن يعنيان انهما عاشا في غابة ذئاب تجعل البلاد ساحة حروب مفتوحة وشبه متواصلة. الابن كمال عاش طفولته مع صورة الأب المقتول التي صار قصر المختارة بروازها الكبير، والى جانبه مدفن العائلة. كما عاش بوهم مقتله هو ذات يوم، وبوهم مقتل الابن الوحيد مجددا.
ويرسم المؤلف صورا كثيرة جميلة لأمير الدروز الراحل: مثل كل ساحر سياسي ماهر، مثل قائد أوركسترا، منذ أيامالفارابي الذي يعزف لسامعيه موسيقى تضحكهم وتبكيهم، تنومهم وتوقظهم، كان كمال جنبلاط زعيما مزدوجا: حديثا /تقليديا، استثنائيا/ عاديا، يخاطب الخاصة بفكره، والعامة بخدماته. كانت الخاصة تعتقد ان كمال جنبلاط هو اميرها الحديث وحدها، امير نارها التي ستوقد هشيم الجماهير وتحدث التغيير. وكانت العامة تعتقد انه اميرها الاجتماعي الذي يصون تراثها ويحفظ وجودها ومصالحها.
كلتاهما: الخاصة والعامة، تريان الزعيم وتعميان عن الدولة.
وربما لهذا السبب غابت الدولة عن الوجود المؤسسي، وغاب عنها فكر الحداثة، فلم يلامس فكر كمال جنبلاط الا سطحها.
من مرقبه الشوفي، ابعد من عامة وخاصة، كان كمال جنبلاط يراقب اسماك لبنان التي تنط من مستنقع الى آخر كلما «زتَّ» لها زعيم فتفوتة خبز او قرص عسل. كان الشاعر رشيد نخلة، قائمقام صور، مولعا بشابة صورية حسناء كان رآها مدلوعة على شرفة محجرها، فتأوه حين شاهد ظلها يتراقص في مياه بركة المنشية ويتجمع حولها السمك: «تاري السمك بالمي بتحب الحلا..»، وفهمت ان الناس يكفيهم ظل زعيم يرقص في مياههم، وان النخبة يكفيها حبره المنثال على ياقات قمصانها المكوية «قلت للزعيم»: «لبنان صفّى نهر ورجاله سمك.. يا ويل السمكات الزغار من الكبار»، قال: هذه حال الدنيا!
حارس غابة الفقراء
ويرى الدكتور خليل احمد خليل ان كمال جنبلاط كان مثالا يقتدى به، وصادقا يحتذى. لقد صار الدرويش البايزيدي حارس غابة الفقراء على تخوم غابة الاثرياء. لقد تمنطق وتعملق وهو يتحقق ذاتيا، عربيا ودوليا، دون ان يتوج ملكا على لبنان. كان يرى نفسه سيدا بين سادة الارض واشرافها، شبيها بعبدالناصر ونظيرا لغاندي. كان محايدا في نزاهته، محتكما بعلمه ووهمه الى ضميره واخلاقه. وكان الحزب عنده وسيلة لخدمة القبيلة، وما نحن سوى قابلة تاريخية تستقبل المواليد الجدد برحابة. قبل بلوغنا صومعة سبلين، تساءلت: هل يكفيه ان يعترف به عرب او عالم، اذا لم يعرفه لبنانيون ويعترفوا به ضميرا لحريتهم، رسولا لكرامتهم، سيدا من ساداتهم، يكبر بهم ولا يستكبر عليهم؟ لم أبح بسؤالي هذا، واكتفيت بما انبسط هناك امامنا من الصنوبر وطيور الله التي راحت تعزف موسيقى الكون، موسيقى الافلاك العظمى التي لا يلتقطها الا من اوتي اذني العقل والكلمة، مثل كمالنا الذي كان يغذي النفس بالانفاس النظيفة قبل ان يطعمها على مائدة الرحمن طعاما من نبات وفواكه واطياب ويسقيها ماء من صلصال. بين عسل الزعتر والهندباء الاصلية ولبن الماعز، وخبز الاجداد والايام، كان الجلوس يحلو طويلا مع المعلم، وهو يتربع لا يمد رجلا ولا يرفعها، منتعلا حذاء ربما لم يغيره منذ سنوات. كان يحني رأسه قليلا فوق «الميسود» فتندلع خصلة على جبينه المطبوع بسنا الفجر، او بعمامة جبل الباروك
او حرمون، كان جبلا بين جبال، بعد كل لقمة يلتقطها، وهو يحثنا على مؤانسته في يومه (الاربعاء) يرفع وجهه الى السماء وهو يرتل: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله!
صور شخصية
ويروي خليل احمد خليل بعض الدقائق المعبرة في حياته حول مائدته: «كانت مائدته المحلية المفضلة في بيته تحفل بالزعتر الاخضر واليابس، بالعسل الجبلي، والمربيات واللبن واللبنة والحليب الطازج والزبيب، وبما طاب لنفسه من فواكه وخضار موسمية، كان يأكل بشهية، وكان طبق العدس من اشهى اطباقه اليومية ناهيك عن البيض البلدي المسلوق والمقلي. عموما كان يأدب منفرداً واحيانا مع الصفوة من اخوانه. كان لا يتناول خمرا لكن حين يضطر لمجاملة ضيف اجنبي او يكون في ضيافة اجانب، كان يكتفي بالمسايرة رافعا كأس ماء او نبيذ».
ويرسم صورة شخصية له: «كانت له عينان صغيرتان هادئتان كنبع الباروك الذي كان احد روافده يعبر قصر المختارة جاريا في الحدائق حتى الوادي، وكان بعينيه يطفئ حريقا او يلهب ثورة، كان يطعم خبزا فيتمشيخ ويضرب سيفا فيتأمر: بدأ آل جنبلاط مشايخ رتبة او دين قبل ان يصيروا بكوات، وما انفكوا يضربون بالسيف حتى لا يعود الطعام السياسي ناجعا.. هو امير فكر ونار، جعلته نفسه والطبيعة شاعراً، كان الجمع ينتظر نظرة حانية من عينيه يتبركون بها، وفي الوقت نفسه كانوا يحسبون الف حساب لغضبة عينيه ودمعتهما، لم اره دامعا الا مرة واحدة عندما كنا معا في مكتب الحزب ونقل اليه خبر اغتيال شقيقته الوحيدة ليندا واصابة بناتها في منزلهن بعين الرمانة (بيروت مايو 1976): «مسكينة عاشت معهم زوجت لهم بعض بناتها وظنت بهم خيرا، قتلوها لانها صدقتهم»! وقال لمخاطبه «المهم الآن نقل الجثة الى المختارة لدفنها، والاهتمام بالجريحات»! ثم مسح دمعة نفرت على وجهه، ومضى.
في ايام الحقيقة ايام الرجل الاستثنائي/العادي، كان المنظور يتجلى لناظريه، هو الشغوف بالآية الكريمة: وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة» كانت عينا كمال جنبلاط تشخصان الى داخله اكثر مما تنظران الى خارجه، وكان يتسلط بعينيه على علمه بنفسه.. وفي غير اتجاه كان يطلق فكره بلا هوادة، موصلا الى الكل رسائل مفصلة، كان المشهد التعارفي يدور بين الناظر الداخلي والمنظور الخارجي بين عينيه وبين الكون، وغالبا ما كان الشاهد الجنبلاطي يكتفي بلغة الاشارة حيث لا تفيد العبارة، وكان يقول: عندما تضطرب النفس لا بد من تهدئتها وطمأنتها، وقبل النوم كان يطوي جسده، عن عين الوجود، تماما كما كان دأب صديقه ميخائيل نعيمة في «همس الجفون».

اغمض جفونك تبصر
خلف الجفون عيون!
كتاب جميل عن شخصية تاريخية جميلة!

العمارة الإسلاميَّة من الصين إلى الأندلس... ثقافة العمران
بيروت - عبدالله أحمد

154571_untitled1_small.jpg


صدر حديثاً عن «دار الصدى» كتاب «العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس» للباحث خالد عزب، ويهدف إلى تعريف القراء بأهمية العمران كمظهر ثقافي وحضاري، وتوثيق هذا الإبداع العربي في مجالات التحضّر والتمدّن والعمران.

يرى خالد عزب أن الحضارة الإسلامية زخرت بتجارب لا حصر لها، أسدل الستار عليها، من بينها التجربة العمرانية والمعمارية، التي قامت على فقه العمارة، والمقصود بفقه العمارة هنا، مجموعة قواعد ترتّبت على حركة العمران نتيجة الاحتكاك بين الأفراد ورغبتهم في تشييد العمارة وما نتج من ذلك من تساؤلات طُرحت على الفقهاء الذين قدموا لها حلولاً سرعان ما تكونت منها قواعد عامة، احترمها أهل السلطة لاحترام المجتمع لها واعتباره إياها قانوناً شرعياً، ويفسر هذا الإطار حركة العمران في المدينة الإسلامية والقواعد التي شيدت وفقها العمائر.

أنصار

يفيد المؤلف بأن دراسة المدينة الإسلامية تنقسم إلى نزعتين. أنصار النزعة الأولى، هم أساساً من المدرسة الاستشراقية القديمة الذين لم يروا في المدينة غير السلبيات أي سككها الضيّقة وتعدّد أزقّتها وحاراتها الملتوية كالتواء المتاهة ومساكنها المنغلقة على نفسها، ولم يروا في مشهدها الحضري إلا مشهداً مضطرباً فوضوياً غير منظّم، تتداخل فيه كتل سكنية قليلة التهوئة بسبب نوافذ دورها المطلّة على الداخل. كذلك لم يحاولوا فهم المجتمع وقوانينه وتفكيك العوامل المتداخلة التي أعطت المدينة مظهرها العام، سواء كانت سياسية أو بيئية أو جغرافية أو اجتماعية أو دينية، ومن دونها مجتمعة لا يمكن فهم المدينة وعمارتها.

أما النزعة الثانية، وهي الأكثر موضوعية، فترى أن المدينة الإسلامية ليست مجرّد تجمّع فوضوي للأحياء والمساكن، بل تنظيم المجال الحضري، الذي يأخذ في الاعتبار رغبات السكان وحاجاتهم الحقيقية، في انسجام تام مع تركيبة اجتماعية متماسكة، إضافة إلى أن ما بدا للبعض أنه غير مرتب، قد يكون أحد أنماط التنظيم الذي يختلف عن التنظيم الهندسي وله جمالياته الخاصة.

يتابع الكاتب أن المدن القديمة التي دخلها المسلمون فاتحين تركوها على حالها وأحدثوا فيها ما يحتاجه الإسلام من أبنية كالمساجد، وجاء تعاملهم معها وفقاً لأحكام الشرع التي قسمت الأبنية إلى: البناء الواجب، مثل المساجد لتقام فيها الصلوات، بناء الحصون والأسوار والأربطة للدفاع عن ديار المسلمين، البناء المندوب كبناء المنائر التي تندب للآذان فيها كي يسرع الناس إلى أداء الصلاة، بناء الأسواق حيث يحتاج الناس إلى السلع وكي لا يتكلفوا عناء البحث عنها، فندب الشرع لذلك بناء الأسواق ليستقرّ فيها أصحاب السلع ويسهل للناس شراؤها منهم.

أما البناء المباح، فهو المساكن التي تبنى بهدف الاستغلال. من المعروف أن الشريعة جاءت لحفظ المقاصد الخمسة، الدين، النفس، المال، العرض والنسل، بينما البناء المحظور على غرار دور المنكر كالخمارات ودور البغاء والقمار والبناء على المقابر والبناء في أرض الغير، فأزاله المسلمون في المدن القديمة.

في ما يتعلق بالمدن الجديدة من بينها الفسطاط، وضع المسلمون مخططاً عاماً لها حددته السلطة، يقف عند حدود الخطّة أو الحي أو الحارة، ويتضمن طرقاً تكفي حاجة المسلمين طبقاً لظروف عصر التخطيط ولوسائل المواصلات التي كانت مستخدمة آنذاك، ويعتبر تخطيط مدينة البصرة أحد الأمثلة.

يضع المؤلف تصوراً لكيفية تشكيل المدينة الإسلامية من خلال عمليات البناء المتتابعة ووفق قواعد فقه العمارة، تستقرّ شوارع المدن بعد فترة من الزمن، حيث تستقرّ الفئة المستخدمة على شكل الشوارع التي تستخدمها ويصعب التعدي عليها بالبناء، فالطريق هنا ملك لجماعة المسلمين، بالتالي تعتبر السيطرة عليه من حق المارة أو المستخدمين له. ولأن كلّ ساكن في المدينة يمرّ بطرق معينة أكثر من غيرها، فهو بذلك عضو في الفريق المسيطر على الشوارع كافة التي يمرّ بها. لذلك اختلف عدد المسيطرين من طريق إلى آخر لاختلاف عدد مرات ترددهم عليه، بناء على موقع الطريق واتجاهه.

أما المسجد الجامع، فهو مكان لجمع المسلمين في مكان واحد وعلى قلب رجل واحد، مكان يحميهم من التقلبات الجوية والظروف المناخية. لا يتعدى الجانب الوظيفي في تصميم المسجد إيجاد الفراغ المناسب للمسلمين الذين يقيمون فيه الصلاة، متجهين في صفوفهم المتراصة قَبلة المسجد الحرام، ويتطلب المضمون الإسلامي في هذه النظرية المعمارية أن يأخذ المسجد شكلاً طولياً متعامداً باتجاه القبلة.

بالنسبة إلى المساكن، يفيد الكاتب بأن الاهتمام بها لم يقتصر على منازل الأثرياء وقصورهم وأبناء الطبقة المتوسطة، بل امتدّ إلى الفقراء من عامة الناس، خصوصاً في المدن المزدحمة كالقاهرة، حيث تحايل مهندسو العمارة الإسلامية لحلّ المشاكل من النواحي الاقتصادية والجمالية والاجتماعية. كذلك عرفت المدينة الإسلامية التكافل الاجتماعي عن طريق توفير السكن للمسلمين المعدمين، ففي مدينة رشيد العثمانية مثلاً ألحق الأغنياء بمنازلهم «أحواشاً»، وكل حوش هو عبارة عن فناء حوله مجموعة من الوحدات السكنية الصغيرة يسكنها المعدمون ويتولى صاحب المنزل الملحق به الحوش الصرف عليهم.

عصب

في مجال المؤسسات الخدمية في المدينة الإسلامية، يتحدث عزب عن عدم تكامل وظائف أي مدينة إلا إذا توافرت فيها مجموعة من المؤسسات الخدمية التي تشكّل عصب المدينة، وقد حرص المسلمون على إقامتها وتنظيم أداء وظيفتها بسهولة وانتظام.

يتناول عزب في كتابه المؤسسات ذات الفاعلية الشديدة في المدينة الإسلامية، خصوصاً المؤسسات التعليمية والتثقيفية والصحيّة وأولها المدارس، حيث كانت المساجد هي المعاهد الأولى للتعليم لدى المسلمين، يتلقون فيها مبادئ الإسلام وأصول الدين والحثّ على طلب العلم، وكانت مظهراً أولياً لنشأة حركة التعليم، فأصبحت المساجد هي الجامعة الأولى في القرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة، أبرزها: المسجد النبوي الشريف، المسجد الحرام في مكة، المسجد الجامع في البصرة، مسجد الكوفة. شهد القرن الرابع الهجري تبلور فكرة المدرسة بظهور دور متخصصة للتدريس فيها مساكن للغرباء وأوقفت لها الأوقاف وجعلت فيها خزانات للكتب ودُرِّست فيها علوم مختلفة.

يتابع عزب حديثه عن المؤسسات الخدمية، ليصل إلى «البيمارستان» أو «المارستان» (المستشفى بالمفهوم العصري)، وهو إحدى المؤسسات الخيرية العامة التي شيّدها الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء وغيرهم من الموسورين من الرجال والنساء صدقة. وكان الحكّام الأمويون أول من أنشأ المستشفيات النظامية من العرب.

أقدم بيمارستان عرف في دمشق، عاصمة الأمويين، تنسب عمارته إلى معاوية بن أبي سفيان، تضمن أقساماً منوعة للعلاج: قاعة لمرضى الحميات وأخرى للرمد وثالثة للجراحة ورابعة لمن أصيب بالإسهال، وقد زود بمطبخ لتجهيز طعام المرضى، وكان فيه موضع للأدوية والأشربة، ومكان لترتيب المعاجين والأكحال وغيرها وبلغ التكامل ذروته عندما خصص مكان فيه لتدريس الطبّ.

نظافة

وبما أن القرآن الكريم والأحاديث النبوية تأمر في أكثر من آية بالنظافة الدائمة، فقد اعتنى المسلمون بالحمامات، سواء الخاصة الموجودة داخل القصور ومنازل القادرين، أو تشييد عمائر للحمامات العامة يؤمها الشعب على اختلاف طبقاته. وكان لهذه الحمامات العامة شأن في الحياة الاجتماعية في العصور الإسلامية المزدهرة، إذ كان يخصص للنساء يوم أو أكثر أسبوعياً يلتقين فيه للاستحمام والترويح.

كذلك أولوا عناية بالأسبلة، جمع سبيل، وهي المواضع المعدّة والمجهّزة لسقي المارة لوجه الخير. بناء الأسبلة أحد الأعمال الخيرية الجاري ثوابها على أربابها بعد الموت ما دامت باقية منفعتها. والمعروف أن تسهيل الحصول على الشرب في المنطقة العربية قديم جداً ومعروف، لا سيما أن البيئة بجوّها الحارّ وبيئتها المتربة دفعت إلى التباري إلى إنشاء هذه الأسبلة لتأمين الخدمات للناس.

المصرية للسرديات» مؤتمر «السرد النسوي في الأدب العربي المعاصر».

شارك في المؤتمر نقاد وباحثون وأديبات من مختلف الدول العربية، وناقشوا قضايا المرأة المبدعة من وجهة نظر الرجال والمبدعات أنفسهن. قدم د. حسن عبد العليم يوسف موضوع «النقد النسوي في الأدب العربي المعاصر، ماهيته، شهادات بأقلام مبدعات»، رد فيه يوسف الاتهام عن الأدب العربي بأنه أدب ذكوري، مشيراً إلى مكانة المرأة كما وردت في مؤلفات عدة تعظم دور النساء، من بينها: «ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات» لأبي عبد الرحمن السلمي، «بلاغات النساء» لأبي الفضل أحمد أبي طاهر طيغور، و{الحدائق الغناء في أخبار النساء» لأبي الحسن علي بن محمد المعافري الملاقي.

كذلك رأي يوسف أنه ربما توافرت مؤلفات نسائية، لكنها أغفلت في مراحل الضعف والتخلف وغاب ذكرها عن كتب التراجم أو ضاعت مع ما ضاع من كتب التراث. لكن لو أن النساء كتبت مؤلفات ذات قيمة، فهل كانت لتغفلها كتب التراث كافة! ومن تهميش دور المرأة المبدعة وعدم ذكر أسماء الكاتبات من النساء في التراث إلى الكاتبة العربية المعاصرة التي تسعى إلى توثيق تجربتها وتحاول الهروب من المحاذير وحصار العادات والتقاليد البالية التي تقيد حرية المرأة، بكتابة شهادتها وسيرتها الذاتية... هذا ما تناوله د. أحمد عبد القادر الحسيني في دراسته «آليات السرد... شهادة الكاتبة العربية نموذجاً». اختار الحسيني لطفية الزيات ونوال السعداوي وسحر خليفة وليانة بدر وميرال الطحاوي.

بدوره، بيّن د. أيمن تعيلب في دراسته «الاستعارات النسوية المفهومية» أن الاستعارات النسوية لا تذكي الصراع بين الرجال والنساء، ولا تؤسس لسلطة الإعدام الرمزي للمجتمع أو رفض التراث، لكن تسعى إلى تعديل الوعي اللغوي والحضاري والديني العام كما أسسه العقل الذكوري المهيمن، وهذا التمرد في مواجهة الذكورة يقود النساء إلى رحاب قلق الاختلاف، والأصل في الوجود هو التعددية وهدم النظرة الاستعلائية التي نشرتها الثقافة الذكورية، لذلك كانت الاستعارة النسوية المفهومية قوة فكرية ومعرفية جدلية تنبع من قوة الحياة وثبات الأنا والذات التي تفجر ينابيع الخيال والإبداع.

كمثال على جماليات وقوة السرد النسوي طرحت د. عائشة قاسم محمد الشماخي «تقنية المرأة في السرد النسوي العربي لأحلام مستغانمي نموذجاً»، إذ تزدحم هذه الرواية بالنصائح لآلاف النساء العربيات اللائي يقدمن سنوات من عمرهن قرباناً لرجل لم يقدم لهن سوى الوعود، ويرين الحب ارتهاناً لشخص، ليس بالضرورة رهينة لهن، بل لمزاجه وأفكاره المسبقة وعقده وتطلعاته الشخصية.

في بحث د. محمود الضبع «الممنوع والمحرم في الرواية النسوية الجديدة الجسدية نموذجاً» تشتبك الرواية النسوية الجديدة مع الممنوع والمحرم لانتهاج طرق غير مألوفة وطرق تعبير جديدة، نظرة المرأة إلى جسدها باعتباره كينونتها ووجودها الحسي، تكتب وتعبر عنه بحب وتقدير وليس عورة يجب إخفاؤها والخجل منها، ما يقودنا لتساؤل مهم: هل الجسد رمز للأنا أم مجرد هوية جنسية؟ أجاب د. عبد الرحيم الكردي عن هذا التساؤل في «الإحساس بالهوية الجنسية في القصة النسائية القصيرة» ذاكراً أن المقصود بمصطلح الهوية الجنسية إحساس الذات بالذكورة أو الأنوثة وظهور هذه المشاعر في الإبداع القصصي. اختار الكردي 17 قصة قصيرة لأديبات عربيات مثل «عمة رفيق» لديزي المير من العراق، «جارة» ليانة بدر من فلسطين و{تجليات حادث عابر» لسهير سلطي التل من الأردن، «حديث حول الصمت» لتافلة ذهب من تونس، «القمر» لفوزية رشيد من البحرين «النشيد» لسلمى مطر سيف من الإمارات، و{في البدء كان السقوط» لنورة سعد من قطر و{الأصلة» لرجاء العالم من السعودية، «ولا خبر..لا» لليلى عثمان من الكويت... ورأى الكردي أن ثمة تضخماً واضحاً في الإحساس بالهوية الجنسية في معظم هذه القصص، فكل الشخصيات الرئيسية من النساء وجميع المشكلات والاهتمامات نسوية، بيد أن معظم هذه القصص يعبر تعبيراً واضحاً أو خفياً عن التبرم من هذه الهوية النسوية.هذا الإحساس بالقهر والدونية والظلم فطري في عقل المرأة العربية وقلبها، لا سيما المرأة الليبية. في هذا المجال رصد د. أحمد محمد عوين «صورة الرجل في القص النسوي الليبي، قراءة في نصوص مختارة» قائلاً: «كتبت المرأة الليبية لتعبر عن قضيتها واعتبار الرجل هو السبب المباشر لما تعانيه من حرمان وكبت واستغلال. في البداية كانت الكاتبات الليبيات ينشرن قصصهن ومقالاتهن باسم مستعار ومن هؤلاء زعيمة سليمان الباروني التي كانت تنشر باسم «بنت الوطن». ومن الكاتبات الأخريات اللائي برزن في الصحف والمجلات، خصوصاً مجلة «المرأة» لطيفة القبائلي وأماني نعلبة ومرضية النعاس وفوزية شلابي ونادرة العويتي وشريفة القيادي التي نشر لها روايتان، الأولى بعنوان «هذه أنا»
السرد النسوي في القاهرة... لا رجل يستحق دموع المرأة
القاهرة - أسمهان أبو الإسعاد

155022_44444-copy_small.jpg


لأهمية دور المرأة المبدعة في الحياة الفكرية والثقافية، عقدت جامعة قناة السويس و{الجمعية المصرية للسرديات» مؤتمر «السرد النسوي في الأدب العربي المعاصر».

والثانية «البصمات». والملاحظ في كتابات مبدعات ليبيات كثيرات أنها تدور حول أسئلة الذات والكينونة وقضايا المرأة وضياع الحقوق الأنثوية، في زمن قد يكون هذا التعبير انعكاساً واضحاً للواقع المعيش والبحث عن حياة أكثر رحابة، بعيداً عن سيطرة الرجل، وهل الأنوثة حكر على النساء وحدهن أم أنها رمز للعالم والحياة والتجدد؟».

في سياق متصل، تناول د. أحمد يوسف علي موضوع «أنوثة الشعر وتأنيث العالم» ليؤكد أن الأنوثة والذكورة وجهان لشيء واحد وهو الحياة، وأصبحت الأنوثة رمزاً للتقدير والتقديس عندما تصف مكاناً بالقدسية بأنه أم القرى، ولدينا في القرآن «أم الكتاب» وهي الفاتحة، ووصل الأمر إلى تأنيث العقل في القرآن لما له من دلالات فكرية تؤكد على مكانة المرأة في الإسلام على عكس الرؤية الفقهية السلفية. كذلك وعى الشعراء منذ القدم لتقدير الأنوثة أمثال أبي تمام وابن الرومي، وصارت المرأة رمزاً لتجليات الجمال الحسي والروحي والمطلق كما نراها بوضوح في قصائد العشق الإلهي. والمرأة الشاعرة لها مكانتها في التاريخ الإسلامي منذ الخنساء حتى الشاعرات المعاصرات، لكننا نعيش الاغتراب اليوم، خصوصاً اغتراب المرأة المبدعة ودفعها ثمن إبداعها من شعورها بالوحدة والغربة وعدم الانسجام.

من العرب إلى المسيحية والعكس
اللاهوت العربي.. تأرجح بين آليات الخروج ونقاء الفكر

Pictures%5C2010%5C04%5C13%5C7af7b4d6-143e-4b5a-b12d-0e9eb02cd6c6_main.jpg


صبحي موسى
لا يمكن القول إن الباحث المصري د. يوسف زيدان حاول في كتابه المهم «اللاهوت العربي»ـ الصادر أخيراً عن دار الشروق ـ تقديم حل لإشكالية المتكلمين سواء في الثقافة العربية أو المسيحية، بقدر ما حاول البحث عن جذور ومنشأ هذه الإشكالية، التي يرى أنها عربية حتى من قبل مجيء الرسول، بل إن سبب نشأتها الحقيقي هو وجود الثقافة العربية في مقابل الثقافة المصرية واليونانية القديمة، ومن ثم فإن علم الكلام، وفق رأيه، ليس علماً عربياً خالصاً، وليس العرب أول من تعرضوا له حسبما يرى الكثير من الباحثين، لكن الذهنية العربية المؤمنة بفصل الله عن الخلق هي التي تسببت في وجود هذا العلم سواء في الثقافة المسيحية أو الإسلامية في ما بعد.

قدم زيدان ـ في كتابه البالغ 230 صفحة من القطع الكبير، عبر سبعة فصول ومقدمة وخاتمة وفصل مزيد عن جدلية العلاقة بين الدين والسياسة والعنف ـ عرضاً لتاريخ الصراع الذهني بين الديانات السماوية الثلاث، نافياً أن يكون كتابه هذا بمنزلة انطواء تحت راية مقارنة الأديان، ومؤكداً على أنه سعى للكشف عما أسماه باللاهوت العربي، ذلك اللاهوت الذي كان سبباً في نشأة المدارس الكلامية سواء في المسيحية أو الإسلام، ومن ثم كان لابد أن يتعرض لتعريف علم الكلام، وكان التعريف الوحيد الذي استحق أن يصفه بالعبقري هو تعريف الإمام محمد عبده «علم يبحث فيه عن وجود الله وما يجب أن يثبت له من صفات وما يجوز أن يوصف به وما يجب أن ينفى عنه». معتمداً هذا التعريف كبناء لفكرته عن اللاهوت التي انطلق بها من الثقافة الإسلامية إلى دائرة كل الثقافات الدينية الأخرى، أو التي اجتهدت في معرفة الله وصفاته.
ذهنيتان أمام المطلق
تقوم فكرة زيدان عن اللاهوت العربي من خلال المقارنة بين طريقة تعامل ذهنيتين مختلفتين مع المطلق أو الله، الذهنية المصرية واليونانية القديمة التي ذهبت إلى إمكان الإمتزاج بين السماوي والأرضي، والذهنية العربية التي سيطرت على شبه الجزيرة العربية ومنطقة الهلال الخصيب، والتي قالت إن الله في السماء والبشر في الأرض، وثمة كهنة أو عرافون يقومون بدور الواسطة بينهما، ومن ثم ظهر اللاهوت حين انتقلت المسيحية إلى الشام، فقد تم الترحيب بها في مصر وتشكيلها وفق الثقافة المصرية، حيث الثالوث الرابط بين السماء والأرض، لكن الثقافة العربية في الشام رفضت أن يكون الأب هو الابن، وأن يكون للإله ثلاث صور أو أقانيم، وسعت عبر اجتهادات الآباء والقساوسة النسطوريين إلى تخليصه من هذا الامتزاج، فكان رد الأرثوذكسية المصرية صاحبة الإيمان القويم اعتبار ما نقيضها هرطقات، مما أدى إلى حدوث الانقسام بين الكنائس المسيحية حول طبيعة المسيح، وجاءت المجامع المسكونية كي تكون محكمة لا حكماً لهذه الأفكار، ورغم أن الإسكندرية كانت من النفوذ الذي يجعلها رأسا، غير أن مجمع خلقدونية أطاح بها، ومن ثم انفصلت عن باقي الكنائس لتشهد نوعاً من الاضطهاد العظيم حين جاء الإسلام إلى مصر.
اليهودية وعلم الكلام
لم تكن فكرة علم الكلام مطروحة لدى اليهودية، نظراً لأنها جاءت حسب الطرح العربي الخالص، فالله في السماء وموسى وجماعته في الأرض، وليس ثمة تزاوج أو تمازج، ومن ثم لم يأت الحديث عن صفات الله ولا عن طبيعة الابن، بل إن التوراة نفسها لم تتعرض لهذه الصفات إلا بإشارات قليلة عن الرب الحانق الغاضب النادم الحزين المدمر المتوعد لكل الشعوب من أجل أبنائه من اليهود، وهي في عمومها نوع من القصص التاريخي عن السلالة اليهودية منذ آدم حتى مجيء المسيح، لكن قصصها مليء بالسرود والمواقف التي لا تتسق مع قدسية الإله ولا نبل الأنبياء، ومن ثم رفض القرآن كل هذا، سارداً أغلب هذه القصص بطريقة راقية تتناسب مع فكرة العرب عن المطلق السماوي ورسله، كما سرد عن أنبياء لم تتناولهم التوراة في أسفارها أو كتبها، لأنهم كانوا أنبياء عربا وليسوا من بني إسرائيل كهود وصالح، فأسس بذلك لفكرة أن النبوة ليست حكراً على جماعة بعينها، كما ذهب زيدان إلى أن كلمة «أمي» التي وصف بها النبي ليست من الأمية ـ الجهل بالقراءة والكتابة ـ ولكن من الأممية، وهو الوصف الذي تناولته التوراة في وصف الأغيار أو الأمم من غير اليهود، كما قدم القرآن حلاً للإشكالية التي وقع فيها المسيحيون حول طبيعة المسيح، هو حل وصفه زيدان بأنه غير قابل للنقاش لأنه سماوي، فإما أن يقبل بالجملة أو يرفض بالجملة.
منشأ اللاهوت الإسلامي
لم ينشأ علم الكلام الإسلامي من طبيعة المسيح ولا علاقة السماء بالأرض كما نشأ في المسيحية، لكنه أيضاً لم ينشأ بمعزل عن هذا الفكر، فحين دخل الإسلام إلى الأمم المجاورة قام المسلمون بتغيير أنظمة الحكم، لكنهم لم يغيروا أنظمة الثقافة، ومن ثم لم يمض القرن الهجري الأول حتى أخذت هذه الأفكار في الظهور على أيدي أناس قيل إنهم كانوا مسيحيين أو إن معلميهم كانوا مسيحيين، في مقدمتهم معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم والجهم بن صفوان، وهم من أطلق عليهم آباء الكلام، لكنهم لم يتركوا منهجاً أو مذهباً متكاملاً، لكنهم تركوا مواقف وإشارات جعلتهم البذور التي انبثق منها الجيل الثاني أمثال واصل بن عطاء، ومثلما حرم وقتل آريوس، مكدونيوس، أبوليناريوس وغيرهم فقد قتل هؤلاء وعذبوا ولعنوا، وكل منهم كان من أبناء الشام، ومن ثم فقد لعبت الشام الدور الأساس في إنتاج ما أسماه زيدان باللاهوت العربي.
يعد كتاب يوسف زيدان واحدًا من الكتب المهمة في التعرض لفكر الجماعات الهامشية التي أحدثت خروجات ثقافية كبيرة في إطار المنطقة العربية، لكن ما قال به عن إمكان وجود لاهوت خاص بالذهنية العربية هو ما أحدث كل هذه الإشكالات في الفكرين المسيحي والإسلامي يحتاج إلى تمعن، فثمة العديد من التساؤلات حول نقاء هذا اللاهوت الذي أرخ له منذ البابليين والكلدانيين والآشوريين واليبوسيين وغيرهم ، ولا نعرف إلى أي مدى يمكن أن يتطابق فكر العربي المرتحل في الصحراء مع فكر العربي المقيم في الهلال الخصيب، ولا إلى أي مدى يمكن أن يتجاور فكر الأخير مع فكر المصري المقيم في حضن النيل، وإذا كانت الثقافة المصرية صاحبة التمازج بين السماوي والأرضي صكت المسيحية الوليدة على مزاجها، فلمَ تشابهت الأرثوذكسية القبطية مع الفكرة العربية في تشددها ضد كل ما هو نسوي، ولمَ انحازت روما للفكرة العربية وليس المصرية المتفقة معها في التمازج بين السماوي والأرضي؟ العديد من الأسئلة التي تدعونا إلى التمهل قبل الموافقة على وجود ما يمكن تسميته بلاهوت خاص بالفكر العربي.
هذا اللاهوت الذي ظهر في الثقافة المسيحية تحت مسمى الهرطقات وعاد من جديد مع الثقافة الإسلامية تحت مسمى علم الكلام، فمن الصعوبة حصر الأفكار بمكان أو جماعة بعينها رغم تغير الثقافات الحاكمة، كما أنه من الصعوبة رصد صراع ثقافي حيوي بهذا الحجم بمعزل عن الهيمنة السياسية الكامنة خلفه، لكن ذلك لا يمنع من القول ان مؤلف اللاهوت العربي رصد عبر قراءته الجادة تاريخ الصراعات الثقافية التي انتابت المسيحية والإسلام، وان ثمة تشابها كبيرا بينهما يجعلنا نتفهم آليات وفكر جماعات الخروج في الثقافة العربية، وربما في طبيعة الذهنية العربية، وهذا ما طرحه في بحثه الأخير بوضوح عن جدلية العلاقة بين الدين والسياسة والعنف.


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 14-12-2010، الساعة 05:56 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
05-04-2010, 05:04 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

جناح واحد لا يكفي للطيران
بيروت - سليمى شاهين

154131_22222-heifa2_small.jpg


تتابع الأديبة هيفاء بيطار تزويد المكتبة الروائية قصصًا تشدّ القارئ من مطلعها، فيذهب معها في رحلة تتخبط فيها المشاعر وتتالى الأحداث باندفاع، فلا تترك له سبيلاً للتوقف قبل أن يبلغ الخاتمة. وروايتها الأخيرة «نسر بجناح وحيد» صدرت عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» بالتعاون مع «منشورات الاختلاف»، فهل يتمكن هذا النسر فعلاً من الطير بجناح وحيد أم أنه سيبقى جاثماً

لا يستطيع التحليق؟

في حلمه كان «يحلم» بأن يصبح طبيبًا جراحًا تأتي الراحة على يديه وتحلّ الرفاهية في أرجاء بيته الوالدي. ذلك الولد الذي كان يمتلك طاقة على الحلم لا تضاهى، ما الذي جرى حتى غدت أحلامه كوابيس تجعله يصارع قوى وهمية طوال الليل؟

إنها الخامسة فجرًا! أفاق على طرقات قلبه الهستيرية تخبط في صدره، فاستوى في فراشه ليؤكد لنفسه أنه ليس سوى كابوس مرعب يشبه كوابيسه الأخرى. ولكن أين يكمن الرعب في هذا الكابوس؟ حلم بمقاعد الدراسة عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، وبثوبه وحذائه الجلدي الرخيص اللذين لم يكن يستبدلهما طوال العام فيثيران سخرية الطلاب منه. لكن الرعب لم يكن في هذا المشهد، بل كان في حلم الولد الذي كان يحلم بأن يغدو طبيبًا وتحقق حلمه.

انطلاقًا من حلم الفتى الرائع الذي تحوّل الى كابوس سيطر على حياة الدكتور كريم بعد أن تحقق، تأخذنا القاصة هيفاء بيطار في رحلة تروي فيها معاناة هذا الطبيب في حياته الداخلية والمهنية وفي علاقته بالآخرين. فالدكتور كريم، ذلك الشاب الطموح والذكيّ تفاجأ بالواقع الذي أصبح جزءًا منه بعد تخرجه، ولم يستطع التمرد عليه أو تغيير المسار الذي يسلكه. فما الذي حدث مع الحالم بالروب الأبيض والعيادة المزدحمة بالمرضى والسيارة الأنيقة والبيت الأرستقراطي والرحلات إلى الخارج؟

بطل اللوحة الأولى طبيب أنهكه العراك الطويل مع الأرق كل ليلة. فما إن بدأ حياته العملية حتى تصوّر له المستقبل بلا أمل. لم يقدر على التأقلم واستيعاب الظروف المستجدة إن في عيادته الفارغة من المرضى أو في المستشفى الحكومي الذي يعمل فيه، فالتجأ إلى المنوّمات. بدأ بحبّة واحدة يبلعها ثم يغط في نوم عميق ينتشله من واقعه المزريّ. ولم تعد الحبّة تكفي فصار يستيقظ بعد منتصف الليل فيمد يده الى العلبة الصغيرة ليسرق منها حبة أخرى. وذات مرّة حاول بعزم أن ينقطع عن إدمانه الحبوب وتخفيف شرب القهوة، ولمّا حلّ المساء داهمه الخوف بأنّه لن يستطيع النوم، وأحسّ بوهن شديد في جسده، وتسارعت ضربات قلبه، فتناول قليلاً من الويسكي علّها تريح أعصابه، إلا أنه لم ينم سوى ساعتين. وحين حلّت الليلة الثانية حاول تكرار ما فعله، لكنه أحسّ بتوتر واضطراب شديدين، فبحث عن حبّة في صندوق الأدوية، وإذا بأصابعه تتلمس إبرة فاليوم فكسرها وشرب السائل رغم انتهاء مدة صلاحيتها منذ شهور.

لم تخل حياة الدكتور من مغامرات جنسية منذ بداية الرواية. فهو يتذكر يوم قصدته السيدة فريال في عيادته، فحرّك عطرها الأنثوي غرائزه. امرأة في الثلاثين متزوجة من رجل يكبرها بعشرين عامًا، لم تستطع الإنجاب بعد سبع سنوات لأن العيب في زوجها. أغرته بأسلوبها وأكرمته بمالها فأصبح طائعًا لمطالبها رغم معرفته بكثرة عشّاقها. وشرع يقصدها في بيتها عند غياب زوجها أو في سفره. يخرج من المشفى بعد التوقيع صباحًا كما يفعل الكثير من الأطباء والموظفين الرسميين، ويعود إليها عند اقتراب موعد التوقيع ظهرًا. كلّهم يتساوون في الهروب من الدوام الى عشيقاتهم أو إلى تسوية مشاغلهم.

سنوات تمضي على هذه الحال بين عيادته ومشفى الرخام الذي يبعد عنها مسافة ربع ساعة سيرًا على الأقدام. لكن الحياة بمختلف صورها تجري أمام عينيه. لوحات روتينية مأساوية تبعث المرارة والاشمئزاز في كيانه وتطرد من أمام عينيه ملامح الأمل والرجاء.

مأساة الدكتور كريم تستعرضها الروائية في قراءة غير مرتبة لمذكراته. فهذا القلم الذي خطّ ما يراود مخيلة الدكتور من خواطر لم يأت أبدًا على ذكر لحظة سعيدة. فالشكوى من الملل والفراغ الذي يشعر بهما في عيادته سوف يحوّلانه إلى تمثال من الجصّ، والضيق المادي والإفلاس المعنوي أفرغا حياته من معانيها، وصار يخشى اليوم الذي لن يتمكن فيه من القيام بمصاريف المعيشة اليومية.

لكن مسيرة الحياة لا تتوقّف والأحداث قد تقع بين فينة وأخرى بدون إرادة منا. وهذا ما حصل عندما كان جالسًا في عيادته يفكر بأنها المرأة الوحيدة المخلصة له والتي ستحبه إلى الأبد. وفكّر أنّه لم يتمكن من بيعها، وأراد أن يدوّن هذه الفكرة في دفتره، وإذا بفتاة سمراء تدخل عليه وفي يدها فنجان قهوة يرتعش. نظر إليها وعرف أنها الموظفة الجديدة التي تعمل في مكتب جاره المخلص الجمركي، إنها أمينة!

اعتاد الطبيب على رؤية أمينة وارتاحت نفس أمينة إليه. وتكرّر رشف القهوة معًا، فنسج الدفء خيوطه بينهما، وجمعتهما الألفة بعد وحدة وانعزال، فتعانق الجسدان في رقصة شهوانية ساحرة عبثت بنسائم الحنان والخجل.

لم تدم هذه المتعة طويلاً، وسرعان ما سافرت أمينة إلى الكويت لتعمل خادمةً هناك.

أين عساه يذهب؟ سأل الدكتور كريم نفسه. وقّع علامة حضوره على سجلّ المستشفى وخرج يتسكع. وفي طريقه يلتقي بنماذج عدّة من الناس تصفهم الروائية لتؤخذ منهم العبر من نهج حياتهم في المجتمع. كان يحارب الوقت بالنوم، فهذه حكمته الجديدة، وهو يتشاجر كل ليلة مع مسائه ولا تنتهي المعركة إلا بمساعدة المنوّم. أما في الصباح، في تلك اللحظات البكر من الفجر، كانت نفسه تصفو كمرآة لماعة تعكس كل أشعة الشمس حبًا وبهجة فيكتب على دفتره صفحات أشبه بمناجاة كونية. إنها ساعات الانفعال الصوفية التي كثيرًا ما كان يشك بحقيقتها. بروق خاطفة تلمع في خاطره فتبدّدها غيوم القنوط الرازحة على صدره.

لا تكتفي هيفاء بيطار بولوج عالم الطبيب المهني والاجتماعيّ والنفسيّ، بل تعدّته لتصف العلاقة القائمة بين أخ وأخته. فللدكتور كريم شقيقة يسمّيها سلوى الحبيبة تصغره بسنين. عاشا معًا في غرفة واحدة. طوال ربع قرن كان كريم خلالها نعم الصديق، يوفّر لها الأمان والمساعدة والنضج، ولم يخطر بباله يومًا أن شقيقته سترفض له طلبًا أو تترك في قلبه بعضًا من أسى.

تزوجت سلوى من مهاجر ثريّ بعد أن تخلّت عن حبيبها لأنه فقير. أسدل المال على عينيها برقع الأنانية فلم يعد للأخوة بنظرها تلك المعاني السامية. فالأخوة بتعبير آخر لم تعد سوى انزلاق من رحم واحد، وهذا ما خيّب آمال كريم. فبعد أن هاجرت سنوات وعادت في زيارة شهر قضته في بيت أهلها كره كريم الشخصية التي آلت إليها.

تفاقم الضيق على الطبيب ولم يعد بإمكانه دفع إيجار عيادته، فاستنجد بأخته الثرية علّها تعينه على تجاوز محنته، وإذا بجوابها يدمِّر كلّ إحساس بالأخوة في قلبه.

في اللوحة الأخيرة من الكتاب تصل هيفاء بيطار إلى ذروة المعاناة حيث جعلت بطلها مجرمًا بالصدفة. فبينما الأزمة المادية تشتدّ بخناقها على الطبيب لتصبح جيوبه خاوية تمامًا، قصده رجل يصطحب طفلاً صغيرًا يشكو ألمًا في الشرج.

فحص الدكتور الصغير وأدرك أن علاج هذه الحالة يستدعي وضع قطنة في الشرج لمدة سنة لتقوية الفوّهة، لكن صوتًا شريرًا في داخله أغواه أن يوهم الأب بأن ابنه بحاجة الى عملية جراحية ليستفيد من ذلك ببعض المال كما يفعل زملاؤه الأطباء.

وافق الوالد على إجراء العملية، وفي أثناء تخدير الصغير توقف قلبه عن الخفقان ومات.

زلزلت هذه الحادثة كيان الدكتور كريم ونهشه الألم واليأس وتأنيب الضمير. اتكل على الزمن لينجو من وضعه، لكن الزمن لن يغيّر شيئًا من الحقيقة المؤلمة فقد انتهى عالمه مع آخر نسمة خرجت من فم الصغير.

بعد الانتهاء من قراءة الرواية تمنيت لو أن المؤلّفة أطلقت عليها عنوان «نسر بلا جناحين»، ثمّ انتبهت إلى أن وجود جناح وحيد أم عدم وجوده سيّان!

مسيرة ماو غيرت حياة ربع سكان العالم
«بلا قيود».. حكاية المسيرة الصينية الطويلة

Pictures%5C2010%5C04%5C06%5C6513cfd0-9d12-4c4f-901d-d7b3605de526_main.jpg


محمد حسن
تمثل المسيرة الطويلة الملحمة التي أوصلت الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة بقيادة الزعيم ماوتسي تونغ. ويروي كتاب «بلا قيود» للمؤلف دين كينغ حكاية تلك المسيرة الأسطورية التي غيرت تاريخ ربع سكان العالم، وباتت معلما من معالم تاريخ القرن العشرين.
وقد أمضى المؤلف خمس سنوات يتابع خطى تلك المسيرة على الأرض. وركز خلال ذلك على حالة ثلاثين امرأة تم اختيارهن للمشاركة فيها، وقد تمكنت تلك المجموعة من النسوة من النجاة بعد تلك المسيرة والمخاطر التي واجهتهن، وذلك على عكس من الرجال ممن أدركهم الموت خلالها.
ويقول من تابعوا المسيرة انها قطعت 3750 ميلا من جنوب شرق البلاد إلى شمالها الغربي، غير ان زعيمها ماو قال انه قطع 6000 ميل.

تبدأ حكاية تلك المسيرة بعد تخلص الثوار من آخر امبراطور حكم الصين، وتأسيس صن يات - سين لجمهورية الصين. وقد كان لمؤسس الجمهورية مساعدان هما ماوتسي تونغ وشيانغ كاي - شيك. وبعد وفاته دخل الاثنان في نزاع مرير.
الارهاب الأبيض
وبعد تولي شيانغ كاي - شيك قيادة الجيش الوطني شن حرب «ارهاب أبيض» ضد الشيوعيين الموالين لماو. ورد ماو على ذلك بقيادة انتفاضة في مقاطعة هونان مسقط رأسه، وهي الانتفاضة التي تم قمعها بوحشية. وتشير التقديرات إلى انه قد جرى اعدام أربعة اخماس القادة الشيوعيين. وفي تلك المرحلة أعلن من تبقى من القادة عن قبول النساء ضمن صفوف حركتهم كرفيقات متساويات للرفاق الثوار. وكانت النساء في ذلك الوقت يعانين من التمييز، والاضطهاد في المجتمع الصيني، وبالتالي لم يكن من المستغرب تدفقهن للالتحاق بصفوف الثورة.
وفي عام 1934 حوصر الجيب الرئيسي للثوار بقيادة ماو في جنوب شرق مقاطعة جينانغ شي التي كانت تخضع للحكم الشيوعي. وشدد الجيش الوطني البالغ قوامه مليون جندي الخناق على الثوار. وكانت الطريقة الوحيدة أمام قوات ماو للنجاة هي الهرب من ذلك الجيب. وفي ليلة مظلمة من ليالي شهر أكتوبر عام 1934 تسلل 68 مقاتلا عبر صفوف الأعداء، ومن هناك انطلقت المسيرة الطويلة التاريخية.
ولم يكن أي من المشاركين يدرك كم من الوقت كانت ستأخذ تلك المسيرة التي شاركت فيها ثلاثون امرأة من بينهن زوجة ماو، وزوجة رفيقه القائد شو اين - لاي.
حكومة وجيش متنقل
ولقد شكل الثوار جيشا، وحكومة تسير على الاقدام. وكانوا يحملون معهم اطنانا من المعدات المكتبية، ومطبعة، وآلة تصوير بالاشعة السينية، وقوالب من الذهب، ونقودا معدنية. ولكن لم تكن معهم كاميرا تصوير سينمائي والصور الوحيدة التي وصلتنا لتلك المسيرة التاريخية بصنع صور فوتوغرافية قديمة غير واضحة، ولقطات لمجموعة من المقاتلين. ولهذا السبب لا يعرف الكثير عن تلك التجربة الفريدة.
وقد بدأت مسيرة الثوار بسرية تامة حتى ان شيانغ لم يكتشف أمرها الا بعد مضي ثلاثة أسابيع. وحال اكتشاف طائرات الاستطلاع لموقع المسيرة، يبدأ قصفها بالقنابل والمدافع الآلية، وكانت الطريقة الوحيدة أمام الثوار لحماية انفسهم، هي الانتشار والبحث عن سواتر تقيهم من الضربات. وفوق كل ذلك واجه الثوار العوائق الطبيعية، وهطول الأمطار الذي لا يتوقف الذي اتلف احذيتهم المصنوعة من الجريد. وان كان هطولها قد اوقف على الاقل طلعات الطائرات القاذفة، وكان الثوار يقطعون في المتوسط ما بين 25 إلى 30 ميلا في اليوم. وقد ارهقهم المشي المتواصل، واتلف احذيتهم التي استبدلوها بالخرق.
وكانت كل امرأة تحمل قدرا كبيرا للطهي وتناول الطعام، وغسل أرجلهن والجلوس عليه في المناطق الموحلة. وكان على المشاركين في المسيرة عبور سلسلة متتالية من الأنهار بواسطة جسور بدائية من القوارب والسلاسل. وكانت التيارات في بعض الأحيان قوية قد تجرف الحيوانات والحمالين. وقد فقد الثوار عند عبور أحد الأنهار تحت القصف المتواصل ثلاثين ألفا.
حساء الأحذية
وبعدها واجه الثوار عبور الهضبة التبتية بجبالها الثلجية الشهيرة التي يصل ارتفاعها إلى 14 ألف قدم. ولم يكن أمام الثوار بديل سوى تسلقها، وقد ظلوا يعانون من حالات الاغماء بسبب الارتفاع. وتلا ذلك محاولات عبور المناطق الصخرية الوعرة والمستنقعات ومناطق لا تعيش فيها أية حيوانات يمكن اكلها حتى جرذان الجبال. وشرعوا في ذبح البغال التي وفرت جلودها لهم فرصة صنع أحذية جديدة. كما بدأوا بعدها في غلي الأحذية في الماء لصنع الحساء، وخلط الحشائش مع الطحين لصنع الكعك.
وفي الأيام ذات البرودة القاسية كانوا يجدون اثنين من الرفاق جالسين ساندين ظهريهما بعضهما الى بعض دون حراك وقد توفيا من شدة البرد. كما توفي 400 مقاتل على الاقل نتيجة الجوع.
وعلى الرغم من ذلك كان الانضباط متبعا بصورة مثالية في اوساط المشاركين في المسيرة، إذ بدلا من اللجوء إلى النهب والسلب في المناطق التي تمر عبرها المسيرة كان يفرض على المقاتلين دفع ثمن ما يأخذونه، واعادة أي شيء استعاروه، واصلاح كل ما أتلفوا أو خربوا من الممتلكات، والأمر الأكثر صرامة كان عدم ممارسة الجنس لان الحمل يعيق حركة المسيرة. وعلى الرغم من ذلك وقع المحظور، حيث انجبت العديد من النساء أثناء المسيرة، وكن يقمن بلف الجنين بالقماش وتركه في مسكن مهجور على ان يعدن إليه في وقت لاحق. وقد تمكنت واحدة منهن على الاقل من استعادة طفلتها التي اطلقت عليها اسم «المسيرة الطويلة وو».
نهاية المسيرة
والتقى في نهاية المطاف الجيش الأول بقيادة ماو في شمال غرب البلاد مع الجيش الرابع الذي كان قد انطلق من الوسط. وبعدها جاءت الأوامر من موسكو بتوحيد جميع الأطراف الصينية للوقوف بوجه الغزو الياباني الذي كان قد احتل منشوريا. وكان ذلك يعني اقامة تحالف فيما بين الشيوعيين والقوات الوطنية التي كانت تلاحقهم. وأعطيت القيادة المشتركة إلى تشيانغ كاي - شيل الذي كانت تحت امرته أكبر الجيوش.
وكانت كراهية اليابانيين العامل الوحيد الذي وحد الصينيين، وذلك إلى عام 1945، حين هُزم اليابانيون، وبعدها تم استئناف الحرب الأهلية وكأن البلاد لم تعان بما يكفي.
وقد حققت المسيرة الطويلة انجازا واحدا هو تحول مناطق كبيرة في الوسط وفي شمال غرب البلاد إلى دعم الحركة الشيوعية. وبحلول عام 1949 انسحب تشيانغ إلى تايوان، وولدت جمهورية الصين الشعبية فوق أراضي البر الصيني.
ومن بين القوانين الأولى التي أصدرتها الدولة الوليدة قانون اصلاح الزواج الذي حظر زواج القاصرات والزواج القسري ووأد البنات والتعدد، والعمل على حماية الأرامل والأطفال.
حب جديد وزوجة جديدة
كما تمت مكافأة العديد من النساء ممن شاركن في المسيرة بمنحهن مواقع رفيعة في هيكل الحزب. ولم تحظ زوجة ماو البطلة بهذا التكريم. وبعد نهاية المسيرة تدفقت الشابات الطموحات إلى المقر الرئيسي لماو تسي تونغ ومن بينهن جيانغ كوينتش الممثلة الشابة القادمة من شنغهاي. وبعد وقت قصير نشأت بينها وبين ماو علاقة حب، وأصبحت فيما بعد مدام ماو الشهيرة ضمن عصابة الأربعة التي قادت الثورة الثقافية في عام 1966. وقد أرسلت زوجته الأولى إلى روسيا لتلقي العلاج إلى أجل غير مسمى.
وخلال الثورة الثقافية عانت المقاتلات ممن شاركن في المسيرة الطويلة من التهميش والاهانة، بل والسجن، مما دفع البعض منهن إلى الانتحار ولم يرد إليهن اعتبارهن إلا بعد وفاة ماو وسقوط مدام ماو. وعلى الرغم من ذلك فقد استمر ولاؤهن للحزب حتى الموت. وقد توفيت آخر واحدة منهن في العام الماضي.
والكتاب يزخر بتفاصيل عديدة حول مسيرة تأسيس جمهورية الصين الشعبية التي تحولت الآن إلى قوة اقتصادية كبرى وقوة سياسية وعسكرية صاعدة.

المؤلف: دين كينغ
دار النشر‍ ليتل براون

ندى عبد الصّمد في قصص عن يهود بيروت
ألم التاريخ طغى على جمال الأدب
بيروت - قزحيا ساسين
154425_wadi_small.jpg

في زمن مضى كان لبنان أكثر رحابة للتعدّد الذي هو نعمة لا تخلو من نقمة، وجمال لا يخلو من ألم. وبعض من المعجزة، بالمعنى الأرضيّ، أن تتّسع جغرافية متواضعة لثماني عشرة طائفة لكلّ منها خصوصيّة وفرادة وتاريخ وأحلام. ولا شكّ في أنّ لبنان دفع ويدفع ثمن نسيجه الإنساني المتنوّع وهو منذ إعلان دولة لبنان الكبير يبحث عن ذاته وطنًا ذا طمأنينة وسلام.

وجود الطائفة اليهوديّة في عقد الطوائف اللبنانية حقيقة يثبتها زمان ومكان وناس وإن لم تكن واسطة العقد، غير أنّها لافتة الوجود، ولو استمرّت حاضرة إلى يومنا في سياق بعيد من التجاذب السياسيّ ومتلائم مع الوجدان اللبناني الموشوم بالسيادة، لكانت للتعدّد في لبنان نكهة أكبر...

في جديدها «وادي أبو جميل- قصص عن يهود بيروت»، تجرّأت الكاتبة ندى عبد الصّمد على فتح الباب المحظور وكتبت قصصًا حقيقيّة لها من تراب لبنان مكان ومن أبنائه شخصيّات، وحاولت القول إنّ من اليهود لبنانيّين وآخرين لجأوا إليه من العراق أو إيران أو غيرهما من الدول، وهم يومًا ما اختاروا لبنان وطنًا لهم شأن أيّ لبناني آخر، وتزوّجوا وأنجبوا وتاجروا وناضلوا ومارسوا النشاطات الحياتيّة كافة مثل كلّ اللبنانيّين وفي مختلف المجالات، لكنّهم تبخّروا بلا ضجيج، وغادروا على ظهور سفن لا توقظ المياه وهي تبحر... طاردت عبد الصّمد أخبار يهود وادي أبو جميل بقلم يرضي الأدب ولا يُزعل التاريخ، يعطي الحقيقة حقّها ولا ينتقص من حقّ فنيّة النصّ.

على امتداد ثلاث وعشرين قصّة قصيرة سعت الكاتبة إلى تأريخ الحضور والغياب، ومن الأسماء ما أوردته بحسب بطاقة الهويّة، وبعض الأسماء بدّلته واضطرّت الى تسمية شخصيّات منعًا للإحراج، وأكّدت أنّ ناس قصصها من صنع الحياة لا مخيّلة الرّوائي، وأنّ أفعالهم سردت كما هي، وبلا أيّ تعديل.

في مقدّمة الكتاب قدّمت عبد الصّمد نبذة عن تاريخ الطائفة اليهوديّة في لبنان التي وصلت إلى أوج حضورها في عشرينات القرن العشرين، وتزامنًا مع إعلان دولة لبنان الكبيرعام 1920 حصلت على حماية قانونيّة شأن سائر الطوائف. ولم يستطع يهود لبنان انتزاع مقعد نيابي على رغم طلبه من الرئيس إميل إدّه بسبب قلّة حماسة المندوب السامي الفرنسي. وقد ساعدت نكبة فلسطين على الهجرة اليهوديّة من الدول المجاورة إلى لبنان. أمّا هجرة اليهود من لبنان فبدأت مع حرب 1967 وتصاعدت وتيرتها مع الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1975. وتجدر الإشارة إلى أنّ أوّل كنيس بُني في لبنان كان في مدينة عاليه سنة 1890، ثمّ بُني كنيس في مدينة بحمدون سنة 1915... وأوردت عبد الصّمد معلومات دقيقة ولافتة عن جمعيّات الطائفة اليهوديّة ومؤسّساتها في مجالات متنوّعة استنادًا إلى مقالة نُشرت على الإنترنت ليهودي لبناني يُدعى فريد أزاروط.

قصّة «سليم مزراحي وماري السمن» هي أولى قصص «وادي أبو جميل» وأكثرها طولاً وقد تكون أغناها مضمونًا لما فيها من أحداث ذات قدرة على البوح بما قيل وبما لم يُقَل أيضًا.

ماري هي فتاة مسيحيّة، توفّي أبوها فاضطرّ أخوها إسبر إلى ترك المدرسة والعمل في السابعة عشرة من عمره. وانغمس في النضال لأجل حقوق العمّال، وانتسب إلى النقابات وبدأ يتعبّأ فكريًّا مع أصدقاء الحزب الشيوعي. وصار بعض اجتماعات الحزب الشيوعي يُعقد في بيت إسبر لأنّ الحزب محظور. وماري كانت تهتمّ بكلّ ما يجري وتناقش وتندفع وتتحمّس، إلى أن أصبحت عضوًا في الحزب الشيوعي. وفي سياق الاحتجاج الشارعي اعتُقلت في أجواء عنفيّة من السلطة، وعرفت بعد الإفراج عنها أنّ اليدين اللتين طوّقتا خصرها وشدّتاها إلى الخلف هما يدا شاب مناضل في الحزب الشيوعي وهو يهودي وافد من العراق، اسمه سليم مزراحي: «من فرع الحزب الشيوعي في وادي أبو جميل».

تطوّرت العلاقة بين ماري وسليم إلى أنّ تزوّجا بحسب الدين اليهودي، وضغطت ماري على أمّها إكرامًا ومسايرةً لأهل سليم، وهي لا تكترث دينيًّا وتعتبر المسائل هذه شكليّة، ولم تطبّق مراسم الاحتفال بحسب تقاليد الزفاف اليهودي كاملة: فلم «تنزل العروس عارية في بركة ماء ثمّ يجري تجفيف جسدها بمناشف يرسلها العريس». أنجب سليم وماري سبع بنات وكان المولود الثامن صبيًّا، فصار الحمل ثقيلاً على سليم ماديًّا، ومع تطوّر الأوضاع لم يعد الحزب الشيوعي محظورًا بعدما أعلن رفضه تقسيم فلسطين، وتسارعت الأحداث في لبنان والمنطقة وتصاعد الاحتجاج على قيام دولة إسرائيل... وتحت هذه الضغوط، وإغراءات الحاخام، انتقلت عائلة سليم مزراحي إلى إسرائيل بهدوء وصمت.

ومرّت الأيام ليعود وحيد سليم وماري «ماركو» جنديًّا على ظهر دبّابة إسرائيليّة إلى بيروت ويسأل عن أصدقاء أهله ويتقرّب... ثمّ يتوارى وتعود الحكاية إلى قمقم سرّها.

تكمن أهمية هذه القصّة في أنّ يهود لبنان لم يكن بإمكانهم البقاء فيه مهما فعلوا. فالحزب الشيوعي صورة جليّة للعلمنة وسليم مزراحي وماري ذهبا في الانتماء الشيوعي إلى حدود بعيدة، ما يعني أنّهما عمليًّا لم يعودا اليهوديّين بالمعنى الحقيقي وهما بشكل من الأشكال لبنانيّان فحسب. وعلى رغم ذلك أخذهما المدّ المثقل بأمواج السلبيّة ضدّ إسرائيل. وواضح أن في الأمر مشكلتين كبيرتين: الأولى شعور اليهود كجماعة أنهم في خطر ما بعده خطر، والثانية تدهور أحوالهم الماديّة بعدما قوطِعوا من غير اليهود اقتصاديًّا، تزامنًا مع تقلّص حضور اليهود العددي بسبب الهجرة الرائجة إلى إسرائيل وغيرها... حتى الحزب الشيوعي الذي يقي اليهود التصادم مع غيرهم دينيًّا لم يستطع إبقاءهم في لبنان. إنّما تحوّلوا بهجرتهم من خندق إلى آخر نقيض، ومن رفاق إلى أعداء... وكأنّ قدرًا ما أوصل اليهود إلى لبنان وقدرًا آخر أخرجهم منه. ومعظم نصوص عبد الصّمد في «وادي أبو جميل» توصل إلى هذه القدريّة. وليس الطرح ببساطة إذا قيل: لو بقي اليهود في لبنان وأعلنوا رفضهم لما تقوم به اسرائيل ضدّ فلسطين لكانوا استمرّوا موجودين بأمان. وقد يكون عدد اليهود القليل الذي لم يتعدّ الخمسة عشر ألفًا سببًا مباشرًا لهجرتهم أيضًا، لأنّهم لم يتمكّنوا من بناء سور منيع يرتكز إلى موقف سياسيّ معيّن...

أمّا النصّ الأخير «وحيدة وادي أبو جميل» فهو فائق التعبير عن زوال الطائفة اليهوديّة في لبنان، و{ليزا» الحسناء السابقة التي تحيا مع قطيع من القطط في البيت الأكثر وحشة من قبر مهجور تكاد تكون نقطة نهائيّة، نقطة من لحم ودم يهوديّين، مثقلين بالخيبة والمأساة.

في «وادي أبو جميل» طغى ألم التاريخ على جمال الأدب، وأثبتت واقعيّة الحياة أنّها أقوى من كلّ افتراض وتنظير، وأنّ الجغرافيا ثابتة ومن عليها متحوّل.

155764_untitled1_small.jpg


التلفزيونات الفضائيّة العربيّة... صراع الوسائط
بيروت - عبدالله أحمد

صدر لدى دار الفارابي كتاب {التلفزيونات الفضائية العربية: نظام إعلامي متطوّر 1960-2004}، للكاتبة والباحثة ثريا جعيبس (ترجمة فارس ضاهر). ترى جعيبس أنه وفيما تعيش بلدان العالم العربي حالاً من عدم الاستقرار السياسي، يقلق هذا الأمر الغرب ويثير اهتمامه، ما أفسح في المجال أمام جمهور عريض ليكتشف قنوات هذه المنطقة الفضائية، وقناة {الجزيرة} أكثرها شهرة بلا منازع. غير أن السؤال يُطرح حول مدى تأثير هذه الوسيلة بالضبط؟ وأي دور تؤديه؟ وأي تصوّرات تنقلها؟ وأي مجتمع تنطق باسمه؟

إذا كانت {الجزيرة} تشذّ نوعاً ما عن النمط السائد، فإن الميل يحدونا على أن نضعها قبالة الأكثرية الساحقة من القنوات العربية، وذلك تبياناً لمدى اتصافها {بالديمقراطية} ومدى انعدامها لدى القنوات الأخرى. بحسب المؤلفة، تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها تتخّطى، أخيراً، حدود هذا النمط من التفكير، وذلك انطلاقاً من مسلّمتين: الأولى تقضي بعدم الفصل بين وسائل الإعلام والمجتمعات التي تنبثق منها (وبالتالي العمليات التاريخية التي تخترق تلك المجتمعات)، والثانية تقوم على مقاربة الإعلاميات العربيات (لا يمكن فهمها وفهم تحوّلاتها إلا بتحليل كيفية تطوّرها بارتباطها ببعضها بعضاً). وقد أُبرزت الحالة المصرية كمثل يسند التفكير ويبيّن كيف أن تطوّر نظام إعلامي بعينه هو بالطبع ثمرة لمجموعة معقّدة من الضغوطات والفرص مصدرها داخل حدود البلد الإقليمية كما خارجها، وتنخرط فيها الدولة ولاعبو القطاع الخاص على حدّ سواء.

في مقدّمة كتابها ترى جعيبس أن الرأي العام العالمي أصيب بالدهشة والذهول حينما اكتشف خلال الحرب على أفغانستان عام 2001، وجود محطة للإعلام العربي، عابرة للقوميات، وهي {الجزيرة}. وبعد عامين، اكتُشفت محطة على الأراضي العراقية، بحيث انسجمت مع شبكات عربية أخرى، كتلفزيون {أبو ظبي} و}العربية} أو الـ {الحياة أل بي سي} ، علماً بأن محطات البلاد العربية ليست بنت ساعتها: فقد ظهرت خلال التسعينات، إثر حرب الخليج. عندها تحوّل الفضاء الإعلامي العربي بشكل جذري وراسخ، إذ أوجد حالة من التنافس بين مجموعة متعدّدة اللاعبين في محطات قوامها التلفزة الهرتزية أو الفضائية، الأهلية والقومية أو الأجنبية، الحكومية منها أو الخاصة، وتلك التي لا اختصاص لها أو الإعراضية (المتخصّصة ببيع المواضيع)، وقد تكاثرت بطريقة سريعة جداً وفي زمن قياسي. هكذا بدأت معركة النفوذ والسيطرة لجذب جمهور المستمعين الناطقين بلغة الضاد. وإضافة إلى المحطات العربية، ثمة محطة أميركية ناطقة باللغة العربية، مموَّلة من الكونغرس الأميركي، وهي {الحرة}، وقد أُطلقت في العام 2004، وبعد ذلك أرادت فرنسا اقتراح صيغة جديدة، فقررت إطلاق محطة فضائية فرنسية للإعلام العالمي.

تتابع جعيبس بأن الخطابات المنوطة بمسؤولية التلفزيون تجاه اندماج {الدول-القوميات} وتقويتها، والترابط القومي، وصيانة الثقافة القومية أو التنمية الاجتماعية، كتبريرات وحيدة لحق التصرّف للدول بمحطات التلفزيون المحلية، قد باتت مفتقرة الى الشرعية، وبالفعل أصبح مشاهدو التلفزيون للمرة الأولى، قادرين على مراقبة هذه المحطات وانتقادها، وذلك بالتحوّل عنها بسرعة والانتقال إلى مشاهدة محطات أخرى تحمل رسائل خارجية المنشأ. فذوبان أقاليم الاستقبال الأهلية التي تغزوها تعددية الدفق الإعلامي بالهوائيات المكافئة المقطع المستقبلة، قد أضعف بالتالي، {الدول- الأمم}.

تشير جعيبس إلى أن العولمة ليست في ميدان الإعلام والتواصل مجرد أسطورة، حتى لو كان هذا المفهوم حديثاً جداً إلى درجة تدفعنا إلى التفكير فيه كظاهرة عصرية، وحتى لو كانت التطورات العلمية ذات المستويات المتفاوتة تجعل القارئ يغوص في الشك والحيرة القصوى. فالدفاع عن فكرة العولمة كأسطورة يعني أن نتغاضى عن الآثار الناجمة عنها، وأن نجعل، في الميدان الاقتصادي المالي، البلدان الناجمة نفسها مسؤولة عن مصيرها بالذات، هذا المصير الذي يشبه التبعية اليوم أكثر من السابق، فالتفاوت بين موازين القوى ليس بأمر جديد، لكن الجديد هو الفكرة الخداعة القائلة بأن العولمة، وما تحمله في طياتها من تكنولوجيا جديدة في ميدان الإعلام والتواصل، ومن شركات متعددة الجنسيات، تتيح للجميع فرصة للخلاص، بشكل متساوٍ، في الوقت الذي لا تقوم فيه إلا بتعزيز قوة البلدان المسيطرة على الأسواق العالمية.

مقاومة العولمة

تتساءل جعيبس عن إمكان مقاومة العولمة، فترى أن الإجابة التي تقدّمها وسائل الإعلام العربية عن هذا السؤال تهكّمية، فالموكب الذي اعتمدته بعض الدول العربية لتدافع عن نفسها من هذه الظاهرة في الميدان السمعي- المرئي هو الانضمام إليها من خلال مضاعفة القنوات الرقمية الموجودة على أقمار صناعية عدة تبثّ إلى القارات كلّها، وإطلاق أحدث الأقمار الصناعية للبث التلفزيوني المباشر، وزيادة إنتاج البرامج والهيكليات المتعلقة بها وتحسينها، ونفخ روح الشباب العصرية و{الفكر الليبرالي الشامل} على برامجها.

تلفت الكاتبة إلى أن القمر الصناعي {عربسات} لاقى فشلاً ذريعاً في بداياته، إلا أن المشاكل المالية والتقنية والسياسية أبطأت من جهة قيام نظام إعلامي مشترك وبديل في الوقت الذي كانت فيه تبادلات البرامج متواضعة جداً، ومن جهة أخرى كان بثّ البرامج التي تدعو إلى التنمية الاجتماعية، أحد أهداف {عربسات} الأولية، معدوماً. أحد أسباب هذا الفشل الرئيسة، خشية الدول من نشر الرسائل التنافسية، وقد تمكّنت المملكة العربية السعودية من استيعاب عجز العملية المالي بسرعة كبيرة، ما سمح لها بترسيخ تفوّقها. وهي تملك اليوم غالبية رأس المال في المنظّمة، وفي الأحوال كافة لا يقتصر تفوّقها على هذه الناحية. في الفترة الأولى، لم يشكّل أي شيء مصدر تهديد لسيطرة الدول على أقاليم الاستقبال الأهلية، والدليل على ذلك ضعف التبادلات بين الدول العربية عبر {عربسات}. أما تقنياً فكان الأخير من الجيل الأول ويتطلب هوائيات ثقيلة مثبّتة على الأرض بسبب ضعف قوّتها. ووحدها الدول كانت تتمتع بالحقوق والقدرة المالية على اقتنائها، وكان يمكن بالتالي إعادة بث البرامج التي ينقلها {عربسات} من ضمن صلاحياتها.

تعتقد جعيبس بأن القنوات العربية تشكّل نظاماً خاصاً، وقد تعمل على تطوير اقتصاد جديد في الفضاء الإعلامي العربي يصبّ في مصلحة ملاءمة فعلية بين عرض المشغلين وطلب المشاهدين. وتفسّر التداخل بين القنوات العربية من خلال المثال التالي: {اشترت آرت في 1999 الحقوق الحصرية لنقل بطولات الاتحاد التي شارك فيها فريق كرة القدم المصري، ولم يتمكن المشاهدون غير المشتركين في القناة من مشاهدة الحدث مما أثار، سخط المصريين. وينبع هذا التداخل بين مختلف اللاعبين الإعلاميين من اهتمامهم كجماعة لغوية واحدة، الأمر الذي سمح لنا بتأكيد فرضية ظهور نظام تلفزيوني عربي}.

أما عن العلاقة التي تربط النظام التلفزيوني العربي وباقي العالم، فترى جعيبس أنه غالباً لا تكون معرفة البلدان الغربية بالمجتمعات العربية معمّقة، أو تكون المعلومات التي تردنا عن تلك البلدان، مثل فرنسا، تارة كاريكاتورية ومغلوطة وطوراً سطحية. كذلك، يبدو أن تطوّر معالجة الأنباء في البلدان العربية يتّجه نحو مزيد من الانفتاح الذي يسمح للمشاهدين بوضع ثقتهم أكثر فأكثر وتدريجاً بالقنوات العربية.

تتساءل الكاتبة هنا عن إمكان توطيد العلاقة بين الصحافيين الفرنسيين والصحافيين العرب في يوم من الأيام، لتجد أن هؤلاء يقعون أحياناً ضحية للرقابة المفروضة داخل بلدانهم. واليوم تواكب بعض البلدان العربية التطوّر في ميدان {عولمة الاتصال}، فهي تتمتع بمهارات مهنية وبأدوات الإعلام والتواصل التي تسمح لها بأن تقترح بنفسها صورة عن نفسها، والإجابة من خلال ذلك عن إحدى أكثر المطالبات إلحاحاً المرتبطة بالنظام العالمي الجديد للإعلام والتواصل، ربما استوفت في النهاية الشروط اللازمة لاتصال سمعي- مرئي ذي اتجاهين.

الجريده

Pictures%5C2010%5C04%5C20%5C94e9028a-42af-4608-8a0c-bf1baf7453f6_main.jpg



كتاب أجنبي
مغازلة الكارثة
كيف حافظت وكالة الاستخبارات المركزية على أميركا آمنة؟

بعد فترة قصيرة من سلسلة من الاجراءات التي اتخذها الرئيس الأميركي باراك أوباما لمنع التعذيب في قضايا الارهاب في السجون الأميركية، ووضع اجراءات تحقيق جديدة، سارع الحزب الجمهوري وأصوات داخلية أخرى نافذة لانتقاد السياسات الجديدة التي اتبعتها الادارة الأميركية واتهام الرئيس باراك أوباما بانه «ساذج» و«ضعيف» لا بل اتهامه لانه يمهد لهجمة ارهابية جديدة على غرار هجمات 11 سبتمبر.
ومن بين الكتب التي صدرت حديثا والتي تنتقد سياسات الرئيس باراك أوباما بمعالجة قضايا الارهاب، كتاب «مغازلة الكارثة»، لمؤلفه مارك تيسين الذي عمل كاتب خطابات للرئيس السابق جورج بوش ومن أبرز مستشاريه لشؤون الأمن القومي الأميركي.
انتقادات شرسة
ويطلق المؤلف والمسؤول الجمهوري السابق سلسلة من الانتقادات الشرسة ضد الرئيس الأميركي الديموقراطي باراك أوباما ويتهمه بانه بعد حوالي 48 ساعة فقط على تسلمه المكتب الرئاسي، عطل أوباما السلاح الأكثر تأثيرا في الحرب على الارهاب: برنامج تحقيق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (الذي بدأه الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش وزاد من صلاحياته وسريته نائبه ديك تشيني).
وينتقد الكاتب بشدة قرار الرئيس باراك أوباما برفع السرية عن وثائق حساسة تنشر تفاصيل حول طرق التحقيق مع الإرهابيين، مشيرا إلى انه بتعطيل التكتيكات الاستخبارية التي أثبتت فعاليتها ونشر أسرارنا للعدو، لم يقم أوباما بمجرد فتح الباب لكارثة 11 سبتمبر قادمة، وانما أطلق فيضانا من الاتهام ضد ضباط الاستخبارات الذين قاموا بحمايتنا على مدى السنوات التسع الماضية. ويضيف الكاتب قائلا: «لقد سبّب أوباما الاضرار بالأمن القومي الأميركي في أيامه المائة الأولى في المكتب البيضاوي أكثر من أي رئيس آخر في التاريخ الأميركي»، على حد زعمه!
وراء الكواليس
ويمضي المسؤول الجمهوري السابق مارك تيسين في كتابه باستعراض مشاهد من وراء الكواليس لما جرى ويجري في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مقدما الدلائل، حسب قوله، لاثبات فعالية الاستراتيجيات والتكتيكات والوسائل التي استخدمتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في عدة قضايا يسردها الكاتب بالتفصيل، مبررا في الوقت نفسه صلاحياتها قانونيا واخلاقيا.
وينقل المؤلف شهادات كبار المسؤولين الأميركيين الذين عمل معهم أثناء عمله كاتب خطابات الرئيس جورج بوش ومؤلف خطابه الشهير عام 2006 حيث دافع عن برنامج وكالة الاستخبارات المركزية، وقدم عدة وثائق وملفات حساسة تمتلكها الحكومة الأميركية حول كبار المسؤولين والممولين و«الإرهابيين» من تنظيم القاعدة. ومن أبرز النقاط التي يستعرضها كتاب «مغازلة الكارثة»:
• لماذا لا تعتبر تكتيكات وكالة الاستخبارات المركزية، في رأي المؤلف، تعذيبا
• بحث تفصيلي لما يراه مارك تيسين «العقيدة الفريدة» في ايديولوجية الجهاديين التي تحرر الارهابيين من تمسكهم بالمعلومات أثناء التحقيق.

القوميه

الأعمال الكاملة لنبيه أمين فارس
القومية.. مرة أخرى!

جهاد فاضل
يعيد مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت اصدار الاعمال الكاملة للدكتور نبيه امين فارس، وهي الكتب الخمسة: «العرب الأحياء»، و«غيوم عربية»، و«الزاوية العربية»، و«هذا العالم العربي»، و«دراسات عربية»، و45 بحثا في مسائل وقضايا العرب، والاسلام، ولبنان، و24 مراجعة لكتب تراثية وحديثة، ومقدمات الكتب العشرة التي حررها، او اسهم بترجمتها، او قام بتحقيقها، اضافة الى ما كتبه من مقالات صحفية عكست رؤاه الانسانية والقومية والوطنية، وقد وضع الدكتور محمود حداد رئيس دائرة التاريخ في جامعة البلمند مقدمة عامة لهذه الاعمال عرض فيها لنبية امين فارس المؤرخ والباحث والانسان.

لا شك في ان اعادة اصدار اعمال نبيه امين فارس لها نتائج كثيرة، منها اعادة قراءته من جديد وتقييم اعماله بعد ان مرت، كما يقولون، مياه كثيرة في النهر، فالفكر القومي العربي الذي كان نبيه امين فارس احد رواده قد عرف في ربع القرن الماضي انتكاسة كبيرة، وبخاصة منذ فك عرى الوحدة بين مصر وسوريا، وعجز البعث في المشرق العربي عن تحقيق اي تقارب على صعيد الوحدة بين سوريا والعراق.
أكثر من حلم
ولكن نبيه امين فارس استاذ التاريخ في جامعة بيروت الاميركية ثم رئيس قسم التاريخ فيها، كان مؤمنا بان هذه الوحدة لا بد ان تتحقق مع الايام، لم يكن مجرد حالم او عاشق للعروبة، بل كان واقع العروبة واضحا جليا في فكره، كما كانت سبل التغيير مشرقة في قلبه وعقله وعزمه، «فلا حاجة للعربي ان يستسلم لليأس، فشمس العروبة لا محالة مشرقة»، وعروبته على جاري الفكر الذي كان سائدا في زمانه لدى رواد العروبة، أو اكثرهم، كانت «العروبة العلمانية» التي يشترك فيها العرب في مختلف اديانهم ومذاهبهم، وهي عروبة تتمثل في وحدة عربية «اتحادية» ترتكز على اللغة العربية والتربية التاريخية.
كان نبيه امين فارس (1906 - 1968) احد الدارسين المتعمقين للتاريخ العربي، منذ ان كان طالبا في جامعة برنستون بالولايات المتحدة، وقد كتب العديد من الدراسات في هذا المجال، لكن اكاديميته الصارمة لم تقده الى الانزواء عن الشأنين الوطني والقومي بل دفعتهفي طريق محاولة تقصي اسباب التراجع العربي والدعوة الى الفكرة القومية بصورة علمية وان لم تكن خالية تماما من العاطفة. وقد كتب في احد مقالاته «لن اتجرد من العاطفة لان العاطفة من جوهر الانسانية ولن استخف بشيء انساني او ازدريه»، وكان الدكتور نقولا زيادة زميله في التدريس «ان نبيه امين فارس كان قوميا عربيا الى درجة الاحتراف، وعندما انحلت الوحدة المصرية - السورية كاد يبكي».
المؤرخ قبل الإيديولوجي
الا ان تلميذه الدكتور كمال الصليبي يقول انه رغم قوميته العربية لم يكن ايديولوجيا صارما، بل مؤرخا يتبع الوقائع، ولم يكن ناشطا سياسيا في أي مرحلة من مراحل حياته، عكس الدكتور قسطنطين زريق الذي كان له في مرحلة من المراحل دور تنظيمي من ناحية، وكان يعتبر الأب الروحي لحركة القوميين العرب من ناحية اخرى.
الدكتور محمود حداد يقول انه على الرغم من اهتمام فارس وزريق بالتاريخ والايديولوجيا القومية، فان زريق كان الى الايديولوجية اقرب، بينما كان فارس الى التاريخ اقرب.
ويقول منح الصلح الذي كان تلميذا لنبيه امين فارس في الجامعة الاميركية في بيروت، انه كان يستغرب درجة علم استاذه بالأمور اللبنانية وهو المولود في فلسين والقادم من اميركا (ولد نبيه امين فارس في مدينة الناصرة لأب لبناني من بلدة بحمدون وقد درس في جامعة برنستون بالولايات المتحدة)، ولكن قربه من استاذه ومناقشاته معه دعته الى الاستنتاج بانه كان هو الذي كتب الفصول المتعلقة بتاريخ العرب الثقافي في كتاب فيليب حتي «تاريخ العرب»، وانه صارح استاذه بذلك فضحك الدكتور فارس وهز رأسه علامة الموافقة.
لم يكن نبيه أمين فارس كما يتضح من كتاباته العروبية، ينظر الى العروبة على انها فكرة ماضوية، بل على العكس من ذلك كان يراها فكرة حديثة متحركة نامية ترنو الى المستقبل من دون ان تسقط الماضي، وهي فكرة علمانية يشترك فيها العرب من مختلف اديانهم ومذاهبهم، وهو يشترك في هذا الاتجاه مع قسطنطين زريق الذي قال بالتمييز بين العروبة والاسلام.
وقد يكون نبيه امين فارس قد بالغ بعض الشيء عندما اعتبر ان «الفكرة العربية الحديثة واسسها الثقافية والادبية لبنانبية المولد والنشأة»، ولكنه دافع عن الاسلام ضد الذين اطلقوا نظرية جائرة تقول انه حائل دون تقدم العرب والمسلمين، كما دافع عن اللغة العربية دفاعا قويا بوجه دعاة العامية.
اما نظرته الى التاريخ فكانت منصبة على دراسة المجتمع العربي في التاريخ، ولهذا فقد اعطى اهمية كبيرة لكتابات اسامة بن منقذ عن المجتمع العربي ايام الصليبيين، وحاول ان يستخلص من كلام هذا المؤرخ العربي صورة الانسان العربي وقيم المجتمع العربي ايام الصليبيين، وكيف ان العرب كانوا متقدمين على
الصليبيين في امور وأخذوا عنهم في امور اخرى، وكانت لديه غيرة على العرب وعلى تاريخهم وعلى سمعة التراث العربي في التاريخ، ويعتبر منح الصلح ان عدم سطحية نبيه امين فارس جعلته، بالرغم من علمانيته، لا يعتبر الاسلام بانه غير علماني، وعندما يتكلم عن امراض الانسان العربي يقارب العقلية العربية بعمق قائلا: «آفة العرب ايمان ساعة وانتظار آية»! اي انهم ينتظرون هبوط الحل من فوق، ويأخذ عليهم عدم قدرتهم على الثبات.
نظرية الإشعاع
وفي دراسة له عنوانها «دور لبنان في تاريخ الثقافة» يسخر نبيه امين فارس من «نظرية الاشعاع اللبناني» التي تقول بلسان سعيد عقل وميشال شيحا وآخرين ان لبنان يستند الى ستة آلاف سنة من حضارة انسانية بناها على نحت الصخر وصهر المعدن، وتقويم المحراث وتدوير العجلة وتدوير جماجم الاطفال تطلبا للذكاء والجمال، وانه يتمرس بالحكم الديموقراطي تسنه مجالس الشورى منذ عهد السوافط (قبل المسيح بأكثر من الف سنة) وانه يتجاوز بعنايته طبقات الشعب جميعا الى العجماوات الكادحة في خدمته، فيسنّّ قبل 3300 سنة شرعة الرفق بالحيوان، وانه الف التعليم الجامعي قبل 1700 سنة!
يسخر نبيه امين فارس من نظرية الاشعاع اللبناني هذه ويفند كل تراث اللبنانيين عبر العصور منذ فجر التاريخ الى اليوم، فلا يرى ان اللبنانيين قدموا شيئا ذا شأن للحضارة والثقافة، ما عدا دورهم في عصر النهضة العربية الحديثة، فهذا الدور لا يغمط احد اهميته، ولكنه الدور الوحيد الذي اضطلع به اللبنانيون في التاريخ، «والواقع ان لبنان في اثناء الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر الى بدء الحرب العالمية الاولى، اتصف بطابع خاص هو السير في طليعة الاقطار العربية ورفع لواء النهضة الحديثة وفتح ابوابه للثقافة التي كان مصدرها وافساح المجال لتفاعل الافكار في جو من الحرية لم يتيسر جو في غيره من الاقطار الشقيقة، فكان بالنسبة الى العالم العربي الوسيط والسفير والمعلم والناقل والترجمان».
ويشيد بعد ذلك بحرية الفكر في لبنان «وهنا يكمن سرّ نجاحه، ومصيره مرهون بهذه الحرية، فما دام موئلا للحرية فانه سيظل عظيما. بيد ان الحرية تستلزم شعوراً بالمسؤولية وتسامحا وتواضعا ورصانة».

القبس

سوزان تلحوق في لستُ امرأة واحدة...
نصوص لا تتّسع لجناحَي القصيدة
بيروت - قزحيا ساسين

تعصف بحَمَلَة الأقلام رغبة جامحة في الطباعة والنّشر، وصاحب الحظّ منهم هو من يجد إنسانًا ناضجًا ذا تأثير عليه يقنعه بعدم سلوك درب المطبعة قبل أن يبلغ سنّ النّضج في الحبر. وكثيرون هم الذين طبعوا باكرًا، وندموا سريعًا، وكان ما كُتب قد كتب. والنّضج الكتابي قد لا يمتّ إلى العمر بصلة، إنّما يُنظر إليه بعمر التجربة فحسب. والرابح حقًّا هو الذي يطلّ من نافذة مكتملة على حقيقة الإبداع، ولو كانت إطلالته متأخّرة في حسابات العمر، ومتأخّرة جدًّا.

{لست امرأة واحدة} جديد شعري للشاعرة سوزان تلحوق، وفي مقدّمته يعلن الكاتب اسكندر حبش أنّ إصدار تلحوق الأوّل {إلى أن ألتقيك} لم يكن أكثر من تمرين ما: {مارست فيه سوزان تلحوق هوايتها في إقامة هذه العلاقة بينها وبين الكلمات}. وتجنّب حبش أي تقييم لكتابة الشاعرة واكتفى بتوصيفها. فرأى شعر تلحوق: {يقيم في عالمين، عالم غائب تحاول أن تستعيده وعالم حاضر تحاول أن تكتبه كي لا تفقده}.

يعلن عنوان كتاب تلحوق ما فيها من فائض أنثوي، فهي مُثْقَلة بأنوثتها، والمرأة فيها كثيرة، وقد يكون مردّ ذلك إلى منحى بركانيّ تأخذه عواطفها: {كيف نقنع الآخرين/ بحلم/ بسهوة صحوة/ بهمسة نسمة/ جعلَتْ كلّ امرأة فيّ تداعبُك}... فالمتكلّمة تبدو امرأة على تعدّد، محاوِلة، بتعدّدها هذا، إرواء الجموح المشاعري الذي يجتاح كيانها، ناظرة إلى نفسها بعين الدهشة: {فأجابتني المرأة الكامنة}، وكأنّها لم تكن تدري ما فيها من امتلاء وما في مياهها الأنثويّة من قدرة على القفز مثل الشلال... وفي نصّ {الساعة الثانية صباحًا}، تعلن تلحوق تعدُّدًا من نوع آخر: {كلّ امرأة تتألّم أنا/ ومن جرحها أحيا.../ وأنا كلّ امرأة مجروحة/ تأتي بعد منتصف الليل/ تستمع إلى أغنية حبّ قديمة}... هكذا تحاول تلحوق اختصار النساء العاشقات على سهر وكأس وسيجارة. إنّها تستعين على الحبّ الذي هدر دمها بدم العنقود، وبالهروب إلى دنيا النَّغم والصّوت. ورطتُها هي الحبّ وأشرعتُه التي لا تصل إلى مينائها. ومعظم نصوص الكتاب يبوح باللقاء الذي لا يُعْقَد، وبالوحدة التي عبثًا تحاول الكاتبة استثمارها إيجاباً: {غير وحيدة، كلّ ما حولي لي/ ولستُ لأحد}.

في قصيدة {لست امرأة واحدة} تجهر الكاتبة بأنّها لن تكون امرأة لكلّ الرجال: {لست امرأة واحدة لكلّ الرجال/ وليس كلّ الرجال رجالاً لي}، وتعترف بأنّها متواضعة الطموح على مستوى الرجال، إذ هي لا تريدهم كلّهم، إنّما تبحث في غابات الرجال الشاسعة عن رجلها معتمرة قبَّعتها الأنثويَّة، راكبة خلف جنونها: {لست امرأة لأيّ رجل/ وليس أيّ رجل ملكي/ أريده واحدًا أحدًا}... وبعد هذا الإصرار على الرجل الذي لا يتعدّد تقول تلحوق: {بل أنوثتي تدّعي الرجولة/ ورجولتي تدّعي الحياة}، وهذا الانتقال المعنوي مفاجئ وصاعق، فكيف الأنوثة تدّعي الرجولة؟ وما الفائدة من هذا الادّعاء؟ فالقارئ كان أمام امرأة تريد رجلاً واحدًا أحداً، ثم صار أمامها مستقيلة من رغبتها المركزيَّة، الوجوديِّة، طالبة أن تكون المرأة والرجل في آن واحد، وهي ذات أجساد متعدّدة أيضًا: {لست امرأة بجسد واحد}... ويتّضح من نهاية النصّ أن تلحوق تتحدّى ترابيّة الإنسان وهاجس البقاء والفناء: {سيأخذ الثرى المرأة والجسد/ وأبقى}. قد يكون مبرَّرًا الانتقال من معنى إلى آخر بلا رابط أو مسوِّغ أو منطق بالنسبة الى المتكلّم، أمّا الآخر، المتلقّي، فهو بحاجة دائمة إلى أن يكون مقتنعًا بالانتقالات المعنويَّة وإلا فسيصاب باضطراب ما عقليًّا وعاطفيًّا، الأمر الذي لا يخدم النصّ الفنيّ إطلاقاً.

تبدو تلحوق من حَمَلَة الجراح الثقيلة، وتؤمن بأن كلّ جرح في القلب لا بدّ من أن يظهر في مرآة العين، غير أنّ عينيها لا تُفتحان فتحة كاملة بسبب ثقل الجروح: {كلّ جرح في القلب/ تحمله العيون/ وأهدابي نصف مغلقة/ من ثقل جرحكَ}. غريب كيف يخزل العنوان الكاتبة فيأتي أحيانًا أطول من النصّ أو بحجمه تقريبًا، فعنوان أحد النّصوص، مثلاً، {بعدما حكمت على نفسي بالإعدام}، والنصّ كاملاً: {أخجل من اشتياقي/ تنام إلى جانب أخرى/ دمعتي خدعتني}. وإذا كان النصّ القصير ذا طاقة وقدرة هائلتين على التعبير في حال أُحْسِنَ بناؤه وإثْقالُهُ بالمعنى، فإنّ الكثير من نصوص تلحوق القصيرة لا تطبَّق عليه هذه المعادلة. وتحاول الكاتبة، على رغم إبحارها الوحيد في الحزن الذي لا ينتهي أن تجد فرحًا يليق برجل ما إن حضر: {صعبٌ على قلمي كتابة الفرح / لكنّه سيخترع حبرًا.../ لكَ منك}... فالحبيب الآتي، يضحك على شرفة ليل عاشق، والقلم يستبدل حبر الانتظار الحزين بحبر اللقاء الفرح الذي تجترحه روعة المجيء ومعجزة الوصول.

لتلحوق مشكلة مع قلبها: {وقلبي يخفي وجعك تحت قلبه/ يدفن كذبك وراء دقّاته}... فيتضامن مع من تحبّ عليها، ما يظهر سلطة العاطفة وتماديها مقابل قصر يد العقل وضعف نفوذ المنطق في كيان امرأة تعشق بلا تردّد ولا حساب... صحيح أنّ الوضوح سمة أساسيّة من سمات الكاتبة، غير أنّ الغموض يرد فجأة وكأنّه يفاجئ القارئ والنصّ في آنٍ واحد: {فأرتجلُكَ أمام شجرتي/ وأمحوك أمام حشراتي الزاحفة}. ولا أظن أنّ كلمة {حشرات} وردت في المكان المناسب، والله أعلم ما المقصود بـ {أرتجلك أمام شجرتي}!

تسعى تلحوق إلى رجل مكتمل، ولا تجد اكتماله خارج السياسة فتريده الأندلسيّ والفلسطيني والعراقي واللبناني في الوقت نفسه، وكأنّه تنشد تعويضًا للهزائم العربيّة المتكرّرة برجل واحد: {أندلسيّ أنت/ أخبّئك بين جفوني/ وحيرة وجعي/ وحداثة انتفاضتي / وتأوّه فلسطيني/ وسفك عراقي/ وأشلاء لبناني}... هذا الخطاب ثقيل على الحبّ ويعطّل النبض العاطفي في النصّ ويستحضر مشهد الساحة العربيّة الدامية بعيدًا من أيّ حضور للحبّ بين رجل وامرأة...

يشتمل {لست امراة واحدة} على نصوص قليلة تذهب الى السياسة مباشرة. ففي {جنازة العروبة} ترثي تلحوق فلسطينها متضامنة مع أهلها المشرّدين: {وأناسك يلعنون ساعة ولدوا على أرضك/ يحتارون بين الانتماء وهذيان الرفض}... أمّا في نصّ {بلادي مباحة} فتتّجه تلحوق نحو لبنان أكثر، وتقول: {بلادي مباحة/ لكلّ عابر يهوى المضاجعة}، وتخاف إن هي انحنت عليها أن تُغْتَصب معها، وتغمز الكاتبة من قناة الذين يقتلون {باسم الله،/ والقضيّة والعروبة والدفاع عن الوطن/ وتحرير فلسطين وكره أمريكا}... وتعلن في النهاية أن {... لا عرب ولا عروبة ولا عربيّة تولَد / إلا من رحم الأقلام}...

قد تكون سوزان تلحوق امرأة متعدّدة، في جديدها {لست امرأة واحدة}، لكنّ المرأة الشاعرة بين النساء اللواتي فيها لم تظهر كما يجب، لأنّ المباشرة والهدر اللغوي طغيا على نصوص المجموعة وغابت {الهزّة} الجميلة التي من المفترض أن يجترحها الشّعرُ في قارئه. ولا شكّ في أنّ النثريّة حضرت بقوّة، بسبب انحسار الرمزيّة والإيحاء. وخلاصة القول، إنّ {لست امرأة واحدة} عنوان موفّق لديوان شعر، بينما {الديوان} يطرح أكثر من علامة استفهام.

الجريده


06-04-2010, 12:56 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,973




الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ
إعداد: كمال أبو ديب
عن دار الساقي بالتعاون مع دار أوركس

سليم نكد

هذا هو العنوان على الغلاف الخارجيّ. أمّا في الداخل فيُضاف إليه: «في كتاب العظمة وفنّ السرد العربي»، ممّا يدفع القارئ إلى التساؤل: هل هي دراسة عامة عن «الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ» وفنّ السرد العربي؟ أو هي دراسة خاصة لكتاب «العظمة»؟ وما هو كتاب «العظمة»؟ ولماذا لم يُذكر على الغلاف إذا كان هو الموضوع الرئيسي؟

أسئلة يطرحها القارئ وهو ما يزال بين الغلاف والصفحة الأولى من الكتاب. فهل هو أسلوب من أساليب التشويق وإثارة الفضول انسجاماً مع مضمون «عجائبيّ» و«غرائبيّ»؟

لا يلبث القارئ أن يدرك أن الكتاب تحقيق لمخطوطة عنوانها «كتاب العظمة» تطبع للمرة الأولى وقد صدّرها المحقق د. كمال أبو ديب بمقدمة طويلة تحت عنوان «فاتحات» يتناول فيها فنّ السرد في «كتاب العظمة» وينسبه إلى الأدب العجائبيّ أو الغرائبي.

يعود القارئ الى التساؤل: أما كان من الأجدى والأقرب إلى المنطق أن يبدأ بوصف المخطوطة أولاً ثم يعرض مضمونها، ثم يثبتها كاملة محققة ويلحقها أخيراً بالدراسة التحليلية؟

وإذ نشارك «القارئ» تساؤلاته، نتّبع هذا التصميم في عرض الكتاب.

يذكر المحقق، د. أبو ديب أنه عثر على المخطوطة في أوائل السبعينات بالمصادفة وهو يراجع فهارس المخطوطات في مكتبة بودلي في جامعة أوكسفورد يحدوه هاجس الكشف عن آثار عربية مغمورة ومتميزة تبرز جوانب من الإبداعية العربية كثيراً ما أنكرها أو تجاهلها الباحثون عرباً وأجانب، وهي، إذا نُشرت، تصحّح النظرة الى التاريخ والتراث العربي وتملأ ما يُعتبر فراغات فيه.

لا تحمل المخطوطة اسم مؤلّف وينسبها بروكلمان خطأً إلى الإمام أبي حامد الغزالي، ذلك أن الأسلوب والمضمون الديني مختلفان كما يرى د. أبو ديب. والذي يزيد الأمور تعقيداً أن عدّة مخطوطات تحمل العنوان ذاته لمؤلفين مختلفين من بينهم ابن عربي والأصفهاني وابن أبي الدنيا وابو العبّاس الحميريّ القمّي الشيعيّ. وبعد تردد يرجح المحقق أن يكون هذا الأخير هو المؤلف.

لمحات

يدور الكتاب حول عظمة الله ووصف مخلوقاته في السماوات والأرض وما تحت الثرى من الملائكة ومختلف الخلائق، كما يصف النار المعدّة للكافرين والجنة المعدّة للصالحين. يذكر المؤلف أن الله نزّل على آدم بواسطة جبرائيل العلم الذي ذكره في كتابه المنزّل: «وعلّم آدم الأسماء كلّها»، فصوّر له ما كان وما هو كائن وما سيكون وذكر الطوفان وما يغرق من الأرض، فخشي آدم على العلم أن يذهب فكتبه على ألواح من طين وخبأها في مغارة يقال لها (المانعة) في جبل يقال له (المنديل) في سرنديب بالهند؛ والمغارة منغلقة لا تنفتح إلاّ مرةً في السنة في يوم عاشوراء. وردت الأخبار الى النبي دانيال فذهب الى المغارة مع عدد من تلامذته يوم عاشوراء مجهّزين بأدوات الكتابة ونقلوا جميع ما أرادوا ووضع دانيال هذا العلم على صحائف من نحاس، وبعد وفاته نشرها الله في الدنيا.

وفي سلسلة من الروايات المسنّدة الشبيهة باسانيد الأحاديث النبوية، يقول الحسن بن الحسن البصريّ: دخلتُ على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، فقال عثمان: سبحان من خلف الخلق ونشر الأمم في الأرض في البر والبحر والسهل والجبل... فقال عبد الله بن سلام (وهو حبر يهودي اعتنق الإسلام وأحد أركان رواية الحديث النبويّ): في كتاب «الدفائن» لدانيال ذكر لما خلق الله مما لا تدركه العقول وما لا يمكن وصفه، وما تقوله يا أمير المؤمنين عن هذه الدنيا، فما هي إلاّ كوكب صغير بين الكواكب في السماء. ويروي عبد الله بن سلام لأمير المؤمنين ما وجده في هذا الكتاب. من ذلك أن الله خلق المهوى وطوله ألف ألف ألف سنة وعلى جانب البحر عن يمينه ألف ألف ألف مدينة وعن شماله مثل ذلك، ولكل مدينة عشرون ألف مرج في كل مرج عشرون ألف روضة... فيهتف عثمان: لا إله إلاّ الله الملك القدوس. ويكمل الراوي وصفه لمخلوقات الله وعجائبها:أرض من حديد بينها وبين البحر مسيرة ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة، وقد ألان الحديد فيفلحون ويزرعون ويغرسون الأشجار التي تتخللها الأنهار، وعلى تلك الأشجار طيور كالجمال أرجلها مثل أرجل الطيور ووجوهها كوجوه الناس... وتستمر الأوصاف لمخلوقات بالغة الضخامة، مقاييس طولها وعرضها بآلاف آلاف السنوات.

من الأوصاف الرائعة والمريعة وصف جهنّم وما يقاسيه الهالكون من ألوان العذاب: «وجعل في جهنّم ألف ألف بحر الى تسعمائة ألف ألف بحر من النار، أمواجها تتلاطم، فيها الزبانية سود مثل الجبال، لكل واحد منهم ألف عنق، في كل عنق ألف رأس، في كل رأس ألف وجه، في كل وجه ألف فم، في كل فم ألسن وأنياب طول كل سنّ مسيرة خمسمائة فرسخ»...

ابداع ادبي

يقول د. أبو ديب: «بمثل هذا النص يحقّ للإبداعية العربيّة أن تنسب لنفسها في سياق التاريخ الأدبي الذي كانت تعيه، ابتكار فنّ أدبي جديد هو فنّ العجائبي والخوارقيّ، فنّ اللاّمحدود واللاّمألوف، فنّ الخيال المتجاوز الطليق وابتكار المتخيّل الذي لا تحدّه حدود». وفي مواضع اخرى من المقدمة: «هكذا يبتكر النص نهجاً بديعاً في التعامل مع المختلف، الخياليّ، اللامعقول، الجامح، المتجاوز حدود التاريخي والمعقول بترسيخه وتجذيره في التاريخيّ والمعقول»... «وقد يكون كتاب العظمة اول نصّ سرديّ ينجز هذا الإنجاز الفني العظيم...».

بهذا الاسلوب التحليلي والتذوقيّ الانفعالي الذي يتخذ احياناً لهجة سجالية، تستمر المقدمة من فاتحة الى فاتحة. انه موقف قارئ محلّل ومتذوق في آن واحد، مزهوّ باكتشافه أثراً هو من كنوز التراث العربي يعتبره نموذجاً للإبداعية العربية، وكأن هذا الموقف رد فعل على مواقف بعض المتكربين او الجاهلين او قاصري النظر من الدارسين العرب والاجانب. انه نموذج للنقد الحيّ الذي بتنا نفتقده اليوم في النقد الادبي الحديث المسكون بهاجس علمويّ إحصائي تشريحي وبموضوعية باردة يتناول الرائعة الفنية كما يتناول الملصقات الدعائية، والجسد النابض بالحياة كما يتناول الجثة الهامدة، وكأن كل الشأن في المنهج لا في ما يؤدّي اليه. ذلك ان النقد الصحيح، مهما استوحي من منهجيات العلوم، وأية درجة بلغ في طموحاته ومناحيه العلمية، يبقى في صميمه تفاعلاً حياً، لان الذوق والحدس أنفذ الى قلب الأثر الفني من ادوات المناهج مهما أُتقنتْ وترهّفت.

من أجل تصحيح النظرة الى التراث العربي يدعو د. أبو ديب الى «ضرورة إعادة تصوّر التاريخ الثقافي العربي من منظار داخلي: إلغاء مفهوم عصور الانحطاط الذي ابتكرته حساسية فنية وفكر سياسي سحقه الغرب بمعطياته... والتخلص من عقد النقص إزاء الغرب... ورفض صورة الحضارة العربية التي تقوم على معطيات التاريخ الرسمي للثقافة وعلى الكتابة البلاطية... فما سُميّ «عصور انحطاط» هي عصور تحرير الأدب من لصوقيته بالسلطة ودوراته في مدارها...».

انها دعوة جادة ومحقّة لكننا نتساءل كم عدد الآثار التي تتضمن هذه الصفات والعناصر الفنية التي تغيّر طابع عصور بأكملها وهو لم يذكر واحداً منها كمثل لما يدعو اليه؟ مع العلم ان «كتاب العظمة» الذي يدرسه وينطلق منه لهذه الدعوة لا ينتسب الى هذا العصر، بل الى القرن الرابع الهجري كما يقول. ويبدو ان الانفعال في بعض المواضع يطغى على النظرة التحليلية الهادئة، فتتكرر صفات تنسب الى النص بحماسة طاغية: المدهش، المذهل، الفاتن، الرائع، الساحر... وكان من الافضل، في رأينا، ان يُترك للقارئ مجال الاستنتاج والشعور بالإعجاب من خلال التحليل.

غير ان نتائج الانفعال والموقف السجاليّ تبدو اكثر ما تبدو في نسبة «كتاب العظمة» الى نوع أدبي معيّن يدعوه «الأدب العجائبي» او «الخوارقي» او «الغرائبي» باعتبار انها مترادفات او قريبة من الترادف، وهو يرى بالتالي ان العرب سبقوا الغرب الى هذا النوع الذي سمّوه Fantastique، والذي ينسب T.Todorav ظهوره الى القرن الثامن عشر الاوروبي. ينتقد د. أبو ديب هذا الرأي ويصفه مرة بأنه ادعاء عبثي (ص9) ومرة بأنها نسبة عشوائية ( ص18).

دلالات

إذا كانت تعابير «العجائبي» و«الغرائبي» و«الخوارقي» غير محددة تماماً في اللغة العربية فتستعمل كمترادفات وكمقابل للتعبير الاجنبي Fantastique، فليست الحال كذلك في الفكر النقديّ الغربي حيث التمييز دقيق بين: L’étrange, Le fantastique, Le merveilleux, La féerie، وإذا تشابهت دلالاتها في الاستعمال العاديّ فهي ليست كذلك في لغة النقد الادبي التي تجهد لتحديد الانواع تحديداً دقيقاً. فالآداب اليونانية والرومانية القديمة، والادب الاوروبي في العصور الوسطى زاخرة بالخوارق من آلهة وأنصاف آلهة وجنّ وعفاريت... ومع ذلك لم تعرف هذه العصور الأدب الـ fantastique بالمعنى الحصري، وكذلك الحال آثار Dante، Milton وشكسبير. ليس هذا موقف Todorov وحده بل معظم الباحثين في هذا المجال، نذكر منهم R.Caillois، إذ تلتقي آراؤهم حول شروط اساسية نوجز أهمها: ان الذي يحدّد الـ fantastique هو شعور التردد الذي يعانيه بطل القصة كما يعانيه القارئ أمام الأحداث بين التصديق والإنكار. فالتصديق التام والإنكار التام يخرجان النصّ من هذا النطاق؛ والذي يخلق موقف التردد هذا تماسك العالم الواقعي وخضوعه الصارم لقانون السببيّة، ثم تعرّضه المفاجئ للاهتزاز او الاختراق. لهذا يلاحظ ازدهاره في فترات الاكتشافات العلمية وتعاظم الثقة بقوانين العلم ومنجزاته كما كانت الحال في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الاوروبي، وقد بلغ الذروة في هذه المرحلة التاريخية مع Gogol و Poe و Hoffmannو Maupassant وسواهم.

من شروطه الاساسية كذلك خلوّه من الاجواء الإلهية والمشاعر الدينية والأساطير وحياة القديسين وعجائبهم وتجنب الوعظ والدروس الأخلاقية كما نلاحظ ذلك في آثار أعلامه.

وإذا كانت كل فترة حضارية (او بدائية) تنعكس في لون أدبيّ يمثل روحها فقد تمثلت المرحلة التالية، وما تزال، في نوع آخر هيأته تطورات اخرى للعلم ونظرة مختلفة اليه هو «الخيال العلمي» Science-fiction.

«كتاب العظمة» اذاً، رغم ما يتضمنه من خوارق ومدهشات، او بسبب ذلك، لا ينطبق عليه وصف Fantastique.
كيف يصنّف اذاً وما هو النوع الذي ينتسب اليه؟

إنه يلامس انواعاً ولا ينتسب الى نوع محدد. ينمو على أصول الكتب الدينية يستوحيها كما يحلو للمخيلة ان تنطلق وتبدع، كما يغتذي مما تنسجه المخيّلة الشعبية حول بعض القصائد والتعاليم. له نظائر في بعض أناشيد «كتب الأموات» في الحضارات القديمة، و «رؤيا يوحنا» في الاستيحاءات المسيحية. انها رؤى أخرويّة او اسكاتولوجية.

وصف الجنّة

تتجلى لوحة الجنة كأبهى ما تكون بأوصاف تتخطى كذلك كل تصور في حشد هائل لكل ألوان الجمالات والمتَع: «إن الله تعالى خلق الجنة تحت العرش عن يمينه، وعرْضها كعرض السماوات والأرض من الذهب الأحمر والفضة البيضاء والدرّ والجوهر واللؤلؤ والزمرد الأخضر، وجعل لها ثمانية أبواب من النور ومسامير من الدرّ وستور الأبواب من السندس الأخضر ومفاتيحها من الياقوت الأحمر... وتسمّى كل جنة باسم معلوم: الأول جنة النعيم، الثاني دار السلام، الثالث دار الخلد، الرابع الفردوس، الخامس دار الجلال، السادس جنة عدن، السابع الدار العليا. طول كلّ دار مسيرة تسعمائة ألف ألف ألف ألف ألف سنة... والسنة ثمانون شهراً والشهر ثمانون يوماً واليوم ثمانون ساعة والسنة الواحدة الف سنة من سنينا هذه... في كل جنّة خلق الله تعالى ثمانمائة الف مدينة، في كل مدينة ألف ألف قصر من الذهب الأحمر والدرّ والجوهر والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر... على كل سرير ألف ألف فراش من الحرير والسندس الأخضر... والفرش مفروشة بعضها فوق بعض، جالس على كلّ من تلك الفرش حورية من الحور العين عليها سبعون حلّة... يجري في كل بستان نهر من لبن ونهر من عسل ونهر من خمر لذّة للشاربين... فإذا دخل أهل الجنة الجنة افترقوا الى منازلهم فتستقبلهم الحور العين، كل إنسان تستقبله سبعون حوراء... فينظر وليّ الله الى ما أعدّ له من النعيم ويتعجب من الحور فيقول: لمن هؤلاء يا ربّ؟ فيقول الله تعالى: «يا عبدي ما ترى كلّهنّ أزواجك ونساؤك ولأجلك خلقتهنّ»... ويمضي الوصف على هذا المنوال الأسطوري الغرائبيّ في تجسيد المتع على اختلافها بأبهى الصور وأصعقها للحواس والمشاعر. ويخاطب الله عباده: «يا عبادي لا تشربوا من الحور العين فها أنا أسقيكم بيدي فاشكروا نعمتي وانظروا الى عظمتي».

الجريده

04-12-2010, 08:33 PM
[URL='http://www.aswaqnet.net/member.php?u=275']البريمل
user_offline.gif

عضو مميز

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 9,789

icon1.gif

وديع حداد ورجاله.. كارلوس والآخرون.. في عالم خطف الطائرات وعملية أوبك والاغتيالات (1) أسرار الصندوق الأسود

Pictures%5C2008%5C08%5C26%5C0b718b4b-a05a-4f0d-b1c0-5d57474bb162_main.jpg


تأليف: غسان شربل
قبل ان يصبح اسامة بن لادن المطلوب الاول في العالم، كان هناك كارلوس، الذي ارتبطت باسمه عشرات العمليات الارهابية حول العالم، منذ اطلالته الصاعقة في عملية اوبك، التي احتجز فيها وزراء نفط الدول المنتجة للنفط في اواخر ديسمبر من عام 1975.
لكن كارلوس، واسمه اليتش راميرز سانشيز، الفنزويلي الجنسية، «الأممي» الانتماء، الماركسي النشأة والمسلم حاليا (سجين في فرنسا)، لم يبزغ نجما فجأة، بل كان في بدايته كوكبا يدور في فلك وديع حداد (ابو هاني) أحد مؤسسي حركة القوميين العرب ورفيق جورج حبش في التأسيس وفي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبطل عمليات خطف الطائرات والعمليات الجريئة الاخرى، التي شغلت العالم وحبست انفاسه، خلال عقد كامل من السنين، بين نهايتي ستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت عمليات ذلك العقد متقنة الاعداد والتنفيذ، عصية على الانكشاف، تحرك ضمنها وخلال تنفيذها جيش اممي من ثوريي ذلك الزمان، بينهم يابانيون واوروبيون واميركيون وجنوبيون وعرب واكراد، ومن الجنسين.. وبين هؤلاء من لمع لاحقا في مواقع ومراكز عليا في دولهم.
عالم الاسرار ذاك، الذي كان عالم وديع حداد، لم يكشف النقاب عنه كاملا، الروايات التي نسجت او تناقلتها وسائل الاعلام، بقي معظمها ناقصا، ذلك انها جاءت من «الخارج»، ولم تستق معلوماتها ممن هم كانوا داخل هذا العالم، بل في صميم الدائرة الضيقة التي حركته.
الزميل غسان شربل، رئيس تحرير صحيفة الحياة، وفي كتابه «أسرار الصندوق الأسود» الذي تنشر «القبس» بعض فصوله تصدى للمهمة الصعبة، التي مرت سنوات من دون أن تنجز، الا وهي مهمة تقديم مشهد بانورامي لهذا العالم، يرسمه ويرويه «أبطاله» الحقيقيون واللاعبون الرئيسيون فيه، هؤلاء الذين احتفظوا طويلاً بالأسرار المكنونة في دواخلهم، ليجري تفكيكها اليوم من خلال رواياتهم التي ادلوا بها بعد ان ولى زمن كان زمنهم وجنحت السفينة التي كانوا يبحرون فيها في اتجاه آخر، أصبح لها معه ربابنة آخرون، يتقدمهم اليوم أسامة بن لادن.
أبطال تلك المرحلة يعمد غسان شربل إلى «استنطاقهم» بأسئلة ملحاحة، تتناسل من بعضها بعضاً، وهو يتقمص شخصية الخبير الذي تعود اليه مهمة تفكيك رموز الصندوق الأسود في الطائرة بعد سقوطها لمعرفة ما حصل طوال رحلتها.
الكتاب فصول تغلب عليها الحوارات، نتعرف فيها ومن خلالها إلى وديع حداد الذي لم نكن نعرف عنه سوى صورته «الرسمية» وهو يرتدي الحطة والعقال الفلسطينيين. ونتعرف على كارلوس أكثر من خلال حديثه المباشر ونقرأ تفاصيل عملية أوبك بخط يده. كما نتعرف إلى أنيس النقاش الذي اشتهر كبطل لمحاولة اغتيال شهبور باختيار، فيما هو كان الشخص الثاني في قيادة عملية فيينا. وإلى جانب هؤلاء، تبرز أسماء وشخصيات كثيرة، أسماؤها ضعف عددها، لأن كلا منها كان له «وكانت لها» اسمه الحركي. لكن قبل هؤلاء نستطلع المزيد عن شخصية جورج حبش.
وفي الرحلة بين متعرجات الأحداث التي حبست الأنفاس قبل أكثر من ثلاثين عاماً، نجدنا نحبس أنفاسنا ونحن نصطدم بالمفاجآت: رفيق الحريري كان في منزل وديع حداد.. جلال الطالباني كان عضواً في التنظيم.. خطفت طائرة اللوفتهانزا من أجل خمسة ملايين دولار.. روايات «أبطال» تلك الحقبة عن العمليات والأحداث تتقاطع في معظمها عند ترداد القصة الواحدة، إلا عندما يتعلق الأمر بعملية فيينا لخطف وزراء أوبك، الذين كان بينهم آنذاك وزير النفط الكويتي عبدالمطلب الكاظمي، وقد اعتبره منفذو العملية لأمر ما من «الأصدقاء» و«ثورياً».. هنا تجدنا أمام ثلاث روايات يختلف كل منها إلى حد التعارض. أحد مساعدي وديع حداد يقول إن هدف العملية كان قتل وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني ووزير النفط الإيراني جمشيد اموزيغار، كارلوس، وفي رواية بخط يده يقول شيئاً مختلفاً، ويجزم ان الزعيم الليبي معمر القذافي هو «العقل المدبر» للعملية، فيما يقول أنيس النقاش انه كان المخطط الأول للعملية وان الهدف كان مالياً، علماً بأن كارلوس لم ينف هذا الهدف، لكنه يشير إلى أن «الاتفاق» كان على أن تدفع الدول المعنية لاحقاً، لكنه يعتبر انه لم يصل اي مبلغ ويصف نهاية العملية بالكارثة.. هنا رواية كارلوس.

المحرر


هذه الرواية جاءت في رسالة مطولة بعثها كارلوس من سجنه، بواسطة محاميته وبخط يده، معتبرا انها الرواية الكاملة لما حصل في عملية فيينا لخطف وزراء اوبك، وقد كتب كارلوس هذه الرسالة بعد ان اغضبه ما جاء على لسان انيس النقاش بشأن العملية، وبالتالي سنلاحظ (بعد ايراد رواية النقاش) مدى الاختلاف والتناقض في العديد من التفاصيل كما سنلاحظ اختلافا عن رواية احد مساعدي وديع حداد.
رواية كارلوس تستحق الاهتمام لانه كان بطلها الاول.. وهنا التفاصيل:

مقر «اوبك»
فيينا، في الواحد والعشرين من ديسمبر 1975
انا اللاعب الوحيد في العملية الخارجية التاريخية للمقاومة الفلسطينية التي تميزت ببعدها الدولي المجيد، اذ واكبتها منذ اعدادها مرورا بمراحلها كلها، من التحضير الى التنفيذ، والمتابعة في ما بعد التنفيذ، لا سيما على الصعيد الامني واللوجستي والسياسي والدبلوماسي، وانا مخطط هذه العملية وقائدها العسكري، وذلك يمنحني الكفاءة لسرد سيرها بأدق تفاصيلها.
«العقل المدبر»: العقيد معمر القذافي.
التنسيق الاستراتيجي: كمال خير بك.
الاعداد: الدكتور وديع حداد.
التخطيط: اليش راميريز سانشيز.
التنسيق الخارجي: ويلفريد بوز.
التنسيق العربي: انيس نقاش.

كمال خير بك
كان الراحل كمال خير بك من الطائفة العلوية، ولد في منطقة القرداحة، وسكن في جوار عائلة الوحش التي عرفت في ما بعد بعائلة الاسد، وجلس على مقاعد الدراسة الى جانب رفعت الاسد، حكم على كمال صورياً بالاعدام اثر اتهامه باغتيال عدنان المالكي سنة 1955 في ملعب رياضي في دمشق.
انطلقت عملية «اوبك» مع كمال الذي كان عضوا في المجلس الاعلى للحزب السوري القومي الاجتماعي، وشارك في تأسيس منظمة ايلول الاسود، الى جانب الراحل فؤاد الشمالي وفؤاد عوض والشهيد علي حسن سلامة»، بتمويل من ياسر عرفات الذي قدم مليون دولار لهذه الغاية.

اللقاء مع القذافي
استقبل قائد الثورة الليبية الاخ العقيد معمر القذافي كمال في طرابلس الغرب نهاية اكتوبر 1975 واقترح عليه، او بالاحرى سأله ان كان بإمكانه تنفيذ عملية «اوبك» في 20 ديسمبر، عارضا عليه تزويده المعلومات والاسلحة والنفقات اللازمة. فأجاب كمال: «مستحيل، ليس لدينا الوقت الكافي، كارلوس هو الوحيد الذي يمكنه تحضير مثل هذه العملية في وقت قصير». وكان الدافع الاولي للقذافي اقدام السعودية على خفض اسعار النفط الى ادنى المستويات.
التقى كمال خلال زيارته طرابلس الغرب رئيس الاركان اللواء ابو بكر يونس جابر ورمضان، المسؤول عن العلاقات الدولية في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي (الحزب الحاكم الوحيد) والذي اوكلت اليه مهمة متابعة العملية، واعطاه 30 الف دولار لتغطية النفقات الاولية وتكاليف السفر الى عدن (عاصمة جمهورية اليمن الديموقراطية التي تم توحيدها مع اليمن الشمالي).
سافر كمال اوائل نوفمبر الى خور مكسر (في عدن)، حيث اجتمع معي فور وصوله. واعطيته موافقتي شرط الحصول على رد ايجابي من زعيمنا وديع حداد (ابو هاني) الذي قال لاحقا: «هؤلاء ليسوا جادين» وسألني ان كان لدينا الوقت الكافي لتنفيذ المخطط. واذ تحدثت عن الموضوع مع ويلفريد بوز، اجبته «طبعا»، ان باشرنا فورا.

موافقة حداد
وافق ابو هاني (وديع حداد) على العملية شرط ان يقدم الليبيون المعلومات والاسلحة، رافضا تسديدهم نفقات العملية تجنبا لاي حيلة مالية قد يلجأون اليها، واوكل مهمة تسديد كل النفقات الى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وفوضني ابو هاني كامل الصلاحيات لتنفيذ العملية، وحملت الى بيروت رسالة وجهها ابو محمد المسؤول الاداري عن العمليات الخارجية في «الجبهة الشعبية» وعضو اللجنة المركزية...

توزيع «العمل»
قسمت الكوماندوز الى ثلاثة فرق ثنائية:
كارلوس، القائد: رشاش بيريتا + مسدس براوننغ الفائق القوة (HP) + قنبلتان يدويتان.
انيس نقاش، القائد الثاني للعملية: مسدسان من طراز براوننغ (HP) + قنبلتان يدويتان.
ندى: مسدس توكاريف + قنبلة يدوية.
يوسف: توكاريف + قنبلة يدوية + متفجرات + ادوات تفجير.
كلين: براوننغ (HP) + مسدس سميث اند ويسون + قنبلتان يدويتان.
جوزف: رشاش بيريتا + براوننغ (HP) + قنبلتان يدويتان.
كانت القنابل الدفاعية (الشظوية) التي في حوزتنا من صنع روسي. وفر لنا اللوجستية والحماية واحتياطي المقاتلين (مقاتلين اثنين) في فيينا 16 مناضلا دوليا من جنسيات مختلفة، تحت قيادة ويلفريد بوز.
قمنا بكل التحضيرات بمساعدة الليبيين من دون حساب النفقات، كما اقدمنا بامكاناتنا الخاصة على تخزين الذخائر لتسليح 12 مقاتلا. وخططنا لعمليات دعم وحددنا طريقا تخولنا الانسحاب باتجاه تشيكوسلوفاكيا.
روقب الهدف في صورة متواصلة حتى اليوم الاخير، ونجحنا
(كنت من ضمن الفرقة) في الدخول إلى مقر «أوبك» مرات عدة. وتمكنا من اطلاق العملية ابتداء من 20 ديسمبر، من دون أي تدخل من الليبيين.

الهجوم
دخلت المبنى أولا ولحقني الآخرون واحدا خلف الآخر، وكنا نتكلم بالانكليزية للإيحاء بأننا من طاقم الصحافيين. صعدنا الدرج باتجاه الطابق الاول وشننت الهجوم بتغطية من أنيس، مسيطرا بالكامل على الموجودين في قاعة الاستعلامات. لكن بدلا من انتظاري، مشى أنيس نحو اليمين ودخل قاعة المؤتمرات في آخر الممر، حيث اطلقت النار عليه. فوصلت خلفه وأحكمت السيطرة على القاعة بعد اطلاق للنار أدى الى مقتل الكابتن يوسف إزمرلي، معاون الوزير الليبي، وإصابة مفوض كويتي في ذراعه.
بعدها، تمركزت ندى ويوسف مكاننا في قاعة الاستعلامات، وعندما حاول شرطي نمساوي وموظفة في المبنى الفرار، أمرتهما ندى بملازمة مكانهما، وأصابت الشرطي برصاصة في ظهره، فعادت الموظفة أدراجها.
وكان يوسف وكلاين في مركز المؤخرة، يغطيان المصعدين والدرج. نزع كلاين سلاح الشرطي الممدد على الأرض، ومن ثم وضعه في المصعد بمساعدة ندى التي ضغطت على زر الطابق الأرضي، وتوفي الشرطي لاحقا في المستشفى.

مقتل الملازم العراقي
التقط الملازم العراقي علاء حسن، الذي تزيد قامته على قامة ندى بثلاثين سنتيمترا يدها من الخلف لنزع سلاحها، وعلى رغم أنه كان مصابا بذراعه، استمر في الإمساك بها من الخلف. فالتفت كلاين، الذي كان دمر جهاز الاتصالات برصاصات (أصابت إحداها السماعة التي توضع داخل أذن موظفة الاتصالات)، وأصاب الملازم العراقي برصاصة في جبينه. فترك علاء حسن يد ندى، ومشى ببطء قبل أن يسقط في المدخل. عندها، توجه كلاين نحوه وأخذ مسدسه الذي كان داخل القراب. وشهد على هذه الحادثة ما يقارب الاثني عشر نمساويا..
كان يوسف وكلاين متمركزين عند اول الممر، في الجهتين اليمنى واليسرى، واتت ندى فيما بعد لمساندتهما، وترددت ايابا وذهابا باتجاه الصالة، اطلقت الكويتي الجريح الذي استخدم حزامه لتضميد جرحه، وتبعه المترجم البريطاني الذي اوكلنا اليه نقل مطالبنا الى السلطات، هاجمنا فوج التدخل التابع للشرطة، ونجح القائد السابق للفيرماخت في دخول قاعة الاستعلامات، واطلق ثلاث رصاصات باتجاه يوسف، لكن الرصاص ارتد على كلاين، فأصيب برصاصة في اسفل بطنه، اما الرصاصتان الاخريان فثقبتا سترته ورجْل سرواله، اثر ذلك اصاب كلاين النمسوي برصاصة في مؤخرته. وتواجد الاثنان في ما بعد في الغرفة ذاتها في المستشفى.
رمى جوزيف قنبلة يدوية بأمر مني، أدت الى شل الهجوم، بعدها اطلقت سكرتيرة الامين العام لـ «أوبك»، وهي امرأة فائقة الجمال طويلة القامة، لمساعدة الشرطي الجريح على الخروج من المبنى ان اقتضت الحاجة، واخبارالسلطات بأننا سنقوم بعملية قتل جديدة سيكون نائب الوزير السعودي اول ضحاياها. وخرج الشرطي الجريح من المبنى وهو يقفز على رجله، حاملا سلاح الـ «عوزي» الخاص به من طرفه الأعلى بيده اليسرى (بالإبهام والسبابة)، وكنت ارافقه وفي يدي قنبلة نزعت صمامها..

توزيع الوزراء
توزع زوارنا على الشكل الآتي:
1ـ أصدقاؤنا: العراقيون والجزائريون والليبيون والكويتيون.
2ـ أعداؤنا: السعوديون والإماراتيون والقطريون.
3ـ الحياديون: الاندونيسيون والنيجيريون والغابونيون والإكوادوريون والفنزويليون.
4ـ موظفو المبنى.
اجمتعت بالوزراء الاحد عشر الموجودين، وكان وزيرا قطر والامارات العربية المتحدة قد غادرا الليلة الفائتة اثر الحصار السعودي، وخلال الاجتماعين اللذين قابلت فيهما الشيخ اليماني في مكتب الامين العام، طرحت عليه الاسئلة التي تهمنا. وتكلم الشيخ بطلاقة لكنه اجاب عن اسئلتي بأقل ما يمكن، حتى انه حاول رشوتي بطريقة حاذقة. وأعلمت طايع عبدالكريم بأن زعيمنا هو أبوهاني.
عاين الوزير النيجيري الطبيب، كلاين ونصح بإدخاله الى المستشفى سريعا. بعدها، حمل الوزير الجزائري بلعيد عبدالسلام كلاين الى الطابق الأرضي، وأجرى أول اتصال سياسي قبل العودة الى القاعة كما كان متفقا عليه.

فرح الكاظمي
فرح الوزير الكويتي عبدالمطلب الكاظمي كثيرا، لكونه اعتبر ثوريا هو والوزيران الاندونيسي والاكوادوري (الجنرالان الانقلابيان المعاديان للشيوعية)، الامر الذي يسر التبادل، من دون ان يضفي عليه طابعا حميما، وكان الوزير الغابوني الشديد اللطف من مؤيدي القضية الفلسطينية، فوجه الي دعوة باسم الرئيس عمر بانغو لزيارة بلاده. كنت امضي اوقات الراحة برفقة ثلاثة فنزويليين، ضاق صدرهم من الانتظار لشدة خوفهم. وكان الموفدون الثلاثة التابعون لدولتي قطر والامارات تائهين من دون وزرائهم. واستدعيت أخيرا جمشيد اموزيغار الذي اصيب بحال من الذهول منذ بداية العملية.

ذل وزير
اقترب الأخير من الطاولة التي كنت قد وضعتها بجانب يوسف، وبدا كأنه في طريقه الى المشنقة. مددت له يدي، فأمسكها بيديه الاثنتين وحاول تقبيلها. فشعرت بالحرج فسحبت يدي وأمرته بالعودة الى مكانه من دون اصدار اي صوت.. كان اموزيغار الوحيد الذي اهان نفسه امامي بين اكثر من مائة رهينة.
امر المستتشار برونو كرايسكي جميع رؤساء الوفود بتدوين رسالة خطية، لطلب تصريح بمغادرة المكان معنا بارادتهم الشخصية. فنفّذ جميع الوزراء الطلب باستثناء الموفدين الاماراتيين والقطريين الذين كانوا في حال ذعر. ولم يطاوعوا المستشار، الا بعد ان اتى الشيخ اليماني ووبخهم، بتشجيع مني. وبعد قراءة الرسائل اعطيناها لرياض الازاوي الذي سلمها الى المستشار. وسمحنا للموفدين بأن يبرقوا الى حكوماتهم وعائلاتهم من دون مراقبة، ووعدناهم بأن البرقيات سترسل على شكل رسائل مغلقة..
في المطار كانت تنتظرنا طائرة مع طاقم مؤلف من متطوعين نمساويين ذوي كفاءة. وكان كلاين على متن الطائرة وكمامة الاوكسجين على فمه..

حكاية الفدية
فكر كمال في طلب فدية، غير ان ابو هاني شرح لنا بهدوء ان علينا الامتناع عن الدخول في اي صفقة مالية خلال العملية، كي لا نعرضها للخطر، وتم الاتفاق على ان الدول المعنية ستدفع لاحقاً، وهذا بالفعل ما حصل، رفضت الخمسين الف دولار التي عرضها عليّ ولي العهد السعودي (الملك فهد حالياً) وخلتباري، وزير العلاقات الخارجية الايرانية، واضطر الاخير الى تلقي المخابرات الهاتفية مكان رئيس الوزراء امير عباس هويدا الذي استدعاه الشاه فوراً (كانوا يريدون انقاذ حياة وزيريهم)، وكذلك لم يصل الى خزينة المقاومة الفلسطينية المبلغ الذي قدمه الامير فهد، كما ان الشاه لم يدفع حصته البالغة خمسة وعشرين مليون دولار.
عندما علمت في فيينا ان الوزير اموزيغار كان على رأس الوفد الايراني، قررت قتله فوراً بمؤازرة ويلفريد وأنيس، وبعدما ساعدت كلاين والدكتور رويندوزي على النزول من الطائرة، استقبلني بوتفيلقة والكولونيل احمد درايا (مدير الأمن العام) والكولونيل محمد بن احمد عبدالغني (وزير الداخلية) الذين يحتلون على التوالي كلا من المركز الثاني والثالث والرابع في مجلس الثورة، اثر ذلك، اطلقنا افراد الوفود المحايدة وشاباً سعودياً شديد السمنة.
عمدنا إلى اطلاق سراح عدد من الموفدين في كل محطة جديدة، بعد ان بثينا عبر الراديو البيان الطويل الذي حرره كمال باللغة العربية باسم «ذراع الثورة العربية»، وهي التسمية التي اطلقها أبو هاني على جماعتنا الحالية وأوكل إلى أنيس الاهتمام بـ«المفاوضات» في المطارات العربية، وكان مقرراً ان يحل مكاني في حال حصول أي مكروه خلال السطو على مقر «أوبك».
واتخذ دور أنيس طابعاً جوهرياً في آخر مراحل العملية في القاهرة، وبعد اعدام أموزيغار واليماني، كنا سننتقل إلى بلد صديق (كانت أمامنا خيارات كثيرة)، حيث كان مقرراً اطلاق آخر الموفدين، لا سيما الايرانيين والسعوديين.

في ليبيا
عندما حطت طائرتنا في طرابلس الغرب، وصل الوزيران الليبي والجزائري، وكان الأخير قد رفض البقاء في الجزائر العاصمة مع باقي أفراد وفده، صعد رئيس الوزراء الليبي الرائد عبدالسلام جلود إلى الطائرة فور فتح الباب وكان بالكاد يقظاً، وتصرف وكأنه لم يكن على علم بشيء (في الواقع، لم يكن يعلم شيئاً حتى انه كان يجهل هويتي) توجهت إليه بالتأنيب بعدما انتهى من القاء التحية على الوزراء وارسلته مع أنيس لتوضيح الأمور خارج الطائرة التقى أنيس اللواء أبو بكر يونس جابر في المطار وتأخر في العودة (كان العقيد القذافي قد اختفى في الصحراء الليبية حينها) نزلت إلى المطار ولاحظت ان الليبيين غير متعاونين، وعاد أنيس لرؤيتي وفي حوزته معلومات، وقال لي قبل دخوله الطائرة ان الأمور ليست جيدة فجأة، بدأوا بتوبيخنا عبر الراديو من برج المراقبة، طالبين منا مغادرة البلد، وبما انه لم يكن لدينا البرنامج المعلوماتي الذي يخولنا التوقف في طبرق لبلوغ بغداد بسرعة، اضطررنا الى العودة ادراجنا وقررنا انتظار طائرة «بيونغ 707» السعودية في مطار قرطاج في تونس، حيث رفض المسؤولون السماح لنا بالهبوط ليلا فقطعوا الكهرباء عن المنطقة باكملها، ما اجبرنا على العودة الى الجزائر العاصمة.

النهاية
وبعد مرور ثلاثة ايام وثلاث ليال من دون نوم، كنا مرهقين من التعب، وفشلت مخططاتنا الاولية عندما رفض الجزائريون منحنا اللجوء السياسي، اذا اعدمنا المتهمين الاثنين على اراضيهم، كذلك عجز القبطانان النمسويان المرهقان عن الاقلاع، كنا جميعنا نلتقط آخر انفاسنا وكانت الكارثة تقترب، كانت تلك النهاية.
تركنا زوارنا على متن الطائرة، وابرزنا سلاحنا الى وزير الخارجية وسلمناه اياها، لكن الاخير اعاد الي مسدسي بسرعة ووضعه في حزامي.
قدمنا نتائج سياسية ومالية للمقاومة باجمعها وكبحنا جماح غطرسة الطغاة طوال خمس سنوات، «خير الامور احمدها مغبة!»
سان مور، 31 يوليو 2003.

حكاية القرار بإعدام اليماني وأموزيغار
يقول كارلوس في حوار مع الزميل غسان شربل ان وديع حداد وبخه لانه لم يقتل وزير النفط السعودي احمد زكي اليماني كما امر. ويوضح: كان ابو هاني (وديع حداد) امرني فقط ان اقتل وزير النفط السعودي، اما القرار باعدام الوزير الايراني والمفاوض الرئيسي لاوبك جمشيد اموزيغار فقد اتخذته وحدي في فيينا، وايد قراري ويلفريد بوز وانيس النقاش (مساعد كارلوس في التنفيذ) بحماسة. ويضيف: اعدام الشيخ يماني كان قرارا صادرا عن جهات ثلاث (دولة عربية وتنظيمان عضوان في منظمة التحرير)، وذلك لاربع حجج مختلفة، تعكس وجهات نظر متناقضة في بعض الجوانب، من بينها: ــ دوره في تقديم ياسر عرفات الى المغفور له الملك فيصل، مما اوقع منظمة التحرير تحت ثقل جارف اكتسبته منظمة فتح بما حصلت عليه من اموال خليجية ومما جعلها قوة مناهضة للناصرية. ــ دوره بعد اغتيال الملك فيصل في تغيير السياسة البترولية القومية التي سطرها المغفور له.

أين ذهبت الــ 50 مليون دولار؟
يقول كارلوس: «خلافا لما روّج لم تكن هناك اي فدية خلال العملية (عملية اوبك) على الرغم من ان كمال خير بك فكر في ذلك في البداية، لكن ابو هاني (وديع حداد) شرح لنا ان دول اوبك كلها ستدفع، لكن بعد انتهاء العملية، وكان ذلك احد الانعكاسات او النتائج المرتقبة للعملية، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، ولهذا السبب رفضت الخمسين مليون دولار التي تم اقتراحها عليَّ، اثناء العملية. ولسبب اجهله تم دفع الخمسين مليون دولار باسم البلدين (السعودية وايران)، رغم رفضنا. وهذه الاموال لم تصل قط الى المقاومة الفلسطينية، ولذا رفض شاه ايران ان يعيد تسديد قسط بلاده من هذه «الفدية» اي 25 مليون دولار، للطرف السعودي.

الحلقة المقبلة: رواية أنيس النقاش

Pictures%5C2008%5C08%5C26%5Cd6964f96-be6f-4133-8266-9ef9e44aab3f_maincategory.jpg


• كارلوس (بالقبعة) مع وزراء دول اوبك المخطوفين




29/08/2008


عالم خطف الطائرات والاغتيالات وعملية أوبك أواخر القرن الماضي أسرار الصندوق الأسود (4)

Pictures%5C2008%5C08%5C29%5Cebf7ed9a-ed88-4304-90cc-4bc3fcae9b59_main.jpg


تأليف: غسان شربل
بعد العمليات الأولى لـ«المجال الخارجي» في الجبهة الشعبية، الذي كان يقوده وديع حداد، توافدت مجموعات ثورية من بلدان مختلفة الى الشرق الاوسط تطرق باب حداد، وبعد المرور بالتنظيم الطالبي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» والإعلام فيها، كان حداد يستقبل من يتوسم الجدية في عملهم.
تبدأ العلاقة ببلورة الأرضية السياسية وحين تتأكد صلابتها يبدأ التعاون وفق برنامج محدد. تبادل معلومات وتوفير وثائق وأسلحة وتسهيلات وتدريبات وأحيانا مشاركة مباشرة في العمليات.
تحوّل حداد رمزا وملاذا. وتحوّل «المجال الخارجي» معهدا للثوار تخرج فيه من هزوا العالم بعنف: «سالم» الفنزويلي الذي لم يكن غير كارلوس، و«مريم» اليابانية التي لم تكن غير نوريكو شيغينوبو زعيمة «الجيش الأحمر»، و«مجاهد» الأرمني الذي لم يكن غير آغوب أغوبيان زعيم «الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا».
«سالم» يقيم اليوم في سجنه الفرنسي. «مريم» سجينة في بلادها و«مجاهد» جندله الرصاص. سقطوا بعد رحيله. ربما بسبب غياب المظلة وربما ايضا لأنهم وقعوا في ما كان يحميهم منه: نسج علاقات مع دول واجهزة فضلا عن الوقوع في النجومية.
وجاءت عملية مطار اللد التي كانت ضربة موجعة وجهها «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية» الى اسرائيل عبر «الرفاق» اليابانيين. لم تنجح الأجهزة الاسرائيلية في كشف قصة المجموعة اليابانية التي تدربت في «معسكر بعلبك» في البقاع اللبناني وفي موقع قريب من صيدا في جنوب لبنان. ولم تعرف ان الشاب الياباني الذي غرق مصادفة في بحر بيروت كان احد الذين اختارهم حداد لتنفيذ عملية مطار اللد في 30 مايو 1972. وكانت عملية اللد واحدة من سلسلة عمليات استهدفت اسرائيل برا وجوا وبحرا.
تلك العمليات نفذها رجال ونساء من مختلف الجنسيات.. يابانيون من «الجيش الأحمر» الياباني، ألمان من «بادرماينهوف» وسواها، فرنسيون كانوا يعملون تحت رايات اليسار الثوري المتطرف، أرمن.. أكراد وطبعا فلسطينيون وعرب آخرون، كلهم تجمعوا تحت جناح وديع حداد (أبو هاني) وقد جاؤوا إلى «المجال الخارجي» في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان تحت قيادته، من أبواب عدة.
هنا بعض من هذه العمليات كما وردت في كتاب غسان شربل «أسرار الصندوق الأسود»:


مهاجمة إسرائيل.. براً وجواً وبحراً
عملية مطار اللد تهز تل أبيب فترد الضربة بأقسى منها في عنتيبي
ينقل غسان شربل عن احد مساعدي وديع حداد روايته عن عملية مطار اللد، وفيها:
اقام «المجال الخارجي» علاقات وثيقة مع تنظيمات ومجموعات كانت تعتقد ان المعركة واحدة على مستوى العالم كله وان كانت لكل بلد اوضاعه وخصوصياته، من تلك العلاقات كانت العلاقة مع الاخوة اليابانيين في 1972 كانت هناك مجموعة من «الجيش الاحمر الياباني» موجودة في بيروت وتخضع لعملية تدريب وكنا نتولى نقل عناصرها من شقة الى اخرى للمحافظة على سرية العمل.
كان لدى افراد المجموعة اليابانية ولع بالنقاش خصوصاً حول المائدة.
وقع في تلك الفترة حادث غير متوقع، كنا نتناول الغداء مع وديع في الجبل، ولدى وصولنا الى محلة الروشة في بيروت شاهدنا ازدحاماً غير عادي، سألنا عن السبب فقالوا ان شابا غرق امام صخرة الروشة مباشرة، لم يقل احد من هو الغريق، سألني الدكتور وديع: من هو الغريق؟ لم نعرف، تابعنا طريقنا ووصلنا الى مقرنا.
وبعد نصف ساعة تلقينا النبأ وهو ان احد الاخوة اليابانيين، كان مفروزا للمشاركة في عملية اللد، غرق في محلة الروشة، كان للخبر وقع قوي، فالعملية محاطة بقدر كبير من الكتمان والسرية، من الطبيعي ان يثير غرق شاب ياباني اسئلة حول هويته وماذا يفعل، كان لا بد من احتواء المسألة وقرر وديع التعجيل في ترتيبات تنفيذ العملية، طبعاً شعر المشاركون في العملية بالألم لفقدان رفيق كان مقرراً ان يشاركهم، لكنهم تجاوزوا الحادث وعقدوا سلسلة لقاءات مع وديع وتم التزام البرنامج وتعيين بديل للشاب الذي غرق خلال قيام عدد من افراد المجموعة بالاستحمام قبالة الروشة.
خطة العمل
شرح وديع لافراد المجموعة الخطة كاملة: الصعود الى الطائرة والاسلحة التي ستكون بحوزتهم ومن بينها قنابل صنّعها «المجال الخارجي» ولم تكن اجهزة المطارات قادرة على اكتشافها، بعد انتهاء قصة الياباني الغريق واستكمال الاستعدادات اعطيت تعليمات التنفيذ والتي كانت تتضمن الانطلاق الى محطة اخرى ومنها الى مطار اللد، كان المنفذون ثلاثة في حوزة كل واحد منهم رشاش من طراز «كلاشينكوف» مع الذخائر والقنابل، وصلوا الى مطار اللد وحين جاء دورهم للتفتيش فتح كل واحد منهم حقيبته وبدأ باطلاق النار.
هزت عملية اللد الكيان الصهيوني، كانت الضربةالتي وجهت اليه مؤلمة ومكلفة، دخل المنفذون المطار باسلحتهم، يابانيون ينفذون هجوماً جريئاً و«الجبهة الشعبية» تعلن مسؤوليتها، في الجانب المالي وحده انفقت مبالغ مالية هائلة لتحسين اجراءات الامن في مطارات اسرائيل ومطارات الدولة الغربية ايضا، راحوا يستبدلون اجهزة الرقابة باخرى اكثر تطوراً.
في أواخر عام 1975 سيسدد حداد ضربة مدوية عبر احتجاز وزراء نفط «أوبك» في فيينا. كان حداد غادر بيروت في 1976. لم يكن مؤيداً تحول المنظمات الفلسطينية إلى مجموعة جيوش علنية منتشرة في لبنان ومحصورة فيه. وها هي المقاومة تغرق في الحروب اللبنانية وتدخل في مواجهة مع سوريا.
عملية عنتيبي
في تلك السنة كاد حداد مجتمعاً مع الرئيس الصومالي محمد سياد بري في مقديشو، وكانت العلاقة «شهر عسل» سمح للقائد الفلسطيني بأن يكاشف بري ربغته في خطف طائرة لإرغام إسرائيل على الإفراج عن عدد من الأسرى. الواقع ان حداد كان يبحث عن مطار يستقبل الطائرة المخطوفة. اقترح الرئيس الصومالي على حداد الاتصال بالرئيس الأوغندي عيدي أمين الذي تردت علاقاته مع إسرائيل وأوروبا. وهكذا كان. وللمرة الأولى سيتضح في هذه الحلقة لماذا اختيرت عنتيبي. وافق عيدي أمين. وفي 26-6-1976 خطف «المجال الخارجي»، بمشاركة عضوين ألمانيين في «الخلايا الثورية»، طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية بعد توقفها في أثينا في طريقها من تل أبيب إلى باريس وعلى متنها 77 إسرائيلياً.
رافق حداد مجريات العملية من مكان قريب من المطار ومن مقر إقامة عيدي أمين وكان على اتصال دائم معه. رعونة الرئيس الأوغندي أدت إلى إطالة أمد المفاوضات، وكذلك مغادرته إلى قمة منظمة الوحدة الافريقية. لم يأخذ عيدي أمين باقتراح حداد توزيع الرهائن في مجموعات في الغابات، وراح يطمئن حداد إلى سلامة الإجراءات التي اتخذها الجيش الأوغندي.
في ذلك الوقت كان رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين يوالي اجتماعاته مع وزير الدفاع شمعون بيريز ويقلب الخيارات ومخاطرها قبل أن يطلب من الجيش الإعداد لعملية تدخل في نقطة تبعد أربعة آلاف كيلومتر عن إسرائيل. وفي 4 يوليو هبطت الطائرة الإسرائيلية في مطار عنتيبي ونزلت منها سيارة شبيهة بسيارة الرئيس الأوغندي وجنود بثياب الجيش الأوغندي أيضاً. فور اقتراب الطائرة الإسرائيلية حاول حداد عبثاً الاتصال بعيدي أمين، لكن الإسرائيليين كانوا قد نجحوا في تعطيل كل الاتصالات. ويروي رفاق وديع انه كان في المطار قبل ساعتين من وصول الإسرائيليين وانه طلب من الأوغنديين وضع عوائق على المدرج لعرقلة هبوط الطائرات لكنهم لم يفعلوا. كما تمنى وديع ألا يشارك الألمانيان في عملية الحراسة تفادياً لاضطرارهما إلى الاشتباك مع الإسرائيليين وما يمكن أن يعنيه ذلك نظراً إلى الحساسيات القديمة بين الألمان واليهود.
الكارثة
تحولت عملية عنتيبي إلى كارثة. خلال أقل من ساعة قتلت القوة الإسرائيلية كل المشاركين في خطف الطائرة واحتجاز الرهائن. أدى الاشتباك العنيف أيضاً إلى مقتل ثلاث رهائن وضابط إسرائيلي هو جوناثان نتانياهو شقيق رئيس الوزراء المقبل بنيامين نتانياهو الذي يقول عارفوه انه لم ينس لحظة واحدة مشهد جثة أخيه العائدة من عنتيبي.
لماذا عنتيبي؟
لكن لماذا اختيرت عنتيبي مكاناً لاستقبال الطائرة المخطوفة؟
يجيب أحد مساعدي وديع حداد: اتخذ القرار بعملية خطف طائرة بهدف الافراج عن عدد من المعتقلين. كانت هناك في تلك الفترة علاقة قوية بين وديع حداد والرئيس الصومالي محمد سياد بري. طرح وديع الفكرة على سياد بري الذي نصح بطرح الفكرة على الرئيس الأوغندي عيدي أمين، مشيراً إلى أن الأخير لديه مشاكل كثيرة مع الأوروبيين وقد يكون مستعداً لاستقبال الطائرة. كان وديع يعرف طبيعة عيدي أمين والعوامل التي يمكن أن تؤثر فيه. لذلك تم ارسال رجلين ضخمي جثة للقائه وطرحا معه الموضوع فأبدى استعداده. بعد العثور على مكان لاقتياد الطائرة إليه تسارعت الاستعدادات لتنفيذ العملية. كان وديع على ما أعتقد في الصومال وبعد وقوع عملية الخطف انتقل إلى عنتيبي للبقاء على اتصال مع عيدي أمين.
الشعور بالخطر
وضعت جملة من الترتيبات. نقل الركاب إلى عنبر في المطار وشارك المبعوثان إلى عيدي أمين في عملية الاحتجاز إلى جانب الخاطفين. طبعاً كان رأي وديع أن يتم توزيع الركاب في أكثر من مكان لتسهل السيطرة عليهم. ودرست الناحية الأمنية فحرص عيدي أمين على تأكيد ارتياحه إلى الإجراءات المتخذة. كانت العملية ناجحة تماماً لكن المفاوضات استمرت أكثر مما ينبغي. حين بدأ الوسطاء يقولون أعطونا المزيد من الوقت شعر وديع أن الإسرائيليين يرتبون شيئاً. اتصل بعيدي أمين وقال له إن الوضع بات خطيراً والمطلوب إما توزيع الركاب أو تشديد الحراسة. أبدى عيدي أمين ارتياحه إلى الاجراءات وتحدث عن فاعليتها. كان وديع على مقربة من المطار ومن مقر عيدي أمين وكان على اتصال معه.
.. وكان الهجوم
فجأة هبطت الطائرات الإسرائيلية على طرف المدرج ونزلت منها سيارات جيب عسكرية وسيارة مرسيدس شبيهة بسيارة عيدي أمين. سمع وديع صوت الطائرات فرفع سماعة الهاتف للاتصال بعيدي أمين فلم يتمكن. حاول مرات عدة فلم ينجح. إذ تمكن الإسرائيليون من تعطيل كل أنواع الاتصالات. في هذه الأثناء دوى إطلاق النار. دخلوا إلى العنبر بعدما قتلوا أحد شبابنا الذي خرج مستطلعاً وقتل آخر كان يرتاح ليتمكن من العمل لاحقاً. حين دخلوا هاجمتهم الفتاة الألمانية بالقنابل والشاب الألماني بالرشاش. الاثنان من «الخلايا الثورية» وقد قتلا. انتهت العملية بالسيطرة الإسرائيلية واستشهاد رفاقنا.
جيـــش أممــي
انضم الى العمل ضمن «المجال الخارجي» تحت قيادة وديع حداد او بالتنسيق معه كل من: الجيش الاحمر الياباني، و«مجاهدي خلق» من ايران وشخصيات ايرانية بينها عدد من الملالي، واكراد بينهم الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني وبادر ماينهوف والخلايا النورية و«الثاني من يونيو» من المانيا و«ايتا» من اسبانيا والساندينيون من نيكاراغوا، وكان بينهم شخص تولى وزارة الخارجية في بلاده لاحقا، والترباماروسا من اميركا اللاتينية، والجيش الارمني السري.
تفجير سينما جين
في 12ــ12ــ1974 فجر ايراني تابع لـ «المجال الخارجي» نفسه داخل سينما جين في اسرائيل وعن هذه العملية يقول احد مساعدي وديع حداد: ارسل «المجال الخارجي» شابا ايرانيا من طريق شرق اسيا بجواز بريطاني، كان الشاب قد تدرب على صنع المتفجرات من مواد محلية وتم تأمين الصواعق له، يدخل الى السينما حاملا قناني مرطبات تحوي قنابل او متفجرات مصنعة، واثناء عرض الفيلم يفتح القنابل ويرميها في السينما ثم يفجر نفسه بحزام ناسف، ونفذ العملية واستشهد موقعا عددا من الاصابات (26 بين قتيل وجريح).
فــي البحــر
بداية سنة 1971 استهدفت ناقلة كورال سي من قبل احدى مجموعات العمل التابعة لوديع حداد. فكيف تمت؟ يجيب احد مساعدي حداد قائلاً: انها ناقلة نفط اسرائيلية مسجلة في ليبيريا وكانت تنقل نفطا ايرانيا، هاجمناها قرب باب المندب في البحر الاحمر استلزم اعداد العملية شهوراً، اخذنا مجموعة من عشرة عناصر واقمنا في جزيرة بريم، كان يفترض ان نراقب البواخر التي تمر ولدينا جدول بمواعيد البواخر الايرانية المتجهة الى اسرائيل، وكانت المرة الاولى التي نستخدم فيها المناظير ما تحت الحمراء.
مضت ثلاثة اشهر اي من ابريل الى يوليو، في هذا الوقت تهب الرياح الموسمية ويحدث هياج في البحر، المركب الذي كان في حوزتنا كان قديما، كانت الاقامة في تلك الجزيرة اكثر من منهكة ارجأنا العملية الى بداية 1971.
كان رئيس الوزراء في اليمن الديموقراطي محمد علي هثيم، فطلبنا منه الحصول على مركب سريع، اجابنا ان ليس لديهم مثل هذا المركب، بعد فترة قال لنا ان ثمة مركبا موجودا في الميناء فاسرقوه. وهكذا حصلنا على مركبين، اطلقنا على الناقلة 11 قذيفة «ار.بي. جي» اشتعلت فيها النار وجنحت لكنها لم تغرق وقطروها لاحقاً.
حاورت كارلوس فرنَّ الهاتف وجاءني صوت مجهول قال: «انت تنشغل بكارلوس وتنسى من جعله نجما، كان مهما حين كان يستمع الى توجيهات معلمه وديع حداد الذي احاله الى التقاعد بعد عملية فيينا، القصة الفعلية موجودة لدى رفاق وديع، فلماذا لا تبحث عنها؟ لديهم خزنة اسرار تتعدى قصة كارلوس» سألته عن اسمه ورقم هاتفه فاكتفى بالقول انه مجرد قارئ، لم يتصل الرجل مرة اخرى لكن نصيحته كلفتني آلاف ساعات العمل وانا مدين له. لي في هذا العالم اصدقاء قساة، خطفوا طائرات، احتجزوا رهائن زرعوا عبوات، زوروا باسبورات وتحايلوا على المطارات اختاروا اسماء مستعارة وعاشوا في ظلها، تمردوا على الظلم وطاردوا «العدو في كل مكان» وعادوا من الرحلة، هذا اصيب في روحه وقهرته الايام، وذاك اصيب في جسده ويعيش مع الادوية والذكريات، وثالث دفن على بعد الاف الاميال من التراب الذي كان يناديه.
انهم رفاق الدكتور وديع حداد مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي ارتبط اسمها طويلا باسم قائدها الراحل الدكتور جورج حبش، طالبان فلسطينيان التقيا على مقاعد الجامعة الاميركية في بيروت، اغرقتهما النكبة في اسئلة عن حالة الامة ومستقبلها، اسئلة كانت تراود ايضا محسن ابراهيم وهاني الهندي واحمد الخطيب وغيرهم وسيلتقي كل هؤلاء في المؤتمر التأسيسي لـ «حركة القوميين العرب» في عمان في 1956 ومن رحم الفرع الفلسطيني للحركة ستولد «الجبهة الشعبية» في 1968.
قبل بن لادن
قبل عقود من طائرات اسامة بن لادن انهمكت مجموعة في قيادة «الجبهة الشعبية» في البحث عن وسيلة لهز ضمير العالم وتذكيره بالظلم اللاحق بالفلسطينيين، كان الغرض ايضا توسيع دائرة المعركة مع اسرائيل الى كل مكان، هكذا اقر مبدأ خطف الطائرات، وسيقع على عاتق وديع حداد مسؤول المجال العسكري الخارجي عبء التخطيط والتنفيذ واستقطاب «الرفاق» الاجانب المعادين للامبريالية الى حد الاستعداد لمقاتلتها على مسارح قريبة وبعيدة. في هذا السياق ستولد قصة «مريم» اليابانية و«مجاهد» الارمني و«سالم» الفنزويلي والذي لم يكن غير كارلوس الذي كان اشهر مطلوب في العالم قبل ان يسقط في يد الفرنسيين ويتنقل اللقب في بداية القرن الجاري الى اسامة بن لادن. لم يسمح لي القضاء الفرنسي بزيارة كارلوس في سجنه.
الزيارات ممنوعة، حاورته عبر محاميته فلم تطفئ اجوبته عطشي، راح يكشف ويخفي، احسست انه يتشاطر وقررت سلوك دروب اخرى، تذكرت ان مساعده في عملية احتجاز وزراء «اوبك» في فيينا كان شابا عربيا، رحت اسأل عنه واكتشفت ان ذلك الشاب لم يكن سوى انيس النقاش الذي سيلتحق باكراً بالثورة الإيرانية وسيتردد اسمه في العالم، حين حاول اغتيال رئيس الوزراء الايراني السابق شهبور بختيار في باريس، وقع النقاش في قبضة الفرنسيين وامضى عقدا في السجن، والغريب ان المحققين لم يسألوه عن دوره في «اوبك».
دور النقاش
اتصلت بالنقاش المقيم في طهران وتواعدنا على اللقاء في بيروت، طلبت منه ان يعترف للمرة الاولى بمشاركته في عملية «اوبك» وان يروي قصته كاملة، وعدني بدرس الموضوع وانعكاساته الامنية والقانونية، وحين وافق التقينا مجددا، وكانت الثمرة حلقات نشرت في «الوسط» في الشهر الاخير من عام 2000. استفز بعض كلام النقاش مشاعر كارلوس. قرر أن يوضح فحاورته في الشهر التالي. وهنا اتصل القارئ المجهول.
الوصول الشاق
كان الوصول إلى رفاق حداد شاقاً ومنهكاً. رجال أدمنوا العمل السري واختاروا العيش في الظل. يعيشون في أماكن متباعدة، ولم يعد يربط بينهم غير خيط الذكريات والوفاء لحداد. نفذوا بعد غياب «أبو هاني» عمليات لاتزال تمنعهم من كشف وجوههم وأسمائهم. حلقة ضيقة جداً تعرف أرقام هواتفهم وعناوين أماكن إقامتهم. رجال تدربوا على الحذر والشك والاحتراز. كلما اتصلت بواحد منهم كان يسألني كيف حصلت على رقمه وبواسطة من؟ كان لابد من إقناعهم. والفوز بثقتهم وتدريبهم على التحدث أمام آلة التسجيل المفتوحة. وطمأنتهم إلى أن الأشرطة لن تسقط في يد أحد آخر. وحين وافقوا على التحدث احتفظوا بشرط وحيد هو عدم ذكر الأسماء التي كانت لاتزال مدرجة في لوائح «الإرهاب».
الصندوق الأسود
هكذا عثرت على «الصندوق الأسود». التقيت الرجل الذي كان إلى جانب سرير حداد لدى وفاته وسألته إن كان مات مسموماً. والتقيت الرجل الذي تولى القيادة بعده. والرجل الذي شارك في خطف حبش من سجنه في سوريا. والرجل الذي تسلم من ألماني غربي هبط في مطار بيروت حقيبة تحتوي خمسة ملايين دولار مقابل الإفراج عن طائرة «لوفتهانزا». كما التقيت من شارك في عملية «مطار الثورة» في الأردن، وفي عملية عنتيبي التي تحولت مأساة، ومن شارك في التخطيط لعملية اللد التي نفذها اليابانيون. والتقيت الرجل الذي أشرف على تدريب كارلوس في معسكر جعار في اليمن الجنوبي. وحكى هؤلاء عن علاقة «المجال الخارجي» بالعراق وليبيا والجزائر.
رفيق الحريري
وعثرت في «الصندوق الأسود» على ما لم أكن أتوقعه. قال المتحدث: «بعد ساعات من قصف الموساد منزل وديع بالصواريخ في بيروت ذهبت إليه صباحاً. وجدت شاباً يجمع كسر الزجاج لكن ليس من المناسب كشف اسمه». أغلقت آلة التسجيل وسألت عن الاسم وجاءني الجواب: رفيق الحريري.
وفي قريطم سألت الحريري لاحقاً عن القصة فرد بابتسامة معترفاً ومسارعاً إلى القول: «لماذا تحب نبش الماضي دعنا نفكر في المستقبل».
.. وجلال الطالباني
وقال المتحدث إن حداد «نجح في تجنيد شباب يساريين من جنسيات مختلفة وأرسلهم في مهمات في أوروبا وبينهم شاب كردي عراقي يساري يلعب حاليا دورا قياديا». أغلقت آلة التسجيل وسألت فجاءني الجواب: جلال الطالباني، وبعد أعوام سألت الرئيس الطالباني عن القصة وفاجأني باعترافه بصحتها ونشرت حديثه في «الحياة».
في الأسبوع الأول من سبتمبر 2001 نزلت «الوسط» إلى الأسواق وكان غلافها صورة لوديع حداد مهندس خطف الطائرات، لم يكن احد يومها يتوقع ان يكون العالم بعد أيام على موعد مع طائرات أسامة بن لادن.
قرأ كارلوس ما نقلته وكالات الأنباء وصحف أجنبية عن «غابة أسرار المجال الخارجي». نجح في معرفة أسماء بعض المتحدثين، خصوصا «الرجل الثالث» الذي كان حاضرا في اللقاء الأخير بينه وبين حداد. لم يعد التشاطر ممكنا. كتب القصة الكاملة لعملية فيينا وأرسلها إلي.
نموذج اندثر
ولا بد لي من الإشارة إلى ان رفاق وديع الذين التقيتهم يمثلون نموذجا لم يعد شائعا، إنهم أنقياء في هذا العالم الملوث. حاولت أن أشتري دواء للرجل الذي أقعدته رصاصات «الموساد» فرفض وقال: «تحدثت إنصافا لوديع. اذا قبلت ثمن الدواء فسأشعر أنني بعت الأسرار». إن هذا الرجل الذي يعيش في ظروف مالية بالغة الصعوبة هو الرجل الذي تسلم حقيبة الخمسة ملايين دولار.

(انتهى)
قصـــة الصنــدوق الاســــود


Pictures%5C2008%5C08%5C29%5C6b01914f-132f-403b-84b0-0053533d70a6_maincategory.jpg
• وديع حداد مع زوجته وابنه في جبل لبنان
f8150e93-b677-4c88-b075-8479455442db_thumb.jpg

شركة صفوان تعقب على مقالي الكندري تعـقــــيـــــــب
23c0d5ce-206b-4fe5-988e-96e88051a36f_thumb.jpg

اللعب في الوقت الضائع قيس الأسطى
3c9f4f8e-4b2e-44ca-81b6-0706fc36cb5c_thumb.jpg

لو نطق رمضان.. لتبرأ منهم وليد عبدالله الغانم
c9aa2a0d-5bda-4268-9cb0-827d231c6c4f_thumb.jpg

حسنا فعلت التربية! عبدالعزيز التويجري
defaultimg.jpg

المصفاة الرابعة نايف بستكي
5ce68c46-57a5-4e43-8179-2f9b9a4d00f9_thumb.jpg

كيف نعالج الطائفية بالحكمة؟ عبدالعزيز إبراهيم التركي



التعديل الأخير تم بواسطة justice; 05-12-2010، الساعة 09:24 PM التعديل الأخير تم بواسطة justice[/URL]; 14-12-2010، الساعة 06:00 PM
 
التعديل الأخير:

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
26-04-2010, 02:35 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

سوزان تلحوق في لستُ امرأة واحدة...
نصوص لا تتّسع لجناحَي القصيدة
بيروت - قزحيا ساسين

تعصف بحَمَلَة الأقلام رغبة جامحة في الطباعة والنّشر، وصاحب الحظّ منهم هو من يجد إنسانًا ناضجًا ذا تأثير عليه يقنعه بعدم سلوك درب المطبعة قبل أن يبلغ سنّ النّضج في الحبر. وكثيرون هم الذين طبعوا باكرًا، وندموا سريعًا، وكان ما كُتب قد كتب. والنّضج الكتابي قد لا يمتّ إلى العمر بصلة، إنّما يُنظر إليه بعمر التجربة فحسب. والرابح حقًّا هو الذي يطلّ من نافذة مكتملة على حقيقة الإبداع، ولو كانت إطلالته متأخّرة في حسابات العمر، ومتأخّرة جدًّا.

{لست امرأة واحدة} جديد شعري للشاعرة سوزان تلحوق، وفي مقدّمته يعلن الكاتب اسكندر حبش أنّ إصدار تلحوق الأوّل {إلى أن ألتقيك} لم يكن أكثر من تمرين ما: {مارست فيه سوزان تلحوق هوايتها في إقامة هذه العلاقة بينها وبين الكلمات}. وتجنّب حبش أي تقييم لكتابة الشاعرة واكتفى بتوصيفها. فرأى شعر تلحوق: {يقيم في عالمين، عالم غائب تحاول أن تستعيده وعالم حاضر تحاول أن تكتبه كي لا تفقده}.

يعلن عنوان كتاب تلحوق ما فيها من فائض أنثوي، فهي مُثْقَلة بأنوثتها، والمرأة فيها كثيرة، وقد يكون مردّ ذلك إلى منحى بركانيّ تأخذه عواطفها: {كيف نقنع الآخرين/ بحلم/ بسهوة صحوة/ بهمسة نسمة/ جعلَتْ كلّ امرأة فيّ تداعبُك}... فالمتكلّمة تبدو امرأة على تعدّد، محاوِلة، بتعدّدها هذا، إرواء الجموح المشاعري الذي يجتاح كيانها، ناظرة إلى نفسها بعين الدهشة: {فأجابتني المرأة الكامنة}، وكأنّها لم تكن تدري ما فيها من امتلاء وما في مياهها الأنثويّة من قدرة على القفز مثل الشلال... وفي نصّ {الساعة الثانية صباحًا}، تعلن تلحوق تعدُّدًا من نوع آخر: {كلّ امرأة تتألّم أنا/ ومن جرحها أحيا.../ وأنا كلّ امرأة مجروحة/ تأتي بعد منتصف الليل/ تستمع إلى أغنية حبّ قديمة}... هكذا تحاول تلحوق اختصار النساء العاشقات على سهر وكأس وسيجارة. إنّها تستعين على الحبّ الذي هدر دمها بدم العنقود، وبالهروب إلى دنيا النَّغم والصّوت. ورطتُها هي الحبّ وأشرعتُه التي لا تصل إلى مينائها. ومعظم نصوص الكتاب يبوح باللقاء الذي لا يُعْقَد، وبالوحدة التي عبثًا تحاول الكاتبة استثمارها إيجاباً: {غير وحيدة، كلّ ما حولي لي/ ولستُ لأحد}.

في قصيدة {لست امرأة واحدة} تجهر الكاتبة بأنّها لن تكون امرأة لكلّ الرجال: {لست امرأة واحدة لكلّ الرجال/ وليس كلّ الرجال رجالاً لي}، وتعترف بأنّها متواضعة الطموح على مستوى الرجال، إذ هي لا تريدهم كلّهم، إنّما تبحث في غابات الرجال الشاسعة عن رجلها معتمرة قبَّعتها الأنثويَّة، راكبة خلف جنونها: {لست امرأة لأيّ رجل/ وليس أيّ رجل ملكي/ أريده واحدًا أحدًا}... وبعد هذا الإصرار على الرجل الذي لا يتعدّد تقول تلحوق: {بل أنوثتي تدّعي الرجولة/ ورجولتي تدّعي الحياة}، وهذا الانتقال المعنوي مفاجئ وصاعق، فكيف الأنوثة تدّعي الرجولة؟ وما الفائدة من هذا الادّعاء؟ فالقارئ كان أمام امرأة تريد رجلاً واحدًا أحداً، ثم صار أمامها مستقيلة من رغبتها المركزيَّة، الوجوديِّة، طالبة أن تكون المرأة والرجل في آن واحد، وهي ذات أجساد متعدّدة أيضًا: {لست امرأة بجسد واحد}... ويتّضح من نهاية النصّ أن تلحوق تتحدّى ترابيّة الإنسان وهاجس البقاء والفناء: {سيأخذ الثرى المرأة والجسد/ وأبقى}. قد يكون مبرَّرًا الانتقال من معنى إلى آخر بلا رابط أو مسوِّغ أو منطق بالنسبة الى المتكلّم، أمّا الآخر، المتلقّي، فهو بحاجة دائمة إلى أن يكون مقتنعًا بالانتقالات المعنويَّة وإلا فسيصاب باضطراب ما عقليًّا وعاطفيًّا، الأمر الذي لا يخدم النصّ الفنيّ إطلاقاً.

تبدو تلحوق من حَمَلَة الجراح الثقيلة، وتؤمن بأن كلّ جرح في القلب لا بدّ من أن يظهر في مرآة العين، غير أنّ عينيها لا تُفتحان فتحة كاملة بسبب ثقل الجروح: {كلّ جرح في القلب/ تحمله العيون/ وأهدابي نصف مغلقة/ من ثقل جرحكَ}. غريب كيف يخزل العنوان الكاتبة فيأتي أحيانًا أطول من النصّ أو بحجمه تقريبًا، فعنوان أحد النّصوص، مثلاً، {بعدما حكمت على نفسي بالإعدام}، والنصّ كاملاً: {أخجل من اشتياقي/ تنام إلى جانب أخرى/ دمعتي خدعتني}. وإذا كان النصّ القصير ذا طاقة وقدرة هائلتين على التعبير في حال أُحْسِنَ بناؤه وإثْقالُهُ بالمعنى، فإنّ الكثير من نصوص تلحوق القصيرة لا تطبَّق عليه هذه المعادلة. وتحاول الكاتبة، على رغم إبحارها الوحيد في الحزن الذي لا ينتهي أن تجد فرحًا يليق برجل ما إن حضر: {صعبٌ على قلمي كتابة الفرح / لكنّه سيخترع حبرًا.../ لكَ منك}... فالحبيب الآتي، يضحك على شرفة ليل عاشق، والقلم يستبدل حبر الانتظار الحزين بحبر اللقاء الفرح الذي تجترحه روعة المجيء ومعجزة الوصول.

لتلحوق مشكلة مع قلبها: {وقلبي يخفي وجعك تحت قلبه/ يدفن كذبك وراء دقّاته}... فيتضامن مع من تحبّ عليها، ما يظهر سلطة العاطفة وتماديها مقابل قصر يد العقل وضعف نفوذ المنطق في كيان امرأة تعشق بلا تردّد ولا حساب... صحيح أنّ الوضوح سمة أساسيّة من سمات الكاتبة، غير أنّ الغموض يرد فجأة وكأنّه يفاجئ القارئ والنصّ في آنٍ واحد: {فأرتجلُكَ أمام شجرتي/ وأمحوك أمام حشراتي الزاحفة}. ولا أظن أنّ كلمة {حشرات} وردت في المكان المناسب، والله أعلم ما المقصود بـ {أرتجلك أمام شجرتي}!

تسعى تلحوق إلى رجل مكتمل، ولا تجد اكتماله خارج السياسة فتريده الأندلسيّ والفلسطيني والعراقي واللبناني في الوقت نفسه، وكأنّه تنشد تعويضًا للهزائم العربيّة المتكرّرة برجل واحد: {أندلسيّ أنت/ أخبّئك بين جفوني/ وحيرة وجعي/ وحداثة انتفاضتي / وتأوّه فلسطيني/ وسفك عراقي/ وأشلاء لبناني}... هذا الخطاب ثقيل على الحبّ ويعطّل النبض العاطفي في النصّ ويستحضر مشهد الساحة العربيّة الدامية بعيدًا من أيّ حضور للحبّ بين رجل وامرأة...

يشتمل {لست امراة واحدة} على نصوص قليلة تذهب الى السياسة مباشرة. ففي {جنازة العروبة} ترثي تلحوق فلسطينها متضامنة مع أهلها المشرّدين: {وأناسك يلعنون ساعة ولدوا على أرضك/ يحتارون بين الانتماء وهذيان الرفض}... أمّا في نصّ {بلادي مباحة} فتتّجه تلحوق نحو لبنان أكثر، وتقول: {بلادي مباحة/ لكلّ عابر يهوى المضاجعة}، وتخاف إن هي انحنت عليها أن تُغْتَصب معها، وتغمز الكاتبة من قناة الذين يقتلون {باسم الله،/ والقضيّة والعروبة والدفاع عن الوطن/ وتحرير فلسطين وكره أمريكا}... وتعلن في النهاية أن {... لا عرب ولا عروبة ولا عربيّة تولَد / إلا من رحم الأقلام}...

قد تكون سوزان تلحوق امرأة متعدّدة، في جديدها {لست امرأة واحدة}، لكنّ المرأة الشاعرة بين النساء اللواتي فيها لم تظهر كما يجب، لأنّ المباشرة والهدر اللغوي طغيا على نصوص المجموعة وغابت {الهزّة} الجميلة التي من المفترض أن يجترحها الشّعرُ في قارئه. ولا شكّ في أنّ النثريّة حضرت بقوّة، بسبب انحسار الرمزيّة والإيحاء. وخلاصة القول، إنّ {لست امرأة واحدة} عنوان موفّق لديوان شعر، بينما {الديوان} يطرح أكثر من علامة استفهام.

الجريده

خارطة الحب لأهداف سويف... خروج على النمطيّة
بيروت - الجريدة

صدرت عن «دار الشروق» طبعة جديدة من رواية «خارطة الحب» للكاتبة البريطانية (المصرية الأصل) أهداف سويف، وهي الرواية التي كتبتها المؤلفة باللغة الإنكليزية عام 1999، ووصلت الى القائمة القصيرة في جائزة «بوكر» العالمية.

157987_Ahdaf3_front_small.jpg


«خارطة الحب» رواية «مثيرة للشجن» بحسب مجلة «التايمز» اللندنية، وتكتب نفسها بنفسها، تعيد قراءة الماضي في ضوء الحاضر والعكس بحسب الناقد صبحي حديدي، وهي تخرج عن نمط الروايات الغربية الأخرى التي تدور أحداثها خلال فترات الشعوب المختلفة، وتختزل البلاد المستعمرة إلى مجرد خلفيات مثيرة لما يدور بين أبطالها الغربيين من أحداث وتعمد إلى تهميش وجود السكان المحليين، وتسخّرهم بثيابهم المحلية الفولكلورية، وأحياناً بألوان بشرتهم وعجمة ألسنتهم.

اعتمدت الروائية على كمّ من وثائق متعلقة بتاريخ مصر والمنطقة، خصوصاً ما يتعلق منها بشخصيات معروفة مثل الشيخ محمد عبده وقاسم أمين والبارودي (الشاعر) وعشرات الشخصيات الأخرى. كذلك استعانت بوثائق متعلقة بأحداث معينة كان لها تأثيرها على الوقائع الكبيرة في المنطق، من دون أن تغفل تفاصيل متعلّقة بالروابط الأسرية والطقوس والعادات الاجتماعية .

تمرّدت سويف في روايتها على النمط العام في الرواية الغربية، فغدت مصر الرازحة تحت الانتداب البريطاني وما تمرّ به من تمخّضات سياسية واجتماعية جسد الرواية ولحمتها، بل بطلتها الرئيسة. أما السكان المحليون فليسوا فحسب أولئك الذين يتلحّفون بالملايات ويرتدون الجلابيات وينتعلون الخِفاف ويقودون الجمال والحمير، بل ثمة أيضاً شرائح كبيرة من وطنيين ومناضلين وسياسيين وفنانين ومحامين وعلماء دين، ونسمع ما يدور بينهم من حوارات عميقة وذكية إزاء ما يحيط بمصر في تلك الفترة التاريخية العصيبة.

أصحاب البلاد

نقلت الروائية ما يختمر في صدور أصحاب البلاد الأصليين، وتقديرهم للتوازنات المختلفة ورؤيتهم لامتلاك مصيرهم لتصبح مصر الحكاية الكبرى والأهم. وتستنتج أن المستعمر البريطاني مجرد تفصيلة صغيرة في اللوحة الرئيسة. حتى آنا وينتربورن، البطلة الإنكليزية الوحيدة في الرواية التي تعيش قصة حب رومنسية، تنحاز إلى البلد المستعمر وسكانه الأصليين، باذلة جهدها وجرأتها لتمكينهم من امتلاك مصيرهم بأيديهم.

تمثّل «خارطة الحب» أحد أشكال النضال، لكن بلغة راقية بعيدة عن الكليشيات والشعارات، فهي تنقل زمن الصراع في الماضي ضد هيمنة الاحتلال البريطاني، وهذا يأتي معكوساً على الحاضر في الصراع ضد الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، وإذا كان شريف باشا البارودي يمثل الوطنية المصرية في الماضي، فإن عمر الغمراوي، سليله المعاصر الذي تمتزج في عروقه الدماء المصرية والفلسطينية.

استعادت سويف علاقتها بالتاريخ عبر «خارطة الحب» لتجد أنّها لم تكتب عن ذاتها كما كانت تعتقد، بل كان التاريخ المصري يتسلّل إلى فضاء الشخصيات رغماً عنها، إذ استدركت البطلة بالقول: «لكن هذه الرواية ليست روايتي». وخلصت إلى أنّ هاجس الروائي هو التاريخ مهما حاول الابتعاد عنه.

كانت سويف أوضحت في برنامج تلفزيوني أن «خارطة الحب» لم تنل جائزة «البوكر» العالمية لأنها «ضد السامية والصهيونية»، مشيرة إلى أن مترجمة الرواية هي والدتها فاطمة موسى، وطُرحت هذه الترجمة منذ بضع سنوات مع «الهيئة المصرية العامة للكتاب»؛ لكن كانت تحتوي على أخطاء عدة لم ترضَ عنها المترجمة أو الكاتبة، إلى أن أتت «دار الشروق» لإصدار الترجمة الصحيحة مطلع العام الجاري خلال فاعليات معرض القاهرة للكتاب.

نبذة

أهداف سويف أديبة مصرية تكتب بالإنكليزية وتعيش بين القاهرة ولندن. والدها أستاذ علم النفس الدكتور مصطفى سويف. درّست في كلية آداب القاهرة في بداية السبعينات، ثم سافرت الى لندن للدراسة واستقرت هناك حيث تزوجت من الكاتب والأديب والشاعر الإنكليزي المعروف أزبن هاميلتون وهو ناقد أدبي له مكانة مرموقة بين الأدباء الإنكليز، وأول مجموعة قصصية قصيرة صدرت لها العام 1983 وهي باللغة الإنكليزية بعنوان «عائشة» ثم أصدرت الرواية ذائعة الصيت «في عين شمس» عام 1992 وهي تقع في 800 صفحة واستقبلتها الأوساط الأدبية الغربية بحفاوة شديدة، ما دفع ناشرها البريطاني إلى القول عنها: «إنها رواية مهمة وشبه معجزة، إنها الرواية الإنكليزية العظمى عن مصر، وفي الوقت نفسه الرواية المصرية العظمى عن إنكلترا فهي تجمع بين عالمين متناقضين».

أبرز مؤلفاتها «زينة الحياة»، مجموعة قصصية، وأول كتبها الصادرة باللغة العربية، مروراً بـ{زمار الرمل» وهي مجموعة قصصية بالإنكليزية، وصولاً إلى «خارطة الحب».

عاصفة النار
تأليف: نيلسون ديميل
عن دار العربية للعلوم

ميشال مراد

يأمل نيلسون ديميل في كتابه «عاصفة النار» في أن يكون نموذجاً لخطة موجودة تقضي بضرب العالم الإسلامي بالسلاح النوويّ بعدما ضرب الإرهابيون مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر/ أيلول العام 2001، لكنها تبوء بالفشل.

جمعت هذه الرواية الحقيقة والخيال. من الصعب جداً أن يستطيع القارئ التمييز بين ما هو من نسج الخيال وما هو حقيقيّ، لذلك ارتأى المؤلف أن يوضح في مقدمته أي موضوعات هي خيالية وأية وقائع هي حقيقية. لكنه استدرك قائلاً: «... إذا اعتقدت أن ما تقرأه يبدو حقيقياً، فهو كذلك فعلاً، فالحقيقة أشدّ». وهذا ما يجعلنا نرتاب في أنّ هذه المؤامرة الافتراضية ما هي إلا انعكاس لمؤامرات عدة تحاك في الخفاء لضرب بعض الدول الإسلامية.

يتألف الكتاب من عشرة أقسام تتضمن اثنين وخمسين فصلاً شائقاً جعلته يحتل المرتبة الأولى على قائمة «نيويورك تايمز». وهذا ليس بغريب على نيلسون ديميل الذي ألف أكثر من ثلاث عشرة رواية نالت استحسان القراء في العالم أجمع، وبخاصة «حلول الظلام» التي تبوّأت المركز الأول في قائمة الروايات الأكثر رواجاً في «النيويورك تايمز»، و «جزيرة النخيل» و«لعبة الأسد» و«ابنة الجنرال». وهاتان الأخيرتان صدرتا بالعربية عن الدار نفسها التي نشرت «عاصفة النار».

بطل الرواية جون كوري عميل خاص متعاقد مع الوحدة التكتيكية الفيدرالية لمحاربة الإرهاب، وكان في السابق تحرياً في قسم التحقيق الجنائي في شرطة نيويورك. أما زوجته كايت مايفيلد فهي عميلة لدى مكتب التحقيق الفيدرالي. وبينما كان جون وزوجته يقومان ببعض المهمات الروتينية أرسل مكتب التحقيق الفيدرالي زميلهما هاري مولر في مهمة أخرى يستكشف خلالها ما يجري في نادي كاستر هيل.

نادي كاستر هيل بيت كبير فخم مخصّص للصيادين في جبال أدير ونداك، يضم في عضويته بعضاً من أوسع رجال الأعمال نفوذاً والمسؤولين الحكوميين وضباط الجيش. يشكل هذا النادي ظاهرياً مكاناً للاسترخاء مع الأصدقاء القدامى، لكن في أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع من فصل الخريف يجتمع أعضاء المجلس التنفيذي للنادي ليتباحثوا بشأن مأساة الحادي عشر من سبتمبر ووضع اللمسات الأخيرة لخطة ثأرية تُعرف فقط باسمها الرمزي «عاصفة النار».

أثناء ذلك قطع التحري هاري مولر سياج النادي الشائك وتقدّم نحو البيت، وإذا بمجموعة من المسلحين يضبطونه ويقتادونه لمقابلة رئيس النادي مادوكس وبعض الأعضاء المهمين.

أخطر مؤامرة

يدور في هذه المقابلة حوار يكشف عن أخطر مؤامرة في التاريخ تقضي بضرب العالم الإسلامي لأنه مصدر الإرهاب في العالم. فبعد أن يعدد مادوكس الهجمات الإرهابية الإسلامية ابتداءً بمجزرة أولمبياد ميونيخ، سارداً قصصاً امتدت على ثلاثين سنة من خطف طائرات وتنفيذ تفجيرات وعمليات خطف وإعدامات وصولاً الى الهجوم على مركز المارينز في لبنان الذي أدى الى مقتل 241 أميركياً ثم تفجير طائرة البانام في رحلتها رقم 103 فوق منطقة لوكربي، يقول، «في السنوات القادمة سيكون الهدف مدينة أميركية بكاملها. قنبلة نووية وتقع الكارثة».

هذا الاعتقاد لدى المواطنين الأميركيين بأنهم أصبحوا عرضةً «للإرهاب الإسلامي» جعلت كل مواطن منهم بحسب قول مادوكس «يرغب في رؤية الإسلام وهو يستأصل بعملية إبادة جماعية نوويّة».

إنَّ هذا الاستنتاج الخطير والمجحف الذي غذته الصهيونية العالمية وتبنته بعض المذاهب المسيحية المتطرفة في أميركا جعلت أعضاء نادي كاستر هيل يبحثون عن تبرير هائل يدفع بالسلطة الأميركية الى ضرب الدول الإسلامية بالسلاح النوويّ لوضع نهاية سريعة للإرهاب.

نظر مادوكس الى التحري هاري مولر قائلاً: «هناك نحو سبعين حقيبة مجهزة بقنابل نووية فقدت من مخازن الاتحاد السوفياتي السابق... ونعتقد أن الإرهابيين الإسلاميين حصلوا على بعض منها»، وتابع: «سأقول لك شيئاً يا هاري يعرفه أقلّ من عشرين شخصاً في مختلف أنحاء العالم. لقد تمّ اكتشاف واحدة من تلك الحقائب النووية في العاصمة واشنطن العام الفائت ولم يتم ذلك لأن الحظ حالف فريق نست، بل نتيجة لتحرك مكتب التحقيقات الفيدرالي عقب تلقيه وشاية».

أحجم هاري مولر عن التعليق لكنه تابع الإصغاء الى مادوكس الذي أخبره أن الرئيس الأميركي أعلم رؤساء الحكومات الإسلامية كافة بأن أي هجوم على مدينة أميركية بواسطة سلاح دمار شامل سيقابل تلقائياً برد ثأري نووي يستهدف ما بين خمسين ومئة مدينة وأهدافاً أخرى في العالم الإسلامي. وبما أن احتمال الهجوم على مدينة أميركية بسلاح نووي يقوم به إسلاميون إرهابيون ضئيل جداً ــ على حدّ قول مادوكس ــ لذلك «فقد ابتكرنا خطة المشروع الأخضر التي تقضي بتفجير قنبلة نووية في مدينة أميركية مما سيطلق ردّ عاصفة النار الذي يعني التدمير النووي للإسلام».

لم يكن هاري في مكتبه عندما وصل العميل جون كوري الى المركز، وكان مفترضاً أن يُطلع رئيسه على نتائج مهمته فتوجّس مسؤولو الحكومة شراً وأرسلوا كوري وزوجته للبحث عنه في عقار نادي كاسترهيل.

وجدت شرطة الولاية جثة هاري مولر على مسافة بعيدة من النادي مما أثار ارتياب كوري وزوجته اللذين انصرفا الى التحقيق انطلاقاً من كل ما يتعلق بالنادي وخاصةً برئيسه باين مادوكس. تبيّن لهما أن مادوكس يتعامل مع ميخائيل بوتيوف العالم في الفيزياء النووية والباحث في أحد مراكز الاتحاد السوفياتي السابق.

وفي تفصيل الى آخر أحرز العميلان بعض التقدّم مما حداهما على مقابلة مادوكس وتوجيه التهمة إليه باسلوب مباشر، فسحب مسدسه بوجهيهما قائلاً: «كنتما تعرفان أنكما لن تخرجا وأنتما على قيد الحياة». ثم أخذهما الى منصة إطلاق القنابل النووّية الأربع بواسطة الأزرار المزروعة على لوحة الكترونية، وما لبث أن ضغط على زر فبدأت الأرقام تتناقص في عدّ تنازلي لخمس عشرة دقيقة تحتاج إليها أجهزة الاستقبال لفك الشيفرة.

تلك القنابل الأربع موجهة الى مدينتين أميركيتين حددهما «المشروع الأخضر» هما لوس أنجلس وسان فرانسيسكو لتكونا ذريعة لمؤامرة تدعى «عاصفة النار» تهدف الى ضرب أهمّ مدن العالم الإسلامي في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وغيرها...

كان جون كوري زرع بعض القذائف في العزف، ولما رأى أنه لا بد من تفجيرها أسرع الى ذلك ودارت معركة بينه وبين مادوكس فأطلق على رأسه ثلاث رصاصات أردته قتيلاً. وركض الى اللوحة الالكترونية ليفشل خطة «المشروع الأخضر» الذي كاد يتسبب بإطلاق «عاصفة النار».

إنها قصة مليئة بالتشويق منذ صفحاتها الأولى، لكنها تبعث القشعريرة في النفوس لما فيها من أقوال ومواقف عنصرية ومسبقة ضدّ الإسلام. أضمّ رأيي إلى رأي الناشر الذي أعلن في مطلع الكتاب أن الغاية من نشر هذه الرواية إطلاع القراء العرب عمّا يحيق بهم من أخطار وإن كانت ترد في إطار روائيّ.
الجريده

الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ
إعداد: كمال أبو ديب
عن دار الساقي بالتعاون مع دار أوركس

سليم نكد

هذا هو العنوان على الغلاف الخارجيّ. أمّا في الداخل فيُضاف إليه: «في كتاب العظمة وفنّ السرد العربي»، ممّا يدفع القارئ إلى التساؤل: هل هي دراسة عامة عن «الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ» وفنّ السرد العربي؟ أو هي دراسة خاصة لكتاب «العظمة»؟ وما هو كتاب «العظمة»؟ ولماذا لم يُذكر على الغلاف إذا كان هو الموضوع الرئيسي؟

أسئلة يطرحها القارئ وهو ما يزال بين الغلاف والصفحة الأولى من الكتاب. فهل هو أسلوب من أساليب التشويق وإثارة الفضول انسجاماً مع مضمون «عجائبيّ» و«غرائبيّ»؟

لا يلبث القارئ أن يدرك أن الكتاب تحقيق لمخطوطة عنوانها «كتاب العظمة» تطبع للمرة الأولى وقد صدّرها المحقق د. كمال أبو ديب بمقدمة طويلة تحت عنوان «فاتحات» يتناول فيها فنّ السرد في «كتاب العظمة» وينسبه إلى الأدب العجائبيّ أو الغرائبي.

يعود القارئ الى التساؤل: أما كان من الأجدى والأقرب إلى المنطق أن يبدأ بوصف المخطوطة أولاً ثم يعرض مضمونها، ثم يثبتها كاملة محققة ويلحقها أخيراً بالدراسة التحليلية؟

وإذ نشارك «القارئ» تساؤلاته، نتّبع هذا التصميم في عرض الكتاب.

يذكر المحقق، د. أبو ديب أنه عثر على المخطوطة في أوائل السبعينات بالمصادفة وهو يراجع فهارس المخطوطات في مكتبة بودلي في جامعة أوكسفورد يحدوه هاجس الكشف عن آثار عربية مغمورة ومتميزة تبرز جوانب من الإبداعية العربية كثيراً ما أنكرها أو تجاهلها الباحثون عرباً وأجانب، وهي، إذا نُشرت، تصحّح النظرة الى التاريخ والتراث العربي وتملأ ما يُعتبر فراغات فيه.

لا تحمل المخطوطة اسم مؤلّف وينسبها بروكلمان خطأً إلى الإمام أبي حامد الغزالي، ذلك أن الأسلوب والمضمون الديني مختلفان كما يرى د. أبو ديب. والذي يزيد الأمور تعقيداً أن عدّة مخطوطات تحمل العنوان ذاته لمؤلفين مختلفين من بينهم ابن عربي والأصفهاني وابن أبي الدنيا وابو العبّاس الحميريّ القمّي الشيعيّ. وبعد تردد يرجح المحقق أن يكون هذا الأخير هو المؤلف.

لمحات

يدور الكتاب حول عظمة الله ووصف مخلوقاته في السماوات والأرض وما تحت الثرى من الملائكة ومختلف الخلائق، كما يصف النار المعدّة للكافرين والجنة المعدّة للصالحين. يذكر المؤلف أن الله نزّل على آدم بواسطة جبرائيل العلم الذي ذكره في كتابه المنزّل: «وعلّم آدم الأسماء كلّها»، فصوّر له ما كان وما هو كائن وما سيكون وذكر الطوفان وما يغرق من الأرض، فخشي آدم على العلم أن يذهب فكتبه على ألواح من طين وخبأها في مغارة يقال لها (المانعة) في جبل يقال له (المنديل) في سرنديب بالهند؛ والمغارة منغلقة لا تنفتح إلاّ مرةً في السنة في يوم عاشوراء. وردت الأخبار الى النبي دانيال فذهب الى المغارة مع عدد من تلامذته يوم عاشوراء مجهّزين بأدوات الكتابة ونقلوا جميع ما أرادوا ووضع دانيال هذا العلم على صحائف من نحاس، وبعد وفاته نشرها الله في الدنيا.

وفي سلسلة من الروايات المسنّدة الشبيهة باسانيد الأحاديث النبوية، يقول الحسن بن الحسن البصريّ: دخلتُ على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، فقال عثمان: سبحان من خلف الخلق ونشر الأمم في الأرض في البر والبحر والسهل والجبل... فقال عبد الله بن سلام (وهو حبر يهودي اعتنق الإسلام وأحد أركان رواية الحديث النبويّ): في كتاب «الدفائن» لدانيال ذكر لما خلق الله مما لا تدركه العقول وما لا يمكن وصفه، وما تقوله يا أمير المؤمنين عن هذه الدنيا، فما هي إلاّ كوكب صغير بين الكواكب في السماء. ويروي عبد الله بن سلام لأمير المؤمنين ما وجده في هذا الكتاب. من ذلك أن الله خلق المهوى وطوله ألف ألف ألف سنة وعلى جانب البحر عن يمينه ألف ألف ألف مدينة وعن شماله مثل ذلك، ولكل مدينة عشرون ألف مرج في كل مرج عشرون ألف روضة... فيهتف عثمان: لا إله إلاّ الله الملك القدوس. ويكمل الراوي وصفه لمخلوقات الله وعجائبها:أرض من حديد بينها وبين البحر مسيرة ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة، وقد ألان الحديد فيفلحون ويزرعون ويغرسون الأشجار التي تتخللها الأنهار، وعلى تلك الأشجار طيور كالجمال أرجلها مثل أرجل الطيور ووجوهها كوجوه الناس... وتستمر الأوصاف لمخلوقات بالغة الضخامة، مقاييس طولها وعرضها بآلاف آلاف السنوات.

من الأوصاف الرائعة والمريعة وصف جهنّم وما يقاسيه الهالكون من ألوان العذاب: «وجعل في جهنّم ألف ألف بحر الى تسعمائة ألف ألف بحر من النار، أمواجها تتلاطم، فيها الزبانية سود مثل الجبال، لكل واحد منهم ألف عنق، في كل عنق ألف رأس، في كل رأس ألف وجه، في كل وجه ألف فم، في كل فم ألسن وأنياب طول كل سنّ مسيرة خمسمائة فرسخ»...

ابداع ادبي

يقول د. أبو ديب: «بمثل هذا النص يحقّ للإبداعية العربيّة أن تنسب لنفسها في سياق التاريخ الأدبي الذي كانت تعيه، ابتكار فنّ أدبي جديد هو فنّ العجائبي والخوارقيّ، فنّ اللاّمحدود واللاّمألوف، فنّ الخيال المتجاوز الطليق وابتكار المتخيّل الذي لا تحدّه حدود». وفي مواضع اخرى من المقدمة: «هكذا يبتكر النص نهجاً بديعاً في التعامل مع المختلف، الخياليّ، اللامعقول، الجامح، المتجاوز حدود التاريخي والمعقول بترسيخه وتجذيره في التاريخيّ والمعقول»... «وقد يكون كتاب العظمة اول نصّ سرديّ ينجز هذا الإنجاز الفني العظيم...».

بهذا الاسلوب التحليلي والتذوقيّ الانفعالي الذي يتخذ احياناً لهجة سجالية، تستمر المقدمة من فاتحة الى فاتحة. انه موقف قارئ محلّل ومتذوق في آن واحد، مزهوّ باكتشافه أثراً هو من كنوز التراث العربي يعتبره نموذجاً للإبداعية العربية، وكأن هذا الموقف رد فعل على مواقف بعض المتكربين او الجاهلين او قاصري النظر من الدارسين العرب والاجانب. انه نموذج للنقد الحيّ الذي بتنا نفتقده اليوم في النقد الادبي الحديث المسكون بهاجس علمويّ إحصائي تشريحي وبموضوعية باردة يتناول الرائعة الفنية كما يتناول الملصقات الدعائية، والجسد النابض بالحياة كما يتناول الجثة الهامدة، وكأن كل الشأن في المنهج لا في ما يؤدّي اليه. ذلك ان النقد الصحيح، مهما استوحي من منهجيات العلوم، وأية درجة بلغ في طموحاته ومناحيه العلمية، يبقى في صميمه تفاعلاً حياً، لان الذوق والحدس أنفذ الى قلب الأثر الفني من ادوات المناهج مهما أُتقنتْ وترهّفت.

من أجل تصحيح النظرة الى التراث العربي يدعو د. أبو ديب الى «ضرورة إعادة تصوّر التاريخ الثقافي العربي من منظار داخلي: إلغاء مفهوم عصور الانحطاط الذي ابتكرته حساسية فنية وفكر سياسي سحقه الغرب بمعطياته... والتخلص من عقد النقص إزاء الغرب... ورفض صورة الحضارة العربية التي تقوم على معطيات التاريخ الرسمي للثقافة وعلى الكتابة البلاطية... فما سُميّ «عصور انحطاط» هي عصور تحرير الأدب من لصوقيته بالسلطة ودوراته في مدارها...».

انها دعوة جادة ومحقّة لكننا نتساءل كم عدد الآثار التي تتضمن هذه الصفات والعناصر الفنية التي تغيّر طابع عصور بأكملها وهو لم يذكر واحداً منها كمثل لما يدعو اليه؟ مع العلم ان «كتاب العظمة» الذي يدرسه وينطلق منه لهذه الدعوة لا ينتسب الى هذا العصر، بل الى القرن الرابع الهجري كما يقول. ويبدو ان الانفعال في بعض المواضع يطغى على النظرة التحليلية الهادئة، فتتكرر صفات تنسب الى النص بحماسة طاغية: المدهش، المذهل، الفاتن، الرائع، الساحر... وكان من الافضل، في رأينا، ان يُترك للقارئ مجال الاستنتاج والشعور بالإعجاب من خلال التحليل.

غير ان نتائج الانفعال والموقف السجاليّ تبدو اكثر ما تبدو في نسبة «كتاب العظمة» الى نوع أدبي معيّن يدعوه «الأدب العجائبي» او «الخوارقي» او «الغرائبي» باعتبار انها مترادفات او قريبة من الترادف، وهو يرى بالتالي ان العرب سبقوا الغرب الى هذا النوع الذي سمّوه Fantastique، والذي ينسب T.Todorav ظهوره الى القرن الثامن عشر الاوروبي. ينتقد د. أبو ديب هذا الرأي ويصفه مرة بأنه ادعاء عبثي (ص9) ومرة بأنها نسبة عشوائية ( ص18).

دلالات

إذا كانت تعابير «العجائبي» و«الغرائبي» و«الخوارقي» غير محددة تماماً في اللغة العربية فتستعمل كمترادفات وكمقابل للتعبير الاجنبي Fantastique، فليست الحال كذلك في الفكر النقديّ الغربي حيث التمييز دقيق بين: L’étrange, Le fantastique, Le merveilleux, La féerie، وإذا تشابهت دلالاتها في الاستعمال العاديّ فهي ليست كذلك في لغة النقد الادبي التي تجهد لتحديد الانواع تحديداً دقيقاً. فالآداب اليونانية والرومانية القديمة، والادب الاوروبي في العصور الوسطى زاخرة بالخوارق من آلهة وأنصاف آلهة وجنّ وعفاريت... ومع ذلك لم تعرف هذه العصور الأدب الـ fantastique بالمعنى الحصري، وكذلك الحال آثار Dante، Milton وشكسبير. ليس هذا موقف Todorov وحده بل معظم الباحثين في هذا المجال، نذكر منهم R.Caillois، إذ تلتقي آراؤهم حول شروط اساسية نوجز أهمها: ان الذي يحدّد الـ fantastique هو شعور التردد الذي يعانيه بطل القصة كما يعانيه القارئ أمام الأحداث بين التصديق والإنكار. فالتصديق التام والإنكار التام يخرجان النصّ من هذا النطاق؛ والذي يخلق موقف التردد هذا تماسك العالم الواقعي وخضوعه الصارم لقانون السببيّة، ثم تعرّضه المفاجئ للاهتزاز او الاختراق. لهذا يلاحظ ازدهاره في فترات الاكتشافات العلمية وتعاظم الثقة بقوانين العلم ومنجزاته كما كانت الحال في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الاوروبي، وقد بلغ الذروة في هذه المرحلة التاريخية مع Gogol و Poe و Hoffmannو Maupassant وسواهم.

من شروطه الاساسية كذلك خلوّه من الاجواء الإلهية والمشاعر الدينية والأساطير وحياة القديسين وعجائبهم وتجنب الوعظ والدروس الأخلاقية كما نلاحظ ذلك في آثار أعلامه.

وإذا كانت كل فترة حضارية (او بدائية) تنعكس في لون أدبيّ يمثل روحها فقد تمثلت المرحلة التالية، وما تزال، في نوع آخر هيأته تطورات اخرى للعلم ونظرة مختلفة اليه هو «الخيال العلمي» Science-fiction.

«كتاب العظمة» اذاً، رغم ما يتضمنه من خوارق ومدهشات، او بسبب ذلك، لا ينطبق عليه وصف Fantastique.
كيف يصنّف اذاً وما هو النوع الذي ينتسب اليه؟

إنه يلامس انواعاً ولا ينتسب الى نوع محدد. ينمو على أصول الكتب الدينية يستوحيها كما يحلو للمخيلة ان تنطلق وتبدع، كما يغتذي مما تنسجه المخيّلة الشعبية حول بعض القصائد والتعاليم. له نظائر في بعض أناشيد «كتب الأموات» في الحضارات القديمة، و «رؤيا يوحنا» في الاستيحاءات المسيحية. انها رؤى أخرويّة او اسكاتولوجية.

وصف الجنّة

تتجلى لوحة الجنة كأبهى ما تكون بأوصاف تتخطى كذلك كل تصور في حشد هائل لكل ألوان الجمالات والمتَع: «إن الله تعالى خلق الجنة تحت العرش عن يمينه، وعرْضها كعرض السماوات والأرض من الذهب الأحمر والفضة البيضاء والدرّ والجوهر واللؤلؤ والزمرد الأخضر، وجعل لها ثمانية أبواب من النور ومسامير من الدرّ وستور الأبواب من السندس الأخضر ومفاتيحها من الياقوت الأحمر... وتسمّى كل جنة باسم معلوم: الأول جنة النعيم، الثاني دار السلام، الثالث دار الخلد، الرابع الفردوس، الخامس دار الجلال، السادس جنة عدن، السابع الدار العليا. طول كلّ دار مسيرة تسعمائة ألف ألف ألف ألف ألف سنة... والسنة ثمانون شهراً والشهر ثمانون يوماً واليوم ثمانون ساعة والسنة الواحدة الف سنة من سنينا هذه... في كل جنّة خلق الله تعالى ثمانمائة الف مدينة، في كل مدينة ألف ألف قصر من الذهب الأحمر والدرّ والجوهر والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر... على كل سرير ألف ألف فراش من الحرير والسندس الأخضر... والفرش مفروشة بعضها فوق بعض، جالس على كلّ من تلك الفرش حورية من الحور العين عليها سبعون حلّة... يجري في كل بستان نهر من لبن ونهر من عسل ونهر من خمر لذّة للشاربين... فإذا دخل أهل الجنة الجنة افترقوا الى منازلهم فتستقبلهم الحور العين، كل إنسان تستقبله سبعون حوراء... فينظر وليّ الله الى ما أعدّ له من النعيم ويتعجب من الحور فيقول: لمن هؤلاء يا ربّ؟ فيقول الله تعالى: «يا عبدي ما ترى كلّهنّ أزواجك ونساؤك ولأجلك خلقتهنّ»... ويمضي الوصف على هذا المنوال الأسطوري الغرائبيّ في تجسيد المتع على اختلافها بأبهى الصور وأصعقها للحواس والمشاعر. ويخاطب الله عباده: «يا عبادي لا تشربوا من الحور العين فها أنا أسقيكم بيدي فاشكروا نعمتي وانظروا الى عظمتي».

16416_aladb-al3ajbae-cmyk_small.jpg


الجريده

سَيْفُ فَارِس/ نادر شاه... من محارب قبلي إلى مستبدّ فاتح
القاهرة - الجريدة

صدر عن دار «الكلمة» كتاب «سَيْفُ فَارِس/ نادر شاه من محارب قبلي إلى مستبدّ فات» للكاتب مايكل أكسوُرْثي، وهو يعتبر أن قصة نادر شاه تتبع منحنى مأسوياً– من بدايات غامضة إلى مؤامرات شرسة وانتصارات عسكرية مظفرة وجلال وثراء وجاه، إلى خطأ وإرهاب وإحباط وفرط قسوة وخلل عقلي ووفاة، وتجري هذه الأحداث كافة في حقبة تاريخية وأماكن يجهلها معظم القراء في الغرب.

بدأت أولى صفحات قصة نادر في الربع الأول من القرن الثامن عشر، كقائد عسكريّ مغمور ذي أصول غامضة، حرّر فارس من احتلال الأفغان وأخرج الأتراك العثمانيين وتغلّب على الروس، وغزا الأراضي العثمانية، وألحق الهزيمة بالعثمانيين في عقر دارهم. كذلك أعلن نفسه شاهاً وهاجم الأفغان في أراضيهم، وأنزل بهم الهزيمة، ثم غزا الهند وفتح دلهي، لينطلق نحو آسيا الوسطى، حيث استرضى الأوزبك قبل عودته إلى الغرب وشنه ثانية حرباً على العثمانيين.

في بداية أربعينات القرن الثامن عشر، ربما كان الجيش الذي بناه نادر أقوى قوة عسكرية في العالم، ما جعله مدرسة تخرج فيها زعماء أقاموا في ما بعد دولاً مستقلة في أفغانستان وجورجيا. لكنه لم يلبث بعد غزو دلهي أن فقد توازنه، واصطلحت عليه الأمراض، واستبدت به روح الجشع والغضب والقسوة ليلقى مصرعه في نهاية المطاف علي أيدي ضباطه.

يقول المؤلف إنه لولا نادر شاه لآلت إيران إلى مصير بولندا نفسه في القرن الثامن عشر، اقتسامها كلياً أو جزئياً بين الدول المجاورة: الأفغان والروس والأتراك العثمانيون. وكانت بوادر هذه القسمة ظهرت فعلاً عند بروز نادر على الساحة. ولو ابتُلعت فارس، لتغيرت علاقات القوة بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا وآسيا الوسطى وأفغانستان والهند، واتخذت طابعاً مختلفاً تماماً في العقود والقرون التالية.

يضيف المؤلف: «بعدما فتح نادر دلهي، تنبّهت شركة الهند الشرقية إلى ضعف دولة المغول في الهند، وإمكان توسيع مشاريع الشركة هناك على نطاق أوسع وأكثر تحقيقاً للربح بتغاضي الحكام الهنود المحليين. ولولا نادر لجاء الحكم البريطاني متأخراً وفي صورة مختلفة، وربما لم يأتِ إطلاقاً مع ما يستتبعه ذلك من تأثيرات عالمية مهمة».

كذلك يبين المؤلف أن الفكرة السائدة في العصر الفيكتوري كانت عن شعب فارس، وبلاد المشرق عموماً، أنه شعب سلبي يستشري فيه الفساد والانحطاط وفريسة سهلة للاستعمار وجهود الإصلاح الخارجية. ولما كان نادر حاكماً قويّاً شديد الكفاءة لا يتماشى مع تلك الصورة هُمِّش.

اتجاهات جديدة

كشف كل من فيليم فلور (Willem Floor) ومنصور صفاتجول (Sefatgol) وإرنست تاكر (Ernst Tucker) عن معلومات جديدة مهمة في هذا الصدد، واستعرضوا أهميتها بأساليب من شأنها تعزيز فهمنا للأحداث وأخذنا إلى اتجاهات جديدة. ولا شك في أن كمية المعلومات والمواد المأخوذة عن سجلات شركة «شركة الهند الشرقية الهولندية»، والتي ترجمها فيليم فلور ونشرها، تقف على جانب كبير من الأهمية.

حاول الكاتب في أثناء اطلاعه على الوثائق النادرة توخي الاجتهاد والتمييز بقدر الإمكان. وإضافة إلى المادة التي تناولت الحقائق بشكل مباشر فقد كان لكثير من القصص والحكايات المشكوك في أصلها والتي لا يمكن توثيقها إطلاقاً، إسهام متفاوت الأهمية من موضع إلى آخر. وحتى إن كانت تلك القصص مجرد خرافات فإنها تكشف جوانب عن رأي المعاصرين لنادر فيه. وفضل المؤلف استعمال تلك المادة (الخرافية) مع التحذير من عدم مصداقيتها أحياناً، كي يسمح للقارئ أن يصدر حكمه الشخصي عليها.

«سَيْفُ فَارِس/ نادر شاه من محارب قبلي إلى مستبدّ فاتح» لا يسعى إلى تقديم جميع الأبحاث الحديثة التي تتناول حياة نادر شاه، والتي ظهرت مع كتاب لورنس لوكهارت (Laurence Lockhart) الصادر في عام 1938. وعلى رغم أنه يعرض لغالبية المادة الجديدة ويفسر الأحداث من منظور جديد، يقدم تحليلات جديدة لعدد من الأحداث المهمة في هذا الإطار. ويرمي الكتاب إلى طرح رواية تاريخية لقصة نادر على جمهور جديد من القراء، لأنها قصة مشوقة وصادمة في آن، مثل قصة ماكبث أو ريتشارد الثالث.

ت
صورة الآخر في التراث العربيّ... حوار مع الذات
بيروت - عبدالله أحمد

صدر حديثاً عن «الدار العربيّة للعلوم ناشرون» وعن «منشورات الاختلاف» كتاب «صورة الآخر في التراث العربيّ» للكاتبة والناقدة السورية ماجدة حمود.

تعتقد الكاتبة أن هذا الإصدار أحد أنواع الحوار مع الذات الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه، لأن الحوار مع الآخر لا بد من أن تسبقه معرفة بالذات أولاً، كي نقف على أرض صلبة في مواجهة سوء الفهم والعداء، رفيقا الجهل غالباً.

ترى المؤلفة أن الهجمة على الثقافة العربية وعلى أهم مكوناتها اشتدت بعد أحداث سبتمبر 2001، ومنذ ذلك الحين يرى كثر أن الموروث أحد أسباب الإرهاب ورفض الآخر. لذا سلّطت حمود الضوء على ما قدمته حضارتنا، عبر أبرز المؤلفات الأدبية، في مجال نظرتها إلى الآخر في فترتي السلم والحرب، معتبرة أنه من المؤلم أن نسعى إلى تشويه صورتنا بأيدينا اليوم، فنشوه تراثنا بمقدار ما نشوه ذاتنا. كذلك تلاحظ أن تشويه الأنا اليوم ينعكس سلباً على رؤيتنا للآخر، فنلجأ إلى رسم صورة مشوهة له بمقدار ما نعظم أنفسنا وننزهها عن الخطأ، لذا من الضروري فهم ذواتنا أولاً، ثم فهم الآخر، أي أن نعرف كيف تبدت الذات العربية الإسلامية في تراثنا، وما هي جوانب ضعفها وجوانب قوتها؟ وكيف تعاملنا مع الآخر المختلف في العقيدة والعرق والمرتبة الاجتماعية؟

تضيف المؤلفة أن الإرهاب الفكري الذي نمارسه في حق الآخر المختلف، هو إرهاب في حق ذواتنا أيضاً، إذ نغلق نوافذ الحياة المتجددة، ونرضى أن نعيش في ظلمة الجهل رافضين ثقافة التسامح التي أسست ازدهار حضارة أجدادنا. لذا بحثت حمود في كتب التراث العربي الإسلامي عمّا يعزّز هذه الثقافة، من دون أن يعني هذا إغفال الصور التي تجسد التعصب فيها، ذلك من خلال دراسة صورة الأنا والآخر فيها. تعبّر الكاتبة عن دهشتها من تراثنا الأدبي في انفتاحه على الذات وعلى الآخر، وقد لمست ذلك في لحظات القوة (الجاحظ، ابن قتيبة، أبوحيان التوحيدي) ولحظات الضعف زمن الصليبيين (أسامة بن منقذ).

تعمدت ماجدة حمود في هذا الكتاب اختيار كتب أدبية (البخلاء، الإمتاع والمؤانسة، عيون الأخبار، كتاب الأخبار، ألف ليلة وليلة) تحتوي على مشاهد قصصية، وملامح السيرة الذاتية، لأن هذه الكتب تبدو شديدة الصلة بالحياة اليومية، وفيَّة لسياقها الاجتماعي والثقافي، وحفظت لنا قصصاً واقعية تتسم بالعفوية والصدق، إذ عايشنا فيها مشاهد التسامح مع الآخر، وإن احتوت على مشاهد التعصب أحياناً.

التراث العربي

تطمح المؤلفة من خلال هذه الدراسة لصورة الآخر في التراث العربي أن تكون نوعاً من حوار الذات بعيداً عن أوهام تقديس الذات أو مجاملتها، علماً أن أجدادنا سبقونا إلى ذلك، فقد سعوا إلى النظر إلى الآخر المختلف بعين العدل والمحبة، مثلما ينظرون إلى أنفسهم تماماً. كذلك تحاول المؤلفة ألا تكون هذه الدراسة علمية تغفل خصوصية الأدب وروحه، لذا لجأت إلى مشاهد نقدية تدرس اللغة باعتبارها أحد أهم ملامح الصورة، من دون أن تغفل الاستفادة من العلوم الإنسانية (علم التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع).

كذلك، تحاول حمود في هذه الدراسة توسيع مفهوم الآخر، فهو المختلف عرقياً ودينياً الذي كان شريكاً في الحضارة الإسلامية، ولم يكن عدواً صليبياً فحسب. لذا لم تحصره في مفهوم جغرافي غربي (يوناني....)، بل درست أيضاً الآخر الشرقي (الهندي، الفارسي....)، علماً أن دراسات مقارنة كثيرة اهتمت بدراسة صورة الآخر الغربي، وأهملت ذلك الشرقي.

تشير المؤلفة إلى أن دراسة صورة الآخر أحد أهم العوامل التي تسهم في إغناء شخصية الإنسان، فيزداد فهماً لذاته وللآخر معاً، ما يجعل منظومة المفاهيم التي يتبناها أقل صلابة، وأكثر مرونة وحيوية، ويؤدي إلى نضج الشخصية الفردية إنسانياً ومعرفياً، فيتم التعرف إلى الذات والآخر في الوقت نفسه، هذا على المستوى الفردي، أما جماعيّاً فتفيد دراسة صورة الآخر في تصريف الانفعالات المكبوتة تجاه الآخر، وفهم أوهام المجتمع الكامنة في أعماقه وتحليلها، فتعري الذات والآخر معاً، بذلك تبين الصورة المغلوطة المكونة عن الذات والآخر، وتسهم في إزالة سوء التفاهم الذي ينزع إلى إعلاء شأن الأنا وتحقير الآخر، كي تؤسس لعلاقات معافاة من الأوهام، التي هي نتيجة تشويه صورة الآخر السلبي أو الإيجابي، بذلك تسهم المعرفة في تغيير الصورة، وإسباغ رؤية موضوعية على الذات والآخر معاً.

الجاحظ

تلاحظ ماجدة حمود كيفية تقديم الجاحظ لصورة الآخر عبر رؤية جمالية، إذ أضفى جاذبية على صورة البخيل على رغم أنها تمثل عادة مستهجنة في المجتمع العربي، من دون أن يميز في رسم هذه الصورة بين العرب والفرس، لذا لم نجد في إلحاق صفة البخل بالآخر دليلاً على أن الجاحظ قدّم صورة مشوهة للفرس، فعايشنا بفضله مرحلة حضارية جديدة بدأت تفرض قيمها الاجتماعية والاقتصادية غير المألوفة، فتركت أثراً على سلوك الناس وأفكارهم بغض النظر عن أعراقهم. وعلى رغم حماسته للغته العربية وردّه على الشعوبيين في «البيان والتبيين»، إلا أنه لم يقصر الفصاحة والبلاغة على لغته. بذلك قدّم لنا مثلاً عن تفاعل الأديب مع عصره بشكل مبدع، فأسس لرؤية موضوعية في تقديم صورة الآخر، من دون أن نعرف استعلاء أو عنصرية، إذ لم ير الآخر الذي يشاركه الدين ويصنع معه الحضارة نقيضاً له، بل شريكاً معه في إغناء الحياة الإنسانية.

كذلك تلفت حمود إلى أن جماليات الصورة في «ألف ليلة وليلة» تكمن في تعددها، إذ لم نجدها تتسم بالسكون، وإنما ثمة ما يفاجئ المتلقي، فيخلخل معارفه، ويغير الصورة النمطية التي شكّلها عبر أوهامه الثقافية. فقد بدت لنا الصورة التي تجسد العلاقة مع الآخر المختلف أقرب إلى الموضوعية حين تبدو متأثرة بالمعايشة اليومية، لكن حين تؤخذ سريعاً يغلفها الرعب والشر. من هنا يبدو أن التطور في العلاقات الإنسانية وإزالة سوء التفاهم محكومان بالمعرفة واقتراب الإنسان من أخيه الإنسان. وقد أسهمت اللغة في منح الصورة حيوية وغنى، واستطاعت أن توحي لنا بالبيئة الثقافية التي ينتمي إليها البطل والعصر الذي يعيش فيه. وعلى رغم تأثر الليالي بما قدمته الحضارات الإنسانية كلّها، فإن أثر الحضارة الإسلامية كان الأبرز فيها، وبدا ذلك في لغتها وسيطرة مفاهيمها على الحياة الاجتماعية وسلوك الإنسان.

المرأة

بحسب حمود، تأثرت صورة الآخر بالمعتقد الديني، فكلما كان الآخر قريباً من قيم الإسلام كانت صورته إيجابية، لذلك كان التشوه من نصيب الكافر سواء أكان إنسياً أو جنياً، لذا بدا لنا في الليالي عالم الجن أقرب إلى عالم الإنس. كذلك لمسنا تشويهاً لصورة الآخر الزنجي، ينمّ عن نظرة استعلائية، فألحقت به الصفات السيئة كافة، الجسدية منها والمعنوية. ولاحظنا أيضاً وجود ملامح صورة موضوعية للمرأة، لم تبق في ذاكرة المتلقي، فقد طغت الملامح السلبية (خائنة، عبدة لشهواتها، محتالة...) على الإيجابية التي جسدتها شهرزاد وغيرها (مخلصة، حكيمة، شجاعة...). ويبدو أيضاً أن العلاقة بين الرجل والمرأة خضعت للتطور وللعلاقات الإنسانية مع الآخر، فلم نعد نجد حرمان العاشق من الزواج بحبيبته، بل تغيرت القيم وبات أهل المعشوقة يمدّون يد العون له، كما حصل مع ابراهيم بن المهدي.


الجريده

ما موقف طه حسين من الصهيونية؟

Pictures%5C2010%5C11%5C09%5C449f69a3-80d1-4c8a-a8f5-2462ba62ec92_main.jpg
غلاف الكتاب
جهاد فاضل
في كتاب جديد صادر عن دار الهلال بعنوان «طه حسين والصهيونية»، يعيد الباحث المصري حلمي النمنم كتابة سيرة طه حسين الفكرية، وبخاصة موقفه من العروبة بوجه عام، وكذلك موقفه من الصهيونية.
الواقع ان هناك، بنظر بعض الباحثين، التباسات كثيرة في سيرة طه حسين لجهة موقفه من العروبة ومن الصهيونية، وفي قضية فلسطين بالذات. فقد شاع كثيرا ان طه حسين لم يكتب مرة عن قضية فلسطين، فهي غائبة غيابا تاما في كتاباته، حتى اسم فلسطين لم يرد اصلا في هذه الكتابات. ولكن الباحث يعود الى الارث الفكري الذي تركه عميد الادب العربي ليجد انه غني وافر الغنى في فلسطينيته، كما انه عامر بمواقفه السلبية من الصهيونية.

يبدأ الباحث بالاشارة الى ان الهجوم على طه حسين اشتد واتسع بعد وفاته، اذ تم احياء معارك مضى عليها اكثر من نصف قرن مثل معركة كتابه «في الشعر الجاهلي». بل ان بعض الذين بالغوا في مدحه والثناء عليه في حياته انقلبوا الى النقيض بعد رحيله، منهم انور الجندي، الذي ما ان مات طه حتى اصدر كتابا عنوانه «طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام» ليتهمه في عقيدته الدينية وفي وطنيته وضميره الانساني واخلاقه، بل وفي رجولته.
وانبرى اخرون ليقولوا انه كان من دعاة الفرعونية ومن الكارهين تماما للعرب والعروبة، ومن المطالبين بالاندماج مع الغرب، واخذ كل شيء عن اوروبا، واهمال تراثنا كله. وهو مساند للاستعمار ومدافع عنه، كما هو مناصر لليهود، عميل للصهيونية، يكره فلسطين بشدة، ولم يكتب في حياته كلمة فلسطين! كما انه يعتدي على الاصول الاسلامية ويعمل على هدم القرآن وينفذ افكار الاستشراق والمستشرقين في الثقافة الاسلامية، بل في الاسلام نفسه، كما انه ليس مسلماً، فقد تنصر وتم تعميده في احدى الكنائس اثناء بعثته في مقتبل حياته.
اتهامات باطلة
يفند حلمي النمنم في كتابه هذا التهم الموجهة الى طه حسين.
ويقول ان طه حسين عاش حياته امينا ومدافعا عن اللغة العربية، كان رئيسا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة حتى وفاته سنة 1973،
وكان رئيسا لاتحاد المجامع العربية، وهو الذي خاطب يوسف ادريس في بداية تألق هذا الاخير بضرورة الرفق باللغة الفصحى وعدم التوسع في العامية. وقد نبه الى خطورة العاميات على العربية. وقد دافع عن الحرف العربي بوجه دعوة صديقه عبدالعزيز فهمي الى اعتماد الحروف اللاتينية، كما فعل أتاتورك مع اللغة التركية.
وطه حسين هو صاحب الكتابات المتعمقة والرصينة في الإسلاميات، وقد بدأ حياته الفكرية بالاهتمام بابن خلدون عندما قدم رسالة دكتوراه عنه في السوربون سنة 1917 تكشف عن اعتزازه الصادق بالعروبة والدفاع عن العرب وعن ابن خلدون بالذات.
ولكن طه حسين ينتقد هجوم ابن خلدون في «مقدمته»، على العرب، خاصة فكرته التي طرحها بان العرب لا يتغلبون على بلد الا حل به الخراب وكأنهم اعداء الحضارة والعمران، يرى طه ان ابن خلدون لم يدقق جيدا في حكمه ولا في كلمته، ويشرح ذلك..
ويرفض طه حسين المقولة الشائعة ان معظم العلماء في الحضارة العربية الاسلامية ينتمون الى العنصر الفارسي.
وفي مقدمة اطروحته للدكتوراه عن ابن خلدون، يتحدث طه حسين عن رسالة الغفران للمعري وصداها الواسع في الكوميديا الالهية لدانتي، واطروحته هذه مليئة بالتمجيد لما أسماه «العبقرية العربية» والدور الذي لعبه العرب في ازدهار الحضارة.
رغم كل ذلك يردد بعض الباحثين ان طه كان «تابعاً» للمستشرقين يردد اقوالهم كأنه طبل أجوف.
وقد جزم بعضهم بأنه كان منحازا لأوروبا، معاديا عداء مطلقا للإسلام، لم يستوعب ولم يتابع حجم ما كان يجري على ارض فلسطين من صراع بين العرب والصهاينة.
تجاهل الحقائق
ولكن الباحث يقول ان ارشيف طه حسين يكذب هؤلاء على نحو قاطع، ذلك ان طه حسين كتب كثيرا عن فلسطين (يعدد الباحث ذلك بالتفصيل مع ذكر الموضوعات وما تتضمنه)، ولكنه كان يفرق (كما يفرق جيلنا اليوم) بين اليهود واليهودية كديانة وبين الصهيونية كحركة سياسية وفكرية. وقد فعل هذا قبله رشيد رضا وشكيب ارسلان وجرجي زيدان وآخرون من الكتاب والمفكرين الكبار. وله محاضرة شهيرة بالاسكندرية عن «اليهود في الادب العربي»، وهي محاضرة تفيض احساسا عميقا بالعروبة وبالمصرية على السواء. ولكن البعض اخذ عليه في هذه المحاضرة حديثه عن دور او فضل اليهود على الأدب والثقافة العربية يتمثل في مشاركتهم في نقل التراث اليوناني الى اللغة العربية، وهي واقعة صحيحة عمل الى جانبهم فيها المسيحيون ايضا. ولكن الذين اتهموا طه حسين بشبهة الصهيونية والميل لليهود في تلك المحاضرة يجهلون
الكثير من الحقائق. ذلك أن دارسي المخطوطات العربية يعرفون جيدا أن بعضها قد فُقد أصله العربي ولم يبق منه سوى الترجمة العبرية. وبفضل هذه الترجمات تمّ التعرف على الدور والجهد العربي. والمتابع للمؤتمر السنوي الذي يعقده مركز المخطوطات بمكتبة الاسكندرية يجد أن هذا الموضوع قد أُشبع درسا وبات من البديهيات. فمع خروج العرب من الأندلس فُقدت مخطوطات كثيرة، وما كان لنا أن نعرف شيئا عنها الا عبر الترجمات، ومنها الترجمات الى العبرية التي قام بها باحثون يهود في ذلك العصر.
قضية اخترعها الغرب
وقد كتب طه حسين ان القضية الفلسطينية اخترعها الغرب وانه المسؤول عنها، وان فلسطين عربية ويجب أن تبقى كذلك، وعلى الغرب ان يُنهيها كما اخترعها وبدأها. ولم يكن طه حسين غافلا عن مشكلة اليهود وما جرى لهم من مذابح وعنصرية، لكن هذه المشكلة لم يصنعها الفلسطينيون ولا يتحملون مسؤوليتها، بل هي مشكلة أوروبية خلقتها أوروبا وهي المطالبة بحلّها.
وفي مقال آخر لا يوجه الاتهام الى أوروبا كلها، كما فعل سابقا، بل يشير بإصبع الاتهام نحو بريطانيا والولايات المتحدة.
وفي مقال ثالث ينفعل، كما لم ينفعل مرة من قبل، فيكتب مهاجما الأمم المتحدة التي أصدرت قرارا هو الظلم بعينه بعد أسبوع من صدور قرار التقسيم مباشرة: «لم أؤمن قط بهيئة الأمم المتحدة، ولم آخذها قط مأخذ الجد، ولم أُسَمّها قط بيني وبين نفسي إلا هيئة الأمم المختلفة». واستعرض في مقاله ما قامت به الهيئة، وبالأحرى ما لم تقم به من الإنصاف والعدل.





القبس


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 14-12-2010، الساعة 06:08 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
01-05-2010, 01:18 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

قراءة
«رمل وثلج»: حرية مجنحة ولذة خالصة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
محمد العشري
أحلام الطفولة والرغبة في حياة أفضل بالهجرة إلى أوروبا، تفاصيل العائلة الكبيرة العدد، لحظات الحب والزواج والصداقة، الثقافة والجغرافيا ولمس الأمكنة، الروتين الحكومي والخلفيات السياسية والاجتماعية، وحياة الفقراء ومعاناتهم، تلك بعض ما تحاول أن تقبض عليه الذات المبدعة عبر ثماني عشرة قصة قصيرة، تشكل عالماً ثرياً ومتشعباً، تعبره وتحفر في تفاصليه الكاتبة التونسية المهاجرة إلى ألمانيا كوثر التابعي في مجموعتها القصصية «رمل وثلج»، الصادرة حديثاً في تونس «دون تصدير لدار النشر»، وهي المجموعة الأولى للكاتبة باللغة العربية، حيث صدر لها من قبل مجموعة قصصية بعنوان «الخادمة الصغيرة» باللغة الألمانية في فرانكفورت عام 2004.
تفاصيل صغيرة
تنسج كوثر التابعي من التفاصيل الصغيرة الكثير من قصصها: «حكايتي تنطلق بدءا مع الأحذية الطويلة التي كانت تبهرني وأنا تلميذة في السنة الثانية ابتدائي»، تلك الرغبات الطفولية التي تكبر في الداخل، وتظل راسخة في الذاكرة، دون أن تتبدل أو تمّحي: «مرّت السنون، ولم يبرح داخلي الحلم بحذاء طويل».
وفي القصة التالية تخرج الكاتبة إلى تفاصيل أكثر مرارة وألماً من خلال محاولة التعامل مع الروتين الحكومي، وتخطي الكلمة المعتادة «ارجع غدوة»، التي يطلقها الموظف الحكومي في وجه المواطن، حتى دون أن يقف على سبب توقفه أمامه، وهو مرض مزمن ينخر في عصب الأجهزة الحكومية في معظم مؤسساتنا الرسمية على امتداد البلاد العربية، من أجل طلب صغير لتفعيل أوراق جواز سفرها لعدة أيام في بلدها، تعاني بطلة القصة وتقضي بقية أيام اجازتها في التردد على المؤسسة، وهي التي تكابد في غربتها من أجل أخواتها وأسرتها، الذين يتواطؤون بشكل غير مباشر مع القهر الذي تعانيه: «وكيف كنت أحرم نفسي لأرسل لهم حوالة آخر الشهر، مقتطعة من عمري وعرقي وشهوة نفسي لأعيش يوما واحدا دون مرارة التقشّف والحاجة. إخوتي الذين لا يعرفون كم هو باهظ ثمن العملة الصعبة».
ولا تلبث تلك الذات الساردة أن تعلو فوق ما يسجنها، وتنطلق حرة في فضاءات تحرك فيها الحنين، وتجعلها أكثر التصاقاً بذاتها: «أذكر كلمة «أريانة» وقد امتلأت رئتاي بشذى كل حرف منها وفاض بي الحنين إلى أجوائها وإلى مقام «سيدي عمّار» بشجيراته الرشيقة الحيية وميدانه الذي طالما لعبت ورتعت في أرجائه». ومن تلك البلدة تطير إلى «طبرقة» في «فداء العندليب» وبداية تعرّفها على سلوك الأب ولحظات انطلاقه ومرحه، الذي وقفت ملياً تتأمله وتسعى لفهمه وفهم جيناتها الموروثة منه: «بل إنني ليتملكني أحياناً فخر بجريرتك تلك ولا ريب أنني أحمل في داخلي البعض من جنونك وعدم واقعيتك وهوسك بالكلمة والنغم وكل ما يلامس أوتار الوجدان».
ضد المقولات الجاهزة
وفي قصة طويلة العنوان «الزمان والرجال ما فيهمش أمان أو وجب التساؤل من جديد» تسعى الكاتبة لدحض المقولات الثابتة، والتي تندرج في قاموس الحكم الشعبية، وهي دعوة كي لا يستسلم القارىء إلى المقولات الجاهزة، دون أن يكون قد خبرها واختبرها بنفسه: «أرفض هذا المثل.. القمة في الانحطاط الأنثوي! الاستسلام والكراهية معا! يا له من خليط سام!»، حتى وإن تعرضت إلى هزة عنيفة في حياتها العاطفية: «تسللت يدك الحبيبة خلسة، تلك منبع ارتوائي واتزاني لتسدد لي ضربة قاضية من الخلف»، لكنها تصر على عدم الخضوع إلى تلك المقولات الثابتة. ومن عمق جرح الحبيب تخرج تلك الذات إلى الصداقة في قصة «زهيرات الحب والموت» وما يعتريها من تغييرات وتذبذب.
ناس وأماكن
وتسعى كوثر التابعي إلى تقديم بعض المعلومات والمعرفة إلى قارئها، بشكل سردي لافت، كما في قصة «فيكتور هيجو 2002»، وهي تلقي الضوء على حياته، وأفكاره، وقناعاته، واتساقه مع ذاته ككاتب وإنسان حتى النهاية، وهو الذي قال: «يمر الواحد منا ولا يبقى منه ولو طيف على الحائط»، لكنه رحل تاركاً الكثير والكثير للإنسان وللإنسانية: «رحل فيكتور هيجو وبقيت كلماته حية، إرثا للإنسانية جمعاء، وبلسما مطلق الصلوحية».
للأماكن حضور طاغ في قصص كوثر التابعي، كما للأسماء والشخصيات والأحداث، مثل: «قرطبة»، «بالارمو»، «مصر». كما تسعى إلى الخروج عن المألوف في علاقاتها بالإنسان والأشياء، ويظهر ذلك جلياً في قصصها: «بائعة المرطبات»، «سامحتك يا أبي»، «فاطمة»، و«الفتاة غادرت المرأة». وكلها قصص تبحث عن الكامن في الذات، والنائم في الذاكرة كلغمٍ في انتظار لمسة كي يصحو، ويصبح كامل الحضور والتأثير. وجاءت كلمة ظهر الغلاف إلى حد كبير معبرة عن تفاصيل داخلية، وذاتية، وسردية، وهو ما يقلق كوثر التابعي ويمنح مجموعتها عمقاً وجاذبية: «في هذه المجموعة تتبدى بوضوح ملامح مشروع الكاتبة وعلاقتها باللغة والحكاية، حيث لا تتقاطع المعاني وتتشابك كبؤر للدلالات لديها فقط بل تبدو كنداءات داخلية مُلحّة وحنين وتطهير وطقوس وعناق وشوق..».

Pictures%5C2010%5C05%5C01%5C5d3599dd-c54f-411a-8609-0bb8d0bd480e_main.jpg


الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ
إعداد: كمال أبو ديب
عن دار الساقي بالتعاون مع دار أوركس

سليم نكد

هذا هو العنوان على الغلاف الخارجيّ. أمّا في الداخل فيُضاف إليه: «في كتاب العظمة وفنّ السرد العربي»، ممّا يدفع القارئ إلى التساؤل: هل هي دراسة عامة عن «الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ» وفنّ السرد العربي؟ أو هي دراسة خاصة لكتاب «العظمة»؟ وما هو كتاب «العظمة»؟ ولماذا لم يُذكر على الغلاف إذا كان هو الموضوع الرئيسي؟

أسئلة يطرحها القارئ وهو ما يزال بين الغلاف والصفحة الأولى من الكتاب. فهل هو أسلوب من أساليب التشويق وإثارة الفضول انسجاماً مع مضمون «عجائبيّ» و«غرائبيّ»؟

لا يلبث القارئ أن يدرك أن الكتاب تحقيق لمخطوطة عنوانها «كتاب العظمة» تطبع للمرة الأولى وقد صدّرها المحقق د. كمال أبو ديب بمقدمة طويلة تحت عنوان «فاتحات» يتناول فيها فنّ السرد في «كتاب العظمة» وينسبه إلى الأدب العجائبيّ أو الغرائبي.

يعود القارئ الى التساؤل: أما كان من الأجدى والأقرب إلى المنطق أن يبدأ بوصف المخطوطة أولاً ثم يعرض مضمونها، ثم يثبتها كاملة محققة ويلحقها أخيراً بالدراسة التحليلية؟

وإذ نشارك «القارئ» تساؤلاته، نتّبع هذا التصميم في عرض الكتاب.

يذكر المحقق، د. أبو ديب أنه عثر على المخطوطة في أوائل السبعينات بالمصادفة وهو يراجع فهارس المخطوطات في مكتبة بودلي في جامعة أوكسفورد يحدوه هاجس الكشف عن آثار عربية مغمورة ومتميزة تبرز جوانب من الإبداعية العربية كثيراً ما أنكرها أو تجاهلها الباحثون عرباً وأجانب، وهي، إذا نُشرت، تصحّح النظرة الى التاريخ والتراث العربي وتملأ ما يُعتبر فراغات فيه.

لا تحمل المخطوطة اسم مؤلّف وينسبها بروكلمان خطأً إلى الإمام أبي حامد الغزالي، ذلك أن الأسلوب والمضمون الديني مختلفان كما يرى د. أبو ديب. والذي يزيد الأمور تعقيداً أن عدّة مخطوطات تحمل العنوان ذاته لمؤلفين مختلفين من بينهم ابن عربي والأصفهاني وابن أبي الدنيا وابو العبّاس الحميريّ القمّي الشيعيّ. وبعد تردد يرجح المحقق أن يكون هذا الأخير هو المؤلف.

لمحات

يدور الكتاب حول عظمة الله ووصف مخلوقاته في السماوات والأرض وما تحت الثرى من الملائكة ومختلف الخلائق، كما يصف النار المعدّة للكافرين والجنة المعدّة للصالحين. يذكر المؤلف أن الله نزّل على آدم بواسطة جبرائيل العلم الذي ذكره في كتابه المنزّل: «وعلّم آدم الأسماء كلّها»، فصوّر له ما كان وما هو كائن وما سيكون وذكر الطوفان وما يغرق من الأرض، فخشي آدم على العلم أن يذهب فكتبه على ألواح من طين وخبأها في مغارة يقال لها (المانعة) في جبل يقال له (المنديل) في سرنديب بالهند؛ والمغارة منغلقة لا تنفتح إلاّ مرةً في السنة في يوم عاشوراء. وردت الأخبار الى النبي دانيال فذهب الى المغارة مع عدد من تلامذته يوم عاشوراء مجهّزين بأدوات الكتابة ونقلوا جميع ما أرادوا ووضع دانيال هذا العلم على صحائف من نحاس، وبعد وفاته نشرها الله في الدنيا.

وفي سلسلة من الروايات المسنّدة الشبيهة باسانيد الأحاديث النبوية، يقول الحسن بن الحسن البصريّ: دخلتُ على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، فقال عثمان: سبحان من خلف الخلق ونشر الأمم في الأرض في البر والبحر والسهل والجبل... فقال عبد الله بن سلام (وهو حبر يهودي اعتنق الإسلام وأحد أركان رواية الحديث النبويّ): في كتاب «الدفائن» لدانيال ذكر لما خلق الله مما لا تدركه العقول وما لا يمكن وصفه، وما تقوله يا أمير المؤمنين عن هذه الدنيا، فما هي إلاّ كوكب صغير بين الكواكب في السماء. ويروي عبد الله بن سلام لأمير المؤمنين ما وجده في هذا الكتاب. من ذلك أن الله خلق المهوى وطوله ألف ألف ألف سنة وعلى جانب البحر عن يمينه ألف ألف ألف مدينة وعن شماله مثل ذلك، ولكل مدينة عشرون ألف مرج في كل مرج عشرون ألف روضة... فيهتف عثمان: لا إله إلاّ الله الملك القدوس. ويكمل الراوي وصفه لمخلوقات الله وعجائبها:أرض من حديد بينها وبين البحر مسيرة ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة، وقد ألان الحديد فيفلحون ويزرعون ويغرسون الأشجار التي تتخللها الأنهار، وعلى تلك الأشجار طيور كالجمال أرجلها مثل أرجل الطيور ووجوهها كوجوه الناس... وتستمر الأوصاف لمخلوقات بالغة الضخامة، مقاييس طولها وعرضها بآلاف آلاف السنوات.

من الأوصاف الرائعة والمريعة وصف جهنّم وما يقاسيه الهالكون من ألوان العذاب: «وجعل في جهنّم ألف ألف بحر الى تسعمائة ألف ألف بحر من النار، أمواجها تتلاطم، فيها الزبانية سود مثل الجبال، لكل واحد منهم ألف عنق، في كل عنق ألف رأس، في كل رأس ألف وجه، في كل وجه ألف فم، في كل فم ألسن وأنياب طول كل سنّ مسيرة خمسمائة فرسخ»...

ابداع ادبي

يقول د. أبو ديب: «بمثل هذا النص يحقّ للإبداعية العربيّة أن تنسب لنفسها في سياق التاريخ الأدبي الذي كانت تعيه، ابتكار فنّ أدبي جديد هو فنّ العجائبي والخوارقيّ، فنّ اللاّمحدود واللاّمألوف، فنّ الخيال المتجاوز الطليق وابتكار المتخيّل الذي لا تحدّه حدود». وفي مواضع اخرى من المقدمة: «هكذا يبتكر النص نهجاً بديعاً في التعامل مع المختلف، الخياليّ، اللامعقول، الجامح، المتجاوز حدود التاريخي والمعقول بترسيخه وتجذيره في التاريخيّ والمعقول»... «وقد يكون كتاب العظمة اول نصّ سرديّ ينجز هذا الإنجاز الفني العظيم...».

بهذا الاسلوب التحليلي والتذوقيّ الانفعالي الذي يتخذ احياناً لهجة سجالية، تستمر المقدمة من فاتحة الى فاتحة. انه موقف قارئ محلّل ومتذوق في آن واحد، مزهوّ باكتشافه أثراً هو من كنوز التراث العربي يعتبره نموذجاً للإبداعية العربية، وكأن هذا الموقف رد فعل على مواقف بعض المتكربين او الجاهلين او قاصري النظر من الدارسين العرب والاجانب. انه نموذج للنقد الحيّ الذي بتنا نفتقده اليوم في النقد الادبي الحديث المسكون بهاجس علمويّ إحصائي تشريحي وبموضوعية باردة يتناول الرائعة الفنية كما يتناول الملصقات الدعائية، والجسد النابض بالحياة كما يتناول الجثة الهامدة، وكأن كل الشأن في المنهج لا في ما يؤدّي اليه. ذلك ان النقد الصحيح، مهما استوحي من منهجيات العلوم، وأية درجة بلغ في طموحاته ومناحيه العلمية، يبقى في صميمه تفاعلاً حياً، لان الذوق والحدس أنفذ الى قلب الأثر الفني من ادوات المناهج مهما أُتقنتْ وترهّفت.

من أجل تصحيح النظرة الى التراث العربي يدعو د. أبو ديب الى «ضرورة إعادة تصوّر التاريخ الثقافي العربي من منظار داخلي: إلغاء مفهوم عصور الانحطاط الذي ابتكرته حساسية فنية وفكر سياسي سحقه الغرب بمعطياته... والتخلص من عقد النقص إزاء الغرب... ورفض صورة الحضارة العربية التي تقوم على معطيات التاريخ الرسمي للثقافة وعلى الكتابة البلاطية... فما سُميّ «عصور انحطاط» هي عصور تحرير الأدب من لصوقيته بالسلطة ودوراته في مدارها...».

انها دعوة جادة ومحقّة لكننا نتساءل كم عدد الآثار التي تتضمن هذه الصفات والعناصر الفنية التي تغيّر طابع عصور بأكملها وهو لم يذكر واحداً منها كمثل لما يدعو اليه؟ مع العلم ان «كتاب العظمة» الذي يدرسه وينطلق منه لهذه الدعوة لا ينتسب الى هذا العصر، بل الى القرن الرابع الهجري كما يقول. ويبدو ان الانفعال في بعض المواضع يطغى على النظرة التحليلية الهادئة، فتتكرر صفات تنسب الى النص بحماسة طاغية: المدهش، المذهل، الفاتن، الرائع، الساحر... وكان من الافضل، في رأينا، ان يُترك للقارئ مجال الاستنتاج والشعور بالإعجاب من خلال التحليل.

غير ان نتائج الانفعال والموقف السجاليّ تبدو اكثر ما تبدو في نسبة «كتاب العظمة» الى نوع أدبي معيّن يدعوه «الأدب العجائبي» او «الخوارقي» او «الغرائبي» باعتبار انها مترادفات او قريبة من الترادف، وهو يرى بالتالي ان العرب سبقوا الغرب الى هذا النوع الذي سمّوه Fantastique، والذي ينسب T.Todorav ظهوره الى القرن الثامن عشر الاوروبي. ينتقد د. أبو ديب هذا الرأي ويصفه مرة بأنه ادعاء عبثي (ص9) ومرة بأنها نسبة عشوائية ( ص18).

دلالات

إذا كانت تعابير «العجائبي» و«الغرائبي» و«الخوارقي» غير محددة تماماً في اللغة العربية فتستعمل كمترادفات وكمقابل للتعبير الاجنبي Fantastique، فليست الحال كذلك في الفكر النقديّ الغربي حيث التمييز دقيق بين: L’étrange, Le fantastique, Le merveilleux, La féerie، وإذا تشابهت دلالاتها في الاستعمال العاديّ فهي ليست كذلك في لغة النقد الادبي التي تجهد لتحديد الانواع تحديداً دقيقاً. فالآداب اليونانية والرومانية القديمة، والادب الاوروبي في العصور الوسطى زاخرة بالخوارق من آلهة وأنصاف آلهة وجنّ وعفاريت... ومع ذلك لم تعرف هذه العصور الأدب الـ fantastique بالمعنى الحصري، وكذلك الحال آثار Dante، Milton وشكسبير. ليس هذا موقف Todorov وحده بل معظم الباحثين في هذا المجال، نذكر منهم R.Caillois، إذ تلتقي آراؤهم حول شروط اساسية نوجز أهمها: ان الذي يحدّد الـ fantastique هو شعور التردد الذي يعانيه بطل القصة كما يعانيه القارئ أمام الأحداث بين التصديق والإنكار. فالتصديق التام والإنكار التام يخرجان النصّ من هذا النطاق؛ والذي يخلق موقف التردد هذا تماسك العالم الواقعي وخضوعه الصارم لقانون السببيّة، ثم تعرّضه المفاجئ للاهتزاز او الاختراق. لهذا يلاحظ ازدهاره في فترات الاكتشافات العلمية وتعاظم الثقة بقوانين العلم ومنجزاته كما كانت الحال في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الاوروبي، وقد بلغ الذروة في هذه المرحلة التاريخية مع Gogol و Poe و Hoffmannو Maupassant وسواهم.

من شروطه الاساسية كذلك خلوّه من الاجواء الإلهية والمشاعر الدينية والأساطير وحياة القديسين وعجائبهم وتجنب الوعظ والدروس الأخلاقية كما نلاحظ ذلك في آثار أعلامه.

وإذا كانت كل فترة حضارية (او بدائية) تنعكس في لون أدبيّ يمثل روحها فقد تمثلت المرحلة التالية، وما تزال، في نوع آخر هيأته تطورات اخرى للعلم ونظرة مختلفة اليه هو «الخيال العلمي» Science-fiction.

«كتاب العظمة» اذاً، رغم ما يتضمنه من خوارق ومدهشات، او بسبب ذلك، لا ينطبق عليه وصف Fantastique.
كيف يصنّف اذاً وما هو النوع الذي ينتسب اليه؟

إنه يلامس انواعاً ولا ينتسب الى نوع محدد. ينمو على أصول الكتب الدينية يستوحيها كما يحلو للمخيلة ان تنطلق وتبدع، كما يغتذي مما تنسجه المخيّلة الشعبية حول بعض القصائد والتعاليم. له نظائر في بعض أناشيد «كتب الأموات» في الحضارات القديمة، و «رؤيا يوحنا» في الاستيحاءات المسيحية. انها رؤى أخرويّة او اسكاتولوجية.

وصف الجنّة

تتجلى لوحة الجنة كأبهى ما تكون بأوصاف تتخطى كذلك كل تصور في حشد هائل لكل ألوان الجمالات والمتَع: «إن الله تعالى خلق الجنة تحت العرش عن يمينه، وعرْضها كعرض السماوات والأرض من الذهب الأحمر والفضة البيضاء والدرّ والجوهر واللؤلؤ والزمرد الأخضر، وجعل لها ثمانية أبواب من النور ومسامير من الدرّ وستور الأبواب من السندس الأخضر ومفاتيحها من الياقوت الأحمر... وتسمّى كل جنة باسم معلوم: الأول جنة النعيم، الثاني دار السلام، الثالث دار الخلد، الرابع الفردوس، الخامس دار الجلال، السادس جنة عدن، السابع الدار العليا. طول كلّ دار مسيرة تسعمائة ألف ألف ألف ألف ألف سنة... والسنة ثمانون شهراً والشهر ثمانون يوماً واليوم ثمانون ساعة والسنة الواحدة الف سنة من سنينا هذه... في كل جنّة خلق الله تعالى ثمانمائة الف مدينة، في كل مدينة ألف ألف قصر من الذهب الأحمر والدرّ والجوهر والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر... على كل سرير ألف ألف فراش من الحرير والسندس الأخضر... والفرش مفروشة بعضها فوق بعض، جالس على كلّ من تلك الفرش حورية من الحور العين عليها سبعون حلّة... يجري في كل بستان نهر من لبن ونهر من عسل ونهر من خمر لذّة للشاربين... فإذا دخل أهل الجنة الجنة افترقوا الى منازلهم فتستقبلهم الحور العين، كل إنسان تستقبله سبعون حوراء... فينظر وليّ الله الى ما أعدّ له من النعيم ويتعجب من الحور فيقول: لمن هؤلاء يا ربّ؟ فيقول الله تعالى: «يا عبدي ما ترى كلّهنّ أزواجك ونساؤك ولأجلك خلقتهنّ»... ويمضي الوصف على هذا المنوال الأسطوري الغرائبيّ في تجسيد المتع على اختلافها بأبهى الصور وأصعقها للحواس والمشاعر. ويخاطب الله عباده: «يا عبادي لا تشربوا من الحور العين فها أنا أسقيكم بيدي فاشكروا نعمتي وانظروا الى عظمتي».

16416_aladb-al3ajbae-cmyk_small.jpg


الجريده

كتاب
ذكريات مثيرة ووثائق نادرة! رجال في تاريخ الكويت في طبعة ثالثة

Pictures%5C2010%5C11%5C09%5C99044785-e20b-4e20-a39d-943d8101c7e8_main.jpg
غلاف الكتاب
حين تقلب صفحات الاصدار الجديد من الجزء الأول من «رجال في تاريخ الكويت» طبعته الثالثة للزميل يوسف الشهاب.. تشعر كأنك تتنقل بين زهور صديقة غناء عريقة التاريخ متعددة الزهور بألوانها واشكالها وروائحها الجميلة.. فالكتاب الذي يمثل جزءا مهمًّا من تاريخ الكويت يقدم لك - أطباقا - شهية من المعلومات التاريخية للكويت بأحداثها المختلفة ومواقف الرجال فيها الذين عاصروا هذه الأحداث أو كانوا شهودا عليها.. ويعطي أيضا للأجيال الحاضرة صورة لتلك الأزمان التي عاصرتها سبعة عشر شخصية تحدثت عن رحلة حياتها في 556 صفحة إلى جانب صور نادرة بلغت 294 صورة تاريخية، يطالعك أحمد زيد السرحان بتاريخ حياته الدراسية وتجارته وحكايته مع الكتلة الوطنية أو كتلة الشباب التي أُسّ.ست عام 1938.
ثم يأتي أحمد الخطيب يروي تاريخ دراسته حتى الجامعة الأميركية في بيروت والمواقف التي واجهها ثم انخراطه بالعمل كطبيب في المستشفى الأميري بعد تخرجه واستقالته إلى العمل الخاص في أول عيادة له - بالصالحية - وأما أحمد الغانم الجبر، فيتحدث للمؤلف عن حياته ومعركة الجهراء وعن رحلته إلى القاهرة ثم البحر التي استغرقت 12 يوما، ويطالعك خالد عبداللطيف الحمد بتاريخ حياته التجارية والمجلس التشريعي 1938، وأما جاسم القطامي فيروي للمؤلف حكاية مهرجان الوحدة بثانوية الشويخ ورفضه تقمع المظاهرات حين كان مديرا للشرطة وتقديم استقالته من الوظيفة والشيخ عبدالله الجابر يتحدث طويلا مع المؤلف عن جوانب من تاريخ الكويت ومواقعها الحربية وتاريخ التعليم وموقفه من تدخل الانكليز في شؤون التعليم بالكويت وقصة الوساطة التي قام بها بين عبدالناصر والاخوان عام 1953. ثم عبدالعزيز الصقر الذي يسلط الضوء على أحداث كثيرة من تاريخ الكويت الاقتصادي والسياسي ومفاوضاته مع اليابانيين ببناء أول ناقلة كويتية نفطية. ويأتي عبدالعزيز الراشد مقدما جانبا من تاريخ حياته وموقفه من صاحب الأمانة التي وضعت لديه، وعبدالله زكريا الانصاري يسدل الستار عن أول اضراب ضد تغيير مناهج الدراسة وبيت الكويت، ثم تأتي ذكريات الحديث عن المشاركة النفطية على لسان عبدالرحمن العتيقي مع حديث عن ذكريات حياته، وأما اللواء المتقاعد عبداللطيف الثويني فيروي للمؤلف تاريخ الشرطة والأمن بالكويت ويكشف عن أول اعدام نفذ بالرصاص بقصر نايف والكتاب تتضمن صفحاته جزءا عن حياة محمد يوسف المضف وضريبة الجمارك ودوره في مشاركته في أول وزارة بالكويت عيد الاستقلال.
وفي الجزء الخاص في محمد أحمد الغانم يروي فيه قصة وثيقة المجلس التشريعي التي كانت معه خلال أحداث وعن مواقفه وذكرياته في لبنان حين كان سفيرا فيها يتحدث محمد يوسف العدساني عن محاولات اغتياله واحتلال السفارة الكويتية ويختتم المؤلف يوسف الشهاب كتابه الوثائقي في لقاء مع مهلهل المضف الذي يتحدث هو الآخر عن حياته ودراسته ودخوله الحياة الدبلوماسية.. والكتاب مزود بصور نادرة تعود بالقارئ إلى الماضي، وهو كتاب وثائقي تاريخي يحتاجه كل باحث ودارس ومكتبة كويتية.


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 16-12-2010، الساعة 09:50 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
13-11-2010, 07:33 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

نوادر الكتب في طبعة جديدة أمير الشعراء شوقي كما رآه أمير البيان شكيب أرسلان
Pictures%5C2008%5C01%5C01%5Cd9ba7088-b153-472d-97ef-4e6eb84fe550_main.jpg
نسخة نادرة
'شوقي او صداقة اربعين سنة' عنوان كتاب للامير شكيب ارسلان صدر لاول مرة قبل ثلاثة وسبعين سنة من اليوم، اي بعد وفاة امير الشعراء شوقي عام 1933 بسنتين. والعنوان يشي بمضمونه، فهو يروي سيرة الصداقة التي ربطت بين شكيب وشوقي، كما يحمل تقييما وافيا له، لان الامير شكيب كان مثقفا وباحثا كبيرا في آن. والكتاب كان مفقودا من المكتبات منذ سنوات طويلة الى ان اعادت احدى دور النشر المصرية، وهي دار الفضيلة، اصداره من جديد في باب 'نوادر الكتب' اخيرا، وهو فعلا كذلك. كما ان الكتاب يمثل لا مجرد شهادة يعتد بها، بل وثيقة من الوثائق الادبية والتاريخية تتصل بمرحلة كما تتصل بشاعر ولا كالشعراء. فهو اميرهم، كما هو علامة فارقة في تطور الشعر العربي المعاصر من حال الى حال.
في بداية كتابه يروي شكيب كيف التقى لاول مرة بشوقي في باريس: كنت اسمع بشوقي واعجب بشعره قبل ان التقي به، وبقيت لا اعرفه معرفة شخصية الى سنة 1892 اذ ذهبت من الاستانة الى فرنسا قاصدا السياحة ومستشفيا من مرض طرأ علي.
وكان احمد شوقي يددرس علم الحقوق في مونبلييه وفي اثناء العطلة المدرسية جاء الى باريس ومعه رفيق اسمه دلاور. فبينما نحن في الحي اللاتيني اذ جمعتنا الاقدار، وما عدت اتذكر كيفية اجتماعنا وتعارف بعضنا الى بعض. ولكن لم نجتمع حتى صرنا كأخوين، وغدونا نجتمع كل يوم مرة بل مرتين واكثر. وتلاقينا كان في مقهى يقال له مقهى داركور. ومن غريب الاتفاقات اننا في سنة 1926 تلاقينا انا وشوقي في باريس. جاء فسلم علي في فندق ماجستيك، فذهبت ارد له السلام في فندق كان نازلا به في الحي اللاتيني. فسألت عنه فقيل انه خرج الى النزهة، واذا بهذا الاوتيل على مسافة مائة متر من مقهى داركور، واذا بشوقي جالسا هناك ومعه مطربه محمد عبدالوهاب، فجلست اليهما واخذت اتأمل في دوران الدهر ورد العجز على الصدر. فقد كنت اول مرة عرفت فيها شوقي اجلس واياه في هذا المقهى نفسه، ومضى على ذلك ستة وثلاثون حولا ولم نجتمع في باريس، فلما اجتمعنا اذا بنا من دون تعمد في هذا المقهى ايضا.
شكيب ارسلان هو الذي اقترح على شوقي ان يسمي ديوانه 'بالشوقيات'. وفي الطبعة الاولى من هذا الديوان، وقد صدرت سنة 1898، ذكر شوقي هذه الحكاية فقال: 'جمعتني باريس في ايام الصبا بالامير شكيب ارسلان، وانا يومئذ في طلب العلم، والامير، حفظه الله، في التماس الشفاء، فانعقدت بيننا الألفة بلا كلفة، وكنت في اول عهدي بنظم القصائد الكبر، وكان الامير يقرأ ما يرد اليه منها منشورا في صحف مصر، فتمنى ان تكون لي يوما مجموعة، ثم تمنى علي اذا هي ظهرت ان اسميها 'الشوقيات'، ثم انقضت تلك المدة فكأنها حلم في الكرى او خلسة المختلس'.
كما قلت:
صحبت شكيبا برهة لم يفز بها
سواي على ان الصحاب كثير
حرصت عليها آنة ثم آنة
كما ضن بالماس الكريم خبير
فلما تساقينا الوفاء وتم لي
وداد على كل الوداد امير
تفرق جسمي في البلاد وجسمه
ولم يفرق خاطر وضمير
ويقول شكيب ان شوقي صدق في هذه الابيات واحسن ما حكى الحال 'فقد كرعنا من الوفاء بنمير، وتفارقنا ولم يتفارق خاطر وضمير، وبقيت اكتب له ويكتب لي، وابثه ما في نفسي ويبثني ما في نفسه، واداعبه ويداعبني، ونتناجى على بعد الديار، ونتراءى بالقلوب لا بالابصار.
ويضيف شكيب: وكنت احبه لعذوبة اخلاقه وحسن معاشرته واجله لعلو فكره وبداعة شعره، واجمع فيه بين الحب والحرمة، وما اسعد الانسان اذا كان يحب من يحترم ويحترم من يحب، وما اصدق قول المتنبي:
ضروب الناس عشاق ضروبا
فأعذرهم اشفهم حبيبا
ويروي شكيب انه التقى بشوقي لآخر مرة في السويس قبل وفاة شوقي بقليل، اتى شوقي من القاهرة الى السويس خصيصا للقاء شكيب (وكانت واأسفاه الملاقاة الأخيرة بيننا)، لحظت عليه آثار الضعف بادية وكأنما كان اكبر من سنه بعشر سنوات على الاقل.
وعجبت من ان تنال الشيخوخة منه هذا النيل وبين الاخوان الذين كانوا قد اجتمعوا هناك من هم اعلى سنا بكثير ولم يتقوس لهم ظهر، ولم يتغضن لهم جبين، ولم يأخذ منهم الدهر ما أخذ من شوقي، فشعرت في نفسي بالخوف على صحته ورأيته قد سبق سنه بمسافة طويلة، فبعد ان تفارقنا كنت لا ازال اترقب اخبار صحته، واتمنى لو يأتي الى سويسرا فأشاهده، وما زلت اتحسر على تلك الفرقة وانشد قول عباس ابن الاحنف:
سبحان رب العلى ما كان اغفلني
عما رمتني به الايام والزمن
من لم يذق فرقة الاحباب ثم يرى
آثارهم بعدهم لم يدر ما الحزن!
يدافع شكيب ارسلان دفاعا حارا عن شوقي في كتابه، فهو يرى انه اعظم الشعراء واعظم الناثرين معا، يخالفه في ذلك، كما يقول الشيخ ابراهيم اليازجي الذي عقد في مجلته البيان فصلا حول رواية شوقي 'عذراء الهند'، قال فيه: 'كيف يرضى انسان بعد ان يكون في الشعر هو الاول، ان يكون في النثر هو الاخير'.
وقد هب شكيب للدفاع عن شوقي، معتبرا ان اليازجي قد ظلمه.
'فشوقي شاعر كامل الادوات وكان ريان من العربية الفصحى، وكانت لغته متساوية مع فكرته، فاذا سألت عليه شعاب الفكر، جاء بكل لفظ فحل ومعنى بكر، وحاط كلامه من قرنه الى قدمه بنحو راسخ ولغة تبعد عنها الركاكة فراسخ، ولكن المشكلة في اليازجي، فقد كان مولعا بالتعنت، متهافتا على التنقص، لا يتردد عن تحجير الواسع مهما اتسع، وكان اذا لم يطلع على مسألة من المسائل نفاها عن العربية، وان لم يجد في المعاجم المعروفة بين ايدينا لفظا من الالفاظ أسجل بانه ليس بعربي'.
وشوقي عند شكيب شاعر مطبوع رأى فيه الشاعرية بجميع شروطها: 'النسج الرقيق المتين والاسلوب الرشيق الرصين: اللغة العربية الفصحى التي لا تؤتى من جهته والمعنى المتناهي في الدقة، اللابس من اللفظ اجمل حلة، والانسجام المطرد من الاول الى الآخر في سكب واحد، وسبك متوارد'.
ويضيف: ان شوقي وان اسرف في المديح، وفي مديح امير بلاده خاصة، فلم يلوث شعره بالهجاء، ولم اسمع له قصيدة يهجو بها احدا، وقد عصمه الله من ذلك، فان من اقبح ما قبح سمعة الشعراء وجعل الخلق ينظرون اليهم بشيء من الريبة، ان كثيرا منهم رتعوا في لحوم الناس، وسيروا المثالب التي قد تكون بلا اصل، او يكون لها اصل ضعيف.
ولكن الناس حفظوها وتدارسوها لبراعة قوالبها خلفا عن سلف، حتى انتهى الامر بان صدقوا فحواها وصارت في نظرهم وقائع تاريخية، فلو كان شوقي شتاما مقذعا مع ما اوتي من الاجادة لكان ثلم اعراضا، وخلد مقابح، واورث احقادا، وقيد فضائح، كان هجا نفسه بهجوه لغيره، فعفة لسان شوقي وتنكبه طريقا طالما سلكها شعراء كبار وصغار ومتوسطون، هذا دليل على ذكاء طبعه وفرط حيائه، وايضا على رجاحة عقله وأصالة رأيه. فكم أحدث الشعر من فتنة، وأراق من دم، واحرج من جماعة، وحرم العالم من نعمة. وأي نعمة كانت اعظم من شعر المتنبي الذي كانت حياته كلها اقوالا عبقرية آخذا بعضها برقاب بعض. ولكنه رغم جميع حكمه الاجتماعية وآرائه الفلسفية، لم ينتبه الى ما للهجو من الاستهداف للمقت والتعرض للهلكة، فقال من الاقوال الصغار ما يخالف تلك الحكم التي تفرد بها، وأسف في الهجو إسفافا يحار العقل في صدوره من مثله، وانتهى بأن ذهب فريسة اقذاعه.
اما شوقي فكان عفا طاهر اللفظ صافي النفس تنعكس على مرآة نفسه النقية المحاسن دون القبائح. وكان لا يسلم من الحسد والمنافسة، ومثله من يحسد ويغص بمكانه، ولكنه كان يمر باللغو كريما، وبالحسد عظيما، وكأنه كان يرى نفسه فوق ان يزاحم، ويجد شوطه ابعد من ان يسابق، فيعف عن قدرة، ويتواضع عن أنفة.
وقد كان يتجنب ايضا المساجلات والمناقشات في شعره فلا يهاجم ولا يهاجم. وربما نيل منه في غيابه، ولكنه كان يقابل بالسكوت. ولعل سكوته هو لما تقدم من ثقته بنفسه، وشعوره بأنه الصخرة التي ينحط عنها السيل.
إن قارئ كتاب الامير شكيب قد يلحظ فيه عبارات لم تعد مألوفة اليوم. فلغته لغة عربية متينة، كانت سائدة في الربع الأول من القرن العشرين، ولكن هذه اللغة تراجعت اليوم لمصلحة لغة عربية عصرية، حافظت على اسس الصرف والنحو، ولكنها انفتحت على العامية وعلى الاجنبية. وبذلك اختلفت الى حد بعيد عن اللغة التي كتب بها شكيب كتابه عن شوقي في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. لكن كتاب شكيب لايزال صالحا لإعادة رسم صورة عن شوقي في عصره وبعيون معاصريه من كبار الادباء.
وهو بلا شك يؤلف وثيقة اجتماعية وتاريخية شديدة الاهمية لدراسة بيئة ومجتمع مصر والبلاد العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
جهاد فاضل

Pictures%5C2008%5C01%5C01%5C2e457cc6-ec01-414a-b732-f5860771d146_maincategory.jpg
..وطبعة جديدة


القبس

كتاب أورويل ساعده على صياغة موقفه من المسألة جلال أمين يحاول فك لغز التقدم والتأخر.

Pictures%5C2008%5C01%5C08%5C5a2f31f1-82e8-41f0-86c0-08492a519a26_main.jpg


ولم يمض وقت طويل حتى وجدنا أن القوى التي حررت شعوب شرق أوروبا والبلقان من القبضة الخانقة للدولة اللينينية هي نفسها القوى التي تساند برامج تجويع الجماهير وتفتيت الأمم وتمكين قوى الهدم والتخريب والتناحر في البلقان والشرق الأوسط وآسيا المسلمة.
كل هذه التطورات جعلتني أعيد التفكير في فكرة التقدم التي بدت يقال إنها مسيحية في أساسها. وبدا لي أن الإسلام سد النقص الذي عانى منه الفكر الإنساني السابق على البعثة المحمدية بخصوص فكرة التقدم أو سعي الإنسان إلى الارتقاء بحياته، عندما حذر الإنسان من الانسياق وراء أوهام لن تجعله 'يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا'. وعندما حذر من أنه إذا أخذت الأرض زينتها وظن أهلها أنهم قادرون عليها، كان ذلك إيذانا بنهاية الحضارة البشرية، بأمر إلهي.
وهكذا بدأت أفكر في التقدم ليس باعتباره تحقيق الأفضل أو الارتقاء بالحياة، في المطلق، بل باعتباره مواكبة التغيرات التي تطرأ على حياة كل جيل، وهي تغيرات يحتمها الجهد البشري المتواصل لإحكام السيطرة على الطبيعة والذي وصل إلى منافسة الطبيعة والاستعلاء عليها.
فالإنسان اليوم يستعلي على الدواب بالقطارات والسيارات وعلى الطيور بالطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية. ويستعلي بكل هذه المخترعات وبغيرها على قيود الزمان والمكان والجاذبية. كما يستعلي بالمواد المصنعة على المواد الطبيعية من طعام وملابس وأدوية.
هذه بعض مظاهر 'التقدم' وهي مفيدة وضارة. تحقق للإنسان الكثير من المنافع وتجلب عليه الكثير من الأمراض الجسمية والنفسية. لكن رفضها يعني 'التخلف' عن العصر بخيره وشره.
ويمكننا أن نقول الأمر ذاته عن منجزات التقدم في المجالات الإبداعية (الرواية، الشعر، المسرح، السينما، التلفزة، الرسم، النحت.. الخ) (فمفاهيم الإبداع اليوم تقدم لقارئ هذا العصر ما هو نتاج عصره، وما يساعده على التعامل مع هذا العصر قبولا أو رفضا، تثبيتا أو تغييرا، أما مفاهيم الإبداع القديمة فلا تفعل ذلك.
ويعد الموقف الإسلامي العام من رواية سلمان رشدي 'آيات شيطانية' تعبيرا عن رفض لمفاهيم الإبداع المقبولة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وهو الرفض الذي دفعت ثمنه جمهورية إيران الإسلامية عندما حملت لواءه نهاية الثمانينات. وبوسع المرء أن يقول إن رفض رواية سلمان رشدي، بالأسلوب الذي عبرنا به كمسلمين عن هذا الرفض، ساعد على تهيئة الأجواء الكارهة للإسلام والمسلمين في الغرب والتي لم تكن، حتى هذه اللحظة إلا ستار دخان يخفي أمورا لا علاقة لها بالأديان والأعراق ولا علاقة لها بالإبداع، فهي أمور عسكرية وسياسية تتصل بما يسمى 'النهب الإمبريالي لثروات أمم الشرق'.
وحادثة تفجير تمثالي بوذا في أفغانستان دليل آخر على تفاوت كبير بين فهم ? شرقي مسلم ? للإبداع ورموزه، وفهم آخر غربي مسيحي ? يهودي.
هل يجوز لنا أن نسأل أي الفهمين أفضل؟ بالقطع، لا. ولكن هذا التفاوت في الفهم يجعل التواصل صعبا. وعلى كل أمة أن تجري حساباتها لتوازن بين اعتبارات الحفاظ على الأصالة واعتبارات الحاجة إلى التواصل مع الآخرين.
ظننت أن جلال أمين سيقول كلاما مثل هذا في كتابه " خرافة التقدم والتأخر" وأني سأجد في كتابه هذا تأصيلا للموقف الذي أشرت إليه.
لكني فوجئت به يرفض، في الكتاب، فكرة أن يكون هناك تقدم أو تأخر يلمح إلى أن القبول بالتقدم، وهو مطروح علينا اليوم في صيغة ولدت في أوروبا الغربية وتطورت في أميركا الشمالية، لن يكون أفضل من صفقة الدكتور فاوست الذي باع روحه للشيطان مقابل ملذات جسمية وعقلية.
ورغم أن الدكتور أمين يشير إلى أكثر من عمل علمي وأدبي ساعد على تبلور هذه المواقف الرافضة للتقدم في ذهنه، فإني أحسب أن الكتاب الذي أثر في صياغته للموضوع هو 1984 الرواية التي ألفها جورج أورويل، والتي قرأها جلال أمين لأول مرة عقب هزيمة العرب في 1976 وما كشفته من أكاذيب الإعلام العربي الرسمي بل وأكاذيب النظم الحاكمة.
ثم أعاد قراءتها عام 1990 عقب هجوم صدام حسين على الكويت لأنه يعلم، حتى من قبل ذلك الهجوم، أن صدام سياسي كذاب وان مبرراته للهجوم على أشقائه كاذبة ومصطنعة وأنه ليس إلا عميلا أميركيا ? إسرائيليا.
ومرة ثالثة، يعيد د. أمين قراءتها عقب الهجوم على نيويورك وواشنطن في سبتمبر2001 لعجزه عن التصديق بأن مجموعة من الإرهابيين العرب أو المسلمين خططت ونفذت هذا الهجوم من أجل رفعة الإسلام ومن أجل الانتقام من الولايات المتحدة وإسرائيل.
في هذه الرواية، رواية 1984 نكتشف أن المجتمع الذي يدعي انه وصل ذروة التقدم هو في الحقيقة واقع في وهدة التخلف. وان دعاة الرحمة هم جلادون قساة وأن دعاة الفضيلة وحراسها هم زباينة الرذيلة.
والإطار العام للرواية يدفع إلى الاعتقاد بأن استكمال الدولة الحديث لأدوات الحداثة يجعلها وحشا خرافيا يلتهم البشر ويجعل الحداثة أو التقدم كابوسا مرعبا.
لكن، أليس ممكنا أن نبرئ الحداثة من ذنوب الحداثيين كما برأنا المسيحية من ذنوب المسيحيين والإسلام من ذنوب المسلمين؟
وهل يمكن أن نعالج أمراض الحداثة بأدوية من القرون الوسطى أو ما قبلها؟ أم يتعين علينا أن نعالج الحداثة بالحداثة؟
قلت إن كتاب اورويل هو الذي ساعد جلال أمين على 'صياغة' موقفه من التقدم والتأخر.
القراءات زودته بالشكل أو بالغلاف أما المحتوى أو الجوهر فقد يكون له مصدر آخر نابع من تربيته في بيت أحد الثقات في دراسة الحضارة الإسلامية، ودخوله مرحلة الشباب والرجولة مع الوثبة الناصرية التي لم تثق أبدا في الغرب، وإن ظلت، مثلها مثل جلال أمين، من البداية للنهاية تشك فيه ولا تقدر على الطلاق منه. وها هي الوثبة التي انتهت بالنكسة امتزجت فيها رؤى التقدم بدعوى التخلف وسيطرت على الأجواء البارانويا التي تفسر كل ما يجري بمؤامرات تحاك في الخفاء.
أسامة الغزولي
قبل أن تقع عيناي على كتاب 'خرافة التقدم والتأخر' الذي كتبه الدكتور جلال أمين، بعدة سنوات كنت قد بدأت أشك في فكرة التقدم.
فبعد سقوط النظام السوفيتي في نهاية التسعينات وانحسار الظل الروسي الطويل والعريض عن بلدان أسيرة كثيرة، أصبحت القوى التي درج العالم على وصفها بأنها 'تقدمية' منذ العقد الثاني للقرن العشرين، تلعب دورا رجعيا يحاول أن يمنع الشعوب من الإفلات من قبضة الكرملين وتوابعه، فيما برزت القوى الموسومة بالرجعية كلاعب أساسي في تحرير هذه الشعوب وإطلاق طاقاتها، كما قيل آنذاك.


القبس

دراسة عن فن الفكاهة في الأدب العربي
الذهنية العربية ظلمت الأعراب لأن القرآن وصمهم بالكفر والنفاق!

عرف الأدب العرب طيلة عصوره فن النوادر والملح، كما عرف العرب كثيرا من الظرفاء وأصحاب اللطائف الساخرين، وربما كان جحا وأشعب وغيرهما من أشهر أبطال هذه القصص والمرويات المتواترة في تاريخ الأدب تحت مسمى النوادر، لكن أن تكون النادرة مفتاحا لدراسة اجتماعية وافية عن جماعة بشرية كاملة، فهذا ما سعى إليه الباحث الأكاديمي د. أحمد عبد التواب في كتابه الصادر أخيراً عن سلسلة التراث في الهيئة المصرية للكتاب تحت عنوان «نوادر الأعراب»، وكما هو واضح من العنوان، فإن الباحث اختار لمادته حكايات ومرويات جماعة من البشر عرفوا على مدى التاريخ بارتباطهم بالبادية أو الصحراء، وما بها من ظروف بيئية أصلت بداخلهم ثقافة إنسانية تتسم بالبخل والطمع حد الشره، والمباشرة والوضوح حد الفظاظة أو الجلافة، لكن هذا لا يمنع من أنهم كأي جماعة بشرية أخرى يتمتعون بالحيل والذكاء والفطنة والعلم ببعض الأمور والجهل التام ببعضها والخلط أحياناً بين هذا وذاك، وهذا ما أبرزته النوادر التي جمعها من بطون كتب التراث وفي مقدمتها الأغاني للأصفهاني والأمالي للقالي وجمع الجواهر للقيرواني، والحيوان للجاحظ، وزهر الآداب للقيرواني والعقد الفريد لابن عبد ربه وعيون الأخبار لابن قتيبه وغيرها.

ويأتي الكتاب في أربعمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير على هيئة ثلاثة أبواب الأول رصد فيه حياة الأعراب ومعنى كلمة عرب في قواميس اللغة والفرق بين العرب والأعراب، وبين الأعراب المقيمين والأعراب شبه المقيمين والأعراب الرحل، والخلط التاريخي في مفهوم الأعراب، وكيف كان يطلق هذا المصطلح قبل الإسلام على كل سكان الجزيرة، ثم حدد بعد الإسلام بأهل الوبر في مقابل أهل المدر قاطني القرى والمدن، ثم استثنى منهم رسول الله القائمين على حواف المدينة أو ما شابهها، إذ أنهم اكتسبوا أخلاق المدر وتعاملاتهم، ومن ثم نشأ التقسيم بين الأعراب المقيمين ذوي الحضارة، ثم شبه المقيمين، وهم رعاة الأغنام على هوامش المدن، ثم رعاة الإبل وهؤلاء مرتحلون طيلة العام حسب وجود المرعى، وأظهر الباحث أن هذا التقسيم لا ينطبق على قبيلة بكاملها، فقد يكون بطن منها مستقرا وآخر مرتحلاً وثالث شبه مرتحل، كما رصد من حيث اللغة كلمة ندر التي جاءت منها النادرة وتعني تغير الحال المفاجئ كالجلوس من القيام أو السير فجأة أو العكس، ومعنى الندرة قلة التكرار، ومن ثم فالأمر يحمل معنى الدهشة والمباغتة التي يستحملها العقل، لكن النادرة ليس شرطاً لها أن تأتي من قول لبق أو إجابة سديدة أو فعل عظيم، لأنها من المفارقة غير المتوقعة التي تكمن في القول الحسن، كما في غير الحسن.
أنواع النوادر
وقدم عبد التواب بابه الثاني عن النوادر التي قسمها إلى خلقية ( الجهل، الجفاء، الاعتبار والتذكر ) وسياسية (مواقف الأعراب بالخلفاء والأمراء والشرفاء ) واجتماعية (الطعام، الزواج، البخل والكرم)، وعقلية (الذكاء،حسن التخلص)، وقام الباب الثالث على دراسة أسلوبية لفن النوادر قدم فيه عبدالتواب رصداً تحليلياً لقالب وشكل النادرة وأنواعها، كما رصد طرائق بناء الصورة في النادرة بدءاً من التشبيه، مروراً بالاستعارة والكناية وانتهاءً بالجناس والطباق.
ورغم أن الباحث قدم من خلال دراسته ما يفيد أن النادرة واحدة من الفنون القولية المهمة لدى العرب، إذ توافر لها شرط الانتشار والتعاقب والتطور والاختصاص بظواهر أسلوبية واضحة، كما قدم تحليلاً اجتماعياً مهما لقطاع واسع من طبقات المجتمع العربي، هذا التحليل الذي يمكننا أن ندخله ضمن إطار الدراسات الاجتماعية عما يسمى بثقافة الفقر، غير أنه على رغم أهمية هاتين الإضافتين أخذ انحيازاً مسبقاً من الطبقة الاجتماعية التي يقوم بدراستها، ربما لأنه اتخذ وجهة نظر الرواة في كتب التراث، هذه التي قد يكون بها بعض المبالغة الفنية في كثير من الأحيان.
أشد كفرا..
ولعل انتشار النوادر عن جهل الأعراب وحماقتهم وعدم معرفتهم بالدين وآداب اللياقة مع الملوك أو احترام الذوق العام يرجع إلى أن القرآن قال عنهم «الأعراب أشد كفراً ونفاقاً»، فقد أصبحت الذهنية العربية مؤهلة لسماع ما هو غريب ونادر عن هؤلاء الذين لا خلاق لهم، ولعبت المفارقة الفنية لدى الرواة دورها في تعميق الفكرة الدينية المسبقة عنهم، كما أن الرواة في أغلبهم كانوا من أهل الحضر لا البداوة، وهؤلاء ليس من عنايتهم البحث في أسباب الظاهرة وانتشارها بقدر عنايتهم بالتأكيد على الفارق الحضاري بين أهل المدن وأهل البادية بما لديهم من سلوك غير متمدن، ومن ثم فقد وقع الباحث في التناقض آن تحليله للعقلية الأعرابية من خلال ما تواتر عنهم من نوادر في كتب الأدب، فوجدناه يفسر النادرة في موضع على أنها حمق وجهل وجفوة وعدم معرفة بالدين ثم يفسرها في موضع آخر على أنها ذكاء وكياسة وحسن خروج من الموقف من ذلك ما قاله الأعرابي حين أصاب الجدب بلاده فأنشأ يقول «رب العباد ما لنا ومالك، قد كنت تسقينا فما بدالك، أنزل علينا الغيث لا أبالك» فحين سمع سليمان ابن عبد الملك ذلك لم يجد سوى أن يخرج الأعرابي من المأزق قائلاً «أشهد أنه لا أبا له، ولا ولد ولا صاحبة، وأشهد أن الخلق جميعاً عباده» ولعل سليمان لم يخرج الرجل من مأزق الجهل أو الاتهام بالزندقة، ولكنه كان أفهم إلى طبيعة الرجل وما به من سذاجة وما لديه من إيمان العوام، ولو كان هذا الأمر منسحب على عامة الأعراب، ما وجدنا النادرة التي تقول إن أعرابياً سطا عليه بعض اللصوص، فذهب شاكياً إلى الخليفة، لكن الحجاب والأعوان رفضوا دخوله عليه، وسألوه من أنت كي ندخلك عليه فقال لهم أنا رجل لي ما ليس لله، وعندي ما ليس عند الله، وأهرب من رحمة الله، وأحب الفتن وأبغض الحق وأشهد بما لا أرى. فدخل الأعوان فأخبروا الخليفة بزندقته، فتعجب وقال ائتوني بهذا الغمر كي أسمع كفره من فمه وأعاقبه، فأتوا به فسأله أأنت القائل ان لك ما ليس لله، ولله ما في السماوات والأرض فكيف تدعي ذلك يا جاهل؟ فقال الأعرابي نعم أنا قائل ذلك، فأنا لي زوجة وبنين، وليس لله شيء مــن ذلك، فقال الخليفة أنت القائل ان عندك ما ليس عند الله؟ فقال نعم عندي الكذب والخديعة وما عند الله شيء من هذا، فقال الخليفة أأنت القائل أنك تهرب من رحمة الله؟ فقال نعم أهرب من المطر وهو من مراحم الله، فقال الخليفة وكيف تحب الفتنة يا شقي؟ قال الأعرابي المال والبنون وهما أشد فتنة، قال الخليفة وأنت تبغض الحق؟ قال نعم أبغض الموت وهو حق على كل حي، فسأله الخليفة وأنت القائل انك تشهد بما لا ترى؟ قال نعم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم أر أحداً منهما. فسر به الخليفة وحصَّل له ما سلبه اللصوص وقربه إليه. فهذه النادرة تبرز فهم الأعراب ولباقتهم وحيلهم وبساطة تعاملهم المادي مع الأشياء، لكن الذائقة العربية أبت أن تتعامل مع الأعراب إلا على أنهم في درجة أقل من السلم الحضاري، وذوي طباع تستحق التندر بها، خاصة في مسألتي الدين والطعام.
نوادر الأعرب
وقد ساق الباحث في كتابه العديد من النوادر عن الأعراب الذين رفضوا طعام الملوك، والأعراب الذين أظهروا كرماً فائقاً حين نزل الملوك عليهم، حتى انه قال ان الأعراب يحبون أن يكرموا الأمراء كما يكرمونهم، ولعل الكرم في الطعام يعود إلى طبائع الحياة في الصحراء والتحايل على قسوتها، ومن ثم فالأعراب يبكرون بالغداء حتى إذا نزلوا على غيرهم لم يتعجلوا الطعام، وإذا أكلوا لا يكبهم الجوع على وجوههم، أما أن يكون هناك استثناء لغير هذه العادات، فذلك من طبائع الأمور، والنادرة لا تهتم إلا بكل ما هو شاذ ومختلف ومفارق، أما عدم التزامهم بالسلوك المعتاد لدى المدنيين، فذلك لأنهم أبناء بيئة ومكان مختلفين، ولعل أبرز هذه الاختلافات مسألة التعلم والارتباط بالدين، وهذه ظهرت بجلاء في نوادر الأعراب، ربما لأن أغلبهم أميون، وأسلموا بالسماع وليس على أيدي فقهاء، ولم يختلفوا إلى حلقات علم أو مجالس علماء، ولكن أخذهم الترحال خلف الرعي من مكان لآخر، ومن ثم كان إيمانهم إيمانا قلبيا لا حرفيا، وكثيراً ما اختلطت لديهم الحكمة بالقرآن والآحاديث النبوية، ربما لأن كلا منهما يحض على الخير ومنفعة الناس، كما أن الإسلام لم يلزم كل مسلم بحفظ القرآن كاملاً، لكن لأن هذا مناط ضعف واضح في حياة الأعراب، فقد كثرت النوادر عن ذلك، حتى ان الكثير منها يمكننا الشك أن يكون من باب الزيادة عليهم، لأن أخبارهم في هذا الشأن يتوقف المدنيون إلى سماعها والأمراء إلى معرفتها، فلا يمكننا أن نصدق أن مسلماً عاقلاً يبتدئ وضوءه بغسل الكفين والوجه ثم يستنجي، وحين يسأل عن ذلك فيقول انه ليس من المعقول أن يبدأ بالخبيثة ثم الكريمة، وسبب آخر يمكننا أن نلحظه في نسبة أغلب هذه النوادر وما بها من حمق إلى الأعراب، وهو السبب نفسه الذي عن طريقه نسب الكثير منها إلى جحا وأشعب وأبي الشمقمق وغيرهم من مشاهير أصحاب النوادر، وهو الاتفاق المسبق أو اليقين المسبق بإمكانية أن يفعل الأعراب أو جحا مثل هذا الفعل، ولدى أغلب الشعوب جماعات بشرية تنسب إلى نوادر الحمق لا لشيء سوى أنها أقل في السلم الحضاري، وعادة ما يكون بينها وبين آخرين نوع من المنافسة أو الصراع، ومن ثم فمتلقي النادرة في حالة نفسية مؤهلة مسبقاً بتلقي الطرفة الساخرة، قد أبرز الباحث جانبا من هذه العوامل المساعدة على وجود النوادر، خاصة في الفصل المعني بنوادر الأعراب مع الخلفاء والأمراء، وأوضح أن بعض النوادر ـ وكان فيها الأعرابي أكثر كياسة وذكاء من الخليفة ـ وضعت في زمن العباسيين للنيل من الأمويين.
دراسة جادة
ويمكننا القول في النهاية ان هذه واحدة من الدراسات الجادة التي جمعت بين الأدب والعلوم الاجتماعية، وأن الباحث يمكنه أن يتعرض لمجتمعاتنا الراهنة، فيدرس ما لديها من طرف ونوادر، وربما يستطيع بمنهجيته البحثية بين الأدب وعلم الاجتماع أن يصل إلى نتائج مهمة تتفهم نفسية وتفكير الجماعة العربية، خاصة أن الأدب الشفاهي أكثر تعبيراً ومعرفة عن الجماعة البشرية من الأدب الرسمي أو المكتوب.
صبحي موسى

القبس

قصة مدينة مختفية البطالمة «تألهوا» وشيدوا «الجنة» فانعزلوا عن مصر!

ليست الاسكندرية اقدم مدن العالم، لكنها قد تكون اكثر المدن التي شهدت عددا من الحضارات المهمة في تاريخ البشرية، بدءا من الفرعونية، مرورا باليونانية والرومانية والاسلامية ذات العصور والسمات المختلفة، وانتهاء بالمصرية الحديثة، من ثم فقد ذهب عالم الآثار الفرنسي جان ايف امبرور الى عنونة كتابه الهام عنها بـ «الاسكندرية ملكة الحضارات»، ذلك الكتاب الذي الفه هو وعدد من باحثي الآثار الفرنسيين.
ويرصد امبرور ورفاقه الاثريون ما يمكن ان نسميه قصة مدينة تحت سطح الارض، فهم لا يرصدون التاريخ والنشأة وعوامل الازدهار والنمو ولكنهم يوضحون بالخرائط وما تواتر عن المؤرخين والباحثين القدامى وما توصل اليه علماء الآثار في العصر الحديث شكل المدينة وما كانت عليه وكيفية الحياة فيها، وما توصل اليه البحث الاثري من طرق ومنشآت وقنوات وشبكات مياه، جاء ذلك في ستة فصول تناولت نهاية الدولة الفرعونية ودخول الاسكندر مصر وتخطيطه بنفسه لمدينته، ثم العصر البطلمي تاريخياً، ثم الثقافة والفن في الاسكندرية البطلمية، ثم الحياة الدينية بها، وهي مادة تاريخية تضعنا امام العديد من الاسئلة.
وتبرز اهمية الثقافة في تاريخ البشر، فرغم الضعف السياسي الذي دب في الدولة الفرعونية عقب انتهاء حكم الرعامسة، وتعاقب العديد من الاسر سواء الليبية او الفارسية او المصرية على الحكم طيلة ما يزيد على سبعمائة عام، غير ان ما كانت عليه مصر من قوة ثقافية تغلبت على شتى اشكال الاحتلال، بل انها جعلت اقصى طموح المحتل ان يعمده كهنتها فرعوناً، فيضع على رأسه التاج المزدوج ويسمي نفسه ملك مصر العليا والسفلى، متناسياً انه ابن لمكان مختلف وحضارة مختلفة كالحضارة الفارسية او اليونانية، ومن ثم فقد حرص الاسكندر كغيره من الغزاة ان يضع هذا التاج على رأسه، وان يعمده كهنة آمون فرعوناً، وان يغير بعض الاثار على المعابد ليكون فرعون مصر العليا والسفلى، لكن الاسكندر كان ذا مأزق مختلف عن سابقيه، فهو ابن ثقافة تقارب الثقافة المصرية لكنه ليس ابن شرعياً لها، فهو مقدوني وليس يونانيا، وكان اليونان ينظرون الى المقدونيين على انهم اقل منهم في السلم الحضاري، ومن ثم فقد كان حلم الاسكندر التخلص من هذه الثنائية، ولذا فبعدما حقق اول انتصار له على الامبراطورية الفارسية في اسوس اقام حفل زواج جماعياً، تزوج فيه هو وسبعمائة قائد في جيشه من سيدات شرقيات، في محاولة للمزج بين الدم اليوناني والدم الشرقي، ويبدو ان هذا كان اول حجر في بناء ما اسمي في التاريخ بالثقافة الهيلينية. ورغم ان الامر تغير قليلاً مع خلفائه عن هذا الانفتاح والتمازج، غير انه ظل العنصر المكون لفكرة البطالمة في مصر، فمن حيث الاختلاف ذهب البطالمة الى جعل الجيل الثاني منهم عنصراً مختلفاً في ذاته، فقاموا بالتزاوج من داخل الاسرة الا في حالات نادرة بسبب الظروف السياسية والحاجة الى آخرين او مهادنة خصم ما، اما من حيث الاتفاق مع الاسكندر فلقد ذهبوا جميعاً الى الجمع بين الثقافتين اليونانية والمصرية، حتى انهم حملوا التاج المزدوج وتسموا بالفرعون وتزاوجوا على غرار الاسطورة المصرية في بدء الخلق، حيث تزوج اوزوريس من اخته ايزيس، كما ان محاولتهم للجمع بين الثقافتين انتجت إلهاً يجمع بين معالم اله المعابد المصرية وآلهة الاوليمب اليوناني، وكان العجل آبيس وزيوس هما هذا المزيج الذي تسمى سيرابيس، وجاءت هذه الديانة من ان المصريين كانوا يعلون في نهاية العصر الفرعوني من قيمة العجل آبيس رمز تحوت واوزيريس اله المعرفة والعلم والخصب، وكان في كل معبد لتحوت سرداب توضع فيه رفات العجل ابيس بعد ان يموت، ومن ثم فحين نقل بطليموس الاول مركز حكمه الى الاسكندرية بنى معبدا ذا سرداب طويل ورواق من الاعمدة اسماه معبد سيرابيس او آبيس واوزوريس، وعمل خلفاؤه على التقرب من جانب الى الشعب المصري فاعلوا من شأن آبيس، ومن جانب آخر على الاحتفاء بثقافتهم اليونانية فاضفوا عليه ملامح زيوس، واصبح معبد السيرابيس اهم المعابد البطلمية، رغم ان الاسكندر حين اختط مدينته حدد عددا من المعابد اليونانية التي تبنى، ولم يحدد سوى معبد مصري واحد كان للإلهة الام ايزيس، لكن الصراع الثقافي بين ندين احدهما منتصر والآخر منهزم لم يترك امام البطالمة، فيما يبدو غير هذا المزج، ويمكننا القول ان الهيمنة الثقافية المصرية هي التي سادت حيث تسمى المحتل باسم الفرعون، وحرص ان يكون اسمه على المعبد ملك مصر العليا والسفلى، وان يخالف تقاليد الاديان كلها، فيتزوج من اخته تحت دعوى انهم آلهة من سلالة ايزيس واوزيريس، فكان الملك يتزوج من اخته وامه وابنته وغيرهن من اشكال المحارم، ويبدو ان هذه العادة اثارت عليهم غضب المصريين الذي تجسد في ثورات متتالية.
سطوة ثقافية
ويبدو ان السطوة الثقافية للحضارة المصرية لم تهيمن على البطالمة وحدهم، ولكن على الامبراطورية الرومانية الناشئة ايضا، فقيصر لم يفكر في غزو مصر رغم ما بدا عليها من ضعف و انقسام جعل حكامها – كليوباترا السابعة – يستنجدون به، فحين عاقب البطالمة بحرق مدينتهم عام 47 قبل الميلاد، لم يكن ذلك الا لحماقة بطليموس الثاني عشر (شقيق كليوباترا)، فقد كان قيصر قد انتصر على غريمه بومبي الذي لجأ الى شواطئ فلسطين طالبا لجوءا الى مصر، ففكر بطليموس في قبول طلبه لكن خشي ان يثير ذلك غضب قيصر ففكر في رفضه ولكن خشي أن تدور الدوائر وينتصر بومبي ذات يوم، ومن ثم قرر قتله بمجرد نزوله إلى الشاطئ، فرأى قيصر أن فعلاً كهذا لا يليق أن يحدث لخصم شريف وند قوي كبومبي، ولذا خرج في حملة بحرية على مصر، وتصادف أن كليوباترا التي خرجت هرباً من أخيها – بطليموس 12 – إلى فلسطين كانت قد أعدت جيشاً وجاءت تنازعه الملك هي وأخوها الثالث عشر، فما كان من قيصر إلا أن نفى الثاني عشر، وزوج كليوباترا الثالث عشر، وسرعان ما تخلصت منه بمعاونة قيصر الذي اصطحبهما في رحلة إلى أسوان، ثم اصطحبها في رحلة إلى روما، وفي طريق العودة قتل قيصر ودعاها مارك أنطونيو إلى رحلة معه، وكان قائداً قوياً يتمتع بنفوذ وشعبية كبيرة على نقيض غريمه أوكتافيوس – ابن شقيق قيصر – وأخذته الثقافة المصرية، فرأى أنه أوزيريس وأن كليوباترا وابنها قيصرون إيزيس وحوريس، وهكذا كونا الثالوث المصري، وراح يحضر الاحتفالات المصرية على أنه الفرعون غير المتوج، وزاد في الأمر فقال انه سيقسم العالم الشرقي على ابنيه وكليوباترا وبطليموس الخامس عشر (قيصرون)، وكان هذا الإعلان أسوأ دعاية له في روما، فقد تناقصت شعبيته بشكل كبير، وما لبث ان هزم أسطوله في معركة أكتيوم، بعدما انسحب الأسطول المصري، وسلم جيشه – أنطونيو – نفسه لقيصر، فانتحر، ودخل قيصر الإسكندرية، ولم يكن في رغبته القضاء على كليوباترا لكنها انتحرت، فسلم السلطة لقيصرون لكن أعوانه زينوا له القضاء عليه ففعل. وهكذا أصبحت الإسكندرية عاصمة إقليمية لروما، وصارت لأول مرة قراراتها نابعة من عاصمة أخرى لا يفصل سوى البحر بينهما.
النخبة المصرية في الظل
لكن ذلك لا يعني حسبما قال أمبرور إن المصريين كانوا مرحبين بأي من الحضارات التي دخلت على حياتهم، فقد شهدت مصر الغزو الفارسي والنوبي والليبي واليوناني والروماني، وكانت الثورات أبرز معالم هذه الفترات التاريخية، وما لم تفعله الثورة فعلته الثقافة، فقد حولتهم جميعاً إلى حكام مصريين، لكن الملاحظة المهمة ان النخبة المصرية كانت دائماً في ظل كل من يحكم، وكان تعامل هؤلاء الوافدين مع هذه النخبة، في حين ان عامة المصريين كانوا رافضين لأي منهم. وقد سجلت الآثار المتناثرة في ربوع مصر سخرية المصريين من حكامهم الاجانب، ورفضوا ان يكون فرعونهم اجنبيا، كما رفضوا الانصياع للنخبة الحاكمة باسمه، ومن ثم كان التشدد والعسف والظلم البطلمي على اشده، حتى ان بطليموس الرابع جند جيشه كله لقمع ثورة كادت تنهي حكم البطالمة، كما ان هذا الجيش كان من المرتزقة اليونان، وكانوا يده في جمع الضرائب بشكل متعسف. ولم تكن حال مصر اقتصاديا كما يصور الخيال الادبي عن الحكم البطلمي رغم ما كانت عليه الاسكندرية من ازدهار ونشاط اقتصادي، وربما تعود هذه الخديعة الى ازدهار النشاط الثقافي، سواء عبر مكتبة الاسكندرية، التي بناها بطليموس الاول او عبر المعابد التي اقيمت على مقربة من قصر الحاكم، او مجموعة القصور التي اقيمت على الجانب الآخر من القصر، وهي تزيد في عددها على ثلاثمائة قصر سكنها قادة الجند والتجار واليونانيون الذين جاءوا مع الاسكندر، وتعد الاسكندرية ومنف رمزي هذا الازدهار لان منف كانت السلطة الدينية التي لا بد من شراء كهنتها بأي ثمن، اما الاسكندرية فكانت محل الاولمبيات التي تقام كل اربع سنوات، وكانت العاصمة التجارية التي اقيم ــ لأجل السفن الوافدة ــ عليها فنار فاروس الذي مثل احد اعاجيب الدنيا السبع، والذي عاند اكثر من ثلاثمائة وثمانين زلزالا، والذي اقيم على صخرة مربعة، فارتفع عن الارض مائة واربعين مترا على هيئة ثلاثة طوابق، محتويا على ثلاثمائة غرفة كان يخزن بها الوقود اللازم للشعلة التي يعلوها تمثال زيوس، واستمر تشييده خمسة عشر عاما، وانهار على مراحل بفعل الزلازل العنيفة، فحول احمد بن طولون الطابق الثاني منه الى مسجد فكان اعظم واعلى مسجد، وحاول صلاح الدين ترميمه لكنه مع مجيء زمن المماليك كان قد انهار تماما فاستفاد من احجاره قايتباي في بناء حصن في المكان نفسه يعرف الآن بقلعة قايتباي.
لعلية القوم وليس للشعب
ويذهب صاحب «الاسكندرية ملكة الحضارات» ورفاقه الى ان الزخم في الآثار البطلمية جاء من كثرة المحاجر المتنوعة في الصحراء المصرية، تلك المحاجر التي ورثوها عن الفراعنة، واستخرجوها لتحويلها ورش الفنانين المهرة الى كنوز ذهبية وفضية واحجار ثمينة واوان زجاجية، وقد كان لبطليموس الرابع في قصره كهف مبطن بالذهب ومزخرف بالاحجار الثمينة، واهدى لاحد الملوك مائدة من ذهب واحجار ثمينة، اما مارك انطونيو فحين ركب مركب كليوباترا الفاخر الثمين المحتوي على كنوز لا تحصى فقد قرر ان يستغني بالاسكندرية عن روما، وان يجعل امبراطوريته في هذه الجنة التي لا تنفد كنوزها ولا مواردها، ويبدو ان الاسكندرية في ذلك الوقت كانت مكانا اقل ما توصف به الجنة، فقد تحدث المؤرخون والرحالة عن القناة التي تجيئها بالماء العذب من النيل، هذه التي حفر محمد علي ترعة المحمودية على غرارها، وبحيرة مريوط التي تموج بالماء العذب، وشوارعها المهندسة المتقاطعة الفسيحة، فقد كان عرض الشارع خمسة عشر مترا، في حين ان الشارع الرئيسي الذي يجيء من الشمال الى الجنوب كان ثلاثين مترا، وكان القصر الذي بناه الاسكندر اكبر القصور عامة، وفيه اقيم السيرابيوم (مجمع المعابد) وبالقرب منه الموسيون (مركز الثقافة والادب)، وفيه جاءت مكتبة الاسكندرية التي انشأها بطليموس الاول، واخذ خلفاؤه والكهنة في تزويدها بالمخطوطات، حتى ان انطونيو جاءها من مكتبة تقاربها في روما بمائتي الف مخطوط او كتاب، اما الاحتفالات فكانت في الشوارع على غرار احتفالات اثينا، وكانت من كثرتها لا تنتهي، وليس هناك افضل من التعبير الذي قاله مؤلف الكتاب وهو ان الاسكندرية كانت مدينة استعراض.
وعلية القوم من التجار والكهنة والعلماء هم الذين اقاموا في هذه الجنة، ولم يدخلها من الشعب الا عمال مهرة، بل ما كان يسمح لهم ان يقيموا فيها.
صبحي موسى

الكتاب: الاسكندرية ملكة الحضارات
المؤلف: جان ايف امبرور
ترجمة: فاطمة عبد الله محمود
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
الصفحات: 400 قطع متوسط

القبس

جمال الغيطاني متحدث استثنائي، يتحدث عن كتاب عنوانه: «وصف مصر» ، احتوى على اسرار التاريخ المصري وجمالياته وحربه وسلمه وعلومه وفنونه ويرتبط بتاريخ مملوء بالحكايا والاحداث التي تركت اثرها في مصر منذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون، «بونابرته» كما كانوا ينادونه آنذاك، وصولا الى عصور متقدمة تأثرت بهذه الحملة، سواء سلبا او ايجابا، اما كيف كان ايجابا فهو مايراه الكاتب الغيطاني: «بان هناك اغراضا فكرية وايديولوجية جاءت مع الـ27 الف مقاتل الذين قاموا بالحملة العسكرية، حيث كان الى جوارهم علماء ايضا ومطابع، وعلوم تلقتها مصر فاستفادت منها».

حدث غريب
، وبدا الغيطاني ممسكا ببراعة بمداخل الحديث عن الكتاب النادر فأعطى لمحة وافية رغم تكثيفها عن الحملة الفرنسية، وقال ان في هذه الحملة شيئا غريبا فقد حملت، الى جانب الـ27 الف مقاتل والـ2200 ضابط، نخبة من اكبر علماء فرنسا في كل المجالات مثل غومار ومونش ما يؤكد وجود هدف فكري وايديولوجي ايضا وراء هذه الحملة التي لم يكن احد في البداية يعرف الى اين تتجه سفنها فقد كان اغلب الظن انها متوجهة لقتال الانكليز، ثم وفي عرض البحر تبين انها تتجه صوب مصر التي قاتلت الحملة ولم تسمح لها بالدخول بسهولة الى البلاد عبر الاسكندرية، الى ان وصلت الى الاهرام ووقعت معركة في «الامبابة» والتي هي اليوم تسمى «الكيت كات».
وتحدث الغيطاني عن شغف نابليون بمصر والتي كان يعتبرها قلب العالم، ويرى ان من يسيطر على مصر فقد سيطر على العالم. وشرح الغيطاني اوضاع مصر ابان الحملة وكيف كانت الارضية مهيأة للهزيمة امام هذه الحملة بسبب التفكك والفوضى والصراعات بعد ربع قرن على الغزو العثماني وهزيمة الجيش المملوكي في معركة مرج دابق، وكانت المعركة بين المصريين والفرنسيين غير متكافئة البنادق والسيوف القديمة في مواجهة القنابل والتي كانوا يطلقون عليها «قنبر». وانتقل الغيطاني من الحملة العسكرية الى الحالة العلمية للحملة فقد اصدر نابليون اول صحافة مطبوعة وجاء بالمطبعة للتأثير في المصريين فكريا واقناعهم بنفسه فارتدى في سعيه لذلك حتى الزي العربي. وقال: في اول جلسة للمجمع العلمي تقرر انشاء مجمع العلوم وضم اربع شعب منها الفيزياء والادب والاقتصاد والفنون، والطريف في الامر ان نابليون كان نائبا لرئيس المجمع الذي هو مونش.. وبحثوا جملة من القضايا بعضها طريف مثل ايجاد بدائل عن الخبز الفرنسي وعن الجعة، الى جانب تنقية مياه النيل ودراسة ايهما افضل طواحين الماء ام الهواء وافضل الوسائل لانتاج البارود وتعويد الناس على الطب الجديد بدلا من الذي كان يعلم في الازهر، واستطرد الغيطاني: ان الازهر كان موئلا لكل العلوم وكان فيه رواق خاص يدرس فيه الاقباط.
قصيدة في مديح نابليون
وتحدث الغيطاني ايضا عن فكرة تشريح الجثث وأن نابليون لم يتمكن من اقناع المصريين بها، ولكن الذي فعل ذلك هو محمد علي باشا. وتطرق الى تاريخ الجبرتي وما اورده عن مشاهداته في اختراع الكهرباء واعجابه بالمحاكمات الفرنسية حيث يعطى المتهم فرصة للدفاع عن نفسه بمن فيهم البطل سليمان الحلبي الذي قتل الجنرال كليبر في حديقة منزله ثم قدم للمحاكمة قبل اعدامه.. وأشار الى دراسة موجودة في الكتاب اعدها شابرول عن الشعر في مصر وورد فيها قصيدة لشاعر مصري اعجب بنابليون فامتدحه بقصيدة مذكورة في الكتاب.
وذكر الغيطاني انهم كانوا يعتمدون في الكتاب النادر على الرسم، وكان من بينهم الرسام البارع دينون، الذي تجول في المنيا واسيوط وسوهاج ورصد تفاصيل مهمة وعظمية بعضها لم يعد موجودا وبعضها يعتبر معجزة في ينائه مثل معبد ابيدوس، لذلك فالكتاب يسجل اليوم حياة اختفت عن الوجود.
استنساخ الكتاب
واشار الغيطاني الى ان الكتاب صدر لاول مرة عام 1802 ويحوي رسومات لجيرار وديفليه وتصف طبائع المصريين، وكان في طبعته الاولى مهدى الى نابليون ثم في الطبعة الثانية اختفى اسمه بعد عزله وظهر بدلا منه اسم «حكومة الادارة». وأشار الى وجود 416 لوحة يضمها الكتاب بما فيها من خرائط ووصف عمائر وسقف نادر جدا في معبد ايزيس عليه اقدم صورة لابراج السماء، ويوجد اليوم في متحف اللوفر، وقال ان الكتاب ينفرد بدراسة عن مسجد ابن طولون الذي يتفرد بمئذنة تحاكي مئذنة سامراء، واشار الى ان الكتاب الذي في المكتبة هو الطبعة النادرة جدا، والذي يعد مفخرة حقيقية للمكتبة، وان الكتاب ظل حتى عام 1969 بلا ترجمة، وفي ختام محاضرته القيمة اقترح الغيطاني ان يتم استنساخ الكتاب طبق الاصل لانه «مهم جدا».


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 16-12-2010، الساعة 09:47 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
18-11-2010, 11:41 PM
ليوان المعارف
user_offline.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 328

icon1.gif

إستهداف إيران
ميشال مراد

تأليف: سكوت ريتر

ترجمة: أمين الأيوبي

عن الدار العربية للعلوم

لا شك في أن الملف النووي الإيراني من أخطر الملفات التي واجهت العالم عبر تاريخه، أزمة تجرى اليوم بشأنها لقاءات بين كبار الممثلين لسياسة الاتحاد الأوروبي وكبار المفاوضين الإيرانيين وسط رفض طهران تعليق نشاطات نخصيب اليورانيوم.

اتهم الأميركيون إيران منذ 20 عاماً، بأنها ستمتلك قنبلة نووية في العام المقبل. هم الذين لا يجدون حلاً سوى لجم إيران ومنعها من استكمال أي نشاط حتى لو كان محدوداً، علماً أنّ ما من بند في معاهدة عدم انتشار السلاح يشير إلى موجبات مماثلة.

عايش سكوت ريتر مؤلف كتاب «استهداف ايران» فترة طويلة هذه المعاناة. فهو كان أحد كبار مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة في العراق في الفترة الواقعة بين عامي 1991 و1998، وكان خدم قبل عمله مع الأمم المتحدة، ضابطاً في مشاة البحرية الأميركية ومستشاراً للجنرال نورمان شوارزكوف في شؤون الصواريخ البالستية أثناء حرب الخليج الأولى.

في هذا الكتاب يروي سكوت ريتر قصة تحدّيه للسلطة الأميركية في الفترة التي سبقت غزو العراق وكشفه الأكاذيب التي نشرتها ادارة بوش والقسم الأكبر من وسائل الإعلام حول أسلحة الدمار الشامل العراقية.

غداة الفشل التام في السيطرة العسكرية والسياسية على العراق ثبتت صحة اتهام المؤلف بأن هذا التبرير لم يكن إلاّ ذريعة أطلقها الحكم الأميركي بهدف إطاحة صدام حسين والاستيلاء على النفط والإمساك بالمنطقة.

محور الشر

يقول سكوت ريتر إن البيت الأبيض وحلفاءه المحافظين يحبكون اليوم السيناريو نفسه ويطلقون التحذيرات عن برنامج ايراني مزعوم لصنع أسلحة نووية. ما يدعم هذه التحذيرات في بعض نواحيها تصاريح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي غالباً ما يهاجم إسرائيل والغرب بشراسة في خطبه زاعماً أن الإبادة الجماعية التي تدعيها إسرائيل بحق شعبها ليست أكثر من أسطورة وهميّة.

منذ مطلع العام 2002 صاغ الرئيس بوش في خطابه عبارة «محور الشرّ» للمرة الأولى بطريقة علنية، وكان يشير بذلك الى العراق وإيران وكوريا الشمالية. قال: «إن دولاً كهذه وحلفاءها الإرهابيين يشكلون محور شرّ يتسلح من أجل تهديد السلم العالمي. وبسعيها الى امتلاك أسلحة الدمار الشامل تشكل هذه الأنظمة خطراً داهماً ومتنامياً، كما يمكنها توفير هذه الأسلحة للإرهابيين لتصبح في أيديهم وسائل تضاهي كراهيتهم فيستطيعون شنّ هجمات على حلفائنا أو محاولة ابتزاز الولايات المتحدة. وفي أيّ من هذه الحالات سيكون ثمن اللامبالاة كارثيّاً». أعطى بوش نفسه حق اقتلاع الشر الذي بات يهدد العالم بنظره، وأوّل هدف له سيكون صدام، ومن بعده دور إيران.

باتت المواءمة أمراً واقعاً وأصبحت ايران عضواً مؤسساً في محور الشرّ الذي وصفه جورج بوش. تمّ ربط إيران والعراق باستراتيجية عامة للأمن القومي لادارة بوش تمحورت حول تغيير إقليمي للأنظمة في الشرق الأوسط وتبني فكرة تنفيذ عمليات عسكرية استباقية أحادية الجانب بوصفها الآلية الرئيسية لتنفيذ هذه الاستراتيجية.

في ذلك الوقت شعر المواطن الإيراني علي رضا جعفر زادة، مسؤول الارتباط الرئيسي لدى الكونغرس والمتحدث الصحافي باسم المكتب التمثيلي للبرلمان الإيراني في المنفى والمجلس الوطني للمقاومة في إيران، بأن الوقت حان لتغيير جذري في النظام الإيراني فدعا «لجنة إيران الديمقراطية» المرتبطة مباشرة بإسرائيل ومنظمة «مجاهدي خلق» الى الضغط على الولايات المتحدة لتشمل حربها على العراق الجمهورية الإيرانية أيضاً، وتلك كانت حال حكومة أرييل شارون ففي حين لم تكن إسرائيل لتذرف الدموع على اسقاط نظام صدام سرى اعتقاد واسع أن على الولايات المتحدة أن تتهيأ بعد غزو العراق لاكمال مهمتها من المنظار الإسرائيلي أي تغيير النظام في كل من سوريا وإيران وضرب حزب الله في لبنان وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها حماس في فلسطين.

تقاسم أرييل شارون ووزير دفاعه بن أليعازر مع نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الخوف من برنامج التسلح النووي الإيراني واعتقادهم أن ايران ستمتلك أسلحة نووية بحلول العام 2005. تزايد هذا الشعور عندما أثار الرئيس بوش مسألة بناء مفاعل نووي في بوشهر مع الرئيس بوتين. لكن الروس فاجأوا الجميع بالتوقيع على اتفاق مع الايرانيين يقضي ببناء خمس منشآت نووية إضافية لتوليد الطاقة في ايران. ورغم احتجاج الولايات المتحدة الشديد فإن الروس مضوا قدماً في تنفيذها ضمن خطة تعاون مع الإيرانيين تمتد الى عشرة أعوام.

وعاد جعفر زادة ليكشف عن العديد من البرامج النووية السريّة التي يجري العمل عليها من دون معرفة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأكثرها أهمية منشأة ناتانز النووية ومنشأة آراك التي تقع في وسط إيران. تحوّلت هذه المعلومات التي أفضى بها الى أزمة عالمية هددت في صيف 2006 بدفع العالم الى شفير الهاوية.

إقتراحات إيرانية

بناء على هذه المعلومات غير المؤكدة وعلى مزاعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة بأن كل نشاط تقوم به ايران وله علاقة بمواد نووية، سواء أكان لأغراض سلمية أم لا، فإنه يدخل في سياق برنامج لإنتاج أسلحة نووية، وسعت السلطة الحاكمة في أميركا نطاق حملتها ضدّ إيران وشرعت ادارة بوش تبذل قصارى جهدها لنقل تركيز أي مواجهة وشيكة مع ايران الى معادلة تضعها في مواجهة العالم كله.
يقول سكوت ريتر إن ايران كانت تسعى الى حمل الولايات المتحدة على الدخول في حوار مباشر في أعقاب الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 إلى حدّ أنها اقترحت عبر وسيط سويسري التوصل الى سلام دائم مع اسرائيل يرتكز على اعلان بيروت 2002، كما اقترحت قطع الأموال عن حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية والسعي الى وقف الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين داخل حدود العام 1967، ووافقت ايضاً على صيغة خاصة بأعمال التفتيش عن الأسلحة النووية وموادها، لكن ادارة بوش لم ترد على المبادرة الإيرانية لأن سياستها الأساسية تهدف الى تغيير النظام في ايران لا التفاوض معه والسماح باستمرار وجوده.
«استهداف ايران» تقويم استخباراتي قومي أعدّه المؤلف وتوصل من خلاله الى خلاصة مفادها أن التاريخ يعيد نفسه. فأوجه الشبه التي سلكتها الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا وروسيا والأمم المتحدة في غزو العراق هي نفسها التي تسكلها اليوم لدخول حرب مع إيران. الوقت ليس متأخراً لكي تغيّر أميركا المسار الذي انتهجته منذ عدة سنين، لكن هذا التغيير في المسار يتطلب مشاركة من المواطنين الأميركيين ورفض لسياسة بوش وإدارته، كما يتطلب اعادة انعاش الكونغرس بدم جديد وتطلعات إيجابية بعيدة عن العجرفة والفوقية في إملاء طريقة للتعايش على ستة مليارات من البشر!

تذوّق

لم تكن المشكلة الرئيسية في اتفاق باريس تكمن في التفاصيل التي تتحدث عن واجبات ايران المتعلقة بتعليق برامج التخصيب، وإنما في مدة هذا التعليق. فقد اعترف اتفاق باريس بأن التعليق الإيراني غير ملزم، وموقت، وطوعي. لكن ما فشل في التصدي له كان الموقف الإيراني من أن تعليق نشاطات التخصيب سيستمر لفترة طويلة وحسب. فقد أعلن رئيس مصلحة تشخيص النظام، الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، عن موقف ايران بشأن تحديد المدة التي يمكن توقعها لأي تعليق لنشاطات التخصيب، قائلاً: «أنا لا أعتقد بأنه ينبغي أن يزيد سقف هذه المدة عن ستة شهور لكي نثبت لهم بأن إيران لا تسعى الى تطبيقات عسكرية».

أوضحت إسرائيل والولايات المتحدة خطوطهما الحمراء المتعلقة بالطموحات النووية الإيرانية: لا تخصيب. ولكن كان لدى إيران خطوطها الحمراء الخاصة بها، كما أشار المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي صرح بأن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تتخلى عن نشاطاتها النووية بالتأكيد».

كان اتفاق باريس مجرد تدبير موقت من المحتم أن يلاقي الفشل ما لم تكن إيران أو الولايات المتحدة (وإسرائيل) على استعداد لتغيير موقفها. وهذا ما يفسر، أكثر من أي شيء آخر، الموقف الذي اتخذته إدارة بوش عشية التوقيع على اتفاق باريس وصدور التقرير الإيجابي للوكالة الدولية، حيث عبرت الولايات المتحدة عن دعمها الحذر لمبادرة الترويكا الأوروبية.

بذلت الولايات المتحدة جهداً في ديسمبر/ كانون الأول 2004 من أجل زيادة فاعلية محاولاتها لإحالة الملف الإيراني الى مجلس الأمن عندما شرعت في جهود لحرمان البرادعي من الحصول على ولاية ثالثة على التوالي. حقق البرادعي لنفسه سمعة طيبة لنزاهته وشدته في تعامله لا في القضيتين العرا قية والكورية الشمالية وحسب، بل وفي الوقوف في وجه الولايات المتحدة في مسألة البرنامج النووي العراقي. وعندما واجهت الولايات المتحدة صعوبة في بثّ الحماسة حتى في أقرب حلفائها للتخلص من البرادعي، قام جون بولتون شخصياً بخطوة غير عادية عندما أمر وراجع بنفسه الاتصالات التي تم اعتراضها والتي دارت بين البرادعي وغيرْ في مسعى للعثور على دليل يثبت ارتكاب عمل خاطئ. لم يتم اكتشاف شيء، وتم تثبيت البرادعي في منصبه للمرة الثالثة بدون مشكلات. ولكن الشعور بالكراهية استمر بين المدير العام للوكالة الدولية والولايات المتحدة.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
19-11-2010, 09:05 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif



الجريده

بيروت 1982
تأليف: غسان شبارو
عن الدار العربية للعلوم
ميشال مراد
إنه 4 حزيران، يوم اخترقت الطائرات الحربية الإسرائيلية أجواء العاصمة بيروت. طلاب الجامعات يناقشون أساتذتهم والرجال يقومون بأعمالهم والنساء منهمكات في منازلهن. وإذا بدويّ الانجفارات يمزِّق السماء ويتصاعد الدخان الأسود فوق المدينة الرياضية والجامعة العربية وحيّ الفاكهاني.
لم تكن أهداف إسرائيل أهدافاً عسكرّية كما تدّعي دائماً، بل أصابت في غاراتها المدنيين الآمنين حتى باتت المستشفيات شبيهة بالمسالخ البشرية.
عايش غسان شبارو هذه المأساة من بدايتها وعانى مع مواطنيه أهوالها على البشر والحجر فانكبّ يروي تفاصيلها في إطار خيالي يتفاعل أبطاله ويتماهون مع الواقع. فالحوادث موثّقة وكان لها تأثير كبير على مسار تاريخ لبنان الحديث خلال الغزو الإسرائيلي له واقتحامه العاصمة وحصاره لها في العام 1982، أمّا الأبطال والشخصيات فهم افتراضيون، أسماؤهم من نسج الخيال.
لوحة الحرب
تنطلق الرواية من مقاعد طلاب الجامعة الأميركية في بيروت ولا يخفى كم لهذا الخيار من رموز على الصعيد الوطني. ففي الجامعات تنشأ مراكز البحوث وفي ملاعبها تتكوّن التظاهرات وفي أروقتها تتمخض الثورات. وتتشعّب الرواية فتدخل أروقة المنازل وغرفها والمجالات والملاجئ الضيّقة.
يتنقل غسان شبارو باسلوب رشيق من مشهد الى آخر فتكتمل لوحة الحرب بمآسيها وبطولاتها وتترابط موضوعاتها المختلفة بحبكة متينة على بساطة في التعبير وقدرة في تجسيد المشاعر المكنونة. وهو إلى ذلك يضمّن النص بعض المبادئ والمواقف التي يصرّ على إبرازها فالبروفسور شومان الاستاذ في الجامعة الأميركية صاحب مبدأ ولا يدخن السجائر الأميركية منذ أن أعلنت الجامعة العربية عن مقاطعة البضائع الأميركية في العام 1967 إثر هزيمة حزيران، رغم أنه سكن في أميركا لسنوات عديدة وتزوج من أميركية وحصل على جواز سفر أميركي.
نلمس أيضاً مشاعر المؤلف النبيلة حيال التعايش بين الطوائف المحمدية والمسيحية. يصف النواحي الإيجابية والإنسانية في علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض وبخاصة أولئك الناس الطيبين الذين يقطنون البناية عينها أو الشارع نفسه وربطت بين أبنائهم صلات المودة والصداقة.
ترتكز الرواية على محور مهم من محاور تلك الحرب الطاحنة هو تطوير صاروخ سام 7 الذي يطلق عن الكتف وتستخدمه المقاومة الفلسطينية. أظهر هذا الصاروخ عدم فاعليته لأنّ الإسرائيليين ابتدعوا البالونات الحرارية التي تجذب صواريخ سام اليها فتُشتت مسار الصواريخ فتنفجر في الجو بعيداً عن الطائرات المستهدفة أو تسقط حطاماً على الأرض.
كان البروفسور شومان يشاهد الطائرات الحربية الإسرائيلية تطير على ارتفاعات منخفضة جداً الى درجة أنه كان يمكن مشاهدة رأس الطيّار من قمرته وكذلك النجمة السداسية المرسومة عليها، ما جعل الطيارين يتجرأون على استخدام رشاشاتهم الثقيلة من عيار 800 ملم لإرهاب السكان المدنيين المتنقلين في سياراتهم في منطقة الروشة.
وكان البروفسور يتألم أشدّ الألم لدى رؤية الأجساد تتكتل على بعضها بعضاً في ملاجئ الأبنية وتفوح منها الروائح، بينما يرتفع بكاء الأطفال ممزوجاً بصوت انفجار القذائف المثير للأعصاب.
تعرّف البروفسور سامي شومان الى زوجته جولي خلال دراسته في كلية ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة وكانت زميلته في الاختصاص. أعجب بانسانيتها ودفاعها عن حقوق الإنسان الذي كان همّاً مشتركاً بينهما فأنجبت له ثلاث فتيات تدعى كبيرتهن رنا.
في تلك المعركة غير المتكافئة انصرف البروفسور للبحث عن دور له يدعم المقاومة الفلسطينية في تصدّيها للهجوم الغادر الذي يبغي تصفيتها وتهجيرها من لبنان فوجد غايته في العمل على تطوير مواصفات الصاروخ سام 7 لتمكينه من تعطيل أجهزة الإنذار والتشتيت العاملة على الطائرات الحربية الإسرائيلية فتسهل بذلك إصابتها.
شهب اللهب
رأى البروفسور في تلميذه راشد المساعد النجيب لتحقيق هذا الإنجاز فأوكل إليه مهمّات عديدة كان يقوم بها بحمية واندفاع، شرح له أن الهدف من أبحاثه جعل الصواريخ تتقصّى حرارة الأشعة ما فوق البنفسجية من مصدرين في الطائرات: بدن الطائرة من جرّاء احتكاكها بالهواء، ومن شهب اللهب الصادر عن عادم الطائرة، وفي هذا الحالة لن يستشعر الصاروخ حرارة الأشعة ما تحت الحمراء الصادرة عن البالونات الحرارية المضلّلة فيصيب الطائرة نفسها ويفجرّها.
في حين كان البروفسور منهمكاً يبحث في تلال الكتب والمراجع عن كيفية الوصول الى نتيجة مرضية، كان العدو يتقدم متجاوزاً مدينة صيدا الى الدامور حيث كمنت المقاومة فجرت معركة صاخبة بين الدبابات الإسرائيلية ودبابات جيش التحرير الفلسطيني الأثرية أسفرت عن كارثة عسكرية.
بشير الجميل
في الناحية السياسية ركّز غسان شبارو على اللقاءات والاتصالات التي كان يجريها بشير الجميل وأعوانه مع القوات الإسرائيلية ومع المسؤولين الأميركيين وبعض الجهات العربية. ولفت الى عدم تحرك أي دولة عربية في وقت كانت اسرائيل احتلت أكثر من ربع مساحة لبنان.
أصبح المحتلّ في ضواحي العاصمة بينما كانت صواريخ بوارجه الحربية تعاقب بيروت الغربية لصمودها ودفاعها عن كرامتها، وكان أحد أهدافه الرئيسية ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان.
في حين كان البروفسور شومان يجري مع راشد التطوير اللازم لصاروخ سام، كانت علاقة الصداقة بين الطالب ورنا ابنة البروفسور تحوّلت الى حبّ عذريّ بريء. وبعد أن انتهيا من وصل آلية التفجير وتأكدا من عمل نظام التوقيت فيه انصرفت رنا الى رسم كنار عليه بينما جلس البروفسور وراشد جنباً الى جنب يضعان النقاط الأساسية على طاقم إطلاق الصاروخ والطريقة الأسلم لضمان استخدامه في إصابة الهدف.
وبعد أيام معدودات نقلت وسائل الاعلام خبر إصابة طائرة فانتوم إسرائيلية بصاروخ سام أطلقه أحد المقاومين في سهل البقاع.
لم يهنأ البروفسور شومان وعائلته بهذا النصر، ففي اليوم التالي اشتعلت بيروت من جرّاء القصف البري والبحري، وكان راشد على وشك الخروج عندما استوقفه أحد أصدقائه طالباً إليه التريث قليلاً ليهدأ القصف ولو اضطر الى التأخر عن موعده مع البروفسور.
كانت الاستخبارات الإسرائيلية علمت أن أحد المسؤولين عن اسقاط طائرة الفانتوم يسكن عمارة في شارع اسكندر في منطقة الروشة فأرسلت طائرة 15 F لتطلق صاروخين على البناء الذي انهار معظمه وتحوّل الى تلّ من الحجارة والرمال والأخشاب والأثاث. وعندما وصل راشد على دراجته وقف مرتعباً، خائر القوى، وشرع يبحث في الركام عن أثر ما فإذا به يسمع صوت الكنار الذي أهداه إلى رنا يوم عيد ميلادها.
ازداد الضغط العسكري على العاصمة بوسائله المرعبة وتعدّدت الاتصالات والمخارج لانتخاب بشير الجميل المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية، بينما كانت القيادة الفلسطينية تعيش بشخصيتين متناقضتين تدعو إحداها المقاتلين الى الصمود والأخرى تفاوض فيليب حبيب بطريقة غير مباشرة على الرحيل من لبنان. لكن الخيار الثاني كان الأرجح فتمّ ترحيل الكوادر الفلسطينية عبر بوابة المرفأ.
إنفجار
علمت الاستخبارات الإسرائيلية بالعملية التي يعدّها الحزب القومي الاجتماعي لاغتيال بشير الجميل بعدما انتخب رئيساً للجمهورية لكنها لم تقم بأي محاولة أو تحرك لمواجهة الوضع. وفي 14 أيلول 1982 اغتيل بشير في الانفجار الذي حصل في بيت كتائب الأشرفية عندما كان يحثّ قيادة حزبه على دعم السلطة الشرعية وقواها على الأرض، وتبعت ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا.
عمّ هذا النبأ جميع الدول وقامت التظاهرات في المدن فاضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى سحب جيوشها من لبنان. غير أن راشد وبعض المجموعات الفدائية لن يدعوا الإسرائيليين ينسحبون بسهولة بل سيلحقون بهم حتى الحدود الجنوبية.
تذوّق
سحابة من الكآبة كانت تلفّ مقهى «ابو عفيف» حيث جلس راشد متورم العينين من الأرق وقد أطلق لحيته، ممسكاً ثمرة تين بين أصابعه المضمّدة، وهو يطعم كنار رنا عبر أسلاك القفص الذي وضعه على الطاولة. إلى جانبه جلست مدام ناديا محاولةً التخفيف عنه. روت له كيف أصاب القناص زوجها في رأسه قبل سبع سنوات وبقي ينزف وينازع لأكثر من خمس ساعات وهو يسبح بدمائه حتى أسلم الروح. ولم يستطع أحد سحبه عن قارعة الطريق لمدة يومين، بسبب عنف الاشتباكات بين المنطقتين الشرقية والغربية. بينما بقيت هي طوال هذين اليومين بلا طعام أو نوم، وهي مختبئة وراء حائط في بناية مقابلة تراقبه باكية ومنتظرة هدنة لوقف إطلاق النار لسحب جثته، بينما كانت القطط والجرذان والذباب تحاول نهش جسمه، وهي ترشقها بالحصى محاولة إبعادها عنه.
مسحت مدام ناديا دموعها المتجددة قائلة: إنه قدرنا، يجب أن نؤمن بأن كل ما يحصل لنا مقدر، وكل مقدر وراءه عبرة لبني البشر.
لمن هذا الكنار الجميل؟ سأل «رويتر» وهو يجلس الى الطاولة: ولماذا تركت شعر ذقنك ينمو بهذا الشكل يا راشد؟
إنها قصة طويلة. أجابته مدام ناديا.
خير إن شاء الله؟
روى راشد لهما ولجمال وعلي اللذين انضمّا إليهم كيف فجرت الصواريخ الإسرائيلية مبنى سكن البروفسور وهدمته بينما كان هو في طريقه لمقابلته، وكيف اكتشف جثته وجثث عائلته، وكيف ساعد في وضعهم في ثلاجة المستشفى بانتظار أن يتعرف عليهم أحد أفراد عائلتهم.
وماذا حصل لأصابعك؟ سأل جمال.
لقد جرحتها وأنا أبحث في الحطام، كما أن عيناي تقرحتا من الغبار والرمال والدخان... والدموع التي ملأتهما.
رحمة الله عليهم جميعاً. ولكن للأمانة يا راشد فإن ذقنك هذه لا تعجبني! بادره «رويتر» محاولاً ترطيب الأجواء.
ما رأيك يا راشد لو قمنا بطباعة صور للشهداء في المطبعة التي يعمل فيها علي ونلصقها على جدران الشوارع؟
لا، لا داعي لهذا، فالبروفسور رحمة الله عليه، لم يكن يحب هذه التصرفات.
تمنى راشد لو كان باستطاعته أن يخبر الجميع عن الإنجاز الذي حققه البروفسور والذي يستأهل بحق تكريماً أكثر من طباعة صور له. ولكن للأسف فإنه مضطر لكبت هذه المعلومات كي لا يعرض نفسه للخطر، فجواسيس إسرائيل في كل مكان، فمن كان يظن أن تصل ذراعهم الى البروفسور؟
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
19-11-2010, 10:12 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

القبس


ديوان الشاعر العلامة عبدالحسين الصادق سقط المتاع: رجل الدين الذي يحجب وجهه الشعري عن الناس

Pictures%5C2008%5C03%5C25%5C9d65754a-bcdc-41d0-84fc-fe345e2fdb7d_main.jpg
• عبدالحسين صادق
عن دار مؤسسة الانتشار العربي و«المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» صدر ديوان «سقط المتاع» للشاعر العلامة الشيخ عبدالحسين صادق احد ابرز وجوه العلم والثقافة ونوابغ الشعر في لبنان، وتحديدا في الجنوب خلال نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين الماضي.
جمع الديوان وحققه وقدم له، وهو الثاني بعد «عَرْف الولاء» ابن الشاعر الراحل، الاديب والشاعر المميز حبيب صادق.. هنا بعض المقدمة:
من الطبيعي ان يكون السؤال الأول بشأن الديوان هو لماذا تسميته «سقط المتاع»؟
وفي هذا يقول حبيب صادق في المقدمة:
«يتعين علينا ان نطرح هذا السؤال على انفسنا ليس من باب مقاربة ما وراء التسمية من مضمون شرحا وتحليلًا، بل من باب مقاربة الشكل توضيحا ليس غير.
ولذلك قصة لا مندوحة عن روايتها ليستقيم امر التوضيح وادراك المعنى.
حجب كامل
تبدأ القصة من تاريخ اصرار الشاعر، العلامة الشيخ عبدالحسين صادق، على حجب وجهه الشعري عن الناس حجبا كاملا، وهذا التاريخ يعود الى زمن التحاقه بجامعة النجف الدينية في العراق اسوة بآبائه واجداده، وانقطاعه عقب العودة إلى الاضطلاع بمسؤولياته الدينية في مجتمعه العاملي، (جبل عامل في جنوب لبنان)، وما كان اصراره الا تجليا لحرصه الشديد على فرادة وجهه الديني ونقاوته، سيرا على تقاليد السلف الصالح، فهو قبل كل شيء وبعده، عالم ديني له منزلة عالية بين اقرانه العلماء، وله مهابة واجلال في اوساط الناس، عامة وخاصة، فليس من المستغرب في بيئته الاجتماعية في ذلك الحين، ان اصر على حجب وجهه الشعري رافضا نشر قصائده سواء في كتب مستقلة او في مجلات وصحف سيارة. واذ توالت على الشاعر التمنيات، دون انقطاع، من قبل زملائه العلماء والشعراء والادباء ومن قبل اصدقائه المقربين وعارفي مقامه الشعري، سمح لابنائه، اخيرا، ان يضطلعوا بمهمة نشر المحفوظ لديه من الشعر، وهو ليس مجموع شعره، شريطة ان تجري عملية النشر بعد وفاته وليس قبلها، وان يطلق على ما ينشر، منه، تسمية «سقط المتاع» لا غير، «وهي تسمية تعبر، تماما، ــ بحسب قول العلامة السيد كاظم علي ابراهيم ــ عن نظرة صاحبها وأمثاله من علماء الدين الزاهدين في متاع الدنيا وزخرفها وهي نظرة تشير الى انه ينبغي على العالم الديني ألا يشتهر بها (بالشعرية) وان كانت قصائده حبيبة الى نفس صاحبها وتقدم صورة لحياته الخاصة، لعواطفه كانسان عادي يشترك مع بقية الناس في مشاعرهم وهمومهم، ولكنها يجب ان تبقى بعيدة عن الانظار، انها الجزء الجواني في حاية العالم».
عرف الولاء
ويوضح حبيب صادق كيف بدأ شعر العلامة الراحل يظهر الى الناس، ويقول انه عقب وفاة الشاعر 1942 تولى كبير ابنائه، من الاحياء، العلامة الشيخ حسن صادق، مهمة الاشراف على تراث والده الشعري، واذ قرر الشروع في اطلاقه من اسار الاحتجاب، اخذ بمذهب الاختيار على نحو ما جاء على سن قلمه «.. هذا ما عنيت به ووقع اختياري عليه من شعر المرحوم والدي».
وبعد سبعة اعوام، او نحوها من تاريخ الوفاة، ظهر الى الناس الجزء الاول من هذا الشعر، حاملا تسمية «سقط المتاع» تنفيذا لوصية الوالد الآنفة الذكر ثم ظهر في اثره، الجزء الثاني وقد اسماه المشرف «عرف الولاء» (2005).
لقد استوقفنا من امرهما ان تاريخ النشر لم يظهر في كليهما لذلك لجأنا الى الذاكرة العائلية فأخذنا بتقديرها المفيد: ان هذا التاريخ يعود، ربما، الى آخر الاربعينات ومطلع الخمسينات من القرن المنصرم.
ونظرا إلي تقادم الزمن على ذلك التاريخ مقرونا بنفاد النسخ المطبوعة جميعها من دون استثناء.
واستجابة لدعوات المطالبة بالحصول على الديوان بجزءيه من قبل الاقارب والاصدقاء والمعارف ومن قبل الراغبين في الاطلاع على تراث جبل عامل الشعري.
ثم لداع استثنائي في قيمته الادبية، وفي وزنه التراثي متمثلاً في اكتشاف مخطوطة لا علم لنا بأمرها من قبل، مخطوطة تضم، بين دفتيها المتآكلتين، مجموعة كبيرة نادرة من شعر الراحل الكبير طابت ذكراه.
لهذه الدواعي كلها، اضافة الى ما تقتضيه الضرورة الملحّة من اعادة النظر جذرياً في تلك الصيغة التي اعتمدت في الطبعة الاولى، وجاءت حافلة بالكثير من السلبيات.
عقدنا العزم على اعادة اصدار الديوان بجزءيه الاثنين في حلّة جديدة، مزيدة، منقحة ومبوبة، على الرغم من العقبات التي تعترضنا في هذا السبيل. ولم نلبث ان باشرنا العمل ابتداء باجراء تعديل في تراتبية النشر، ويستدعيه موضوع النص الشعري، فجعلنا «عرف الولاء» الجزء الاول من الديوان و«سقط المتاع» الجزء الثاني، نظراً للمنزلة المتميزة التي يتحلى بها موضوع النص الشعري في «عرف الولاء»، فهو مرصود بكامله للخطاب الديني ومشتقاته، في صفاء تام، بينما يتمحور «سقط المتاع» في مجموع نصوصه الشعرية، حول خطاب الدنيا ومتفرعاته والابعاد.
والخطة المنهجية التي اعتمدناها في اخراج الجزء الاول «عرف الولاء» قد اعتمدناها في اخراج الجزء الثاني «سقط المتاع» مضيفين اليها بعض الجديد الذي يستدعيه حجم المحتوى من جهة، وتنوع موضوعاته من جهة اخرى، مع التركيز على الثوابت التالية:
اولاً: تحديد مصادر المادة الشعرية ــ القصائد.
ثانياً: جمع القصائد وفرزها وتبويبها.
الديوان مجدداً
سيراً على الخطة المنهجية التي رسمناها لاخراج «سقط المتاع» الجديد في حلة جديدة، مزيدة، مبوبة، ومحققة، وفور فراغنا من احصاء القصائد المتوافرة لدينا من بطون المصادر الثلاثة: «سقط المتاع» القديم، و«المخطوطة»، والكتب والمجلات الأدبية»، إضافة إلى ما وراه لنا مشافهة أصدقاء ثقة، انصرفنا إلى القيام بعمليتي نقل وجمع هذه القصائد على النحو التالي:
أ – نقلنا من المصدر الأول «سقط المتاع» القديم، إلى «سقط المتاع» الجديد، ستاً وخمسين قصيدة مستقلة أي لا وجود لها البتة في «المخطوطة».
ب – ونقلنا إليه، من المصدر الثاني أي «المخطوطة» أربعين قصيدة مستقلة أي لا وجود لها في «سقط المتاع» القديم.
ج – ونقلنا، إيه تسعاً وأربعين قصيدة مشتركة أي موجودة في المصادر الثلاثة، على تفاوت في الأحجام: «سقط المتاع» القديم و«والمخطوطة» و«الكتب والمجلات الأدبية».
د – ثم نقلنا إليه أخيراً من المصدر الثالث أي «الكتب والمجلات الأدبية مقطوعة شعرية من ثلاثة أبيات مستقلة تفرد بها كتاب «المهاجر العاملي» ومقطوعة واحدة مستقلة من مجلة «العرفان» هي: أبيات التشطير بعنوان «أطعت هوى نفسي» وهاتان المقطوعتان لا أثر لهما في المصدرين السابقين.
هـ – إضافة إلى ما سبق فقد أثبتنا، في «سقط المتاع» الجديد ثلاث مقطوعات شعرية مستقلة رواها لنا، مشافهة صديقان أشرنا إليهما، تفصيلاً في الحواشي ذات الصلة.
في ضوء ذلك يبدو لنا بوضوح ودقة رقمية ان حصيلة جمع القصائد والمقطوعات الشعرية المنقولة من المصادر الثلاثة، إضافة إلى مقطوعات المشافهة، إلى «سقط المتاع» الجديدة، تبلغ: مئة وخمسين قصيدة ومقطوعة شعرية، يضاف إلى ذلك نصوص «البند» الثلاثة.
قديم وجديد
في ضوء حصيلة عمليات النقل والجمع والفرز والتبويب، يبدو بجلاء أن حجم «سقط المتاع» الجديد بات نحو ضعفي حجم سابقه «سقط المتاع» القديم، وذلك بسبب ما ضممنا إليه من معين المصدرين الثاني والثالث أي «المخطوطة» و«الكتب والمجلات الأدبية» إضافة إلى مقطوعات المشافهة.
كما يبدو، بجلاء أيضاً، أن جديداً متميزاً طرأ على إخراجه، باستخدامنا التقنيات الحديثة سواء في ميدان الطباعة أو في سياق صناعة الكتب، فبرز «سقط المتاع» الجديد، في حلةجديدة كل الجدة قياساً على سابقه.
ثانياً: تحريك المفردات وشرح العصي على الفهم منها
يتعين علينا هنا استكمالاً لما تقدم، أن تقف ونستوقف قليلاً عند شأنين اثنين وازنين: شأن تحريك مفردات النصوص العشرية، وشأن شرح العصي على الفهم منها في «سقط المتاع» الجديد. وإذ نعلم ان هذه المفردات جاءت، في جلها، مستلة بدراية فائقة، من معجم لغوي شاق على استيعاب غير المتضلعين في لغة الضاد، ندرك بعمق مدى الحاجة التي تستدعي إجراء تحريك سليم، للمفردات وشرح العصي على الفهم منها شرحاً دقيقاً.
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
20-11-2010, 05:22 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

بعد ثلاثة قرون من الرعب.. يسقط وكر الحشاشين

Pictures%5C2008%5C04%5C01%5Cd9e01c45-0260-453b-85f1-2ad2d014b7a6_main.jpg


أستاذ تاريخ الشرق الأوسط، والشرق الأدنى في جامعة لندن، المؤرخ والمستشرق الانكليزي، البروفيسور برنارد لويس، الذي قدم مجموعة من المؤلفات عن المنطقة «جذور الاسماعيلية، العرب في التاريخ، ظهور تركيا الحديثة، اسطنبول وحضارة الامبراطورية العثمانية، الشرق الأوسط والغرب» ــ هو صاحب الكتاب موضوع عرضنا.
ظهر الكتاب في الوقت الذي تفجر فيه الصراع العربي - الاسرائيلي عام 1967، الأمر الذي لفت أنظار العالم بشدة الى المنطقة. تابع المؤلف تاريخ فرقة الحشاشين منذ البداية وحتى قضى السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، على قوتهم، وأصبحوا مجرد تابعين له يعين رئيسهم ويعزله وقتما يشاء، بل يسجنه، وقد يموت هذا الرئيس في سجنه كما حدث مع سريم الدين مبارك حاكم قلعة «العليقة»، الذي سجنه بيبرس عند مخالفته الاوامر ويصل الى حصاره لقلاعهم، ثم احتلالها بعد ذلك عام 1273.

وقبل أن ندخل الى الكتاب يهمنا التوقف لملاحظة نراها جديرة بالنظر، وهي خاصة بالمترجم محمد العزب موسى، فقد تجاهل ترجمة الجزء الأخير من الكتاب، وهو الذي يحتوي على مجموعة المصادر التي رجع اليها المؤلف، والذي أعطاه عنوان «ملاحظات»، ويقع في عشرين صفحة، ويقول المترجم في ذلك «.. حتى لا يشق على القارئ»، وهو قول لا يعطيه هذا الحق في اقتطاع جزء مما يريد المؤلف ايصاله الى قارئ كتابه، ومن المعروف أن من يفكر في قراءة مثل هذه النوعية من الكتب يهمه بالمقام الأول مدى ما يوفره الكتاب من مراجع.
اكتشاف الحشاشين
تحت عنوان «اكتشاف الحشاشين» يبدأ المؤلف كتابه حيث يعود بنا الى النصف الأول من القرن الرابع عشر عندما كان فيليب ملك فرنسا يجهز لحملة صليبية جديدة، وجه له قس ألماني بروكاردوس رسالة يقول فيها «.. اذكر الحشاشين الذين ينبغي أن يلعنهم الانسان ويتفاداهم، انهم يبيعون أنفسهم، ويتعطشون للدماء البشرية، ويقتلون الأبرياء مقابل اجر».
وفي سجلات الصليبيين عموما كانت كلمة الحشاشين تعني «تلك الفرقة الاسلامية الغريبة التي يتزعمها شخص غامض يعرف بشيخ الجبل، وهي فرقة مكروهة بسبب عقائدها وأفعالها، من جانب المسيحيين والمسلمين على السواء».
وفي رسالة مبعوث فريدريك الثاني الشهير بـ«بارباروسا» أو «الزنديق الأعظم» الى سلطان مصر قطز في محاولة لتحذيره من الحلف الذي يدبر بين البابا انوسنت الرابع وخان المغول بشأن غزو مصر، ونلحظ من خلال الرسالة مدى التشابه بين نشأة شباب الحشاشين وبين ما هو معروف عن نشأة المماليك حيث العزلة التامة هي الحصن الأساسي الذي تتم عبره مراسيم تلقين الطاعة العمياء، ويأتي ثمة اختلاف مهم بين الاثنين حيث تزيد الجرعة الموجهة للمريد عن جرعة المملوك، فالأول يتم تدريبه على مجموعة من اللغات حتى يصبح قادرا على التحدث بأكثر من لغة بصورة يصعب كشف غربته عنها، في حين تقول مصادر التاريخ أن بعض من تسلطن من المماليك لم يكن يستطيع الحديث بالعربيـة، وهذه التدريبات هي أهم سلاح يعطى للفدائي ــ حسب التعبير السائد لدى الفرقة ــ فهو مفتاح الدخول للمكان المعين له القيام باغتيال الشخصية التي قرر أصحاب الأمر في الفرقة اغتيالها
وهناك تشابه آخر بينهم وبين المماليك من حيث الأخذ بمنطق أن الحكم والزعامة للأفضل الذي هو الأقوى والأعلى تأثيرا وان كانوا قد اخذوا بالوراثة في اخرياتهم لكنها وراثة غير مستقرة، فقد كانت الأمور كما هي من حيث أن القاعدة تظل بحيث تكون الرئاسة للأقوى ولا دخل لأولوية الوقوف في طابور التوريث.
يلقي المؤلف الضوء على مجموعة من النقاط منها التصور العام بكيفية حياة زعماء الحشاشين وقد وصف الرحالة ماركوبولو قلعة «ألموت»، وهي المقر الأساسي للــــفرقة، «..ولذا فقد نظمها بالوصف الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، للفردوس كحديقة جميلة تفيض بانها من الخمر واللبن والعسل والماء مليئة بالحور العين..».
كما تعرض لتأثير فكر الحشاشين في السياسات الأوروبية، فقد استغل الحكام الأوروبيون هذا الفكر وروجوا اشاعات تنفى عنهم القيام بالاغتيال السياسي والقاء التهم على الفرقة، وهي السياسة التي مازال الغرب يتبعها في الوقت وتلقي الحالي فيصفى خصومه ويلصق التهمة بالمسلمين.
ويعرض لأول محاولة غربية في تتبع علمي لتاريخ الفرقة في الدراسة التي نشرها دنيس ليبى دي باتيلي عام 1603م، وفيها يقول «..ليضيفوا على منطق العنف العاري غطاء أيديولوجيا براقا»، ويصل الى الجهود الأخرى التي حاولت تتبع نشأة الفرقة وكيف حصلت على اسمها الذي أخذته من اسماعيل بن جعفر ليصل نسبهم الى الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وآل وأصحابه، وماذا قال المستشرق النمسوى جوزيف فون هامر «الذي وضع الحشاشين وفرسان المعبد والجيزويت وحركة الاستنارة والبنائين الأحرار وقتلة الميثاق الوطني الفرنسي، في كفة واحدة من موضع المقارنة باعتبار أن كل هذه الفرق اعتمدت العنف نموذجا للعمل تسير على هديه في كل ما تقوم به من أعمال، وظلت المعلومات حول الفرقة يتوالى ظهورها حتى نهاية الحرب العالمــــية الأولى ( 1914- 1918) والجدير بالذكر أن مجهودات الدارسين الروس قدمت مجموعة كبيرة من المخطوطات أسهمت في التقدم الكبير الذي أحرزته الدراسات حول الاسماعيلية» وبفضل هذه الدراسات الحديثة لم يعد الحشاشون مجرد عصابة من السذج المخدرين يقودهم أفاكون مدبرون للمكائد، أو مؤامرة لارهابيين عدميين، أو جماعة من القتلة المحترفين، وهى نتيجة مهمة ــ فيما نرى ــ وان كانت ماتزال غير مفعله، حيث لم يغير الغرب من نظرته تجاه من يقوم بمقاومة الاحتلال ويعتبرونه ارهابيا، وأيضا لا يزال الخلط الغربي قائماً حيث أنهم لا يفرقون بين السنة والشيعة، ويعتبر من يخالفهم من الاثنين ارهابيا.
في الفصل الثاني يتعرض المؤلف للتاريخ المفصل للاسماعيلية بداية من أول أزمة بعد وفاة النبي عام 632م وما حدث في البيعة والخلافة حتى استخلاف عثمان ثم قتله، وتولى علي ومقتله هو أيضا، وحالة التوسع الاسلامي الأمر الذي أدخل ثقافات كثيرة أثرت على محصلة الثقافة الاسلامية في ذلك الوقف وبدأ نوع من التداخل بين الشريعة والخرافة في خلطة «يهودية مسيحية وثنية» أفرزت كماً يصعب حصره من الفرق وأشباهها.
ويصل المؤلف الى عهد الخليفة السادس في دولة الفاطميين في مصر، ذلك الذي اختفى في ظرف غامض عام 1021، فقال البعض بأنه استتر وقال البعض الآخر انه مات وعليه تم اختيار من يخلفه وانشق الكيان، وأحد المنشقين هو محمد بن اسماعيل الدرزى وهو من اصل وسط أسيوي، ويقال انه كان تزرياً.
وهنا يثور سؤال يقول هل هناك اثر لتحريف النطق الذي يحدث عند الغربيين من الأسماء العربية والشرقية، فأصبح الترزي درزياً؟!
هذا ان صح ان محمد بن اسماعيل قد مارس الحياكة، كما يقال.
المهم أن أتباع هذا الرجل هم من يطلق عليهم الآن اسم الدروز، وهم طائفة تتواجد ما بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة؟ (اسرائيل).
ورجوعا الى الدولة الفاطمية، وموت الحاكم بامرالله وصولاً الى المسنتصر، وهو الثامن منـهم ( 1036 - 1094) وصلت الدولة لأعلى نقطة، وبعده بدأت في التمزق، كانت الدولة في يد الادارة الحكومية، والهيئة الدينية والقوات المسلحة الأولى في يد الوزير، و الثانية في يد داعي الدعاة، أما الثالثة، فكان أمير الجيوش هو من يملك زمامها، ومنذ اختفاء الحاكم بدأ نفوذ قواد الجيوش في الزيادة والجور على باقي الثلاثة وحدث هذا بداية من استدعاء المستنصر لبدر الجمالي عام 1074 قائداً للجيوش، سرعان ما أصبح السيد الفعلي للبلاد واصبح يحمل الألقاب الثلاثة مجتمعة، وأن ظل العامة يطلقون عليه لقب «الجيوشي»، وعند وفاة المستنصر كان الأفضل بن بدر الجمالي هو رجل الدولة القوي، وكان قد دبر زواج ابنته من المستعلي ابن المستنصر الأصغر فاقامه مكان والده المتوفى متجاوزا ولي العهد الشرعي نزار ــ الشقيق الأكبر للمستعلي، وهو شقاق وتصدع جديد يصيب الدعوة الشيعية، وعندما توفي أخر الحكام الفاطميين، أعلن رجل مصر القوي ــ وقتها ــ صلاح الدين، الدعاء للخليفة العباسي الجالس في بغداد، وبهذا رجعت مصر سنية بعد اكثر من قرنين من الزمان، وشهدت الأيام ذهاب اتباع المستعلي الى اليمن والهند ليأخذوا لقب «البهرة» ومنهم الجماعة التي تتولى شؤون مسجد الحاكم بأمر الله في القاهرة، وأما اتباع نزار فقد يمموا ناحية الشرق، وكانوا على موعد مع ثورة عبقرية قدمها لهم وللعالم حسن الصباح، وهو ما يفرد له المؤلف الفصل الثالث وفيه يعرض لمسألة طال الأخذ والرد فيها، وهي التي تجمع بين كل من الشاعر عمر الخيام، الوزير نظام الملك، وحسن الصباح والتي يقال فيها أن الثلاثة تتلمذوا معا، وأنهم تعاهدوا أن من ينجح منهم، يمد يد المساعدة للآخرين.
ومرحلة ما بعد حسن الصباح هي قوام الفصل الرابع التي يعرض فيها المؤلف الى خلفاء، ويتوقف عند الثالث حسن بن محمد بن بزر حميد الذي أعلن ما اسماه بـ«القيامة»، أفرد برنارد لويس الباب الخامس من كتابه، والذي جعل عنوانه «شيخ الجبل» حيث يرجع الى بداية الدعوة الجديدة التي قادها حسن الصباح الذي أرسل دعاته الى الغرب (سوريا) وكان اختياره هذا مبنياً على أساس الجغرافيا التي تجعل منها مكانا استراتيجيا، اضافة الى ما كان يكتنفها من انتشار لحالة من التشرذم العقائدي، الذي يستتبعه بالضرورة تشرذم سياسي، وما أشبه اليوم بالبارحة.
الفصل السادس يعرض المؤلف لسياسة الفرقة، ويبين وجهة نظره في أهم نشاطاتهم «الاغتيال»، وهو بداية يأخذ تعريفا للارهاب من دائرة معارف العلوم الاجتماعية «الارهاب تمارسه منظمة محدودة صغيرة، وتلهبه أهداف واسعة النطاق يضمها برنامج متماسك ترتكب من اجله الأعمال الارهابية».
ويتوقف في النهاية ليعترف بأن الأمر يحتاج لأكثر من مجرد النظرة السطحية والحكم الانطباعي، وانه يجب دراسة أمور الاسلام بعمق حتى يمكن الوصول الى رأي مستند الى معلومات وافية تمت دراستها باستفاضة!
محمد الزرقاني

الكتاب: الحشاشون
تأليف: برنارد لويس
ترجمة: محمد العزب موسى
الناشر: مكتبة مدبولي
قطع صغير 203 صفحات

القبس
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
20-11-2010, 03:22 PM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

ي إلى فاروق الأول ملوك مفلسون ومطرودون (1) حياة لاهية وموت مأساوي: زحام من التفاصيل

Pictures%5C2008%5C04%5C15%5Ce16dc89d-4790-4e26-9b83-0214fe7392cc_main.jpg
• سنوات الطفولة البريئة
في مصر الآن فورة اهتمام بملك مصر السابق فاروق الأول. لا أحد يذكر ابنه أحمد فؤاد، الذي كان ملكا على الورق، من 26 يوليو 1952 وحتى 18 يونيو 1953، فاروق هو آخر ملك لمصر في ذاكرة مصر، وفي ذاكرة العالم.
ومثل كل حكام مصر، منذ آلاف السنين، فبمجرد أن أصبح «سابقاً» صار دمه مباحاً وتاريخه الذي وصل إلينا امتدت إليه أياد كثيرة بالحذف والاضافة، ولفه ضباب التاريخ حتى اصبحنا نجد صعوبة بالغة في التمييز بين الحقيقة والاكاذيب في ما يقال عنه.
وفي واحد من أهم الكتب التي ترجمت إلى العربية عن حياته في الفترة الاخيرة كتاب «فاروق ملك مصر: حياة لاهية وموت مأساوي»، الذي كتبه وليم ستادين وترجمه أحمد هريدي. في هذا الكتاب زحام من التفاصيل التي ارتبطت بحياة الاسرة المالكة في مصر . وفي قلب هذا الزحام أجساد أنثوية عارية، سواء كانت حقيقية من لحم ودم وأعصاب، أم تماثيل منحوتة بحساسية بالغة وبشهوانية لا تخفى، أو لوحات مرسومة بألوان تشعل النار في خيال الناظر إليها.


وفي كل الأحوال كانت النساء الحقيقيات أو تماثيلهن لعبا يلهو بها فؤاد الأول وفاروق الأول ورجال رددت الإشاعات أسماءهم من وزراء وضباط وموظفين وخدم، نجحوا في اختراق اسوار الحريم وعبثوا بحرمات الملكين.
لم تكن كل النساء في الحرملك ملكات أو أميرات . فالقصور امتلأت بالوصيفات والجاريات الشركسيات والتركيات والخليلات المصريات والاميركيات والاوروبيات، كما امتلأت بالمغامرات الغامضات وأخطرهن إيرين غونيل. لم تكن إيرين مجرد امرأة يهودية دخلت حياة فاروق. فحياة فؤاد الأول وفاروق الأول أدارت جانبا مهما منها سلسلة طويلة من النساء اليهوديات، من مختلف الأعمار.
وسنتحدث عن إيرين، بالتفصيل.
لكن الحديث عن النساء في حياة فاروق لابد أن يبدأ بالحديث عن نازلي، أمه البائسة التي تزوجت رجلا لم يخفق قلبها له هو فؤاد الأول، السمين القصير الصارم المستبد. كره المصريون فؤاد لأنه كان يكره معبودهم سعد باشا زغلول. لم يطق فؤاد أن يرى فلاحا مصريا يحكم البلاد بالدستور ويذكره بأن الملك يملك ولا يحكم. فناصبه العداء. وحاول أن يقلل من سلطاته. فاحتمى سعد باشا بالدستور وبالشعب. وخضع له الملك ودمعت عيناه وهو يخضع لفلاح مصري.
عظمة فؤاد الأول
وهذه هي عظمة فؤاد الأول الذي منح المصريين الدستور وجعل بلادهم مملكة مستقلة لها عرش ووزراء وسفراء، وعندما اختلف مع سعد لم يتآمر ضده ولم يقتله، بل قبل الاحتكام إلى الدستور، لأنه أبو الدستور.
وكانت نازلي، زوجة فؤاد، تحب سعد باشا كما أحبه المصريون. ربما لأنها كانت تكره فؤاد الذي أفزعته أنوثتها فحبسها في الحرملك (جناح الحريم) ستة عشر عاما وأحاطها بالخدم النوبيين المخصيين وأوكل أمورها إلى مدام قطاوي اليهودية التي كانت صديقة حميمة لمدام سواريز وهي يهودية أخرى كانت القوة الحقيقية وراء عرش فؤاد.
لقد كان فؤاد اميراً مفلساً. لكن مدام سواريز رئيسة الجالية اليهودية في مصر التقطته واعتبرته مشروعها فزوجته من الاميرة شويكار، احدى اغنى اميرات الاسرة المالكة، ثم راحت تستثمر اموال شويكار في البورصات العالمية حتى أصبح فؤاد من أغنى ملوك الشرق، ثم استغلت علاقاتها الدولية الناجحة لاختياره سلطانا ثم ساعدته على أن يكون ملكا، في تسلسل يبدو محسوبا.
وبصعود فؤاد صعدت مصر من سلطنة هي محمية بريطانية الى مملكة مستقلة (على الورق) .
نازلي كانت حبيسة الحرملك لا يصلها بالعالم الخارجي إلا مدام قطاوي. وغير مسموح لها بأن تر ى ابنها فاروق إلا لوقت قصير في الصباح ولوقت قصير في المساء. لماذا؟ لأن فؤاد كان يتعامل مع ولده الوحيد، منذ ميلاده، لا باعتباره ابنا ولكن باعتباره مشروع ملك. ولهذا فقد رسم له كيف يتعلم كل ما من شأنه أن يجعله ملكا ناجحا. واعتبر فؤاد أن نازلي لا تملك العقل الراجح أو الخلق الرصين الذي يجعل تأثيرها طيبا على ملك المستقبل. فعزل الأم عن ابنها وعزل الولد عن أمه.
صراع الأب والأم
لكن إحساس الأب بما في الأم من جموح يبدو أنه تسلل الى الطفل الذكي الحساس. فعندما دخل فاروق وهو في الرابعة من عمره على مربيته ووالدته أسرع بمعانقة المربية . وسألته أمه: لماذا لا تعانق ماما؟ فقال لها: لأنك تضعين على وجهك مساحيق حمراء أكثر مما يجب!
هذا الطفل الحساس استقبل مربية جديدة بأن أحاط خصرها بذراعيه وقال لها بإنكليزية نقية: أنا سعيد بوجودك وأنا أحبك. وكانت هذه أول مرة يراها فيها .
لم يكن له صديق لأن أباه أحاطه بالمعلمين والمربين والخدم والجواسيس الذين كانت مهمتهم أن يراقبوا الملكة حتى لا تقترب من ولي العهد وتفسد خطة الأب في تربيته.
علم فؤاد أن في الأسرة ميلا الى السمنة فحرم على ابنه أن يأكل شيئا، إلا حسب برنامج صارم، وكان الأب يجوع نفسه يومين من كل أسبوع لا يأكل فيهما إلا الفاكهة.
لكن الأم كانت تهرّ.ب إلى فاروق الصغير أكوام الكعك والزبد والعسل، وعندما كانت تفشل في ذلك كان فاروق لا يجد ما يسد جوعه سوى أن يأكل طعام القطط.
وسط هذا الجو المشحون بالكراهية بين الأب والأم عاش فاروق بلا صديق، لكنه أخذ صورة ابن مربيته السويدية ووضعها بجوار سريره واعتبر ذلك الصبي الذي لا يعرفه صديقه الصدوق.
الكذب والسرقة
وكانت هذه بداية عالم خيالي أغرق فاروق في الاقتراب منه مبتعدا عن العالم الحقيقي ومنذ صغره بدأ يظهر ميلاً الى اختلاق الأحداث وهو ما تحول إلى إدمان للكذب، وككل طفل محروم من الحب صار مهووسا باقتناء الأشياء وبأخذ ما ليس له، حتى أن كل من عرفوه قالوا عنه إنه كان مريضا بداء السرقة القهرية CLIPTOMANIA .
رغم كل هذه العيوب ظل فاروق، طوال حياته، رقيق المشاعر لا يقبل أن يؤذي أي إنسان، ميالا إلى التودد الى الناس، خصوصا البؤساء منهم . فقد كان ينفر من القوة والأقوياء وأجمل صفاته كانت مرحه الطفولي الذي صاحبه، حتى نهاية حياته.
وعندما غربت شمس القوة والمجد في حياته يوم 26 يوليو 1952 لم يفارقه الاحساس بالسخرية، حتى في هذا الموقف المرير.
لقد وجد أمامه علي ماهر باشا، السياسي الاكثر ولاء للعرش والتاج، يحمل إليه وثيقة التنازل عن العرش التي صاغها البكباشي (المقدم) أنور السادات ووقعها اللواء محمد نجيب.
اتهمته الوثيقة بالفساد وبالعبث بالدستور وبتجاهل طموحات الشعب واتهمته بأنه جعل المواطن المصري غير آمن على حياته وبأنه آوى في قصره الفاسدين والمحتالين والخونة، وطالبته الوثيقة باسم الجيش بأن يتنازل عن العرش لمصلحة وريثه الأمير أحمد فؤاد، وبأن يغادر البلاد قبل مغيب شمس 26 يوليو1952.
في هذا الموقف العصيب وقف فاروق يمزح لأن الثوار يريدون للبلاد ملكا رضيعا ولأن هذا الرضيع هو الذي سيتعين عليه أن يواجه الجيش الذي خرج من ثكناته، كما يخرج المارد من القمقم فيستحيل على أي إنسان أن يعيده إليه.
لم يضحك علي ماهر باشا كما كان ــ هو وكل رجال القصر ــ يضحكون لكل دعابة يطلقها «مولانا» وتنهد فاروق وصمت .
لم تكن الدعابة ضعفا منه، ولم تكن التنهيدة ضعفا منه، فقد سبق دخول علي ماهر باشا إليه صراع مسلح شارك فيه فاروق بنفسه فأطلق النار من الشرفة على القوات التي حاصرت قصره وقتل أربعة من الجنود، طبقا لرواية وليم ستادين، ولم يكن يرتجف كما صوره سكرتيره الخاص في تقرير نشرته مجلة آخر ساعة بعد إعلان الجمهورية.
القرار النبيل
هذه الشجاعة في مواجهة الثوار سبقتها تصرفات أخرى تنم عن الشجاعة وبعد النظر. لكن أشجع وأنبل قرار اتخذه فاروق الأول في ذلك اليوم العصيب كان قراره بوقف المواجهة العسكرية مع الثوار.
بعد أن قرأ وثيقة التنازل اشترط عدة شروط أولها أن يصحب إلى منفاه خادمه الإيطالي أنطونيو بوللي، ثم أن يحتفظ باليخت الملكي «المحروسة» وأن يأخذ معه ميدالياته ومقتنياته الخاصة وأن تبقى أراضيه وأراضي شقيقاته ملكا للأسرة تدار لمصلحة شقيقاته.
هذه المطالب تعكس فهم فاروق للمساحة الفاصلة بين الحياة الخاصة للملك وخادمه وأشيائه الشخصية وشقيقاته وبين ما يخص الدولة . لكن علي ماهر باشا لم يقبل ولم يرفض بل تعين عليه أن يعود لمشاورة قائد الثوار الحقيقي الذي لم يكن اللواء محمد نجيب، بل كان ضابطا شابا لم تعرفه الحياة السياسية المصرية قبل ذلك وكان اسمه جمال عبد الناصر حسين، الذي عرفناه بعد ذلك باسم «ناصر».
رفض ناصر، قائد الثورة الحقيقي، كل شروط فاروق ولم يقبل إلا بضمان المحافظة على حياته وإطلاق 21 طلقة مدفعية تحية له، وهو يغادر البلاد .
هنا طالبت البحرية المصرية بأن يستمر القتال ضد الثوار، لأن البحرية كانت موالية للملك حتى خرج من البلاد . وكانت في قصر رأس التين ــ الذي احتمى به الملك ــ قوة من المقاتلين السودانيين الأشداء قوامها 800 رجل وكان يمكن للملك ان يقاوم بهؤلاء وهؤلاء، لكنه رفض ان يتقاتل جنوده أو أن يدفع بالبلاد إلى حرب أهلية حفاظا على عرشه.
فقرر وقف المقاومة. وأعلن قبول توقيع الوثيقة وحضر رئيس المحكمة العليا يحمل وثيقة التنازل وحضر إلى القصر السفير الأميركي جيفرسون كافري الذي استدعاه الملك طلبا لحمايته.
تحية الوداع
وفي تعبير عن تقديره لموقف البحرية المصرية خرج فاروق من البلاد في ملابس امير البحر وكانت تحية وداع كريمة لا يقل عنها كرما أن اللواء محمد نجيب، الزعيم العسكري الذي اختاره مجلس قيادة الثورة ليقف في مقدمة الصفوف، اصر على وداع الملك وحسب رواية ستادين فقد كان اللقاء وديا ومؤثرا، ربما لأن ستادين تجنب الإشارة إلى الحماقات التي بدرت من الطيار جمال سالم الذي أظهر وقاحة في حضرة الملك المخلوع فأمره محمد نجيب بالتزام الانضباط العسكري.
وفي نهاية اللقاء انحنى محمد نجيب على يد الملك فقبلها وملأت الدموع المآقي.
وروى أحد الجنود الذين كانوا في صفوف الحرس الملكي في ذلك اليوم، لكاتب هذه السطور، أن الملك بكى وأن كل الموجودين بكوا بمن في ذلك الجنود الذين دافعوا عن الملك والذين خلعوه بقوة السلاح.
قضي الأمر وفقد فاروق عرشه وانتهت أسباب الصراع وعاد كل الجنود المصريين والسودانيين وكل موظفي القصر فريقا واحدا يستقبل العهد الجديد ويستعد له.
وراء كل هذه النبالة كانت تختفي مهارة عابثة أقدم عليها فاروق الذي ظل طفلا عابثا طوال حياته . لقد ألح على الثوار في أن يسمحوا له بأن يأخذ معه زجاجات الخمر المعتق التي في سراديب قصره.
ووافق الثوار، معتبرين ذلك دليلا دامغا على أنه سكير عربيد. فأخذ الزجاجات معه لكن بعد أن أفرغ كل ما فيها من الخمر وملأ الزجاجات بالماس والسبائك الذهبية التي هرب بها إلى روما.
أسامة الغزولي


Pictures%5C2008%5C04%5C15%5Cb9f55050-a864-4f7d-a3da-942ef7b124b8_maincategory.jpg
• غلاف الكتاب
Pictures%5C2008%5C04%5C15%5C5d52def9-8488-4491-bc2d-01d83e1c7371_maincategory.jpg
• فاروق في نضارة الشباب


من محمد علي إلى فاروق الأول.. ملوك مفلسون ومطرودون (2) نساء كثيرات وطفل كبير لا يعرف الحب
Pictures%5C2008%5C04%5C22%5C9f62ba13-4310-4629-a316-fe4accf5e8a3_main.jpg
• نشأ في اجواء ايطالية مصرية
في مصر الآن فورة اهتمام بملك مصر السابق فاروق الأول. لا أحد يذكر ابنه أحمد فؤاد، الذي كان ملكا على الورق، من 26 يوليو 1952 وحتى 18 يونيو 1953، فاروق هو آخر ملك لمصر في ذاكرة مصر، وفي ذاكرة العالم.
ومثل كل حكام مصر، منذ آلاف السنين، فبمجرد أن أصبح «سابقاً» صار دمه مباحاً وتاريخه الذي وصل إلينا امتدت إليه أياد كثيرة بالحذف والاضافة، ولفه ضباب التاريخ حتى اصبحنا نجد صعوبة بالغة في التمييز بين الحقيقة والاكاذيب في ما يقال عنه.






وفي واحد من أهم الكتب التي ترجمت إلى العربية عن حياته في الفترة الاخيرة كتاب «فاروق ملك مصر: حياة لاهية وموت مأساوي»، الذي كتبه وليم ستادين وترجمه أحمد هريدي. في هذا الكتاب زحام من التفاصيل التي ارتبطت بحياة الاسرة المالكة في مصر . وفي قلب هذا الزحام أجساد أنثوية عارية، سواء كانت حقيقية من لحم ودم وأعصاب، أم تماثيل منحوتة بحساسية بالغة وبشهوانية لا تخفى، أو لوحات مرسومة بألوان تشعل النار في خيال الناظر إليها.


ما اكثر اسماء النساء في تاريخ فاروق، لقد نشرت احدى الصحف الأوروبية قائمة بهن ضمت الاميرة فاطمة طوسون والممثلة كاميليا والراقصة سامية جمال والاميرة باتريشيا والمغنية الفرنسية آني بيريه، وغيرهن كثيرات. لكن تبقى بين المصريات ناهد رشاد التي انعم عليها برتبة صاغ (رائد) كما انعم على شقيقته فايزة برتبة لواء، ابرز من احطن به من المصريات
نقلت سهير حلمي القائمة في كتابها «فاروق ظالما ومظلوما» وهو كتاب ممتع، لكن تظل كتابة لطيفة سالم عن فاروق محل تقدير، مصريا ودوليا، اكثر من اي كتابة اخرى.
وقد قرأت في صباي كتابا عن فاروق وضعه الصحافي الراحل احمد بهاء الدين بعنوان «فاروق ملكا»، لا اذكر منه الا ان سامية جمال كانت تريد دخول قصر عابدين فلما حاول الحرس منعها دخلت الى القصر عنوة،، وعجز الضباط عن التصدي لها.
ولا اذكر اين قرأت ان فاروق كان يقول لمن حوله انه لا يريد ان يشير اليه الناس بلقب «صاحب الجلالة» ويكفيه ان يقولوا عنه «صاحب سامية».
ربما تفسر هذه الاشارة ما قاله عنه مستشاره الصحفي كريم ثابت الذي المح الى ان الملك كان يعاني من عيوب خلقية تمثلت في صعوبة اتمام الاستعداد لممارسة المعاشرة الجنسية، ثم في القذف المبكر، ولهذا كان حريصا على ان يشيع انه مغامر لا يشق له غبار وان الجميلات متيمات به.
ومن الروايات التي سبقت شهادة كريم ثابت في الوصول الى الجمهور العام ان فؤاد الاول، بعد ان ولد له فاروق، خاف ان يكون الوليد غير مؤهل للزواج فاستدعى طبيبا ايطاليا فحص الوليد ثم قال ان ما لديه يكفي للزواج وللانجاب ايضا.
روايات كريم ثابت عن فاروق مسجلة باسمه في المجلات المصرية التي نقلتها عنها منذ الخمسينات بعد ان نقل ولاءه من التاج الملكي الى النسر الجمهوري، ثم في كتابين اصدرتهما دار الشروق في طباعة فخمة.
اما الرواية عن الطبيب الايطالي فليست منسوبة الى احد. لكن يبدو ان الخدم هم اهم مصدر للروايات عن فاروق وقد كان كريم ثابت احد خدام الملك المخلصين ولو الى يوم خروجه من البلاد.
حكايا الخدم

لعب الخدم دورا مهما في حياة فاروق الذي لم يكن يجد حوله في القصور الا الانتهازيين والجواسيس والجاريات. الخدم المصريون علموه اللهجة المصرية، فكان اول ملك مصري يجيد لغة البلد، لكن بقيت الفرنسية لغة الاسرة العلوية الاولى، فعندما كان يتلقى تقريرا مهما بالعربية او بالانكليزية كان يطلب ترجمته للفرنسية.
ومع خدمه المصريين كان يلعب الورق، عندما كان اللعب بريئا وعندما تحول الى المقامرة صار يلعب مع الامراء والبارونات وكبار رجال المال والفن والسياسة والاعلام.
اما خدمه من الايطاليين، الذين ملأوا قصره، فكان يقضي معهم وقتا طويلا في مرآب قصر عابدين، فقد كان مهتما بالالات عموما وبمحركات السيارات والطائرات خصوصا، وكان يعشق الاسلحة ويحمل في جيبه دائما مسدسا صغيرا، وفي سيارته بندقية، والمسدس والبندقية عند فرويد رمزان لعضو التناسل، وهذه اشارة، من فرويد وليس من كريم ثابت، لعقدة فاروق.
وفتح له الايطاليون بابا آخر، هو باب العلاقات العاطفية مع نساء من كل الجنسيات. وكان مهندس القصر الايطالي الجنسية فيروتشي كبير موردي النساء لفاروق، كما يقال.
رمز الطهر
ويجمع من أرخوا لفاروق على ان انغماسه في العلاقات العاطفية بدأ بعد طلاقه من فريدة. ورغم ان التاريخ الرسمي المصري يحب ان يرى فريدة رمزا للطهر والعفاف، فإن مؤرخين بريطانيين يزعمون ان الملكة وقعت في غرام رسام بريطاني بعث به السفير البريطاني مايلز لامبسون ليرسم لها لوحة زيتية.
وقد اشتهر ذلك الرسام بأنه لا يرسم امرأة، اميرة كانت ام فقيرة، الا بعد ان يضاجعها، وقد تم ابعاد الرسام عن مصر بعد ان ثارت الشائعات حول علاقته بالملكة. ويصر شيخ المؤرخين المصريين المعاصرين الدكتور رؤوف عباس على ان الرسام البريطاني لم ينل من شرف الملكة.
وتروي لطيفة سالم في كتابها «فاروق» ان فريدة لاحظت ان النور مضاء في جناح الملك في ساعة متأخرة فتوجهت الى هناك لتجد امرأه غريبة. وعندما سألتها عمن تكون قالت لها المرأة انها راقصة مغربية قابلها الملك واعطاها موعدا في الجناح. ويبدو ان الملك نسي الموعد معها وذهب الى مقصد آخر.
وسألتها الملكة: وكيف دخلت الى هنا؟
قال الراقصة: الملك اعطاني كلمة سر الليل (تقصد ما يعرف بالانكليزية بكلمة PASSWORD). وهذه الكلمة تفتح ابواب القصر لمن يملكها.
وهاجت الملكة وماجت واخذت المرأة الى قسم شرطة عابدين وحررت لها محضرا.
كانت قصص غرام الملك تدور في الخفاء حتى طلقت فريدة ثم صارت على كل لسان بعد ان ارتبط بالممثلة ليليان كوهين المعروفة باسم كاميليا. يوحي الاسم بأن الفتاة يهودية والحقيقة انها ابنة غير شرعية لم تجد امها المسيحية من تسجل باسمه طفلتها سوى صاحب بنسيون يهودي هو المسيو كوهين. وهكذا حملت ليليان اسما يهوديا، دون ان تكون يهودية.
وعندما نشبت حرب 1948 بين مصر والدولة اليهودية انتشرت بين المصريين مخاوف من دور كاميليا في القصر وخطرها كيهودية على امن البلاد «فخافت على نفسها واعلنت للصحافة انها مسيحية».
أنيس منصور وكاميليا
لكن الموت كان يلاحق كاميليا، فقد كانت احدى الطائرات تستعد للسفر الى سويسرا وكان انيس منصور - وكان كاتبا شابا، على اول الطريق، ايامها - احد ركابها وتنازل انيس منصور، فجأة عن مقعده على الطائرة المشؤومة. واشترت كاميليا بطاقة السفر واحترقت بها الطائرة. ولا يعقل ان انيس منصور ترك مقعده لكاميليا استجابة لطلب من جهة ما، كانت تريد تخليص البلاد من اليهودية المزيفة.
وتبقى اخطر امرأة اقتربت من فاروق وهي ايرين غينيل المطلقة اليهودية التي اشار اليها وليم ستادين دون ان يشير الى سبب طلاقها الذي جاء في كتاب ظهر في التسعينات بعنوان TOORICH (غني اكثر مما يجب) ويذكر الكتاب ان ايرين تزوجت فتى وسيما من الارستقراطية اليهودية المقيمة في مصر منذ مئات السنين.
تم الزفاف في فندق سيسيل على شاطئ الاسكندرية وبعد ان اغلقت الابواب على العروسين فوجئت ايرين بقرينها الشاب يخرج عصا انيقة من البلاستيك كانت مطوية داخل علبة، ويطلب منها ان تضربه بها ضربا مبرحا بعد ان خلع ملابسه. انه مريض يحب ايذاء الذات MASOCHISM ولا يمكنه ان يتهيأ لممارسة الجنس الا اذا آلمته المرأة التي تريده ان يشتهيها. ولن يشتهيها الا اذا آلمته !! وكان الطلاق.
صورة معاكسة

وجدت ايرين في فاروق صورة معاكسة. كان رقيقا. طفوليا. يحب الضحك والمرح ويخلع ملابسه ويجبرها على خلع ملابسها ويتجول الاثنان عاريين في قصر عابدين بعد ان ينام كل من فيه. او يسبحان في حوض السباحة، معا، تحت ضوء القمر. وماذا عن الجنس؟ تقول ايرين: لا جنس. بل عبث صبياني كانت ايرين جاسوسة. لمن؟ تقول الوثائق انها كانت جاسوسة للبريطانيين بقصد ابعاد فاروق عن المحور. كانت في قصر فاروق اجهزة ارسال واستقبال هي الاقوى في الشرق الاوسط. واراد البريطانيون ان يعرفوا هل هو من يتجسس لصالح المحور ام لا. فسربوا اليه معلومات عن حجم قواتهم في الصحراء الغربية واضافوا صفرا الى يمين الرقم. ومن حجم القوات الايطالية التي واجهتهم بعد ذلك تبينوا ان فاروق سرب الرقم الى الايطاليين.
أنا اشك في هذه الرواية، فلو ان فاروق كان يتجسس لصالح المحور لعزل بل ولأعدم. ورأيي ان ايرين كانت ترافق فاروق لاسباب صهيونية وانها كانت تعمل في خدمة مشروع اقامة اسرائيل وليس في خدمة الحلفاء. لقد حرصت الصحافة الصهيونية على تشويه صورة الرجل لكن علاقاته القوية مع الاميركيين طوال الاربعينات تدل على انه لم يكن لا مع المحور ولا مع البريطانيين.
واغلب الظن ان ايرين غيينل ومن قبلها اليهودية كاميليا، اليهودية الزائفة، كانتا تعملان بتعليمات من الصهيونية. واذا كانت هزيمة جيش فاروق في 1948 قد ارتبطت بطلاقه من الملكة فريدة فإن تدهور شعبيته ارتبط بزواج اخته فتحية من الدبلوماسي القبطي رؤوف غالي، الذي قيل انه كان عشيقا لامها قبل ان يوقعها هي في شباكه.
هل كانت نازلي مسلمة أصلا؟
هل كانت نازلي مسلمة في اي وقت من الاوقات ثم تنصرت؟ ام انها مسيحية حتى قبل ان تعلن تحولها للمسيحية بعد ان شفيت من عملية جراحية خطيرة؟
الاحتمال الثاني هو الارجح، ولهذا فهي لم تجد غضاضة في ان ترتبط ابنتها برباط الزواج بالشاب القبطي رغم اعتراض الناس جميعا وتوسلات فاروق اليها.
وعندما كانت في لوس انجلوس سألها احد الصحافيين الاميركيين كيف تتزوج اميرة مسلمة وشقيقة اشهر ملك مسلم من مسيحي؟ فردت وهي ترقص، ودون ان تتوقف عن الرقص لترد على السؤال، ان المهم سعادة ابنتها.
وهاج الشعب على فاروق وامه وشقيقاته، لكن هناك سؤالا لا يقف عنده احد، فبعد خروج فاروق من مصر ارتبط بسيدات وفتيات كلهن اجنبيات مسيحيات، وماتت امه وشقيقته فتحية ودفنتا كمسيحيتين وارتبطت غالبية اعضاء الاسرة بغير المسلمين. حتى الولد الغلبان الذي ضحك عليه الدوق الاكبر رينيه في موناكو والملك الراحل في المغرب وشخصيات مهمة في الخليج واوهموه بامكانية ان يستعيد عرش «آبائه» في مصر، حتى هذا الغلبان تزوج من يهودية تسمت باسم فضيلة استعدادا لان تجلس على عرش النيل، ولما ظهر ان المسألة كلها سراب في سراب انهار الزواج.
السؤال الذي لا يقف عنده احد: لماذا يرتبطون بأجانب؟ كبرى بنات فاروق وحدها هي التي تزوجت مصريا لانها تزوجت عندما كان ابوها ملكا لمصر، اما الباقون فارتبطوا بأجانب. لماذا؟
انا لا اقدم اجابة لكني اطرح تساؤلا. والتساؤل الاخطر: هل صُلّ.ي على جثمان فاروق في كنيسة صغيرة في روما قبل ان يصلوا عليه صلاة الجنازة، حسب الشريعة الاسلامية؟
أسامة الغزولي





Pictures%5C2008%5C04%5C22%5C8cf35b10-4664-4589-ac2f-b47cc27d5302_maincategory.jpg
• فاروق ملك مصر
Pictures%5C2008%5C04%5C22%5Ca7e5535c-2185-418d-a37d-38d5b3d3e81a_maincategory.jpg
• فاروق.. ظالما ومظلوما
Pictures%5C2008%5C04%5C22%5C4315433c-ee57-4dd4-9898-d76b0c7b380c_maincategory.jpg
• انجليزية - سهير حلمي
Pictures%5C2008%5C04%5C22%5Cc31e3958-8759-43f1-a127-d268af69d51f_maincategory.jpg
• عشر سنوات مع فاروق


التعديل الأخير تم بواسطة justice; 20-11-2010، الساعة 07:04 PM
 

التباب

Active Member
طاقم الإدارة
23-11-2010, 12:09 AM
justice
user_online.gif

عضو

تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 4,940

icon1.gif

من محمد علي إلى فاروق الأول ملوك منفيون ومفلسون (3) خمسة رجال ضيعوا العرش



Pictures%5C2008%5C04%5C29%5C8cb2f2e1-62da-4fbc-9a2f-fb881cc53f6d_main.jpg


كيف يمكن للإنسان أن يقبـض على زمام حياته ولا يتركه لأحد ممن حوله ؟ كيف ندافع عن هويتنا وسط هذا الزحام من الناس والأحداث التي تغمر حياة كل فرد منا ؟
السبيل الوحيد لذلك أن نتزود بالحب الذي يملأنا بالثقة لكي يمد الواحد منا قدمه، غير هياب، على الطريق إلى المستقبل. ولا يأتي هذا الحب إلا ممن يحيطون بنا ومن أوكلت إليهم الأقدار صناعة مصائرنا من الأب والأم وأقرب الأقربين.
يقول فاروق، في الحديث الصحفي الوحيد الذي أدلى به في حياته، والذي نشرته امباير نيوز الأسبوعية بعد عزله عن العرش بثلاثة أشهر: إن أي طفل ملكي لا يمكن الاستقلال بحياته، وأنه عاش طفولة صارمة شاقة زاد من صرامتها تعنت مربيته الانكليزية المسز تايلور.
وقد تحدثنا عن دور النساء في إتراع حياة فاروق بالتعاسة، لكننا نتحدث اليوم عن الدور الذي لعبه في مأساته اقرب الرجال إليه.
في حياة فاروق خمسة رجال هم الذين رسموا مسار حياته، وقادوها إلى نهايتها المأساوية

الرجل الأول في حياته، وفي حياة كل واحد منا، هو الأب. وهو هنا فؤاد الأول الأمير المفلس الذي كان يريد أن يصبح رأسا لأسرة ملكية، والثاني والثالث هما الرجلان اللذان كلفهما الأب برعاية الأمير الصغير وتوجيه خطواته الأولى على طريق الحياة عزيز عالي باشا وأحمد حسنين باشا، والرابع هو خصمه البريطاني العنيد السفير مايلز لامبسون الذي تجسدت فيه عنجهية الاحتلال وحقد الغرب على الشرق، أما الخامس فهو خصمه السياسي الذي اختارته الأمة زعيما لها كما اختارت قوانين الوراثة السياسية وإرادة القوى الأجنبية فاروقا سيدا للبلاد.
القاضي الريفي
هذا الأخير هو مصطفى النحاس باشا القاضي ذو الأصل الريفي، ذو الضحكة المجلجلة، والعبارة الواضحة المنطلقة كالصاروخ، فهم النحاس باشا أن مصلحة البلاد هي أن يتفاهم مع البريطانيين على طريقة يخرجون بها من البلاد عبر حل وسط، وألّا يضحي بالديموقراطية ولا بسيادة القانون لأي سبب كان.
لكن «الوطنجية» من أحزاب الأقلية والإخوان المسلمين ومصر الفتاة والحزب الوطني اعتبروا أن التفاهم مع البريطانيين خيانة وأن لا سبيل إلى إخراجهم إلا بالقوة، ولم تكن مصر ولا أي دولة في العالم تملك القوة التي تفرض بها إرادتها على بريطانيا العظمى، لكن «الوطنجية» اتهموا الوفد بممالأة الاحتلال وبالمساومة على القضايا الوطنية، واستغل فاروق هذه الاتهامات للضغط على الوفد ظنا منه أن الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا (كما كان الشعب يسميه) يريد أن يحرمه من حقه في أن يكون الحاكم المطلق للبلاد رغم أن الدستور يقيد سلطة الملك ويضع السلطات التنفيذية في يد رئيس الوزراء.
ورغم كل سيئات الملكة الأم نازلى، فقد نصحت ابنها فاروق بأن يحترم النحاس باشا وأن يتعاون معه، وطلبت منه ألا يستمع لما يقوله أحمد حسنين باشا، حبيب قلبها والرجل الوحيد الذي شجعها على أن تعيش حياتها كامرأة بحرية لم تتح لها كملكة.
صحيح أنها أحبت حسنين باشا بجنون.لكن ذلك لم ينسها، في البداية، أن مصلحة ابنها هي في احترام الدستور واحترام زعيم الأغلبية.
لكن فاروق كان يعلم أن الصراع في مصر يدور بين ثلاثة رجال: الملك، وزعيم حزب الوفد، والسفير البريطاني، ولهذا تعامل مع زعيم الوفد ومع السفير كما يتعامل الطفل المدلل مع خصمين يخطفان منه الكرة، في مباراة حامية، فلا ينازلهما بقوة ورجولة، ولكن يضرب الأرض بقدميه ويصرخ طالباً المساعدة من «بابا» و«ماما» والمربية والخدم.«بابا» فؤاد الأول مات في 1936 و«ماما» تقدم له النصائح لكنه لا يحترم نصائح أم فقدت احترامها بالتبذل والمجون، وكيف تزعم أن حسنين باشا مخطئ ويجب الحذر منه وهي ترمي نفسها تحت قدميه؟
لم يبق إلا الخدم
لم يبق إلا الخدم لم يبق إلا الخدم. لقد عاش فاروق حياته مع الخدم، حتى أنه ألغى كل سلطة لموظفي القصر وترك الحبل على الغارب للخدم الذين أصبح يدير من خلالهم شؤون الدولة وكان الشماشرجي (الخادم المسؤول عن ملابس الملك) هو الذي يبلغ أوامره للحكومة عبر سكرتير الملك الخاص حسن حسنى باشا ووكيل الديوان حسن يوسف باشا وكل واحد منهما عالم جليل ورجل دولة بارع.
وكما كره فاروق مصطفى النحاس باشا فقد كره السفير البريطاني مايلز لامبسون. كان طفلا يحب ويكره لا رجلا من رجال السياسة يناور ويعقد الصفقات ويتحرك بحساب العقل، لا بحساب العواطف الجياشة.
وإذا كان فاروق ضخم الجثة فقد كان مايلز لامبسون ضخما هو الآخر ولم ير فاروق ضخامته بقدر ما رأى ضخامة خصمه، فأطلق عليه اسم جاموسة باشا وبالمقابل لم يكن لامبسون يشير إليه باسم الملك بل كان يقول عنه «الولد».
وفي 4 فبراير 1942 اجتمع خصماه على إذلاله أجبره السفير البريطاني على أن يختار زعيم الوفد رئيسا للوزراء، وأصر زعيم الوفد على أن تتشكل وزارته من أعضاء حزبه فقط، دون أن يدخلها أحد من السياسيين المنتمين لأحزاب الأقلية.
وهاج «الوطنجية» من يومها والى هذه اللحظة واعتبروا أن موافقة الوفد على تشكيل حكومة يرضى عنها البريطانيون جريمة، رغم أن رهان مصطفى النحاس باشا على الحلفاء هو الرهان الرابح الذي يحكم العالم بنتائجه حتى اليوم، ورهان «الوطنجية» على المحور (النازيون والفاشلون) كان خاسرا كما نعلم جميعا.
وقبل فاروق مطالب السفير حتى لا يفقد عرشه، لكن إحساسه بالذل لم يفارقه منذ تلك اللحظة وحتى مات.
لحظة الإذلال
لحظة الإذلال هذه هي التي شهدت تحول فاروق من «شاب طيب برىء رشيق انعقدت حوله آمال الجميع»، الذي هو «فاروق البداية» كما عرفه المصريون طوال السنوات الست الأولى من حكمه، إلى شخص مترهل محبط، يشعر بالعار وتسيطر عليه الرغبة في امتلاك ما لدى الآخرين، الذي هو «فاروق النهاية»، الذي اتصف بالبلادة بالانفعالية وفقدان المشاعر وإقصاء القيم والمعايير الاجتماعية والعنف غير المبرر واللامبالاة والاستهتار وسرعة الغضب والاندفاع والسهولة الشديدة في تفريغ العدوان وفقدان القدرة على مقاومة الإغراء.
ببراعة، تحسب للمترجم أحمد هريدي وللمشرفين على كتاب الجمهورية الذين قدموا للقارئ العربي كتاب «فاروق ملك مصر»، أضاف المترجم إلى نص الكتاب ما يشبه الملاحق التي تحتوي كتابات تلقي الضوء على صورة الملك حيث حيث ينجح وليم ستادين في إضاءته.
وهذه الكلمات عن فاروق البداية وفاروق النهاية، هي كلمات لطيفة سالم أستاذة التاريخ في جامعة عين شمس التي تحظى باحترام مصري وعالمي كبير. ومفهومها، الذي يقسم حياة الملك إلى نصفين متتاليين، سيطر على غيرها من الكتاب الذين أرخوا لفاروق، بعدها، خصوصا محمد عودة الناصري، الذي كان كتابه عن فاروق غزلا علميا في الملكة نازلي والملكة فريدة، باعتبار ان الاثنتين سمراوين، وكان - رحمه الله - شغوفا بالسمراوات، ومنهن صديقات لي تجاوزن السبعين، وأداعبهن بهذا الكلام الذي أقوله بلا حرج، لأني أعتبر الكاتب المبدع كائناً حياً حتى بعد أن يفارقنا بجسده.
ومحمد عودة، بالنسبة لي حي يرزق، وأتبسط في الحديث إليه، الآن، أكثر مما كنت أفعل أثناء حياته.
انهار فاروق عندما قدم له السفير البريطاني وثيقة التنازل.كان السفير البريطاني غاضبا ومندفعا ويريد عزل فاروق، إذا لم يستسلم له، وأن يضع مكانه على العرش الأمير محمد علي، الذي كان معماريا موهوبا لكنه وصف بخلاعة ماجنة لا تتفق مع الرجولة.
وكان النحاس غاضبا من تجاهل الملك لحقوقه الدستورية كزعيم لأغلبية المصريين ومن عبث ثعالب أحزاب الأقلية التي زورت الانتخابات وتآمرت مع الملك والانكليز ضد الإرادة الشعبية.
كان فاروق غاضبا من اتفاق الاثنين ضده وهكذا كتب على مصر العذاب لأن مصيرها كان بأيدي ثلاثة رجال غاضبين.
خلل نفسي
لكن غضب فاروق كان يكشف عن شيء مختلف، عن خلل نفسي سببته التربية المنعزلة، والجفوة بين الأب والأم، والقواعد الصارمة التي فرضها عليه أبوه، والصورة الخرافية التي أرادوا أن يصور نفسه بها.
وقد أدرك فاروق في طفولته بلاهة التصور الذي رسمه القصر لملك المستقبل عندما سأل مدرب الفروسية العسكري الذي كان يدربه لماذا لا أسقط أنا من فوق جوادي ولو مرة واحدة كما رأيت بعيني أمير ويلز يسقط من فوق جواده تسع مرات؟
تكرر سؤال الطفل الذكي مرات ومرات حتى التقطه المحيطون به وسجلوه. لكن الأيام مرت. وفقد الطفل براءته وادعى العظمة ليخفي بها الشعور بالضعف. وعندما سقط أمام السفير البريطاني لم يقم مرة أخرى ليستعيد كرامته، بل ظل يتقلب في الوحل حتى نهاية عهده كملك.
ارتكب فاروق حماقة كبرى عندما تصور أنه يستعيد كرامته إذا عينه البريطانيون جنرالا في جيشهم، ولو أن الخطاب العام عقلانيا لكان طلبه بأن يعين في الجيش البريطاني برتبة جنرال أمراً بروتوكوليا حميدا لكنه كان يجب أن يدرك أن «الوطنجية» سوف يشهرون به.
ومنحه البريطانيون لقب جنرال بريطاني وأعجبته اللعبة وأصر على أن يمارس مهامه كجنرال ويذهب للتفتيش على الوحدات العسكرية البريطانية.
هذه التصرفات الطفولية العجيبة من انفعالية وتغطية على الضعف الداخلي بالاستعراض ارتبطت بتصرفات مرضية أخرى منها السرقة القهرية CLEPTOMANIA ويقال إن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل اثناء جلوسه بجواره في فندق ميناهاوس اكتشف ضياع حافظة نقوده فقال فاروق: إنه يعرف من سرقها، وغاب دقائق ثم عاد بها، ليصفق الحاضرون لبراعته البوليسية في معرفة السارق وإعادة المسروق.
الملك هو الذي نشل تشرشل، كما تروي سهير حلمي، وهو تعلم النشل من المجرمين الخطيرين الذين أتى بهم من السجون ليعلموه النشل مقابل العفو الملكي.
ولطيفة سالم تؤكد هذا الكلام وخادمه اللبناني الأصل كريم ثابت يروي أن فاروق كان يلعب القمار في نادي السيارات عندما مد يده إلى داخل حقيبة سيدة تجلس بجواره وسرق ولاعتها الذهبية.
ولا أستطيع أن أصدق أو أكذب لكني أقول أمرين: إن الاثني،ن اللذين أشرفا على تعليمه، لهما دخل في اضطرابه، أولهما الجنرال عزيز عالي باشا المصري الذي كان سياسيا عثمانيا مغامرا من مواليد شبرا بشمال القاهرة ولعب دوراً كبيراً في تقرير مصائر السلطنة، وكان بالغ الصرامة مؤمنا بالعسكرية البروسية (الجرمانية)،
والثاني أحمد حسنين باشا مغامر من طراز آخر يحب النساء مثل عزيز باشا الذي كانت له عشيقة بريطانية (واحدة على الأقل) يحب المؤرخون الوطنجيون أن يتجاهلوها. لكن حسنين عاش مشغولا بترتيب حياته الخاصة وليس بترتيب مصائر الأمم والشعوب مثل عزيز باشا، وقد سيطر حسنين على القصر من خلال سيطرته على الملك وعلى أم الملك، وظل يتلاعب بالقصر والدولة والشعب حتى صدمته سيارة عسكرية بريطانية على كوبري (جسر) قصر النيل.
هتلر وإدوارد الثامن
هذا هو الأمر الأول ويتعلق بتربية الملك، أما الأمر الثاني فهو أن فاروق كان صديقا لأدولف هتلر، الزعيم النازي الذي خسر الحرب العالمية الثانية وخسرها معه كل أصدقائه، ومن بينهم فاروق، الذي أكرر أنه لم يكن جاسوساً للألمان بل كان متعاطفاً معهم وبالغ الصهاينة في هذه المسألة، قبل إعلان دولتهم بثلاث سنوات، حتى يذلوا الملك ويتلاعبوا به كلما احتاجوا إلى ذلك.
وتتعلق بهذه النقطة نقطة أخرى وهي صداقة فاروق لملك بريطانيا المخلوع ادوارد الثامن، الذي كان - هو أيضا - صديقا لهتلر ومعجبا به ويدعوه «ابن العم»، وقد خلع عن عرشه عند اقتراب الحرب لأنه لا يعقل أن تدخل بريطانيا الحرب ضد ألمانيا وعلى عرشها متعاطف مع النازية. وبعد خلع إدوارد الثامن، اخترعوا له قصة الملك العاشق الذي تنازل عن العرش من أجل حبه لليدي سمبسون الأميركية المطلقة ليتحول من ملك إلى نبيل يحمل لقب «دوق وندسور».
وفي مذكرات الليدي أن أيامها ولياليها مع دوق وندسور كانت كابوسية وأن حبيبها الحقيقي كان ميكانيكي سيارات فرنسيا، حيث عاشت مع الدوق في جنوب فرنسا حتى نهاية حياتهما.
لقد كان ممكنا أن نعرف الكثير عن فاروق وعن صديقه الملك ادوارد الثامن، الذي سقط مثله عن العرش، لأنه كان صديقا للزعيم الذي حارب العالم كله فحقت عليه الهزيمة لولا أن ما تركه لنا الرجلان لا يتجاوز إشارات عابرة.. وكما قال إدوارد الثامن لفاروق «فإن الملك إذا كتب مذكراته فسوف يتحدث عن كل شيء إلا الأشياء المهمة».
أسامة الغزولي





Pictures%5C2008%5C04%5C29%5C9e1d35c6-dc83-474f-b88d-40369391c6e3_maincategory.jpg
• مصطفى النحاس
 
أعلى